الجمعة، 21 يناير 2022

رد المظالم

 

خاطرة الجمعة /327


الجمعة 21 يناير 2022م

(رد المظالم)

 

يحكي قصته فيقول: في مقتبل شبابي وتحديداً قبل سبعٍ وعشرين سنةً من الآن تقدمتُ لأسرةٍ صالحةٍ أطلب يد ابنتهم؛ تمت النظرة الشرعية، وحصلت الموافقة من الطرفين. بعد أيامٍ من الخِطبة، وقبل إتمام عقد النكاح جدَّ جديد؛ خلافٌ في أمرٍ ما أدى إلى عدم إتمام الزواج. مضى فينا قدر الله، ولن يأخذ الإنسان إلا ما قُدِّر له؛ فلا لوم على أحدٍ، لا في ساعتها ولا الآن بعد كل هذه السنين من باب أولى. ومنذ افترقنا لم تزل صورة تلك الأسرة كما هي في نظري؛ أسرةٌ صالحةٌ، وذات سمعةٍ طيبةٍ، والظن في نظرتهم نحو أسرتي كذلك، والموضوع لم يأخذ برمته منذ بدأ وانتهى سوى أيامٍ قلائل، ولم يترك بفضل الله في النفوس شيئاً، وإن ترك فلأيامٍ فقط، لا يستدعي الموضوع أكثر من هذا، ثم مضى كلٌ إلى حال سبيله. رزقني الله غيرها، وهي رُزقت غيري، وتمضي السنون سراعاً، لا أعرف عن والدها وإخوتها شيئاً، وأظنهم كذلك نحوي، فقد أتى كلَ واحدٍ منا ما يُنسيه أمسه لكثرة بلايا الدنيا وهمومها فكيف لا ينسى أحدنا تفاصيل ما حدث، ولأكثر من عقدين من الزمان، كل ما عرفته أن الذي تزوجها أحد أحبتي الكرام، وحين صرتُ بعدها بسنواتٍ إماماً كان زوجها من رواد مسجدي في صلاة التراويح ويصطحب أهله معه، كل ذلك يؤكد صفاء النفوس، ولا ينصرف من المسجد كل ليلةٍ إلا بعد تبادل السلام والسؤال عن الحال؛ للعلاقة الكريمة القديمة بيننا.

قبل خمس سنواتٍ من الآن وكان قد مضى على خِطبتي تلك 23 سنة، وفي ليلةٍ ما، وفي صلاة عشاءٍ، وأنا في محرابي، وبعد إقامة الصلاة التفتُ للناس أقول: "استووا اعتدلوا"، انتبهتُ لرجلين في الصف الأول؛ العم والد الفتاة التي خطبتها قديماً، ومعه ولده بجانبه، والذي نحسبه من أهل القرآن وهو من أترابي. جاء في خاطري قبل أن أشرع في التكبير أنهما مجرد عابري سبيلٍ ليس أكثر، حين فرغتُ من الصلاة والتفتُ إلى المصلين في جلوسي، إذ بالعم يقوم مباشرةً يمشي نحوي يتكئ على عصاه بيده اليُسرى وعلى ولده بيده اليُمنى، يمشي الهوينا برفقٍ وتؤدة وعليه آثار الكِبَر والمرض، لم يُسعفني قرب مكانهما مني وسرعة الحدث لأن أهتدي بالتفكير عن سر مجيئهما،

غير أني قمتُ عَجِلاً لاستقبالهما وكلي ذهولٌ، وصل إليّ وهو يردد: "كيف حالك يا شيخ؟"، وأنا أقول: "الحمد لله، أهلاً بوالدي الغالي"، قبَّلتُ يده ورأسه وتعانقنا، أثناء السلام والسؤال عن الحال أسمعني ما أدمع عينيّ؛ نعم دمعت عينايّ، وما لها لا تدمع وهو يقول لي: "سامحني، قبل أن أموت؛ لا أريد أن ألقى الله وبيني وبين أحدٍ خصومة"، هكذا قال، وأنا على يقينٍ أنه لم يُخطئ في حقي وأن الخلاف الذي حصل لا يصل إلى درجة الخصومة التي تُلقي بحرجٍ على أصحابها يوم القيامة، فكان ردي عليه على وجه الحقيقة: "أبداً ما أخطأتَ في حقي، بل صرفكم الله عني، وأبدلكم خيراً مني"، فيرد عليّ على وجه التواضع: "بل صرفك الله عنا، وأبدلك خيراً منا، نحن لا نستحقك"، واسترسل في الثناء عليّ قاصداً تطييب خاطري، ظن صاحب القلب الطيب أن في نفسي شيئاً عليه، كان الحديث يدور بيننا، والدموع تتقاطر مني ومنه، وربما كان تقاطرها مني أكثر، وكنتُ كلما نظرتُ إلى وجهه ورأيتُ دموعه كررتُ تقبيل يده ورأسه؛ أُهدئ من روعه وأطمئن قلبه وأقول: "والله ما في النفس شيء"، ثم قال لي: "أنا الآن في عمري هذا أزور كل من بيني وبينه خصومةٌ، أبحث عنهم لأطلب منهم السماح؛ أريد أن ألقى الله وما بيني وبين أحدٍ خصومةٌ، سامحني لعلي أموت قريباً"، وأنا أرد عليه: "بل أنت سامحني". كل ذلك كان مؤثراً: أموت قريباً، ألقى الله، أستعد للرحيل، أطلب العفو، المسامحة. وهو في الثمانين يستشعر قرب الرحيل ولقاء الله يتكبد المشاق ليستقين من صفاء قلوب من اختلف معهم يوماً، وما كنتُ أظن أنه بعد كل تلك السنين يذكر اسمي أو يتذكر تلك الخِطبة، ولا كنتُ أظن أن يسأل عن مكاني ويتكلف المجيء لأجلي. وما تركنا بعضاً إلا وكأننا طيورٌ من خفة الروح وسعادتها.

عدتُ إلى بيت والدي بعدها مباشرةً، التقيتُ به وقلتُ له وأنا في سرورٍ بالغٍ: "أبي .. أتدري من صلي معي العشاء الليلة؟"، قال: "من؟"، قلتُ: "العم فلان"، تذكره الوالد تماماً، ثم قلتُ لوالدي: "جاء ليعتذر، وقصصتُ للوالد ما حصل بالتفصيل فما كان منه إلا أن وضع كفيه على وجهه وأُجهش في البكاء، وهذه من المواقف النادرة التي أذكرها لوالدي والتي لم يملك فيها دموعه، رحمه الله.

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ واقعيةٌ عن رجلٍ ورعٍ يتقى الله شعر بدنو أجله؛ فسعى إلى (رد المظالم) وطلب الصفح والمسامحة ليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى خالياً من مظالم لم يردها.

 

وعند الحديث عن (رد المظالم) أتذكر على الفور ما رُوي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ {أي: سهم} يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مُستَنْتِلٌ {أي: مُتقدم} من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح، وقال: [استوِ يا سواد]، فقال: يا رسول الله! أوجعتَنِي، وقد بعثَكَ الله بالحق والعدل فأقدني {أي: مَكِّنِّي من القصاص لنفسي}، فكشفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: [استَقِدْ] {أي: اقْتَصَّ}، فاعتنقه سواد وانكبَّ عليه فقبَّل بطنه الشريفة؛ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [ما حملك على هذا يا سواد؟] قال: يا رسول الله! حضر ما ترى {يقصد الجهاد} فأردتُ أن يكون آخرُ العهد بكَ أن يمسَّ جِلدي جِلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له: [استوِ يا سواد]، فلم يتردَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- في إعطاء سواد رضي الله عنه حقه في القصاص حين طالب به، مع أنه -صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن يقصِد إيذاءه وإيجاعه، ليَضرب بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً رائعاً للعدل والقود من النفس.

 

والمظالم جمع مظلمة، والتي هي كل فعلٍ جائرٍ يقوم به ظالمٌ تجاه طرفٍ آخر يكون هو المظلوم. سواءً كان هذا الفعل باغتصاب مالٍ أو إتلافه أو حبسه أو منع الانتفاع منه، أو تضييع حقٍ أو سلب اعتبارٍ، أو غير ذلك سواءً باشر ذلك أو تسبب فيه بحيث تسبب للمظلوم في خسارةٍ ماديةٍ أو معنويةٍ، ففعله هذا مظلمة، وللمظلوم المطالبة بحقه من الظالم. ويكون معنى (رد المظالم) هو أن على الظالم ردّ المظلمة إلى المظلوم؛ بإرجاع مالٍ مسلوبٍ أو حقٍ مغتصبٍ، أو تقديم تعويضٍ عنه، ورد الاعتبار والمكانة الاجتماعية في المظالم الأدبية، والعمل على إرضاء المظلوم بأي طريقةٍ تؤدي إلى الصفح عنه والتحلل من وزر الظلم.

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه]، كما قال: [من ضَرب بسوطٍ ظلمًا، اقتُصَّ منه يومَ القيامةِ].

 

ولا يكاد يوجد من بيننا واحدٌ إلا وقد ظلم غيره، ظُلماً يسيراً أو كبيراً، فنحن خطأون كما وصفنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: [كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ]، وأول طريق التوبة هو (رد المظالم).

وأوضح العلماء لنا طريقة (رد المظالم) فقالوا: إن المظالم التي تكون بين العبد والعبد إما أن تكون معنويةً؛ كأن تكون بغيبةٍ أو نميمةٍ أو سُخريةٍ ونحو ذلك؛ فالخلاص منها يكون بالتحلل من صاحب المظلمة حال حياته إن علم بها، وأما إن لم يعلم فالأولى أن تتحلله تحللاً عاماً ولا تذكر له اغتيابك إياه لئلا تُغضبه، وعليك بالإكثار من الحسنات لتُكاثِر بها السيئات وتُسدد ببعضها ما عليك من الحق، وينبغي أن تُكثر من الدعاء للمسلمين الذين اغتبتهم والثناء عليهم بما علمته فيهم من الخير. وإما أن تكون المظالم ماديةً وهي المتعلقة بالمال كالغصب أو السرقة منهم مثلاً؛ وهذه لا بد من ردها إليهم أو طلب السماح والعفو منهم، ولا يُشترط إخبارهم بأنها سرقةٌ أو غصبٌ، بل المطلوب هو ردها إليهم بأي وجهٍ أو الاستحلال منهم؛ أي طلب المسامحة، إن كانوا أحياءً بردها إليهم، أو كانوا أمواتاً بردها إلى ورثتهم، فإن لم تستطع ذلك فعليك بالإكثار من الاستغفار والأعمال الصالحة والتصدق عنهم بقدر المظلمة.

