الجمعة، 15 ديسمبر 2023

بذرة الخير

 

خاطرة الجمعة /425

الجمعة 15 ديسمبر 2023م

(بذرة الخير)

هذه واقعةٌ لم تحدث على الأرض، وإنما حدثت في الجو! يقول صاحبها: كنتُ عائداً من سفرٍ طويلٍ، وقدَّر الله تعالى أن يكون مكاني في مقعد الطائرة بجوار ثلَّةٍ من الشباب العابث اللاهي الذين تعالت ضحكاتهم، وكثر ضجيجهم، ومن حكمة الله تعالى أن الطائرة كانت ممتلئةً تماماً بالركاب فلم أتمكن من تغيير مقعدي. حاولتُ أن أهرب من هذا المأزق بالفرار إلى النوم، ولكن هيهات هيهات.. فلمَّا ضجرتُ من ذلك الضجيج أخرجتُ مصحفي ورحتُ أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوتٍ منخفضٍ، وما هي إلا لحظاتٌ حتى هدأ بعض هؤلاء الشباب، وراح أحدهم يقرأ جريدةً كانت بيده، ومنهم من استسلم للنوم، وفجأةً قال لي واحدٌ منهم بصوتٍ مرتفعٍ، وكان بجواري تماماً: "يكفي، يكفي"، فظننتُ أني قد أثقلتُ عليه برفع الصوت؛ فاعتذرتُ إليه ثم عدتُ للقراءة بصوتٍ هامسٍ لا أُسمِعَ به إلا نفسي؛ فرأيتُه يضم رأسه بين يديه، ثم يتململ في جلسته ويتحرك كثيراً، ثم رفع رأسه إِليَّ وقال بانفعالٍ شديدٍ: "أرجوك يكفي.. يكفي.. لا أستطيع الصبر"، ثم قام من مقعده، وغاب عني فترةً من الزمن ثم عاد ثانيةً وسلَّم عليَّ معتذراً متأسفاً، سكتُ وأنا لا أدري ما الذي يجري! لكنه بعد قليلٍ من الصمت التفت إِليَّ وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لي هامساً: "ثلاث سنواتٍ أو أكثر لم أضع فيها جبهتي على الأرض، ولم أقرأ فيها آيةً واحدةً قط، وها هو ذا شهرٌ كاملٌ قضيته في هذا السفر ما عرفتُ منكراً إلا ولغتُ فيه، ثم رأيتك تقرأ، فاسودَّت الدنيا في وجهي، وانقبض صدري، وأحسستُ بالاختناق، نعم.. أحسستُ أنَّ كل آيةٍ تقرؤها تتنزل على جسدي كالسياط! فقلتُ في نفسي: إلى متى هذه الغفلة؟! وإلى أين أسير في هذا الطريق؟! وماذا بعد كل هذا العبث واللهو؟! ثم ذهبتُ إلى دورة المياه، أتدري لماذا؟! أحسستُ برغبةٍ شديدةٍ في البكاء، ولم أجد مكاناً أستتر فيه عن أعين الناس إلا ذلك المكان". فكلمتُه كلاماً عاماً عن التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.. ثم سكت.

عندما هبطت الطائرة على أرض المطار، استوقفني -وكأنه يريد أن يبتعد عن أصحابه- وسألني وعلامات الجدِ باديةً على وجهه: "أتظن أن الله يتوب عليَّ؟!"، فقلتُ له: "إن كنتَ صادقاً في توبتك عازماً على العودة فإن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً"، فقال: "ولكني فعلتُ أشياء عظيمةً.. عظيمةً جداً...!!"، فقلتُ له: "ألم تسمع قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟"، فرأيته يبتسم ابتسامةَ السعادة، وعيناه مليئتان بالدموع، ثم ودّعني ومضى!

 

أحبتي في الله.. يقول راوي هذه الواقعة: سبحان الله العظيم! إن الإنسان مهما بلغ فساده وغرق في المعاصي فإن في قلبه (بذرة الخير)، إذا استطعنا الوصول إليها، ثم قمنا باستنباتها ورعايتها أثمرت وأينعت بإذن الله تعالى. إن بذرة الخير تظلُّ تُصارع في نفس الإنسان وإن علتها غشاوة الهوى، فإذا أراد الله بعبده خيراً أشرقت في قلبه أنوارُ الهداية، وسلك سبيل المهتدين؛ يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾.

 

تذكرني هذه الواقعة بقصةٍ أخرى عن (بذرة الخير) التي نمت في قلب إحدى الطالبات؛ تحكي لنا معلمتها هذه القصة فتقول:

قبل سنواتٍ كنتُ أُدَرِّس في مدرسةٍ، وكان لديّ عددٌ من الطالبات اللاتي شغلتهن الحياة وملاهيها عن طاعة الله، لم يكُنَّ سيئاتٍ جداً، لكن كُنَّ بعيداتٍ عن الله، منشغلاتٍ عنه. كنتُ أحاول وأنصح، وأتكلم، وأجتهد كي أؤثر فيهن؛ تأثر البعض، بينما البعض الآخر لم يتأثر كثيراً. بعد سنواتٍ من تركي لتلك المدرسة، فوجئتُ ذات يومٍ باتصالٍ من إحداهن، كانت غير مصدقةٍ أنها حصلت على طريقةٍ للاتصال بي، فقد تعبت المسكينة شهوراً عديدةً لتصل إليّ، جاءني صوتها الفَرِح عالياً: "أستاذة، والله تعبتُ وأنا أسأل؛ رجعتُ لصديقاتي القديمات، وبحثتُ عن أرقامهن، واتصلتُ على إدارة المدرسة، تعبتُ كثيراً حتى عثرتُ عليكِ، لا أصدق أني أكلمك الآن!". كنتُ في شوقٍ لطالبتي التي أذكرها صغيرةً مشاغبةً عابثةً، لم تكن تهتم بكلامي ولا بنصحي كثيراً، تهرب من الحصص، ويستهويها الضحك والحديث مع زميلاتها أثناء الدرس. عرفتُ منها أنها الآن في آخر سنةٍ في الجامعة، ما أسرع ما تمضي السنون! قالت لي بالحرف الواحد: "أستاذة هل تذكرين كلامكِ ونصحكِ لنا؟ هل تذكرين كيف كنتِ تذكرينا بالحساب واليوم الآخر؟ هل تذكرين كيف كنا ننشغل ونضحك؟ هل تصدقين أن كلامك كان يدخل في قلبي؟ لكن شيطان الهوى كان أقوى مني، وكذلك الصديقات. كنتُ أتظاهر أني لا أهتم، ولم يكن عمري يُعينني على أن أتخذ قراراً قوياً وأثبت عليه، لكن الآن بعدما كبرتُ ونضجتُ لا زلتُ حتى هذه اللحظة أسترجع كلامكِ وعباراتكِ، كل شيءٍ بدأ يعود تدريجياً، لا زلتُ أذكر نصائحكِ وأتأثر بها، إني أدعو الله لكِ، فقد تأثرتُ بكِ، وكذلك الكثير من صديقاتي". صُعقتُ من كلامها، لم أصدق لأول وهلةٍ، ولم أدرِ ما أقول. لم أكن أتخيل أن (بذرة الخير) يمكن أن تبقى كل هذه المدة قبل أن تنبت من جديدٍ، سبحان الله! هل يمكن أن يحصل هذا؟ بقدر ما فاجأتني طالبتي الحبيبة بقدر ما أسعدتني وجعلتني أتقد حماساً وعزيمةً لأستمر في هذا الطريق رغم كل ما قد نراه من إعراضٍ أو غفلةٍ كبيرةٍ من الفتيات.

 

إنها (بذرة الخير) في القلوب؛ يقول تعالى لأَسْرى المشركين الذين جاؤوا يحاربون دين الله وينصرون الشِرك والكفر: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ فكيف بمَن هو مسلمٌ، مِن أبوين مسلمينِ وأسرةٍ مسلمة، ويُقر بوحدانية الله وربوبيته وألوهيته، ويقول: إني مِن المسلمين؟!

 

يقول سبحانه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي: وهدينا الإنسان وأرشدناه إلى طريق الخير والشر، بيّنا له الهُدى من الضلال، والرُشد من الغي. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ أي أن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، فتنةً منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. ويقول أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ كنايةً عن (بذرة الخير) وإن بدت لنا صغيرةً أو قليلةً أو بسيطةً؛ ككلمةٍ طيبةٍ، فإن الله سبحانه وتعالى يبارك فيها لتنمو وتُثمر، بل ويستمر ثمرها في كل وقتٍ وحين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]، فما بالنا بتبسمنا في وجه إخواننا، وإماطة الأذى عن الطريق، وغير ذلك كثيرٌ مما يجعل بذور الخير فينا تنمو وتُزهر.

 

يقول أهل العلم إن الله قد زرع في دواخلنا الخير نباتاً طيباً، إن أحسنّا سُقياه لن يُزهر إلا خيراً، وعلينا أن نستغل بذور الخير هذه في مساعدة الآخرين والسعي في نفعهم وقضاء حوائجهم، حتى يغمرنا الرضا الروحي والنفسي عندما يرضى عنا الله عزّ وجلّ، وهنيئاً لمن اختاره الله وسخره لأن يسلك طريقاً فيه خيرٌ ومنفعةٌ للآخرين. إن (بذرة الخير) موجودةٌ عند أغلب الناس، لكنها تحتاج إلى من يُحركها من مكامنها، وإلى مَن يسقيها ويُحييها ويُحسِن رعايتها؛ ففي داخلِ كلٍ منا بذرة خيرٍ، إن سُقيت بالحب نمت وأزهرت قلباً مُحباً لطيفاً، وإن لم تُسقَ فإنها لا تموت، تبقى في أعماقنا بانتظار من يسقيها، فإن سقيناها أو سقاها أحدٌ لنا عادت وأزهرت. وهكذا الآخرون، إنهم في انتظارنا لنسقي لهم بذور الخير في قلوبهم.

