الجمعة، 24 نوفمبر 2023

احترام خصوصية الآخرين

 خاطرة الجمعة /422

الجمعة 24 نوفمبر 2023م

(احترام خصوصية الآخرين)

 

كتب يقول: كنتُ أعمل قبل سنواتٍ مسؤولاً عن مشروعٍ صغيرٍ يعمل معي فيه أربعة أشخاص. المدة الزمنية لتنفيذ المشروع كانت قصيرةً، والمتطلبات كثيرةٌ، وأثناء مرحلةٍ حرجةٍ في تنفيذ المشروع فاجأني أحد زملائي الأربعة بطلب إجازةٍ لمدة يومين دون سابق إنذارٍ ودون أن يُبدي الأسباب. المشكلة أن مَن طلب الإجازة زميلٌ كفءٌ نحتاج إلى خبراته المتميزة في كل لحظةٍ، خاصةً في هذه المرحلة الحرجة من العمل. سألته عن سبب الإجازة الطارئة، لا سيما أن الجهة التي نعمل لها أشعرتنا بإيقاف الإجازات لمدة شهرين حتى ننتهي من هذا المشروع، أجابني بأنه سيذهب إلى مدينة «الرياض» براً من مدينة «الخُبر» لأمرٍ عاجل. قلتُ له يكفيك يومٌ واحدٌ لو ذهبتَ بالطائرة، وأنا مستعدٌ أن أرتب لك الحجوزات بنفسي، رفض مساعدتي مشيراً إلى أنه يحتاج إلى يومين كاملين، ويُفضل أن يذهب بالسيارة. احترمتُ قراره ووافقتُ على إجازته، لكن كتبتُ له رسالةً إلكترونيةً قلتُ له فيها: "لم يرقْ لي أسلوبك؛ توقعتك أكثر مرونةً وتعاوناً".

لم يرد على رسالتي وإنما جاء إلى مكتبي والحزن بادٍ على وجهه وقال: "ما دمتَ متضايقاً من تصرفي سأبوح لك بما لم أكن أرغب في البوح به؛ زوجتي مشلولةٌ ولا تستطيع السفر بالطائرة، وضعها الصحي الحالي يتطلب استلقاءها في المقعد الخلفي للسيارة، حصلنا بصعوبةٍ على موعدٍ مع طبيبٍ عالميٍ مشهورٍ يزور المملكة، اتفقتُ مع أخيها أن يُسافر معها إلى «الرياض» لكنه اعتذر في اللحظة الأخيرة بسبب ظرفٍ جدَّ له، ولا أريد أن نخسر هذا الموعد؛ فحرصتُ أن أرافقها رغم ظروف عملنا، هل ارتحتَ الآن؟". قلتُ له: "لم أرتحْ بل تضاعف ضيقي؛ لأني شعرتُ أني تجاوزتُ حدودي معك بإلحاحٍ غير مبرر". نكأتُ جرحاً غائراً في روحه عبَّر عنه بكلماتٍ أشبه بالرماد الذي يلي الحرائق: "أقدرك يا عبد الله، لكن لم أرغب أن أفشي وضع زوجتي خارج أسرتنا؛ لا أحب أن ينظر أحدٌ إليّ أو إلى زوجتي بنظرة شفقة".

كان هذا الموقف درساً لي لأقدر ظروف الآخرين، ولا أُعرِّضهم للإحراج بحثاً عن إجابةٍ يرون أن من الأفضل أن تظل مختبئةً في الصدور. علينا أن نمنح الآخرين مساحةً لا نقترب منها، ليس في هذا الموقف فحسب، وإنما في جميع التفاصيل. ينبغي أن نقمع فضولنا ونقدر الآخرين باحترام قراراتهم، ونُقلع عن فضولنا الذي ينتهك (احترام خصوصية الآخرين).

 

أحبتي في الله.. تقول سيدةٌ انفصلت عن زوجها منذ فترةٍ وجيزةٍ: "أسوأ سؤالٍ أواجهه بشكلٍ يوميٍ: لماذا انفصلتِ؟". قررت هذه السيدة بعد انتشار قصة طلاقها في محيطها الاجتماعي أن تبقى في المنزل ولا تخرج منه إلاّ بعد أشهرٍ من الطلاق الذي أصبح مدار حديث الرجال قبل النساء، فلم تكد تفيق من أزمتها النفسية بعد الطلاق ورغبتها في بدء حياةٍ جديدةٍ حتى وجدت نفسها محاصرةً من قبل مجتمعٍ يسألها: لماذا تطلقتِ؟، ومن رغب في الطلاق أنتِ أم زوجك؟، وهل ستتزوجين بعد الطلاق؟، وماذا بخصوص الأطفال؟، وغيرها من الأسئلة التي وجدت فيها تجديداً لوجعها الذي كانت تحاول أن تُخفيه، كلما التقت بمحيطها من الأقرباء والصديقات حتى تحاول الوقوف من جديدٍ على قدميها وتنسى، إلاّ أن المجتمع الفضولي يرفض أن يحترم صمتها وتكتمها على خصوصياتها الشخصية ويُصر على أن يخترق المستور!

وهذه سيدةٌ أخرى، طبيبةٌ بلغت من العمر الأربعين ولم تتزوج، ومازال الكثير من الناس المحيطين بها يبحث في أسباب عزوفها عن الزواج على الرغم من العروض الجيدة التي قُدمت لها، فالكثير منهم يسألها عن سبب رفضها الدائم للزواج، حتى وصل الأمر إلى أنها أصبحت تتلقى رسائل على هاتفها المحمول يطلب فيها مرسلها أن تُراجع نفسها، وتتوب إلى الله، وتُطبق سُنة الله في خلقه بتحصين نفسها بالزواج، دون أن يعرف أحدٌ الأسباب الحقيقية لعزوفها عن الزواج؛ مما دفع تلك الطبيبة إلى التفكير بجديةٍ للانتقال بسكنها وعملها إلى منطقةٍ سكنيةٍ أخرى بحثاً عن احترام خصوصياتها التي أصبحت مشاعاً، وصارت مجالاً يتناقش فيه المحيطون بها على وسائل التواصل الاجتماعي!

 

أحبتي في الله.. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾، فمن صفات المؤمنين الحرص على (احترام خصوصية الآخرين) وعدم التدخل في شؤونهم.

ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ في هذه الآية يحذر الله من التدخل أو الحديث فيما لا يملك الإنسان علماً به، مؤكداً على أن السمع والبصر والفؤاد سيكونون موضع مساءلةٍ يوم القيامة.

 

كما أن هناك عدة أحاديث نبويةٍ شريفةٍ صحيحةٍ تحث المسلمين على (احترام خصوصية الآخرين) وعدم التدخل في شؤونهم؛ قال النّبي صلى الله عليه وسلم: [من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيه]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ]. كما قال: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]. وورد في الأثر: "على العاقلِ أن يكونَ بصيراً بزمانِهِ، مقبلاً على شأنِهِ، حافظاً للسانِه، ومن حسب كلامَه من عمَلِهِ قلَّ كلامُه إلا فيما يَعنيه".

 

ويرى أهل العلم أنّ مِن التدخل في شئون الآخرين ما يكون حسناً في الأمور الدنيوية المباحة، كإبداء الرأي وعرض الخبرات من باب تقديم النصيحة، بغير إفراطٍ يجعلهم يدسون أنوفهم في كل شيءٍ؛ فتقع المشاكل وتكثر الخلافات، وبدون تفريطٍ يجعلهم لا يسألون عن أحوال إخوانهم مطلقاً؛ فتكون القطيعة وتنفصم عُرى الأخوة وأواصر المودة. لا هؤلاء ولا هؤلاء على صواب، وخير الأمور أوسطها فمن حُسن إسلام المرء الاهتمام بأمور المسلمين، وكما قيل: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".

وللتدخل في شئون الآخرين أحكامٌ مختلفةٌ وفقاً للموقف؛ فقد يكون التدخل واجباً؛ مثل التدخل لتغيير المنكر، ويأثم مَن لم يتدخل وهو يستطيع. وقد يكون التدخل مستحباً؛ مثل التدخل لإرشاد أخيك إلى عمل خيرٍ. وقد يكون التدخل مباحاً؛ كالسؤال عن شخصٍ هل مريضٌ أم لا؟ مثلاً. وقد يكون التدخل مكروهاً؛ مثل سؤال أحدهم عن أمرٍ من الأمور الشخصية التي عادةً ما يحاول الناس التكتم عليها. وقد يكون التدخل محرماً؛ كالتجسس على المسلم أو التنصت عليه، أو الاطلاع على أوراقه الخصوصية بغير علمه أو إذنٍ منه، مثلاً.

ويقول المختصون بالشئون الاجتماعية إن (احترام خصوصية الآخرين) من أكثر الأمور التي لابد أن يحرص عليها كل فردٍ في المجتمع؛ لأنها تُعبّر عن مدى تحضّر الإنسان، وهي انعكاسٌ لقيمه في الحياة، ومؤشرٌ على مستوى البيئة التي نشأ فيها؛ فهناك الكثيرون ممن يُعطون لأنفسهم الحق في تتبع أحوال الآخرين، إما باسم القرابة، أو الجوار، أو الزمالة في العمل، أو حتى باسم الصداقة في بعض الأحيان؛ حتى أصبح الفرد يشعر بتضييق الحصار عليه في مجتمعه.

 

أحبتي.. إن (احترام خصوصية الآخرين) أمرٌ يحثنا عليه ديننا الحنيف؛ فليحرص كلٌ منا على عدم التدخل في شئون الآخرين إلا بما يُحقق مصلحتهم ويكون مفيداً لهم. ولنُقلل من الفضول الذي يعترينا في بعض الأحوال، ولا يكون فيه فائدةٌ تُرجى؛ يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾.

اللهم أعنّا على ضبط أنفسنا، وقمع فضولنا، ورفع قدرتنا على (احترام خصوصية الآخرين).

https://bit.ly/3QUIlZX

الجمعة، 17 نوفمبر 2023

غيّر القرآن حياتي

 خاطرة الجمعة /421

الجمعة 17 نوفمبر 2023م

(غيّر القرآن حياتي)

 

أختٌ تحكي عن قصتها مع القرآن الكريم؛ فتقول:

كنتُ مواظبةً على تلاوة القرآن، وكان لي منه وِردٌ يومي، وبدأتُ في حفظ بعض أجزائه، كنتُ أحفظ الجزء الواحد من القرآن الكريم في سنةٍ كاملةٍ وأنسى، وأعيد الحفظ مرةً أخرى وأنسى. ظللتُ على هذه الحال أربع سنواتٍ ثم تزوجتُ؛ فتركتُ تلاوة القرآن، وأهملتُ حفظه، وانشغلتُ بزوجي وأبنائي. إلا أنني أحسستُ أنني تُهتُ وضِعتُ وسط الدنيا وهمومها، كانت الحياة شقاءً، وضنكاً مستمراً لا ينتهي؛ ما إن تنتهي مصيبةٌ إلا وأدخل في غيرها، لا أرفع رأسي من همٍ إلا ويزلزلني غمٌ أشد، حتى مرضتُ مرضاً شديداً كدتُ أفارق الحياة بسببه. سئمتُ من الدنيا وما فيها من ألمٍ مستمر. شظف العيش أثقلني حتى الإنهاك. استمر هذا الحال معي حتى استمعتُ قدراً إلى هذه الآية: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)، كانت الآية تعريفاً صادقاً لانكبابي على الدنيا؛ فرغم بذلي أقصى جهدي لإسعاد مَن حولي لم أحظَ برضاهم، وما استطاعوا هُم أن يسعدوني. خلوتُ إلى نفسي، وتأملتُ فيما تغير من أحوالي؛ فتذكرتُ هجري للقرآن، وقررتُ أن أعود إليه؛ بيقينٍ كاملٍ أن فيه خلاصي من حالة الضنك التي أحكمت حلقاتها على حياتي كلها. وسبحان الله ما إن عدتُ إلى القرآن، حتى تفتحت أمامي أبواب الخير، وأُغلقت أبواب الشر، وطوقني الله بهالةٍ من التحصين الدائم؛ فإذا بالساخطين وقد صمتوا، وبالمادحين وقد ظهروا، وبالظالمين وقد اختفى ظلمهم. وعندما بدأتُ في الحفظ كنتُ أُكرر الآيات طوال اليوم؛ عندما أُعد الطعام، عندما أكوي، عندما أُرتب حاجيات أبنائي، وحتى عندما أجلس في اجتماعات الأهل والأصدقاء، كثيرة الأفراد قليلة الفائدة اللهم إلا من صلة الرحم.

