الجمعة، 27 أكتوبر 2023

رضا الله

 

خاطرة الجمعة /418

الجمعة 27 أكتوبر 2023م

(رضا الله)

 

يروي رجلٌ سعوديٌ كبيرٌ في السن من قبيلة «بني شهر» حكايةً حدثت له قبل سنواتٍ طويلةٍ؛ فقال: إنه سافر مع رجلٍ من جماعته إلى «فلسطين» طلباً للرزق أيام الحاجة والفقر؛ فجئنا إلى مزرعةٍ يُسمونها هناك "بيّارة"، ورأينا صاحبها جالساً على أريكةٍ مع أصحابه، بين أصبعيه سيجارٌ ضخمٌ، وله شاربان كبيران، فجلسنا ننتظر الإذن بالحديث معه، وحان وقت صلاة العصر؛ فقال لي صاحبي: "هيا نُصلي"، فقلتُ له: "اتركنا من الصلاة الآن، سنُصلي فيما بعد"، خِفتُ أن يطردنا الرجل صاحب المزرعة؛ فقام صاحبي وأذَّن وصلّى، وأنا جالسٌ، فلما انتهى من صلاته قلتُ لصاحبي: "أبشر بالطّرد الآن"، قال لي: "الرزق عند الله، وليس عند صاحب هذا الشارب المخيف".

بعد وقتٍ قصيرٍ جاء إلينا صبيٌّ وسأل: "أين الذي صلّى؟"، فقلتُ مباشرةً وأنا خائفٌ: "هذا هو" وأشرتُ إلى صاحبي، فقال له الصبي: "قُم معي، سيدي يريدك"، فقام مع الصبي، ورأيته يتحدث مع صاحب المزرعة بأسلوبٍ لطيفٍ، عاد بعدها صاحبي وقال لي معتذراً: "الرجل وظفني لأنه رآني أصلي، وقال لي أنت ستكون مسؤولاً عن البيت وحاجاته، ولما طلبتُ منه توظيفك قال ليس له عندي عملٌ، فاستأذنته أن تبقى معي حتى نجد لك عملاً فأذِن لي".

قال راوي القصة: "فبقيتُ عالةً على صاحبي حوالي شهرٍ حتى يسَّر الله لي عملاً في مزرعةٍ أخرى، لكني لن أنسَ ما حييتُ أني أخطأتُ يومئذٍ خطأً جسيماً بأن قدمتُ رضا صاحب المزرعة على (رضا الله) عزَّ وجلَّ".

 

أحبتي في الله.. عن ذات المعنى ذكر كاتبٌ جليلٌ قصة طفلةٍ صغيرةٍ من بيتٍ محافظٍ عادت ذات يومٍ إلى أُمها من المدرسة وعليها سحابة حزنٍ وكآبةٍ وهمٍّ وغمٍّ؛ فسألتها أُمها عن سبب ذلك؛ فقالت: "إن معلمتي هددتني إن جئتُ مرةً أخرى إلى المدرسة بمثل هذه الملابس الطويلة"، قالت الأم: "ولكنها الملابس التي يريدها الله جلَّ وعلا"، قالت الطفلة: "لكن المعلمة لا تريدها"، قالت الأم: "المعلمة لا تريد والله يريد، فمن تُطيعين إذاً، الذي خلقك وصوَّرك وأنعم عليك، أم مخلوقاً لا يملك ضَراً ولا نفعاً؟"، فقالت الطفلة بفطرتها السليمة: "بل أطيع الله، وليكن ما يكون". في اليوم التالي لبست الطفلة ملابسها الطويلة، وذهبت بها إلى المدرسة؛ فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبةً تؤنب الطفلة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، وأكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت، ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة، فانفجرت في بكاءٍ عظيمٍ شديدٍ مريرٍ أَليمٍ، أذهل المعلمة، ثم كفْكفتْ الطفلة دموعها، وقالت كلمة حقٍ خرجت من فمها كالقذيفة، قالت: "والله! لا أدري من أطيع؟ أنتِ أم هو؟"، قالت المعلمة: "ومن هو؟"، قالت الطفلة: "الله رب العالمين، الذي خلقني وخلقك، وصوَّرني وصوَّرك، هل أُطيعك؛ فألبس ما تريدين، وأُغضبه هو. أم أُطيعه وأعصيك أنت؟، لا. سأطيعه، وليكن ما يكون". ذُهلت المعلمة، وسألت نفسها: "هل هي تتكلم مع طفلةٍ أم مع فتاةٍ راشدة؟". ووقعت منها كلمات الطفلة موقعاً عظيماً بليغاً؛ فسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي استدعت أمَّ البنت، وقالت لها: "لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظةٍ سمعتها في حياتي؛ فقد عرفتني ابنتك أن (رضا الله) مُقدمٌ عن رضا غيره، مهما كان. ربيتِ فأحسنتِ التربية؛ فجزاكِ الله خيراً".

 

تعقيباً على هذه القصة قال أحد العلماء: إن إرضاء الناس غايةٌ لا تُدرك؛ فإرضاء البشر ليس في الإمكان أبداً؛ لأن علمهم قاصرٌ، وعقولهم محدودةٌ، يعتَوِرُهم الهوى والنقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك، فلا يمكن إرضاؤهم. إن إرضاء الله هو الواجب؛ لأن دينه واحدٌ وسبيله واحدٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾، ولأن في طاعة غير الله الضلال؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أرْضَى الناسَ بسخَطِ اللهِ وكَلَهُ اللهُ إلى الناسِ، ومَنْ أسخَطَ الناسَ برضا اللهِ كفاهُ اللهُ مُؤْنَةَ الناسِ]. يقول شُرّاح الحديث إن (رضا الله) عزَّ وجلَّ من أهم ما يسعى إليه كل مؤمنٍ حصيفٍ، فمن رَضِيَ الله عنه غفر له ورحمه وأدخله جنته، والفائز حقاً هو من فاز بمرضاة الله سبحانه وتعالى. فمن سعى في سبيل الفوز برضا الناس، ونيل مرضاتهم بمعصية الله، وعدم المبالاة بما أمر وما نهى، وعدم الاحتراز من سخط الله، ترك الله أمره إلى الناس، وسلَّطهم عليه، فلم يُرضوه ولم يرضوْا عنه، وسخط الله عليه. وأما من سعى في سبيل الفوز بمرضاة الله عزَّ وجلَّ، ولو كلفه ذلك كُره الناس له، وعدم رضاهم عنه وسخطهم عليه، حفظه الله من سخط الناس عليه، وأرضى عنه الناس، وكفاه هَمّ ذلك. إنَّ المرء قد يرتكب المعاصي إرضاءً للناس، ومجاملةً لهم، ولئلا يقع في الإحراج أمامهم؛ فعلى سبيل المثال، قد تجلس مجموعةٌ من الناس في مجلسٍ فيقوم أحدهم باستغابة شخصٍ غير موجودٍ في المجلس، فإن رضي بقية الجالسين بمعصيته فإنهم مُشاركون له بالمعصية، والأعظم من ذلك أن يقوموا بمجاملته ومداراته والخوض معه في هذه المعصية من أجل كسب رضاه وعدم إغضابه، فيكون ذلك سبباً لإحلال غضب الله عليهم. وقد يجلس شابٌ مع مجموعةٍ من الشباب فيقومون بفعل معصيةٍ من المعاصي فيقوم هذا الشاب بفعل تلك المعصية مجاملةً لهم وإرضاءً لهم على حساب دينه؛ فيكون بذلك قد أرضى الناس بمعصيةٍ تُغضب الله وتستوجب سخطه عليه.

 

وَرَدَ في الأثر: "رضا الناس غايةٌ لا تُدرك، و(رضا الله) غايةٌ لا تُترك؛ فاترك مالا يُدرك لأجل مالا يُترك".

ويقول أهل العلم إنّ مَن التمس رضا الناس بسخط الله مآله وعاقبة أمره إلى الخُسران، حتى وإن وجد بعض الفائدة من ذلك، لكن العاقبة لا تكون حميدةً أبداً، سواءً في الدنيا أو في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط. أما من التمس (رضا الله) بسخط الناس فلا بد أن تكون عاقبته حميدةً، وقد لا يتأتى هذا عاجلاً، وإنما يتأتى بالصبر، فالإنسان قد يرى أول الأمر شيئاً من الإعراض من الناس إذا التمس (رضا الله) بسخطهم، وقد يجد شيئاً من المضايقة، لكنه بالصبر لا بد أن تكون العاقبة له، إما في الدنيا والآخرة وهو الغالب، وإما في الآخرة فقط، لكن ذلك مشروطٌ بصدق النية والإخلاص مع الله عزَّ وجلَّ، والصبر على ما يصيبه من بلاء، وأكثر الناس قد لا يصبر، فلا تحصل له النتيجة التي يأملها؛ لأنه لم يتحقق عنده شرط الصبر.

 

وعن الحرص على (رضا الله) تبارك وتعالى دون سواه قالت إحدى العارفات بالله:

فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ

وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ

وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ

وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

 

أحبتي.. وَصَفَ الله سبحانه وتعالى المنافقين بقوله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾؛ فليحرص كلٌ منا ألا يفعل فعل المنافقين؛ فيُقدِّم رضا الناس على (رضا الله) تبارك وتعالى، مهما بلغ هؤلاء الناس من مكانةٍ أو مهابةٍ، ومهما بلغت سطوتهم وعلا جبروتهم، بل نحرص على رضا ربنا عزَّ وجلَّ؛ نُرضي ربنا ولا نُجامل على حساب ديننا، نُرضي ربنا ولا نسكت عن قول الحق خوفاً أو طمعاً، نُرضي ربنا مهما كان الثمن الذي ندفعه لذلك ولو كان الثمن حياتنا، فهذا هو الإيمان الحق. وفي زمنٍ كَثُر فيه الفساد والفتن والمغريات، وقلَّ فيه الأعوان على الطاعة، ندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المؤمنين الصادقين، الثابتين وقت الفتن، المتمسكين بديننا كالقابضين على الجمر، الذين لا يبيعون دينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل. اللهم حَبِّب إلينا الإيمان وزَيِّنه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

https://bit.ly/3tVxabC

الجمعة، 20 أكتوبر 2023

كيف ينظرون إلينا؟

 خاطرة الجمعة /417

الجمعة 20 أكتوبر 2023م

(كيف ينظرون إلينا؟)

صاحب هذه القصة داعيةٌ إسلاميٌ مشهور، كتب يقول:

كنتُ في مطار «بانكوك» في «تايلاند»، ودخلتُ أحد المقاهي بالمطار، وطلبتُ قهوةً، وسألتُ إن كان عندهم شطيرةٌ خاليةٌ من الكحول أو دهن الخنزير؟ وأنا أسأل سمعني شابٌ كان خلفي؛ فسألني بحماسٍ: "هل أنت مسلم؟"، قلتُ له: "نعم"؛ فنصحني بنوعٍ معينٍ من الشطائر. وبعد ما أخذ كلٌ منا طلبه، استأذنني أن يجلس معي على نفس الطاولة، فقلتُ له: "بكل سرور"، وتعارفنا، وكان كلامنا باللغة الإنجليزية، إلى أن عرف أنني عربيٌ، فازداد حماسةً، وقال لي بلا ترددٍ وبعربيةٍ مكسرةٍ أكتبها كما نطقها: "السلام أليكم، أن اسمه «أومر»، وهو من «التايلاند»"، أُعجبتُ بشجاعته في محاولة التكلم بالعربية، وابتسمتُ له، وقلتُ له من باب التشجيع: "ما شاء الله لغتك العربية جيدة". عاودنا حديثنا بالإنجليزية، حيث قال لي «عمر»: "بما أنك عربيٌ فأكيدٌ أنك تعرف قراءة القرآن"، فقلتُ له: "الحمد لله، وجئتُ إلى «تايلاند» لتحكيم مسابقةٍ في القرآن"، فجأةً وقف «عمر» من مكانه وقال لي: "صحيح؟ يعني أنت عربيٌ وحافظٌ للقرآن وتُعلِّمه للناس؟"، قلتُ له: "نعم، والحمد لله"، قال لي: "هل من الممكن أن أحضنك؟"، قمتُ من مكاني وحضنته بشدةٍ، وحاول «عمر» تقبيل يدي لكني انتزعتها بصعوبة، وعاودتُ احتضانه، وقد ظهرت دموعه في عينيه.