وللأسرة دورٌ كبيرٌ في غرس (بذرة الخير) في نفوس أطفالها، فتنمو معهم كلما نمت أعمارهم؛ فمن الأطفال من يدخر بعض الدراهم من مصروفه في حصالةٍ يخصصها للصدقات وأعمال الخير، ومنهم من يساعد أمه في تحضير بعض الطعام ويقوم بتوزيعه على المحتاجين، ومنهم من يشتري زجاجات المياه الباردة ويقوم بتوزيعها على عمال النظافة أثناء عملهم وقت الظهيرة، ومنهم من يُعطي من ملابسه الزائدة عن حاجته لليتامى والمساكين خاصةً قبل أن تهل أيام العيد.

 

أحبتي.. أختم باقتباسٍ أعجبني يقول صاحبه: فلننثر (بذرة الخير) أينما كُنا، وحيثما ذهبنا، وكلما استطعنا، ولا نقلق؛ فلا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى متى ستنبت هذه البذرة، ولا نجعل اليأس يتسرب إلى نفوسنا؛ فبذرة الخير، مهما طال عليها الزمن وذبلت نبتتها، لا تموت بإذن الله، وستنبت يوماً من جديد. كل إنسانٍ في قلبه (بذرة الخير) تحتاج إلى سِقاءٍ؛ فابحث أنت عن البذور التي تمتلكها، ولا تكف أبداً عن سقيها. انثر بذورك لترى تلك الأزهار الجميلة تُحيط بك، تُمتِّع بها ناظرك، ويحيا بها قلبك، فما وُجِدْنا على هذه الأرض إلا لكي نزرع الخير ليُثمر الأمل الذي يُبقينا على قيد الحياة. بذورٌ كثيرةٌ نستطيع أن ننثرها هنا وهناك، في كل محيطٍ نكون فيه؛ في العمل، وفي الشارع، في الأسرة، ومع الأصدقاء والأقارب والغرباء، مع الصغير والكبير، ولكل من يحتاج مساعدتنا، إن طلبها، وإن تعفف عن سؤالها، فبذور الخير ليس لها حدودٌ، ولا تنحصر في مكانٍ أو زمانٍ معين، ولا في أشخاصٍ دون غيرهم، هي بذورٌ موجودةٌ لدى الجميع، لا تحتاج إلا إلى إيمانٍ عميقٍ ويقينٍ بالله، وتربةٍ خصبةٍ، ويدٍ حانيةٍ، حتى تؤتي ثمارها.

ثم إن علينا أن نبحث عن (بذرة الخير) الكامنة لدى كل من نتعامل معهم، فنظهرها لهم، ونساعدهم على رعايتها وتنميتها؛ بذلك نحيا جميعاً في مجتمعٍ قويٍ ومتماسكٍ، يشد بعضنا أزر بعض، ويعمل كلٌ منا على إسعاد غيره قدر ما يستطيع. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/41rdrgY

الجمعة، 8 ديسمبر 2023

عُلُوّ الهِمة

 

خاطرة الجمعة /424

الجمعة 8 ديسمبر 2023م

(عُلُوّ الهِمة)

 

يحكي أحد الأطباء عن زميلٍ له فيقول: كان زميلاً لي في الكلية العسكرية، كان الأول على زملائه في كل شيءٍ؛ في طاعته لله، في حسن خلقه، في دراسته، في تعامله، كان صاحب قيام ليلٍ، محافظاً على صلواته، مُحباً للخير. بعد أن تخّرج وفرح -كما يفرح الطلبة بالتخرج- إذا به يُصاب بما نسميه "الأنفلونزا" وتطور معه المرض حتى أصاب العمود الفقري فأصيب بشللٍ تامٍ ولم يعد يستطيع الحركة حتى أن طبيبه المعالج قال لي إنه -حسب مرئياته- فلا أمل له في الشفاء، وإن احتمال رجوعه لما كان عليه ونجاح العلاج معه لا تتجاوز العشرة في المائة؛ فقلتُ الحمد لله على كل حالٍ، وسألتُ الله له الشفاء وهو القادر على كل شيء. ثم زرته في المستشفى، وهو مقعدٌ يرقد على السرير الأبيض، لمواساته وتذكيره بالله والدعاء له، فإذا به هو الذي يذكّرني بالله، وهو الذي يواسيني! وجدته قد امتلأ وجهه نوراً، وأشرق بالإيمان، قال لي وهو يبتسم: "لعل الله علم مني تقصيري في حفظ القرآن فأقعدني لأتفرغ لحفظه، وهذه نعمة من نعم الله". تعجبتُ ودُهشتُ من موقفه وإيمانه وصبره وثباته رغم ما هو فيه من مرضٍ خطيرٍ وشللٍ تام، ورغم أنه لم يمضِ على تخرجه ستة أشهر ولم يفرح بالرتبة والراتب والعمل الجديد أياماً.

زرته بعد فترةٍ وعنده بعض أقاربه فسلمتُ عليه ودعوتُ له، قال له ابن عمه: "حاول تحريك رجلك، ارفعها للأعلى"، فقال له: "إني لأستحي من الله أن استعجل الشفاء؛ فإن قدّر الله لي وكتب الشفاء فالحمد لله، وإن لم يكن مقدوراً لي فالحمد لله؛ فالله أعلم بما هو خيرٌ لي، فقد يكون في الشفاء ما لا تُحمد عقباه وقد أمشي بقدميّ هاتين إلى الحرام، ولكني أسأل الله أن يكتب لي الخير فهو العليم الحكيم".

سافرتُ لإكمال الدراسات العليا ثم عدتُ بعد ثلاثة أشهرٍ وكنتُ متوقعاً أنه في منزله على فراشه يُحمل من مكانٍ إلى آخر، سألتُ عنه الزملاء في المستشفى هل خرج؟! وكيف هي حالته؟! فقالوا: "هذا الرجل عجيبٌ جداً، لقد كانت عنده قوةٌ وعزيمةٌ وهمةٌ عاليةٌ مع ابتسامةٍ دائمةٍ ورضىً بما كُتب له، ولقد تحسنت حالته شيئاً ما فنُقل إلى التأهيل للعلاج الطبيعي.

ذهبتُ إلى مركز التأهيل فإذا به على كرسي المعاقين ففرحتُ به وقلتُ له: "الحمد لله على السلامة، أصبحتَ الآن تتحرك أحسن مما مضى"، فقاطعني قائلاً: "الحمد لله، أُبشرك أنني قد أتممتُ حفظ القرآن"، فدعوتُ له، وسألتُ له الله من فضله.

سافرت مرةً أخرى وغبتُ عنه أكثر من أربعة أشهرٍ، ولما عدتُ حصل ما لم يخطر ببالي؛ حيث كنتُ أصلي في مسجد المستشفى فإذا برجلٍ يناديني، إنه صاحبنا! نعم، إنه الزميل الحبيب الذي كان مشلولاً معاقاً تماماً يناديني وهو يمشي وبصحةٍ جيدةٍ وعافيةٍ، جاءني يمشي، وسلمتُ عليه وضممته إلى صدري وأنا أبكي فرحاً لما حصل له من شفاء!

ثم إن الله منّ عليه بأمور كثيرةٍ؛ منها موافقة المسئولين على بعثته بعثةً داخليةً ل«جامعة الملك سعود بالرياض» لإكمال دراسته العليا، وكان قد طلب ذلك منذ تخرجه من الكلية ولم يأته الرد، وبعد شفائه -ولله الحمد- جاءت الموافقة بعد أن كان قد نسي الطلب، قال لي: "إن ما حصل لي حجةٌ عليّ إن لم أقم بشكر النعمة".

ثم زارني بعد سبع سنواتٍ -في مراجعةٍ لجده المريض بالقلب- فماذا رأيت؟! رأيتُ شاباً وضيئاً، وقد رزقه الله الترقيات حتى وصل إلى رتبة رائد.

اللهم اجعله رائداً في الخير والنفع والصلاح.

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ تجمع بين الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، والصبر على المكاره، وشُكر الله وحمده على كل حال، و(عُلُوّ الهِمة) التي جعلته في البداية من الأوائل والمتفوقين، ثم كانت سبباً في حفظه للقرآن الكريم، كما بدت بشكلٍ واضحٍ في حصوله على بعثةٍ داخليةٍ للدراسات العليا نال بعدها ترقياتٍ مستحقةٍ في مجال عمله.

واسمحوا لي أن يكون تركيزي على (عُلُوّ الهِمة) إذ إنها من سمات المؤمنين الذين لديهم هدفٌ أساسيٌ في الحياة؛ هو فعل كل ما يوصل إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ.

 

يقول تعالى مُخاطباً سيدنا موسى عليه السلام، حاثاً على العمل بجديةٍ وهِمةٍ عاليةٍ: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾. ويقول تعالى: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ أمرٌ إلهيٌ بالعمل بقوةٍ وهِمة؛ لتأتي بعد ذلك إعانة الله وهدايته، نعمةً لمن يُحسن العمل ويُخلص فيه، ويسعى بهِمةٍ واجتهادٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، والسعي بهِمةٍ هو مجال التنافس بين المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

 

ويُعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لكلٍ منا هدفٌ عظيمٌ يسعى نحو تحقيقه بهمةٍ عاليةٍ؛ فيقول: [إِذَا سَألْتُم الله فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى]. ويقول عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُوِر وَأَشرَافَهَا، وَيَكَرهُ سَفْسَافَهَا]، وفيه دليلٌ على طلب المعالي والتباعد عن السفساف والمحقرات. وقال صلى الله عليه وسلم: [الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ]. يقول شُرّاح الحديث: المراد بالقوة هنا عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عزيمةً في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق، وأكثر رغبةً في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظةً عليها. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ] وفيه استحباب الاستعاذة من العجز والكسل ففيهما قيودٌ حائلةٌ دون الهِمة والجِد والانطلاق والمثابرة.

