الجمعة، 8 سبتمبر 2023

طريق الاستقامة

 خاطرة الجمعة /412

الجمعة 8 سبتمبر 2023م

(طريق الاستقامة)

كتب يقول: جمعتني به الأقدار بغير ميعادٍ، نظرتُ إليه وقد ارتسمت على مُحياه آثار التعب والإعياء، قرأتُ في وجهه الألم والحسرة والضيق؛ بادرته بالسلام رد عليّ مُرحباً، سألته سؤالاً دفعني إليه ما بداخلي من رغبةٍ في تخفيف بعض ما يعانيه؛ فقلتُ: "أخي مالي أراك مُتعَباً مهموماً؟"، رد عليّ بسرعةٍ يخالطها بعض الارتباك: "لا شيء لا شيء"، عاودتُ سؤاله مرةً أخرى: "أخي أرجوك أفصح لي عما بداخلك لعلي أستطيع مساعدتك"؛ فأجاب: "دعني؛ لا أحد يستطيع مساعدتي"، قلتُ له: "أرجوك اسمح لي أن أشاركك ولو في الهم الذي تحمله، واعلم أن إفصاحك عن بعض ما تعانيه يُهوِّن عليك الكثير والكثير، فلا تحرمني فرصة مساعدتك؛ فإني مشفقٌ عليك"، سكت قليلاً ثم قال: "مشكلتي أن الهمَّ يحاصرني؛ أشعر بضيقٍ شديدٍ، كأن جبال الدنيا كلها قد وُضعت على صدري؛ همومٌ متتابعةٌ، أرقٌ بالليل وشقاءٌ بالنهار، حاولتُ تبديد تلك الهموم، فعلتُ كل شيءٍ؛ غنيتُ ورقصتُ، سافرتُ وعبثتُ وسكرتُ وأدمنتُ، صاحبتُ أشقى الأصدقاء وتعرفت على أجمل النساء، فلم ازدد إلا شقاءً وبلاءً؛ فقُل لي بربك هل أجد عندك الدواء؟ لا أخفيك سراً أني تمنيتُ الموت لأتخلص من حياة الضنك والشقاء التي أنا فيها، فهل تملك حلاً لمشكلتي؟ لا أظن ذلك". بادرته بابتسامةٍ ممزوجةٍ بالشفقة وقلتُ له: "نعم أملك الحل لمشكلتك، وهو هينٌ يسيرٌ "، قال: "أتهزأ بي وقد كشفتُ لك مكنون صدري الذي لم أكشفه لأحدٍ قط؟"، قلتُ له: "لا أهزأ بك، بل أُقسم لك بالله أنك تملك العلاج وبيدك أنت زمامه"، أجابني بلهفةٍ: "قُل لي ما هو هذا الحل الذي يُخرجني من ألمي وحيرتي وشقائي؟".

قلتُ له: "أيها الحبيب إن دواءك في أن تلزم (طريق الاستقامة) على أمر الله"، ضحك ضحكةً ساخرةً وقال: "الاستقامة! لماذا الاستقامة؟ هل تريد أن تزيدني تعقيداً وهماً وضيقاً؟ ألا يكفي ما أعانيه؟ فقد سألتُ عن حياة المستقيمين فقيل لي أنهم معقدون يحرّمون كل شيءٍ، لا يعرف الضحك إلى ثغورهم سبيلاً، كل أوقاتهم حزنٌ وبكاءٌ، فكيف أجد في حياتهم الدواء؟"، قلتُ له: "هل جربتَ بنفسك الاستقامة؟ هل عاشرتَ أحد المستقيمين؟"، قال: "لا ولكن لماذا الاستقامة؟ أتظن أنها ستحل مشكلتي؟ ولماذا الاستقامة بالذات؟"، قلتُ له: "أما وقد أكثرتَ عليَّ السؤال لماذا الاستقامة؟ فأمهلني بعض الوقت أجيبك عن هذا السؤال، فهل في وقتك متسعٌ كي أبين لك كيف يكون (طريق الاستقامة) سبباً للسعادة ولماذا الاستقامة بالذات؟"، أجابني: "تفضل فوقتي كله ملكٌ لك؛ فالفراغ يكاد يغتالني"، قلتُ: "إذاً فتحملني حتى أُتم حديثي، ولي رجاءٌ ألا تقاطعني، فقط أعرني سمعك"، قال: لا بأس لا بأس تفضل". وجدتها فرصةً سانحةً لأبين لهذا الشخص المهموم أن (طريق الاستقامة) على أمر الله هو الطريق الصحيح لتحصيل السعادة الحقيقية. بدأتُ معه بتوضيح معنى الاستقامة، ثم بينتُ له أنها طريقٌ تبدأ بالتوبة في الدنيا وتنتهي بالفوز بالجنة في الآخرة. وختمتُ حديثي معه بأن الاستقامة سببٌ للفوز بالجنة والرضوان ورؤية المولى عز وجل وزيارته سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ . ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾، ويقول أيضاً: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ . لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ . سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَها كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمالِ فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وثِيابِهِمْ، فَيَزْدادُونَ حُسْنًا وجَمالًا، فَيَرْجِعُونَ إلى أهْلِيهِمْ وقَدِ ازْدادُوا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقولُ لهمْ أهْلُوهُمْ: واللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقولونَ: وأَنْتُمْ، واللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، والذينَ علَى إثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ علَى قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، لا اخْتِلَافَ بيْنَهُمْ ولَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ منهمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ واحِدَةٍ منهما يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِن ورَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ، ولَا يَمْتَخِطُونَ، ولَا يَبْصُقُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، ووَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الألُوَّةُ - يَعْنِي العُودَ -، ورَشْحُهُمُ المِسْكُ.]. كما قال: [يُنادِي مُنادٍ: إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا. فَذلكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِن لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُها سِتُّونَ مِيلًا، في كُلِّ زاوِيَةٍ مِنْها أهْلٌ، ما يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عليهمُ المُؤْمِنُونَ، وجَنَّتانِ مِن فِضَّةٍ؛ آنِيَتُهُما وما فِيهِما، وجَنَّتانِ مِن كَذا؛ آنِيَتُهُما وما فِيهِما، وما بيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إلى رَبِّهِمْ إلَّا رِداءُ الكِبْرِ علَى وجْهِهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [..ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ].

قلتُ لصاحبي: "هل تخيلتَ نفسك وأنت في هذا النعيم وقارنته بحالك الآن وما أنت فيه من تعاسةٍ وشقاءٍ وضنك؟" قال: "يكفي يكفي؛ فأنا على يقينٍ تامٍ أنه لا سبيل إلى السعادة الحقيقية إلا بالتزام (طريق الاستقامة) على أمر الله، وإني لفي شوقٍ عظيمٍ إلى هذه الحياة".

للحق ظل مُنصتاً لي لم يُقاطعني، بل وكان كأنه يسمع بقلبه قبل أُذنيه؛ فكنتُ أرى بأم عينيّ مدى تجاوبه مع ما أقول، حتى إذا انتهيتُ من كلامي سألني: "ولكن هل سيتوب الله عليّ وقد فعلتُ من الجُرم ما تستحي منه السماوات والأرض؟"، اقتربتُ منه ووضعتُ يديّ على كتفه وقلتُ له: "كيف لا يقبلك الله وقد وسعت رحمته كل شيء؟ كيف لا يقبلك وهو سبحانه القائل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؟ كيف لا يقبلك وهو القائل في الحديث القدسي: { ...يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ...}؟ كيف لا يقبل توبتك وهو القائل في حديثٍ قدسيٍ آخر: {يا ابنَ آدمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي. يا ابنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي. يا ابنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئًَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً}؟

قلتُ له: "أخي الحبيب هيا تقدم واغسل قلبك من نهر التائبين، هيا فِر إلى ربك عزَّ وجلَّ لتظفر بخيري الدنيا والآخرة، هيا انضم إلى قوافل التائبين وركب المنيبين". وأردفتُ قائلاً: أخي أصغِ إليّ أزف إليك بشرى عظيمةً من ربك الكريم الجواد الرؤوف الرحيم الذي يقول: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾، إنها بُشرى أرحم الراحمين هديةً لجميع المذنبين تريحهم من أثقال الذنوب وآصار الخطايا وحر الآثام السالفة، بل تُحيلها إلى مصدرٍ للفرح والسرور، تلك البُشرى هي أن الله يُبدِّل السيئات إلى حسناتٍ؛ يقول سبحانه:﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾. قال لي والبِشر يلوح على محياه، وعيناه تذرف بالدموع: "كل سيئاتي السابقة؟ كل جُرمي وزللي يبدلها إلى حسنات؟! ما أرحم الله عليّ وما أرأفه بي وما أعظم إمهاله". قلتُ له: أخي الحبيب هيا بادر إلى التوبة، ضع يدك في يدي لا تتردد أو تتأخر؛ ألم تسمع قول الشاعر:

فبادِر إذا مادام في العمر فُسْحَةٌ

وعَدْلُكَ مقبولٌ وصرْفُكَ قيِّمُ

وَجِدَّ وسارِعْ واغتَنِمْ زمَنَ الصِّبا

ففي زمن الإمْكانِ تسْعَى وتَغْنَمُ

ارتمى في أحضاني وهو ينشج بالبكاء، ويُردد: "جزاك الله خيراً، جزاك الله خيراً، أشعر وكأني وُلدت من جديد، أشعر أني مخلوقٌ آخر، أين حياة الضنك التي كنت أعيشها؟ أين البؤس والشقاء الذي كان يلازمني؟ أشعر بسعادةٍ عظيمةٍ لم أشعر بها من قبل، أعدك أن أسلك طريق الاستقامة ولا أحيد عنه أبداً بإذن الله تعالى".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. قيل: "إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياةٌ طيبةٌ في هذه الأرض، لا يهم أن تكون ناعمةً رغدةً ثريةً بالمال فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرةٌ غير المال تطيب بها الحياة؛ ففيها الاتصال بالله والثقة به، والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكينة النفوس ومودة القلوب، وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة". وقيل عن ثواب (طريق الاستقامة): "الإقبال على الله تعالى، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذِكره، والفرح والسرور بمعرفته: ثوابٌ عاجلٌ وجنةٌ، وعيشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه البته". وكان بعض العارفين يقول: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف".

 

أحبتي.. أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، ولزوم (طريق الاستقامة)؛ يقول تعالى: ﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، وتكون الاستقامة بالمحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل، وملازمة القرآن تلاوةً وحفظاً وتدبراً، ومداومة الذِكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحُسن الخُلُق.

والحذر الحذر من رفقاء السوء فإنهم أساس كل بلاءٍ، علينا اختيار الرفقة الصالحة التي تُعيننا على (طريق الاستقامة) والهداية؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾.

اللهم أعنّا على التقوى ولزوم (طريق الاستقامة)؛ فأنت الهادي لكل خير.

https://bit.ly/44DVKKU

الجمعة، 1 سبتمبر 2023

صلاة الفجر على وقتها

 خاطرة الجمعة /411

الجمعة 1 سبتمبر 2023م

(صلاة الفجر على وقتها)

 

*تحذير:* لا أنصح ضعاف القلوب بقراءة هذه الخاطرة.