لم أتفاجأ كثيراً من الموقف، لأني أتعامل كثيراً مع مسلمين من غير العرب، وأعرف حبهم واحترامهم وبراءتهم، لكن الذي فاجأني في «عمر» إنه دخل الإسلام منذ ثلاثة أعوامٍ فقط، ولأجل ظروف شغله، وسكنه البعيد، فإنه يتعلم اللغة العربية من «اليوتيوب» بمفرده، وكان يدعو الله في كل صلاةٍ أن يتعرف على عربيٍ يُساعده في التعلم وحفظ القرآن. طلب مني «عمر» أن أُصحح له سورة الفاتحة، إن كان عندي وقتٌ، وكم كانت سعادته عندما رحبتُ بذلك؛ فقرأ عليّ سورة الفاتحة وصححتها له. ولما اقترب موعد طائرتي أعطيته بطاقةً فيها رقم هاتفي وبريدي الإلكتروني وطرق التواصل، وقلتُ له: أعطني رقم هاتفك، ودعنا نكون على تواصلٍ مستمر، ومع طيبته لم يكن مصدقاً إنني سأسجل رقم هاتفه عندي. بعدها بدأت مع «عمر» دروساً مباشرةً في القرآن، واللغة العربية، بالصوت والصورة بواسطة شبكة الإنترنت. اليوم أتم «عمر» حفظ جزئين تقريباً بحمد الله، ويستطيع أن يقرأ باللغة العربية.

هذه قصتي مع «عمر التايلاندي» رويتها لكم لتعلموا عن المسلمين من غير العرب (كيف ينظرون إلينا). إنهم أناسٌ من أهم أُمنيات حياتهم أن يصاحبوا عربياً، حتى يتعلموا اللغة العربية، وحتى يقرأوا القرآن، نحن في نظرهم من أحفاد الصحابة، ولنا مكانةٌ كبيرةٌ في نفوسهم، وينظرون إلينا بمنظر القدوة. هؤلاء يجاهدون ليل نهار ولسنين طويلةٍ حتى يتعلموا قراءة اللغة العربية بطريقةٍ صحيحةٍ، ونحن الذين لساننا عربيٌ مقصرون في ذلك أشد التقصير إلا من رحم الله.

 

أحبتي في الله.. عن موضوع إخواننا المسلمين من غير العرب و(كيف ينظرون إلينا)، اطلعتُ على قصةٍ حدثت بالفعل، بدايتها صادمةٌ جداً بل ومؤسفةٌ، أما نهايتها فكانت على العكس تماماً، مُبشِّرةً ومطمئنةً، إليكم القصة:

شابان من «المدينة المنورة» ذهبا إلى «تركيا» من أجل أخذ راحتهما بشرب الخمر هناك، فلما وصلا «إسطنبول» قاما بشراء زجاجات الخمر وركبا سيارة أجرةٍ ذهبا بها إلى قريةٍ ريفيةٍ، وسكنا في فندقٍ هناك حتى لا يراهما أحد، وأثناء تسجيل بياناتهما سألهما موظف الاستقبال بالفندق: "من أين انتما؟"، فقال أحدهما: "من «المدينة المنورة»"؛ ففرح موظف الاستقبال وأعطاهما جناحاً بدلاً من غرفةٍ إكراماً للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وإكباراً لهما لأنهما من أهل «المدينة المنورة». سعد الشابان بذلك وسهرا طوال الليل يشربان الخمر حتى سكر أحدهما، أما الثاني فقد سكر نصف سكرةٍ، وناما. في الساعة الرابعة والنصف صباحاً، فُوجئا بمن يطرق بابهما؛ استيقظ أحدهما وفتح الباب وهو شبه نائمٍ فإذا بموظف الاستقبال يقول له: "إن إمام مسجدنا رفض أن يصلي الفجر لما علم أنكما من «المدينة المنورة» فنحن ننتظركما بالمسجد تحت". صُدم الشاب بالخبر وأيقظ صاحبه سريعاً وأخبره بما حدث وسأله: "هل تحفظ شيئاً من القرآن؟"، فرد عليه أنه لا يمكن أن يصلي إماماً، وجلسا يفكران كيف يخرجان من هذا المأزق، وإذا بالباب يُطرَق مرةً أخرى، ويقول لهما الموظف: "نحن ننتظركما بالمسجد، انزلا بسرعةٍ قبل بزوغ الفجر". يقول صاحبنا: "فدخلنا الحمام واغتسلنا ثم نزلنا إلى المسجد، وإذا به ممتلئٌ وكأن الصلاة صلاة جمعة، وكان المصلون يسلمون علينا؛ فتقدم صديقي للإمامة فكبَّر ثم بدأ يتلو سورة الفاتحة، وحين وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ بكى المصلون بالمسجد وهم يتذكرون مسجد رسول الله". يقول الشاب الذي أَم المصلين: "بكيتُ معهم وأنهيتُ تلاوة سورة الفاتحة ثم سورة الإخلاص في الركعتين؛ فأنا لا أحفظ غيرهما! وإذا بالمصلين -بعد انتهاء الصلاة- يتدافعون نحوي يسلمون عليّ؛ فكان هذا الموقف سبباً في هدايتي أنا وصديقي، بل وأنعم الله علىَّ؛ فصرتُ برحمته واعظاً".

 

هذا يوضح لنا بجلاءٍ (كيف ينظرون إلينا)؛ فالمسلمون من غير العرب ينظرون إلينا -كمسلمين عرب- نظرة تقديرٍ وإجلالٍ، بل نظرة قداسةٍ كما لو كان كل واحدٍ منا هو خليفةٌ من الخلفاء الراشدين أو من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين!

فما بالنا بغير المسلمين، وكيف ينظرون إلينا؟ هؤلاء يحكمون على الإسلام كدينٍ من خلال ما يرونه منا من تصرفاتٍ وأفعالٍ؛ يقول أحد العلماء: أنت يا أخي على ثغرةٍ من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبلك؛ فإياكَ أن تكونَ أنت سبباً في الإساءة إلى الإسلام والمسلمين. إن الناس لا يحبون الإسلام لأنه دينٌ سماويٌ ينسجم مع الفطرة والعقل بقدر ما يحبونه لأنه مطبقٌ في الحياة اليومية، مُجسدٌ في سلوك المسلمين. والناس لا يتعلمون بآذانهم، بل بعيونهم، والإسلام قد انتشر في جنوبي آسيا وشرقها، وفي غرب أفريقيا وشمالها، عن طريق المعاملة الحسنة والسلوك القويم؛ فالتجار المسلمون ضربوا لهذه الشعوب مثلاً أعلى في النزاهة والاستقامة والأمانة. والناس لا يُنفرهم من الدين أو الإسلام شيءٌ مثلُ أن يروا المسلم يُكثر من الصلاة والصيام والأدعية والأوراد, ويسيء إلى الناس في معاملته وبيعه وشرائه ودَيْنه وقضائه.

 

أحبتي.. لا شك في أن كل واحدٍ منا هو سفيرٌ للإسلام، داخل بلده وخارجه؛ فلنكن خير السفراء في أقوالنا وأفعالنا، ولنتذكر دائماً هذا السؤال: (كيف ينظرون إلينا)؟ فنُحسن معاملة الناس بما يحثنا عليه ديننا الحنيف، ونعاملهم بما نحن أهله وليس بما هُم أهله؛ فقد ورد في الأثر: "لا تَكُونُوا ‌إِمَّعَةً، تَقولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تحْسِنُوا، وَإنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا". فلتكن أخلاقنا فاضلةً، وأفعالنا راقيةً، ومعاملاتنا ساميةً، محافظين على قيمنا الإسلامية، متخذين نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قدوةً لنا وأسوةً حسنةً؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

هدانا الله جميعاً لنكون خير السفراء لدينهم، وخير من يرون فيهم الناس قرآناً يمشي على الأرض، وسيرة نبيٍ كريمٍ حيةً تتحرك بين الناس بكل ما هو جميلٌ ونقيٌ وطاهرٌ ونافعٌ ومفيد.

https://bit.ly/46EQRD2

الجمعة، 13 أكتوبر 2023

أنا مسلم

 خاطرة الجمعة /416

الجمعة 13 أكتوبر 2023م

(أنا مسلم)

«ستيفان ليكا» أستاذٌ جامعيٌ رومانيٌ نصرانيٌ اعتنق الإسلام وتسمى باسم «محمد ليكا» يروي قصة إسلامه فيقول: اعتناقي للإسلام كان بسبب المعاملة اللطيفة من أحد الإخوة المسلمين؛ حيث سافرتُ أنا وزوجتي إلى «تركيا» للسياحة، وفي الليل، وبالخطأ، أضعتُ الطريق؛ فاستوقفتُ أحد المارة، وسألته: "هل تعرف هذا العنوان؟" وأريته عنوان الفندق. قال: "ليس هناك أي فندقٍ في هذه القرية، ولكني أرجو أن تكون ضيفي في هذه الليلة". لم يكن أمامنا في هذا الوقت المتأخر من الليل إلا أن نقبل عرضه؛ فذهبنا إلى بيته، وكان مظلماً لم أرَ شيئاً إلا الباب الأمامي الذي كان مفتوحاً، رأيتُ بالداخل خمسة أطفالٍ وسيدتين كبيرتين في السن؛ فقلتُ في نفسي: "هذا المكان آمن". دعاني وزوجتي أن ندخل، ثم دعانا لتناول العشاء البسيط جداً، وقد شعرنا براحةٍ كبيرةٍ بسبب الطريقة التي عاملنا بها. وقال لنا: "أنتما تنامان هنا، وأما نحن فلدينا مكانٌ آخر للنوم". في صباح اليوم التالي، بعد استيقاظي من النوم، بحثتُ عنه لأشكره قبل أن نواصل رحلتنا، عندما خرجتُ من الدار، كان الوقت نهاراً، وأستطيع أن أرى كل شيءٍ.

اكتشفتُ أنه لا يوجد في هذه الدار إلا غرفةٌ واحدةٌ هي كل بيته، وأن هذا الأخ وخمسة أبناءٍ له وزوجته وأمه كانوا نائمين في الخارج تحت شجرةٍ في العراء والبرد الشديد، كدتُ أن أُصعق من المفاجأة، ذهبتُ إليه، وقلتُ له: "أأنت مجنونٌ، لماذا فعلتَ هذا؟"، نظر إلى وجهي وهو يبتسم، وقال: "لا، أنا لستُ مجنوناً، أنتما مسافران ويجب عليَّ أن أساعدكما وأقدم لكما أي شيءٍ أقدر عليه، لأن ديني يأمرني بذلك فأنا مسلم". عندما قال: "(أنا مسلم)"، كان وجهه منيراً ومتوهجاً كالنار، وكنتُ مندهشاً جداً، وزوجتي بدأت تبكي؛ قلتُ لها: "انظري، ما الذي تعرفينه عن الإسلام، وقد رأيتِ كيف يعاملنا هذا الشخص؟". طلبتُ من الرجل أن يحدثنا عن الإسلام؛ فقال: "لا أعرف كثيراً عن الإسلام، لكن اقرأوا القرآن، كما يمكنك قراءة السنة، وعندها ستعرف عن الإسلام".