بدأت حياتي تتغير بشكلٍ مذهلٍ؛ فقد (غيّر القرآن حياتي) للأبد:

-المرض الذي كان فرداً من أفراد عائلتي فارقني في ذلك العام، وتبدل مقعدي؛ فبدلاً من أن يكون في انتظار الدخول إلى الطبيب صار مقعداً في مجالس القرآن تعلماً وتعليماً.

-السخط الذي كان يُقلبني على جمر الألم كل يومٍ، تحوّل إلى رضىً عميقٍ وإحساسٍ بأن الله قد كافأني على أحزاني وصبري بالجائزة الكبرى فلا نعمة مثلها أبداً.

-الفوضى التي كنتُ أعيشها حينما كانت تتقاذفني أيادِ مَن حولي يُمنةً ويُسرةً، أضحت حياةً في غاية التنظيم رغم الانشغال الشديد؛ اليوم درس التجويد، اليوم درس التفسير، اليوم درس الحفظ، بل وأصبح مَن حولي ينظمون حياتهم حسب مواعيدي القرآنية، بعد أن كنتُ أقلب حياتي رأساً على عقب حسب نزعاتهم وتبعاً لرغباتهم التي لا تستند إلى منظورٍ قرآنيٍ ربانيٍ واعٍ.

-المشاكل، وهي أمرٌ لا تخلو الحياة منه فقد خُلقنا في دار ابتلاءٍ، اختلفت معالجتي لها؛ أصبحتُ أكثر فطنةً وحكمة. لقد (غيّر القرآن حياتي) بالفعل، وكان المدد الإلهي لي لا ينتهي.

 

أحبتي في الله.. علَّق ناشر قصة هذه المرأة بقوله إنها تغتسل بالقرآن ليل نهار، وتتقلب في طُهره وعِطره وجماله، وصدق عليها قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

 

وبالتأكيد ليست صاحبة القصة وحدها هي التي تقول: (غيّر القرآن حياتي)؛ فهناك كثيرٌ من الناس يقولون مثل قولها. وهذه، على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة قصصٍ واقعيةٍ قصيرةٍ تشهد على ذلك، أنقلها لكم كما عبَّر عنها أصحابها:

 

-كثيراً ما أقوم بتأنيب نفسي عند كسلي عن القيامِ بما يجبُ على مثلي وأنا أقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ فكنتُ إذا قلتُ قولًا ثمَّ تكاسلتُ في فعله أهذِّب نفسي بهذه الآية، فأفعل هذا الأمر من غير تكاسلٍ، ولله الحمد.

-كانت لي قصةٌ مع هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ فقد كنتُ طالبةً بالتَّحفيظ وتدبَّرتُها، وأثَّرتْ على سلوكي فجاهدتُ حتَّى بَلَّغني ربِّي مستوىً ومكانةً عاليةً في حفظ القرآن وفي تحفيظه، ولله الحمد.

-كان بيني وبين الصُّحبةِ الصَّالحة بعضُ المشاكل حتَّى وسوس لي الشَّيطان تَرْكَهم، فقرأتُ قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ‌ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَ‌بَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِ‌يدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ فكان ذلك أعظمَ مثبِّتٍ لي معهم.

-كنتُ سابقاً أهتم بشؤون الحياة كثيراً، وأرهق نفسي بذلك، وعندما تفكَّرْتُ في هذه الآية: ﴿يُدَبِّرُ‌ الْأَمْرَ﴾ أيقنتُ أن الله جلَّ وعلا هو المدبِّر المتصرِّف في خلقه، وأنَّ على المؤمن أن يتوكَّل على الله، ويعمل بالأسباب.

-كنتُ كثيرةَ العصيانِ في أوقاتِ الخُلوة، وأشْعُرُ بالنَّدم وأنا وحدي، وبعد فترةٍ كنتُ مع رفقةٍ صالحةٍ، وتذكّرتُ أمري، ودعوتُ الله أن يغفرَ لي، وأمسكتُ المصحف؛ فوَقعَتْ عيناي على قوله: ﴿رَّ‌بُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورً‌ا﴾، فبكيتُ، وعزمتُ على تزكيةِ نفسي؛ لتكونَ أهلاً للمغفرة.

-الآيةُ الكريمة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَ‌حُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ كانت درساً لي، عندما قرأتُها شَعرتُ كأني المخاطبة بها؛ أريد الجنَّة، وأريد رؤيةَ الله سبحانه، لكن أين العمل؟! ومن لحظتها قرَّرتُ الاجتهادَ في العمل الصَّالح.

-من أعظم الأشياء الَّتي كانت تصدُّني عنِ التَّوبة: تلبيس الشَّيطان عليّ في القنوط من رحمة الله، وأنِّي صاحب ذنبٍ لا يُغتفر؛ حتَّى قرأت: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ إلى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُ‌ونَهُ﴾ فإذا كان اللهُ فَتَحَ بابَ التَّوبةِ لمن نَسَبَ له الصَّاحبة والولدَ فكيف بمن دونه!

-أنا طالبُ علم، وذاتُ مرّةٍ توقَّفْتُ عند قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ‌ الْآخِرَ‌ةَ وَيَرْ‌جُو رَ‌حْمَةَ رَ‌بِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ‌ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فبكيتُ كثيراً على ضياع ليالٍ كثيرةٍ، وأنا لم أُشرّف نفسي بالانتصاب قائماً لربِّي ولو لدقائق، فكان هذا البكاءُ مفتاحاً لبدايةٍ أرجو أن لا تتوقف حتَّى ألقى ربِّي.

-آيةٌ عشتُ معها، وأصبحَتْ منهجاً في حياتي: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ‌ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ فإذا حدثتْني نفسي، خصوصاً إذا كنتُ خالياً وعلى النِّت، أن أرى ما لا يرضيه سبحانه؛ جاءتْ هذه الآيةُ أمامي لتردعني.

-هذه الآية: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمٌ﴾ غيّرتْ حياتي؛ فأصبحتْ عباداتي وشؤونُ حياتي اليوميَّة، مع زوجي وأبنائي ومع الصَّغير والكبير بل والقريب والبعيد، على أساس تعظيم شأن كلِّ طاعةٍ ومعروفٍ وإحسانٍ وبرٍّ، مهما صغر ولم يؤبه به، وكذا تعظيم المعصية أو الإثم والسَّيِّئة والأذى مهما قَلَّل أو احتقر شأنَها الآخرون، فصِرتُ أنصحُ وآمر وأنكر بها.

-الآية الكريمة: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَ‌حُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾، كان لها أكبر الأثر على سلوكي؛ فوالله الَّذي لا إله غيره، لقد جَرَّبتُ الحالتين، ولَمَسْتُ الفرقَ الَّذي أثبتته هذه الآية؛ حين نَفَت التَّماثل بين حالةِ العاصي وحالةِ المؤمن.

-عالجتُ مشكلةَ ضعف الخشوعِ في صلاتي بتذكُّر هذه الآية: ﴿وَعُرِ‌ضُوا عَلَىٰ رَ‌بِّكَ صَفًّا﴾، فكلَّما تذكَّرتُ الوقوفِ بين يدي اللهِ والعرض عليه، وأنا أصلِّي، زاد خشوعي حينها؛ لأنَّ صفةَ العرضِ في الصَّلاة تشبه صفةَ العرض يوم القيامة.

-هذه الآية غيرتني: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ‌ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، فعندما تأملتُها قلتُ لنفسي: أنا لن أدخل الجنَّة حتَّى أُنفق ممَّا أحبُّ، وكنتُ أُحبُّ النومَ فصرتُ أَتركُ منه جزءاً كبيراً وأقوم الليل، ولمّا أضعف أتذكَّر هذه الآية.

-هذه الآية: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ كان لها وقعٌ عظيمٌ في نفسي؛ فكلَّما وقَعَتْ خصومةٌ أو سوء فهمٍ، تدبَّرت هذه الآية، واجتهدتُ في الإحسان، فأجِد تسامحاً عجيباً، وقناعةً ورضىً عن نفسي ولله الحمد.

-تمرُّ بنا أحياناً ضائقةٌ قد تبكينا أو حتَّى تدمينا ألماً، ولكنِّي أُعزي نفسي بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا﴾ فوجدتُ الرَّاحة التَّامة، حتَّى وأنا في أَحْلِك الظُّروف أبتسم، لأنِّي أعلم يقيناً أن بعد العسر يُسرين.

-قد يَضيقُ صدرُك إذا سمعت ما يؤلمُك، وقد تحزن لذلك، وقد تهتمُّ كثيراً، فتحتاج لمن يرأفُ على قلبك، ويُذهبُ ما أهمك، تدبَّرتُ قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُ‌كَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَ‌بِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾، فوجدتُ العلاجَ الشَّافي الكافي، فيا لعظمة هذا القرآن وجميل لذَّته.

-كنتُ مُعجَباً جِدّاً بالغرب وحضارته، وفي يومٍ من الأيَّام كانت جدَّتي معي في سيارتي، فأخذْتُ أحدّثُها عن حضارةِ الغربِ وتقدمِهم، فتَلتْ عليَّ قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرً‌ا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَ‌ةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ فأيقنْتُ أنْ لا شيء يعدل الإيمان.

-كنتُ واقعةً في ذنبٍ يشقُّ عليّ تركُه، وفي كلِّ مرةٍ أرتكبُه يتملّكني شعورٌ بالضَّيق الشَّديد، وفي أحد الأيَّام فتحتُ المذياع؛ فإذا بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ يُرتِّله أحد القراء بصوتٍ مؤثَّرٍ جدّاً؛ فاقشعرَّ جسمي، وكان ذلك اليوم الحد الفاصل بين المعصية والإنابة إلى الله.

-كنتُ لا أعرفُ طريقَ المسجد، والحياةُ عندي عبثٌ في عبثٍ، فسمعتُ يوماً قارئاً يقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَ‌ضَ عَن ذِكْرِ‌ي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، فتأمَّلتُ في حالي؛ فأحسستُ حقّاً أنَّ كلَّ ما كنتُ فيه من لهوٍ وعبثٍ وضلالٍ؛ ليس إلا لهثاً وراء سعادةٍ زائفةٍ؛ فأطفأتُ السِّيجارة، وأشعلتُ أنوار الإيمان، أسأل الله الثَّبات.