 

أحبتي .. أختم بما ختم به راوي القصة؛ قال: أناسٌ من غير إساءةٍ تعتذر وتطلب المسامحة لرقة قلوبها واستشعارها قُرب لقاء الله عزَّ وجلَّ، وأناسٌ تظلم وتُسيء وتؤذي وتجرح ولا تعتذر ولا تتأسف ولا تطلب العفو بل لا تزال تمضي في ظلم العباد؛ قلوبٌ قاسيةٌ وعن حساب الله غافلةٌ. كم نسمع ونردد: "الدنيا ما تسوى شي" ثم تجدنا لأجلها تقاتلنا تقاطعنا تهاجرنا تدابرنا ظلمنا غيرنا واعتدينا. أيها الأحبة؛ اعتذروا وتسامحوا واعفوا، والله إن حساب الدنيا أهون من حساب الآخرة. هيئوا قلوبكم ليوم غدٍ ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

واستحضروا أحبتي معنى هذه الآية الكريمة؛ يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

كم منا يا ترى سوف يُغمض عينيه قليلاً الآن ليُحاسب نفسه ويتذكر من لديهم مظالم لديه، ثم يُبادر فوراً إلى ترتيب مسألة (رد المظالم)؟ يبدو أن العدد سيكون قليلاً، لكني أثق أنك أنت أحدهم بفضل الله ثم بهمتك وعزيمتك .. نعم أنت واحدٌ منهم .. واحدٌ من هؤلاء الذين يسعون إلى التخفيف من أوزارهم بغير كِبرٍ ودون تردد، ويحمدون الله أن أنعم عليهم بأن مكنهم من (رد المظالم) في حياتهم قبل أن يُحاسبوا عليها يوم الحساب.

اللهم طهِّرنا وطهِّر قلوبنا، اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا تجعل لمخلوقٍ مظلمةً عندنا أبداً ما أحيَيْتَنا يا رب العالمين.

https://bit.ly/3qXj5a1

الجمعة، 14 يناير 2022

من لا يَرحم لا يُرحم

 

خاطرة الجمعة /326


الجمعة 14 يناير 2022م

(من لا يَرحم لا يُرحم)

 

دخل رجلٌ إلى أحد فروع هايبر ماركت بريطانيٍ شهيرٍ تنتشر فروعه في ماليزيا، وتناول بعض عُلب العصائر الرخيصة وشيئاً من الفواكه يعادل ثمنها 7 دولارات أمريكية، وحاول الخروج بها خِلسةً من دون أن يدفع الثمن. اقترب منه مدير الفرع، حيث كان يُتابعه على شاشات المراقبة في مكتبه. أُسقط في يديّ الرجل، واعترف فوراً بأن نيته كانت السرقة وعدم الدفع. هدّأ المدير من روعه، وطلب منه معرفة السبب الذي دفعه إلى ذلك، أقسم الرجل -وهو في حالةٍ يُرثى لها من الخوف والارتباك- أنه ترك عمله منذ فترةٍ، لرعاية أطفاله الثلاثة وزوجته التي أنجبت حديثاً، وأصيبت بغيبوبةٍ بعد الولادة. استبقى المدير الرجل في مكتبه، وأرسل أحد أفراد الأمن إلى منزل الرجل -بحسب العنوان الذي قدّمه- للتأكّد من صدق روايته. وفعلاً؛ تأكّدتْ رواية الرجل المسكين، فبادر مدير الفرع -وهو مسلم- إلى منح الرجل السلع التي أراد الحصول عليها مُضافاً إليها أطعمةً ومواد غذائيةٍ وسلعاً أخرى، ومنحه مبلغاً من المال، وعرض عليه وظيفةً في الهايبر ماركت الذي تكفلت الشركة المالكة له بدفع نفقات التحاق الأطفال بالمدرسة، ومعالجة الأم المصابة بالغيبوبة.

القصة هزت ماليزيا خلال أيامٍ قليلةٍ، وتم عرضها مراتٍ عديدةً على شاشات القنوات المحلية وفي الصحف، حتى وصل صداها إلى المقر الرئيسي للشركة في بريطانيا؛ فقامت الشركة بالتبرع بكوبونات شراء تكفي الرجل وعائلته سنةً كاملةً. وتم عرض القصة في بعض القنوات والصحف البريطانية مع الكثير من عبارات الثناء على مدير الفرع الذي أصبح فجأةً مشهوراً في جميع أنحاء ماليزيا وبريطانيا!

لو كان مدير الفرع سلّم الرجل للشرطة، لكان حدثاً عادياً، يحدث كثيراً فلا يكاد يشعر به أحد؛ فكثيرٌ من المحلات تُحبط محاولات سرقةٍ، وتُلزم أصحابها بالدفع أو مقاضاتهم، أما هذا المدير فقد سلك مسلكاً إيجابياً مختلفاً، مسلكاً نبيلاً وإنسانياً، مسلكاً رحيماً وطيباً وغير معتادٍ؛ فكانت النتيجة شلالاً لا يكاد يتوقف من الإيجابية التي حركت عوامل النُبل والرحمة لدى شركاتٍ تجاريةٍ وأشخاصٍ ومؤسسات، وفتح طريقاً للتوبة لذلك الرجل، وبلغت شهرة هذا المدير المسلم الآفاق، وكذلك السوق الذي يعمل فيه، حيث تتابعت أفواج المشترين بزيادةٍ كبيرةٍ جداً، للشراء من هذا السوق الذي يمتلك حِساً إنسانياً عالياً.. فالرحمة قبل العدل، والعطاء يفتح أبواب الرجاء والأمل، ويبعث على صالح العمل.. وثمار الرحمة والنُبل والتسامح أكثر وفرةً من ثمار العدالة نفسها.

 

أحبتي في الله .. صحيح أنه (من لا يَرحم لا يُرحم)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: [مَن لا يَرْحَمِ النَّاسَ، لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ].

لقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأعلى صفات الرحمة وهما الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ يقول تعالى في فاتحة الكتاب: ﴿بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وهما كلمتان بصيغة المبالغة من اسم الفاعل "الراحم"، ويقول على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم يكتفِ الله سبحانه وتعالى بوصف نفسه بكلمة الرحمن فقط وتبعها بالرحيم؟ يُقال إن كلمة الرحمن على وزن فعلان، وكل كلمةٍ في اللغة العربية على هذا الوزن تزول بزوال أسبابها؛ فكلمة جوعان مثلاً يزول الجوع بتناول الطعام، وكلمة تعبان يزول التعب بالراحة، وهكذا كلمة عطشان يزول العطش بشرب الماء، ومثلها: نعسان، زعلان. ... إلخ؛ لذلك يرتعب العربي عندما يقرأ كلمة الرحمن فقط لأنها قد تنتهي بزوال أسبابها، فيضع الله عزَّ وجلَّ كلمة الرحيم بعد كلمة الرحمن ليزرع الطُمأنينة في قلب المؤمنين؛ فتنتقل نفس المؤمن من الخوف والقلق إلى الإحساس بالأمان والطمأنينة والثقة برحمة الله.

وقد جعل سبحانه وتعالى صفة الرحمة لأفضل خَلقه وخير عباده؛ يقول تعالى مُخاطباً النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾، ويصف رسالته للبشرية جمعاء بأنها رحمةٌ لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، ويصفه وأصحابه -رضي الله عنهم- بأنهم رحماء؛ يقول تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾. ويقول واعداً المتواصين بالمرحمة بأنهم أصحاب الميمنة: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾. وتكررت آيات الرحمة في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم حتى بلغ تكرار الكلمات المشتقة من الفعل "رَحِمَ" ٣٣٩ مرة.

 

وفي السُنة المُشرّفة وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه بأنه نبي الرحمة؛ قال: [أنا محمدُ، وأنا أحمدُ، وأنا نبيُّ الرحمةِ ...]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وصف المؤمنين: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارْحَموا أهْلَ الأرضِ يَرْحَمْكم مَن في السَّماءِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَن لا يَرْحَمُ النَّاسَ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزَع الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقيٍّ]. وقال لمن ذكر عنده أن له عشرةً من الولد ما قَبَّل منهم أحداً: [مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ]. وجاء أعرابيٌّ إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تُقبِّلون الصِّبيان فما نُقبِّلهم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [وما أملِكُ لك أنْ نزَع اللهُ الرَّحمةَ مِن قلبِك؟].

يقول المفسرون إن في هذه الأحاديث -وغيرها- الحض على استعمال الرَّحْمَة للخَلق كلهم؛ كافرهم، ومؤمنهم، ولجميع المخلوقات من حيواناتٍ وطيورٍ والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب، ويُكفر به الخطايا. ويقولون إن رحمة العبد للخَلق من أكبر الأسباب التي تُنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عينٍ، وكل ما هو فيه من النِّعم واندفاع النقم، من رحمة الله؛ فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تُنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهُم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباده. والإحسان إلى الخَلق أثرٌ من آثار رحمة العبد بهم. أما من كان بعيداً عن الإحسان بالخَلق، ظلوماً غشوماً شقياً، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبسٌ بظلم عباده؛ إذ أن (من لا يَرحم لا يُرحم).

 

قالوا عن الرَّحْمَة إن "علامة الرَّحْمَة الموجودة في قلب العبد، أن يكون مُحبّاً لوصول الخير لكافة الخَلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته، فمتى ما وُجِدَتْ هذه العلامة في قلب العبد، دلَّت على أنَّ قلبه عامرٌ بالرَّحْمَة، مفعمٌ بالرَّأفة".

 

وقال الشاعر:

إنْ كُنْتَ لا تَرْحَمُ المِسْكينَ إنْ عَدِما

ولا الفَقيرَ إذا يَشْكو لَكَ العَدَما

فَكَيْفَ تَرْجو مِنَ الرَحْمنِ رَحْمَتَه

وإنَّما يَرْحَمُ الرَحْمَنُ مَنْ رَحِما

 

أحبتي .. إن أردنا الكتابة عن الرحمة في الإسلام فلن يتسع المقام لذلك، يكفينا العلم بأن (من لا يَرحم لا يُرحم) حتى نكون رحماء فيما بيننا؛ في أسرنا مع أهلينا، وفي بيوتنا مع جيراننا، وفي أماكن عملنا مع زملائنا ومرؤوسينا. نرحم غيرنا ونتواصى بالمرحمة في كل مكانٍ وكل زمانٍ، ومع جميع المخلوقات من إنسانٍ وحيوانٍ؛ حتى تتنزل علينا رحمة الله وتغشانا فنكون من المرحومين في الدنيا والآخرة.

