الجمعة، 18 أغسطس 2023

هي رسالة

 خاطرة الجمعة /409

الجمعة 18 أغسطس 2023م

(هي رسالة)

 

رجلٌ نذر نفسه لفكرةٍ كان فيها سفيراً للإسلام حول العالم، التقيته في إحدى محاضراته في مدينة «العين» بدولة «الإمارات» عام 1987م، لا أنسى ابتسامته التي لا تكاد تُفارق شفتيه، ولبسه المميز: بدلة بدون رابطة عنق وطاقية على رأسه، كما لا أنسى أبداً أسلوبه الماتع وذكاءه وسرعة بديهته، وذاكرته غير العادية، وشخصيته الجذابة المؤثرة. إنه الشيخ «أحمد حسين كاظم ديدات» -رحمة الله عليه- رجل المناظرات اللامع، الداعية والواعظ والمُحاضر والمُناظر الإسلامي الذي اشتُهِر بمناظراته وكتاباته في مقارنة الأديان، وعلى وجه الخصوص بين الإسلام والمسيحية، الحائز على جائزة الملك فيصل لجهوده في خدمة الإسلام عام 1986م. وُلد «أحمد ديدات» في الأول من يوليو عام 1918م في مدينة «سورات» غرب ولاية «غوجرات» الهندية، لأسرةٍ بسيطةٍ تعمل في الزراعة، وهاجر والده إلى «جنوب أفريقيا» بُعيد ولادته حيث عمل خياطاً، وتُوفيت أمه وهو في التاسعة من عمره؛ فسافر للعيش مع أبيه عام 1927م، وهناك حفظ القرآن الكريم. مثَّل انتقاله إلى «جنوب أفريقيا» نقلةً نوعيةً وكبيرةً من مجتمعٍ لمجتمعٍ آخر؛ ففي مجتمعه الجديد، كان العرق الأبيض يُهيمن على باقي الأعراق، وكانت هناك تفرقةٌ عنصريةٌ وظلمٌ واضطهادٌ، وكان المحتلون البريطانيون في «جنوب أفريقيا» يُمارسون التمييز والتنصير ضد المسلمين من الأعراق الهندية والمالاوية. كان والده رجلاً فقيراً يبحث عن لقمة العيش بشِق الأنفس، مما دفع «أحمد ديدات» إلى ترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي، والعمل في أحد المحال بجوار إرساليةٍ تنصيريةٍ كان طلابها يمرون على «ديدات» وهو يعمل، ويُلقون علية الشُبهات التي يتعلمونها في الإرسالية؛ يقول «ديدات»: “في تلك الأيام، ومن هذه الكلية توافد علينا المبشرون يأتون لشراء الأغراض من المحل، وينهالون عليّ بالأسئلة والانتقادات؛ كانوا يقولون: هل تعلم أن «محمداً» تزوج نساءً كثيرات؟ وقتها لم يكن لديّ أية معرفةٍ، ويقولون: هل تعلم أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن «محمداً» نقل كتابه عن اليهود والنصارى؟ لم يكن عندي درايةٌ بذلك، وكان الموقف بغاية الصعوبة بالنسبة لي”.

لقد ولّد إحساس «ديدات» بالضعف والقهر ردة فعلٍ للتحدي ورغبةً في نُصرة دينه، وأحس أنها إنما (هي رسالة) من الواجب عليه القيام بها.