هي قصةٌ حقيقيةٌ بطلها رجلٌ سعوديٌ فوَّت صلاة الفجر جماعةً بالمسجد أكثر من مرة؛ فكتب يقول: حدث أن فاتتني صلاة الفجر، وهي صلاةٌ مَن كان يُحافظ عليها ثم فاتته يستشعر ضيقاً شديداً طوال اليوم. تكرر معي نفس الأمر في اليوم التالي؛ فقلتُ لابد وأن في الأمر شيئاً، ثم تكرر ذلك للمرة الثالثة على التوالي! هنا كان لابد أن أقف مع نفسي وقفةً حازمةً، وأن أُعامل نفسي بشدةٍ وصرامةٍ حتى لا تركن لمثل ذلك فأُفَوِّت على نفسي ثواب (صلاة الفجر على وقتها)؛ فتذهب بي إلى النار. فكرتُ ثم قررتُ أن أدخل القبر حتى أؤدب نفسي، فلابد من أن ترتدع، وأن تعلم أن هذا هو منزلها ومسكنها إلى أن يشاء الله. كان قراري نهائياً وغير قابلٍ للمراجعة؛ فأنا أدرى بنفسي. لم يبقَ أمامي سوى التنفيذ، لكنني وجدتُ نفسي أُؤجل وأُسوِّف وأقول لنفسي كل يومٍ: "دع هذا الأمر إلى الغد". استمر الوضع على هذا الحال حتى فاتتني صلاة الفجر مرةً أخرى! حينها قلتُ: "كفى"، وأقسمتُ أن يتم هذا الأمر الليلة.

ذهبتُ بعد منتصف الليل حتى لا يراني أحد، وقفتُ قليلاً: أأدخل من الباب أم أتسور السور؟! اتجهتُ صوب الباب فلعل حارس المقبرة غير موجود، لكن إن كان موجوداً سأوقظه فماذا أقول له؟! وربما منعني أو طلب مني المجيء في النهار وحينها يضيع قسمي، فقررتُ أن أتسور السور، تلثمتُ، رفعتُ ثوبي واستعنتُ بالله وتسلقت. برغم أنني دخلتُ هذه المقبرة مراتٍ ومراتٍ مُشيِّعاً إلا أنني أحسستُ أنني أراها لأول مرةٍ، ورغم أنها كانت ليلةً مُقمرةً إلا أنني أكاد أُقسم أنني ما رأيتُ أشد منها سواداً، كانت تلف المكانَ ظلمةٌ حالكةٌ ويسوده سكونٌ رهيب، هذا هو صمت القبور بحق. تأملتُ المقبرة كثيراً من أعلى السور واستنشقتُ هواءها، نعم إنها رائحة القبور، أُميزها عن ألف رائحة؛ رائحة الحنوط، رائحةٌ تحمل طعم الموت والبلى. جلستُ على السور أتفكر للحظاتٍ مرت كالسنين: إيهٍ أيتها القبور، ما أشد صمتك، وما أشد ما تخفيه؛ ضحكٌ ونعيمٌ، وصراخٌ وعذابٌ أليم. ماذا سيقول لي أهلك لو حدثتهم؟ لعلهم سيقولون مقولة الحبيب صلى الله عليه وسلم: [الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]. قررتُ أن أهبط حتى لا يراني أحدٌ في هذه الحالة؛ فلو رآني أحدٌ فسيقول إنني مجنونٌ أو لديّ مصيبة. وبالفعل لديّ مصيبةٌ كبيرةٌ، وأية مصيبةٍ أكبر من ضياع صلاة الفجر عدة مرات؟

هبطتُ داخل المقبرة، أحسستُ حينها برجفةٍ في القلب، ووجدتني ألتصق بالجدار، ولا أدري ممَّ أحتمي؟ عللتُ ذلك لنفسي بأنه خشية المرور فوق القبور وانتهاكها! أنا لستُ جباناً لكنني شعرتُ بالخوف حقاً! نظرتُ إلى الناحية الشرقية حيث القبور المفتوحة فاغرةً أفواهها تنتظر ساكنيها، إنها أشد بقع المقبرة سواداً، كأنها تناديني، مشتاقةً إليَّ: "متى ستكون فيَّ؟". أمشي بحذر بين القبور، وكلما تجاوزتُ قبراً تساءلت: "أشقي أم سعيد صاحب القبر؟"، "شقيٌ بسبب ماذا؟ أضيَّعَ (صلاة الفجر على وقتها) مثلي؟ أم كان من أهل الفواحش والربا؟ ربما كان عاقاً لوالديه، أو كان من أهل الغناء والطرب؟". لعل من تجاوزتُ قبره الآن كان يظن أنه أشد أهل الأرض قوةً، وأن شبابه لن يفنى، وأنه لن يموت كمن مات قبله، أو أنه كان يقول: "ما زال في العمر بقية" ففاجأه هادم اللذات. سبحان من قهر الخلق بالموت. أبصرتُ الممر حتى إذا وصلتُ إليه وضعتُ قدمي عليه أسرعت نبضات قلبي؛ فالقبور عن يميني وعن يساري، بدأتُ أولى خطواتي، بدت وكأنها دهر، أين سرعة قدميَّ؟ ما أثقلهما الآن! رفعتُ بصري إلى الناحية الشرقية، تمنيتُ أن تطول المسافة ولا تنتهي أبداً لأنني أعلم ما ينتظرني هناك. أعلم، فقد رأيتُ القبر كثيراً ولكن هذه المرة مختلفةٌ تماماً. أفكارٌ عجيبةٌ؛ أكاد أسمع همهمةً خلف أذنيّ، خفت أن أنظر خلفي، خفتُ أن أرى أشخاصاً يلوِّحون إليَّ من بعيد. خيالاتٌ سوداء تعجب من القادم في هذا الوقت، بالتأكيد إنها وسوسةٌ من الشيطان، لا يهمني شيءٌ طالما قد صليتُ العِشاء في جماعة. أخيراً أبصرتُ القبور المفتوحة، أقسم للمرة الثانية أنني ما رأيتُ أشد منها سواداً. كيف أتتني الجرأة؟ وكيف أوصلتني خطواتي إلى حافة القبر؟! بل كيف سأنزل في هذه الحفرة الضيقة؟! وأي شيءٍ ينتظرني داخلها؟! فكرتُ بالاكتفاء بالوقوف، أو أن أعود من حيث أتيتُ وأُكفِّر عن الحنث بقسمي. ولكن لا، لن أصل إلى هنا ثم أقف أو أتراجع، يجب أن أكمل، لن أنزل إلى القبر مباشرةً بل سأجلس خارجه قليلاً حتى تأنس نفسي، ما أشد ظلمته، وما أشد ضيقه. كيف لهذه الحفرة الصغيرة أن تكون حفرةً من حفر النار أو روضةً من رياض الجنة؟ سبحان الله! يبدو أن الجو قد ازداد برودةً أم هي قشعريرةٌ سرت في جسدي من هول هذا المنظر؟! هل هذا صوت الريح؟! ليست ريحاً؛ فلا أرى ذرة غبارٍ في الهواء!! هل هي وسوسة أخرى؟!! استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، أنزلتُ شماغي {الشماغ غطاء للرأس، ويُسمى: غترة، حطة، سفرة، وكوفية} ووضعته على الأرض، ثم جلستُ وقد ضممتُ ركبتيّ أمام صدري أتأمل هذا المشهد العجيب؛ إنه المكان الذي لا مفر منه أبداً. سبحان الله نسعى لكي نحصل على كل شيءٍ وهذه هي النهاية: "لا شيء"! كم تنازعنا في هذه الدنيا، اغتبنا، تركنا الصلاة، آثرنا الغناء على القرآن.. والكارثة أننا نعلم أن هذا مصيرنا، وقد حذرنا الله منه ورغم ذلك نتجاهل! أشحتُ بوجهي ناحية القبور وناديتُ بصوتٍ خافتٍ وكأني أخشى أن يرد عليَّ أحد: "يا أهل القبور، ما لكم؟ أين أصواتكم؟ أين أبناؤكم عنكم اليوم؟ أين أموالكم؟ أين وأين؟ وكيف هو الحساب؟ أخبروني عن ضمة القبر، أخبروني عن منكر ونكير، أخبروني عن حالكم مع الدود! سبحان الله؛ نستاء إذا قدَّم لنا أهلنا طعاماً بارداً أو لا يوافق شهيتنا، واليوم نحن الطعام للدود. لابد من النزول إلى القبر؛ قمتُ وتوكلتُ على الله، أنزلتُ رجلي اليمنى ثم رجلي الأخرى، افترشتُ شماغي وانطرحتُ على ظهري ووضعتُ رأسي وأنا أفكر: ماذا لو انهال عليَّ التراب فجأة؟! ماذا لو ضُم القبر عليَّ مرةً واحدة؟!

أغلقتُ عينيَّ حتى تهدأ ضربات قلبي، وحتى تخف هذه الرجفة في جسدي. ما أشده من موقفٍ وأنا حيٌ, فكيف سيكون وأنا ميت؟ فكرتُ أن انظر إلى اللحد، هو بجانبي، والله لا أعلم شيئاً أشد ظلمةً منه! يا للعجب!! رغم أنني في حفرةٍ مغلقةٍ إلا أنني أشعر بتيارٍ من الهواء البارد يتسلل إلى جسمي كله!! كم هي قارسةٌ برودة الخوف! خِفتُ أن أنظر إليه فأرى عينين تلمعان في الظلام وتنظران إليَّ بقسوةٍ، أو أن أرى وجهاً شاحباً لرجلٍ تكسوه علامات الموت ناظراً إلى الأعلى متجاهلني تماماً، حينها قررتُ ألا أنظر إلى اللحد؛ ليس بي من الشجاعة أن أخاطر وأرى أيَّاً من هذه المناظر رغم علمي أن اللحد خالٍ، ولكن تكفي هذه المخاوف حتى أمتنع تماماً عن النظر إليه. لا إله إلا الله. تذكرتُ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا إله إلا اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ]. تخيلتُ جسدي عند نزول الموت يرتجف بقوةٍ وأنا أرفع يديَّ محاولاً إرجاع روحي.. تخيلتُ صُراخ أهلي عالياً من حولي: "أين الطبيب؟! أين الطبيب؟!". ﴿فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، تخيلتُ الأصحاب يحملونني على الأكتاف ويقولون: لا إله إلا الله، تخيلتهم يمشون بي سريعاً إلى القبر، وتخيلتُ أحب أصدقائي إليَّ وهو يُسارع لأن يكون أول من ينزل إلى القبر، تخيلته يضع يديه تحت رأسي ويُطالبهم بالرفق حتى لا أقع، يصرخ فيهم: "جهزوا الطوب"، وتخيلتُ ابني يجري ممسكاً إبريقاً من الماء يناولهم إياه بعدما حثوا عليَّ التراب، تخيلتُهم وهُم يرشون الماء على قبري، ثم تخيلتهم وقد رحلوا وتركوني فرداً وحيداً، تذكرتُ قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾. نعم صدق الله؛ تركتُ زوجتي، فارقتُ أبنائي، تخليتُ عن مالي أو هو تخلى عني. تخيلتُ كأن ملائكة العذاب حين رأوا النعش قادماً ظهروا بأصواتٍ مفزعةٍ وأشكالٍ مخيفة، ينادي بعضهم بعضاً: "هذا هو العبد العاصي؟"، فيقول الآخر: "نعم"، فيقال: "أمشيعٌ متروكٌ أم محمولٌ ليس له مفر؟"، فيجيبه الآخر: "بل محمولٌ إلينا ليس له مفر"، فيُنادى: "هلموا إليه حتى يعلم أن الله عزيزٌ ذو انتقام". رأيتهم يمسكون بكتفي ويهزونني بعنف قائلين: "ما غرك بربك الكريم؟ حتى تنام عن الفريضة؟ ما الذي خدعك حتى عصيتَ الواحد القهار؟ أهي الدنيا؟ أما كنتَ تعلم أنها دار فناء؟ وقد فنيتَ! أهي الشهوات؟ أما تعلم أنها إلى زوال؟ وقد زالت! أم هو الشيطان؟ أما علمتَ أنه لك عدوٌ مبين؟ أمثلك يعصي الجبار والرعد يسبح بحمده والملائكة من خيفته؟! لا نجاة لك منا اليوم، اُصرخ ليس لصراخك مجيب". فجلستُ أصرخ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، وكأني بصوتٍ يهز الفضاء ويزلزل المقبرة يملأني يأساً ويقول: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾. بكيتُ ما شاء الله لي أن أبكي ثم قلتُ: "الحمد لله رب العالمين؛ مازال هناك وقتٌ للتوبة.. أستغفر الله العظيم وأتوب إليه".