-كنتُ متهاونةً في أمر الصَّلاة، وأعيشُ في ضيقٍ، وتمرُّ بي أزماتٌ ومشاكل لا طاقة لي بها، وأتمنّى أنْ أجدَ حَلًّا، وفي أحدِ الأيَّام سمعتُ قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ‌ وَالصَّلَاةِ﴾، فانتبهتُ وقلتُ لنفسي: إنّ ربي يأمرُني أن أستعينَ بالصَّبر والصَّلاة، وأنا لا أزال مُفرِّطةٌ؛ فكانت نهاية التَّفريط في تَعلُّقي بالصَّلاة.

11- عندما أسمعُ أو أقرأ هذه الآيات: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِ‌عُونَ فِي الْخَيْرَ‌اتِ﴾، و{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّ‌بُونَ} أَتساءلُ: كم سبَقَنا إلى الرَّحمن من سابقٍ، وتَعِبَ في مجاهدتِه نفسَه، لكنَّه الآن صار من المقربين؟ فأعودُ إلى نفسي وأحتقرُها إذا تذكَّرتُ شديدَ تقصيرِها، وأقول: يا ترى أين أنا؟

 

أحبتي.. قال أحد العلماء: "مَن قَرأ القُرآن طَالباً الهُدىٰ أخذَ الله بيدهِ حتىٰ يبلغهُ فَوق مَا أرَاده"؛ وقال غيره: "لا تُعطي القرآن فضلة وقتك، وإنما أعطه أفضل وقتك". وأقول لمن يُخصص للقرآن وقتاً من يومه أقل مما يُخصص لمتابعة تطبيقات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت: "راجع نفسك!".

أحبتي لنقرأ القرآن دوماً ونتدبر معانيه، وليكن لنا وِردٌ يوميٌ للتلاوة، حتى لا نكون ممن اشتكاهم الرسول صلى الله عليه وسلم لله رب العالمين حين قال: ﴿يَا رَ‌بِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْ‌آنَ مَهْجُورً‌ا﴾. ومن استطاع منا حفظ كتاب الله فليفعل، ومن كان بمقدوره أن يُعلِّم غيره القرآن فلا يتردد. وقتئذٍ يستطيع كل واحدٍ منا أن يقول: (غيّر القرآن حياتي)؛ إذ تطمئن نفوسنا، وترتاح قلوبنا، وتهدأ صدورنا، وتسكن جوارحنا، ونشعر بحلاوة القرآن الكريم، ولذة تلاوته وتدبره.

أعاننا الله على ذلك، وأضفى على حياتنا الهدوء والسكينة والاطمئنان والبركة. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

https://bit.ly/40MWz3F

الجمعة، 10 نوفمبر 2023

الدعوة الصامتة

 خاطرة الجمعة /420

الجمعة 10 نوفمبر 2023م

(الدعوة الصامتة)

 

 

كتب لصديقه يقول: سأروي لكَ قصةً ماتعةً يا صديقي، فاسمع! منذ أربع سنواتٍ استقدمتُ عاملةً منزليةً من «إثيوبيا» اسمها «بورتيكان»، كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وعلى دين النصارى، ولما لاحظتُ فيها شيئاً من التَّدين قلتُ لها: "إن كنتِ تريدين الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد فأنا مستعدٌ أن أوصلكِ ثم أعود لاصطحابكِ بعد أن تنتهي من صلاتك"، فقالت لي: "لا، ولكن هل يمكن أن أصوم؟"، قلتُ لها: "بالطبع"، وطلبتُ من زوجتي أن تُعِدَّ لها طعاماً لائقاً بصائمٍ يُفطر في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، فهكذا هو صومهم! كانت طيبةً جداً، وكنا لها أهلاً؛ نُعاملها كأنها ابنتنا من لحمنا ودمنا، حتى أنها كانت تناديني "بابا"، وتنادي زوجتي "ماما"، وكان أولادي يُعاملونها كأنها أختهم؛ إذا ذهبنا إلى المطعم تجلس معنا على الطاولة كأنها ابنتي فعلاً، وإذا اشترينا ثياباً للأولاد اشترينا لها ثياباً بنفس السعر، حتى حينما كنتُ أعطي أولادي مصروفهم كنتُ أعطيها مثلهم! لم أُحدِّثها أن دينها خطأ، ولم أدعها إلى الإسلام حتى! وكنتُ كل يوم ٍأُعطي أولادي درساً من كتاب «رياض الصالحين» ولم أطلب منها ولو مرةً واحدةً أن تجلس معنا، ولكنها في الليل كانت تسأل ابنتي «فاطمة» عن ديننا؛ فقد كانت تنام مع البنات في غرفتهم.

مضى عامان والأمر كذلك، وفي العام الثالث، وقبل رمضان بأسبوعٍ، قالت لي: "بابا، أريد أن أقول لك شيئاً"، قلتُ لها: "تفضلي"، فقالت لي: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، وصامت معنا رمضان كله، وكانت تُصلي معنا التراويح في البيت؛ بحكم أننا كنا في الحجر الصحي بسبب أزمة «كورونا» والمساجد مغلقة. كانت تُحافظ على الصلاة بشكلٍ عجيبٍ، حتى أنها كانت تُذكِّر أولادي بها.

ثم انتهى وقت عملها عندنا وأرادت أن تُغادر إلى بلدها إلى غير رجعة، كنتُ أعرفُ أنها ستلقى هناك معارضةً شديدةً؛ فما تفعلُ فتاةٌ في مواجهة عائلةٍ كاملةٍ والأمر يتعلقُ بالدين؟! لهذا أعددتُها مسبقاً لهذه المواجهة! أخبرتها أن بر الأبوين، وصلة الرحم، لا يعنيان أن يُملي أحدهم علينا دينه، وأن كل إنسانٍ يموتُ وحده، ويُدفن وحده، ويُبعثُ وحده ويُحاسب وحده! وقصصتُ عليها قصصاً كثيرةً؛ عن مواجهة «إبراهيم» عليه السلام مع أبيه، وكيف أنه حافظ على البِّر ولم يتخلَّ عن دينه، وعن مواجهة «سعد بن أبي وقاص» مع أُمه التي أقسمت ألا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه فقال لها: "يا أماه لو أن لكِ مئة نفسٍ خرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني"، وعن «بلال» وندائه الخالد: "أحدٌ أحدٌ"، وعن «ماشطة ابنة فرعون» وجوابها الواثق: "ربي وربك الله"، وعن «صهيبٍ الرومي» وأنه "ربح البيعُ أبا يحيى!".

وحدث الذي توقعته؛ كانت هناك وحيدةً، ولكنها لم تكن ضعيفةً؛ شيءٌ من عزم «بلال»، وثقة «الماشطة»، وقوة «سعد»، وزُهد «صُهيب»، طلبوا منها أن تترك الإسلام فلم تقبل، حاولوا معها بكل الوسائل فثبتت، ولمّا فكروا أن يزوجوها علَّ هذا يكون حلاً لترجع عن دينها قالت لهم: "المسلمة لا تتزوج بغير المسلم!". كانت تُحدثني باستمرارٍ، وكنتُ أُثبتها وآمرها أن تبرَّ أهلها وتتمسك بدينها؛ فكانت عند حُسن ظني بها.

اتصلت بي اليوم وقالت: "بابا، عندما يبدأ رمضان أخبرني كي أصوم!". صدق من قال: "ما المرءُ إلا بقلبه!"؛ جاءتنا نصرانيةً اسمها «بورتيكان»، وعادت مسلمةً اسمها «نور». علمتنا أكثر مما علمناها؛ علمتنا أن الإيمان يصنعُ المعجزات!

 

أحبتي في الله.. إنها قصةٌ واقعيةٌ عن (الدعوة الصامتة) لدين الله؛ يقول تعالى مُبيناً أفضل سُبل الدعوة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، ويقول مُقدماً القول الحسن على الصلاة والزكاة: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾، ويوضح عزَّ وجلَّ لنا أهمية المعاملة الطيبة؛ فيقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ومؤكداً على ضرورة الالتزام بالعدل حتى مع ظلم الأعداء وتجاوزهم؛ يقول تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ويوصينا تبارك وتعالى بحُسن مصاحبة الوالديْن حتى ولو كانا مشركَيْن، وحتى لو جاهدانا للشرك به؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، ومع المشركين أنفسهم بيَّن لنا سبيل التعامل معهم؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وتصل سماحة الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يأمرنا سبحانه وتعالى بالبر إلى الكفار والإقساط إليهم ما لم يقاتلونا أو يخرجونا من ديارنا؛ يقول تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾.

 

وما فعله راوي القصة هو مثالٌ واضحٌ لما يُسمى (الدعوة الصامتة)؛ فهو لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ يدعو بها الشغالة الإثيوبية لاعتناق الإسلام، لكنها شاهدت بأُم عينيها نموذجاً لأسرةٍ مسلمةٍ ملتزمةٍ متمسكةٍ بمبادئ دينها، معبرةٍ عنه في جميع تصرفاتها ومعاملاتها، فكانت معايشة الشغالة لهذه الأسرة سبباً مباشراً لاقتناعها بالإسلام ومن ثَمّ اعتناقه.

و(الدعوة الصامتة) تحدث نتيجةً لمواقف تتسم دائماً بالتلقائية وعدم التكلف، تحدث بغير تحضيرٍ مسبقٍ أو استعدادٍ خاص، لكنها كلها تشترك في أمرٍ واحدٍ هو: عدم النطق بكلمةٍ واحدةٍ للدعوة لدين الله، وإنما يكون ذلك بحُسن المعاملة والالتزام بالسلوكيات التي يأمرنا بها الإسلام.

ومن تلك المواقف ما يلي:

أستاذ رياضياتٍ ملحدٌ في مدينةٍ أمريكيةٍ، يسخَر من كل الأديان، رأى فتاةً مسلمةً محجبةً حجاباً كاملاً تُحضِّر رسالة دكتوراه في الرياضيات، تساءل بينه وبين نفسه: "البنات هنا عرايا في الصيف، فما الذي في ذهن هذه الفتاة لتتحجب؟ ماذا عندها من قناعاتٍ حتى ترتدي هذه الثياب الكاملة؟!". ثيابها فقط دعته إلى دراسة الإسلام فأسلم، وهو الآن أكبر داعيةٍ هناك.

 

رجلٌ ألمانيٌ أسلم، كان سبب إسلامه أن طالباً مسلماً من «سوريا» سكن في بيته، وعند هذا الرجل فتاةٌ جميلةٌ جداً، لم يرَ والد هذه الفتاة هذا الشاب ينظر إلى ابنته ولا لمرةٍ واحدةٍ؛ فكان غض الشاب لبصره سبباً في إسلام الرجل.

 

وشابٌ تزوج فتاةً غير مسلمةٍ، ثم أسلمت، أُم هذه الفتاة حينما رأت إحسان صهرها، ورحمته، وعنايته بها وقد قعدت في فراشها في أواخر عمرها، أسلمت دون أن تسمع منه كلمةً واحدةً عن الإسلام، تأثرت بحُسن معاملته.