 

يقول أهل العلم: إن (عُلُوّ الهِمة) خلقٌ رفيعٌ وغايةٌ نبيلةٌ، تعشقه النفوس الكريمة، وتهفو إليه الفِطَر القويمة، و(عُلُوّ الهِمة) من الأُسس الأخلاقية الفاضلة؛ ففيه الجِد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، والطموح إلى المعالي. ويرون أن المقصودُ مِنْ (عُلُوّ الهِمة)، استصغارُ ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلبُ المراتب السامية؛ فصاحب الهِمة، الذي يحمل مشروعاً ينفع به نفسه والأمة، لا يقف أمام الأبواب المغلقة، بل يبحث عن الفرص هنا وهناك، يسلك كل سبيلٍ مشروعٍ لتحقيق هدفه النبيل. إنَّ عاليَ الهِمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتِه النبيلة، وتحقيقِ بغيته الشريفة؛ لأنه يعلم أنَّ المكارم منوطةٌ بالمكاره، وأنّ المصالحَ والخيراتِ واللذاتِ والكمالاتِ كلَّها، لا تُنَالُ إلا بشيءٍ من المشقة، ولا يُعْبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التعب. عالي الهِمة له نظامٌ يسير عليه، وهدفٌ يصبوا إليه، ومنهجٌ لا يحيد عنه، ووقتٌ لا يَبْخَلُ به، ونفسٌ لا ترضى إلا بتحقيق ما يرغب فيه. عالي الهِمة تتقطّع نفسُه حسراتٍ على دقائق لم ينتفع بها، يرى أنّ وقتَه أغلى من إهدارِه بملاذّ الدنيا ومُتَعِها، ونفسَه أشرف من أن تقنع بما دون الكمال. عالي الهِمة عالي العَزْم؛ فهو يجعل نُصب عينيه قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.

ومن علامات عالي الهِمة: الزهد في الدنيا، المسارعة في الخيرات والتنافس في الصالحات، التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص، الترفع عن مُحقّرات الأمور وصغائرها ونشدان معالي الأمور وكمالاتها، الأخذ بالعزائم.

 

يقول العارفون إن صلاح الأمة في (عُلُوّ الهِمة)، وصاحب الهِمة يسبق الأمة إلى القمة؛ يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾، مُقربون لأنهم على الصالحات يواظبون، وعلى الأذى صابرون. إن العمر الحقيقي للإنسان ليس هو في السنين التي يعيشها، إن العمر الحقيقي هو في تلك الأيام التي يعيش فيها بهِمةٍ عاليةٍ وطموحٍ كبيرٍ، ويعمل على تحقيق أنبل الغايات وأعظم الأهداف.

 

قال بعضُ السلف: "من عرف ما يَطلُب، هان عليه ما يَبذل". و"من تذكر حلاوة العاقبة نسي مرارة الصبر". و"عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور، ويكره سفسافها". و"من علامة كمال العقل (عُلُوّ الهمة)، والراضي بالدون دَنيٌ". و"فمن علت هِمته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلقٍ جميلٍ، ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خُلقٍُ رذيل".

وقال شاعرٌ:

فإذا كانَت النُفوسُ كِباراً

تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

وقال آخر:

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ

فَلا تَقنَعْ بِما دُونَ النُجومِ

وقال ثالثٌ:

وَمَا المِرْءُ إِلا حَيْثُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ

فَفي صَالحِ الأعْمَالِ نَفْسَكَ فَاجْعَلِ

وقال غيرهم:

ومَنْ يَتَهَيّبْ صُعودَ الجِبالِ

يَعِشْ أبَدَ الدَهْرِ بَيْنَ الحُفَر

 

أحبتي.. لابد أن نُعيد النظر في برنامج حياتنا اليومي، وأن نُخصص جُزءاً منه لخدمة ديننا؛ فالتغيير لابد وأن يبدأ من داخلنا نحن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾؛ فنُفوسنا تحتاج إلى مجاهدةٍ ومحاسبةٍ لترويضها على السعي نحو معالي الأمور، والبُعد عن سفاسفها مما نُهدر فيه أوقاتنا وهو لا يُفيد.

علينا أن نتذكر دائماً أن هدفنا هو الفردوس الأعلى من الجنة، وأن الحياة مزرعةٌ للآخرة، وأن الوقت هو رأس مالنا؛ فلنستفد من أوقاتنا، ونُكثف أعمالنا، ونُضاعف جهودنا، ونبذل قُصارى ما نستطيع بإخلاصٍ وهمةٍ عاليةٍ، وننطلق نحو المعالي والقِمم، لا نُبالي بالقاعدين والمُحبطين والمثبطين؛ فالعمرُ قصير، وعمل الخير بإذن الله سهلٌ ويسير، والجنة في انتظار من لا تفتر هممهم عن عمل الصالحات وفعل الخيرات؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]. نسأل الله تعالى أنْ يُعيننا على العمل لنكون من أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة، ويرزقنا (عُلُوّ الهِمة)، وأنْ يجعلها في سبيل مرضاتِه، إنه ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

https://bit.ly/47OBqsv

الجمعة، 1 ديسمبر 2023

العفة وتقوى الله

 

خاطرة الجمعة /423

الجمعة 1 ديسمبر 2023م

(العفة وتقوى الله)

 

خرجت مجموعةٌ من الطالبات والمعلمات من مدرستهن بالمدينة في رحلةٍ استكشافيةٍ إلى إحدى القرى الغنية بالمعالم الأثرية. حين وصلت الحافلة التي تقلهم كانت المنطقة شبه مهجورةٍ؛ فقد كانت تتميز بانعزالها وقلة قاطنيها. نزلت الطالبات والمعلمات وبدأن بمشاهدة المعالم الأثرية، وتدوين ما يشاهدنه فكُن في بادئ الأمر يتجمعن مع بعضهن البعض للمشاهدة الجماعية، لكن بعد ساعاتٍ قليلةٍ بدأ النشاط الفردي؛ فتفرقت الطالبات، وبدأت كل واحدةٍ منهن تختار المَعلم الأثري الذي يروق لها، تقف عنده وتصفه وتسجل كتابةً ما تراه بعينيها. إحدى الفتيات كانت منهمكةً في تسجيل المعلومات عن مَعلمٍ اختارته؛ فابتعدت كثيراً عن مكان تجمع زميلاتها الطالبات، وبعد عدة ساعاتٍ ركبت الطالبات والمعلمات الحافلة في طريق العودة إلى المدرسة. لسوء الحظ؛ حسبت المعلمة المشرفة على الرحلة أن الطالبات جميعهن ركبن الحافلة. ولكن في الواقع، تلك الفتاة ظلت وحدها هناك وهي لا تدري. ذهبوا جميعاً عنها وتركوها خلفهم وهُم أيضاً لا يدرون.

حين تأخر الوقت رجعت الفتاة لترى المكان خالياً لا يوجد به أحد سواها، لم تجد زميلاتها ولا المعلمات ولا حتى الحافلة؛ فنادت بأعلى صوتها ولكن ما من مجيب. فقررت أن تمشي لتصل إلى القرية المجاورة علها تجد وسيلةً للعودة إلى مدينتها. وبعد مشيٍ طويلٍ وهي تبكي شاهدت كوخاً صغيراً مهجوراً؛ فطرقت الباب، فإذا بشابٍ في أواخر العشرين من عمره يفتح لها الباب، سألها في دهشةٍ: "من أنت؟"، فردت عليه: "أنا طالبةٌ أتيتُ مع زميلاتي بالمدرسة في رحلةٍ علمية للتعرف على الآثار في المنطقة المجاورة لكم، لكنهم تركوني وحدي ولا أعرف طريق العودة"، فقال لها: "إنك في منطقةٍ مهجورةٍ، والمدينة التي تريدين الوصول إليها في الناحية الجنوبية، ولكنك الآن في الناحية الشمالية وهنا لا يسكن أحد". عرض عليها أن تدخل وتقضي الليلة بغرفته حتى حلول الصباح ليتمكن من إيجاد وسيلةٍ تنقلها إلى مدينتها، فلم يكن في مقدورها سوى الموافقة. دخلت على استحياءٍ؛ فطلب منها أن تنام هي على سريره، وسينام هو على الأرض في طرف الغرفة، وأخذ شرشفاً وعلقه على حبلٍ ليفصل السرير عن باقي الغرفة. استلقت الفتاة على السرير وهي خائفةٌ، وغطت نفسها حتى لا يظهر منها أي شيءٍ غير عينيها، وأخذت تراقب الشاب. كان الشاب جالساً في طرف الغرفة بيده كتاب. وفجأة أغلق الكتاب وأخذ ينظر إلى الشمعة المقابلة له وبعدها وضع إصبعه الكبير على الشمعة لمدة خمس دقائق وحرقه. وكان يفعل نفس الشيء مع جميع أصابعه، والفتاة تراقبه، وهي تبكي بصمتٍ خوفاً من أن يكون جِنّياً، أو شخصاً مهوساً يُمارس أحد الطقوس الشيطانية. لم ينم أحدٌ منهما حتى الصباح، وإذ ذاك أخذها الشاب وأوصلها إلى منزلها.

حكت قصتها مع الشاب لوالديها، لكن الأب لم يُصدق القصة، خصوصاً إن البنت مرضت من شدة الخوف الذي عاشت فيه؛ فذهب الأب للشاب على أنه عابر سبيلٍ، وطلب منه أن يدله على الطريق، فشاهد الأب -وهما سائران- كلتا يديّ الشاب ملفوفتين فسأله عن السبب فقال الشاب: "لقد أتت فتاةٌ قبل ليلتين إلى كوخي، وكانت تائهةً؛ فنامت عندي حتى الصباح؛ فكان الشيطان يوسوس لي، بالاعتداء عليها، ويقول لي إنها صيدٌ سهل، لا تفوته. لكن لأنني أخاف الله أبعدتُ الفكرة فوراً من رأسي، لكن الشيطان لم يتركني في حالي؛ ظل يوسوس لي، ويُزين لي الحرام وفعل الفاحشة؛ فقررتُ أن أحرق إصبعاً واحداً من أصابع يديّ كلما اشتدت شهوتي، وكنتُ كلما أحرقتُ إصبعاً، أقبل عليّ الشيطان يوسوس من جديد. وهكذا أحرقت أصابعي العشرة واحداً تلو الآخر لتحترق الشهوة التي كان الشيطان يُزينها لي. وأحمد الله عزَّ وجلَّ أن كان مجرد التفكير بالاعتداء على الفتاة يؤلمني أكثر من ألم الحرق ما جعلني أتحمل ألم حرق أصابعي كلها بنفسٍ راضيةٍ، فالشكر لله سبحانه وتعالى أن أمدني بالقوة ومكني من التغلب على الشيطان وعلى النفس الأمارة بالسوء؛ فلم ألمس الفتاة". أُعجب والد الفتاة بالشاب ودعاه إلى منزله، وقرّر أن يزوجه ابنته، دون أن يعلم الشاب بأن تلك الابنة هي نفسها الفتاة الجميلة التائهة التي استضافها قبل يومين وحافظ عليها ولم يلمسها أو يصبها بسوءٍ؛ فبدل الظفر بها ليلةً واحدةً بالحرام فاز بها طول العمر بالحلال.