قمتُ مكسوراً، وقد عرفت قدري، وبان لي ضعفي. أخذتُ شماغي وأزلتُ ما علق به من تراب القبر وعدت.

 

أحبتي في الله.. لا يخفى على مسلمٍ أنَّ (صلاة الفجر على وقتها) لها فضلٌ كبيرٌ بين الصلوات، حتى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها، ولا يُقسم الله إلا بعظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، بل وسماها قرآناً وجعلها مشهودةً؛ يقول تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ فعبّر عن صلاة الفجر بالقرآن؛ لأنه تطول فيها قراءة القرآن. وقال عن قرآنها إنه ﴿كَانَ مَشْهُودًا﴾ إذ تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار حين يجتمعون في صلاة الفجر.

 

وكثيرٌ من الأحاديث النبوية الشريفة تُبين فضل (صلاة الفجر على وقتها)؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ركعتَا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها]، وقوله عليه الصلاة والسلام عن هاتين الركعتين: [لهُما أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعًا].

وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن صلَّى الصُّبحَ في جماعةٍ فَهوَ في ذمَّةِ اللَّهِ]، أي: في أمان الله، وفي جواره؛ أي: قد استجار بالله تعالى، والله تعالى قد أجاره، فلا ينبغي لأحدٍ أن يتعرض له بضُرٍ أو أذى.

وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن صلى الفجرَ في جماعةٍ، ثم قَعَد يَذْكُرُ اللهَ حتى تَطْلُعَ الشمسُ، ثم صلى ركعتينِ، كانت له كأجرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ].

وفي إشارةٍ إلى صلاتيّ الفجر والعصر قال صلى الله عليه وسلم: [يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ]، وقال كذلك: [لن يَلِجَ النارَ مَن صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ، وقبلَ غروبِها]، كما قال: [منْ صلَّى الْبَرْديْنِ دَخَلَ الْجنَّةَ].

أما عن صلاتيّ العشاء والفجر فقد قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ]، كما قال: [بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ].

 

أحبتي.. يقولون: "إذا لم يكن أول قراراتك الاستيقاظ لصلاة الفجر في موعدها فلا قيمة لتخطيط باقي يومك؛ فقد خسرتَ بداية النجاح"؛ فعلينا ألا نتخلى عن (صلاة الفجر على وقتها) فيضيع علينا ثوابٌ عظيم. إن كان البعض منا مواظباً عليها مع الجماعة في المسجد فهنيئاً له، لكن عليه ألا يغتر أو يظن أنه أفضل من غيره، وليتذكر الآية الكريمة: ﴿كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ فالفضل كله لله، أيقظك وحبَّب إليك الصلاة، وأنعم عليك بالصحة والقدرة على أدائها في وقتها مع الجماعة. أما من تتوفر لديه الصحة والقدرة ولا يحرص على صلاة الفجر مع الجماعة فقد ضيّع على نفسه الكثير من الفضل، وحرم نفسه من ثوابٍ عظيم، وليحذر من غضب الله إذا هو استمر على هذه الحال. نصيحتي لنفسي ولكل مُقصِّر: "ما دمتَ على قيد الحياة فما تزال أمامك فرصةٌ لتصحيح علاقتك مع الله، لكن لا تُسوِّف ولا تؤجِل، بل انوِ واعزم وخُذ بالأسباب وتوكل على الله بإخلاص، وستجده سبحانه وتعالى خير مُعين لك".

إن صلاة الفجر غنيمةٌ لا تُعادلها غنائم الدنيا وكنوزها؛ فهلا حرصنا على أدائها مع جماعة المسلمين في المسجد يومياً؟

أعاننا الله على المواظبة على جميع الصلوات -وخاصةً صلاة الفجر- في المسجد مع جماعة المسلمين، وأن يرزقنا فضلها، ويكتب لنا أجرها، ويُثيبنا عليها كما يُثيب عباده الصالحين.

https://bit.ly/3PkIpTc

الجمعة، 25 أغسطس 2023

الأرواح جنودٌ مجندة

 خاطرة الجمعة /410

الجمعة 25 أغسطس 2023م

(الأرواح جنودٌ مجندة)

 

يقول أحد رجال الدعوة الأردنيين إن المواقف النادرة العجيبة في حياة الإنسان تقل وتكثر بحسب حياته من إقامةٍ وترحالٍ وكثرة معارف وقِلتها، ولعل الموقف التالي هو أعجب موقفٍ لي في حياتي، وتفصيله كما يلي: في عُمرة هذا العام، دُعيتُ إلى عشاءٍ عند بعض الإخوة، وبينما كنتُ أهمُّ بالخروج من الحرم لإجابة الدعوة، إذ بي أُخبَر أن ولديَّ قد وصلا للتو إلى «مكة المكرمة»؛ فأخَّرتُ ذهابي لتلبية الدعوة حتى آخذهما معي أو أطمئن عليهما على الأقل، لكن الصعود إلى سطح الحرم -حيث علمتُ أنهما هناك– كان صعباً للغاية بسبب نزول الآلاف على السُلم الكهربائي؛ فانتقلتُ إلى سُلَّمٍ آخر –لعلي آتيه لأول مرةٍ– وإذ يتكرر الأمر نفسه، فالناس في نزولٍ وأنا أريد الصعود به! فلم يكن لي من بُدٍ إلا الانتظار حتى ينتهي الناس من النزول فيُفتَح أمامي طريق الصعود.

في هذه الأثناء كنتُ على باب الحرم أتأمل وجوه بعض النازلين لعل فيهم من أعرفه فأُسلّم عليه، ولعل فيهم من يذكرني فيُسلّم عليَّ هو. وكان من ضمن النازلين أخٌ أول ما وقعت عليه عيناي وقع في قلبي شعورٌ عجيبٌ وميلٌ له غريبٌ، فأنا لا أعرفه ولم يخطر ببالي أنه يعرفني، لكن تمنيتُ أن الأمر عكس ذلك، وتمنيتُ لو أُصافحه أو أُعانقه، وصرتُ أتأمله وهو نازلٌ على السُلّم حتى مرَّ بجانبي، فلم أكتفِ بذلك بل نظرتُ إليه عندما صار خلفي، فنظر هو إليّ كذلك وتبسمنا، فقلتُ في نفسي: "سبحان الله وددتُ لو أنه كان من إخواني، أو توقف لأتعرف عليه، لكنه ذهب وقد يكون ذهابه إلى غير رجعة". ووقتها –أي وأنا أخاطب نفسي– إذ برجلٍّ من خلفي يُسلِّم عليَّ، فالتفتُ فإذا هو هو! ففرحتُ فرحاً شديداً، لكنني صُدمت عندما سألني: "أنت فلانٌ الفلاني؟!"، ضحكتُ من قلبي وقلت: "نعم!"، فلم يصدِّق؛ فقال: "أبو فلان؟"، قلتُ: "نعم"، فالتزمني وعانقني، وفرحتُ لهذا فرحاً عظيماً، فقال لي: "أنا فلان!" فعجبتُ جداً وعانقته ثانيةً! وسألته: "أأنت فلان؟"، قال: "نعم"، قلتُ: "سبحان الذي جمَّعنا هنا، كيف عرفتني؟ هل تعرف وصفي؟ هل أخبرك أحدٌ بوجودي هنا؟"، قال: "لا"، قلتُ له: "كيف عرفتني إذن؟"، قال: "لما كنتُ نازلاً على السُلم وقعت عيناي عليك، فوقع في قلبي أنك أنت فلانٌ الفلاني؛ فذهبتُ ومررتُ بجانبك، وقلتُ: لعله ليس هو، وما أدراني أنه هو ولستُ أعرف أوصافه؟ فذهبتُ للدخول للحرم فإذا به بابٌ خاصٌ بالنساء! فمنعني الحرس من الدخول، فهممتُ بالدخول من بابٍ آخر، فقلتُ: لن أخسر شيئاً، لِمَ لا أسأل الأخ هل أنت فلانٌ أم لا؟، فجئتُ فسألتك، فتبين لي أنك هو!". لم أملك نفسي من شدة تعجبها، وبقيتُ مذهولاً من هذا الموقف؛ فقلتُ له: "ما أجرأك على السؤال! إن احتمال أن أكون أنا من ظننتَ لا يتجاوز نصف بالمليون فكيف تجرأتَ على السؤال؟".

الحقيقة: أن هذا من أعجب المواقف التي مرت بي في حياتي، ومن عظيم قدر الله، والأعجب أنني أخبرته بمكاننا في الحرم فضيعنا على مدى يومين، ثم لقينا في اليوم الثالث! فالحمد لله الذي جعل القلوب شواهد، وصدق من قال: (الأرواح جنودٌ مجندة)، والحمد لله رب العالمين على الأُخوَّة والمحبة التي رزقنا إياها، وفرحتنا بلقاء الإخوة وتعرفنا عليهم من أعظم ما حصل لنا ووفقنا الله له هذا العام.

 

أحبتي في الله.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [..الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ]. وقال شُرّاح الأحاديث: إن الحديث الشريف يُشير إلى معنى التشاكل في الخير والشر، وفي الصلاح والفساد، وأن الخيِّر من الناس يحن إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره؛ فتعارُف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جُبلت عليها من خيرٍ وشرٍ؛ فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت.

ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا﴾، قال العلماء إن الله سُبحانه وتعالى جعل الرجل يسكن إلى امرأته لأنها من جنسه وجوهره، والسكون هنا معناه الحُب؛ لأنها منه، ويدل ذلك على أن السبب في هذا السكون ليس الشكل الحسن أو التوافق في الهدف أو الخُلُق أو الإرادة، بالرغم من أن هذه أيضاً من أسباب التوافق، ولكن التوافق في الأصل سببه الأرواح التي خلقها الله تعالى.

وذلك يكون في يوم القيامة أيضاً وليس فقط في الحياة الدنيا فقط؛ يقول تعالى: ﴿احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ وقيل إن أزواجهم أتت بمعنى "أشباهُهم ونُظراؤهم".