اللهم ليِّن قلوبنا ووسِّع صدورنا وحبِّب إلينا صفة الرحمة ويسِّر لنا أن نكون من الراحمين، وتقبل منا أعمالنا ورحماتنا، واجزنا عنها رحمةً من لدنك لا نشقى بعدها أبداً.

 

https://bit.ly/33vx5yi

الجمعة، 7 يناير 2022

نعمة القرآن

 

خاطرة الجمعة /325


الجمعة 7 يناير 2022م

(نعمة القرآن)

 

تحت عنوان: "امرأة تركيةٌ .. بكت وأبكتني!!" كتبت سيدةٌ عربيةٌ تقول: كنتُ في الحرم المكي فإذا بمن يطرق على كتفي وتقول بلكنةٍ أعجميةٍ: "حاجة!"، التفتُ فإذا امرأةٌ متوسطة السن غلب على ظني أنها تركيةٌ سلمتْ عليّ؛ فوقعت في قلبي محبتها! سبحان الله الأرواح جنودٌ مجندةٌ، كانت تُريد أن تقول شيئاً وتحاول استجماع كلماتها، أشارت إلى المصحف الذي كنتُ أحمله وقالت بعربيةٍ مكسرةٍ ولكنها مفهومة: "إنتَ تقرأ في قرآن"، قلتُ: "نعم!"، وإذا بالمرأة يحمَّر وجهها وقد اغرورقت عيناها بالدموع، اقتربتُ منها وقد هالني منظرها، بدأتْ في البكاء!! والله إنها لتبكي كأن مصيبةً حلت بها! سألتها: "ما بكِ؟"، قالت بصوتٍ مخنوقٍ حتى حسبتُ أنها ستموت بين يديّ، وكانت تنظر إليّ نظرةً عجيبةً وكأنها خجلانة: "أنا ما أقرأ قرآن!"، قلتُ لها: "لماذا؟"، قالت: "لا أستطيع ...."، ومع انتهاء حرف العين .. انفجرت باكيةً ظللتُ أربتُ على كتفيها وأهدئ من روعها؛ قلتُ لها: "أنت الآن في بيت الله .... إسأليه أن يُعلمكِ .. إسأليه أن يُعينكِ على قراءة القرآن"، كفكفتْ دموعها، وفي مشهدٍ لن أنساه ما حييتُ رفعتْ المرأة يديها تدعو الله قائلةً: "اللهم افتح ذهني .. اللهم افتح ذهني أقرأ قرآن .. اللهم افتح ذهني أقرأ قرآن"، قالت لي: "أنا هموت وما قرأت قرآن"، قلتُ لها: "لا، إن شاء الله سوف تقرأينه كاملاً وتختمينه مراتٍ ومراتٍ قبل أن تموتي". سألتها: "هل تقرأين الفاتحة؟"، قالت: "نعم .. الحمد لله رب العالمين، الفاتحة"، وجلستْ تُعدد قصار السور، كنتُ متعجبةً من عربيتها الجيدة إلى حدٍ بعيدٍ، والسر كما قالت لي أنها تعرفتْ على بعض الفتيات العربيات المقيمات قريباً منها، وعلمتُ أنها بذلتْ محاولاتٍ مُضنيةً لتتعلم قراءة القرآن، ولكن الأمر شاقٌ عليها إلى حدٍ بعيدٍ، قالت لي: "إذا أنا أموت ما قرأت قرآن .. أنا يدخل نار!"، واستطردتْ: "أنا أسمع شريط .. دايماً .. بس لازم في قراءة! هذا كلام الله .... كلام الله العظيم!". لم أتمالك نفسي من البكاء؛ امرأة أعجميةٌ تعيش في بلادٍ علمانيةٍ تخشى أن تلقى الله ولم تقرأ كتابه .. منتهى أملها في الحياة أن تختم القرآن قبل أن تموت .. ضاقت عليها الأرض بما رحبت وضاقت عليها نفسها لأنها لا تستطيع تلاوة كتاب الله!

فما بالنا؟! ما بالنا قد هجرناه؟ ما بالنا قد أُوتيناه فنسيناه؟ ما بالنا والسُبل ميسرةٌ لنا لقراءته وتلاوته وفهمه وحفظه، فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير ولم نعكف عليه؟

لقد كانت دموعها الحارة أبلغ من كل موعظةٍ، ودعاؤها الصادق كالسياط تُذكِّر من أُعطي (نعمة القرآن) فأباها وانشغل عنها .. فسبحان مقلب القلوب ومُصَّرِفها! هذه امرأةٌ أعجميةٌ همها أن تختم القرآن، فما بال هممنا نحن قد سقطت وضعفت وفترت؟ على أي شيءٍ تحترق قلوبنا؟ وما الذي يُثير مدامعنا ويُهيِّج أحزاننا؟

اللهم أبرم لنا أمر رُشدٍ .. وسبحان من ساق إليّ هذه المرأة المسلمة التي ذكرتني ووعظتني .. اللهم افتح ذهنها ويسِّر لها تلاوة كتابك يا رب .. اللهم كما أحبتْ كلامك فأحبها، وارفع درجتها، واكتبها عندك من الذاكرين.

 

أحبتي في الله .. يقول العلماء إن إنزال القرآن يُعَدُّ مِنَّةً عُظمى على هذه الأمة؛ وذلك لصلاح أمر الناس كافَّة؛ أفراداً وجماعاتٍ، رحمةً بهم ولهم؛ لتبليغهم مُراد الله تعالى منهم؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾؛ فالصلاح الفردي يكون بتهذيب النفس وتَزْكِيتها، كما يكون بصلاح الظاهر كالعبادات من صلاةٍ وحجٍ، وغيرهما، ويكون بصلاح الباطن بتطهير النفس من الأخلاق الرذيلة -كالحسد، والحقد، والبُغض والكِبر- والتخلُّق بالأخلاق الحميدة؛ أُسوةً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قالت عنه السيدة عائشة -رضي الله عنها- واصفةً خُلقَه: "كان خُلُقُه القرآن". وصلاح الجماعة إنما يكون بصلاح الفرد؛ لأن إصلاح الكلِّ لا يكون إلا بصلاح أجزائه، وما جاءت الشريعة إلا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. ولا تكون الاستفادة حقَّةً وكاملةً من هذا الكتاب، إلا بدوام الصلة به -عِلماً وعملاً، تلاوةً وتدبُّراً، فهماً وتذكُّراً- قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويتحقق ذلك باتباع المنهجية التي تَعلَّمها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم، وحمَلوها إلى العالمين، فكان القرآن رائدَهم ومرجعهم الذي لا يَحيدون عنه، ولا يهجرون آياته.

 

يقول أهل العلم إن القرآن نعمة الله الكبرى لإنقاذ البشرية؛ فهو أجلَّ وأعظم النعم على الإطلاق، جاء للبشر بالإصلاح، وكرَّم الله تعالى به الإنسان، وجعل سعادته وشقاءه منوطين بعمله وإيمانه، وأن الجزاء على الكُفر والظُلم والفساد في الأرض يكون بعدل الله تعالى. والقرآن معجزةٌ تُخاطب الضمير والوجدان وتستثير الإنسان لتحكيم عقله، والاعتبار بما أبدع الله عزَّ وجلَّ في الكون من آياتٍ بيناتٍ وشواهد واضحاتٍ على وجوده وألوهيته ووحدانيته، وصِدقِ رسوله فيما أخبر به عنه من أحوال المعاد، وما دعا إليه من عبادته والعمل بشريعته التي تُحقق السعادة الأبدية وتكفل للناس ما يصبون إليه من طُمأنينةِ نفسٍ وراحة بالٍ، وأي نعمةٍ أعظم من ذلك؟

 

وشكر (نعمة القرآن) -كما يُبين لنا العلماء- يكون بالتخلق بأخلاقه، وتطبيق ما جاء فيه من طاعاتٍ سواءً تعلق الأمر بالأوامر أم بالنواهي؛ وذلك يعني عرض الناس أنفسهم على القرآن لقياس المسافات التي تفصلهم عن الأخلاق التي ينشدها؛ فالتخلق بأخلاق القرآن الكريم هو أفضل طريقةٍ لشكر هذه النعمة التي لا تُضاهيها نعمةٌ؛ كما جاء في الحديث الشريف: [وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ]. ولهذا كان الاشتغال بكتاب الله عزَّ وجلَّ هو أشرف ما يوجد في الحياة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ]؛ فإن الله إنما يُفاضل بين الناس بقدر تعلمهم لكتابه وتعليمه للغير بطُرقٍ شتى تبدأ بقراءته وحفظه واستظهاره، وفهمه، وتدبره، وتنتهي بتطبيقه. ومن فضائل القرآن كذلك أن من يتمسك به لن يضل أبداً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أبشِروا وأبشِروا أليس تشهَدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ؟] قالوا: نَعم، قال: [فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم؛ فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا]. إن مجرد قراءة كتاب الله عزَّ وجلَّ تُكسب الأجر العظيم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ]. وأكثر من ذلك يرتفع قارئ القرآن إلى درجة الملائكية حين يقرؤه بمهارةٍ، ويُضاعَف الأجر لمن يقرؤه ويجد صعوبةً في قراءته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ؛ فَلَهُ أجْرانِ]. والمشغول بكتاب الله له أجره على الله الذي تكفل بأن يُعطيه أفضل ما يُعطي السائلين؛ جاء في الحديث: [يقولُ الرَّبُّ تباركَ وتعالى: مَن شغلَه القُرآنُ عَن مَسألتي أعطيتُه أفضَلَ ما أُعطي السَّائلِينَ].

وإذا كان هذا هو شأن المتعاطي للقرآن في الحياة الدنيا، وهي دار عملٍ، فشأنه في الآخرة وهي دار جزاءٍ أعظم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم يُدافع عن صاحبه يوم القيامة؛ جاء في الحديث: [يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً] فهذه مكانةٌ لا يُدركها أحدٌ إلا صاحب القرآن.

 

في مقابل ذلك فإن من يُهمل القرآن ولا يهتم به يكون لا قيمة له ولا فائدة منه؛ فقد ورد في الحديث: [إنَّ الَّذِي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ] ومعلومٌ أن البيت الخرب لا فائدة فيه. كما أن غياب القرآن من حياة الناس يكون سبباً في فتنةٍ؛ فقد ورد في الأثر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ]، قالوا: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا -يَا رَسُولَ الله-؟ قالَ: [كِتَابُ الله، فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيعُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الالْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].