 

أحبتي في الله.. ما أجمل (العفة وتقوى الله)؛ فهي من شيم الأنقياء، وما أروعها عندما يتمسك بها شابٌ في ريعان شبابه، تجلس بالقرب منه فتاةٌ جميلةٌ، لا يفصل بينهما سوى شرشفٍ علّقه بنفسه، لا أحد معهما، ولا جار يراقبهما، لا شيء يمنع هذا الشاب من اقتراف الحرام وارتكاب كبيرةٍ من أعظم الكبائر، إلا عفته وتقواه.

 

وردت في القرآن الكريم نصوصٌ كثيرةٌ تأمر بالعفة؛ فقد أمر الله جلَّ وعلا الرجال بالعفة؛ يقول تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾. وأمر النساء بالعفة أيضاً؛ يقول سبحانه: ﴿وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾. وأثنى الله على أهل العفاف؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾.

 

وعن فضيلة العفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن يَضْمَن لي ما بيْنَ لَحْيَيْهِ وما بيْنَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنْ له الجَنَّةَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ] وذكر منهم: [وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ]. ولما ذكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الجنة ذكر منهم: [عَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعفافَ والْغِنَى].

 

يقول أهل العلم إن العفة خُلُقٌ إسلاميٌ رفيعٌ يشمل الجانب المادي؛ بالكفَّ عن السؤال حفاظاً على ماء الوجه، والاستغناء عمّا في أيدي الناس، والابتعاد عن الملذّات، والاكتفاء بما يسدّ حاجة الجسد بالحلال. كما يشمل الجانب المعنوي؛ بالكفَّ عن الحرام بأنواعه، وضبط النفس عن الشهوات والانحرافات، وطهارتها وتزكيتها من أهوائها وتمسّكها بالفضائل والمحاسن.

فالعِفّة هي كفُّ النفس عمّا لا يحِلّ، وضبطُها عن الشهواتِ المحرَّمة، وقصرُها على الحلال، مع القناعةِ والرِّضا. إنّه سُمُوّ النفس على الشّهواتِ الدنيئة. إنها برهانٌ على صدق الإيمان، وطهارة النفس، وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفها، بها تحصل النجاة من مَرارات الفاحشة، وآلام المعصية، وحسرات عذاب الآخرة.

 

والعفيف يوم القيامة في ظل الرحمن، آمنٌ من فتن ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، لأنه خاف الله جلَّ وعلا حينما دعاه داعي الشهوة فخشي الله وعفَّ عن الحرام، فأحسن الله إليه يوم الفزع الأكبر، يقول تعالى في الحديث القدسي: {وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

 

قال الشاعر عن (العفة وتقوى الله):

عُفّوا تَعُف نِساؤكم في المَحْرَمِ

وَتَجَنَبوا ما لا يَليقُ بِمُسْلِمِ

إنَّ الزِنا دَيْنٌ إنْ اسْتَقْرَضْتَه

كانَ الوَفا مِنْ أهْلِ بَيْتِكَ فاعْلَمِ

لَوْ كُنْتَ حُراً مِنْ سُلالَةِ ماجِدٍ

ما كَنْتَ هَتَّاكاً لِحُرْمَةِ مُسْلِمِ

 

أحبتي.. أختم بما قاله أحد الأفاضل: "يا سعادة من عَفَّ، ويا فوز من كَفَّ، ويا هَنَاءَة من غضَّ الطرفَ". وقال غيره: "طوبى لمن حفظ فرجه، وصان عِرضه، وأحصن نفسه". فعلى كلٍ منا أن يلزم (العفة وتقوى الله)، وأن يُلزم بها أهل بيته، ذكوراً وإناثاً؛ فتستقيم حياتنا على شرع الله وسُنة رسوله الكريم، وينعم المجتمع بالصفاء والنقاء وصلاح الحال.

اللهم أعنا على العفة وغض البصر والقناعة بالحلال والبُعد عن الحرام وعن كل ما لا يرضيك يا رب العالمين.

https://bit.ly/3uDkAhI

الجمعة، 24 نوفمبر 2023

احترام خصوصية الآخرين

 خاطرة الجمعة /422

الجمعة 24 نوفمبر 2023م

(احترام خصوصية الآخرين)

 

كتب يقول: كنتُ أعمل قبل سنواتٍ مسؤولاً عن مشروعٍ صغيرٍ يعمل معي فيه أربعة أشخاص. المدة الزمنية لتنفيذ المشروع كانت قصيرةً، والمتطلبات كثيرةٌ، وأثناء مرحلةٍ حرجةٍ في تنفيذ المشروع فاجأني أحد زملائي الأربعة بطلب إجازةٍ لمدة يومين دون سابق إنذارٍ ودون أن يُبدي الأسباب. المشكلة أن مَن طلب الإجازة زميلٌ كفءٌ نحتاج إلى خبراته المتميزة في كل لحظةٍ، خاصةً في هذه المرحلة الحرجة من العمل. سألته عن سبب الإجازة الطارئة، لا سيما أن الجهة التي نعمل لها أشعرتنا بإيقاف الإجازات لمدة شهرين حتى ننتهي من هذا المشروع، أجابني بأنه سيذهب إلى مدينة «الرياض» براً من مدينة «الخُبر» لأمرٍ عاجل. قلتُ له يكفيك يومٌ واحدٌ لو ذهبتَ بالطائرة، وأنا مستعدٌ أن أرتب لك الحجوزات بنفسي، رفض مساعدتي مشيراً إلى أنه يحتاج إلى يومين كاملين، ويُفضل أن يذهب بالسيارة. احترمتُ قراره ووافقتُ على إجازته، لكن كتبتُ له رسالةً إلكترونيةً قلتُ له فيها: "لم يرقْ لي أسلوبك؛ توقعتك أكثر مرونةً وتعاوناً".

لم يرد على رسالتي وإنما جاء إلى مكتبي والحزن بادٍ على وجهه وقال: "ما دمتَ متضايقاً من تصرفي سأبوح لك بما لم أكن أرغب في البوح به؛ زوجتي مشلولةٌ ولا تستطيع السفر بالطائرة، وضعها الصحي الحالي يتطلب استلقاءها في المقعد الخلفي للسيارة، حصلنا بصعوبةٍ على موعدٍ مع طبيبٍ عالميٍ مشهورٍ يزور المملكة، اتفقتُ مع أخيها أن يُسافر معها إلى «الرياض» لكنه اعتذر في اللحظة الأخيرة بسبب ظرفٍ جدَّ له، ولا أريد أن نخسر هذا الموعد؛ فحرصتُ أن أرافقها رغم ظروف عملنا، هل ارتحتَ الآن؟". قلتُ له: "لم أرتحْ بل تضاعف ضيقي؛ لأني شعرتُ أني تجاوزتُ حدودي معك بإلحاحٍ غير مبرر". نكأتُ جرحاً غائراً في روحه عبَّر عنه بكلماتٍ أشبه بالرماد الذي يلي الحرائق: "أقدرك يا عبد الله، لكن لم أرغب أن أفشي وضع زوجتي خارج أسرتنا؛ لا أحب أن ينظر أحدٌ إليّ أو إلى زوجتي بنظرة شفقة".

كان هذا الموقف درساً لي لأقدر ظروف الآخرين، ولا أُعرِّضهم للإحراج بحثاً عن إجابةٍ يرون أن من الأفضل أن تظل مختبئةً في الصدور. علينا أن نمنح الآخرين مساحةً لا نقترب منها، ليس في هذا الموقف فحسب، وإنما في جميع التفاصيل. ينبغي أن نقمع فضولنا ونقدر الآخرين باحترام قراراتهم، ونُقلع عن فضولنا الذي ينتهك (احترام خصوصية الآخرين).

 

أحبتي في الله.. تقول سيدةٌ انفصلت عن زوجها منذ فترةٍ وجيزةٍ: "أسوأ سؤالٍ أواجهه بشكلٍ يوميٍ: لماذا انفصلتِ؟". قررت هذه السيدة بعد انتشار قصة طلاقها في محيطها الاجتماعي أن تبقى في المنزل ولا تخرج منه إلاّ بعد أشهرٍ من الطلاق الذي أصبح مدار حديث الرجال قبل النساء، فلم تكد تفيق من أزمتها النفسية بعد الطلاق ورغبتها في بدء حياةٍ جديدةٍ حتى وجدت نفسها محاصرةً من قبل مجتمعٍ يسألها: لماذا تطلقتِ؟، ومن رغب في الطلاق أنتِ أم زوجك؟، وهل ستتزوجين بعد الطلاق؟، وماذا بخصوص الأطفال؟، وغيرها من الأسئلة التي وجدت فيها تجديداً لوجعها الذي كانت تحاول أن تُخفيه، كلما التقت بمحيطها من الأقرباء والصديقات حتى تحاول الوقوف من جديدٍ على قدميها وتنسى، إلاّ أن المجتمع الفضولي يرفض أن يحترم صمتها وتكتمها على خصوصياتها الشخصية ويُصر على أن يخترق المستور!

وهذه سيدةٌ أخرى، طبيبةٌ بلغت من العمر الأربعين ولم تتزوج، ومازال الكثير من الناس المحيطين بها يبحث في أسباب عزوفها عن الزواج على الرغم من العروض الجيدة التي قُدمت لها، فالكثير منهم يسألها عن سبب رفضها الدائم للزواج، حتى وصل الأمر إلى أنها أصبحت تتلقى رسائل على هاتفها المحمول يطلب فيها مرسلها أن تُراجع نفسها، وتتوب إلى الله، وتُطبق سُنة الله في خلقه بتحصين نفسها بالزواج، دون أن يعرف أحدٌ الأسباب الحقيقية لعزوفها عن الزواج؛ مما دفع تلك الطبيبة إلى التفكير بجديةٍ للانتقال بسكنها وعملها إلى منطقةٍ سكنيةٍ أخرى بحثاً عن احترام خصوصياتها التي أصبحت مشاعاً، وصارت مجالاً يتناقش فيه المحيطون بها على وسائل التواصل الاجتماعي!