يقول «ديدات» عن البداية: “ذات صباحٍ دخلتُ مخزناً رئيسياً في العمل، وأخذتُ أقلب في كومةٍ من الكتب القديمة بحثاً عن مادةٍ أقرؤها، وانهمكت بالبحث إلى أن عثرت على كتابٍ قضمته الحشرات، كان قديماً ومُتعفناً، قرأتُ عنوانه وهو {إظهار الحق}، وبفضل هذا الكتاب تغيرت حياتي تماماً". هذا الكتاب العظيم هو الذي فتح آفاق «أحمد ديدات» للرد على شُبهات النصارى بما تميز به من منهجٍ حواريٍ، وتأصيله تأصيلاً شرعياً يوافق المنهج القرآني في دعوة أهل الكتاب إلى الحوار وطلب البرهان والحُجة من كتبهم المحرفة، فكان لفكرة إقامة المناظرات أثرٌ عميقٌ عنده؛ ليترك لنا هذا المنهج الدعوي المبارك الذي كان نتيجته أن أسلم على يديه آلافٌ من النصارى من مختلف أنحاء العالم، والبعض منهم الآن دعاةٌ إلى الإسلام. بدأ «ديدات» يقرأ الكتاب، ووجد فيه بغيته للرد على الذين يُهاجمون الإسلام، ثم بدأ يُحضّر نُسخاً مُختلفةً من الإنجيل ويُقارن بينها، ويدرسها ويُدوِّن ملاحظاته عليها، ثم خطا خطوةً كانت أكثر جرأةً، فقد كان يذهب للمُنصّرين في عُقر دارهم ويُناقشهم في تلك النصوص. يقول «ديدات»: “أخبرني شخصٌ إنجليزيٌ كان قد اعتنق الإسلام واسمه «فيرفاكس»، أن لديهم رغبةً لتدريس المُقارنة بين الأديان، وأطلق على تلك الدراسة {دراسة الإنجيل}، قال إنه سيعلمنا كيف نستخدم الكتاب المُقدس في الدعوة للإسلام، وافقنا وكنا سعداء، ومن بين ثلاثمائة شخصٍ من الحاضرين اختار عشرين فقط ليبقوا ويتلقوا مزيداً من العِلم”. تغيب «فيرفاكس» لمدةٍ طويلةٍ؛ فكان تغيبه فرصةً للشيخ «ديدات» ليبدأ في تعليم الطلاب من حيث انتهى، يقول: “بقيتُ ثلاث سنواتٍ وأنا أتحدث إليهم، وكانت تلك أفضل وسيلةٍ تعلمتُ منها، فأفضل طريقةٍ لتتعلم هي أن تُعلِّم الآخرين”.

ولإيمانه بأن توعية الناس (هي رسالة) أصدر «ديدات» في بداية الخمسينيات كتيبه الأول "ماذا يقول الكتاب المقدس عن «محمدٍ» صلى الله عليه وسلم؟" ثم نشر بعد ذلك أحد أبرز كتيباته "هل الكتاب المقدس كلام الله؟"، وفي المُحصلة ألّف «ديدات» ما يزيد عن عشرين كتاباً، وطبع الملايين منها لتوزع بالمجان، بخلاف المناظرات التي طبع بعضها، وقام بإلقاء آلاف المحاضرات في جميع أنحاء العالم، واشتُهر بمناظراته التي عقدها مع كبار رجال الدين المسيحي.

كان «ديدات» يقول دائماً: "من فمك أُدينك"؛ فكان يُناقش النصارى من خلال الإنجيل، وكان يقرأ النصوص من ذهنه ويحفظها كاملةً، وقد أوتي فصاحةً باللغة الإنجليزية، تواكبها فصاحةٌ في ذِكر الآيات القرآنية -على الرغم من عدم إجادته اللغة العربية- مما أهله ليكون الفارس الأول في مجال المناظرة الإسلامية المسيحية؛ فكان بحقٍ رجلاً متميزاً متفرداً ليس له نظيرٌ في هذا المجال لأنه اعتبر الدعوة إلى الإسلام (هي رسالة) عليه أن يكون له دورٌ فيها. كانت أهم مناظرةٍ له تلك التي جمعته بالقس «جيمي سوغارت»، والتي بُثت على أكثر من مئة قناةٍ تلفزيونيةٍ، وتحدَّث من خلالها للنصارى في جميع أنحاء العالم، وفي تلك المناظرة أظهر هشاشة «سوغارت»؛ فقد تحدث «ديدات» بأسلوبين: منطقيٍ وعاطفيٍ، وبرع في الأسلوبين المنطقي العقلي، والعاطفي الذي أثار الجماهير وجذبهم، فيما استخدم «سوغارت» الأسلوب العاطفي فقط، ولم يكن لديه منطقٌ علميٌ يُقدمه رداً على أسئلة «ديدات».