وفي وصف القرآن الكريم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا القرآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فتَعَلَّموا مَأْدُبَتَه ما استطعتم، وإنَّ هذا القرآنَ هو حبلُ اللهِ، وهو النورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عِصْمَةُ مَن تَمَسَّك به، ونجاةُ مَن تَبِعَه، لا يَعْوَجُّ فيُقَوَّمُ، ولا يَزِيغُ فيُسْتَعْتَبُ، ولا تَنْقَضِي عجائبُه، ولا يَخْلَقُ عن كَثْرَةِ الرَّدِّ].

 

وعن (نعمة القرآن) قال الشاعر:

إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ

فليسَ لما أوليتَ من نِعمٍ حَدُّ

لكَ الأمرُ من قَبلِ الزمانِ وبَعدَهِ

ومالكَ قَبلٌ كالزمانِ ولا بَعدُ

لكَ الحَمدُ ربيِّ عنْ كِتابٍ ومِلَّةٍ

بها يَهتدي إنْ زاغَ عنْ نَهجهِ العَبْدُ

 

أحبتي .. هذا هو القرآن الكريم، كلام الله العظيم، ودستور كل مسلمٍ، فلنعرض أنفسنا عليه، ولينظر كلٌ منا إلى منزلة القرآن في قلبه، وكم من الوقت يُعطيه لكلام الله يومياً؟ وكم يحفظ من سوره؟ وإلى أي مدىً يصل فهمه وتدبره لآيات القرآن؟ وهل هو ملتزمٌ بما في كلام الله من أحكامٍ؟ هل يُحل حلاله ويُحَّرِم حرامه؟ هذه الأسئلة وغيرها تفيدنا في تقويم علاقتنا بكتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن ثمَّ تصويب وتصحيح مسارنا حتى لا نكون مقصرين في شكر الله سبحانه وتعالى على (نعمة القرآن)، وحتى يكون القرآن شاهداً لنا لا علينا، ويكون شفيعاً لنا؛ قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ]، وحتى نكون من أهل الله؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ].

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً. اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله لنا حُجةً يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3f5mYTa

الجمعة، 31 ديسمبر 2021

غض البصر

 

خاطرة الجمعة /324


الجمعة 31 ديسمبر 2021م

(غض البصر)

 

يقول الراوي: حدثنا ثقةٌ من إخواننا فقال: تردد عليَّ شابٌ صغيرٌ كان يأتي الدرس مرةً ثم يغيب مراتٍ، لم أرَ مثله في مهارة التعرف على الناس، خاصةً على الفتيات؛ إذ كان شاباً رياضياً وسيماً يبحث عن فتاةٍ جميلةٍ ليتزوجها. زارني بعد انقطاعٍ لفترةٍ شاكياً أحواله؛ فنصحته بالزواج السريع، خصوصاً أنه ميسور الحال، فقال -لكثرة ما طافت عيناه- بأنه لم يجد بعد الفتاة التي يُعجبه جمالها، فأوصيته بتقوى الله وأن يختار ذات الدين، وأن يُبادر إلى الحلال، فاستمع إليّ ثم مضى.

بعد فترةٍ أخبرني بأنه وجد مبتغاه، وقد خطب وتزوج، فحمدتُ الله، ودعوتُ له: "بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"، ثم قلتُ له: "إن من رحمة الله بك أن يَسّر لك الأمر، ولم يخرج بك الشيطان إلى مصيبةٍ لا تنجو منها، فاستغفِر الله مما مضى، وعاهِد الله على الاستقامة فيما بقي". مضت مدةٌ ثم اتصل بي وأخبرني على الهاتف أن بينه وبين زوجته خلافات؛ فهو يريدها أن تستتر قليلاً! وهي تقول: "أنا أبقى مثلما أخذتني"، واستيقظت فيه بقية غيرةٍ فأصرّ، وأصرّتْ، وتلاحيا، ثم تذكر أن له شيخاً قديماً، فطلب منها أن يكون هو الحكم، وقبلت هي بفطرتها، فاتصل بي وأخبرني بأنه قد عجز عن إقناعها، ويجب أن أعتبره مثل ابني وزوجته مثل بنتي، فهل أرضى أن يبقى حالهما هكذا؟ وافقتُ وضربتُ لهم موعداً، وأتيا، فلما دخلت مع زوجها، استغفرتُ الله ونظرتُ إلى الأرض، لم تكن امرأةً جميلةً فحسب، بل لو جُمع نصف جمال نساء أهل الأرض ثم أُلقي على امرأةٍ واحدةٍ لكانت هي تلك المرأة، وصرتُ أستغفر الله في سري، وأقول يا رب: "ما الذي أدخلني في هذا الأمر؟ بنتٌ من بنات المسلمين، هبها سترك ورضاك"، وجلستُ وأنا غير مرتاحٍ، وتكلم زوجها، وتكلمت هي وأنا أنظر إلى غير الجهة التي جلست بها، وكانت تسأل أسئلةً توحي بأنها لم تسمع أن هناك في أحكام المسلمين حلالاً أو حراماً! صرتُ أستعين بالله، وأجتهد بإخلاص النية ما استطعتُ، وأرجو الله أن يدفع عنها وعن زوجها الأذى، ويرزقهما حُسن الرجعة إليه، وصرتُ أدعو بأن تنتهي أسئلتهما في أقصر وقت، وأجبتهما بما أعرف، ومزجتُ الفتوى مع التقوى، والحكم مع الموعظة، وشرحتُ لهما ما ظننته يُقربهما إلى الطاعة، ثم انصرفا فتنفستُ الصعداء، وحدّثتُ نفسي ألا أدخل في مثل هذا ثانية.

مرت مدةٌ من الزمن وكنتُ واقفاً يوماً عند الصندوق بعدما اشتريتُ أغراضاً من أحد المحلات، فإذا بشخصٍ يتناول شيئاً من فوق أحد الرفوف يكاد يصدمني فابتعدتُ عنه، ونظرتُ إليه؛ فإذا بها تلك الأخت التي زارتني قبل مدةٍ مع زوجها، فدُهشتُ أنا وفوجئت هي، واحترتُ لثوانٍ فيما أصنع، وخشيتُ إن تجاهلتها أن تُسيء الظن بكل أهل الدين، وإن كلمتها أن أفتح باباً يفرح الشيطان به، وظننتُ أن الناس كلهم ينظرون إليَّ وإليها، أنا بلحيتي ولباسي، وهي بسفورها وتبذلها، ثم اتخذتُ قراراً وأطرقتُ إلى الأرض قائلاً: "السلام عليكِ يا أختي، كيف أحوالكم؟ أرجو أن تكونوا بخير، وسلمي على زوجك، السلام عليكم"، وانصرفتُ، وفم صاحب الصندوق مفتوحٌ من الدهشة، وخرجتُ وأنا أحس بألمٍ شديدٍ لحالها، وأدعو على من يجعل بنات المسلمين هكذا نهباً لكل عين، وترقرقت دمعةٌ على خدي شفقةً عليها وحيرةً مما يلزم لإصلاح مثل تلك الأحوال.

في اليوم التالي اتصل بي زوجها بالهاتف وقال بدهشةٍ واستغرابٍ شديدين: "ما الذي قلته لزوجتي البارحة؟"، سقط قلبي من الحيرة والاندهاش؛ أستغفر الله أن أكون قد قلتُ ما لا ينبغي قوله! لعلها ماكرةً أو ساذجةً أو توهمت شيئاً لم أقله، مرت ثوانٍ كأنها دهرٌ ريثما أردف زوجها قائلاً: "هل تعلم أنها لم تنم البارحة، وبقيت تبكي طوال الليل بسببك!"، فاستعذتُ بالله، وخفتُ حقيقةً، وقبل أن أتكلم تابع حديثه: "لقد قالت لي زوجتي: عندما وضع أستاذك بصره في الأرض وكلمني، شعرتُ لأول مرةٍ في حياتي أنني أعصي الله، ولا أدري كيف عدتُ إلى البيت وكأنني لستُ تلك الفتاة الفاتنة التي تُسَر كلما تسمرت الأبصار تنظر إلى فتنتها الخارقة وجمالها الأخاذ، وفي البيت أحسستُ بكل الغفلة التي كنتُ فيها، ومن دون أن أدري صرتُ أبكي بحرقةٍ وكلي حياءٌ من الله على ما مضى". قال الأستاذ: "كاد يتوقف قلبي من الفرح بعدما كاد يتوقف من الخوف، وصرتُ أتمتم: الحمد لله .. الحمد لله، ثم لم أعد أستطيع الكلام فأغلقتُ الهاتف، وبدأتُ أنا أبكي ثم علا مني النشيج".

قال الأستاذ: "مرت على تلك الحادثة حوالي ثلاث عشرة سنة، ولم أرَ تلك الأخت من يومها، وقد أخبرني زوجها أنها مع الأيام التزمت بشرع الله، وحافظت على ما أمر الله به من اللباس والعبادة، فضلاً عما أكرمها الله به من خُلُقٍ نادرٍ وكريم. لا أدري إن أصبتُ أو أخطأتُ في اجتهادي، لكنني أشعر بنعمة الله عليّ كلما تذكرتُ تلك الحادثة، ومن أعماق قلبي أسأل الله لكل أخٍ وأختٍ تمام الهداية والرحمة والثبات.