عُدنا إلى «رومانيا» وذهبتُ فوراً إلى أقرب مكتبةٍ واشتريتُ مصحفاً وبعض كتب الحديث، وبدأتُ بالقراءة. قرأتُ باستمرارٍ لمدة شهرين تقريباً، بعدها فتح الله قلبي للإسلام وقلتُ: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" وأصبحتُ مسلماً في 17 يناير 1993م والحمد لله.

عندما علم أبو «محمد ليكا» بإسلام ابنه طرده، وقاطعته أمه، ومع ذلك فقد نجح في إقناعهما بالإسلام. وتحدث مع إخوته عن حقيقة الإسلام؛ فأشهروا جميعاً إسلامهم. ثم قرر دعوة أهل منطقته وما حولها إلى الإسلام. ثم جهّز سيارةً بشعاراتٍ مكتوبةٍ بعدة لغاتٍ وسافر بها إلى العديد من الدول دعا الناس فيها إلى الإسلام. واعتنقت أعدادٌ كبيرةٌ من النصارى الإسلام على يديه. كما زار دولاً عربيةً وإسلاميةً أيضاً يدعو المسلمين فيها إلى أخلاق الإسلام. أصبح الإسلام شغله الشاغل. اجتهد في الدعوة بأسلوبه وطريقته الفريدة. أُصيب وتعرض إلى العديد من المخاطر والسرقة. أنفق كل ما يملكه في رحلة الدعوة إلى الإسلام؛ كان يعمل في الجامعة ثلاثة شهورٍ ثم يُنفق ما يتحصل عليه من أجرٍ على رحلة الدعوة إلى الإسلام، ثم يعود إلى عمله ثلاثة شهورٍ أخرى ثم يرجع إلى السفر واستكمال رحلة الدعوة إلى الإسلام.

يقول «محمد ليكا»: "إن مفتاح الكلام مع الكاثوليك عن الإسلام يكمن في سورة «مريم»؛ فمعظمهم لا يعلمون أن السيدة «مريم» مذكورةٌ في القرآن، وعندما أقرأ لهم آياتٍ من القرآن تتحدث عنها يبكون من شدة احترامهم لها". يقول أيضاً: "كنتُ أطوف مشياً على الأقدام للتعريف بالإسلام، سرتُ على قدميّ قرابة ثلاثين ألف كيلو متر، زرتُ أربعين دولةً، استهلكتُ خلالها خمساً وخمسين زوجاً من الأحذية، وبعدها -وإلى الآن- استخدمتُ السيارة في سبيل الدعوة إلى الإسلام". ويضيف قائلاً: "إن الله أعطاني هديةً رائعةً هي الإسلام الذي يجب عليّ نشره بين بني البشر في هذه الرحلة التي أقوم بها. عندما رأيتُ أكثر من ألف شخصٍ أصبحوا مسلمين، ورأيتُ الثمرة الطيبة لهذا النشاط قررتُ أن أفعل شيئاً للإسلام في بلدي «رومانيا»، والآن في منطقتنا لدينا أكثر من ثمانين ألف مسلمٍ. كما قررتُ أن أبني المركز الإسلامي ليصبح داراً لتعليم الناس القرآن وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدأنا هذا المشروع، وقد قاربنا على إنهائه، وبقي علينا القليل للانتهاء منه. حلمي أن نجعل نشاط الدعوة منتشراً في جميع أنحاء العالم، وهدفي هو هداية الناس بتعريفهم على الإسلام؛ فالشخص إذا قرأ القرآن بقلبٍ مفتوحٍ بالتأكيد سيُغيّر رأيه عن الإسلام وسيتبع هَدي النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، هذا هو حلمي وأنا أعمل من أجل تحقيقه، وأتمنى أنني عندما أنتهي من بناء المركز الإسلامي للدعوة في «رومانيا» أن يستمر نشاطنا؛ لأن علينا مسئوليةً كبيرةً؛ فالله أعطانا نعمة الهداية ونعمة الإسلام فيجب علينا نشر هذه النعمة".

 

أحبتي في الله.. عن الرجل التركي الذي استضاف «محمد ليكا» وزوجته، كتب ناشر القصة يقول: هذا كان موقف رجلٍ مسلمٍ بسيطٍ، ولكنه صاحب فهمٍ وخُلقٍُ إسلاميٍ رفيع، كان تصرفه سبباً في إسلام رجلٍ أنجاه الله به من النار، ليس هذا فحسب ولكنه شهد مولد داعيةٍ إسلاميٍ كبيرٍ، يحمل هَمّ دينه، ويجوب دول العالم يدعو إلى ربه حتى أسلم على يديه قرابة ألف شخصٍ، لا يعلم إلا الله ما فعله كل واحدٍ منهم لخدمة دينه الجديد، كل ذلك وكل هؤلاء الرجال وكل ما فعلوه للإسلام في ميزان حسنات رجلٍ تركيٍ مجهولٍ لدينا، لكنه معلومٌ عند الله، نال ذلك بفهم حقيقة الإسلام ودعوته له بالخُلُق وفعل الخير قبل أن تكون دعوته باللسان والكلام. وقصة إسلام «محمد ليكا» مع بساطتها تُعبِّر عن الوجه الواقعي الذي ربى الإسلام عليه أتباعه، والأخلاق الرائعة التي دعا إليها أنصاره، ولو أنهم تمسكوا به وحققوه في حياتهم لأسلم أكثر من في الأرض من غير أن ينطق المسلمون بكلمةٍ واحدة.

 

تحمل القصة دلالاتٍ كثيرةٍ أقف عند إحداها؛ وهي قول الرجل التركي البسيط (أنا مسلم)، قالها بصدقٍ وتلقائيةٍ وفخرٍ واعتزاز، فخرجت من قلبه مباشرةً إلى قلب ضيفه وزوجته فكان لها وقع السحر عليهما، فحركت فيهما مشاعر قادتهما إلى اعتناق الإسلام مصداقاً لقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ فعندما سُئل ذلك الرجل القروي البسيط لماذا فعل ذلك؟ لم يقل: "لأنني تركيٌ"، أو "لأن هذا واجبٌ إنسانيٌ"، أو "لأن هذه أخلاقنا وعاداتنا"، وإنما قال: "(أنا مسلم)"، قالها بغير تردد. قدَّم الرجل ما استطاع تقديمه لضيفيه ببساطةٍ وبغير تكلفٍ؛ حُسنَ استقبالٍ وطعاماً ومأوىً، وكأنه يتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ]. يقول شُراح الحديث: يُبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يجب عليه أن يُحقِّر أي: يُقلِّل من المعروف أي: من فعل الخير؛ شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجهٍ طلقٍ أي: ضاحكٍ مُستبشرٍ. وفي الحديث أن من هديه صلى الله عليه وسلم فعل المعروف وإن قلّ.

وعن أهمية العمل الصالح حتى ولو كان قليلاً قال النبي عليه الصلاة والسلام: [خُذُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللَّهِ ما دَامَ وإنْ قَلَّ]، كما قال صلى الله عليه وسلم في نفس المعنى: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ].

 

أحبتي.. أكاد أُجزم أن ذلك الرجل التركي المسلم البسيط لا يعلم شيئاً عن الآثار الهائلة التي ترتبت على ما قام به من عملٍ اعتبره هو عادياً، وكان في قرارة نفسه يعلم أن ما يدفعه إلى ذلك هو دينه؛ فكان رده عندما سُئل عن سبب ما فعل: (أنا مسلم)، قالها بتلقائيةٍ وعفويةٍ ومضى إلى حال سبيله دون أن يُدرك الزلزال الذي أحدثته هذه العبارة القصيرة المقتضبة في شخصين، ثم توابع ذلك الزلزال في نفوس كثيرين أسلموا، وفي جهودٍ طيبةٍ ما يزال أثرها يتزايد يوماً بعد يومٍ إلى ما شاء الله، يظل ثوابها في ميزان حسناته حياً وميتاً.

فلنتواصَ أحبتي بفعل الخير مهما قلّ، وبالأعمال الصالحة مهما بدت لنا صغيرةً، مع استحضار نيةٍ خالصةٍ نقصد بها وجه الله تعالى؛ فيكون لهذا الفعل أو العمل البسيط أثرٌ عظيمٌ ننتفع به في دنيانا وآخرتنا؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

لكن لابد من أن يقول كلٌ منا إذا سُئل لماذا فعلتَ ذلك؟: "(أنا مسلم)"، بل والأفضل أن يقول: “إنني من المسلمين"؛ حتى يوافق ما ورد بالآية الكريمة بالنص، المهم ألا يقلها بانكسارٍ ولا بضعفٍ وخجل، بل بقوةٍ من غير غرور، وبفخرٍ من غير تعالٍ، وبثقةٍ من غير تكبرٍ.

هيا إذن نُسارع ونتسابق في التزود بالأعمال الصالحة وفعل الخيرات؛ وصدق الشاعر حين قال:

تزوَّدْ للذي لا بدَّ مِنهُ

فإن المَوتَ مِيقاتُ العِبادِ

وتُبْ مما جنَيتَ وأنتَ حيٌّ

وكُن مُتَنبِّهًا قبلَ الرُّقادِ

ستَندمُ إن رحَلتَ بغيرِ زادٍ

وتَشقى إذ يُناديكَ المُنادِي

أتَرضى أنْ تَكونَ رفيقَ قومٍ

لهم زادٌ وأنتَ بغيرِ زادِ؟

تقبل الله منا ومنكم ومن جميع المسلمين أعمالنا الصالحة وإن قَلَّت أو صَغُرَت في أعيننا.

https://bit.ly/46r3Gkh

الجمعة، 6 أكتوبر 2023

تاج الكرامة

 خاطرة الجمعة /415

الجمعة 6 أكتوبر 2023م

(تاج الكرامة)

يقول كاتب هذه القصة، التي نشرها قبل عدة أيامٍ على صفحته على فيس بوك: أمرني والدي -بارك الله في عمره- أن أُصحح له نطق كلمةٍ في المُصحف شكّ في نُطقها، وبعد أن صححتها له قال لي: "هل تذكر عندما كنتَ صغيراً وأردتُ لك أن تحفظ القرآن الكريم؟ كنتَ تغضب وتقول لماذا أنا أحفظ وفلانٌ قريبنا لا يحفظ؟! هل فهمتَ الآن كم كنتُ على حق؟ لقد صرتَ الآن أستاذاً جامعياً يُشار إليه بالبنان، بل وصرتَ شيخي الذي يُصحح لي ما يشكل عليّ من كلمات القرآن!". وذكّرني أبي -رعاه الله- بجملةٍ قالها لي وقتها عندما كنتُ أقول له: "لنؤجل حفظ القرآن إلى العطلة الصيفية حتى أستطيع التركيز في دروسي"، قال لي: "عليك أن توقن يا بُني بأن حفظك للقرآن الكريم يُقربك من الله سُبحانه وتعالى، ومن يقترب من الله يُسهل له المذاكرة ويجعله من المتفوقين".

الحمد لله -بفضل الله سبحانه- ثم بحرص والديَّ حفظتُ القرآن في سن العاشرة؛ وتفوقتُ في دراستي، وعُينتُ معيداً بالجامعة، ثم سافرتُ من «مصر» ودرستُ الماجستير والدكتوراه، والحمد لله عملتُ كأستاذٍ ومُحاضرٍ في عدة أماكن في دول مختلفةٍ، ولي بحوثٌ منشورةٌ بأكثر من لغةٍ ولله الحمد، وأتحدث أربع لغاتٍ بجانب العربية، وأتعلم الآن اللغة الخامسة والحمد لله؛ إلا أن أعظم ما أحب أن أقدم به نفسي أنني أعمل مُعلماً للقرآن الكريم منذ أن كنتُ طالباً في الصف الأول الثانوي إلى يومنا هذا، بجانب عملي الأكاديمي كأستاذٍ جامعي، ورغم أنني أعيش في «أوروبا» إلا أنني لم أنقطع بفضل الله عن تعليم القرآن، ولي بعض البرامج للتحفيظ عبر شبكة الإنترنت.