 

أحبتي في الله.. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، فمن صفات المؤمنين الحرص على (احترام خصوصية الآخرين) وعدم التدخل في شؤونهم.

ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ في هذه الآية يحذر الله من التدخل أو الحديث فيما لا يملك الإنسان علماً به، مؤكداً على أن السمع والبصر والفؤاد سيكونون موضع مساءلةٍ يوم القيامة.

 

كما أن هناك عدة أحاديث نبويةٍ شريفةٍ صحيحةٍ تحث المسلمين على (احترام خصوصية الآخرين) وعدم التدخل في شؤونهم؛ قال النّبي صلى الله عليه وسلم: [من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ]. كما قال: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]. وورد في الأثر: "على العاقلِ أن يكونَ بصيراً بزمانِهِ، مقبلاً على شأنِهِ، حافظاً للسانِه، ومن حسب كلامَه من عمَلِهِ قلَّ كلامُه إلا فيما يَعنيه".

 

ويرى أهل العلم أنّ مِن التدخل في شئون الآخرين ما يكون حسناً في الأمور الدنيوية المباحة، كإبداء الرأي وعرض الخبرات من باب تقديم النصيحة، بغير إفراطٍ يجعلهم يدسون أنوفهم في كل شيءٍ؛ فتقع المشاكل وتكثر الخلافات، وبدون تفريطٍ يجعلهم لا يسألون عن أحوال إخوانهم مطلقاً؛ فتكون القطيعة وتنفصم عُرى الأخوة وأواصر المودة. لا هؤلاء ولا هؤلاء على صواب، وخير الأمور أوسطها فمن حُسن إسلام المرء الاهتمام بأمور المسلمين، وكما قيل: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".

وللتدخل في شئون الآخرين أحكامٌ مختلفةٌ وفقاً للموقف؛ فقد يكون التدخل واجباً؛ مثل التدخل لتغيير المنكر، ويأثم مَن لم يتدخل وهو يستطيع. وقد يكون التدخل مستحباً؛ مثل التدخل لإرشاد أخيك إلى عمل خيرٍ. وقد يكون التدخل مباحاً؛ كالسؤال عن شخصٍ هل مريضٌ أم لا؟ مثلاً. وقد يكون التدخل مكروهاً؛ مثل سؤال أحدهم عن أمرٍ من الأمور الشخصية التي عادةً ما يحاول الناس التكتم عليها. وقد يكون التدخل محرماً؛ كالتجسس على المسلم أو التنصت عليه، أو الاطلاع على أوراقه الخصوصية بغير علمه أو إذنٍ منه، مثلاً.

ويقول المختصون بالشئون الاجتماعية إن (احترام خصوصية الآخرين) من أكثر الأمور التي لابد أن يحرص عليها كل فردٍ في المجتمع؛ لأنها تُعبّر عن مدى تحضّر الإنسان، وهي انعكاسٌ لقيمه في الحياة، ومؤشرٌ على مستوى البيئة التي نشأ فيها؛ فهناك الكثيرون ممن يُعطون لأنفسهم الحق في تتبع أحوال الآخرين، إما باسم القرابة، أو الجوار، أو الزمالة في العمل، أو حتى باسم الصداقة في بعض الأحيان؛ حتى أصبح الفرد يشعر بتضييق الحصار عليه في مجتمعه.

 

أحبتي.. إن (احترام خصوصية الآخرين) أمرٌ يحثنا عليه ديننا الحنيف؛ فليحرص كلٌ منا على عدم التدخل في شئون الآخرين إلا بما يُحقق مصلحتهم ويكون مفيداً لهم. ولنُقلل من الفضول الذي يعترينا في بعض الأحوال، ولا يكون فيه فائدةٌ تُرجى؛ يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.

اللهم أعنّا على ضبط أنفسنا، وقمع فضولنا، ورفع قدرتنا على (احترام خصوصية الآخرين).

https://bit.ly/3QUIlZX

الجمعة، 17 نوفمبر 2023

غيّر القرآن حياتي

 خاطرة الجمعة /421

الجمعة 17 نوفمبر 2023م

(غيّر القرآن حياتي)

 

أختٌ تحكي عن قصتها مع القرآن الكريم؛ فتقول:

كنتُ مواظبةً على تلاوة القرآن، وكان لي منه وِردٌ يومي، وبدأتُ في حفظ بعض أجزائه، كنتُ أحفظ الجزء الواحد من القرآن الكريم في سنةٍ كاملةٍ وأنسى، وأعيد الحفظ مرةً أخرى وأنسى. ظللتُ على هذه الحال أربع سنواتٍ ثم تزوجتُ؛ فتركتُ تلاوة القرآن، وأهملتُ حفظه، وانشغلتُ بزوجي وأبنائي. إلا أنني أحسستُ أنني تُهتُ وضِعتُ وسط الدنيا وهمومها، كانت الحياة شقاءً، وضنكاً مستمراً لا ينتهي؛ ما إن تنتهي مصيبةٌ إلا وأدخل في غيرها، لا أرفع رأسي من همٍ إلا ويزلزلني غمٌ أشد، حتى مرضتُ مرضاً شديداً كدتُ أفارق الحياة بسببه. سئمتُ من الدنيا وما فيها من ألمٍ مستمر. شظف العيش أثقلني حتى الإنهاك. استمر هذا الحال معي حتى استمعتُ قدراً إلى هذه الآية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)، كانت الآية تعريفاً صادقاً لانكبابي على الدنيا؛ فرغم بذلي أقصى جهدي لإسعاد مَن حولي لم أحظَ برضاهم، وما استطاعوا هُم أن يسعدوني. خلوتُ إلى نفسي، وتأملتُ فيما تغير من أحوالي؛ فتذكرتُ هجري للقرآن، وقررتُ أن أعود إليه؛ بيقينٍ كاملٍ أن فيه خلاصي من حالة الضنك التي أحكمت حلقاتها على حياتي كلها. وسبحان الله ما إن عدتُ إلى القرآن، حتى تفتحت أمامي أبواب الخير، وأُغلقت أبواب الشر، وطوقني الله بهالةٍ من التحصين الدائم؛ فإذا بالساخطين وقد صمتوا، وبالمادحين وقد ظهروا، وبالظالمين وقد اختفى ظلمهم. وعندما بدأتُ في الحفظ كنتُ أُكرر الآيات طوال اليوم؛ عندما أُعد الطعام، عندما أكوي، عندما أُرتب حاجيات أبنائي، وحتى عندما أجلس في اجتماعات الأهل والأصدقاء، كثيرة الأفراد قليلة الفائدة اللهم إلا من صلة الرحم.

بدأت حياتي تتغير بشكلٍ مذهلٍ؛ فقد (غيّر القرآن حياتي) للأبد:

-المرض الذي كان فرداً من أفراد عائلتي فارقني في ذلك العام، وتبدل مقعدي؛ فبدلاً من أن يكون في انتظار الدخول إلى الطبيب صار مقعداً في مجالس القرآن تعلماً وتعليماً.

-السخط الذي كان يُقلبني على جمر الألم كل يومٍ، تحوّل إلى رضىً عميقٍ وإحساسٍ بأن الله قد كافأني على أحزاني وصبري بالجائزة الكبرى فلا نعمة مثلها أبداً.

-الفوضى التي كنتُ أعيشها حينما كانت تتقاذفني أيادِ مَن حولي يُمنةً ويُسرةً، أضحت حياةً في غاية التنظيم رغم الانشغال الشديد؛ اليوم درس التجويد، اليوم درس التفسير، اليوم درس الحفظ، بل وأصبح مَن حولي ينظمون حياتهم حسب مواعيدي القرآنية، بعد أن كنتُ أقلب حياتي رأساً على عقب حسب نزعاتهم وتبعاً لرغباتهم التي لا تستند إلى منظورٍ قرآنيٍ ربانيٍ واعٍ.

-المشاكل، وهي أمرٌ لا تخلو الحياة منه فقد خُلقنا في دار ابتلاءٍ، اختلفت معالجتي لها؛ أصبحتُ أكثر فطنةً وحكمة. لقد (غيّر القرآن حياتي) بالفعل، وكان المدد الإلهي لي لا ينتهي.

 

أحبتي في الله.. علَّق ناشر قصة هذه المرأة بقوله إنها تغتسل بالقرآن ليل نهار، وتتقلب في طُهره وعِطره وجماله، وصدق عليها قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

 

وبالتأكيد ليست صاحبة القصة وحدها هي التي تقول: (غيّر القرآن حياتي)؛ فهناك كثيرٌ من الناس يقولون مثل قولها. وهذه، على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة قصصٍ واقعيةٍ قصيرةٍ تشهد على ذلك، أنقلها لكم كما عبَّر عنها أصحابها:

 

-كثيراً ما أقوم بتأنيب نفسي عند كسلي عن القيامِ بما يجبُ على مثلي وأنا أقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ فكنتُ إذا قلتُ قولًا ثمَّ تكاسلتُ في فعله أهذِّب نفسي بهذه الآية، فأفعل هذا الأمر من غير تكاسلٍ، ولله الحمد.

-كانت لي قصةٌ مع هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ فقد كنتُ طالبةً بالتَّحفيظ وتدبَّرتُها، وأثَّرتْ على سلوكي فجاهدتُ حتَّى بَلَّغني ربِّي مستوىً ومكانةً عاليةً في حفظ القرآن وفي تحفيظه، ولله الحمد.

-كان بيني وبين الصُّحبةِ الصَّالحة بعضُ المشاكل حتَّى وسوس لي الشَّيطان تَرْكَهم، فقرأتُ قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ‌ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَ‌بَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِ‌يدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ فكان ذلك أعظمَ مثبِّتٍ لي معهم.

-كنتُ سابقاً أهتم بشؤون الحياة كثيراً، وأرهق نفسي بذلك، وعندما تفكَّرْتُ في هذه الآية: ﴿يُدَبِّرُ‌ الْأَمْرَ﴾ أيقنتُ أن الله جلَّ وعلا هو المدبِّر المتصرِّف في خلقه، وأنَّ على المؤمن أن يتوكَّل على الله، ويعمل بالأسباب.