 

أحبتي في الله .. إنه (غض البصر) الذي كان سبباً في هداية تلك المرأة وعودتها إلى الصراط المستقيم. وهو (غض البصر) الذي كان سبباً في إسلام فتاةٍ أمريكيةٍ من شابٍ مسلم؛ فهذه قصةٌ من واقع الحياة حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية لشابٍ مغربيٍ فقيرٍ كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ذات يومٍ كان يصعد في المصعد إلى طابقٍ في إحدى ناطحات السحاب مع مجموعةٍ من الناس، في طابقٍ معينٍ نزل كل الأشخاص فبقي الشاب وحيداً إلى جانب فتاةٍ أمريكيةٍ جميلةٍ جداً تلبس لباساً متبرجاً كباقي النساء هناك، لما وجدت نفسها أنها بقيت لوحدها مع الشاب شعرت بالخوف منه، لكنها لاحظت أن الشاب لا ينظر اليها أبداً؛ فخشيت أن يؤذيها هذا الشاب أو يفعل بها ما هو منتشرٌ ببلدها من حالات اغتصابٍ، وأخذ الفكر يشغلها والخوف يتملكها؛ فظلت تراقب هذا الشاب، فنظرت إليه فوجدته ينظر إلى الأرض، ولم ينظر أو يلتفت إليها؛ فتعجبت الفتاة، واستمرت تراقبه وهو على نفس الحالة، إلى أن وقف المصعد وخرج الشاب وهو على نفس حالته، لم يرجف لها جفنه، فإذا بها تلاحقه وتسأله وهو ما زال ينظر إلى الأرض: "هل لي بسؤال؟"، فقال: "تفضلي"، قالت: "ألستُ جميلةً؟"، قال: "لا أدري؛ فلم أنظر إليكِ"، قالت: "نعم، وهذا سبب سؤالي، لماذا لا تنظر إليّ؟"، فأجابها: "هذه تعاليم ديننا وآدابه"، قالت: "أدينك يمنعك من النظر إلى المرأة؟"، قال: "نعم؛ يمنع النظر إلى المرأة الأجنبية، أي الغريبة عنا، حفظاً لنا وعفافاً للمرأة"، قالت: "أي دينٍ هذا؟"، قال: "إنه الإسلام"، فتعجبت، وسألته: "أتتزوجني؟"، قال لها: "أنا مسلمٌ، ما دينك أنت؟"، قالت: "لستُ مسلمة"، قال: "لا يجوز"، فقالت: "هل لو دخلتُ دينك هذا تتزوجني؟"، قال: "نعم"، فقالت: "ماذا أفعل لأكون مسلمة؟"، شرح لها ما يجب عليها أن تفعله لتكون مسلمةً، ولما أسلمت تزوجها، وكانت هذه الفتاة ثريةً فأخذت كل أموالها وذهبت مع الشاب إلى بلده، فلم يعد يُعاني من الفقر؛ بسبب أنه اتقى الله وغض بصره.

 

أحبتي في الله .. أمر الله الرجال بغض البصر؛ يقول تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، والنساء كذلك مأموراتٌ بغض البصر؛ يقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...﴾. ويُلاحظ المفسرون لهاتين الآيتين أن الله تعالى قد جعل الأمر بغض البصر مُقدماً على حفظ الفرج، لأن كل الحوادث مبدؤها من النظر؛ قال الشاعر:

كلُّ الحوادثِ مَبداها منَ النَّظرِ

ومُعظَمُ النَّارِ من مُستصغرِ الشَّررِ

كَمْ نظرةٍ فعلتْ في قلبِ صاحبِها

فِعْلَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وتَرِ

 

و(غض البصر) سبيلٌ إلى الجنة؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ]. وهو من آداب الطريق، وأحد حقوقها؛ قال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه رضي الله عنهم: [إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ علَى الطُّرُقَاتِ]، فَقالوا: ما لَنَا بُدٌّ، إنَّما هي مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قالَ: [فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا]، قالوا: وَما حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قالَ: [غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ].

 

ويقول العلماء إن (غض البصر) المقصود منه أن يُغمض المسلم بصره عما حُرّم عليه، ولا ينظر إلا لما هو مباحٌ له النظر إليه، فإذا سار الإنسان في طريقٍ أو كان في مكانٍ به آخرون فوقع بصره على ما حرّم الله تعالى بغير قصدٍ منه، وهذا يُسمى «نظر الفجأة»، عليه أن يصرف بصره سريعاً ولا يتمادى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [... لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرَةَ، فإنَّ لَكَ الأولى، ولَيسَتْ لَكَ الآخرَةُ]؛ ذلك أن النظر من أهم المنافذ إلى القلب، فإذا كان إطلاقه بغير قيدٍ ولا ضابطٍ حرّك الهوى في قلب صاحبه، وجعله يقع في شَرَك الفواحش والفتن.

وذكر العلماء من فوائد (غض البصر) أن الجزاء من جنس العمل، فمَن غضَّ بصره عما حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليه، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خيرٌ منه، فكلما أمسك نور بصره عن المحرَّمات، كلما أطلق اللهُ نورَ بصيرته وقلبه، فرأى به ما لا يراه من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلهِ عزَّ وجلَّ إِلاَّ بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]. ورُوي أنه: "مَن غضَّ بصره عن محارم الله، عوَّضه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه"، وقال بعضهم: "من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته"، وقيل: "مَن غضَّ بصره، أنار الله بصيرته".

وعن (غض البصر) قال الشاعر:

يا رامياً بِسِهامِ اللَحْظِ مُجْتَهِداً

أنْتَ القَتيلُ بِما تَرْمي فَلا تُصبِ

وقال آخر:

وأغُضُ طَرْفي إنْ بَدَتْ لي جارَتي

حَتى يُواري جارَتي مَأواها

 

إن (غض البصر) فتنةٌ متجددةٌ، تزداد خدتها بمرور الأيام؛ إذ كانت تقتصر فيما مضى على مجاهدة النفس حتى لا تنظر النظر المحرم في الشوارع والمحلات وأماكن تجمع الناس خارج بيوتنا، أما اليوم فقد صارت مجاهدة النفس أصعب -لكنها أكثر ثواباً بإذن الله- إذ أصبح التلفاز ينقل إلينا داخل بيوتنا صور الأجانب والأجنبيات وكل من هو غريبٌ علينا، محرمٌ علينا النظر إليه. وزاد الطين بلة -وزاد في الأجر والثواب بإذن الله- انتشار الأطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية الفضائية التي تُبث من جميع أنحاء العالم، بما فيها من قنواتٍ إباحية، وحتى الكثير من القنوات غير الإباحية لا التزام فيها بحشمةٍ ولا بوقار، بل إن معظمها تتسابق على أن تكون القناة الأكثر عُرياً والأشد إثارةً بهدف جذب أكبر عددٍ ممكنٍ من المشاهدين لها، لأغراضٍ معظمها تجاري. ثم، ومع الانتشار الواسع لشبكة الإنترنت وسهولة الدخول على أي موقع في العالم على مدار اليوم كله ومشاهدة الصور والڤيديوهات والأفلام، وتبادلها، ونشرها، وانتقال هذه التقنيات من أجهزة الحاسوب الثابتة إلى الهواتف النقالة، صارت فتنة (غض البصر) أكثر صعوبةً، وأعلى أجراً وثواباً بإذن الله. وأخطر ما في هذا الأمر هو تكراره حتى تصبح مُشاهدة المحرمات أمراً اعتيادياً مألوفاً لا ينجُ منه إلا من رحم ربي؛ قال أحد الصالحين: "أصعب الحرام أوله، ثم يسهل، ثم يُستساغ، ثم يؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يبحث القلب عن حرامٍ آخر".

 

أحبتي .. أعجبني قول أحدهم: "إن أقوى معركةٍ في حياتك هي الثبات على الدين في زمن المتغيرات"؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾؛ فلندعو الله أن يُثَبِّتنا على ديننا، ويُعيننا على أنفسنا، ويهدينا سُبلنا، ويشغلنا بطاعته عن معصيته؛ قال بعض الصالحين: "إذا دعتك نفسك إلى المعصية فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية ﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾". اللهم حصِّن فروجنا، وطهِّر قلوبنا، وارزقنا (غض البصر) والبُعد عن الحرام. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير.

 

https://bit.ly/3Jy1FYq

الجمعة، 24 ديسمبر 2021

رؤية خير الخلق أجمعين

 

خاطرة الجمعة /323


الجمعة 24 ديسمبر 2021م

(رؤية خير الخلق أجمعين)

 

قصةٌ واقعيةٌ وعجيبةٌ حدثت في بلاد القوقاز الإسلامية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحكم الشيوعي. بعد انهيار الماركسية مباشرةً أراد الأستاذ/ عاصم -وهو أحد الاتراك الدعاة إلى الله تعالى- السفر إلى تلك الديار الإسلامية للدعوة إلى الإسلام ببناء مدرسةٍ لتعليم القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية التي دمرها وأزالها الشيوعيون الملاحدة أثناء حكمهم لبلاد المسلمين القوقاز. وصل الأستاذ/ عاصم إلى بلاد القوقاز في ذروة أيام الشتاء القارس؛ الثلوج متساقطةٌ بغزارةٍ والبرد شديدٌ لا يكاد يُطاق. سكن في فندقٍ متواضعٍ، أطل من شرفة الفندق يتأمل ملامح هذه البلاد التي كانت يوماً ما عامرةً بعزة الإسلام وأهله، فرأى تماثيل لينين وبقية رموز الماركسية مزروعةً في كل مكانٍ تؤكد على اكتساح العقيدة الشيوعية الإلحادية لهوية وثقافة هذا الشعب المسلم المقهور في بلده الإسلامي العظيم. كان هذا الشاب التركي المسلم داعيةً مُمتلأً بشعلةٍ إيمانيةٍ، ونشاطٍ كبيرٍ وثقةٍ بالله بتغيير هذا الواقع الذي صار إليه هذا الشعب والبلد المسلم. كان ذهنه منشغلاً بالتفكير في كيف السبيل لبناء مدرسةٍ إسلاميةٍ هنا كمنطلقٍ لعودة الهوية والروح الإسلامية لهذا البلد. عزم على القيام بأول مهمة عملٍ له وهي زيارة رئيس البلاد!

سأل عن القصر الجمهوري وانطلق إليه، وعند وصوله رفض الجنود والحراس أن يُدخلوه المبنى، لم ييأس وبعد محاولاتٍ وإصرارٍ شاء الله تعالى أن يسمحوا له بمقابلة الرئيس مباشرةً. استقبله الرئيس استقبالاً حسناً ورحب به؛ فانبسطت أسارير الأستاذ/ عاصم وحل الأمل والسرور في قلبه. قال للرئيس: "سيدي الرئيس، جئتكم بتحية إخوانكم في هضبة الأناضول"، ثم قدّم الهدايا لفخامة الرئيس، ومن ضمن هذه الهدايا كان القرآن الكريم، أعظم هدية. عندما رأى الرئيس المصحف ترقرقت الدموع في عينيه، وتناول المصحف بأدبٍ وشوقٍ وراح يُقّبله ثم ضمه إلى صدره وقال: "أتيتنا بروحنا يا أخي، أعدتَ إلينا سراجنا الذي فقدناه منذ عقود؛ أذكر يا أخي وأنا طفلٌ صغيرٌ كيف أن جدتي كانت تقرأ القرآن خفيةً. لا أعرف كيف أشكرك. ما الذي أتى بك إلى هذه الديار النائية؟"، قال عاصم: "سيدي، أتيتُ لأقيم مدرسةً لتعليم القرآن الكريم والعلوم الإسلامية"، سأله الرئيس: "هل أتيتَ وحدك؟!"، أجاب عاصم: "نعم، سأبدأ بالعمل وحدي وسيلحق بي آخرون من الأناضول وبقية دول العالم الإسلامي فيما بعد. سيدي لقد افترقنا عن بعضنا سبعين عاماً، والحمد لله انتهى الفراق وولت أيام الغُربة، حان وقت إقامة الجسور ومدها من جديد، وسوف يتسلح إخواننا بالعلم والفضيلة والإيمان بإذن الله تعالى"، قال الرئيس وقد بلغ منه التأثر مبلغاً: "ما أجمل حديثك يا أخي، أتيتَ وحدك من أجلنا وبدون مقابل! لك كل ما تُريد؛ افعل ما شئتَ وأينما شئتَ"، رد الاستاذ عاصم ممتناً: "شكراً يا سيدي، وجزاك الله خيراً".