لعلكم تتساءلون الآن هل أقول لكم هذا الكلام من باب التفاخر مثلاً؟ حاشا لله، أنا أذكر هذا الكلام الآن لسببين؛ الأول: أنني لم أرَ أن القرآن كان عائقاً لي عن تحقيق أهدافي؛ بل على العكس أعتبر أن أي إنجازٍ حققه هذا العبد الضعيف في حياته فالسر الذي وراءه هو بركة القرآن. الثاني: أن المدارس في «مصر» تبدأ هذا الأسبوع، وكثيرٌ من الآباء والأمهات يجعلون أبناءهم يتغيبون عن حلقات تحفيظ القرآن الكريم بسبب بدء الدراسة؛ بزعم أن القرآن سيعطلهم عن الدراسة، ويا للعجب! لا تنسوا أن [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ]. فالطفل بطبيعة الحال لا يعرف ما الذي ينفعه في مستقبله وما الذي يضره، فواجب الوالدين توجيهه وتعليمه بكل حبٍ وحنان. وإن أعظم ما توجهون إليه أبناءكم هو حفظ كتاب الله؛ فيكون سبباً في أن يلبسوا (تاج الكرامة) يوم القيامة.

ليس صحيحاً أن حفظ القرآن يحتاج إلى تركيزٍ ويُعطلهم الأبناء عن المذاكرة! بل -وأقولها عن يقينٍ تام- إن بركة القرآن ستسهل للأبناء كل صعب. صدقوني… إن أردتم أن تجمعوا لأبنائكم أسباب الهداية والتوفيق، وتضعوهم على الطريق الصحيح في هذا الزمن -الذي أصبحت فيه الفتن كأمواج بحر هائج- فعليكم بالقرآن، ربوهم على مائدة القرآن، فكتاب الله هو العاصم، وقد قيل: "تعليم الصبيان القرآن أصلٌ من أصول الإسلام؛ فينشأون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها وسوادها بأكدار المعصية والضلال". بطبيعة الحال كنتُ وقتها لا أدرك لماذا أنا فقط دون بقية أصدقائي وأقاربي يجب عليَّ أن أحفظ القرآن، لم أفهم إلا بعدما كبرتُ، وأدركتُ أن القرآن أعظم نعمةٍ ينعم الله بها على عبدٍ في هذه الدنيا.

ممتنٌ لأبي وأمي -بارك الله في عمرهما- على قرارهما في ذلك الوقت الذي لم أكن أدرك أن فيه نفعي ومصلحتي في دُنياي وأُخراي، وممتنٌ لشيوخي الذين علموني ومنحوني أعظم شيءٍ في هذا الكون؛ كلام ربي، وأدعو الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن، وأن يجعله شاهداً لنا لا علينا.

 

أحبتي في الله.. ذكّرتني هذه القصة بتدوينةٍ كتبتها إحدى الحاصلات على شهادة الدكتوراه من جامعةٍ أجنبيةٍ ونشرتها على موقع التدوين المصغر «X» «تويتر سابقاً» قالت فيها: "مسكينٌ الطفل الذي يدخله أبوه مركز تحفيظ قرآن ولا يُعلمه اللغة الإنجليزية؛ فيكبر وينصدم بأن كل الوظائف شرطها اللغة الإنجليزية ولا توجد أية وظيفةٍ تشترط حفظ القرآن". فكتب أحدهم رداً عليها: "حفظتُ القرآن كاملاً وأنا ابن الـ 14 ونلتُ المركز الأول في الثانوية العامة، وأجيد الآن ثلاث لغاتٍ يا دكتورة. حفظي للقرآن لم يُعيقني عن أتخرج وأكون الأول على دفعتي ب«أمريكا» وبلغةٍ ليست لغتي الأم، وكنتُ من القلائل الذين يُحرزون العلامة الكاملة 100 بالـ100؛ فتعلم القرآن وحفظه يُضيء العقل والروح، ولا ينكر ذلك إلا جاهل".

ويقول أحد الأطباء النفسيين: "زارني في عيادتي كل فئات المجتمع عدا أهل القرآن وحفظته".

 

وعن فوائد حفظ القرآن الكريم بيّن أحد المختصين أنّ من أهمها تحسين الأخلاق والسلوك، تقوية الذاكرة وتنشيط الذهن خاصةً لدى الأطفال، تعويد اللسان على الفصاحة والبيان، تعزيز أساليب التعبير الشفوي والكتابي، تنمية مهارات القراءة، إلى جانب حُسن التدبر والتفكر والفهم السليم. ومنها أيضاً صفاء الذهن، التخلص من الخوف والقلق، قوة المنطق، التمكن من الخطابة، تطوير المدارك، القدرة على الاستيعاب والفهم، الإسهام في حِفظ القرآن الكريم من التحريف والضياع، تسهيل تلاوة كتاب الله في كلّ مكانٍ وزمانٍ، الطمأنينة والاستقرار النفسي، الإحساس بالقوة والهدوء والثبات، والقدرة على بناء علاقات اجتماعية أفضل وكسب ثقة الناس. هذه بعض الفوائد الدُنيوية. أما عن الفوائد الأُخروية فهي أكبر بكثيرٍ، منها: التقرُّب إلى الله تعالى، ونَيْل رضاه، والفوز بالجنّة والرضوان والنعيم المقيم، ولبس (تاج الكرامة)، والقُرب من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهل هناك أجمل من معية الله ورسوله يوم القيامة؟

يقول تعالى: ﴿إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ].وقال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ]. وقَالَ أيضاً: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وقَالَ كذلك: [يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً].

وعن تكريم والديّ حافظ القرآن؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا]. وقال عليه الصلاة والسلام عن حافظ القرآن: [..وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ].

 

لقد سهّل ويسّر الله عزَّ وجلَّ حفظ القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، قال مفسرو هذه الآية: "ولقد يسَّرْنا وسهَّلْنا هذا القرآنَ الكريمَ؛ ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنه أحسن الكلام لفظاً، وأصدقه معنًى، وأبينه تفسيراً، فكلُّ مَن أقبل عليه يسَّر الله عليه مطلوبه غايةَ التيسير، وسهَّله عليه".

إن انقطاع الطفل عن حفظ القرآن لمجرد بدء الدراسة ترسيخٌ لِوَهْمِ أن حفظ القرآن مانعٌ له من التفوق الدراسي، ووالله ما وجد الخيرون تفوقاً إلا بالقرآن.

 

أحبتي.. الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر؛ لذا علينا أن نحرص على تحفيظ أبنائنا القرآن الكريم في صغرهم، وحتى إذا كبروا ومهما تقدم بهم العمر؛ لقد صدق من قال إنَّ خير ما صُرِفَ فيه الوقتُ هو حفظُ القرآنِ، فاستثمِروا أبناءكم فيه؛ فإنَّ حافظ القرآن يتلوه ولو كان كفيف البصر، أو مريضاً على فِراشِه، أو مسافراً لا يجد مُصحَفاً يقرأ فيه، يتلوه في كل وقتٍ؛ لأنَّه يحمل القرآن في صدره، فهو يقرأ منه أنَّى شاء، ويؤهله حفظ القرآن لأن يلبس (تاج الكرامة) وحُلة الكرامة، وينعم برضوان الله سبحانه وتعالى. أما والدا حافظ القرآن فهنيئاً لهما يُلبسان تاجيْن من نورٍ، ويُكسيان حُلتيْن لا يقوم لهما أهل الدنيا "أي: لا يُمكن لأهل الدنيا تحديد قيمة هذه الثياب"، أين هذا كله من آباءٍ وأمهاتٍ يحرصون على إيقاظ أبنائهم مبكراً، لا ليصلي الفجر جماعةً في المسجد، أو ليحفظ القرآن، وإنما ليلحق بموعد التدريب في النادي؟ نعم الرياضة مهمةٌ، و[المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ]، لكن ماذا لو جمعنا بين الحُسنيين؛ الرياضة وحفظ القرآن؟ وإذا كان لابد من تفضيل أيٍ منهما على الآخر، فما هو الخيار الأفضل سواءً للأبناء أو للوالدين؟ سؤالٌ أترك إجابته لكم.

اللهم اجعلنا من حفظة كتابك، واجعلنا ممن يحرصون على تحفيظ أبنائهم القرآن الكريم؛ فيصبحوا مميزين في الدنيا، مكرمين في الآخرة، يشفعون لنا، ويكونون سبباً في رفع درجاتنا؛ فنكون -نحن وهُم- من المفلحين الفائزين، ومن ورثة جنة النعيم خالدين فيها.

https://bit.ly/3tuOkws

الجمعة، 29 سبتمبر 2023

وراء كل بلاءٍ حكمة ربانية

 خاطرة الجمعة /414

الجمعة 29 سبتمبر 2023م

(وراء كل بلاءٍ حكمة ربانية)

خلّف إعصار «دانيال» الذي ضرب «ليبيا» قبل عدة أيامٍ مئات القتلى والمفقودين في أكبر كارثةٍ من نوعها تشهدها «ليبيا» منذ 40 عاماً. وصل عدد قتلى الفيضانات التي نجمت عن الإعصار المدمر في «درنة» وحدها إلى 20 ألف شخصٍ، واختفت أحياءٌ بأكملها في البحر عندما اجتاحت سيولٌ من المياه فيما يشبه التسونامي المدينة الساحلية في شرق «ليبيا». ووصف الناجون الوضع بأنه يتجاوز الكارثة.

فتاةٌ من مدينة «درنة» نجت من أهوال الإعصار كتبت تصف ما حدث:

بسم الله وحده وبعد: في يوم الأحد العاشر من سبتمبر الجاري استيقظتُ فجراً كما أحب دائماً، صليتُ وقرأتُ أذكاري ووِردي، لنقُل إن هذا اليوم حاز الترتيب الأول في كونه مُرتباً عن سائر أيام هذا العام؛ قُمتُ بالرياضة لمدة ثلاثين دقيقةً، سعادةٌ ونشاطٌ مع أنغام أنشودة "ماضٍ كالسيف"، أعددتُ الشوفان، وأخذتُ ساعةً من دراسة محاضرة "نساء وولادة" التي تغيبنا عنها يوم السبت نتيجة إعلاناتٍ سابقةٍ عن إعصارٍ شديدٍ قادمٍ، لم يأبه لأمره أحد! حان موعد صلاة الضُحى فصليتُ

ثم قمتُ بأعمال المنزل من تنظيفٍ وترتيبٍ وتنسيقٍ بروحٍ مبهجةٍ سعيدةٍ بإنجازات يومها اللطيف، وقلبٍ مليئٍ بالحَمْد والشُّكر على نِعمة الإيواء والمنزل والأهل. جاءت الرابعة عصراً، وبعد صلاة العصر جلستُ أنا والعائلة، واحتسينا القهوة مع أصوات الضحكات والمزاح اللطيف. بعد المغرب قمتُ أنا وصديقتي على التليجرام بتكرار ما تيسر من سورة يونس لمدة ساعةٍ كاملة.