-كنتُ كثيرةَ العصيانِ في أوقاتِ الخُلوة، وأشْعُرُ بالنَّدم وأنا وحدي، وبعد فترةٍ كنتُ مع رفقةٍ صالحةٍ، وتذكّرتُ أمري، ودعوتُ الله أن يغفرَ لي، وأمسكتُ المصحف؛ فوَقعَتْ عيناي على قوله: ﴿رَّ‌بُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورً‌ا﴾، فبكيتُ، وعزمتُ على تزكيةِ نفسي؛ لتكونَ أهلاً للمغفرة.

-الآيةُ الكريمة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَ‌حُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ كانت درساً لي، عندما قرأتُها شَعرتُ كأني المخاطبة بها؛ أريد الجنَّة، وأريد رؤيةَ الله سبحانه، لكن أين العمل؟! ومن لحظتها قرَّرتُ الاجتهادَ في العمل الصَّالح.

-من أعظم الأشياء الَّتي كانت تصدُّني عنِ التَّوبة: تلبيس الشَّيطان عليّ في القنوط من رحمة الله، وأنِّي صاحب ذنبٍ لا يُغتفر؛ حتَّى قرأت: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ إلى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُ‌ونَهُ﴾ فإذا كان اللهُ فَتَحَ بابَ التَّوبةِ لمن نَسَبَ له الصَّاحبة والولدَ فكيف بمن دونه!

-أنا طالبُ علم، وذاتُ مرّةٍ توقَّفْتُ عند قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ‌ الْآخِرَ‌ةَ وَيَرْ‌جُو رَ‌حْمَةَ رَ‌بِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ‌ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فبكيتُ كثيراً على ضياع ليالٍ كثيرةٍ، وأنا لم أُشرّف نفسي بالانتصاب قائماً لربِّي ولو لدقائق، فكان هذا البكاءُ مفتاحاً لبدايةٍ أرجو أن لا تتوقف حتَّى ألقى ربِّي.

-آيةٌ عشتُ معها، وأصبحَتْ منهجاً في حياتي: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ‌ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ فإذا حدثتْني نفسي، خصوصاً إذا كنتُ خالياً وعلى النِّت، أن أرى ما لا يرضيه سبحانه؛ جاءتْ هذه الآيةُ أمامي لتردعني.

-هذه الآية: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ﴾ غيّرتْ حياتي؛ فأصبحتْ عباداتي وشؤونُ حياتي اليوميَّة، مع زوجي وأبنائي ومع الصَّغير والكبير بل والقريب والبعيد، على أساس تعظيم شأن كلِّ طاعةٍ ومعروفٍ وإحسانٍ وبرٍّ، مهما صغر ولم يؤبه به، وكذا تعظيم المعصية أو الإثم والسَّيِّئة والأذى مهما قَلَّل أو احتقر شأنَها الآخرون، فصِرتُ أنصحُ وآمر وأنكر بها.

-الآية الكريمة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَ‌حُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾، كان لها أكبر الأثر على سلوكي؛ فوالله الَّذي لا إله غيره، لقد جَرَّبتُ الحالتين، ولَمَسْتُ الفرقَ الَّذي أثبتته هذه الآية؛ حين نَفَت التَّماثل بين حالةِ العاصي وحالةِ المؤمن.

-عالجتُ مشكلةَ ضعف الخشوعِ في صلاتي بتذكُّر هذه الآية: ﴿وَعُرِ‌ضُوا عَلَىٰ رَ‌بِّكَ صَفًّا﴾، فكلَّما تذكَّرتُ الوقوفِ بين يدي اللهِ والعرض عليه، وأنا أصلِّي، زاد خشوعي حينها؛ لأنَّ صفةَ العرضِ في الصَّلاة تشبه صفةَ العرض يوم القيامة.

-هذه الآية غيرتني: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ‌ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، فعندما تأملتُها قلتُ لنفسي: أنا لن أدخل الجنَّة حتَّى أُنفق ممَّا أحبُّ، وكنتُ أُحبُّ النومَ فصرتُ أَتركُ منه جزءاً كبيراً وأقوم الليل، ولمّا أضعف أتذكَّر هذه الآية.

-هذه الآية: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ كان لها وقعٌ عظيمٌ في نفسي؛ فكلَّما وقَعَتْ خصومةٌ أو سوء فهمٍ، تدبَّرت هذه الآية، واجتهدتُ في الإحسان، فأجِد تسامحاً عجيباً، وقناعةً ورضىً عن نفسي ولله الحمد.

-تمرُّ بنا أحياناً ضائقةٌ قد تبكينا أو حتَّى تدمينا ألماً، ولكنِّي أُعزي نفسي بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا﴾ فوجدتُ الرَّاحة التَّامة، حتَّى وأنا في أَحْلِك الظُّروف أبتسم، لأنِّي أعلم يقيناً أن بعد العسر يُسرين.

-قد يَضيقُ صدرُك إذا سمعت ما يؤلمُك، وقد تحزن لذلك، وقد تهتمُّ كثيراً، فتحتاج لمن يرأفُ على قلبك، ويُذهبُ ما أهمك، تدبَّرتُ قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُ‌كَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَ‌بِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾، فوجدتُ العلاجَ الشَّافي الكافي، فيا لعظمة هذا القرآن وجميل لذَّته.

-كنتُ مُعجَباً جِدّاً بالغرب وحضارته، وفي يومٍ من الأيَّام كانت جدَّتي معي في سيارتي، فأخذْتُ أحدّثُها عن حضارةِ الغربِ وتقدمِهم، فتَلتْ عليَّ قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرً‌ا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَ‌ةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ فأيقنْتُ أنْ لا شيء يعدل الإيمان.

-كنتُ واقعةً في ذنبٍ يشقُّ عليّ تركُه، وفي كلِّ مرةٍ أرتكبُه يتملّكني شعورٌ بالضَّيق الشَّديد، وفي أحد الأيَّام فتحتُ المذياع؛ فإذا بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ يُرتِّله أحد القراء بصوتٍ مؤثَّرٍ جدّاً؛ فاقشعرَّ جسمي، وكان ذلك اليوم الحد الفاصل بين المعصية والإنابة إلى الله.

-كنتُ لا أعرفُ طريقَ المسجد، والحياةُ عندي عبثٌ في عبثٍ، فسمعتُ يوماً قارئاً يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَ‌ضَ عَن ذِكْرِ‌ي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، فتأمَّلتُ في حالي؛ فأحسستُ حقّاً أنَّ كلَّ ما كنتُ فيه من لهوٍ وعبثٍ وضلالٍ؛ ليس إلا لهثاً وراء سعادةٍ زائفةٍ؛ فأطفأتُ السِّيجارة، وأشعلتُ أنوار الإيمان، أسأل الله الثَّبات.

-كنتُ متهاونةً في أمر الصَّلاة، وأعيشُ في ضيقٍ، وتمرُّ بي أزماتٌ ومشاكل لا طاقة لي بها، وأتمنّى أنْ أجدَ حَلًّا، وفي أحدِ الأيَّام سمعتُ قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ‌ وَالصَّلَاةِ﴾، فانتبهتُ وقلتُ لنفسي: إنّ ربي يأمرُني أن أستعينَ بالصَّبر والصَّلاة، وأنا لا أزال مُفرِّطةٌ؛ فكانت نهاية التَّفريط في تَعلُّقي بالصَّلاة.

11- عندما أسمعُ أو أقرأ هذه الآيات: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِ‌عُونَ فِي الْخَيْرَ‌اتِ﴾، و{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّ‌بُونَ} أَتساءلُ: كم سبَقَنا إلى الرَّحمن من سابقٍ، وتَعِبَ في مجاهدتِه نفسَه، لكنَّه الآن صار من المقربين؟ فأعودُ إلى نفسي وأحتقرُها إذا تذكَّرتُ شديدَ تقصيرِها، وأقول: يا ترى أين أنا؟

 

أحبتي.. قال أحد العلماء: "مَن قَرأ القُرآن طَالباً الهُدىٰ أخذَ الله بيدهِ حتىٰ يبلغهُ فَوق مَا أرَاده"؛ وقال غيره: "لا تُعطي القرآن فضلة وقتك، وإنما أعطه أفضل وقتك". وأقول لمن يُخصص للقرآن وقتاً من يومه أقل مما يُخصص لمتابعة تطبيقات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت: "راجع نفسك!".

أحبتي لنقرأ القرآن دوماً ونتدبر معانيه، وليكن لنا وِردٌ يوميٌ للتلاوة، حتى لا نكون ممن اشتكاهم الرسول صلى الله عليه وسلم لله رب العالمين حين قال: ﴿يَا رَ‌بِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْ‌آنَ مَهْجُورً‌ا﴾. ومن استطاع منا حفظ كتاب الله فليفعل، ومن كان بمقدوره أن يُعلِّم غيره القرآن فلا يتردد. وقتئذٍ يستطيع كل واحدٍ منا أن يقول: (غيّر القرآن حياتي)؛ إذ تطمئن نفوسنا، وترتاح قلوبنا، وتهدأ صدورنا، وتسكن جوارحنا، ونشعر بحلاوة القرآن الكريم، ولذة تلاوته وتدبره.

أعاننا الله على ذلك، وأضفى على حياتنا الهدوء والسكينة والاطمئنان والبركة. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

https://bit.ly/40MWz3F

الجمعة، 10 نوفمبر 2023

الدعوة الصامتة

 خاطرة الجمعة /420

الجمعة 10 نوفمبر 2023م

(الدعوة الصامتة)

 

 

كتب لصديقه يقول: سأروي لكَ قصةً ماتعةً يا صديقي، فاسمع! منذ أربع سنواتٍ استقدمتُ عاملةً منزليةً من «إثيوبيا» اسمها «بورتيكان»، كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وعلى دين النصارى، ولما لاحظتُ فيها شيئاً من التَّدين قلتُ لها: "إن كنتِ تريدين الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد فأنا مستعدٌ أن أوصلكِ ثم أعود لاصطحابكِ بعد أن تنتهي من صلاتك"، فقالت لي: "لا، ولكن هل يمكن أن أصوم؟"، قلتُ لها: "بالطبع"، وطلبتُ من زوجتي أن تُعِدَّ لها طعاماً لائقاً بصائمٍ يُفطر في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، فهكذا هو صومهم! كانت طيبةً جداً، وكنا لها أهلاً؛ نُعاملها كأنها ابنتنا من لحمنا ودمنا، حتى أنها كانت تناديني "بابا"، وتنادي زوجتي "ماما"، وكان أولادي يُعاملونها كأنها أختهم؛ إذا ذهبنا إلى المطعم تجلس معنا على الطاولة كأنها ابنتي فعلاً، وإذا اشترينا ثياباً للأولاد اشترينا لها ثياباً بنفس السعر، حتى حينما كنتُ أعطي أولادي مصروفهم كنتُ أعطيها مثلهم! لم أُحدِّثها أن دينها خطأ، ولم أدعها إلى الإسلام حتى! وكنتُ كل يوم ٍأُعطي أولادي درساً من كتاب «رياض الصالحين» ولم أطلب منها ولو مرةً واحدةً أن تجلس معنا، ولكنها في الليل كانت تسأل ابنتي «فاطمة» عن ديننا؛ فقد كانت تنام مع البنات في غرفتهم.