شرع الأستاذ/ عاصم بالعمل لإقامة المدرسة في البناية التي خصصها له الرئيس. راح يعمل بكل ما في وسعه من جهدٍ وطاقةٍ يُسابق الزمن. بعد شهرٍ كاملٍ من أعمال التجهيز تم بعون الله تسجيل خمسين طالباً في المدرسة، وبدأ التدريس بمباركةٍ ورعايةٍ من الرئيس.

في أحد الأيام دعاه تلميذه إسماعيل -أحد طلابه المتميزين- لزيارة أهله في قريته البعيدة؛ لم يستطع الأستاذ/ عاصم أن يرفض الدعوة ولكنه كان متخوفاً من شدة البرد. الأستاذ: "كيف سنذهب؟!"، إسماعيل: "على عربة الجليد يا أستاذي". كان الثلج والجليد يغمران كل مكان، والضباب يُغطي قمم الجبال، شعر الأستاذ بالخوف والقلق، فالبرد الشديد يكاد أن يُجمد يديه وقدميه، ولكنه عزم على التوكل على الله وتلبية دعوة تلميذه النجيب إسماعيل. الأستاذ: "كم يستغرق الطريق إلى القرية؟"، إسماعيل: "ساعتان"، قال الأستاذ: "ساعتان يا إسماعيل! أنت تقطع كل هذه المسافة يومياً ذهاباً وإياباً لتأتي إلى المدرسة يا إسماعيل؟!"، إسماعيل: "نعم؛ إنها رغبتي ورغبة أهلي يا أستاذي".

ذهب الأستاذ برفقة تلميذه، وعندما وصلوا للدار كان الأستاذ يتألم من خدرٍ في رجليه ويديه من شدة البرد، ولكنه تحامل على نفسه ولم يُظهر أي ألمٍ حتى لا يُحرج مضيفيه وتلميذه. استقبلهم أهل الدار بحفاوةٍ وترحيبٍ بالغين. جلست جدةٌ كبيرةٌ في السن قبالة الأستاذ/ عاصم. الجدة لعاصم: "من أين أنت يا بُني؟"، الأستاذ: "من بلاد الأناضول يا أماه". إسماعيل: "جدتي، إنه معلمي الأستاذ/ عاصم الذي حدثتك عنه". قرّبت العجوز المصباح لترى جيداً وجه هذا القادم من بعيد. تأملت الجدة وجهه، وفجأةً تجمدت في مكانها دون حراك، وارتجفت يداها. إسماعيل: "جدتي ما بك؟ هل أنت بخير؟". أمعنت الجدة النظر في وجه الأستاذ مرةً ثانيةً! امتلأت عيناها بالدموع! وتمتمت بتأثرٍ عميقٍ: "أنا أعرف هذا الوجه"، انتفض الأستاذ باستغراب! الجدة: "نعم أعرفه، إنه هو، إنه هو، إنه هو!". أرخى الصمت سدوله على أطراف البيت لحظات! ثم تحدثت العجوز بتأثرٍ تسترجع الذكريات؛ تُخبرهم بمعاناتهم أيام الحكم الشيوعي الخبيث؛ أول بدايةٍ للشيوعيين أنهم قاموا بقتلٍ وإبادةٍ جماعيةٍ لعددٍ كبيرٍ من المسلمين، ثم أخرجوا البقية -من النساء والشيوخ والأطفال ومَن ظَل على قيد الحياة- من قُراهم ووضعوهم في عربات القطار كالحيوانات، نساءً ورجالاً وأطفالاً، كان البرد قارساً، والثلج يتساقط بشدة. تقول الجدة وهي تذرف الدموع: "مات أهلي وأعمامي وجدتي، ومات الكثير من الأطفال، ومات كثيرٌ من الناس أثناء التهجير والنفي. عشنا في المنفى عيشةً صعبةً وحياةً قاسيةً، وعندما كبرتُ هربتُ من المنفى حتى وصلتُ بصعوبةٍ إلى قريتنا هذه فوجدتها خراباً، وصلتُ إلى بيتي وكنتُ مرهقةً جداً، وعندها استغرقتُ -من شدة الإرهاق والتعب- في النوم العميق، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أتاني في المنام. لا أعرف كيف أصف لكم جماله، لم أشبع من النظر إلى وجهه المضيء الكريم، مسح رأسي بيده الشريفة قائلاً: [لا تقلقي يا ابنتي، سينتهي هذا الظلم يوماً]، فقلتُ بألمٍ: "متى يا رسول الله؟ ولماذا لم يأتِ أشقاؤنا المسلمون لمساعدتنا حتى الآن؟"، قال: [إنهم في وضعٍ أسوأ منكم، ومن الصعب عليهم أن يأتوا، ولكن سوف يأتي أحفادهم يوماً ما]، وفجأةً ظهر شابٌ إلى جانبه -صلى الله عليه وسلم- طويل القامة جميل الوجه يُشع النور من جميع أطرافه، فأشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليه قائلاً: [هذا هو أول من يأتي لمساعدتكم، لكنه سيأتي من بلادٍ حارةٍ فلا يستطيع تحمل برد دياركم؛ فأسرعي بنسج جوربين وقفازين، وقدميها إليه هديةً عندما يأتي]. ثم قالت الجدة العجوز: "لم أنسَ ذلك الوجه أبداً منذ خمسين سنة. كيف أنسى هذا الوجه؟"، وأشارت إلى الأستاذ/ عاصم. لم يتمالك الأستاذ نفسه، وانهمرت دموعه بغزارة. هرولت العجوز إلى الغرفة المجاورة وأحضرت الجوربين والقفازين، وقالت للأستاذ: "هيا البسها الآن يا بُني، إنها هديتك، ستحميك إن شاء الله من البرد، مثلما قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- هذه هديتك من رسول الله التي انتظرتك طويلاً، لقد انتظرت قدومك خمسين عاماً يا ولدي". أخذ الأستاذ/ عاصم هديته ولبسها وقد غمرته السعادة والبِشر، وازدادت سعادته ويقينه عندما رأى أنها على مقياس قدميه ويديه تماماً! امتلأ قلبه بالسعادة والإيمان والثقة واليقين بنجاح مهمته وتحقق هدفه؛ فما عاد يشعر بالبرد ولا بالتعب ولا بالغُربة، أحس بدفء الرسالة السامية وشرف وعظم الأمانة التي يؤديها، واستشعر الرضى النبوي الكريم والعناية والرعاية والمعية الإلهية.

 

أحبتي في الله .. سبحان الله؛ مرّت خمسون عاماً على (رؤية خير الخلق أجمعين) وكانت الجدة لا تزال تتذكر تفاصيل تلك الرؤية بحذافيرها كما لو كانت قد رأتها بالأمس! وسبحان الله على شدة يقين هذه السيدة التي استجابت لطلب سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي موقنةٌ تمام اليقين أن ما أخبرها به النبي سيتحقق.. لم تكن تعرف متى، لكن لم يساورها شكٌ ولا للحظةٍ في أن ما أُخبرت به سيقع لا محالة.. وإذا بها -بعد مرور كل ذلك الزمن- ترى الرؤيا -وقد تحققت- كفلق الصبح، مشرقةً بكل تفاصيلها!

 

يقول أهل العلم إن (رؤية خير الخلق أجمعين) صلى الله عليه وسلم في المنام جائزةٌ شرعاً وعقلاً، واقعةٌ فعلاً، وما مِن شكٍ أن رؤيته صلوات الله وسلامه عليه فرحةٌ لا تُضاهيها فرحةٌ، وأمنيةٌ غاليةٌ لا تُدانيها أمنيةٌ، فالمسلم المُحب للنبي صلى الله عليه وسلم مستعدٌ لأن يبذل أهله وماله مقابل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مِنْ أشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا، ناسٌ يَكونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أحَدُهُمْ لو رَآنِي بأَهْلِهِ ومالِهِ]. ولا شك أن (رؤية خير الخلق أجمعين) صلى الله عليه وسلم في المنام على صورته المعروفة في السُنة والسيرة النبوية دليل خيرٍ وبُشرى لصاحبها، ومع ذلك لا يجوز بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي مُبشراتٌ تبعث الأمل، ويُفْرَح ويُتفاءل بها، ولا يُبنى حُكْم عليها.

 

وقد وردت أحاديث كثيرةٌ في باب (رؤية خير الخلق أجمعين) النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، منها:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن رَآنِي فقَدْ رَأَى الحَقَّ]. [فقَدْ رَأَى الحَقَّ] أي الرؤيا الصحيحة الثابتة لا أضغاث أحلام ولا خيالات. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ، ولا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطانُ بي]. وفي روايةٍ: [مَن رَآنِي في المَنامِ فَسَيَرانِي في اليَقَظَةِ، أوْ لَكَأنَّما رَآنِي في اليَقَظَةِ، لا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطانُ بي]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [من رآني في المنامِ ، فأنا الذي رآني ، فإنَّ الشيطانَ لا يتخيَّلُ بي]، وقوله صلى الله عليه وسلم [لا يتخيَّلُ بي] أي: لا يأتي بصورتي التي يعرفها الناس، لا يمنع أن يأتي الشيطان ويقذف في قلب الرائي أنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بصورةٍ تخالف الصورة الصحيحة التي يُعرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث لا يمنع حدوث مثل هذا، فبعض أصحاب البدع والأهواء يذكرون أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأشياء تخالف ما ورد في الكتاب والسُنة، ولا تفسير لذلك ـ إن صدقوا في دعواهم ـ إلا أن الذي رأوه هو الشيطان، وأنه لم يأتِ بالهيئة الصحيحة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من سيرته وشمائله.