 

ويقول المختصون إن تجاذب الأرواح من أسمى وأرقى العلاقات الإنسانية، لأن الوجوه والأشكال تتكرر، أما الأرواح فلا تتكرر، فعالم الأرواح يتعدى الشكليات والماديات حيث التجانس في الطباع الباطنة والأخلاق الخفية يورث تجاذب الأرواح، وهذا ما يُسمى بالتخاطر العاطفي أو تجاذب الأرواح. والطبيعة شاهدةٌ من حولنا على التوافق والتنافر، وعلى أنَّ (الأرواح جنودٌ مجندة) ولها قدرةٌ على التخاطر وإدراك خبايا الأنفس، وأثرها عميقٌ بعمق تجاذب تلك الأرواح. إن التوافق بين إنسانٍ وآخر لا يكون بسبب توافقٍ عُمريٍ ولا جنسيٍ ولا لونيٍ أو بطول العشرة ولا بالرفقة المستمرة، ولكنه سرٌ من أسرار التوافق الروحي. إنَّ تآلف الأرواح وتنافرها ظاهرةٌ غريزيةٌ فطريةٌ بعيدةٌ عن الحواس الطبيعية الخمس. وتجاذب الأرواح أمرٌ لا إرادي و(الأرواح جنودٌ مجندة) حتى أنه قيل: "نحن لا نحب حين نختار، ولا نختار حين نحب".

وقال الشاعر:

إِنَّ القُلوبَ لَأَجنادٌ مُجَنَّدَةٌ

لِلَّهِ في الأَرضِ بِالأَهواءِ تَختَلِفُ

فَما تَعارَفَ مِنها فَهوَ مُؤتَلِفٌ

وَما تَناكَرَ مِنها فَهوَ مُختَلِفُ

 

وقريباً من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: [المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ]، أي: أن المرء يشابه صديقه وصاحبه في سيرته وعادته؛ فهو مؤثرٌ في الأخلاق والسلوك والتصرفات؛ ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حُسن اختيار الصديق.

وقال عليه الصلاة والسلام: [لا تصاحِبْ إلَّا مُؤمنًا]. أي: لا تتخذ صاحباً ولا صديقاً إلا من المؤمنين؛ لأن المؤمن يدل صديقه على الإيمان والهُدى والخير، ويكون عوناً لصاحبه، وفي الحديث حثٌ على انتقاء الأصحاب والأصدقاء من الأتقياء المؤمنين.

 

أحبتي.. كم من مرةٍ تأخذنا أقدارنا لنتقابل مع أشخاصٍ لا نعرفهم، ربما نلتقي بهم لأول مرةٍ، لكن روحنا تتجانس معهم، نُحس بما يُحسون ونستشعر ما يستشعرون؛ وكأن هناك رابطاً بين أحاسيسنا، كما لو كنا نعرفهم منذ زمنٍ بعيد. كما يحدث العكس أحياناً؛ فنحس مع آخرين بالنفور بغير سببٍ واضح. فلنبقِ على مشاعرنا كما هي، ولا نحاول جاهدين أن نُغيِّرها؛ فالحياة مع المحافظة على فطرتنا سليمةً نقيةً لها طعمٌ مختلفٌ يُشعرنا بالسعادة الحقيقية. وليُحسن كلٌ منا اختيار أصدقائه، ويهتم بإرشاد أبنائه إلى حُسن اختيار من يصاحبون؛ فالصاحب ساحب، إما إلى خيرٍ ورشادٍ أو إلى شرٍ وفساد.

اللهم اجمع بيننا وبين من تُحبه أرواحنا وتألف له، وباعد بيننا وبين من لا ترتاح أرواحنا له وتنفر منه، وقوِ اللهم بصائرنا لنرى بها ما قد لا تراه عيوننا؛ إنك أنت سبحانك اللطيف الخبير.

 

https://bit.ly/3KXe0rs

الجمعة، 18 أغسطس 2023

هي رسالة

 خاطرة الجمعة /409

الجمعة 18 أغسطس 2023م

(هي رسالة)

 

رجلٌ نذر نفسه لفكرةٍ كان فيها سفيراً للإسلام حول العالم، التقيته في إحدى محاضراته في مدينة «العين» بدولة «الإمارات» عام 1987م، لا أنسى ابتسامته التي لا تكاد تُفارق شفتيه، ولبسه المميز: بدلة بدون رابطة عنق وطاقية على رأسه، كما لا أنسى أبداً أسلوبه الماتع وذكاءه وسرعة بديهته، وذاكرته غير العادية، وشخصيته الجذابة المؤثرة. إنه الشيخ «أحمد حسين كاظم ديدات» -رحمة الله عليه- رجل المناظرات اللامع، الداعية والواعظ والمُحاضر والمُناظر الإسلامي الذي اشتُهِر بمناظراته وكتاباته في مقارنة الأديان، وعلى وجه الخصوص بين الإسلام والمسيحية، الحائز على جائزة الملك فيصل لجهوده في خدمة الإسلام عام 1986م. وُلد «أحمد ديدات» في الأول من يوليو عام 1918م في مدينة «سورات» غرب ولاية «غوجرات» الهندية، لأسرةٍ بسيطةٍ تعمل في الزراعة، وهاجر والده إلى «جنوب أفريقيا» بُعيد ولادته حيث عمل خياطاً، وتُوفيت أمه وهو في التاسعة من عمره؛ فسافر للعيش مع أبيه عام 1927م، وهناك حفظ القرآن الكريم. مثَّل انتقاله إلى «جنوب أفريقيا» نقلةً نوعيةً وكبيرةً من مجتمعٍ لمجتمعٍ آخر؛ ففي مجتمعه الجديد، كان العرق الأبيض يُهيمن على باقي الأعراق، وكانت هناك تفرقةٌ عنصريةٌ وظلمٌ واضطهادٌ، وكان المحتلون البريطانيون في «جنوب أفريقيا» يُمارسون التمييز والتنصير ضد المسلمين من الأعراق الهندية والمالاوية. كان والده رجلاً فقيراً يبحث عن لقمة العيش بشِق الأنفس، مما دفع «أحمد ديدات» إلى ترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي، والعمل في أحد المحال بجوار إرساليةٍ تنصيريةٍ كان طلابها يمرون على «ديدات» وهو يعمل، ويُلقون علية الشُبهات التي يتعلمونها في الإرسالية؛ يقول «ديدات»: “في تلك الأيام، ومن هذه الكلية توافد علينا المبشرون يأتون لشراء الأغراض من المحل، وينهالون عليّ بالأسئلة والانتقادات؛ كانوا يقولون: هل تعلم أن «محمداً» تزوج نساءً كثيرات؟ وقتها لم يكن لديّ أية معرفةٍ، ويقولون: هل تعلم أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن «محمداً» نقل كتابه عن اليهود والنصارى؟ لم يكن عندي درايةٌ بذلك، وكان الموقف بغاية الصعوبة بالنسبة لي”.

لقد ولّد إحساس «ديدات» بالضعف والقهر ردة فعلٍ للتحدي ورغبةً في نُصرة دينه، وأحس أنها إنما (هي رسالة) من الواجب عليه القيام بها.

يقول «ديدات» عن البداية: “ذات صباحٍ دخلتُ مخزناً رئيسياً في العمل، وأخذتُ أقلب في كومةٍ من الكتب القديمة بحثاً عن مادةٍ أقرؤها، وانهمكت بالبحث إلى أن عثرت على كتابٍ قضمته الحشرات، كان قديماً ومُتعفناً، قرأتُ عنوانه وهو {إظهار الحق}، وبفضل هذا الكتاب تغيرت حياتي تماماً". هذا الكتاب العظيم هو الذي فتح آفاق «أحمد ديدات» للرد على شُبهات النصارى بما تميز به من منهجٍ حواريٍ، وتأصيله تأصيلاً شرعياً يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب إلى الحوار وطلب البرهان والحُجة من كتبهم المحرفة، فكان لفكرة إقامة المناظرات أثرٌ عميقٌ عنده؛ ليترك لنا هذا المنهج الدعوي المبارك الذي كان نتيجته أن أسلم على يديه آلافٌ من النصارى من مختلف أنحاء العالم، والبعض منهم الآن دعاةٌ إلى الإسلام. بدأ «ديدات» يقرأ الكتاب، ووجد فيه بغيته للرد على الذين يُهاجمون الإسلام، ثم بدأ يُحضّر نُسخاً مُختلفةً من الإنجيل ويُقارن بينها، ويدرسها ويُدوِّن ملاحظاته عليها، ثم خطا خطوةً كانت أكثر جرأةً، فقد كان يذهب للمُنصّرين في عُقر دارهم ويُناقشهم في تلك النصوص. يقول «ديدات»: “أخبرني شخصٌ إنجليزيٌ كان قد اعتنق الإسلام واسمه «فيرفاكس»، أن لديهم رغبةً لتدريس المُقارنة بين الأديان، وأطلق على تلك الدراسة {دراسة الإنجيل}، قال إنه سيعلمنا كيف نستخدم الكتاب المُقدس في الدعوة للإسلام، وافقنا وكنا سعداء، ومن بين ثلاثمائة شخصٍ من الحاضرين اختار عشرين فقط ليبقوا ويتلقوا مزيداً من العِلم”. تغيب «فيرفاكس» لمدةٍ طويلةٍ؛ فكان تغيبه فرصةً للشيخ «ديدات» ليبدأ في تعليم الطلاب من حيث انتهى، يقول: “بقيتُ ثلاث سنواتٍ وأنا أتحدث إليهم، وكانت تلك أفضل وسيلةٍ تعلمتُ منها، فأفضل طريقةٍ لتتعلم هي أن تُعلِّم الآخرين”.

ولإيمانه بأن توعية الناس (هي رسالة) أصدر «ديدات» في بداية الخمسينيات كتيبه الأول "ماذا يقول الكتاب المقدس عن «محمدٍ» صلى الله عليه وسلم؟" ثم نشر بعد ذلك أحد أبرز كتيباته "هل الكتاب المقدس كلام الله؟"، وفي المُحصلة ألّف «ديدات» ما يزيد عن عشرين كتاباً، وطبع الملايين منها لتوزع بالمجان، بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم، واشتُهر بمناظراته التي عقدها مع كبار رجال الدين المسيحي.

كان «ديدات» يقول دائماً: "من فمك أُدينك"؛ فكان يُناقش النصارى من خلال الإنجيل، وكان يقرأ النصوص من ذهنه ويحفظها كاملةً، وقد أوتي فصاحةً باللغة الإنجليزية، تواكبها فصاحةٌ في ذِكر الآيات القرآنية -على الرغم من عدم إجادته اللغة العربية- مما أهله ليكون الفارس الأول في مجال المناظرة الإسلامية المسيحية؛ فكان بحقٍ رجلاً متميزاً متفرداً ليس له نظيرٌ في هذا المجال لأنه اعتبر الدعوة إلى الإسلام (هي رسالة) عليه أن يكون له دورٌ فيها. كانت أهم مناظرةٍ له تلك التي جمعته بالقس «جيمي سوغارت»، والتي بُثت على أكثر من مئة قناةٍ تلفزيونيةٍ، وتحدَّث من خلالها للنصارى في جميع أنحاء العالم، وفي تلك المناظرة أظهر هشاشة «سوغارت»؛ فقد تحدث «ديدات» بأسلوبين: منطقيٍ وعاطفيٍ، وبرع في الأسلوبين المنطقي العقلي، والعاطفي الذي أثار الجماهير وجذبهم، فيما استخدم «سوغارت» الأسلوب العاطفي فقط، ولم يكن لديه منطقٌ علميٌ يُقدمه رداً على أسئلة «ديدات».