بدأت شبكة الإنترنت تضعف تدريجياً بسبب الأمطار الغزيرة غير المعتادة؛ فهي أمطارٌ غزيرةٌ في شهر سبتمبر، ومع ذلك فقد اعتدنا على صوتها. أحب المطر وأحب أن أتبلل بقطراته، لكن هذه المرة لم أُرد رؤيته أبداً، ولم أخرج لتمسني قطرةٌ واحدةٌ منه؛ كنتُ أشعر أنه ثمة شيءٍ غريبٍ سيحدث! صليتُ العشاء وقلتُ في نفسي أنام ثم استيقظ الرابعة فجراً لقيام الليل. كتبتُ قبل نومي إنجازات اليوم، ثم وضعتُ مذكرتي جانباً، قرأتُ أذكاري ونمت! ساعتان وصوت المطر يعلو، الرياح أصبحت شديدةً شديدةً لا كلام يصفها! الرعد والبرق في تزايد، استيقظتُ بقلبٍ مرتجفٍ، قلتُ: "يا ويح نفسي؛ أأنام وآياتُ الله أراها عياناً حولي؟". توضأتُ وطرحتُ سجادة الصلاة أمامي، ثم أتيتُ بمصحفي. قُضيت ساعةً بين صلاةٍ واستغفارٍ وتلاوة القرآن. كنتُ قد تلوتُ آيات سورة الأحقاف: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ وتأملتُ كيف عذبهم الله بالرياح والأمطار ﴿قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ثم آتيتُ على كلمة ﴿تُدَمِّرُ﴾ فناديتُ: "أتراكَ يا ربِّ تدمرنا؟! أترانا نرى ما رأى قوم عادٍ ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ أترانا نحنُ مُجرمين؟!".

أصوات الرياح تزداد، تحولت من رياحٍ عادِيّةٍ إلى رياحٍ عاتيةٍ شديدة الهبوب! بدأ الماء يدخل إلى المنزل بالتدريج! يذهب أخي كل عشر دقائق ليطمئن على أن سيارته لم تغرق؛ فهي أغلى ما يملك، وفيها ماله وممتلكاته! أمي تطمئن على السجاد بأنه لم يتبلل! أختي رأت الحل أن تذهب لتنام في الطابق السفلي بعيدةً عن ضجيج العائلة وصوت المطر! أنا على سجادة الصلاة أبكي وأتضرع: "إن كان بلاءً فيا رب خفِّف، وإن كان مجرد مطرٍ فيا رب أنزل السكينة والطمأنينة على قلبي"؛ فقد كنتُ أُعاني حينها من ضربات قلبٍ شديدةٍ زادت تخوفي! خرجتُ من غرفتي وقت أن أراد أخي النزول ليطمئن على سيارته للمرة العاشرة، يفتح وميض الضوء تجاه باب المنزل، وهنا كانت الصدمة؛ الماء يتدفق بغزارةٍ داخل المنزل، وأختي نائمةٌ في الطابق السفلي، ذهب أخي مسرعاً ليوقظها، صرخات أمي تعلو تُنادي عليها، سمِعت أختي صراخنا أرادت الخروج من باب الشقة السفلية وإذا بباب المنزل ينقلع من مكانه فيتدفق سيلٌ من الماء، من رحمة ربي أن انقلاع الباب لم يأتِ بصورةٍ مستقيمةٍ وإلا ماتت أختي على الفور. أرسل أخي يده كي تتشبث أختي بيده بسرعةٍ، وفي لمح البصر وصل الماء إلى الطابق الثاني؛ فذهبنا مسرعين إلى الطابق الثالث ثم خرجنا إلى سطح المنزل! الماء يعلو والأمطار تتزايد؛ صعِدنا إلى أعلى قُبة المنزل بجوار خزان المياه. السماء فوقنا مباشرةً وسيول الماء تعلو تحتنا. احتمال أن ينهدم المنزل صارت كبيرةً جداً؛ لوقوعه في بيئةٍ ترابيةٍ رطبةٍ. صراخنا يعلو: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، الرجال كالنساء؛ الكل يبكي وبشدة، الموت أمامنا لا محالة! حينها لم أفكر في خِزانة ملابسي، ولا نوع الطعام المفضل لدي! لم آبه بإكسسواراتي المفضلة! ولا فلانةٌ لماذا لم تتصل بي، ولا حتى بهاتفي! كنتُ فقط أتذكر أعمالي وبماذا سألاقي ربي؟ ماذا أعددت لهذه اللحظة؟ هل ربي راضٍ عنّي؟ ماذا كان حجابي؟ هل كان كما يُحبّ الله؟ لم أمنح في حياتي للقرآن وقتاً كثيراً

هل سأموت شهيدةً ويتقبلني ربي من الشهداء؟ أم غير ذلك؟! ظللتُ أردد آيات قصة نوحٍ عليه السلام: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾، ومن كان منزله من طابقٍ واحدٍ انجرف تحت السيل وكان من المُغرقين!

رأيتُ أهوالاً كأنها أهوال يوم القيامة

﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾. في تلك الساعة الجميع يلفظ كلمة التوحيد، الجميع يستغفر ويتوب من شدة ما يرى. لم اهتم بأبي ولا أمي ولا إخوتي؛ كانت نفسي هي شغلي الشاغل: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾، وأنا لي شأنٌ يُغنيني عن غيري؛ فإما جنةٌ أو نارٌ لا ثالث لهما! ثلاث ساعاتٍ قضيناها تحت هذا الرعب، يعجز اللسان عن وصف ما فيها من خوفٍ ورجاءٍ؛ أصبحت أصواتنا تعلو ونُنادي: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، وكلنا بين ساجدٍ ومتضرعٍ يناجي ربه: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾؛ فما رفعتُ رأسي من السجود إلا وسمعتُ جارنا الذي يعلونا بطابقٍ يبشرنا: "منسوب المية قلّ، منسوب المية قلّ"؛ فحمدنا الله وشكرناه، وسألناه أن يُسخِّر لنا من يأتي لإنقاذنا. كبَّر المؤذن لصلاة الفجر، صلينا الفجر تحت المطر الخفيف. بكيتُ كثيراً لأنها كانت أول مرةٍ أصعد فيها إلى سطح المنزل المكشوف بدون خمار! ناديتُ الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، أن يسترني دنيا وآخرة، وأن يرفع عنا البلاء، ويغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، وأن يشملنا بعفوه، وأن يُحسن خاتمتنا، ويتقبل منا أعمالنا الصالحة ويغفر لنا زلاتنا. ناجيته بكل عملٍ صالحٍ قدمته، وتذكرتُ ذنوبي فاستحييتُ منها ومسني الخجل؛ فسألته المغفرة وأن يُعاملنا بما هو أهلٌ له، ولا يُعاملنا بما نحن أهلٌ له؛ فهو ربٌ كريم. أخذتُ أردد: "نِعم الربّ ربّي، وبئس العبد أنا! عصيتك جاهلاً يا ذا المعالي ففرِّج ما ترى من سوء حالي!". كان لديّ يقينٌ تامٌ أنه مُنجينا بلا شكّ، وأنّ (وراء كل بلاءٍ حكمة ربانية) وخيراً كبيراً، لكني كنتُ خائفةً من نفسي التي بين جنبيّ أكثر من أي شيءٍ آخر؛ خفتُ أن أكون ممن يذكر الله خالصاً وقت الشدة وينساه وقت الرخاء، فكانت تدور في ذهني كثيراً هذه الآيات: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾، ﴿وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ . فَلَمَّآ أَنجَاهُمۡ إِذَا هُمۡ يَبۡغُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ﴾. يا ويحَ نفسي إن هي عادت للتبذير والإسراف!

أتممنا صلاة الفجر، انتظرنا الشروق، توقف المطر، منسوب المياه قلَّ، الرياح توقفت؛ رددتُ: "اللهم دفئاً وسلاماً، اللهم لا غيم، اللهم شمساً مشرقة". أشرقت الأرض بنور ربها؛ وسُجّل ذلك اليوم على أنه يومٌ عالميٌ لم يُرَ مثله منذ قرون. نزلنا إلى السطح أسفل خزان المياه، نظرتُ للأسفل إلى شارعنا فشاهدتُ الدمار؛ فكانت آية ربّي في قوم عادٍ حقاً ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ لم أرَ حينها سوى بعض المساكن، ولم يسلم بيتٌ واحدٌ من الغرق والخراب، ذهبت سيارة أخي الفاخرة فوق الشجرة، وسيارات الجيران كل واحدةٍ في مكان، الأرض مليئةٌ بالجثث والموتى، الطابق الأول من منزلنا وجدنا فيه جثتين لفتاتين شابتين، وجثة حمار المزرعة وجثة خروف الجار، وكذلك نخيل الشارع. كل البيوت تهدمت، كل الممتلكات ضاعت، السعيد الوحيد هو ذاك الذي رأى نفسه وأهله جنبه ولم يغرق منهم أحد!

ذهب التعلق بالدنيا، ذهب حب الدنيا وزينتها من قلبي ومن كل شيء. المدينة تهدمت، الأحياء القريبة من الوادي الذي انفجر تهدمت بالكامل واستوت مع الأرض، كل شيءٍ صار لونه بُنياً بلون الطين! خرجنا هاربين من منازلنا، لم أهتم بملابسي، المهم نقابي ولباسي الشرعي، أريد الستر لا أكثر. سِرنا حُفاةً نصارع الأرض المبللة والطين، مررنا بجانب بيت جارنا الذي مات كل أفراده بالكامل عدا الابن الأكبر، دموع تُذرف، قلبٌ يرتجف. الحال لا يوصف. ودعنا كل شيءٍ؛ ودعنا الأحياء والأموات، ودعنا الذكريات، ودعتُ غرفتي، ونافذة غرفتي التي تطل على النباتات الخضراء، ودعتُ كتبي وأقلامي وذكريات الطفولة، ودعتُ سَكَنِي ومسكني وملاذي الآمن، ودعتُ سجّادتي ومُصحفي. الآن لم يتبقَ لي شيءٌ! تبقى لي القليل فقط، ولم تنته الحكاية بعد.. من مات نجا ومن نجا مات.. والحمد لله رب العالمين. اللهم أجرنا في مصيبتنا هذه، واخلف لنا خيراً منها، والحمد لله رب العالمين.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الكوارث الطبيعية التي وقعت في الآونة الأخيرة -مثل زلزال تركيا وزلزال المغرب وإعصار وفيضانات ليبيا- حملت آلاماً كثيرةً، لكنها كانت تحمل في طياتها آمالاً أيضاً؛ فهي أقدار الله الجارية؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا ‌تَخْوِيفًا﴾ أي تنبيهاً للناس وتحذيراً من معصية الله وتحريضاً على التوبة؛ فإذا اقتضت سنة الله في كونه أن تحدث هذه الكوارث، فالواجب على المؤمن أخذ العبرة والإسراع إلى الطاعة.

إنّ (وراء كل بلاءٍ حكمة ربانية)، ومن البلاء ما هو اصطفاءٌ؛ مثل البلاء الذي يُسلَط على الأنبياء وأتباعهم؛ فعندما سأل أحد الصحابة: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ]. ومن البلاء ما هو ابتلاءٌ وامتحانٌ، وهو عموم ما يقع للمؤمن من البلاء مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. فأحداث الحياة وتحدياتها وتقلباتها، وما يتعرض له المؤمن من مصائب وأمراضٍ وكوارث وأزماتٍ هي امتحانٌ له، فإن أحسن التصرف إيماناً وعملاً كانت له الحُسنى وحاز الثواب من الله. والبلاء تطهيرٌ للمؤمن من ذنوبه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ]. وكان يرى في مثل هذه النوازل خيراً؛ قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ».

 

أحبتي.. الكوارث الطبيعية التي يتعرض لها الإنسان ابتلاءٌ من المولى عزَّ وجلَّ، ولأن (وراء كل بلاءٍ حكمة ربانية) أدركناها أم لم ندركها؛ فإن علينا أن نثق بالله سبحانه وتعالى، ونرضى بقضائه وقدره، ونستثمر فرصة وقوع البلاء لنتذكر عظمة الله وقدرته، ومدى تقصيرنا في حقه، فنُحاسب أنفسنا، ونقترب منه سبحانه أكثر وأكثر، ونزيد من الذِكر والدعاء والعمل الصالح.