 

و(الدعوة الصامتة) لا تفيد فقط مع الأجانب وتكون سبباً في اعتناقهم للإسلام، بل إنها -وبفضل الله- تُنبه بعض المسلمين الغافلين فيفيقوا ويعودوا إلى الطريق المستقيم، ومن ذلك الموقف التالي:

شابٌ يعمل في دائرةٍ، قدَّم لرئيسه طلب إجازةٍ ستة أيام، قال له المدير: "لا توجد إجازات"، قال الشاب: "لا أريد الإجازة لأنقطع عن العمل، وإنما أقدم الطلب لتُخصم هذه الأيام من رصيدي من الإجازات؛ فهي تعادل الوقت الذي كنتُ أصلي فيه صلاة الظهر خلال آخر ثلاثين يوماً في جامعٍ جانب الدائرة؛ حيث كنتُ أستغرق في كل مرةٍ ربع ساعةٍ، جمعتُ هذا الوقت كله فبلغ ستة أيام"، أبدى المدير اندهاشه، ثم سأله: "في أي جامعٍ كنتَ تُصلي؟"، أجابه الشاب. المفاجأة أن هذا المدير -الذي كان بعيداً عن الدين- صار ومن الأسبوع التالي من الملتزمين بصلاة الظهر يومياً في المسجد المذكور.

 

وليست (الدعوة الصامتة) حِكراً على العلماء والأئمة وحدهم أو خريجي كليات الشريعة وطلاب العلم الشرعي أو غيرهم ممن يعملون في مجال الدعوة؛ فهذا صاحب محل بقالةٍ دخل رجلٌ إلى محله وسأله: "أعندك بيضٌ طازج؟"، قال له: "الذي عندي جئتُ به قبل عدة أيامٍ، أما المحل المجاور لي فجاءه البيض الآن، اشترِ من جاري". مثل هذا البقَّال الأمين إن تكلم كلمةً في الدين يُسمع له.

 

يقول أهل العلم إنه كان من أسباب انتشار الإسلام المعاملة الحسنة التي يتميز بها المسلمون، الذين تربوا على تعاليم القرآن الكريم، وعلى سُنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث وصل الدين الإسلامي إلى مناطق كثيرةٍ، في الشرق والغرب؛ نتيجة المعاملة الحسنة، عن طريق التجار المسلمين، الذين كانوا دعاة خيرٍ وسلامٍ، كما يذكر لنا المؤرخون أن التجار كانوا هم الدُعاة، وما كانت التجارة لديهم إلا وسيلةً للسفر والاتصال بالناس؛ كي يدعوهم إلى عبادة الله، وكم من داعيةٍ صامتٍ دخل الناس في الإسلام بسببه؛ فالدعاة الصامتون أولئك الذين يدعون إلى الله عزَّ وجلَّ بأحوالهم، الذين تُبلِّغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسِيَرَهُم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم كانت ناطقةً بما يدعون إليه؛ بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أية كلمةٍ وأي بيان.

 

وها هو أحد الخبراء في (الدعوة الصامتة) يقول إن هناك سببين للتأثير فيمن حولك ـ بعد الاستعانة بالله تعالى واللجوء إليه ـ وهما: اعتزازك بالإسلام والانتماء إليه ورفع الرأس به، والدعوة بالقدوة الحسنة؛ فاستقامتك الشخصية وتمسكك بالدين ظاهراً وباطناً من أعظم أسباب إقبال الناس عليه، واحرص على ألا تكون أفعالك ومعاملاتك مخالفةً لأقوالك.

 

وقيل عن (الدعوة الصامتة): "من وعظ أخاه بفعله كان هادياً". وقيل: "يُقدِّم الداعية الدعوة بالقدوة واللحظ، على الدعوة بالكلمة واللفظ". كما قيل: "يحرص الداعية على أن يدعو الناس بالصمت والسمت، قبل أن يدعوهم باللفظ والوعظ". وقيل أيضاً: "الدعوة بالأحوال أبلغ من الدعوة بالأقوال". وقيل كذلك: "الناس يتعلمون بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم".

 

أحبتي.. الدعوة إلى الله واجبٌ شرعيٌ، وفرضٌ على كل مسلمٍ بحسب استطاعته وقدر علمه؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بلِّغوا عنِّي ولو آيةً]. ومن أهم أساليب الدعوة إلى دين الله (الدعوة الصامتة) التي هي في استطاعة كل واحدٍ منا؛ فمهما تفاوتت إمكاناتنا العلمية والثقافية، ومكاناتنا الاجتماعية، وقدراتنا المادية، ومستوياتنا الوظيفية، فما يزال بإمكان كل فردٍ منا أن يكون من المفلحين الذين يقول الله عنهم: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، والذين بشَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالثواب الجاري والمستمر: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعَمِ]؛ فلنُحْسن أقوالنا، ونُحسِّن أخلاقنا، ونصدق في معاملاتنا، ونُخلص في أعمالنا، ونجعل القرآن هادينا ومرشدنا، ونتمسك بسُنة نبينا، ونكون خير سفراء لديننا الذي ارتضاه الله لنا، بسلوكنا وأفعالنا؛ فندعو إلى الهدى بكلامنا وصمتنا، وننوي بذلك أن نكون دعاةً لإسلامنا، حتى لو كانت (الدعوة الصامتة) هي سبيلنا.

يمكن لك أخي -بصدقك وأمانتك، باستقامتك وعفافك، بإتقان عملك، بحلمك وعفوك وصبرك- أن تكون أكبر داعيةٍ وأنت صامت؛ اجعل من يراك يتمنى أن يكون مثلك؛ اجعله يستشعر الإيمان في معاملاتك، ودعه يرى أثر العبادات في سلوكك، واحرص على أن يشاهد قيم الإسلام وأخلاق المسلم في أفعالك.

أعاننا الله، ووفقنا لخدمة دينه، وهدانا لأن يكون كل واحدٍ منا مثالاً كاملاً للمسلم الصالح، ونموذجاً طيباً يُحتذى به، وقدوةً حسنةً يُتأسى بها.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/47qXdGh

الجمعة، 3 نوفمبر 2023

الله يُحب المحسنين

 خاطرة الجمعة /419

الجمعة 3 نوفمبر 2023م

(الله يُحب المحسنين)

 

يقول شابٌ: أثناء عودتي من عملي في وقتٍ متأخرٍ من الليل -كعادتي- شاهدتُ بائع الموز يقف في البرد الشديد ينتظر زبوناً يشتري آخر ما عنده من موز، فأوقفتُ سيارتي وترجلتُ منها وشرعتُ في عبور الطريق لأشتري منه ما تبقى معه رحمةً به، رغم أن في بيتي كميةً من الموز، وبينما أنا متجهٌ نحو البائع، إذا بشابٍ يظهر على جانب الطريق المقابل، يتجه هو أيضاً إلى بائع الموز؛ تنحيتُ جانباً وأشرتُ إليه ليتقدم فأشار إليّ أن أسبقه، أراد أن يتنحى هو ويُعطيني أنا الفرصة للشراء؛ فأخبرته أنني نويتُ الشراء فقط لأرحم البائع من الوقوف في البرد؛ فإذا بالشاب يُخبرني أنه جاء لنفس السبب، وأن لديه من الموز ما يكفيه، وآثرني على نفسه وأصرّ أن يترك لي فرصة الشراء لكسب الأجر والثواب، فشكرته واشتريتُ بالفعل ما تبقى من الموز من البائع.

لكني تعجبتُ وقلتُ في نفسي: "سبحان الله! أرسل الله لهذا الرجل اثنين في وقتٍ واحدٍ، تُرى ما طبيعة هذا الرجل الذي سخّر الله له رحمة الناس وتعاطفهم؟!". لم تتأخر الإجابة حين شاهدتُ في اليوم التالي عامل نظافةٍ يكنس بجوار عربة بائع الموز، فإذا بالبائع يضع بعض الموز في كيسٍ ويناوله لعامل النظافة! هنا أدركتُ حقيقةً هامةً؛ وهي أن (الله يُحب المحسنين) ويُسخِّر لهم من يُحسن إليهم، ويُجنّد لهم جنداً من عنده دون علمهم! سبحان الله، المحسن قريبٌ من الله عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي في الله.. للإحسان إلى الناس أشكال وصور كثيرةٌ ومتنوعةٌ منها هذا الذي حدث في أحد محلات بيع البطاطين، في يومٍ شديد البرودة من أيام الشتاء، إذ دخل المحل رجلٌ يبدو عليه أنه فقيرٌ متعففٌ، وسأل صاحب المحل عن أرخص البطانيات عنده لأنه يحتاج ست بطانياتٍ لأسرته، وليس معه إلا خمسةٌ وعشرون ديناراً فقط؛ فقال له صاحب المحل: "عندي نوعٌ صينيٌ رائعٌ في التدفئة، سعر البطانية رخيصٌ جداً خمسة دنانير فقط، وعليه عرضٌ خاص، فلو اشتريت منها خمساً تأخذ السادسة مجاناً"، انشرح صدر الرجل الفقير وأخرج دنانيره الخمسة والعشرين وأعطاها لصاحب المحل ثمناً لخمس بطانياتٍ كي يأخذ السادسة هديةً، وأخذ البطانيات ومشي والفرحة تقفز من عينيه. بعدما انصرف الرجل الفقير نظر صديق صاحب المحل الذى كان واقفاً وسأله: "أليست هذه البطانية التي قلتَ لي إنها أحسن وأغلى بطانيةٍ عندك وبعتها لي الأسبوع الماضي بستين ديناراً؟!"، رد صاحب المحل: "والله يا صديقي العزيز هي كذلك فعلاً، وقد بعتها لك أنت بستين ديناراً من غير مكسبٍ ولا حتى دينار واحد، فما بالك وأنا أُتاجر مع الله وأُخرجها لوجه الله رأفةً بهذا الرجل المسكين وبأسرته من برد الشتاء؛ فأرجو أن يحفظني ربي بسببها من حر جهنم، والله لولا عزة نفس هذا الرجل لأعطيته البطانيات كلها مجاناً، لكنني لم أُرد أن أحرجه، وأُظهر له أنني تصدقت عليه فأجرح كرامته، ولا تنسَ أن (الله يُحب المحسنين)".

 

عن المحسنين يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول جلَّ وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾، كما يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾، ويقول: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

والإحسان -كما يقول العلماء- مأخوذٌ من الحُسْن، وهو كل شيءٍ جميلٍ، ودين الله يقوم في حقيقته على الإحسان، فهو إما إحسانٌ في عبادة الله، وإما إحسانٌ مع خلقه وإليهم. والإحسان إلى الناس هو بذل النفع إليهم، والسعي في قضاء حوائجهم، وإغاثة ملهوفهم، وإعانتهم كلما تيسر للعبد ذلك، والنصح لهم في جميع أمورهم. إنه بذل الخير للغير دون انتظار مقابل. فهو في أصله محض عطاءٍ وتفضل. وهو عبادةٌ من أفضل العبادات، وقُربةٌ من أجَّل القُربات، بها تنمو المحبة، وتزداد الأُلفة والمودة، وتقوى أواصر الأُخوة، وتنتشر بين أبناء المجتمع روح التعاون والتكاتف والترابط، وهو صفةٌ نبيلةٌ، وخصلةٌ جليلةٌ، يُحبُّها الله، ويُحبُّ أهلها؛ فإذا أحسن المُسلم إلى الآخرين في هذه الدنيا، كانت النتيجة إحسان الله إليه في الدنيا والآخرة، ويُحس المحسنون آثار ذلك في أنفسهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة والراحة التي لا يحدُّها حدّ.