في تلك الفترة ظهر الفيديو كاسيت، وكان الناس يتداولون أشرطة «ديدات» كعلامةٍ على انتصار الإسلام على المسيحية؛ يقول «ديدات»: “كان العالم الإسلامي يُلِّح في طلب الأشرطة خصوصاً الذين يعيشون في الغرب، حيث يشن المبشرون حرباً على المسلمين، وكما هو الحال في «الهند» و«بنغلاديش» و«إندونيسيا» وحيثما وُجد المسلمون فإنهم لا يعرفون التصدي لهؤلاء ومواجهتهم، وأشرطتنا تقوم بذلك”.

لقد شكَّل «ديدات» ظاهرةً حقيقيةً سيطرت على العالم الإسلامي لعقودٍ، وكان مقره في منطقة «ديربان» في «جنوب أفريقيا»، وهناك حقق أمنيته بافتتاح مركزٍ للدعوة؛ فلم يكتفِ بالعمل الفردي، وإنما كان يحترم العمل المؤسسي.

 

أحبتي في الله.. لم يكن الشيخ «أحمد ديدات» داعيةً تقليدياً يُركز على الحشد والترويج لدينه، لكنه ركَّز على العقل والاختيار، فهو لا يقول لك: آمِن بهذا أو أترك هذا، لكنه يقول لك: "اختر؛ فأمامك الحقائق التي توصلتَ إليها".

لقد كان -رحمة الله عليه- فارساً في مواجهة التنصير، مهمته أن يؤكد على القيم الحضارية الإسلامية التي يُراد لها أن تُجتث وأن تُدمج قسراً بالحضارة الغربية، لقد ترك بصمةً واضحةً في العِلم الذي برع فيه، لا يُمكن نسيانها بأي حال؛ فكانت جهوده (هي رسالة) تؤكد على أن القوة تُولَد من رحم الضعف، والتحدي يُولَد من رحم العجز، والعزة تُولَد من رحم القهر.

في إبريل عام 1996م أُصيب الشيخ «ديدات» بجلطةٍ في الدماغ، فنصحه الأطباء بالراحة، إلا أنه رفض الاستماع لنصائح الأطباء، وسافر إلى «أستراليا» لعرض الإسلام، وتحدى هناك عدداً من المنصرين الأستراليين الذين أساءوا للإسلام. وعلى الرغم من مرضه وكِبَر سنه الذي قارب الثمانين، طاف الشيخ «ديدات» ولايات «أستراليا» محاضراً ومناظراً ومدافعاً عن الإسلام، غير آبهٍ بنصائح الأطباء، حتى وقع أرضاً من شدة الإرهاق والتعب، فأصيب بجلطةٍ في الدماغ، وظل طريح الفراش مدة تسع سنواتٍ لا يستطيع أن يُحرك إلا عينيه، ورغم ذلك لم ييأس؛ فقد استخدم لوحةً ضوئيةً يختار منها بعينيه حروف الكلمات التي يُريد التعبير بها، ليستمر في تعليم تلاميذه بنظرات عينيه، إلى أن تُوفي إلى رحمة الله في الثامن من أغسطس عام 2005م.

ومن أطرف وألطف ردود «أحمد ديدات» رده السريع المُفحِم على ملحدٍ سأله: ما شعورك لو مُت واكتشفت أنَّ الآخرة كَذِب؟ فأجاب: ليس أسوأ من شعورك عندما تموت وتكتشف أنَّها حقيقة!

 

أحبتي.. هذه قصة رجلٍ أعجميٍ تمثَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَة]، يقول عن أثر هذا الحديث في نفسه: "علينا أن نبلِّغ رسالة الله تعالى حتى ولو كنا لا نعرف إلاَّ آيةً واحدةً، إن سرّاً عظيماً يكمن وراء ذلك؛ فإنك إذا بلَّغتَ وناقشتَ وتكلمتَ فإن الله يفتح أمامك آفاقاً جديدةً". فمن منا تأثر بهذا الحديث الشريف كما تأثر الشيخ «ديدات»؟ كم منا حباه الله بالعِلم والذكاء والقدرة على الحوار فاستغل هذه النعم الربانية في خدمة الإسلام؟ إن الدعوة إلى الإسلام ليست وظيفةً وإنما (هي رسالة) على كلٍ منا أن يجعل لنفسه دوراً فيها، حتى ولو كان محدوداً: أُنشر آيةً قرآنيةً، عمم حديثاً نبوياً تُحيي به سُنة نبيك، اُكتب مقالاً دعوياً، اكفل طالب علمٍ شرعي، أرسل لغيرك مادةً دينيةً مفيدةً، وغير ذلك مما تستطيعه، بحسب قدراتك وإمكانياتك. قدِّم لنفسك واترك من الآثار ما ينفعك في الدار الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾.

اللهم أعنّا على خدمة دينك، ويسِّر لنا سُبل النهوض بواجب الدعوة إليه والتعريف به والدفاع عنه.

https://bit.ly/3KHeW35

 

الجمعة، 11 أغسطس 2023

عمل الخير لا يضيع

 خاطرة الجمعة /408

الجمعة 11 أغسطس 2023م

(عمل الخير لا يضيع)

 

يقول طبيب الأطفال صاحب القصة: استيقظتُ علي صوتِ أبي الهادئ وهَزِّه لكتفي بحنانٍ وإصرارٍ وهو يقول لي: "أحمد، محتاجك ضروري في غرفة الصالون". وعندما أفقتُ بصعوبةٍ شديدةٍ وبعينين يداعبهما النوم نظرتُ إلى الساعة المعلقة على جدار غرفتي فرأيتها تشير إلى الساعة الثانية صباحاً، وكنتُ قد ذهبتُ إلى الفراش بعد الساعة الحادية عشرة مساءً بقليلٍ نظراً لاستعدادي لأداء امتحانٍ شفهيٍ في صباح ذات اليوم في مادة الكيمياء الحيوية كمتطلبٍ أساسيٍ للجزء الأول من ماجستير طب الأطفال. قمتُ من الفِراش بملابس النوم وذهبتُ إلى غرفة الصالون مباشرةً ينتابني شيءٌ من القلق؛ فلا أدري لماذا أيقظني أبي؟ ولا أعلم ماذا ينتظرني في غرفة الصالون؟

في غرفة الصالون وجدتُ شاباً في الثلاثين من عمره يبدو من ملابسه وشكل شعره أنه جاء على عجلٍ وكان يصحب معه طفلاً رضيعاً لا يتجاوز عامه الأول تظهر عليه علامات المرض. قال لي والدي، رحمة الله عليه: "هذا سمير ابن عمك إبراهيم، صديقي، وهذا ابنه الصغير مريضٌ، وجاء إليك لتكشف عليه"، بدأتُ أتمالك نفسي وأستعيد درجة الوعي وقوة التركيز الضرورتين للكشف على الطفل؛ وبالسؤال عن التاريخ المرضي وبالفحص تبين أنه يعاني من نزلةٍ معويةٍ حادةٍ وحالة جفافٍ شديدٍ، وكان الإجراء الطبي المناسب هو تركيب محاليل له عن طريق الوريد بصورةٍ عاجلةٍ؛ فاقترحتُ على والد الطفل الذهاب إلى مستشفى الجامعة، وأخبرته بأنني سأقوم بالاتصال بأحد زملائي لاستقباله هناك والقيام باللازم؛ حيث أنني في إجازة امتحاناتٍ ولديّ امتحانٌ شفويٌ صعبٌ في الصباح الباكر. عندما نظرتُ إلى وجه أبي لاحظتُ عليه علامات عدم الرضا من اقتراحي، وإذا به يطلب مني بلهجةٍ فيها شيءٌ من الإصرار: "قُم يا أحمد ارتدِ ملابسك وانزل مع سمير وابنه إلى المستشفى، ولا تتركه إلا بعد أن تُركِّب المحاليل لابنه وتطمئن عليه". نظرتُ إلي أبي مندهشاً وخرجتُ من غرفة الصالون متجهاً إلى غرفة النوم لتغيير ملابسي وتنفيذ ما أمر به أبي، محاولاً أن أفهم ما الحكمة وراء ذهابي إلى المستشفى في هذا التوقيت غير المناسب من وجهة نظري، ناديتُ على أبي وسألته بكل تقديرٍ واحترامٍ لرغبته: "تعلم يا أبي أن لديّ امتحاناً في الصباح، وأن نزولي الآن من البيت يُمكن أن يؤثر علي أدائي في الامتحان"، نظر إليّ وقال بنبرة صوتٍ فيها الكثير من التأثر: "الطفل مريضٌ وأنا متأثرٌ جداً لحالته"، ثم قال لي، وقد تغيرت نبرة صوته إلى أخرى فيها الكثير من الثقة: "نزولك معه الآن سيكون سبباً في أن يكرمك الله في الامتحان.. وسترى"، فما كان منّي إلا أن اصطحبت الطفل وأباه إلى المستشفى، وقمتُ بتركيب المحاليل بنفسي، وتركتهما بعد أن اطمأننتُ على الطفل، ووصيتُ عليه زميلي لكي يتابع حالته. عدتُ إلى المنزل والساعة قد جاوزت الرابعة والنصف صباحاً، وكانت مشاعري في ذلك الوقت مزيجاً من القلق والإرهاق، مع التسليم بقضاء الله فيما سيحدث في الامتحان. بعد محاولاتٍ يائسةٍ للنوم تركتُ فِراشي وقمتُ لتناول طعام الإفطار وكوب الشاي الذي أعدته لي أمي، رحمها الله، ثم بدأتُ أستعد للذهاب إلى لجنة الامتحان بقسم الكيمياء الحيوية بالكلية، والذي بدأ يعج بالطلبة والمعيدين والأساتذة الممتحنين، وامتزجت الأصوات والمشاعر بين الحاضرين. جلستُ أنتظر دوري للدخول على لجنة الامتحان إلى أن تم النداء على اسمي بمعرفة أحد المعيدين بالقسم، وكانت اللجنة تتكون من أقدم ثلاثة أساتذة بالقسم، دخلتُ عليهم وقلبي يكاد يخرج من صدري محاولاً التماسك حتي لا تبدو عليَّ علامات القلق، ولكن عندما نظرتُ إليهم لاحظتُ الابتسامة تُزيَّن وجوههم؛ فزال مني كل التوتر والرهبة من الامتحان، وبدأتُ أستعيد تماسكي بالتدريج، أديتُ الامتحان وأجبتُ عن كل الأسئلة المطروحة على أحسن ما يكون ولله الحمد، ثم خرجتُ من لجنة الامتحان وأنا في حالةٍ بين السعادة والاستغراب مما حدث! كيف لهذا اليوم الطويل، والذي بدأ منذ الصباح الباكر، أن ينتهي هكذا على أفضل وجه؟ وبدأ يُلح على عقلي سؤالٌ: "من أين أتت لأبي هذه الثقة الكبيرة بأن الله سيكرمني إذا ذهبتُ إلى المستشفى مع الطفل؟".. لابد أنه كان على قناعةٍ تامةٍ بأن (عمل الخير لا يضيع)، وأن مهنة الطب مهنةٌ إنسانيةٌ في المقام الأول. لقد أعطاني أبي -رحمه الله- درساً عملياً في ذلك.

الآن، وبعد مرور سنين طويلة على هذا الموقف، لا تزال تفاصيله محفورةً في قلبي لتذكرني دائماً بأن (عمل الخير لا يضيع) أبداً.