 

وعلى المسلم قبل أن يدَّعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أهل العلم والدين ـ الذين يُعرف عنهم الصلاح والتقوى ـ ليخبروه إنْ كان ما رأى حقاً أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا ادعى إنسانٌ أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نومه، وأنه أمره بأمرٍ، وهذا الأمر يُخالف الكتاب والسنة فإنه لا يُعمل به، وهو دليلٌ على أن من رآه ليس النبي صلى الله عليه وسلم. ومع كون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من المُبشرات للمسلم الذي رآها إلا أنها ليست وحياً بالاتفاق، ولكنها بُشرى.

 

أما الأسباب التي تُساعد المسلم على (رؤية خير الخلق أجمعين) النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهي متوقفةٌ ـ بعد فضل الله تعالى ـ على طاعة الله سبحانه، وحُب النبي صلى الله عليه وسلم، والشوق لرؤيته، واتباع سنته، وكلما كان الإنسان أتقى لله عزَّ وجلَّ، وأكثر اتباعاً لسُنة النبي الله صلى الله عليه وسلم كان توقع رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر احتمالاً من غيره، ولا يلزم من عدم الرؤية له عدم صلاح الشخص، ولا يلزم أيضاً من شدة التقوى والمتابعة رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأمر في النهاية توفيقٌ من الله تعالى، وفضلٌ من الله يؤتيه من يشاء.

 

أحبتي .. ليكثر كلٌ منا في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولنتبع سُنته الشريفة، ونحيي منها ما غفل عنه بعض المسلمين، وليكن حُبنا له - صلى الله عليه وسلم- أكبر من حُبنا لأنفسنا ولوالدينا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، وأن نتحلى بالصدق والصلاح، حينئذٍ ندعو الله مخلصين أن يرزقنا (رؤية خير الخلق أجمعين) في المنام عسى أن يستجيب الله دعاءنا ونرى نبينا -عليه الصلاة والسلام- فنكون من الفائزين بشفاعته يوم الحساب، المبشَرين بصحبته في الفردوس الأعلى من الجنة.

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع ﴿الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

 

https://bit.ly/3mvdYex

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

الصراط المستقيم

 

خاطرة الجمعة /322


الجمعة 17 ديسمبر 2021م

(الصراط المستقيم)

 

أحد الأشخاص الأثرياء وهو صاحب مجموعة محلاتٍ مشهورةٍ يقول: اشتغل عندي بائعٌ شابٌ من حوالي عشر سنواتٍ في فرعٍ من فروع محلاتي؛ كان عندي فرعان في نفس البناء، فرع أحذيةٍ مع شركائي، وفرع ملابس لي وحدي، شركائي كانوا يرجونني أن آخذ هذا الموظف من عندهم وأعيّنه في المحل عندي ليرتاحوا منه، لا هُم يريدون أن يقطعوا رزقه، ولا هُم يرون منه أية فائدةٍ تُرجى! كان هذا الموظف هادئاً، قليل الحيلة، ضعيف المواهب، لكنه مستقيمٌ جداً، ملتزمٌ، شديد الطيبة، وجم الأدب. أخذته من عندهم ووظفته في الفرع الذي أنا فيه، وجعلته مديراً للفرع. بعد مدةٍ أخطأ خطأً بسيطاً وتافهاً جداً، لكني كنتُ في مرحلة الطغيان، والاعتداد بالرأي، والانفراد بالقرار، والغباء الإداري، فصممتُ أن أطرده! لم يبقَ إنسانٌ إلا وتوسط لديّ من أجله، كلهم تشفّعوا له، ولكن دون جدوى! فصلته من العمل بحجة أنه قليل الحيلة وضعيف المواهب وصفرٌ في الإمكانيات الإدارية، هكذا كنت أراه. هذا الكلام كان تقريباً منذ حوالي ثماني سنوات.

بعد ثلاث سنواتٍ من طردي له، عرفتُ أنه قد أصبح عنده ستة محلات ملابس، واشترى سيارةً، وأصبح من المشاهير في مجال هذا العمل، واسمه صار كالذهب الناصع، يثق به كل الناس! فقلتُ في نفسي: "سبحان الله، الآن فقط فهمتُ لماذا فصلته من العمل! لم يكن هناك سببٌ عظيمٌ كي أصرّ على طرده، لم يفعل هذا الشاب شيئاً يستحق فصله، كنت أستغرب دائماً من إصراري على أن يترك العمل عندي، بالرغم من أن هناك موظفين لديّ فعلوا أفعالاً أكثر سوءاً مما فعل ولم أقم بفصلهم! ورغم أن هذا الشاب كان أميناً ومُهذباً ملتزماً (الصراط المستقيم) في كل أعماله، وكانت بيني وبينه محبةٌ وثقةٌ متبادلةٌ، ولكن إصراري على فصله كان وكأنه يحدث رغماً عني!". قلتُ في نفسي: "إن الله عزّ وجلّ قد أعدَّ له مساراً آخراً في حياته، وقد جاء وقت ذهابه من عندي فكان ينبغي له أن يمشي بأية طريقةٍ، حتى ولو طرداً، حتى ولو أن يُلقى به في الشارع!".

هذه ليست نهاية القصة، وليست أعجب ما فيها؛ الأعجب، أنه أصبح تاجراً كبيراً جداً وذا سمعةٍ طيبةٍ، وظل على استقامته؛ أذكر أنني احتجتُ له يوماً ما فوقف بجانبي ولم يخذلني، بل إنه لم يُذكّرني بما فعلته معه، ولا عاتبني، ولا لمّح لي ولو بتغييرٍ في نبرة صوته، عاملني كأنني ما زلتُ صاحب المحل الذي يعمل هو فيه! أما الأكثر عجباً فأنه لم يفقد ذرةً واحدةً من التزامه وتدينُّه وحرصه على (الصراط المستقيم)؛ يكفي أن نعرف أن أهم شهرٍ في حياة تاجر الملابس والأحذية هو شهر رمضان؛ إذ أن مبيعات هذا الشهر تُعادل مبيعات السنة كلها، وأهم أيامٍ في رمضان بالنسبة لنا كتجار ملابس وأحذية هي العشر الأواخر؛ ففيها لا يهدأ الهاتف من الاتصالات والطلبيات، وتكون المبيعات في أوجها والأرباح كبيرةً، أما صاحبنا هذا فيُغلق هاتفه في العشر الأواخر من رمضان ويذهب إلى العُمرة! هل تخيلتم هذا؟!

أرسلتُ له مرةً رسالةً عن حالة شخصٍ فقيرٍ من قريةٍ في محافظته، وطلبتُ منه أن يستوثق من الحالة، لو أي إنسانٍ آخر لكان احتاج مني إلى اتصالين أو ثلاثة، أما صاحبنا هذا وجدته ثاني يوم في الصباح يُكلمني من عند الرجل الفقير، لم يتركه إلا وقد قام بالواجب معه ولم يُقصّر!

كان مما يلفت انتباهي التزامه بتكبيرة الإحرام التزاماً عجيباً؛ ساعة يسمع الأذان ينتفض من مكانه، كأن عقرباً قد لدغته؛ فيُشمر للوضوء ويذهب إلى المسجد للصلاة.

الخلاصة أنه إنسانٌ مستقيمٌ استقامةً تامةً، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: ﴿ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

 

أحبتي في الله .. هو الله، لا إله إلا هو، يدبر الأمر لجميع خلقه، ويساعد من لا حيلة له حتى يتعجّب أصحاب الحيل. هو الله الذي أمرنا بالاستقامة ويثيبنا عليها فتحاً ونصراً وسعة رزقٍ وغنىً ونجاحاً وتوفيقاً وفلاحاً.

 

أمر الله تعالى بالاستقامة، وحث عليها في كتابه الكريم في مواضع عدة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وعن هذه الآية التي نزلت في سورة هود قال المفسرون: "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية؛ لذلك حين قال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم له: قد أسرع إليك الشيب؟! قال: [شَيّبَتْنِي هُودٌ ...]".

ولاحظ العلماء أن الآية وجهت الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنه إمام المستقيمين؛ فقالوا إن المقصود هو الدوام على الاستقامة باعتبارها أعظم كرامة.

وأوصانا رسولنا الكريم بالاستقامة؛ فحين قال أحد الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: [قُلْ: آمَنْت باللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ]. وقال أيضاً: [إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللِّسانَ فتقولُ اتَّقِ اللَّهَ فينا فإنَّما نحنُ بِك فإن استقمتَ استقمنا وإن اعوججتَ اعوججنا].

وأفضل ما قيل في وصف (الصراط المستقيم) "أن يكون العمل خالصاً لله عزّ وجلّ، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعلى ذلك فإن الاستقامة -كما يقول العلماء- تتضمن: الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، الاتباع الكامل والاقتداء التام بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أداء الفروض والواجبات، اجتناب المحرمات والمكروهات، الإكثار من النوافل، المداومة على أعمال الخير، عدم الغلو وعدم التفريط، حفظ الجوارح واللسان، السعي لتزكية النفس، والاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي نيل مرضاته قدر الاستطاعة.

إن الاستقامة تعني التمسك بالدين كله، والثبات عليه، والدعوة إليه، وهي -كما يصفها أهل العلم- سلوك (الصراط المستقيم).

والمؤمن مطالبٌ بالاستقامة الدائمة، ولذلك يسألها ربَه في كل ركعةٍ من صلاته؛ يقول في كل صلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ ذلك أن الاستقامة هي الطريق الوحيد إلى الله الواحد الأحد؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

يقول أهل العلم إنه لما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يُقصّر في فعل المأمور، أو اجتناب المحظور، وهذا خروجٌ عن الاستقامة، فإن الشرع أرشد إلى ما يُعيد العبد لطريق الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، في إشارةٍ إلى أنه لابد من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها، وأن ذلك التقصير يُجبَر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة. وفي هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ...] أمرنا بالاستقامة، وأخبرنا بأننا لن نستطيع أن نُلم بكل جوانب الإسلام، وأن نفعل كل ما أمر به الله عزّ وجلّ، فقال عليه الصلاة والسلام: [سدِّدُوا وقَارِبُوا ...]، أي: اتقوا الله ما استطعتم.

 

قال الشاعر:

وإلا فإنّ الاستقامة عينُ ما

هو الشرعُ، يَسمو مَنْ بها يتجملُ

وما الشرعُ إلا والحقيقةُ عينُه

وبينهما لا فرقَ مفصلُ

 

وقيل إن من عوائق التزام (الصراط المستقيم): اليأس، الغلو، الاستهانة بالمعصية، الانشغال بالدنيا عن الآخرة، الشهوات والتطلع إليها، التوسع في المباحات، والصحبة السيئة.