أما ضحايا الزلازل والأعاصير والفيضانات فهم شهداء؛ قالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، والمَبْطُونُ، والغَرِيقُ، وصَاحِبُ الهَدْمِ، والشَّهِيدُ في سَبيلِ اللَّهِ]، ندعو لهم بالرحمة والمغفرة، وندعو لأنفسنا ولجميع المسلمين: اللهم بواسع رحمتك، ارحم ضعفنا، وفرِّج همنا، واجبر كسرنا، وآمن خوفنا. اللهم إنا نستودعك أنفسنا وجميع المسلمين، فاحفظنا بحفظك، واكلأنا بعنايتك، وابعد عنا كل شرٍ وأذى. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا.

https://bit.ly/3PBNQw3

الجمعة، 22 سبتمبر 2023

الظاهرون على الحق

 خاطرة الجمعة /413

الجمعة 22 سبتمبر 2023م

(الظاهرون على الحق)

كنتُ قد نشرتُ بالعدد رقم 68 من خواطر الجمعة قبل أكثر من ست سنواتٍ خاطرةً بعنوان "هل أنا حرامي؟!" وردت فيها إشارةٌ إلى مقالٍ صحفيٍ نُشر تحت نفس العنوان وتضمن موقفاً حدث مع طبيبٍ سودانيٍ روى بنفسه ما حدث معه فقال: كان عندي امتحاناتٌ للطب في «أيرلندا»، وكانت رسوم الامتحان 309 جنيهاً ولم يكن لديّ فكةٌ فدفعت 310 جنيهاً. امتحنتُ وانتهيتُ من الامتحان، ومضت الأيام ورجعتُ إلى «السودان» وإذا برسالةٍ تصلني من «أيرلندا» جاء فيها "أنت أخطأت عند دفع رسوم الامتحانات؛ حيث أن الرسوم كانت 309 جنيهاً وأنتَ دفعتَ 310 جنيهاً، وهذا شيكٌ بقيمة واحد جنيه؛ فنحن لا نأخذ أكثر من حقنا"، مع العلم بأن قيمة الظرف والطابع الملصق عليه كانت أكثر من هذا الجنيه!!

بعد نشر الخاطرة وردتني بعض التعليقات التي تتعجب من هذا الموقف، حتى أن البعض أبدى تشككه في صحته، وظن آخرون أن الرجل يبالغ، واعتبر بعضهم أن الموقف مختلقٌ من جهاتٍ لها أجندةٌ خاصةٌ تؤلف وتنشر ما يجعل الناس تنبهر بالثقافة الغربية!

من ناحيتي؛ راودني إحساسٌ بأن الموقف حقيقيٌ وواقعي، وأن الثقافة الغربية -بعيداً عن الأجندات الخاصة والانبهار المبالغ فيه- بها العديد من القيم الإيجابية، كما أن بها قيماً وعاداتٍ سلبيةً في ذات الوقت. وكنتُ أرى فيما قاله محمد عبده بعد عودته من زيارة أوروبا عام 1881م شيئاً من الحقيقة -وليس كل الحقيقة- حين قال: "رأيتُ في أوروبا إسلاماً بلا مسلمين، وأرى في بلادي مسلمين بلا إسلام".

على كل حالٍ، مرت أيامٌ وأسابيع وشهورٌ، بل وسنواتٌ كثيرةٌ حتى حدث معي موقفٌ تفاجأت به؛ كنتُ قبل حوالي شهرٍ قد اتفقتُ مع طبيبٍ جراحٍ على إجراء جراحةٍ بالعينين في إحدى المستشفيات المتخصصة بمدينة «القاهرة»، وقمتُ بدفع كامل التكلفة وعمل التحاليل اللازمة، وتم بعد ذلك بيومين إجراء الجراحة بنجاحٍ، ولله الحمد والمنة ثم للجراح الرائع المتميز الشكر والتقدير. طلب مني الجراح عدم مغادرة المستشفى حتى يمر علينا الطبيب النائب للاطمئنان على نتيجة العملية. حضر الطبيب النائب وطمأننا -أنا وأسرتي- وشرح لنا بالتفصيل التوجيهات التي يجب الالتزام بها، وشرح كيفية استخدام القطرات والأدوية، وأكد على ما يجب تجنبه لمدة شهرٍ كامل. وقبل مغادرة المستشفى حضرت إحدى الممرضات وطلبت مني ضرورة مراجعة "الخزينة" وهي المكان المعتاد لدفع تكاليف العمليات. استغربنا الأمر، وذهب ذهننا إلى أننا قد وقعنا في فخٍ! فقد تمت الجراحة بالفعل، وبطاقة هويتي محجوزة لدى إدارة المستشفى حتى يتم التأكد من أنه ليس علينا أية مستحقات مالية. جهزتُ بعض النقود على سبيل الاحتياط، وأنا لا أعلم كم سيطلبون مني زيادةً عما تم الاتفاق عليه ودفعته بالكامل قبل إجراء العملية، ثم توجهتُ إلى "خزينة المستشفى" فإذا بالموظف المختص يُعيد لي مبلغ 200 جنيه! كان الأمر مفاجئاً تماماً لي، سألته عن السبب؛ فقال: "هذا ثمن أحد مستلزمات الجراحة طلب الطبيب الجراح توفيره لاحتمال استخدامه وقت إجراء الجراحة، لكنه لم يرَ ضرورةً لاستخدامه أثناء إجراء العملية، فكيف نتقاضى ثمن ما لم يتم استخدامه؟". شكرتُ الموظف وغادرنا المستشفى مندهشين غير مصدقين ما حصل! ثم تحولت الدهشة والشعور بعدم التصديق إلى فرحةٍ في نفس كلٍ منا.

 

أحبتي في الله.. لم تكن فرحتنا بقيمة المبلغ المسترد، وإنما في معنى ما حدث وقيمته المعنوية ودلالته الجميلة والمبشرة؛ فالأمانة، وإلزام النفس بالحق، والوفاء بالعقود، أصبحت في زمننا هذا من السلع النادرة.

وتذكرتُ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ] وفي رواية: [وهُمْ كَذلكَ].

يقول علماء الحديث شارحين له إن أمة الإسلام شأنها عند الله عظيم؛ فإنها آخر الأمم في الدنيا، ونبيها خاتم الأنبياء، وقد أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، ودعوته ممتدةٌ إلى آخر الزمان، ومن لوازم امتداد دعوته صلى الله عليه وسلم أن يبقى الحق قائماً في الأمة لا يضيع. وفي هذا الحديث يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة أنها لا تزال فيها طائفةٌ من (الظاهرين على الحق)، وهذه الطائفة مُعانةٌ من الله، منصورةٌ على من خذلها وحاربها.

وقد بشّر صلى الله عليه وسلم أن هذه الطائفة ستكون كذلك على أمر الله مستمسكين، وبه قائمين حتى يأتي أمر الله بقيام الساعة، مما يدل على أن الحق لا ينقطع في أمة الإسلام؛ فهناك من يتوارثه جيلاً بعد جيل، وفيه إشارةٌ إلى بقاء نصر الله لهم وحفظهم. والحديث آيةٌ على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه منذ أخبر بذلك وهذه الطائفة لا تزال موجودةً في الأمة لم تنقطع في زمانٍ من الأزمنة. وفي الحديث: فضل الثبات على الحق والعمل به. وفيه: فضل لزوم هذه الطائفة؛ فإنهم منصورون معانون.

 

أحبتي.. فلنكن دائماً مع (الظاهرين على الحق)، نفعل الصواب ولو قَلَّ فاعلوه، ونبعد عن المنكر ولو كَثُر مُتّبِعوه، ولن يكون ذلك إلا بالتمسك بأحكام القرآن الكريم وبما ترشدنا إليه السُنة المشرفة، فنكون بإذن الله من المُفلحين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

https://bit.ly/46nOVOK

الجمعة، 8 سبتمبر 2023

طريق الاستقامة

 خاطرة الجمعة /412

الجمعة 8 سبتمبر 2023م

(طريق الاستقامة)

كتب يقول: جمعتني به الأقدار بغير ميعادٍ، نظرتُ إليه وقد ارتسمت على مُحياه آثار التعب والإعياء، قرأتُ في وجهه الألم والحسرة والضيق؛ بادرته بالسلام رد عليّ مُرحباً، سألته سؤالاً دفعني إليه ما بداخلي من رغبةٍ في تخفيف بعض ما يعانيه؛ فقلتُ: "أخي مالي أراك مُتعَباً مهموماً؟"، رد عليّ بسرعةٍ يخالطها بعض الارتباك: "لا شيء لا شيء"، عاودتُ سؤاله مرةً أخرى: "أخي أرجوك أفصح لي عما بداخلك لعلي أستطيع مساعدتك"؛ فأجاب: "دعني؛ لا أحد يستطيع مساعدتي"، قلتُ له: "أرجوك اسمح لي أن أشاركك ولو في الهم الذي تحمله، واعلم أن إفصاحك عن بعض ما تعانيه يُهوِّن عليك الكثير والكثير، فلا تحرمني فرصة مساعدتك؛ فإني مشفقٌ عليك"، سكت قليلاً ثم قال: "مشكلتي أن الهمَّ يحاصرني؛ أشعر بضيقٍ شديدٍ، كأن جبال الدنيا كلها قد وُضعت على صدري؛ همومٌ متتابعةٌ، أرقٌ بالليل وشقاءٌ بالنهار، حاولتُ تبديد تلك الهموم، فعلتُ كل شيءٍ؛ غنيتُ ورقصتُ، سافرتُ وعبثتُ وسكرتُ وأدمنتُ، صاحبتُ أشقى الأصدقاء وتعرفت على أجمل النساء، فلم ازدد إلا شقاءً وبلاءً؛ فقُل لي بربك هل أجد عندك الدواء؟ لا أخفيك سراً أني تمنيتُ الموت لأتخلص من حياة الضنك والشقاء التي أنا فيها، فهل تملك حلاً لمشكلتي؟ لا أظن ذلك". بادرته بابتسامةٍ ممزوجةٍ بالشفقة وقلتُ له: "نعم أملك الحل لمشكلتك، وهو هينٌ يسيرٌ "، قال: "أتهزأ بي وقد كشفتُ لك مكنون صدري الذي لم أكشفه لأحدٍ قط؟"، قلتُ له: "لا أهزأ بك، بل أُقسم لك بالله أنك تملك العلاج وبيدك أنت زمامه"، أجابني بلهفةٍ: "قُل لي ما هو هذا الحل الذي يُخرجني من ألمي وحيرتي وشقائي؟".