 

أحبتي في الله.. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾، وحبة الخردل في نهاية القِلة والصغر حتى إن الحس لا يُدرك لها ثقلاً؛ إذ لا تُرجح ميزاناً. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾،

ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، وفي معنى ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يقول المفسرون إنه وَزْن أصْغر نملةٍ أو هَباءَةٍ؛ فمن يعمل وزن نملةٍ صغيرةٍ خيراً، يرَ ثوابه في الآخرة، وقيل: في الحال قبل المآل؛ فإن (عمل الخير لا يضيع)، وهذا شاملٌ للخير كله، وفيه غاية الترغيب في فعل الخير ولو كان قليلاً.

وقيل عن الآية الأخيرة إنها أحكم آيةٍ في القرآن. وقيل إنها قد جمعت أسمى ألوان الترغيب.

 

وعن أعمال الخير يسيرة الأداء عظيمة الأجر والثواب قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]. كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وَكَيفَ؟ قالَ: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها]. ولما سُئل صلى الله عليه وسلم: أيُ الصدقةِ أفضل؟ قال: [جُهْدُ المُقلِّ..]، في إشارةٍ إلى الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾. وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: [لاَ تَحْقِرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئًا؛ وَلَوْ أَنْ تَلقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ].

يقول شُراح الأحاديث إن في هذه الأحاديث ترغيباً في الصدقات وإن كانت بأقل القليل، شرط أن تكون من كسبٍ طيبٍ حلالٍ، وأن يكون المقصود هو وجه الله سبحانه وتعالى، فلا تُقبل صدقة النفاق والرياء والكِبْر والتعالي والتفاخر والسمعة والمباهاة والمن، من هنا كانت أهمية عقد النية والعزم على أن تكون الصدقة -بالمال أو الجهد أو النصيحة- خالصةً لوجه الله تعالى، وكلما خفيت كان ثوابها أعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم من السَبْعَة الذين [يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ]: [..ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ..].

وضرب النبي عليه الصلاة والسلام أمثلةً عمليةً على أعمال بسيطةٍ وسهلةٍ ترتب عليها ثوابٌ عظيمٌ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [بينما رجلٌ يمشي في طريقٍ إذ وجدَ غصنَ شوْكٍ فأخَّرَهُ فشَكرَ اللَّهُ لَهُ فغفرَ لَهُ]. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ]. {الرَكية: البئر. المُوق: الخُف} لم يغفر الله للرجل والمرأة لكثرة عبادةٍ، وإنما لأنهما قاما بعملين يبدوان في نظر كثيرٍ من الناس بسيطين أو صغيرين أو قليلين، قاصدين وجه الله سبحانه وتعالى، لم يستصغرا عملهما، وكانت سرعة استجابتهما مع إخلاصهما في العمل سببين لمغفرة المولى عزَّ وجلَّ.

 

قال الشاعر:

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ

لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

وقال آخر:

لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً

إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

 

أحبتي.. لا تستصغروا عمل خيرٍ أبداً فثوابه عند الله عظيم؛ و(عمل الخير لا يضيع)؛ فلنحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه، وعلى عمل كل خيرٍ ممكن؛ بالمال وإن قلّ، وبالجهد وإن كان بسيطاً، وبالكلمة للشكر أو النصيحة أو التوجيه والإرشاد والتعليم وإن بدت لنا صغيرةً أو غير ذات بال. ولا نحتقر من العمل شيئاً أو نستصغره؛ فاحتقار العمل أو استصغاره أو النظر إليه على أنه قليلٌ مدعاةٌ لتركه، وقد يكون من ينتظر هذا العمل شديد الاحتياج له ولو بدا لنا صغيراً أو تافهاً. ثم مَن يدري؛ لربما كانت نجاتنا في ذلك العمل اليسير. وهل أيسر من شِق تمرةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ أو درهمٍ واحدٍ أو وجهٍ طليقٍ نتقي به النار؟

اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، واهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. وقنا اللهم شُح أنفسنا، وزيِّن إلينا حب عمل الخير وفعل المعروف، واقبله منا يا رب العالمين.

https://bit.ly/3DSuAoI

 

الجمعة، 4 أغسطس 2023

السعي للآخرة

 خاطرة الجمعة /407

الجمعة 4 أغسطس 2023م

(السعي للآخرة)

 

عن قصة كفاح «فاطمة» الخادمة الإندونيسية، وهي زوجة السائق الخاص لإحدى العائلات بدولةٍ من دُول الخليج العربي، كتب يقول:

كنتُ أشاهدها تعمل عند صديقٍ لي، وكنتُ أراها دائماً مُتعبةً وتعمل ببطء؛ فقد بلغت من العمر الخامسة والخمسين، كما علمتُ أنها أصيبت بمرض السُكري. سألتُ صديقي مرةً: "أما آن لهذه المسكينة أن ترتاح؟"، أجاب: "أولادها بالجامعة، كان الله في عونها". آخر مرةٍ سألتُ فيها عن «فاطمة» ابتسم صديقي وقال: "ارتاحت وجلست في منزلها"، قلتُ: "يحق لها فقد تعبت كثيراً"، لمعت عينا صديقي ببريقٍ غريبٍ تفاجأتُ به، وابتسم ابتسامةً أغرب، قلتُ: "ما وراءك؟"، قال: "حققت «فاطمة» هدفها؛ فهدأ بالها واطمأنت نفسها فتوقفت عن العمل"، سألته: "وما كان هدفها؟ تعليم أولادها؟ هل تخرجوا؟"، ذهب إلى أحد الأدراج وأخرج منه صورة مسجدٍ جميلٍ أنيقٍ صغيرٍ، كُتبت على حَجَر رخاميٍ كبيرٍ في مُقدمته عبارةٌ بالخط الأسود {مسجد فاطمة}، قلتُ: "ما هذا؟"، قال: "هذا هو هدف «فاطمة» الذي حققته؛ لقد كان هدفها أن تبني مسجداً من تعبها وعرقها ليكون صدقةً جاريةً لها وبركةً في حياتها وبعد مماتها".

عندما سمعتُ الخبر دارت بي الدنيا ولفت، وصغرت نفسي أمام عينيّ، أحسستُ أنني قزمٌ أمام عملاقٍ اسمه «فاطمة»؛ الخادمة الآسيوية التي وضعت لنفسها هذا الهدف السامي النبيل، ولم تكتفِ بأن يظل ذلك الهدف مجرد حلمٍ يُراودها، ولم تتقاعس، وإنما دفعها (السعي للآخرة) إلى العمل الحثيث والدؤوب، بهمةٍ لا تفتر ولا تنقطع، ولأنها أخلصت النية لله سبحانه وتعالى فتح الله لها أبواب الرزق لتُحقق ذلك الهدف.

 

أحبتي في الله.. ختم راوي القصة بالقول: أنا الآن أتساءل: "إذا كان (السعي للآخرة) هو هدف خادمةٍ أعجميةٍ غير عربيةٍ، فما هي أهدافنا نحن العرب الذين نقرأ القرآن بمهارةٍ، ونفهم ما فيه، نحن الذين تعلمنا، وأنعم الله علينا بنعمٍ كثيرةٍ، ما هي أهدافنا وإلى ماذا نسعى؟ بناء منزلٍ أكبر؟ شراء سيارةٍ أفخم؟ توسيع التجارة؟ تعليم الأولاد الطب والهندسة ليُقال والد الطبيب ووالد المهندس؟

قصة «فاطمة» جعلتني أفكر في الموازين والمفاضلات: مَنْ أفضل مِنْ مَنْ؟ مَن الرابح؟ ومَن الخاسر؟ مَن يسعى للدنيا، أم مَن يسعى للآخرة؟

 

إن شريعة الإسلام شريعةٌ وسطيةٌ، تقوم على التوازن والاعتدال بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير؛ يقول تعالى عن أمة الإسلام: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. والقاعدة الإلهية في فقه التعامل مع الدنيا والآخرة تؤكد وسطية الإسلام؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، ويُبين الله سبحانه وتعالى الفرق بين الدنيا والآخرة بقوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، ويُذكِّرنا سبحانه بأن وجودنا في الدنيا هو للاختبار والابتلاء فعلينا أن نُحسِن العمل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، ومع ذلك فإن مِن الناس مَن شدته الحياة الدنيا فانشغل بها ولم يسعَ للآخرة؛ يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، بل ومنهم من فضّل الدنيا على الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ووصف عزّ وجلّ الذين رضوا بالحياة الدنيا ولم يعملوا للآخرة بالغافلين، وتوعدهم بالنار مأوىً لهم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

ومن الناس من جمع بين العمل للدنيا و(السعي للآخرة)، وهؤلاء هُم مَن مدحهم المولى عزّ وجلّ بقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. وعن هذه الآية الكريمة يقول العلماء إن هؤلاء هُم أصحاب الهمم العالية، يسألون الله خيري الدنيا‏ والآخرة، قدموا توسلهم بأجمل الأسامي والصفات: ﴿رَبَّنَا﴾ نداءٌ فيه إقرارٌ بالربوبية ‏العامة للَّه تعالى وتوحيدْ لألوهيته؛ فليس لهم غير ربهم يتولاهم، ويُصلح أمورهم. ثم يقولون: ﴿آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يسألون ربهم من خير الدنيا كله بأوجز لفظٍ وعبارةٍ، فجمعت هذه الدعوة كل خيرٍ يتمناه العبد في الدنيا من عافيةٍ، ودارٍ رحبةٍ، وزوجةٍ حسنةٍ، ‏ورزقٍ واسعٍ، وعلمٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ، ومركبٍ هنيءٍ. ويقولون: ﴿وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ يسألون ربهم الحسنة في الآخرة؛ بالبعث على أمنٍ، والنشور إلى ظلٍ، ومجاوزة الصراط، ويُسر الحساب، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله عزّ وجلّ. ثم يقولون: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ مع ما يقتضيه هذا من تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشُبهات والحرام. فصار هذا الدعاء أجمع دعاءٍ وأكمله؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الدعاء به، والحث عليه.

 

ويُنبه أهل العلم إلى أن من كان يريد الحياة الدنيا؛ فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يُريد لأجلٍ محدودٍ، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ومن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها دون أن يعمل لآخرته، فإن الله يُعجِّل له حظه منها حين يشاء، ثم مصيره إلى جهنم؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾. أما الذي يريد الآخرة فلابدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويُقيم سعيه لها على الإيمان؛ فيلقى التكريم في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾.

 

ومن (السعي للآخرة) الإكثار من الصدقات الجارية، ومن أفضلها: سقي الماء، والوقف بأنواعه كبناء المساجد، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، وبناء المدارس، والمستشفيات.

وعن فضل الصدقات الجارية يقول أهل العلم إن الصدقة تُطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء، وتُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النارَ، وهي دواءٌ للأمراض البدنية وأمراض القلوب، وبُرهانٌ على صدق إيمان المسلم، كما أنها تُطهِّر نفس الإنسان وتُخلصه مما قد يُصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب، وتُطهِّر المال ممّا قد يُصيبه من الحرام، وتدفع البلاء، وتؤدي إلى انشراح الصدر وطمأنينة القلب وراحته، وهي سببٌ للبركة في المال، وسببٌ لوصول المسلم إلى مرتبة البر، وسببٌ لدعاء الملائكة كل يومٍ للمتصدق، وسببٌ لسروره ونضرة وجهه يوم القيامة، وسببٌ لمضاعفة أجره، وبعده عن النار، ودخوله الجنة من بابٍ خاصٍ يُقال له باب الصدقة، وهل أفضل من أن يكون المتصدق في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ إن الصدقات من أفضل الأعمال الصالحة والقُربات إلى الله سبحانه وتعالى.