 

أحبتي .. الاستقامة إذن هي لزوم طاعة الله تعالى مع السداد والاعتدال، وتجنب الإفراط والتفريط. والطريق واضحةٌ؛ إما سبيل الاستقامة وإما سبيل الضلال والاعوجاج والبُعد عن شرع الله. وكل إنسانٍ حرٌ في اختياره: إما أن يلتزم (الصراط المستقيم)؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وهذا هو اختيار الأذكياء. أو أن يختار الطريق المعاكس؛ فينجرف إلى متعٍ زائلةٍ في دنيا فانيةٍ يلهث وراءها، يُزينها الشيطان له؛ يقول تعالى: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ والسبيل هنا هو سبيل الحق، يظل الشيطان يغويه حتى يبتعد عن هذا السبيل؛ فينسى الله فيصبح من الفاسقين؛ يقول تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. ليكن اختيارنا اختيار الأذكياء، وليكن رضا الله سبحانه وتعالى هدفنا، فنكون من المُفلحين الفائزين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم يا مُقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وارزقنا حسن الختام.

 

https://bit.ly/3EbQQaY

الجمعة، 10 ديسمبر 2021

تدبُّر القرآن


خاطرة الجمعة /321


الجمعة 10 ديسمبر 2021م

(تدبُّر القرآن)

 

تحكي عن جارةٍ لها فتقول: أذكر أياماً خوالي قضيتها من عمري في دمشق، وأذكر جارةً لي هناك، كنتُ كلما طرقتُ عليها الباب صباحاً لأقول لها: "تفضلي، اشربي فنجان قهوة"، كانت فوراً تأخذ حجابها ومفتاحها وتدخل وتقول: "وين القهوة؟ فليس لديّ وقت.. اغلِ القهوة سريعاً"، وبعد أن نشرب القهوة تقوم وتقول: "ليس لديّ وقت"؛ فأتعجب منها. كل يومٍ.. وكل وقتٍ.. وأنا أعزمها دائماً.. فقد كنتُ قد كبرتُ وأصبحتُ وحيدة. والعجب أنها أكبر مني عمراً، وليس لديها سوى زوجٍ شيخٍ كبيرٍ في السن مثلها. ولم تكن هذه الزيارات تستغرق الكثير من الوقت؛ فدائماً نشرب القهوة وتنصرف سريعاً وهي تعتذر: "ليس لديّ وقت"! وأحياناً كنتُ أعزم نفسي عندها، وأراها تبتسم وتقول: "فوتي، أغلي القهوة، فليس لديّ وقت".. وأزداد عجباً فلستُ أرى ما يشغلها.. أشرب القهوة وأعود سريعاً خوفاً من إزعاجها. وذات يومٍ قلتُ لها مازحةً: "يا ريت تشغليني معك بالذي يشغلك، ويجعلك ما عندك وقت"، فأشرق وجهها استبشاراً وفرحت وقالت: "منذ زمنٍ وأنا أنتظر منك هذا الطلب".. غداً نبدأ عملنا معاً إن شاء الله تعالى. دخلتُ بيتها صباحاً، شربنا القهوة، ومن ثمّ قالت: "ليس لدينا وقت".. أحضرتْ مُصحفين وقالت: "هيا بنا نقرأ آية ونتدبرها، ونُحاسب أنفسنا أين نحن منها!"، حَبِستُ أنفاسي للحظاتٍ ثم قلتُ لها: "مصحف؟ آية؟ نتدبر؟ أين أنا من هذا؟ أهذا ما يشغلك يا جارتي العزيزة الرائعة؟ أهذا هو لغز عبارة ليس لديّ وقت؟"، قالت مبتسمةً: "نعم، فلم يعد لدينا أنا وأنتِ وقتٌ؛ نُسابِقُ زمن عمرنا، ودقائقه، وثوانيه قبل أن يسبقنا، ونجد أنفسنا في قبرٍ مظلمٍ لا يُنيره سوى نور القرآن، والصّدق مع كلام الله، وتعمير أوقاتنا بالطّاعات وأعمال البر"..

آه.. كم أحسستُ لحظتها أني كبرتُ كثيراً، وأنه فعلاً ليس لديّ وقت!! وأحسستُ بيدي تُمسك بحافة القبر وأنا أنظر إليه.. وأحسستُ بدقات قلبي معدودة.. أمسكتُ بالمصحف عطشى، أرتوي منه، ولا ينتهي ظمئي. آهٍ يا نفسي كم شغلتيني عن كلام ربي! سأسابق الزمن، والعمر، والموت لأعوض ولو بعضاً مما فاتني.

أحبتي في الله .. لقد وفق الله سبحانه وتعالى هذه الجارة - وأمثالها- إلى أمرٍ عظيمٍ وهو (تدبُّر القرآن)، ليس فقط مجرد قراءته وتلاوته ولا حتى حفظه -وإن كان كل ذلك مهماً- بل تدبر معانيه، ومحاسبة النفس عما كان منها بعد تدبره. إنه والله لأمرٌ عظيمٌ أزعم أن الكثير منا غافلون عنه.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ويقول كذلك: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

 

أما مفهوم التدبر في اللغة فهو يعني النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، وفي المصطلح فإن (تدبُّر القرآن) يعني تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والاعتبار والاستبصار، وتصفح آياته، وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول العلماء إن التدبُّر في القرآن يُثبت أنه من عند إلهٍ حكيمٍ قديرٍ، وليس للبشر أن يُبدعوا مثله أبداً؛ فيُطَمْئِن المؤمنَ في عبوديته لله عزَّ وجلَّ، ويُزيل الشُبهة، ويُقَوِّي العقيدة، مما ينعكس على حياة الإنسان كلها. والتدبُّر في القرآن طريق هدايةٍ؛ فالقرآن له مذاقٌ خاصٌّ، وفيه أسرارٌ عظيمةٌ، وبقدر تدبُّر المؤمن فيه يفتح الله له أبواب الهداية، والذي لا يتدبَّر القرآن يُخشَى عليه أن يضل ويزيغ. والتدبُّر في القرآن يفتح آفاقاً مباركةً هائلةً من المعرفة، فقد ملأه ربُّ العالمين بكنوز العلم بشتَّى فروعه، والذي يتعلَّم في نور القرآن يصل إلى ما لا يقدر غيره على الوصول إليه؛ قال بعض التابعين: “من تدبر القرآن طالباً الهدى منه؛ تبين له طريق الحق”.

 

وحتى يتحقق (تدبُّر القرآن) يرى أهل العلم أن لذلك خطواتٍ هي: الاستعداد النفسيّ للتدبُّر: فتدبُّر القرآن يبدأ من إرادة الشخص داخليّاً، ووجود دافعٍ، ويكون ذلك بالتأمُّل، والنَّظَر، والبحث. اختيار المكان المناسب، والوقت الملائم: باستقبال القِبلة، والحرص على الطهارة، والخشوع في الجِلسة، ومن الأوقات المُفضَّلة وقت السَّحَر. التوجُّه إلى الله بالدعاء: فالاعتماد على الأسباب دون الرجوع إلى مُسبّب الأسباب من الأخطاء التي قد يقع فيها العباد. المراقبة الذاتيّة أثناء القراءة: فينظر القارئ إلى ما يمنعه من الوصول إلى التدبُّر، ويبحث عن الحلول لتجاوز تلك الموانع، كما يُمكن تحقيق التدبُّر بتلاوة الآيات بصوتٍ عالٍ، أو خَفضه. عدم التعجُّل في القراءة: فلا بدّ من تلاوة القرآن بتأنٍ وهدوءٍ ورَويّة، وتعويد النفس على ذلك، والأفضل عدم خَتْم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّامٍ. اعتبار الخطاب الإلهيّ مُوجَّهاً إلى النَّفْس: فيسعى القارئ إلى استجابة أمر الله الوارد في الآيات، وعليه أن يُسقط القرآن على نفسه، وواقعه، ويتساءل عن مُراد الله، وغايته. المحافظة على الوِرد اليوميّ: فقد أمر الله -تعالى- عباده بتلاوة القرآن، ولم يُلزمهم بقَدْرٍ مُعيَّنٍ؛ فكلّ شخصٍ له ظروف تختلف عن غيره، ولهذا يقرأ بحسب ما يناسبه.

 

يقول أحد العلماء أنْ ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من (تدبُّر القرآن)، وإطالة التأمل، والتفكر في معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر؛ فتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتُعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه. كما تُعرفه ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

 

وعن تدبُّر الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن الكريم؛ كان أحدهم إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن؛ فتعلموا العلم والعمل. حتى المشركين الذين لم يسلموا عرفوا قدر القرآن الكريم؛ إذ وصفه كبيرٌ من كبرائهم بقوله: "واللهِ إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه". ومع ذلك نجد من بيننا كمسلمين من يقصر علاقته بالقرآن تلاوةً وتدبراً على شهر رمضان فقط، وكأنه في غنىً عن هدى الله ونوره ورحمته وحياة قلبه أحد عشر شهراً كل عام!

 

أحبتي .. إن التلاوة الحقة لكتاب الله تعالى تعني تلاوته بفهمٍ لآياته وتدبرٍ لمعانيه ينتهي إلى إدراكٍ وتأثرٍ ثم عملٍ وسلوك. فالعبرة ليست -كما يفعل كثيرٌ منا- بكثرة عدد ختماتنا للقرآن، بل بمدى فهمنا له والتزامنا بأحكامه، وإقامتنا لحدوده، وإتيان أوامره واجتناب نواهيه، العبرة باختصار تكمن في (تدبُّر القرآن). فلينظر كلٌ منا في أسلوبه وطريقة تعامله مع القرآن؛ فربَّ ختمةٍ واحدةٍ بتدبر أبرك وأنفع وأثقل في موازيننا من عشرات الختمات بغير تدبر. ولا أعجب من أن نجد من المسلمين -شباباً وشيوخاً- من لم يختم قراءة القرآن ولا مرةً واحدةً فيما مضى من عمره! لهؤلاء أقول: "عفى الله عما سلف، تدارك نفسك، ابدأ اليوم، بل الآن، في ختمةٍ تنوي بينك وبين الله سبحانه وتعالى أن تكون كاملةً وأن تكون بتدبرٍ وفهمٍ واستيعاب. لا تؤجل هذا الأمر، فلا تدري لعل الله أراد لك خيراً بإمهالك إلى الآن".

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً، اللهم ذَكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجةً لنا لا علينا يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3dCpBv1