في تلك الفترة ظهر الفيديو كاسيت، وكان الناس يتداولون أشرطة «ديدات» كعلامةٍ على انتصار الإسلام على المسيحية؛ يقول «ديدات»: “كان العالم الإسلامي يُلِّح في طلب الأشرطة خصوصاً الذين يعيشون في الغرب، حيث يشن المبشرون حرباً على المسلمين، وكما هو الحال في «الهند» و«بنغلاديش» و«إندونيسيا» وحيثما وُجد المسلمون فإنهم لا يعرفون التصدي لهؤلاء ومواجهتهم، وأشرطتنا تقوم بذلك”.

لقد شكَّل «ديدات» ظاهرةً حقيقيةً سيطرت على العالم الإسلامي لعقودٍ، وكان مقره في منطقة «ديربان» في «جنوب أفريقيا»، وهناك حقق أمنيته بافتتاح مركزٍ للدعوة؛ فلم يكتفِ بالعمل الفردي، وإنما كان يحترم العمل المؤسسي.

 

أحبتي في الله.. لم يكن الشيخ «أحمد ديدات» داعيةً تقليدياً يُركز على الحشد والترويج لدينه، لكنه ركَّز على العقل والاختيار، فهو لا يقول لك: آمِن بهذا أو أترك هذا، لكنه يقول لك: "اختر؛ فأمامك الحقائق التي توصلتَ إليها".

لقد كان -رحمة الله عليه- فارساً في مواجهة التنصير، مهمته أن يؤكد على القيم الحضارية الإسلامية التي يُراد لها أن تُجتث وأن تُدمج قسراً بالحضارة الغربية، لقد ترك بصمةً واضحةً في العِلم الذي برع فيه، لا يُمكن نسيانها بأي حال؛ فكانت جهوده (هي رسالة) تؤكد على أن القوة تُولَد من رحم الضعف، والتحدي يُولَد من رحم العجز، والعزة تُولَد من رحم القهر.

في إبريل عام 1996م أُصيب الشيخ «ديدات» بجلطةٍ في الدماغ، فنصحه الأطباء بالراحة، إلا أنه رفض الاستماع لنصائح الأطباء، وسافر إلى «أستراليا» لعرض الإسلام، وتحدى هناك عدداً من المنصرين الأستراليين الذين أساءوا للإسلام. وعلى الرغم من مرضه وكِبَر سنه الذي قارب الثمانين، طاف الشيخ «ديدات» ولايات «أستراليا» محاضراً ومناظراً ومدافعاً عن الإسلام، غير آبهٍ بنصائح الأطباء، حتى وقع أرضاً من شدة الإرهاق والتعب، فأصيب بجلطةٍ في الدماغ، وظل طريح الفراش مدة تسع سنواتٍ لا يستطيع أن يُحرك إلا عينيه، ورغم ذلك لم ييأس؛ فقد استخدم لوحةً ضوئيةً يختار منها بعينيه حروف الكلمات التي يُريد التعبير بها، ليستمر في تعليم تلاميذه بنظرات عينيه، إلى أن تُوفي إلى رحمة الله في الثامن من أغسطس عام 2005م.

ومن أطرف وألطف ردود «أحمد ديدات» رده السريع المُفحِم على ملحدٍ سأله: ما شعورك لو مُت واكتشفت أنَّ الآخرة كَذِب؟ فأجاب: ليس أسوأ من شعورك عندما تموت وتكتشف أنَّها حقيقة!

 

أحبتي.. هذه قصة رجلٍ أعجميٍ تمثَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَة]، يقول عن أثر هذا الحديث في نفسه: "علينا أن نبلِّغ رسالة الله تعالى حتى ولو كنا لا نعرف إلاَّ آيةً واحدةً، إن سرّاً عظيماً يكمن وراء ذلك؛ فإنك إذا بلَّغتَ وناقشتَ وتكلمتَ فإن الله يفتح أمامك آفاقاً جديدةً". فمن منا تأثر بهذا الحديث الشريف كما تأثر الشيخ «ديدات»؟ كم منا حباه الله بالعِلم والذكاء والقدرة على الحوار فاستغل هذه النعم الربانية في خدمة الإسلام؟ إن الدعوة إلى الإسلام ليست وظيفةً وإنما (هي رسالة) على كلٍ منا أن يجعل لنفسه دوراً فيها، حتى ولو كان محدوداً: أُنشر آيةً قرآنيةً، عمم حديثاً نبوياً تُحيي به سُنة نبيك، اُكتب مقالاً دعوياً، اكفل طالب علمٍ شرعي، أرسل لغيرك مادةً دينيةً مفيدةً، وغير ذلك مما تستطيعه، بحسب قدراتك وإمكانياتك. قدِّم لنفسك واترك من الآثار ما ينفعك في الدار الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ﴾.