مضى عامان والأمر كذلك، وفي العام الثالث، وقبل رمضان بأسبوعٍ، قالت لي: "بابا، أريد أن أقول لك شيئاً"، قلتُ لها: "تفضلي"، فقالت لي: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، وصامت معنا رمضان كله، وكانت تُصلي معنا التراويح في البيت؛ بحكم أننا كنا في الحجر الصحي بسبب أزمة «كورونا» والمساجد مغلقة. كانت تُحافظ على الصلاة بشكلٍ عجيبٍ، حتى أنها كانت تُذكِّر أولادي بها.

ثم انتهى وقت عملها عندنا وأرادت أن تُغادر إلى بلدها إلى غير رجعة، كنتُ أعرفُ أنها ستلقى هناك معارضةً شديدةً؛ فما تفعلُ فتاةٌ في مواجهة عائلةٍ كاملةٍ والأمر يتعلقُ بالدين؟! لهذا أعددتُها مسبقاً لهذه المواجهة! أخبرتها أن بر الأبوين، وصلة الرحم، لا يعنيان أن يُملي أحدهم علينا دينه، وأن كل إنسانٍ يموتُ وحده، ويُدفن وحده، ويُبعثُ وحده ويُحاسب وحده! وقصصتُ عليها قصصاً كثيرةً؛ عن مواجهة «إبراهيم» عليه السلام مع أبيه، وكيف أنه حافظ على البِّر ولم يتخلَّ عن دينه، وعن مواجهة «سعد بن أبي وقاص» مع أُمه التي أقسمت ألا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه فقال لها: "يا أماه لو أن لكِ مئة نفسٍ خرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني"، وعن «بلال» وندائه الخالد: "أحدٌ أحدٌ"، وعن «ماشطة ابنة فرعون» وجوابها الواثق: "ربي وربك الله"، وعن «صهيبٍ الرومي» وأنه "ربح البيعُ أبا يحيى!".

وحدث الذي توقعته؛ كانت هناك وحيدةً، ولكنها لم تكن ضعيفةً؛ شيءٌ من عزم «بلال»، وثقة «الماشطة»، وقوة «سعد»، وزُهد «صُهيب»، طلبوا منها أن تترك الإسلام فلم تقبل، حاولوا معها بكل الوسائل فثبتت، ولمّا فكروا أن يزوجوها علَّ هذا يكون حلاً لترجع عن دينها قالت لهم: "المسلمة لا تتزوج بغير المسلم!". كانت تُحدثني باستمرارٍ، وكنتُ أُثبتها وآمرها أن تبرَّ أهلها وتتمسك بدينها؛ فكانت عند حُسن ظني بها.

اتصلت بي اليوم وقالت: "بابا، عندما يبدأ رمضان أخبرني كي أصوم!". صدق من قال: "ما المرءُ إلا بقلبه!"؛ جاءتنا نصرانيةً اسمها «بورتيكان»، وعادت مسلمةً اسمها «نور». علمتنا أكثر مما علمناها؛ علمتنا أن الإيمان يصنعُ المعجزات!

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ واقعيةٌ عن (الدعوة الصامتة) لدين الله؛ يقول تعالى مُبيناً أفضل سُبل الدعوة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، ويقول مُقدماً القول الحسن على الصلاة والزكاة: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ويوضح عزَّ وجلَّ لنا أهمية المعاملة الطيبة؛ فيقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومؤكداً على ضرورة الالتزام بالعدل حتى مع ظلم الأعداء وتجاوزهم؛ يقول تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ويوصينا تبارك وتعالى بحُسن مصاحبة الوالديْن حتى ولو كانا مشركَيْن، وحتى لو جاهدانا للشرك به؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، ومع المشركين أنفسهم بيَّن لنا سبيل التعامل معهم؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وتصل سماحة الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يأمرنا سبحانه وتعالى بالبر إلى الكفار والإقساط إليهم ما لم يقاتلونا أو يخرجونا من ديارنا؛ يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾.

 

وما فعله راوي القصة هو مثالٌ واضحٌ لما يُسمى (الدعوة الصامتة)؛ فهو لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ يدعو بها الشغالة الإثيوبية لاعتناق الإسلام، لكنها شاهدت بأُم عينيها نموذجاً لأسرةٍ مسلمةٍ ملتزمةٍ متمسكةٍ بمبادئ دينها، معبرةٍ عنه في جميع تصرفاتها ومعاملاتها، فكانت معايشة الشغالة لهذه الأسرة سبباً مباشراً لاقتناعها بالإسلام ومن ثَمّ اعتناقه.

و(الدعوة الصامتة) تحدث نتيجةً لمواقف تتسم دائماً بالتلقائية وعدم التكلف، تحدث بغير تحضيرٍ مسبقٍ أو استعدادٍ خاص، لكنها كلها تشترك في أمرٍ واحدٍ هو: عدم النطق بكلمةٍ واحدةٍ للدعوة لدين الله، وإنما يكون ذلك بحُسن المعاملة والالتزام بالسلوكيات التي يأمرنا بها الإسلام.

ومن تلك المواقف ما يلي:

أستاذ رياضياتٍ ملحدٌ في مدينةٍ أمريكيةٍ، يسخَر من كل الأديان، رأى فتاةً مسلمةً محجبةً حجاباً كاملاً تُحضِّر رسالة دكتوراه في الرياضيات، تساءل بينه وبين نفسه: "البنات هنا عرايا في الصيف، فما الذي في ذهن هذه الفتاة لتتحجب؟ ماذا عندها من قناعاتٍ حتى ترتدي هذه الثياب الكاملة؟!". ثيابها فقط دعته إلى دراسة الإسلام فأسلم، وهو الآن أكبر داعيةٍ هناك.

 

رجلٌ ألمانيٌ أسلم، كان سبب إسلامه أن طالباً مسلماً من «سوريا» سكن في بيته، وعند هذا الرجل فتاةٌ جميلةٌ جداً، لم يرَ والد هذه الفتاة هذا الشاب ينظر إلى ابنته ولا لمرةٍ واحدةٍ؛ فكان غض الشاب لبصره سبباً في إسلام الرجل.

 

وشابٌ تزوج فتاةً غير مسلمةٍ، ثم أسلمت، أُم هذه الفتاة حينما رأت إحسان صهرها، ورحمته، وعنايته بها وقد قعدت في فراشها في أواخر عمرها، أسلمت دون أن تسمع منه كلمةً واحدةً عن الإسلام، تأثرت بحُسن معاملته.

 

و(الدعوة الصامتة) لا تفيد فقط مع الأجانب وتكون سبباً في اعتناقهم للإسلام، بل إنها -وبفضل الله- تُنبه بعض المسلمين الغافلين فيفيقوا ويعودوا إلى الطريق المستقيم، ومن ذلك الموقف التالي:

شابٌ يعمل في دائرةٍ، قدَّم لرئيسه طلب إجازةٍ ستة أيام، قال له المدير: "لا توجد إجازات"، قال الشاب: "لا أريد الإجازة لأنقطع عن العمل، وإنما أقدم الطلب لتُخصم هذه الأيام من رصيدي من الإجازات؛ فهي تعادل الوقت الذي كنتُ أصلي فيه صلاة الظهر خلال آخر ثلاثين يوماً في جامعٍ جانب الدائرة؛ حيث كنتُ أستغرق في كل مرةٍ ربع ساعةٍ، جمعتُ هذا الوقت كله فبلغ ستة أيام"، أبدى المدير اندهاشه، ثم سأله: "في أي جامعٍ كنتَ تُصلي؟"، أجابه الشاب. المفاجأة أن هذا المدير -الذي كان بعيداً عن الدين- صار ومن الأسبوع التالي من الملتزمين بصلاة الظهر يومياً في المسجد المذكور.

 

وليست (الدعوة الصامتة) حِكراً على العلماء والأئمة وحدهم أو خريجي كليات الشريعة وطلاب العلم الشرعي أو غيرهم ممن يعملون في مجال الدعوة؛ فهذا صاحب محل بقالةٍ دخل رجلٌ إلى محله وسأله: "أعندك بيضٌ طازج؟"، قال له: "الذي عندي جئتُ به قبل عدة أيامٍ، أما المحل المجاور لي فجاءه البيض الآن، اشترِ من جاري". مثل هذا البقَّال الأمين إن تكلم كلمةً في الدين يُسمع له.

 

يقول أهل العلم إنه كان من أسباب انتشار الإسلام المعاملة الحسنة التي يتميز بها المسلمون، الذين تربوا على تعاليم القرآن الكريم، وعلى سُنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث وصل الدين الإسلامي إلى مناطق كثيرةٍ، في الشرق والغرب؛ نتيجة المعاملة الحسنة، عن طريق التجار المسلمين، الذين كانوا دعاة خيرٍ وسلامٍ، كما يذكر لنا المؤرخون أن التجار كانوا هم الدُعاة، وما كانت التجارة لديهم إلا وسيلةً للسفر والاتصال بالناس؛ كي يدعوهم إلى عبادة الله، وكم من داعيةٍ صامتٍ دخل الناس في الإسلام بسببه؛ فالدعاة الصامتون أولئك الذين يدعون إلى الله عزَّ وجلَّ بأحوالهم، الذين تُبلِّغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسِيَرَهُم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم كانت ناطقةً بما يدعون إليه؛ بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أية كلمةٍ وأي بيان.