وللإحسان المقبول عند الله تعالى شرطان: أن تكون النية فيه خالصةً لله وحده، وأن يكون موافقاً للشرع ولسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال واصفاً بعض صور هذا الإحسان: [..وأَحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ؛ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ "يعني مسجدَ المدينةِ" شهرًا..]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ].

وعن الآية الكريمة: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ قال أحد العلماء: "من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحِمهم رحِمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خَلْقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكونُ العبد لخَلْقه".

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾، فلنُحسن العمل؛ فإن (الله يُحب المحسنين)، وليعرف كلُّ واحدٍ منا الله في الرخاء، ليعرفه في الشدة، ولنبدأ بتفقد أرحامنا وأقاربنا، وجيراننا، ولا نهمل غيرهم من إخواننا المسلمين، ثم ليشمل إحساننا بعد ذلك غير المسلمين. علينا بعيادة المرضى، وإغاثة الملهوفين، وقضاء حوائج المحتاجين، ومساعدة الفقراء والمساكين والعطف عليهم. وأقل ما يُمكن أن نُقدمه لغيرنا؛ حُسن المعاملة، والكلمة الطيبة، وإفشاء السلام، والتبسم في الوجوه، فإن لم نستطع فبكف أذانا عنهم؛ فلا نعتدي ولا نحقد ولا نحسد ولا نفعل أي شرٍ لهم.

اللهم اجعلنا من المُحسنين، وأعِنّا على فعل الخير، واجعله خالصاً لوجهك الكريم، موافقاً لشرعك القويم، وتقبّله منا، وثقِّل به موازيننا، واجعله شفيعاً لنا يا أكرم الأكرمين.

https://bit.ly/3u0D5fK

الجمعة، 27 أكتوبر 2023

رضا الله

 

خاطرة الجمعة /418

الجمعة 27 أكتوبر 2023م

(رضا الله)

 

يروي رجلٌ سعوديٌ كبيرٌ في السن من قبيلة «بني شهر» حكايةً حدثت له قبل سنواتٍ طويلةٍ؛ فقال: إنه سافر مع رجلٍ من جماعته إلى «فلسطين» طلباً للرزق أيام الحاجة والفقر؛ فجئنا إلى مزرعةٍ يُسمونها هناك "بيّارة"، ورأينا صاحبها جالساً على أريكةٍ مع أصحابه، بين أصبعيه سيجارٌ ضخمٌ، وله شاربان كبيران، فجلسنا ننتظر الإذن بالحديث معه، وحان وقت صلاة العصر؛ فقال لي صاحبي: "هيا نُصلي"، فقلتُ له: "اتركنا من الصلاة الآن، سنُصلي فيما بعد"، خِفتُ أن يطردنا الرجل صاحب المزرعة؛ فقام صاحبي وأذَّن وصلّى، وأنا جالسٌ، فلما انتهى من صلاته قلتُ لصاحبي: "أبشر بالطّرد الآن"، قال لي: "الرزق عند الله، وليس عند صاحب هذا الشارب المخيف".

بعد وقتٍ قصيرٍ جاء إلينا صبيٌّ وسأل: "أين الذي صلّى؟"، فقلتُ مباشرةً وأنا خائفٌ: "هذا هو" وأشرتُ إلى صاحبي، فقال له الصبي: "قُم معي، سيدي يريدك"، فقام مع الصبي، ورأيته يتحدث مع صاحب المزرعة بأسلوبٍ لطيفٍ، عاد بعدها صاحبي وقال لي معتذراً: "الرجل وظفني لأنه رآني أصلي، وقال لي أنت ستكون مسؤولاً عن البيت وحاجاته، ولما طلبتُ منه توظيفك قال ليس له عندي عملٌ، فاستأذنته أن تبقى معي حتى نجد لك عملاً فأذِن لي".

قال راوي القصة: "فبقيتُ عالةً على صاحبي حوالي شهرٍ حتى يسَّر الله لي عملاً في مزرعةٍ أخرى، لكني لن أنسَ ما حييتُ أني أخطأتُ يومئذٍ خطأً جسيماً بأن قدمتُ رضا صاحب المزرعة على (رضا الله) عزَّ وجلَّ".

 

أحبتي في الله.. عن ذات المعنى ذكر كاتبٌ جليلٌ قصة طفلةٍ صغيرةٍ من بيتٍ محافظٍ عادت ذات يومٍ إلى أُمها من المدرسة وعليها سحابة حزنٍ وكآبةٍ وهمٍّ وغمٍّ؛ فسألتها أُمها عن سبب ذلك؛ فقالت: "إن معلمتي هددتني إن جئتُ مرةً أخرى إلى المدرسة بمثل هذه الملابس الطويلة"، قالت الأم: "ولكنها الملابس التي يريدها الله جلَّ وعلا"، قالت الطفلة: "لكن المعلمة لا تريدها"، قالت الأم: "المعلمة لا تريد والله يريد، فمن تُطيعين إذاً، الذي خلقك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوقاً لا يملك ضَراً ولا نفعاً؟"، فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: "بل أطيع الله، وليكن ما يكون". في اليوم التالي لبست الطفلة ملابسها الطويلة، وذهبت بها إلى المدرسة؛ فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبةً تؤنب الطفلة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، وأكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت، ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة، فانفجرت في بكاءٍ عظيمٍ شديدٍ مريرٍ أَليمٍ، أذهل المعلمة، ثم كفْكفتْ الطفلة دموعها، وقالت كلمة حقٍ خرجت من فمها كالقذيفة، قالت: "والله! لا أدري من أطيع؟ أنتِ أم هو؟"، قالت المعلمة: "ومن هو؟"، قالت الطفلة: "الله رب العالمين، الذي خلقني وخلقك، وصوَّرني وصوَّرك، هل أُطيعك؛ فألبس ما تريدين، وأُغضبه هو. أم أُطيعه وأعصيك أنت؟، لا. سأطيعه، وليكن ما يكون". ذُهلت المعلمة، وسألت نفسها: "هل هي تتكلم مع طفلةٍ أم مع فتاةٍ راشدة؟". ووقعت منها كلمات الطفلة موقعاً عظيماً بليغاً؛ فسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي استدعت أمَّ البنت، وقالت لها: "لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظةٍ سمعتها في حياتي؛ فقد عرفتني ابنتك أن (رضا الله) مُقدمٌ عن رضا غيره، مهما كان. ربيتِ فأحسنتِ التربية؛ فجزاكِ الله خيراً".

 

تعقيباً على هذه القصة قال أحد العلماء: إن إرضاء الناس غايةٌ لا تُدرك؛ فإرضاء البشر ليس في الإمكان أبداً؛ لأن علمهم قاصرٌ، وعقولهم محدودةٌ، يعتَوِرُهم الهوى والنقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم. إن إرضاء الله هو الواجب؛ لأن دينه واحدٌ وسبيله واحدٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾، ولأن في طاعة غير الله الضلال؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أرْضَى الناسَ بسخَطِ اللهِ وكَلَهُ اللهُ إلى الناسِ، ومَنْ أسخَطَ الناسَ برضا اللهِ كفاهُ اللهُ مُؤْنَةَ الناسِ]. يقول شُرّاح الحديث إن (رضا الله) عزَّ وجلَّ من أهم ما يسعى إليه كل مؤمنٍ حصيفٍ، فمن رَضِيَ الله عنه غفر له ورحمه وأدخله جنته، والفائز حقاً هو من فاز بمرضاة الله سبحانه وتعالى. فمن سعى في سبيل الفوز برضا الناس، ونيل مرضاتهم بمعصية الله، وعدم المبالاة بما أمر وما نهى، وعدم الاحتراز من سخط الله، ترك الله أمره إلى الناس، وسلَّطهم عليه، فلم يُرضوه ولم يرضوْا عنه، وسخط الله عليه. وأما من سعى في سبيل الفوز بمرضاة الله عزَّ وجلَّ، ولو كلفه ذلك كُره الناس له، وعدم رضاهم عنه وسخطهم عليه، حفظه الله من سخط الناس عليه، وأرضى عنه الناس، وكفاه هَمّ ذلك. إنَّ المرء قد يرتكب المعاصي إرضاءً للناس، ومجاملةً لهم، ولئلا يقع في الإحراج أمامهم؛ فعلى سبيل المثال، قد تجلس مجموعةٌ من الناس في مجلسٍ فيقوم أحدهم باستغابة شخصٍ غير موجودٍ في المجلس، فإن رضي بقية الجالسين بمعصيته فإنهم مُشاركون له بالمعصية، والأعظم من ذلك أن يقوموا بمجاملته ومداراته والخوض معه في هذه المعصية من أجل كسب رضاه وعدم إغضابه، فيكون ذلك سبباً لإحلال غضب الله عليهم. وقد يجلس شابٌ مع مجموعةٍ من الشباب فيقومون بفعل معصيةٍ من المعاصي فيقوم هذا الشاب بفعل تلك المعصية مجاملةً لهم وإرضاءً لهم على حساب دينه؛ فيكون بذلك قد أرضى الناس بمعصيةٍ تُغضب الله وتستوجب سخطه عليه.

 

وَرَدَ في الأثر: "رضا الناس غايةٌ لا تُدرك، و(رضا الله) غايةٌ لا تُترك؛ فاترك مالا يُدرك لأجل مالا يُترك".

ويقول أهل العلم إنّ مَن التمس رضا الناس بسخط الله مآله وعاقبة أمره إلى الخُسران، حتى وإن وجد بعض الفائدة من ذلك، لكن العاقبة لا تكون حميدةً أبداً، سواءً في الدنيا أو في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط. أما من التمس (رضا الله) بسخط الناس فلا بد أن تكون عاقبته حميدةً، وقد لا يتأتى هذا عاجلاً، وإنما يتأتى بالصبر، فالإنسان قد يرى أول الأمر شيئاً من الإعراض من الناس إذا التمس (رضا الله) بسخطهم، وقد يجد شيئاً من المضايقة، لكنه بالصبر لا بد أن تكون العاقبة له، إما في الدنيا والآخرة وهو الغالب، وإما في الآخرة فقط، لكن ذلك مشروطٌ بصدق النية والإخلاص مع الله عزَّ وجلَّ، والصبر على ما يصيبه من بلاء، وأكثر الناس قد لا يصبر، فلا تحصل له النتيجة التي يأملها؛ لأنه لم يتحقق عنده شرط الصبر.