اللهم أعنّا على خدمة دينك، ويسِّر لنا سُبل النهوض بواجب الدعوة إليه والتعريف به والدفاع عنه.

https://bit.ly/3KHeW35

 

الجمعة، 11 أغسطس 2023

عمل الخير لا يضيع

 خاطرة الجمعة /408

الجمعة 11 أغسطس 2023م

(عمل الخير لا يضيع)

 

يقول طبيب الأطفال صاحب القصة: استيقظتُ علي صوتِ أبي الهادئ وهَزِّه لكتفي بحنانٍ وإصرارٍ وهو يقول لي: "أحمد، محتاجك ضروري في غرفة الصالون". وعندما أفقتُ بصعوبةٍ شديدةٍ وبعينين يداعبهما النوم نظرتُ إلى الساعة المعلقة على جدار غرفتي فرأيتها تشير إلى الساعة الثانية صباحاً، وكنتُ قد ذهبتُ إلى الفراش بعد الساعة الحادية عشرة مساءً بقليلٍ نظراً لاستعدادي لأداء امتحانٍ شفهيٍ في صباح ذات اليوم في مادة الكيمياء الحيوية كمتطلبٍ أساسيٍ للجزء الأول من ماجستير طب الأطفال. قمتُ من الفِراش بملابس النوم وذهبتُ إلى غرفة الصالون مباشرةً ينتابني شيءٌ من القلق؛ فلا أدري لماذا أيقظني أبي؟ ولا أعلم ماذا ينتظرني في غرفة الصالون؟