 

أحبتي.. ليس منا من لم تأخذه الدنيا -بزخرفها وفتنتها، ومشاغلها ومشاكلها- بعيداً عن طريق الله، ولو قليلاً، إلا من رحم ربي. بعضنا سارع بالعودة إلى الصراط المستقيم، والبعض منا ما تزال الدنيا شاغله الأول والأخير. فلينظر كلٌ منا أين هو، هل حيث يُحب الله أن يراه؟ نبذل الكثير من الوقت والجهد والمال، ونتخاصم ونتعارك لتحصيل أكبر حظٍ ممكنٍ من الدنيا ونحن نعلم أنها إلى زوالٍ، فماذا أعددنا لحياتنا الأبدية؟ ما الذي يُمكن أن نفعله كي نعوض ما فات ونلحق بركب الصالحين؟ هل خططنا لأهدافنا الأخروية كما نخطط لأهدافنا الدنيوية؟ هل نكون أقل من «فاطمة»؟

ولأن الحكمة تقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" فليكن عملنا لدنيانا لتوفير ما نحتاج إليه فيها، وما يُغنينا عن الناس، ولتكون الدنيا مزرعةً للآخرة، نبذل فيها من الجهد من نُعمِّر به منازلنا الأبدية الخالدة في الآخرة بأكثر من جهدنا لتعمير قصرٍ نسكنه في الدنيا الفانية ثم حتماً نفارقه. نعمل لآخرتنا كأننا نموت غداً؛ لا نؤخر ولا نسوِّف لأجلٍ قد لا نُدركه، وإذا أدركناه قد يحبسنا عن العمل مرضٌ، أو ضعفٌ، أو قلة مالٍ أو فتور همةٍ؛ فلنبادر إلى (السعي للآخرة) بتحديد هدفٍ يُقربنا من مرضاة الله سبحانه وتعالى، وينفعنا كصدقةٍ جاريةٍ ترفع من درجتنا وتُعلي منزلتنا في الآخرة، ونظل ننتفع بآثارها بعد موتنا.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/47daAe1

الجمعة، 28 يوليو 2023

رد المظالم

 خاطرة الجمعة /406

الجمعة 28 يوليو 2023م

(رد المظالم)

 

يحدثنا أحد الإخوة الذين يعيشون في قريةٍ تقع شرق زنجبار، والذي وُلد يتيماً ووحيداً، حيث مات أبوه شاباً بعد زواجه بعدة أشهر، وكان ثمرة هذا الزواج هذا الأخ الذي يُحدثنا الآن.

يقول: نشأتُ يتيماً ووحيداً، وقامت على تربيتي أمي الأرملة الشابة، وتأيمت من أجلي، فكنتُ مشروعها في الحياة، وكنا نعيش على معاش المرحوم أبي، ومعنا أرضٍ تمدنا أحياناً بما يُقيم أودنا، ولم يكن عمي بعيداً عنا، إذ كان يتفقدنا الفينة بعد الفينة، وهكذا مضت طفولتي لا يُعكرها شيءٌ إلا فَقْدُ الأب وضيق الحال، ولكنها كانت رغم ذلك تمشي كحياة مَن حولي. أما عمي فهو رجلٌ عسكريٌ؛ إذ إنه ضابطٌ في الجيش برتبة عقيد، وكان رجلاً طيباً يحنو علينا ويسأل عنا، ولم نرَ منه إلا كل خيرٍ، وكان جارنا في الأرض؛ إذ تقاسم هو وأبي الأرض نصفين، وأعطانا قسم أبي نقوم عليه وننتفع به. عاد عمي قبل مدةٍ من سفرٍ، ووصل إلى بيته في وقتٍ متأخرٍ من الليل، وفي ضحى اليوم التالي جاءني إلى بيتي وجلس معي في ديواني -على غير عادته- حيث أنه إذا أراد مني شيئاً كان يستدعيني إلى بيته، فأدركتُ أن هناك أمراً مهماً يشغل باله، وبعد المجاملات وتناول الشاي، قال لي: "يا ولدي لقد جئتك إلى بيتك رغم أني لا أزال مرهقاً من السفر حتى أتفق معك في أمر مهم".

وأردف يقول: "يا بُني إن قطعة الأرض الفلانية -التي تقع على الساقية والتي هي أفضل أرضنا- كانت من نصيب المرحوم أبيك حينما قُسِّمت الأرض وأنت لا تزال طفلاً، جاءت في سهم أبيك، ولكني استوليتُ عليها بسبب جشعي وأنانيتي, وما طابت نفسي أن لا تكون في قسمي، والآن يا ولدي، ومن هذه اللحظة، هذه القطعة من الأرض، سوف أنقل ملكيتها لك بطريقةٍ رسميةٍ حتى لا تختلف مع أولادي، وأما ما أكلتُ منها من حرامٍ فلك الحكم لو تحب أعطيك مقابله قطعة أرضٍ أخرى أو أسددك نقداً ولكن بالتقسيط ونُقدِّر الأمر تقديراً تقريبياً, لأني أريد أن أتخلص من كل ما هو متعلقٌ بهذا الأمر واستحلك قبل أن يُداهمني الموت". فلما أكمل عمي كلماته رأيتُ الدمع يتحدر من عينيه وهو يطلب مني أن أسامحه على خطأه ذاك؛ فقلت: "يا عم أنت بمقام أبي، وأنا نشأتُ في الدنيا وكنتَ أنت ملجأي وعزوتي، ولو تحب فأنا متنازلٌ عن أي حقٍ لي في تلك القطعة من الأرض، وسوف أسترضي أمي فيما لها من ميراثٍ فيها. اِحتفظ بها واعتبرها مِلكك كما كانت، وأنا مُسامِحك دنيا وآخرة". هنا لم يتمالك عمي نفسه فاحتضني وبكى بكاءً شديداً، وقال: "لا والله ما لي قسم فيها بعد اليوم، ولن ألقى الله وهي في مِلكي"، فلما أصر طلبتُ منه أن يقبل أن أسامحه فيما مضى وأن تنتقل قطعة الأرض لي من الآن، وما فات فات، واتفقنا على هذا. في آخر المجلس سألتُ عمي عن سبب هذا التحول بعد أكثر من خمسٍ وعشرين سنة؟ فقال: "يا بُني وأنا في طريق عودتي من سفري هذا حلت صلاة الجمعة فمررتُ أصلي في أحد المساجد فوقف الخطيب على المنبر وخطب خطبةً بليغةً مؤثرةً عن حُرمة مال اليتيم وعن (رد المظالم) بكلامٍ لم أسمعه من قبل؛ فخفتُ خوفاً شديداً أن يحدث لي شيءٌ قبل أن أصل إلى بيتي وأعيد لك ما اغتصبته من أرضك".

 

أحبتي في الله.. لقد حرَّم الله سبحانه وتعالى الظلم تحريماً قاطعاً؛ فهو سبحانه الحكم العدل لا يَظلِم ولا يرضى لعباده الظلم؛ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: {إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}، وفي روايةٍ: {إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا}. ويقول عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾، وهو سبحانه لا يحب الظالمين: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، بل ويلعنهم: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويصفهم بأنهم لا يُفلحون: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، ويُبيّن أن مصيرهم هو الخيبة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾، ويُخبرنا سبحانه أن الإنسان -بنفسه الأمارة بالسوء- لديه الاستعداد لأن يَظلِم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، ومع كل ذلك، فإن الله العزيز الحكيم، بلطفه ورحمته وفيض كرمه، يفتح باب المغفرة والتوبة أمام كل ظالم: ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ويكون (رد المظالم) هو باب قبول توبتهم.

 

وعن (رد المظالم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه.]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَحشُرُ اللهُ العبادَ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ حتى اللطمة فما فوقها، ولا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النارَ وعنده مظلمةٌ، حتى اللطمة فما فوقها (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)]، قلنا: يا رسول الله، كيف وإنما نأتي حفاةً عُراةً غُرلًا بُهمًا؟ قال: [بالحسناتِ والسيئاتِ جزاءً وفاقًا ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾].

 

يقول أهل العلم إن الحقوق -التي ينبغي رد مظالمها- نوعان: حق الله، وحق الآدمي: فحق الله لا مدخل للصلح فيه؛ كالحدود، والزكوات، والكفَّارات، ونحوها؛ وإنما الصلح بين العبد وبين ربِّه في المسارعة إلى إقامتها والوفاء بها. أما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عنها.

 

وعن الحقوق الخاصة بالآخرين كتب أحدهم سائلاً الظالمين ومُذكِّراً لهم بيوم الحساب يُعدد صوراً من المظالم التي تستوجب الرد؛ كتب يقول:

هل أنت جاهز؟ يا من ظلمتَ الناس؟ يا من شهدتَ زوراً من أجل إرضاء الآخرين؟ يا من تركتَ الصلاة؟ يا من قطعتَ الأرحام؟ يا من أكلتَ حقوق غيرك؟ يا من ظلمتَ أبناءك وزوجتك؟ يا من عققتَ والديك وخاصمتَ إخوانك؟ يا من سرقتَ ورث إخوانك وأخواتك؟ يا من افتريتَ على خلق الله؟ يا من فرَّقتَ بين أبنائك الذكور والإناث؟ يا من استخدمتَ السحر لأذية غيرك؟ يا من أكلتَ مال اليتيم؟ يا من عطلتَ عمداً مصالح الآخرين؟ يا من جرحتَ إنساناً وظلمته قهراً وغدراً؟ يا من خُنتَ شخصاً أَمِنَك على حاله وماله؟ يا من كنتَ سبباً في خراب بيوت الناس؟ يا من طعنتَ بعِرض الناس وشرفهم؟ يا من استقويتَ على الضعيف ونسيت أن الله أقوى منك؟ يا من ألقيتَ بأمك أو أبيك خارج بيتك إرضاءً لزوجتك؟ يا من أكلتَ حق العامل وتعبه وشقاه؟ يا من تعاليتَ وتكبرتَ على الناس بمنصبك أو نسبك؟ هل أنت جاهز؟

إن حقوق العباد ستُرفع إلى قاضي السماء يوم الحساب، الذي يحسبه الغافلون بعيداً وهو أقرب إلينا من صحوتنا من النوم؛ فما وجودنا في الدنيا إلا وجودٌ عابرٌ ومسألة وقت، والرحيل إلى حيث الخلود لا مفر منه، وكل ساقٍ سيُسقَى بما سقَى، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.

 

يقول العلماء إن التوبة النصوح هي المشتملة على: الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفاً من الله سبحانه وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، مع (رد المظالم) إن كان عند التائب مظالم للناس من دمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ، أو استحلالهم منها، أي: طلب المسامحة منهم. ومن كان ظلمه للناس من جهة الغيبة وخشي إن أخبرهم أن يحدث ما هو أكبر من الضرر، لم يخبرهم، ودعا لهم، واستغفر لهم، وأظهر ما يعلم من محاسنهم في مقابل إساءته لهم بالغيبة. أما من أخذ أموالاً بغير حقٍ بسرقةٍ أو غيرها فالواجب عليه أن يبذل كل الوسع في البحث عن أصحابها حتى يردها إليهم هُم، أو ورثتهم إن كان أصحابها قد ماتوا، فإن أيس من العثور عليهم ولم يتسنَ له معرفة ورثتهم فله التصدق بها عنهم، وعلى كل حالٍ عليه الإكثار من كل ما يُقرب إلى الله ويزيد في ميزان الحسنات فإن حقوق العباد إذا لم يأخذوها الآن، فسيأخذونها يوم القيامة حسناتٍ أو تخلصاً من سيئات.