 

وعن الحرص على (رضا الله) تبارك وتعالى دون سواه قالت إحدى العارفات بالله:

فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ

وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ

وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ

وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

 

أحبتي.. وَصَفَ الله سبحانه وتعالى المنافقين بقوله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾؛ فليحرص كلٌ منا ألا يفعل فعل المنافقين؛ فيُقدِّم رضا الناس على (رضا الله) تبارك وتعالى، مهما بلغ هؤلاء الناس من مكانةٍ أو مهابةٍ، ومهما بلغت سطوتهم وعلا جبروتهم، بل نحرص على رضا ربنا عزَّ وجلَّ؛ نُرضي ربنا ولا نُجامل على حساب ديننا، نُرضي ربنا ولا نسكت عن قول الحق خوفاً أو طمعاً، نُرضي ربنا مهما كان الثمن الذي ندفعه لذلك ولو كان الثمن حياتنا، فهذا هو الإيمان الحق. وفي زمنٍ كَثُر فيه الفساد والفتن والمغريات، وقلَّ فيه الأعوان على الطاعة، ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين، الثابتين وقت الفتن، المتمسكين بديننا كالقابضين على الجمر، الذين لا يبيعون دينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل. اللهم حَبِّب إلينا الإيمان وزَيِّنه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

https://bit.ly/3tVxabC

الجمعة، 20 أكتوبر 2023

كيف ينظرون إلينا؟

 خاطرة الجمعة /417

الجمعة 20 أكتوبر 2023م

(كيف ينظرون إلينا؟)

صاحب هذه القصة داعيةٌ إسلاميٌ مشهور، كتب يقول:

كنتُ في مطار «بانكوك» في «تايلاند»، ودخلتُ أحد المقاهي بالمطار، وطلبتُ قهوةً، وسألتُ إن كان عندهم شطيرةٌ خاليةٌ من الكحول أو دهن الخنزير؟ وأنا أسأل سمعني شابٌ كان خلفي؛ فسألني بحماسٍ: "هل أنت مسلم؟"، قلتُ له: "نعم"؛ فنصحني بنوعٍ معينٍ من الشطائر. وبعد ما أخذ كلٌ منا طلبه، استأذنني أن يجلس معي على نفس الطاولة، فقلتُ له: "بكل سرور"، وتعارفنا، وكان كلامنا باللغة الإنجليزية، إلى أن عرف أنني عربيٌ، فازداد حماسةً، وقال لي بلا ترددٍ وبعربيةٍ مكسرةٍ أكتبها كما نطقها: "السلام أليكم، أن اسمه «أومر»، وهو من «التايلاند»"، أُعجبتُ بشجاعته في محاولة التكلم بالعربية، وابتسمتُ له، وقلتُ له من باب التشجيع: "ما شاء الله لغتك العربية جيدة". عاودنا حديثنا بالإنجليزية، حيث قال لي «عمر»: "بما أنك عربيٌ فأكيدٌ أنك تعرف قراءة القرآن"، فقلتُ له: "الحمد لله، وجئتُ إلى «تايلاند» لتحكيم مسابقةٍ في القرآن"، فجأةً وقف «عمر» من مكانه وقال لي: "صحيح؟ يعني أنت عربيٌ وحافظٌ للقرآن وتُعلِّمه للناس؟"، قلتُ له: "نعم، والحمد لله"، قال لي: "هل من الممكن أن أحضنك؟"، قمتُ من مكاني وحضنته بشدةٍ، وحاول «عمر» تقبيل يدي لكني انتزعتها بصعوبة، وعاودتُ احتضانه، وقد ظهرت دموعه في عينيه.

لم أتفاجأ كثيراً من الموقف، لأني أتعامل كثيراً مع مسلمين من غير العرب، وأعرف حبهم واحترامهم وبراءتهم، لكن الذي فاجأني في «عمر» إنه دخل الإسلام منذ ثلاثة أعوامٍ فقط، ولأجل ظروف شغله، وسكنه البعيد، فإنه يتعلم اللغة العربية من «اليوتيوب» بمفرده، وكان يدعو الله في كل صلاةٍ أن يتعرف على عربيٍ يُساعده في التعلم وحفظ القرآن. طلب مني «عمر» أن أُصحح له سورة الفاتحة، إن كان عندي وقتٌ، وكم كانت سعادته عندما رحبتُ بذلك؛ فقرأ عليّ سورة الفاتحة وصححتها له. ولما اقترب موعد طائرتي أعطيته بطاقةً فيها رقم هاتفي وبريدي الإلكتروني وطرق التواصل، وقلتُ له: أعطني رقم هاتفك، ودعنا نكون على تواصلٍ مستمر، ومع طيبته لم يكن مصدقاً إنني سأسجل رقم هاتفه عندي. بعدها بدأت مع «عمر» دروساً مباشرةً في القرآن، واللغة العربية، بالصوت والصورة بواسطة شبكة الإنترنت. اليوم أتم «عمر» حفظ جزئين تقريباً بحمد الله، ويستطيع أن يقرأ باللغة العربية.

هذه قصتي مع «عمر التايلاندي» رويتها لكم لتعلموا عن المسلمين من غير العرب (كيف ينظرون إلينا). إنهم أناسٌ من أهم أُمنيات حياتهم أن يصاحبوا عربياً، حتى يتعلموا اللغة العربية، وحتى يقرأوا القرآن، نحن في نظرهم من أحفاد الصحابة، ولنا مكانةٌ كبيرةٌ في نفوسهم، وينظرون إلينا بمنظر القدوة. هؤلاء يجاهدون ليل نهار ولسنين طويلةٍ حتى يتعلموا قراءة اللغة العربية بطريقةٍ صحيحةٍ، ونحن الذين لساننا عربيٌ مقصرون في ذلك أشد التقصير إلا من رحم الله.

 

أحبتي في الله.. عن موضوع إخواننا المسلمين من غير العرب و(كيف ينظرون إلينا)، اطلعتُ على قصةٍ حدثت بالفعل، بدايتها صادمةٌ جداً بل ومؤسفةٌ، أما نهايتها فكانت على العكس تماماً، مُبشِّرةً ومطمئنةً، إليكم القصة:

شابان من «المدينة المنورة» ذهبا إلى «تركيا» من أجل أخذ راحتهما بشرب الخمر هناك، فلما وصلا «إسطنبول» قاما بشراء زجاجات الخمر وركبا سيارة أجرةٍ ذهبا بها إلى قريةٍ ريفيةٍ، وسكنا في فندقٍ هناك حتى لا يراهما أحد، وأثناء تسجيل بياناتهما سألهما موظف الاستقبال بالفندق: "من أين انتما؟"، فقال أحدهما: "من «المدينة المنورة»"؛ ففرح موظف الاستقبال وأعطاهما جناحاً بدلاً من غرفةٍ إكراماً للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وإكباراً لهما لأنهما من أهل «المدينة المنورة». سعد الشابان بذلك وسهرا طوال الليل يشربان الخمر حتى سكر أحدهما، أما الثاني فقد سكر نصف سكرةٍ، وناما. في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، فُوجئا بمن يطرق بابهما؛ استيقظ أحدهما وفتح الباب وهو شبه نائمٍ فإذا بموظف الاستقبال يقول له: "إن إمام مسجدنا رفض أن يصلي الفجر لما علم أنكما من «المدينة المنورة» فنحن ننتظركما بالمسجد تحت". صُدم الشاب بالخبر وأيقظ صاحبه سريعاً وأخبره بما حدث وسأله: "هل تحفظ شيئاً من القرآن؟"، فرد عليه أنه لا يمكن أن يصلي إماماً، وجلسا يفكران كيف يخرجان من هذا المأزق، وإذا بالباب يُطرَق مرةً أخرى، ويقول لهما الموظف: "نحن ننتظركما بالمسجد، انزلا بسرعةٍ قبل بزوغ الفجر". يقول صاحبنا: "فدخلنا الحمام واغتسلنا ثم نزلنا إلى المسجد، وإذا به ممتلئٌ وكأن الصلاة صلاة جمعة، وكان المصلون يسلمون علينا؛ فتقدم صديقي للإمامة فكبَّر ثم بدأ يتلو سورة الفاتحة، وحين وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ بكى المصلون بالمسجد وهم يتذكرون مسجد رسول الله". يقول الشاب الذي أَم المصلين: "بكيتُ معهم وأنهيتُ تلاوة سورة الفاتحة ثم سورة الإخلاص في الركعتين؛ فأنا لا أحفظ غيرهما! وإذا بالمصلين -بعد انتهاء الصلاة- يتدافعون نحوي يسلمون عليّ؛ فكان هذا الموقف سبباً في هدايتي أنا وصديقي، بل وأنعم الله علىَّ؛ فصرتُ برحمته واعظاً".

 

هذا يوضح لنا بجلاءٍ (كيف ينظرون إلينا)؛ فالمسلمون من غير العرب ينظرون إلينا -كمسلمين عرب- نظرة تقديرٍ وإجلالٍ، بل نظرة قداسةٍ كما لو كان كل واحدٍ منا هو خليفةٌ من الخلفاء الراشدين أو من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين!

فما بالنا بغير المسلمين، وكيف ينظرون إلينا؟ هؤلاء يحكمون على الإسلام كدينٍ من خلال ما يرونه منا من تصرفاتٍ وأفعالٍ؛ يقول أحد العلماء: أنت يا أخي على ثغرةٍ من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبلك؛ فإياكَ أن تكونَ أنت سبباً في الإساءة إلى الإسلام والمسلمين. إن الناس لا يحبون الإسلام لأنه دينٌ سماويٌ ينسجم مع الفطرة والعقل بقدر ما يحبونه لأنه مطبقٌ في الحياة اليومية، مُجسدٌ في سلوك المسلمين. والناس لا يتعلمون بآذانهم، بل بعيونهم، والإسلام قد انتشر في جنوبي آسيا وشرقها، وفي غرب أفريقيا وشمالها، عن طريق المعاملة الحسنة والسلوك القويم؛ فالتجار المسلمون ضربوا لهذه الشعوب مثلاً أعلى في النزاهة والاستقامة والأمانة. والناس لا يُنفرهم من الدين أو الإسلام شيءٌ مثلُ أن يروا المسلم يُكثر من الصلاة والصيام والأدعية والأوراد, ويسيء إلى الناس في معاملته وبيعه وشرائه ودَيْنه وقضائه.

 

أحبتي.. لا شك في أن كل واحدٍ منا هو سفيرٌ للإسلام، داخل بلده وخارجه؛ فلنكن خير السفراء في أقوالنا وأفعالنا، ولنتذكر دائماً هذا السؤال: (كيف ينظرون إلينا)؟ فنُحسن معاملة الناس بما يحثنا عليه ديننا الحنيف، ونعاملهم بما نحن أهله وليس بما هُم أهله؛ فقد ورد في الأثر: "لا تَكُونُوا ‌إِمَّعَةً، تَقولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تحْسِنُوا، وَإنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا". فلتكن أخلاقنا فاضلةً، وأفعالنا راقيةً، ومعاملاتنا ساميةً، محافظين على قيمنا الإسلامية، متخذين نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قدوةً لنا وأسوةً حسنةً؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

هدانا الله جميعاً لنكون خير السفراء لدينهم، وخير من يرون فيهم الناس قرآناً يمشي على الأرض، وسيرة نبيٍ كريمٍ حيةً تتحرك بين الناس بكل ما هو جميلٌ ونقيٌ وطاهرٌ ونافعٌ ومفيد.

https://bit.ly/46EQRD2

الجمعة، 13 أكتوبر 2023

أنا مسلم

 خاطرة الجمعة /416

الجمعة 13 أكتوبر 2023م

(أنا مسلم)

«ستيفان ليكا» أستاذٌ جامعيٌ رومانيٌ نصرانيٌ اعتنق الإسلام وتسمى باسم «محمد ليكا» يروي قصة إسلامه فيقول: اعتناقي للإسلام كان بسبب المعاملة اللطيفة من أحد الإخوة المسلمين؛ حيث سافرتُ أنا وزوجتي إلى «تركيا» للسياحة، وفي الليل، وبالخطأ، أضعتُ الطريق؛ فاستوقفتُ أحد المارة، وسألته: "هل تعرف هذا العنوان؟" وأريته عنوان الفندق. قال: "ليس هناك أي فندقٍ في هذه القرية، ولكني أرجو أن تكون ضيفي في هذه الليلة". لم يكن أمامنا في هذا الوقت المتأخر من الليل إلا أن نقبل عرضه؛ فذهبنا إلى بيته، وكان مظلماً لم أرَ شيئاً إلا الباب الأمامي الذي كان مفتوحاً، رأيتُ بالداخل خمسة أطفالٍ وسيدتين كبيرتين في السن؛ فقلتُ في نفسي: "هذا المكان آمن". دعاني وزوجتي أن ندخل، ثم دعانا لتناول العشاء البسيط جداً، وقد شعرنا براحةٍ كبيرةٍ بسبب الطريقة التي عاملنا بها. وقال لنا: "أنتما تنامان هنا، وأما نحن فلدينا مكانٌ آخر للنوم". في صباح اليوم التالي، بعد استيقاظي من النوم، بحثتُ عنه لأشكره قبل أن نواصل رحلتنا، عندما خرجتُ من الدار، كان الوقت نهاراً، وأستطيع أن أرى كل شيءٍ.