في غرفة الصالون وجدتُ شاباً في الثلاثين من عمره يبدو من ملابسه وشكل شعره أنه جاء على عجلٍ وكان يصحب معه طفلاً رضيعاً لا يتجاوز عامه الأول تظهر عليه علامات المرض. قال لي والدي، رحمة الله عليه: "هذا سمير ابن عمك إبراهيم، صديقي، وهذا ابنه الصغير مريضٌ، وجاء إليك لتكشف عليه"، بدأتُ أتمالك نفسي وأستعيد درجة الوعي وقوة التركيز الضرورتين للكشف على الطفل؛ وبالسؤال عن التاريخ المرضي وبالفحص تبين أنه يعاني من نزلةٍ معويةٍ حادةٍ وحالة جفافٍ شديدٍ، وكان الإجراء الطبي المناسب هو تركيب محاليل له عن طريق الوريد بصورةٍ عاجلةٍ؛ فاقترحتُ على والد الطفل الذهاب إلى مستشفى الجامعة، وأخبرته بأنني سأقوم بالاتصال بأحد زملائي لاستقباله هناك والقيام باللازم؛ حيث أنني في إجازة امتحاناتٍ ولديّ امتحانٌ شفويٌ صعبٌ في الصباح الباكر. عندما نظرتُ إلى وجه أبي لاحظتُ عليه علامات عدم الرضا من اقتراحي، وإذا به يطلب مني بلهجةٍ فيها شيءٌ من الإصرار: "قُم يا أحمد ارتدِ ملابسك وانزل مع سمير وابنه إلى المستشفى، ولا تتركه إلا بعد أن تُركِّب المحاليل لابنه وتطمئن عليه". نظرتُ إلي أبي مندهشاً وخرجتُ من غرفة الصالون متجهاً إلى غرفة النوم لتغيير ملابسي وتنفيذ ما أمر به أبي، محاولاً أن أفهم ما الحكمة وراء ذهابي إلى المستشفى في هذا التوقيت غير المناسب من وجهة نظري، ناديتُ على أبي وسألته بكل تقديرٍ واحترامٍ لرغبته: "تعلم يا أبي أن لديّ امتحاناً في الصباح، وأن نزولي الآن من البيت يُمكن أن يؤثر علي أدائي في الامتحان"، نظر إليّ وقال بنبرة صوتٍ فيها الكثير من التأثر: "الطفل مريضٌ وأنا متأثرٌ جداً لحالته"، ثم قال لي، وقد تغيرت نبرة صوته إلى أخرى فيها الكثير من الثقة: "نزولك معه الآن سيكون سبباً في أن يكرمك الله في الامتحان.. وسترى"، فما كان منّي إلا أن اصطحبت الطفل وأباه إلى المستشفى، وقمتُ بتركيب المحاليل بنفسي، وتركتهما بعد أن اطمأننتُ على الطفل، ووصيتُ عليه زميلي لكي يتابع حالته. عدتُ إلى المنزل والساعة قد جاوزت الرابعة والنصف صباحاً، وكانت مشاعري في ذلك الوقت مزيجاً من القلق والإرهاق، مع التسليم بقضاء الله فيما سيحدث في الامتحان. بعد محاولاتٍ يائسةٍ للنوم تركتُ فِراشي وقمتُ لتناول طعام الإفطار وكوب الشاي الذي أعدته لي أمي، رحمها الله، ثم بدأتُ أستعد للذهاب إلى لجنة الامتحان بقسم الكيمياء الحيوية بالكلية، والذي بدأ يعج بالطلبة والمعيدين والأساتذة الممتحنين، وامتزجت الأصوات والمشاعر بين الحاضرين. جلستُ أنتظر دوري للدخول على لجنة الامتحان إلى أن تم النداء على اسمي بمعرفة أحد المعيدين بالقسم، وكانت اللجنة تتكون من أقدم ثلاثة أساتذة بالقسم، دخلتُ عليهم وقلبي يكاد يخرج من صدري محاولاً التماسك حتي لا تبدو عليَّ علامات القلق، ولكن عندما نظرتُ إليهم لاحظتُ الابتسامة تُزيَّن وجوههم؛ فزال مني كل التوتر والرهبة من الامتحان، وبدأتُ أستعيد تماسكي بالتدريج، أديتُ الامتحان وأجبتُ عن كل الأسئلة المطروحة على أحسن ما يكون ولله الحمد، ثم خرجتُ من لجنة الامتحان وأنا في حالةٍ بين السعادة والاستغراب مما حدث! كيف لهذا اليوم الطويل، والذي بدأ منذ الصباح الباكر، أن ينتهي هكذا على أفضل وجه؟ وبدأ يُلح على عقلي سؤالٌ: "من أين أتت لأبي هذه الثقة الكبيرة بأن الله سيكرمني إذا ذهبتُ إلى المستشفى مع الطفل؟".. لابد أنه كان على قناعةٍ تامةٍ بأن (عمل الخير لا يضيع)، وأن مهنة الطب مهنةٌ إنسانيةٌ في المقام الأول. لقد أعطاني أبي -رحمه الله- درساً عملياً في ذلك.

الآن، وبعد مرور سنين طويلة على هذا الموقف، لا تزال تفاصيله محفورةً في قلبي لتذكرني دائماً بأن (عمل الخير لا يضيع) أبداً.

 

أحبتي في الله.. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾، وحبة الخردل في نهاية القِلة والصغر حتى إن الحس لا يُدرك لها ثقلاً؛ إذ لا تُرجح ميزاناً. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾،

ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، وفي معنى ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يقول المفسرون إنه وَزْن أصْغر نملةٍ أو هَباءَةٍ؛ فمن يعمل وزن نملةٍ صغيرةٍ خيراً، يرَ ثوابه في الآخرة، وقيل: في الحال قبل المآل؛ فإن (عمل الخير لا يضيع)، وهذا شاملٌ للخير كله، وفيه غاية الترغيب في فعل الخير ولو كان قليلاً.

وقيل عن الآية الأخيرة إنها أحكم آيةٍ في القرآن. وقيل إنها قد جمعت أسمى ألوان الترغيب.