إن أفضل الأعمال أن يأتي المسلم يوم القيامة سالِماً من الظُّلْم، ولا يكون ذلك إلا بالمبادرة إلى أن يتحلَّل من مظالم الناس كشرطٍ لقبول توبته.

 

أحبتي.. من منا لم يَظلِم؟ لا يوجد من بيننا من مرت سنوات حياته دون أن يظلم نفسه أو يظلم غيره -إلا من رحم ربي وهُم قليل- فليبادر كلٌ منا إلى توبةٍ نصوحٍ بدايتها الصحيحة الإنابة والعودة إلى الله عزَّ وجلَّ والمحافظة على الفروض وقضاء الفوائت قدر المستطاع، و(رد المظالم) إلى العباد.

ومن منا لا يتمنى لنفسه العيش الآمن والهداية؟ كلنا نتمنى ذلك؛ فلنعلم أن ذلك مشروطٌ بأن نُقوي ونعزز إيماننا بالله، ولا نظلم غيرنا ليتحقق لنا وعد الله الذي لا يُخلف وعده؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

ولنتذكر المقولة المشهورة: "أن تصل متأخراً خيرٌ لك من ألا تصل أبداً".

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/44NjTQe

 

الجمعة، 21 يوليو 2023

تصحيح النية

 خاطرة الجمعة /405

الجمعة 21 يوليو 2023م

(تصحيح النية)

 

هذه القصة حدثت في فلسطين قبل أكثر من مائة سنة. يقول راويها إنه سمعها من صديقٍ فلسطينيٍ حدثت لجده، وتداولها الأبناء والأحفاد. يقول الجد وكان مُزارعاً:

دخل موعد شراء البذور للُمزارعين في فلسطين ولم يكن لديّ من المال ما أشتري به بذوراً؛ فسافرتُ من قريتي إلى القُدس حيث سمعتُ بأن هناك رجلاً من الأغنياء الصالحين يُقرض المُحتاجين قرضاً حسناً إلى أجل. زرته في بيته، وكانت خزانة المال بجانبه، فقلت له: "أريد أن أقترض منك مائة دينارٍ ذهبيٍ لأشتري بها بذوراً للزرع، ولك عليّ عهدٌ أن أردها لك كاملةً بعد الحصاد والبيع بإذن الله"؛ فأخذ الرجل من الخزانة كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ، معصوباً بشريطٍ أحمر من رأسه، وقال لي: "تفضل يا أخي"، قلتُ له: "ألا تُكاتبني على دَينك؟ ألا تستشهد عليّ أحداً؟"، فأجاب: "أنا يا أخي لا أستكتب على إقراضي لأحدٍ إلا بالله، ولا أستشهد على إقراضي لأحدٍ إلا الله، والله خير الشاهدين بيني وبينك".

خرجتُ من عنده وكانت نيتي سليمة بأني سأشتري البذور وأزرع وأحصد وأبيع وأرد له كامل ماله بالكمال والتمام، ولكني بعد أن صرتُ على الطريق قال لي شيطان نفسي: "هذا الرجل لا يعرفك، وأنت من قريةٍ بعيدةٍ جداً عن مكانه، ولم يُكاتبك على دَينه، ولم يستشهد عليك أحداً، والمبلغ كبيرٌ، فتصرف بالمال كما شئتَ" فتغيرت نيتي من الخير للشر. وقد كنتُ جائعاً، ففتحتُ كيس المال، وأخذتُ منه ديناراً ذهبياً، وأغلقتُ الكيس بالشريط الأحمر، وذهبتُ إلى السوق، واشتريتُ بجزءٍ من الدينار الذهبي طعاماً، وأرجعتُ باقيه إلى جيبي، وقفلتُ راجعاً باتجاه قريتي. جلستُ تحت ظل شجرة برتقالٍ، ووضعتُ كيس النقود بجانبي، والطعام أمامي، وبدأتُ آكل طعامي الذي اشتريت. وكانت الغربان تكثر في تلك المنطقة نظراً لكثرة الزروع والثمار، فلمح غرابٌ الشريط الأحمر الذي رُبط به كيس الدنانير، فظنه قطعة لحمٍ حمراء، فانقض على الكيس وخطفه من جانبي وحلّق به سابحاً في السماء عالياً، جريتُ خلفه حتى دخل وسط الأحياء السكنية لمدينة القدس الشريفة واختفى نهائياً؛ فعدتُ إلى مكان طعامي تحت شجرة البرتقال، وبكيتُ كثيراً، وندمتُ كثيراً، وحزنتُ كثيراً، ومرغتُ وجهي في التراب ندماً وأسفاً وناجيتُ ربي مباشرةً وبدون تردد قائلاً: "اللهم إنك كنتَ تعلم صدق نيتي فسهّلتَ أمري، وعلمتَ الآن سوء نيتي فجازيتني، اللهم إني أُشهدك بأني سأشتري بذوراً بما بقي من الدينار الذهبي الذي في جيبي، وأني سأوفي كامل دَيني إلى أخي الذي أقرضني في وقته".

ثم ذهبتُ إلى السوق واشتريتُ بذوراً بالمبلغ الذي تبقى لديّ من الدينار الذهبي ورجعتُ إلى قريتي البعيدة، زرعتُ البذور في مزرعتي، وكانت صغيرة المساحة، فبارك الله في زرعي وأنبت في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ، ونقّى زرعي، بقدرته سبحانه، من جميع الحشرات والآفات؛ فحصدتُ الزرع وبعتُ ثلثي الحصاد بأكثر من مائتي دينارٍ ذهبي، وأبقيتُ ثلث الحصاد لبذور السنة التالية، وتجهزتُ للسفر لإرجاع الدَين لصاحبه. وبعد سفرٍ طويلٍ، دققتُ الباب على صاحب المال، وعندما فتح لي الباب عرفني وعانقني عناقاً شديداً وهو يبكي ويقول: "حمداً لله على سلامتك يا أخي ظننتك ميتاً!"، دخلنا المنزل وأنا مُستغربٌ من عناقه وبكائه وشدة ترحيبه بي، فسألته: "يا أخي لماذا فعلتَ ما فعلتَ وأنا قد جئتك على موعدي لسداد دَينك؟"، قال لي صاحب المال مُتعجباً: "بعد أن فارقتنا بساعاتٍ كانت زوجتي تنشر الغسيل على سطح المنزل، فإذا بغُرابٍ يُسقط كيساً من رجليه على سطح بيتنا، وعندما أحضرت لي زوجتي الكيس فإذا هو نفس كيس المال الذي أعطيتك إياه، وبعد أن فتحته وعددتُ ما فيه من دنانير وجدته ناقصاً ديناراً واحداً، فقلتُ في نفسي بأن قُطاع طريقٍ قد قتلوك وأخذوا الكيس، وحصل عليه ذلك الغراب، ولا أعلم كيف حصل عليه؟! فالحمد لله على سلامتك يا أخي، فهلا أخبرتني ما كان من أمرك؟"، فأخبرته بقصتي بصدقٍ، ومددتُ إليه كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ سداداً لدَيني، فقال لي صاحب المال: "مالي صار معي، ولا ينقصه سوى دينارٍ واحدٍ، وأنا يا أخي أهبُك هذا الكيس الذي فيه تسعةٌ وتسعون ديناراً هديةً لك على سلامتك، ومكافأةً لك على صدقك وأمانتك وحُسن وفائك، ولا تتردد مُستقبلاً في زيارتي لأية حاجةٍ في نفسك، اعتبرني أخاً لك لم تلده أُمك".

 

يقول راوي القصة:

حينما كانت نية الجد المُزارع حسنةً؛ سهّل الله له الحصول على المال. ثم عندما تغيرت نيته للشر؛ سلب الغُراب منه المال. ثم بعد (تصحيح النية) وتغييرها للخير؛ زرع وحصد وباع وفتح الله له ما يَعْدِل سداد دَينه وزيادة. ووهبه الله تسعةً وتسعين ديناراً مُكافأةً له على صدقه وأمانته ووفائه؛ وصدق الله العظيم حين قال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ سميعٌ عليمٌ﴾.

 

أحبتي في الله.. النية محلها القلب، وهي ركنٌ أساسيٌ في جميع الأعمال والعبادات.

وردت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تشير إلى النية وتربط بينها وبين الإخلاص في العمل؛ من بين هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾. وقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾.

وعن النية قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه ِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

وعن أجر وثواب النية قال عليه الصلاة والسلام فيما يَروي عن ربه عَزَّ وَجَلَّ: [إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً]. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة تبوك: [إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ هَبَطْتُمْ وَادِيًا، إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا].

 

يقول العُلماء إن النية ارادةٌ ورغبةٌ داخل الإنسان تتواجد في القلب، وتُمثل ما بداخل الإنسان من مشاعر ورغباتٍ حقيقية. وقيل إنها العزم. وقيل إنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل. وقيل إنها مطلق القصد إلى الفعل. ويُشترط فيها أن تكون خارجةً من قلب الإنسان ومن مكنون نفسه، وأن لا يتم الإعلان عنها إلى أن يتم فعلها؛ فالنية لا يعلمها إلا صاحبها، اما بالنسبة للآخرين فيجب أن تتحول إلى فعلٍ أولاً.

 

وعن (تصحيح النية) حتى يرتبط العمل بالإخلاص يقول تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويُستفاد من ذلك أن لكل عملٍ صالحٍ رُكنين لا يُقبَل عند الله إلا بهما: أولهما: إخلاص النية بأن يكون المقصود بالعمل وجه الله وحده دون سواه، وثانيهما: موافقة العمل لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم. بالرُكن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر.

 

أحبتي.. قال الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [منِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ]. وعلى كلٍ منا أن يُبادر إلى (تصحيح النية)؛ فكثيرٌ منا يكتفي بأن تكون نيته في العمل إرضاء رؤسائه، أو كسب رضا الزبائن والمتعاملين، أو السعي لنيل ترقيةٍ أو علاوةٍ، وفي علاقاته الشخصية تكون نيته قاصرةً على إسعاد زوجته أو تربية أبنائه أفضل تربيةٍ ممكنةٍ أو التعامل بلطفٍ مع جيرانه وأصدقائه. نفعل ذلك، ولا حرج فيه، لكننا نغفل أن تكون نيتنا هي رضا الله سُبحانه وتعالى أولاً، ثم رضا من هُم دونه. علينا إذن أن نُسارع إلى (تصحيح النية) حتى تكون نيتنا دائماً وقبل كل شيءٍ هي رضا الله عزَّ وجلَّ؛ فإذا رضي الله عنا حقق لنا كل ما نسعى إليه من رضا الآخرين أو تحقيق مصالح دُنيوية، بل ويُثيبنا سُبحانه في الآخرة خير الثواب تفضلاً منه وتكرماً.

اللهم اجعل نيات أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، فلا نعمل نفاقاً ولا رياءً ولا سمعةً ولا فخراً، ولا لرضا أي مخلوقٍ كان، وإنما تكون أعمالنا كلها خالصةً لك وحدك، لا شريك لك، نرجو بها رضاك.

https://bit.ly/44xzSld