اكتشفتُ أنه لا يوجد في هذه الدار إلا غرفةٌ واحدةٌ هي كل بيته، وأن هذا الأخ وخمسة أبناءٍ له وزوجته وأمه كانوا نائمين في الخارج تحت شجرةٍ في العراء والبرد الشديد، كدتُ أن أُصعق من المفاجأة، ذهبتُ إليه، وقلتُ له: "أأنت مجنونٌ، لماذا فعلتَ هذا؟"، نظر إلى وجهي وهو يبتسم، وقال: "لا، أنا لستُ مجنوناً، أنتما مسافران ويجب عليَّ أن أساعدكما وأقدم لكما أي شيءٍ أقدر عليه، لأن ديني يأمرني بذلك فأنا مسلم". عندما قال: "(أنا مسلم)"، كان وجهه منيراً ومتوهجاً كالنار، وكنتُ مندهشاً جداً، وزوجتي بدأت تبكي؛ قلتُ لها: "انظري، ما الذي تعرفينه عن الإسلام، وقد رأيتِ كيف يعاملنا هذا الشخص؟". طلبتُ من الرجل أن يحدثنا عن الإسلام؛ فقال: "لا أعرف كثيراً عن الإسلام، لكن اقرأوا القرآن، كما يمكنك قراءة السنة، وعندها ستعرف عن الإسلام".

عُدنا إلى «رومانيا» وذهبتُ فوراً إلى أقرب مكتبةٍ واشتريتُ مصحفاً وبعض كتب الحديث، وبدأتُ بالقراءة. قرأتُ باستمرارٍ لمدة شهرين تقريباً، بعدها فتح الله قلبي للإسلام وقلتُ: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" وأصبحتُ مسلماً في 17 يناير 1993م والحمد لله.

عندما علم أبو «محمد ليكا» بإسلام ابنه طرده، وقاطعته أمه، ومع ذلك فقد نجح في إقناعهما بالإسلام. وتحدث مع إخوته عن حقيقة الإسلام؛ فأشهروا جميعاً إسلامهم. ثم قرر دعوة أهل منطقته وما حولها إلى الإسلام. ثم جهّز سيارةً بشعاراتٍ مكتوبةٍ بعدة لغاتٍ وسافر بها إلى العديد من الدول دعا الناس فيها إلى الإسلام. واعتنقت أعدادٌ كبيرةٌ من النصارى الإسلام على يديه. كما زار دولاً عربيةً وإسلاميةً أيضاً يدعو المسلمين فيها إلى أخلاق الإسلام. أصبح الإسلام شغله الشاغل. اجتهد في الدعوة بأسلوبه وطريقته الفريدة. أُصيب وتعرض إلى العديد من المخاطر والسرقة. أنفق كل ما يملكه في رحلة الدعوة إلى الإسلام؛ كان يعمل في الجامعة ثلاثة شهورٍ ثم يُنفق ما يتحصل عليه من أجرٍ على رحلة الدعوة إلى الإسلام، ثم يعود إلى عمله ثلاثة شهورٍ أخرى ثم يرجع إلى السفر واستكمال رحلة الدعوة إلى الإسلام.

يقول «محمد ليكا»: "إن مفتاح الكلام مع الكاثوليك عن الإسلام يكمن في سورة «مريم»؛ فمعظمهم لا يعلمون أن السيدة «مريم» مذكورةٌ في القرآن، وعندما أقرأ لهم آياتٍ من القرآن تتحدث عنها يبكون من شدة احترامهم لها". يقول أيضاً: "كنتُ أطوف مشياً على الأقدام للتعريف بالإسلام، سرتُ على قدميّ قرابة ثلاثين ألف كيلو متر، زرتُ أربعين دولةً، استهلكتُ خلالها خمساً وخمسين زوجاً من الأحذية، وبعدها -وإلى الآن- استخدمتُ السيارة في سبيل الدعوة إلى الإسلام". ويضيف قائلاً: "إن الله أعطاني هديةً رائعةً هي الإسلام الذي يجب عليّ نشره بين بني البشر في هذه الرحلة التي أقوم بها. عندما رأيتُ أكثر من ألف شخصٍ أصبحوا مسلمين، ورأيتُ الثمرة الطيبة لهذا النشاط قررتُ أن أفعل شيئاً للإسلام في بلدي «رومانيا»، والآن في منطقتنا لدينا أكثر من ثمانين ألف مسلمٍ. كما قررتُ أن أبني المركز الإسلامي ليصبح داراً لتعليم الناس القرآن وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأنا هذا المشروع، وقد قاربنا على إنهائه، وبقي علينا القليل للانتهاء منه. حلمي أن نجعل نشاط الدعوة منتشراً في جميع أنحاء العالم، وهدفي هو هداية الناس بتعريفهم على الإسلام؛ فالشخص إذا قرأ القرآن بقلبٍ مفتوحٍ بالتأكيد سيُغيّر رأيه عن الإسلام وسيتبع هَدي النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، هذا هو حلمي وأنا أعمل من أجل تحقيقه، وأتمنى أنني عندما أنتهي من بناء المركز الإسلامي للدعوة في «رومانيا» أن يستمر نشاطنا؛ لأن علينا مسئوليةً كبيرةً؛ فالله أعطانا نعمة الهداية ونعمة الإسلام فيجب علينا نشر هذه النعمة".

 

أحبتي في الله.. عن الرجل التركي الذي استضاف «محمد ليكا» وزوجته، كتب ناشر القصة يقول: هذا كان موقف رجلٍ مسلمٍ بسيطٍ، ولكنه صاحب فهمٍ وخُلقٍُ إسلاميٍ رفيع، كان تصرفه سبباً في إسلام رجلٍ أنجاه الله به من النار، ليس هذا فحسب ولكنه شهد مولد داعيةٍ إسلاميٍ كبيرٍ، يحمل هَمّ دينه، ويجوب دول العالم يدعو إلى ربه حتى أسلم على يديه قرابة ألف شخصٍ، لا يعلم إلا الله ما فعله كل واحدٍ منهم لخدمة دينه الجديد، كل ذلك وكل هؤلاء الرجال وكل ما فعلوه للإسلام في ميزان حسنات رجلٍ تركيٍ مجهولٍ لدينا، لكنه معلومٌ عند الله، نال ذلك بفهم حقيقة الإسلام ودعوته له بالخُلُق وفعل الخير قبل أن تكون دعوته باللسان والكلام. وقصة إسلام «محمد ليكا» مع بساطتها تُعبِّر عن الوجه الواقعي الذي ربى الإسلام عليه أتباعه، والأخلاق الرائعة التي دعا إليها أنصاره، ولو أنهم تمسكوا به وحققوه في حياتهم لأسلم أكثر من في الأرض من غير أن ينطق المسلمون بكلمةٍ واحدة.

 

تحمل القصة دلالاتٍ كثيرةٍ أقف عند إحداها؛ وهي قول الرجل التركي البسيط (أنا مسلم)، قالها بصدقٍ وتلقائيةٍ وفخرٍ واعتزاز، فخرجت من قلبه مباشرةً إلى قلب ضيفه وزوجته فكان لها وقع السحر عليهما، فحركت فيهما مشاعر قادتهما إلى اعتناق الإسلام مصداقاً لقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ فعندما سُئل ذلك الرجل القروي البسيط لماذا فعل ذلك؟ لم يقل: "لأنني تركيٌ"، أو "لأن هذا واجبٌ إنسانيٌ"، أو "لأن هذه أخلاقنا وعاداتنا"، وإنما قال: "(أنا مسلم)"، قالها بغير تردد. قدَّم الرجل ما استطاع تقديمه لضيفيه ببساطةٍ وبغير تكلفٍ؛ حُسنَ استقبالٍ وطعاماً ومأوىً، وكأنه يتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ]. يقول شُراح الحديث: يُبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يجب عليه أن يُحقِّر أي: يُقلِّل من المعروف أي: من فعل الخير؛ شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجهٍ طلقٍ أي: ضاحكٍ مُستبشرٍ. وفي الحديث أن من هديه صلى الله عليه وسلم فعل المعروف وإن قلّ.

وعن أهمية العمل الصالح حتى ولو كان قليلاً قال النبي عليه الصلاة والسلام: [خُذُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللَّهِ ما دَامَ وإنْ قَلَّ]، كما قال صلى الله عليه وسلم في نفس المعنى: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ].

 

أحبتي.. أكاد أُجزم أن ذلك الرجل التركي المسلم البسيط لا يعلم شيئاً عن الآثار الهائلة التي ترتبت على ما قام به من عملٍ اعتبره هو عادياً، وكان في قرارة نفسه يعلم أن ما يدفعه إلى ذلك هو دينه؛ فكان رده عندما سُئل عن سبب ما فعل: (أنا مسلم)، قالها بتلقائيةٍ وعفويةٍ ومضى إلى حال سبيله دون أن يُدرك الزلزال الذي أحدثته هذه العبارة القصيرة المقتضبة في شخصين، ثم توابع ذلك الزلزال في نفوس كثيرين أسلموا، وفي جهودٍ طيبةٍ ما يزال أثرها يتزايد يوماً بعد يومٍ إلى ما شاء الله، يظل ثوابها في ميزان حسناته حياً وميتاً.

فلنتواصَ أحبتي بفعل الخير مهما قلّ، وبالأعمال الصالحة مهما بدت لنا صغيرةً، مع استحضار نيةٍ خالصةٍ نقصد بها وجه الله تعالى؛ فيكون لهذا الفعل أو العمل البسيط أثرٌ عظيمٌ ننتفع به في دنيانا وآخرتنا؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

لكن لابد من أن يقول كلٌ منا إذا سُئل لماذا فعلتَ ذلك؟: "(أنا مسلم)"، بل والأفضل أن يقول: “إنني من المسلمين"؛ حتى يوافق ما ورد بالآية الكريمة بالنص، المهم ألا يقلها بانكسارٍ ولا بضعفٍ وخجل، بل بقوةٍ من غير غرور، وبفخرٍ من غير تعالٍ، وبثقةٍ من غير تكبرٍ.