قلتُ له: "أيها الحبيب إن دواءك في أن تلزم (طريق الاستقامة) على أمر الله"، ضحك ضحكةً ساخرةً وقال: "الاستقامة! لماذا الاستقامة؟ هل تريد أن تزيدني تعقيداً وهماً وضيقاً؟ ألا يكفي ما أعانيه؟ فقد سألتُ عن حياة المستقيمين فقيل لي أنهم معقدون يحرّمون كل شيءٍ، لا يعرف الضحك إلى ثغورهم سبيلاً، كل أوقاتهم حزنٌ وبكاءٌ، فكيف أجد في حياتهم الدواء؟"، قلتُ له: "هل جربتَ بنفسك الاستقامة؟ هل عاشرتَ أحد المستقيمين؟"، قال: "لا ولكن لماذا الاستقامة؟ أتظن أنها ستحل مشكلتي؟ ولماذا الاستقامة بالذات؟"، قلتُ له: "أما وقد أكثرتَ عليَّ السؤال لماذا الاستقامة؟ فأمهلني بعض الوقت أجيبك عن هذا السؤال، فهل في وقتك متسعٌ كي أبين لك كيف يكون (طريق الاستقامة) سبباً للسعادة ولماذا الاستقامة بالذات؟"، أجابني: "تفضل فوقتي كله ملكٌ لك؛ فالفراغ يكاد يغتالني"، قلتُ: "إذاً فتحملني حتى أُتم حديثي، ولي رجاءٌ ألا تقاطعني، فقط أعرني سمعك"، قال: لا بأس لا بأس تفضل". وجدتها فرصةً سانحةً لأبين لهذا الشخص المهموم أن (طريق الاستقامة) على أمر الله هو الطريق الصحيح لتحصيل السعادة الحقيقية. بدأتُ معه بتوضيح معنى الاستقامة، ثم بينتُ له أنها طريقٌ تبدأ بالتوبة في الدنيا وتنتهي بالفوز بالجنة في الآخرة. وختمتُ حديثي معه بأن الاستقامة سببٌ للفوز بالجنة والرضوان ورؤية المولى عز وجل وزيارته سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ . ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ . لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ . سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَها كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمالِ فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وثِيابِهِمْ، فَيَزْدادُونَ حُسْنًا وجَمالًا، فَيَرْجِعُونَ إلى أهْلِيهِمْ وقَدِ ازْدادُوا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقولُ لهمْ أهْلُوهُمْ: واللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقولونَ: وأَنْتُمْ، واللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والذينَ علَى إثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، لا اخْتِلَافَ بيْنَهُمْ ولَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ منهمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ واحِدَةٍ منهما يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِن ورَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ، ولَا يَمْتَخِطُونَ، ولَا يَبْصُقُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، ووَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الألُوَّةُ - يَعْنِي العُودَ -، ورَشْحُهُمُ المِسْكُ.]. كما قال: [يُنادِي مُنادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا. فَذلكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِن لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُها سِتُّونَ مِيلًا، في كُلِّ زاوِيَةٍ مِنْها أهْلٌ، ما يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عليهمُ المُؤْمِنُونَ، وجَنَّتانِ مِن فِضَّةٍ؛ آنِيَتُهُما وما فِيهِما، وجَنَّتانِ مِن كَذا؛ آنِيَتُهُما وما فِيهِما، وما بيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلَّا رِداءُ الكِبْرِ علَى وجْهِهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [..ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ].

قلتُ لصاحبي: "هل تخيلتَ نفسك وأنت في هذا النعيم وقارنته بحالك الآن وما أنت فيه من تعاسةٍ وشقاءٍ وضنك؟" قال: "يكفي يكفي؛ فأنا على يقينٍ تامٍ أنه لا سبيل إلى السعادة الحقيقية إلا بالتزام (طريق الاستقامة) على أمر الله، وإني لفي شوقٍ عظيمٍ إلى هذه الحياة".

للحق ظل مُنصتاً لي لم يُقاطعني، بل وكان كأنه يسمع بقلبه قبل أُذنيه؛ فكنتُ أرى بأم عينيّ مدى تجاوبه مع ما أقول، حتى إذا انتهيتُ من كلامي سألني: "ولكن هل سيتوب الله عليّ وقد فعلتُ من الجُرم ما تستحي منه السماوات والأرض؟"، اقتربتُ منه ووضعتُ يديّ على كتفه وقلتُ له: "كيف لا يقبلك الله وقد وسعت رحمته كل شيء؟ كيف لا يقبلك وهو سبحانه القائل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟ كيف لا يقبلك وهو القائل في الحديث القدسي: { ...يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ...}؟ كيف لا يقبل توبتك وهو القائل في حديثٍ قدسيٍ آخر: {يا ابنَ آدمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي. يا ابنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي. يا ابنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئًَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً}؟

قلتُ له: "أخي الحبيب هيا تقدم واغسل قلبك من نهر التائبين، هيا فِر إلى ربك عزَّ وجلَّ لتظفر بخيري الدنيا والآخرة، هيا انضم إلى قوافل التائبين وركب المنيبين". وأردفتُ قائلاً: أخي أصغِ إليّ أزف إليك بشرى عظيمةً من ربك الكريم الجواد الرؤوف الرحيم الذي يقول: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾، إنها بُشرى أرحم الراحمين هديةً لجميع المذنبين تريحهم من أثقال الذنوب وآصار الخطايا وحر الآثام السالفة، بل تُحيلها إلى مصدرٍ للفرح والسرور، تلك البُشرى هي أن الله يُبدِّل السيئات إلى حسناتٍ؛ يقول سبحانه:﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾. قال لي والبِشر يلوح على محياه، وعيناه تذرف بالدموع: "كل سيئاتي السابقة؟ كل جُرمي وزللي يبدلها إلى حسنات؟! ما أرحم الله عليّ وما أرأفه بي وما أعظم إمهاله". قلتُ له: أخي الحبيب هيا بادر إلى التوبة، ضع يدك في يدي لا تتردد أو تتأخر؛ ألم تسمع قول الشاعر:

فبادِر إذا مادام في العمر فُسْحَةٌ

وعَدْلُكَ مقبولٌ وصرْفُكَ قيِّمُ

وَجِدَّ وسارِعْ واغتَنِمْ زمَنَ الصِّبا

ففي زمن الإمْكانِ تسْعَى وتَغْنَمُ

ارتمى في أحضاني وهو ينشج بالبكاء، ويُردد: "جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً، أشعر وكأني وُلدت من جديد، أشعر أني مخلوقٌ آخر، أين حياة الضنك التي كنت أعيشها؟ أين البؤس والشقاء الذي كان يلازمني؟ أشعر بسعادةٍ عظيمةٍ لم أشعر بها من قبل، أعدك أن أسلك طريق الاستقامة ولا أحيد عنه أبداً بإذن الله تعالى".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. قيل: "إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياةٌ طيبةٌ في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمةً رغدةً ثريةً بالمال فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرةٌ غير المال تطيب بها الحياة؛ ففيها الاتصال بالله والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكينة النفوس ومودة القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة". وقيل عن ثواب (طريق الاستقامة): "الإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذِكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثوابٌ عاجلٌ وجنةٌ، وعيشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه البته". وكان بعض العارفين يقول: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف".

 

أحبتي.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، ولزوم (طريق الاستقامة)؛ يقول تعالى: ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، وتكون الاستقامة بالمحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل، وملازمة القرآن تلاوةً وحفظاً وتدبراً، ومداومة الذِكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحُسن الخُلُق.

والحذر الحذر من رفقاء السوء فإنهم أساس كل بلاءٍ، علينا اختيار الرفقة الصالحة التي تُعيننا على (طريق الاستقامة) والهداية؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾.

اللهم أعنّا على التقوى ولزوم (طريق الاستقامة)؛ فأنت الهادي لكل خير.

https://bit.ly/44DVKKU

الجمعة، 1 سبتمبر 2023

صلاة الفجر على وقتها

 خاطرة الجمعة /411

الجمعة 1 سبتمبر 2023م

(صلاة الفجر على وقتها)

 

*تحذير:* لا أنصح ضعاف القلوب بقراءة هذه الخاطرة.

هي قصةٌ حقيقيةٌ بطلها رجلٌ سعوديٌ فوَّت صلاة الفجر جماعةً بالمسجد أكثر من مرة؛ فكتب يقول: حدث أن فاتتني صلاة الفجر، وهي صلاةٌ مَن كان يُحافظ عليها ثم فاتته يستشعر ضيقاً شديداً طوال اليوم. تكرر معي نفس الأمر في اليوم التالي؛ فقلتُ لابد وأن في الأمر شيئاً، ثم تكرر ذلك للمرة الثالثة على التوالي! هنا كان لابد أن أقف مع نفسي وقفةً حازمةً، وأن أُعامل نفسي بشدةٍ وصرامةٍ حتى لا تركن لمثل ذلك فأُفَوِّت على نفسي ثواب (صلاة الفجر على وقتها)؛ فتذهب بي إلى النار. فكرتُ ثم قررتُ أن أدخل القبر حتى أؤدب نفسي، فلابد من أن ترتدع، وأن تعلم أن هذا هو منزلها ومسكنها إلى أن يشاء الله. كان قراري نهائياً وغير قابلٍ للمراجعة؛ فأنا أدرى بنفسي. لم يبقَ أمامي سوى التنفيذ، لكنني وجدتُ نفسي أُؤجل وأُسوِّف وأقول لنفسي كل يومٍ: "دع هذا الأمر إلى الغد". استمر الوضع على هذا الحال حتى فاتتني صلاة الفجر مرةً أخرى! حينها قلتُ: "كفى"، وأقسمتُ أن يتم هذا الأمر الليلة.

ذهبتُ بعد منتصف الليل حتى لا يراني أحد، وقفتُ قليلاً: أأدخل من الباب أم أتسور السور؟! اتجهتُ صوب الباب فلعل حارس المقبرة غير موجود، لكن إن كان موجوداً سأوقظه فماذا أقول له؟! وربما منعني أو طلب مني المجيء في النهار وحينها يضيع قسمي، فقررتُ أن أتسور السور، تلثمتُ، رفعتُ ثوبي واستعنتُ بالله وتسلقت. برغم أنني دخلتُ هذه المقبرة مراتٍ ومراتٍ مُشيِّعاً إلا أنني أحسستُ أنني أراها لأول مرةٍ، ورغم أنها كانت ليلةً مُقمرةً إلا أنني أكاد أُقسم أنني ما رأيتُ أشد منها سواداً، كانت تلف المكانَ ظلمةٌ حالكةٌ ويسوده سكونٌ رهيب، هذا هو صمت القبور بحق. تأملتُ المقبرة كثيراً من أعلى السور واستنشقتُ هواءها، نعم إنها رائحة القبور، أُميزها عن ألف رائحة؛ رائحة الحنوط، رائحةٌ تحمل طعم الموت والبلى. جلستُ على السور أتفكر للحظاتٍ مرت كالسنين: إيهٍ أيتها القبور، ما أشد صمتك، وما أشد ما تخفيه؛ ضحكٌ ونعيمٌ، وصراخٌ وعذابٌ أليم. ماذا سيقول لي أهلك لو حدثتهم؟ لعلهم سيقولون مقولة الحبيب صلى الله عليه وسلم: [الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]. قررتُ أن أهبط حتى لا يراني أحدٌ في هذه الحالة؛ فلو رآني أحدٌ فسيقول إنني مجنونٌ أو لديّ مصيبة. وبالفعل لديّ مصيبةٌ كبيرةٌ، وأية مصيبةٍ أكبر من ضياع صلاة الفجر عدة مرات؟