 

وها هو أحد الخبراء في (الدعوة الصامتة) يقول إن هناك سببين للتأثير فيمن حولك ـ بعد الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه ـ وهما: اعتزازك بالإسلام والانتماء إليه ورفع الرأس به، والدعوة بالقدوة الحسنة؛ فاستقامتك الشخصية وتمسكك بالدين ظاهراً وباطناً من أعظم أسباب إقبال الناس عليه، واحرص على ألا تكون أفعالك ومعاملاتك مخالفةً لأقوالك.

 

وقيل عن (الدعوة الصامتة): "من وعظ أخاه بفعله كان هادياً". وقيل: "يُقدِّم الداعية الدعوة بالقدوة واللحظ، على الدعوة بالكلمة واللفظ". كما قيل: "يحرص الداعية على أن يدعو الناس بالصمت والسمت، قبل أن يدعوهم باللفظ والوعظ". وقيل أيضاً: "الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالأقوال". وقيل كذلك: "الناس يتعلمون بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم".

 

أحبتي.. الدعوة إلى الله واجبٌ شرعيٌ، وفرضٌ على كل مسلمٍ بحسب استطاعته وقدر علمه؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بلِّغوا عنِّي ولو آيةً]. ومن أهم أساليب الدعوة إلى دين الله (الدعوة الصامتة) التي هي في استطاعة كل واحدٍ منا؛ فمهما تفاوتت إمكاناتنا العلمية والثقافية، ومكاناتنا الاجتماعية، وقدراتنا المادية، ومستوياتنا الوظيفية، فما يزال بإمكان كل فردٍ منا أن يكون من المفلحين الذين يقول الله عنهم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، والذين بشَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالثواب الجاري والمستمر: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعَمِ]؛ فلنُحْسن أقوالنا، ونُحسِّن أخلاقنا، ونصدق في معاملاتنا، ونُخلص في أعمالنا، ونجعل القرآن هادينا ومرشدنا، ونتمسك بسُنة نبينا، ونكون خير سفراء لديننا الذي ارتضاه الله لنا، بسلوكنا وأفعالنا؛ فندعو إلى الهدى بكلامنا وصمتنا، وننوي بذلك أن نكون دعاةً لإسلامنا، حتى لو كانت (الدعوة الصامتة) هي سبيلنا.

يمكن لك أخي -بصدقك وأمانتك، باستقامتك وعفافك، بإتقان عملك، بحلمك وعفوك وصبرك- أن تكون أكبر داعيةٍ وأنت صامت؛ اجعل من يراك يتمنى أن يكون مثلك؛ اجعله يستشعر الإيمان في معاملاتك، ودعه يرى أثر العبادات في سلوكك، واحرص على أن يشاهد قيم الإسلام وأخلاق المسلم في أفعالك.

أعاننا الله، ووفقنا لخدمة دينه، وهدانا لأن يكون كل واحدٍ منا مثالاً كاملاً للمسلم الصالح، ونموذجاً طيباً يُحتذى به، وقدوةً حسنةً يُتأسى بها.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/47qXdGh

الجمعة، 3 نوفمبر 2023

الله يُحب المحسنين

 خاطرة الجمعة /419

الجمعة 3 نوفمبر 2023م

(الله يُحب المحسنين)

 

يقول شابٌ: أثناء عودتي من عملي في وقتٍ متأخرٍ من الليل -كعادتي- شاهدتُ بائع الموز يقف في البرد الشديد ينتظر زبوناً يشتري آخر ما عنده من موز، فأوقفتُ سيارتي وترجلتُ منها وشرعتُ في عبور الطريق لأشتري منه ما تبقى معه رحمةً به، رغم أن في بيتي كميةً من الموز، وبينما أنا متجهٌ نحو البائع، إذا بشابٍ يظهر على جانب الطريق المقابل، يتجه هو أيضاً إلى بائع الموز؛ تنحيتُ جانباً وأشرتُ إليه ليتقدم فأشار إليّ أن أسبقه، أراد أن يتنحى هو ويُعطيني أنا الفرصة للشراء؛ فأخبرته أنني نويتُ الشراء فقط لأرحم البائع من الوقوف في البرد؛ فإذا بالشاب يُخبرني أنه جاء لنفس السبب، وأن لديه من الموز ما يكفيه، وآثرني على نفسه وأصرّ أن يترك لي فرصة الشراء لكسب الأجر والثواب، فشكرته واشتريتُ بالفعل ما تبقى من الموز من البائع.

لكني تعجبتُ وقلتُ في نفسي: "سبحان الله! أرسل الله لهذا الرجل اثنين في وقتٍ واحدٍ، تُرى ما طبيعة هذا الرجل الذي سخّر الله له رحمة الناس وتعاطفهم؟!". لم تتأخر الإجابة حين شاهدتُ في اليوم التالي عامل نظافةٍ يكنس بجوار عربة بائع الموز، فإذا بالبائع يضع بعض الموز في كيسٍ ويناوله لعامل النظافة! هنا أدركتُ حقيقةً هامةً؛ وهي أن (الله يُحب المحسنين) ويُسخِّر لهم من يُحسن إليهم، ويُجنّد لهم جنداً من عنده دون علمهم! سبحان الله، المحسن قريبٌ من الله عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي في الله.. للإحسان إلى الناس أشكال وصور كثيرةٌ ومتنوعةٌ منها هذا الذي حدث في أحد محلات بيع البطاطين، في يومٍ شديد البرودة من أيام الشتاء، إذ دخل المحل رجلٌ يبدو عليه أنه فقيرٌ متعففٌ، وسأل صاحب المحل عن أرخص البطانيات عنده لأنه يحتاج ست بطانياتٍ لأسرته، وليس معه إلا خمسةٌ وعشرون ديناراً فقط؛ فقال له صاحب المحل: "عندي نوعٌ صينيٌ رائعٌ في التدفئة، سعر البطانية رخيصٌ جداً خمسة دنانير فقط، وعليه عرضٌ خاص، فلو اشتريت منها خمساً تأخذ السادسة مجاناً"، انشرح صدر الرجل الفقير وأخرج دنانيره الخمسة والعشرين وأعطاها لصاحب المحل ثمناً لخمس بطانياتٍ كي يأخذ السادسة هديةً، وأخذ البطانيات ومشي والفرحة تقفز من عينيه. بعدما انصرف الرجل الفقير نظر صديق صاحب المحل الذى كان واقفاً وسأله: "أليست هذه البطانية التي قلتَ لي إنها أحسن وأغلى بطانيةٍ عندك وبعتها لي الأسبوع الماضي بستين ديناراً؟!"، رد صاحب المحل: "والله يا صديقي العزيز هي كذلك فعلاً، وقد بعتها لك أنت بستين ديناراً من غير مكسبٍ ولا حتى دينار واحد، فما بالك وأنا أُتاجر مع الله وأُخرجها لوجه الله رأفةً بهذا الرجل المسكين وبأسرته من برد الشتاء؛ فأرجو أن يحفظني ربي بسببها من حر جهنم، والله لولا عزة نفس هذا الرجل لأعطيته البطانيات كلها مجاناً، لكنني لم أُرد أن أحرجه، وأُظهر له أنني تصدقت عليه فأجرح كرامته، ولا تنسَ أن (الله يُحب المحسنين)".

 

عن المحسنين يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول جلَّ وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾، كما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾، ويقول: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

والإحسان -كما يقول العلماء- مأخوذٌ من الحُسْن، وهو كل شيءٍ جميلٍ، ودين الله يقوم في حقيقته على الإحسان، فهو إما إحسانٌ في عبادة الله، وإما إحسانٌ مع خلقه وإليهم. والإحسان إلى الناس هو بذل النفع إليهم، والسعي في قضاء حوائجهم، وإغاثة ملهوفهم، وإعانتهم كلما تيسر للعبد ذلك، والنصح لهم في جميع أمورهم. إنه بذل الخير للغير دون انتظار مقابل. فهو في أصله محض عطاءٍ وتفضل. وهو عبادةٌ من أفضل العبادات، وقُربةٌ من أجَّل القُربات، بها تنمو المحبة، وتزداد الأُلفة والمودة، وتقوى أواصر الأُخوة، وتنتشر بين أبناء المجتمع روح التعاون والتكاتف والترابط، وهو صفةٌ نبيلةٌ، وخصلةٌ جليلةٌ، يُحبُّها الله، ويُحبُّ أهلها؛ فإذا أحسن المُسلم إلى الآخرين في هذه الدنيا، كانت النتيجة إحسان الله إليه في الدنيا والآخرة، ويُحس المحسنون آثار ذلك في أنفسهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة والراحة التي لا يحدُّها حدّ.

وللإحسان المقبول عند الله تعالى شرطان: أن تكون النية فيه خالصةً لله وحده، وأن يكون موافقاً للشرع ولسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال واصفاً بعض صور هذا الإحسان: [..وأَحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ "يعني مسجدَ المدينةِ" شهرًا..]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ].

وعن الآية الكريمة: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ قال أحد العلماء: "من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحِمهم رحِمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خَلْقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكونُ العبد لخَلْقه".

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، فلنُحسن العمل؛ فإن (الله يُحب المحسنين)، وليعرف كلُّ واحدٍ منا الله في الرخاء، ليعرفه في الشدة، ولنبدأ بتفقد أرحامنا وأقاربنا، وجيراننا، ولا نهمل غيرهم من إخواننا المسلمين، ثم ليشمل إحساننا بعد ذلك غير المسلمين. علينا بعيادة المرضى، وإغاثة الملهوفين، وقضاء حوائج المحتاجين، ومساعدة الفقراء والمساكين والعطف عليهم. وأقل ما يُمكن أن نُقدمه لغيرنا؛ حُسن المعاملة، والكلمة الطيبة، وإفشاء السلام، والتبسم في الوجوه، فإن لم نستطع فبكف أذانا عنهم؛ فلا نعتدي ولا نحقد ولا نحسد ولا نفعل أي شرٍ لهم.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وأعِنّا على فعل الخير، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، موافقاً لشرعك القويم، وتقبّله منا، وثقِّل به موازيننا، واجعله شفيعاً لنا يا أكرم الأكرمين.

https://bit.ly/3u0D5fK