هيا إذن نُسارع ونتسابق في التزود بالأعمال الصالحة وفعل الخيرات؛ وصدق الشاعر حين قال:

تزوَّدْ للذي لا بدَّ مِنهُ

فإن المَوتَ مِيقاتُ العِبادِ

وتُبْ مما جنَيتَ وأنتَ حيٌّ

وكُن مُتَنبِّهًا قبلَ الرُّقادِ

ستَندمُ إن رحَلتَ بغيرِ زادٍ

وتَشقى إذ يُناديكَ المُنادِي

أتَرضى أنْ تَكونَ رفيقَ قومٍ

لهم زادٌ وأنتَ بغيرِ زادِ؟

تقبل الله منا ومنكم ومن جميع المسلمين أعمالنا الصالحة وإن قَلَّت أو صَغُرَت في أعيننا.

https://bit.ly/46r3Gkh

الجمعة، 6 أكتوبر 2023

تاج الكرامة

 خاطرة الجمعة /415

الجمعة 6 أكتوبر 2023م

(تاج الكرامة)

يقول كاتب هذه القصة، التي نشرها قبل عدة أيامٍ على صفحته على فيس بوك: أمرني والدي -بارك الله في عمره- أن أُصحح له نطق كلمةٍ في المُصحف شكّ في نُطقها، وبعد أن صححتها له قال لي: "هل تذكر عندما كنتَ صغيراً وأردتُ لك أن تحفظ القرآن الكريم؟ كنتَ تغضب وتقول لماذا أنا أحفظ وفلانٌ قريبنا لا يحفظ؟! هل فهمتَ الآن كم كنتُ على حق؟ لقد صرتَ الآن أستاذاً جامعياً يُشار إليه بالبنان، بل وصرتَ شيخي الذي يُصحح لي ما يشكل عليّ من كلمات القرآن!". وذكّرني أبي -رعاه الله- بجملةٍ قالها لي وقتها عندما كنتُ أقول له: "لنؤجل حفظ القرآن إلى العطلة الصيفية حتى أستطيع التركيز في دروسي"، قال لي: "عليك أن توقن يا بُني بأن حفظك للقرآن الكريم يُقربك من الله سُبحانه وتعالى، ومن يقترب من الله يُسهل له المذاكرة ويجعله من المتفوقين".

الحمد لله -بفضل الله سبحانه- ثم بحرص والديَّ حفظتُ القرآن في سن العاشرة؛ وتفوقتُ في دراستي، وعُينتُ معيداً بالجامعة، ثم سافرتُ من «مصر» ودرستُ الماجستير والدكتوراه، والحمد لله عملتُ كأستاذٍ ومُحاضرٍ في عدة أماكن في دول مختلفةٍ، ولي بحوثٌ منشورةٌ بأكثر من لغةٍ ولله الحمد، وأتحدث أربع لغاتٍ بجانب العربية، وأتعلم الآن اللغة الخامسة والحمد لله؛ إلا أن أعظم ما أحب أن أقدم به نفسي أنني أعمل مُعلماً للقرآن الكريم منذ أن كنتُ طالباً في الصف الأول الثانوي إلى يومنا هذا، بجانب عملي الأكاديمي كأستاذٍ جامعي، ورغم أنني أعيش في «أوروبا» إلا أنني لم أنقطع بفضل الله عن تعليم القرآن، ولي بعض البرامج للتحفيظ عبر شبكة الإنترنت.

لعلكم تتساءلون الآن هل أقول لكم هذا الكلام من باب التفاخر مثلاً؟ حاشا لله، أنا أذكر هذا الكلام الآن لسببين؛ الأول: أنني لم أرَ أن القرآن كان عائقاً لي عن تحقيق أهدافي؛ بل على العكس أعتبر أن أي إنجازٍ حققه هذا العبد الضعيف في حياته فالسر الذي وراءه هو بركة القرآن. الثاني: أن المدارس في «مصر» تبدأ هذا الأسبوع، وكثيرٌ من الآباء والأمهات يجعلون أبناءهم يتغيبون عن حلقات تحفيظ القرآن الكريم بسبب بدء الدراسة؛ بزعم أن القرآن سيعطلهم عن الدراسة، ويا للعجب! لا تنسوا أن [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]. فالطفل بطبيعة الحال لا يعرف ما الذي ينفعه في مستقبله وما الذي يضره، فواجب الوالدين توجيهه وتعليمه بكل حبٍ وحنان. وإن أعظم ما توجهون إليه أبناءكم هو حفظ كتاب الله؛ فيكون سبباً في أن يلبسوا (تاج الكرامة) يوم القيامة.

ليس صحيحاً أن حفظ القرآن يحتاج إلى تركيزٍ ويُعطلهم الأبناء عن المذاكرة! بل -وأقولها عن يقينٍ تام- إن بركة القرآن ستسهل للأبناء كل صعب. صدقوني… إن أردتم أن تجمعوا لأبنائكم أسباب الهداية والتوفيق، وتضعوهم على الطريق الصحيح في هذا الزمن -الذي أصبحت فيه الفتن كأمواج بحر هائج- فعليكم بالقرآن، ربوهم على مائدة القرآن، فكتاب الله هو العاصم، وقد قيل: "تعليم الصبيان القرآن أصلٌ من أصول الإسلام؛ فينشأون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال". بطبيعة الحال كنتُ وقتها لا أدرك لماذا أنا فقط دون بقية أصدقائي وأقاربي يجب عليَّ أن أحفظ القرآن، لم أفهم إلا بعدما كبرتُ، وأدركتُ أن القرآن أعظم نعمةٍ ينعم الله بها على عبدٍ في هذه الدنيا.

ممتنٌ لأبي وأمي -بارك الله في عمرهما- على قرارهما في ذلك الوقت الذي لم أكن أدرك أن فيه نفعي ومصلحتي في دُنياي وأُخراي، وممتنٌ لشيوخي الذين علموني ومنحوني أعظم شيءٍ في هذا الكون؛ كلام ربي، وأدعو الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا.

 

أحبتي في الله.. ذكّرتني هذه القصة بتدوينةٍ كتبتها إحدى الحاصلات على شهادة الدكتوراه من جامعةٍ أجنبيةٍ ونشرتها على موقع التدوين المصغر «X» «تويتر سابقاً» قالت فيها: "مسكينٌ الطفل الذي يدخله أبوه مركز تحفيظ قرآن ولا يُعلمه اللغة الإنجليزية؛ فيكبر وينصدم بأن كل الوظائف شرطها اللغة الإنجليزية ولا توجد أية وظيفةٍ تشترط حفظ القرآن". فكتب أحدهم رداً عليها: "حفظتُ القرآن كاملاً وأنا ابن الـ 14 ونلتُ المركز الأول في الثانوية العامة، وأجيد الآن ثلاث لغاتٍ يا دكتورة. حفظي للقرآن لم يُعيقني عن أتخرج وأكون الأول على دفعتي ب«أمريكا» وبلغةٍ ليست لغتي الأم، وكنتُ من القلائل الذين يُحرزون العلامة الكاملة 100 بالـ100؛ فتعلم القرآن وحفظه يُضيء العقل والروح، ولا ينكر ذلك إلا جاهل".

ويقول أحد الأطباء النفسيين: "زارني في عيادتي كل فئات المجتمع عدا أهل القرآن وحفظته".

 

وعن فوائد حفظ القرآن الكريم بيّن أحد المختصين أنّ من أهمها تحسين الأخلاق والسلوك، تقوية الذاكرة وتنشيط الذهن خاصةً لدى الأطفال، تعويد اللسان على الفصاحة والبيان، تعزيز أساليب التعبير الشفوي والكتابي، تنمية مهارات القراءة، إلى جانب حُسن التدبر والتفكر والفهم السليم. ومنها أيضاً صفاء الذهن، التخلص من الخوف والقلق، قوة المنطق، التمكن من الخطابة، تطوير المدارك، القدرة على الاستيعاب والفهم، الإسهام في حِفظ القرآن الكريم من التحريف والضياع، تسهيل تلاوة كتاب الله في كلّ مكانٍ وزمانٍ، الطمأنينة والاستقرار النفسي، الإحساس بالقوة والهدوء والثبات، والقدرة على بناء علاقات اجتماعية أفضل وكسب ثقة الناس. هذه بعض الفوائد الدُنيوية. أما عن الفوائد الأُخروية فهي أكبر بكثيرٍ، منها: التقرُّب إلى الله تعالى، ونَيْل رضاه، والفوز بالجنّة والرضوان والنعيم المقيم، ولبس (تاج الكرامة)، والقُرب من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهل هناك أجمل من معية الله ورسوله يوم القيامة؟

يقول تعالى: ﴿إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ].وقال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ]. وقَالَ أيضاً: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وقَالَ كذلك: [يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً].

وعن تكريم والديّ حافظ القرآن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا]. وقال عليه الصلاة والسلام عن حافظ القرآن: [..وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ].

 

لقد سهّل ويسّر الله عزَّ وجلَّ حفظ القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، قال مفسرو هذه الآية: "ولقد يسَّرْنا وسهَّلْنا هذا القرآنَ الكريمَ؛ ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظاً، وأصدقه معنًى، وأبينه تفسيراً، فكلُّ مَن أقبل عليه يسَّر الله عليه مطلوبه غايةَ التيسير، وسهَّله عليه".

إن انقطاع الطفل عن حفظ القرآن لمجرد بدء الدراسة ترسيخٌ لِوَهْمِ أن حفظ القرآن مانعٌ له من التفوق الدراسي، ووالله ما وجد الخيرون تفوقاً إلا بالقرآن.

 

أحبتي.. الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر؛ لذا علينا أن نحرص على تحفيظ أبنائنا القرآن الكريم في صغرهم، وحتى إذا كبروا ومهما تقدم بهم العمر؛ لقد صدق من قال إنَّ خير ما صُرِفَ فيه الوقتُ هو حفظُ القرآنِ، فاستثمِروا أبناءكم فيه؛ فإنَّ حافظ القرآن يتلوه ولو كان كفيف البصر، أو مريضاً على فِراشِه، أو مسافراً لا يجد مُصحَفاً يقرأ فيه، يتلوه في كل وقتٍ؛ لأنَّه يحمل القرآن في صدره، فهو يقرأ منه أنَّى شاء، ويؤهله حفظ القرآن لأن يلبس (تاج الكرامة) وحُلة الكرامة، وينعم برضوان الله سبحانه وتعالى. أما والدا حافظ القرآن فهنيئاً لهما يُلبسان تاجيْن من نورٍ، ويُكسيان حُلتيْن لا يقوم لهما أهل الدنيا "أي: لا يُمكن لأهل الدنيا تحديد قيمة هذه الثياب"، أين هذا كله من آباءٍ وأمهاتٍ يحرصون على إيقاظ أبنائهم مبكراً، لا ليصلي الفجر جماعةً في المسجد، أو ليحفظ القرآن، وإنما ليلحق بموعد التدريب في النادي؟ نعم الرياضة مهمةٌ، و[المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ]، لكن ماذا لو جمعنا بين الحُسنيين؛ الرياضة وحفظ القرآن؟ وإذا كان لابد من تفضيل أيٍ منهما على الآخر، فما هو الخيار الأفضل سواءً للأبناء أو للوالدين؟ سؤالٌ أترك إجابته لكم.

اللهم اجعلنا من حفظة كتابك، واجعلنا ممن يحرصون على تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم؛ فيصبحوا مميزين في الدنيا، مكرمين في الآخرة، يشفعون لنا، ويكونون سبباً في رفع درجاتنا؛ فنكون -نحن وهُم- من المفلحين الفائزين، ومن ورثة جنة النعيم خالدين فيها.

https://bit.ly/3tuOkws