هبطتُ داخل المقبرة، أحسستُ حينها برجفةٍ في القلب، ووجدتني ألتصق بالجدار، ولا أدري ممَّ أحتمي؟ عللتُ ذلك لنفسي بأنه خشية المرور فوق القبور وانتهاكها! أنا لستُ جباناً لكنني شعرتُ بالخوف حقاً! نظرتُ إلى الناحية الشرقية حيث القبور المفتوحة فاغرةً أفواهها تنتظر ساكنيها، إنها أشد بقع المقبرة سواداً، كأنها تناديني، مشتاقةً إليَّ: "متى ستكون فيَّ؟". أمشي بحذر بين القبور، وكلما تجاوزتُ قبراً تساءلت: "أشقي أم سعيد صاحب القبر؟"، "شقيٌ بسبب ماذا؟ أضيَّعَ (صلاة الفجر على وقتها) مثلي؟ أم كان من أهل الفواحش والربا؟ ربما كان عاقاً لوالديه، أو كان من أهل الغناء والطرب؟". لعل من تجاوزتُ قبره الآن كان يظن أنه أشد أهل الأرض قوةً، وأن شبابه لن يفنى، وأنه لن يموت كمن مات قبله، أو أنه كان يقول: "ما زال في العمر بقية" ففاجأه هادم اللذات. سبحان من قهر الخلق بالموت. أبصرتُ الممر حتى إذا وصلتُ إليه وضعتُ قدمي عليه أسرعت نبضات قلبي؛ فالقبور عن يميني وعن يساري، بدأتُ أولى خطواتي، بدت وكأنها دهر، أين سرعة قدميَّ؟ ما أثقلهما الآن! رفعتُ بصري إلى الناحية الشرقية، تمنيتُ أن تطول المسافة ولا تنتهي أبداً لأنني أعلم ما ينتظرني هناك. أعلم، فقد رأيتُ القبر كثيراً ولكن هذه المرة مختلفةٌ تماماً. أفكارٌ عجيبةٌ؛ أكاد أسمع همهمةً خلف أذنيّ، خفت أن أنظر خلفي، خفتُ أن أرى أشخاصاً يلوِّحون إليَّ من بعيد. خيالاتٌ سوداء تعجب من القادم في هذا الوقت، بالتأكيد إنها وسوسةٌ من الشيطان، لا يهمني شيءٌ طالما قد صليتُ العِشاء في جماعة. أخيراً أبصرتُ القبور المفتوحة، أقسم للمرة الثانية أنني ما رأيتُ أشد منها سواداً. كيف أتتني الجرأة؟ وكيف أوصلتني خطواتي إلى حافة القبر؟! بل كيف سأنزل في هذه الحفرة الضيقة؟! وأي شيءٍ ينتظرني داخلها؟! فكرتُ بالاكتفاء بالوقوف، أو أن أعود من حيث أتيتُ وأُكفِّر عن الحنث بقسمي. ولكن لا، لن أصل إلى هنا ثم أقف أو أتراجع، يجب أن أكمل، لن أنزل إلى القبر مباشرةً بل سأجلس خارجه قليلاً حتى تأنس نفسي، ما أشد ظلمته، وما أشد ضيقه. كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تكون حفرةً من حفر النار أو روضةً من رياض الجنة؟ سبحان الله! يبدو أن الجو قد ازداد برودةً أم هي قشعريرةٌ سرت في جسدي من هول هذا المنظر؟! هل هذا صوت الريح؟! ليست ريحاً؛ فلا أرى ذرة غبارٍ في الهواء!! هل هي وسوسة أخرى؟!! استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، أنزلتُ شماغي {الشماغ غطاء للرأس، ويُسمى: غترة، حطة، سفرة، وكوفية} ووضعته على الأرض، ثم جلستُ وقد ضممتُ ركبتيّ أمام صدري أتأمل هذا المشهد العجيب؛ إنه المكان الذي لا مفر منه أبداً. سبحان الله نسعى لكي نحصل على كل شيءٍ وهذه هي النهاية: "لا شيء"! كم تنازعنا في هذه الدنيا، اغتبنا، تركنا الصلاة، آثرنا الغناء على القرآن.. والكارثة أننا نعلم أن هذا مصيرنا، وقد حذرنا الله منه ورغم ذلك نتجاهل! أشحتُ بوجهي ناحية القبور وناديتُ بصوتٍ خافتٍ وكأني أخشى أن يرد عليَّ أحد: "يا أهل القبور، ما لكم؟ أين أصواتكم؟ أين أبناؤكم عنكم اليوم؟ أين أموالكم؟ أين وأين؟ وكيف هو الحساب؟ أخبروني عن ضمة القبر، أخبروني عن منكر ونكير، أخبروني عن حالكم مع الدود! سبحان الله؛ نستاء إذا قدَّم لنا أهلنا طعاماً بارداً أو لا يوافق شهيتنا، واليوم نحن الطعام للدود. لابد من النزول إلى القبر؛ قمتُ وتوكلتُ على الله، أنزلتُ رجلي اليمنى ثم رجلي الأخرى، افترشتُ شماغي وانطرحتُ على ظهري ووضعتُ رأسي وأنا أفكر: ماذا لو انهال عليَّ التراب فجأة؟! ماذا لو ضُم القبر عليَّ مرةً واحدة؟!

أغلقتُ عينيَّ حتى تهدأ ضربات قلبي، وحتى تخف هذه الرجفة في جسدي. ما أشده من موقفٍ وأنا حيٌ, فكيف سيكون وأنا ميت؟ فكرتُ أن انظر إلى اللحد، هو بجانبي، والله لا أعلم شيئاً أشد ظلمةً منه! يا للعجب!! رغم أنني في حفرةٍ مغلقةٍ إلا أنني أشعر بتيارٍ من الهواء البارد يتسلل إلى جسمي كله!! كم هي قارسةٌ برودة الخوف! خِفتُ أن أنظر إليه فأرى عينين تلمعان في الظلام وتنظران إليَّ بقسوةٍ، أو أن أرى وجهاً شاحباً لرجلٍ تكسوه علامات الموت ناظراً إلى الأعلى متجاهلني تماماً، حينها قررتُ ألا أنظر إلى اللحد؛ ليس بي من الشجاعة أن أخاطر وأرى أيَّاً من هذه المناظر رغم علمي أن اللحد خالٍ، ولكن تكفي هذه المخاوف حتى أمتنع تماماً عن النظر إليه. لا إله إلا الله. تذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا إله إلا اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ]. تخيلتُ جسدي عند نزول الموت يرتجف بقوةٍ وأنا أرفع يديَّ محاولاً إرجاع روحي.. تخيلتُ صُراخ أهلي عالياً من حولي: "أين الطبيب؟! أين الطبيب؟!". ﴿فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، تخيلتُ الأصحاب يحملونني على الأكتاف ويقولون: لا إله إلا الله، تخيلتهم يمشون بي سريعاً إلى القبر، وتخيلتُ أحب أصدقائي إليَّ وهو يُسارع لأن يكون أول من ينزل إلى القبر، تخيلته يضع يديه تحت رأسي ويُطالبهم بالرفق حتى لا أقع، يصرخ فيهم: "جهزوا الطوب"، وتخيلتُ ابني يجري ممسكاً إبريقاً من الماء يناولهم إياه بعدما حثوا عليَّ التراب، تخيلتُهم وهُم يرشون الماء على قبري، ثم تخيلتهم وقد رحلوا وتركوني فرداً وحيداً، تذكرتُ قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾. نعم صدق الله؛ تركتُ زوجتي، فارقتُ أبنائي، تخليتُ عن مالي أو هو تخلى عني. تخيلتُ كأن ملائكة العذاب حين رأوا النعش قادماً ظهروا بأصواتٍ مفزعةٍ وأشكالٍ مخيفة، ينادي بعضهم بعضاً: "هذا هو العبد العاصي؟"، فيقول الآخر: "نعم"، فيقال: "أمشيعٌ متروكٌ أم محمولٌ ليس له مفر؟"، فيجيبه الآخر: "بل محمولٌ إلينا ليس له مفر"، فيُنادى: "هلموا إليه حتى يعلم أن الله عزيزٌ ذو انتقام". رأيتهم يمسكون بكتفي ويهزونني بعنف قائلين: "ما غرك بربك الكريم؟ حتى تنام عن الفريضة؟ ما الذي خدعك حتى عصيتَ الواحد القهار؟ أهي الدنيا؟ أما كنتَ تعلم أنها دار فناء؟ وقد فنيتَ! أهي الشهوات؟ أما تعلم أنها إلى زوال؟ وقد زالت! أم هو الشيطان؟ أما علمتَ أنه لك عدوٌ مبين؟ أمثلك يعصي الجبار والرعد يسبح بحمده والملائكة من خيفته؟! لا نجاة لك منا اليوم، اُصرخ ليس لصراخك مجيب". فجلستُ أصرخ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، وكأني بصوتٍ يهز الفضاء ويزلزل المقبرة يملأني يأساً ويقول: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. بكيتُ ما شاء الله لي أن أبكي ثم قلتُ: "الحمد لله رب العالمين؛ مازال هناك وقتٌ للتوبة.. أستغفر الله العظيم وأتوب إليه".

قمتُ مكسوراً، وقد عرفت قدري، وبان لي ضعفي. أخذتُ شماغي وأزلتُ ما علق به من تراب القبر وعدت.

 

أحبتي في الله.. لا يخفى على مسلمٍ أنَّ (صلاة الفجر على وقتها) لها فضلٌ كبيرٌ بين الصلوات، حتى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها، ولا يُقسم الله إلا بعظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، بل وسماها قرآناً وجعلها مشهودةً؛ يقول تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ فعبّر عن صلاة الفجر بالقرآن؛ لأنه تطول فيها قراءة القرآن. وقال عن قرآنها إنه ﴿كَانَ مَشْهُودًا﴾ إذ تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار حين يجتمعون في صلاة الفجر.

 

وكثيرٌ من الأحاديث النبوية الشريفة تُبين فضل (صلاة الفجر على وقتها)؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ركعتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها]، وقوله عليه الصلاة والسلام عن هاتين الركعتين: [لهُما أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعًا].

وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن صلَّى الصُّبحَ في جماعةٍ فَهوَ في ذمَّةِ اللَّهِ]، أي: في أمان الله، وفي جواره؛ أي: قد استجار بالله تعالى، والله تعالى قد أجاره، فلا ينبغي لأحدٍ أن يتعرض له بضُرٍ أو أذى.

وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن صلى الفجرَ في جماعةٍ، ثم قَعَد يَذْكُرُ اللهَ حتى تَطْلُعَ الشمسُ، ثم صلى ركعتينِ، كانت له كأجرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ].

وفي إشارةٍ إلى صلاتيّ الفجر والعصر قال صلى الله عليه وسلم: [يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ]، وقال كذلك: [لن يَلِجَ النارَ مَن صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ، وقبلَ غروبِها]، كما قال: [منْ صلَّى الْبَرْديْنِ دَخَلَ الْجنَّةَ].

أما عن صلاتيّ العشاء والفجر فقد قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ]، كما قال: [بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ].

 

أحبتي.. يقولون: "إذا لم يكن أول قراراتك الاستيقاظ لصلاة الفجر في موعدها فلا قيمة لتخطيط باقي يومك؛ فقد خسرتَ بداية النجاح"؛ فعلينا ألا نتخلى عن (صلاة الفجر على وقتها) فيضيع علينا ثوابٌ عظيم. إن كان البعض منا مواظباً عليها مع الجماعة في المسجد فهنيئاً له، لكن عليه ألا يغتر أو يظن أنه أفضل من غيره، وليتذكر الآية الكريمة: ﴿كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ فالفضل كله لله، أيقظك وحبَّب إليك الصلاة، وأنعم عليك بالصحة والقدرة على أدائها في وقتها مع الجماعة. أما من تتوفر لديه الصحة والقدرة ولا يحرص على صلاة الفجر مع الجماعة فقد ضيّع على نفسه الكثير من الفضل، وحرم نفسه من ثوابٍ عظيم، وليحذر من غضب الله إذا هو استمر على هذه الحال. نصيحتي لنفسي ولكل مُقصِّر: "ما دمتَ على قيد الحياة فما تزال أمامك فرصةٌ لتصحيح علاقتك مع الله، لكن لا تُسوِّف ولا تؤجِل، بل انوِ واعزم وخُذ بالأسباب وتوكل على الله بإخلاص، وستجده سبحانه وتعالى خير مُعين لك".

إن صلاة الفجر غنيمةٌ لا تُعادلها غنائم الدنيا وكنوزها؛ فهلا حرصنا على أدائها مع جماعة المسلمين في المسجد يومياً؟

أعاننا الله على المواظبة على جميع الصلوات -وخاصةً صلاة الفجر- في المسجد مع جماعة المسلمين، وأن يرزقنا فضلها، ويكتب لنا أجرها، ويُثيبنا عليها كما يُثيب عباده الصالحين.

https://bit.ly/3PkIpTc