 

وعن أعمال الخير يسيرة الأداء عظيمة الأجر والثواب قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]. كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وَكَيفَ؟ قالَ: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها]. ولما سُئل صلى الله عليه وسلم: أيُ الصدقةِ أفضل؟ قال: [جُهْدُ المُقلِّ..]، في إشارةٍ إلى الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾. وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: [لاَ تَحْقِرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئًا؛ وَلَوْ أَنْ تَلقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ].

يقول شُراح الأحاديث إن في هذه الأحاديث ترغيباً في الصدقات وإن كانت بأقل القليل، شرط أن تكون من كسبٍ طيبٍ حلالٍ، وأن يكون المقصود هو وجه الله سبحانه وتعالى، فلا تُقبل صدقة النفاق والرياء والكِبْر والتعالي والتفاخر والسمعة والمباهاة والمن، من هنا كانت أهمية عقد النية والعزم على أن تكون الصدقة -بالمال أو الجهد أو النصيحة- خالصةً لوجه الله تعالى، وكلما خفيت كان ثوابها أعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم من السَبْعَة الذين [يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ]: [..ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ..].

وضرب النبي عليه الصلاة والسلام أمثلةً عمليةً على أعمال بسيطةٍ وسهلةٍ ترتب عليها ثوابٌ عظيمٌ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [بينما رجلٌ يمشي في طريقٍ إذ وجدَ غصنَ شوْكٍ فأخَّرَهُ فشَكرَ اللَّهُ لَهُ فغفرَ لَهُ]. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ]. {الرَكية: البئر. المُوق: الخُف} لم يغفر الله للرجل والمرأة لكثرة عبادةٍ، وإنما لأنهما قاما بعملين يبدوان في نظر كثيرٍ من الناس بسيطين أو صغيرين أو قليلين، قاصدين وجه الله سبحانه وتعالى، لم يستصغرا عملهما، وكانت سرعة استجابتهما مع إخلاصهما في العمل سببين لمغفرة المولى عزَّ وجلَّ.

 

قال الشاعر:

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ

لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

وقال آخر:

لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً

إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

 

أحبتي.. لا تستصغروا عمل خيرٍ أبداً فثوابه عند الله عظيم؛ و(عمل الخير لا يضيع)؛ فلنحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه، وعلى عمل كل خيرٍ ممكن؛ بالمال وإن قلّ، وبالجهد وإن كان بسيطاً، وبالكلمة للشكر أو النصيحة أو التوجيه والإرشاد والتعليم وإن بدت لنا صغيرةً أو غير ذات بال. ولا نحتقر من العمل شيئاً أو نستصغره؛ فاحتقار العمل أو استصغاره أو النظر إليه على أنه قليلٌ مدعاةٌ لتركه، وقد يكون من ينتظر هذا العمل شديد الاحتياج له ولو بدا لنا صغيراً أو تافهاً. ثم مَن يدري؛ لربما كانت نجاتنا في ذلك العمل اليسير. وهل أيسر من شِق تمرةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ أو درهمٍ واحدٍ أو وجهٍ طليقٍ نتقي به النار؟

اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، واهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. وقنا اللهم شُح أنفسنا، وزيِّن إلينا حب عمل الخير وفعل المعروف، واقبله منا يا رب العالمين.

https://bit.ly/3DSuAoI

 

الجمعة، 4 أغسطس 2023

السعي للآخرة

 خاطرة الجمعة /407

الجمعة 4 أغسطس 2023م

(السعي للآخرة)

 

عن قصة كفاح «فاطمة» الخادمة الإندونيسية، وهي زوجة السائق الخاص لإحدى العائلات بدولةٍ من دُول الخليج العربي، كتب يقول:

كنتُ أشاهدها تعمل عند صديقٍ لي، وكنتُ أراها دائماً مُتعبةً وتعمل ببطء؛ فقد بلغت من العمر الخامسة والخمسين، كما علمتُ أنها أصيبت بمرض السُكري. سألتُ صديقي مرةً: "أما آن لهذه المسكينة أن ترتاح؟"، أجاب: "أولادها بالجامعة، كان الله في عونها". آخر مرةٍ سألتُ فيها عن «فاطمة» ابتسم صديقي وقال: "ارتاحت وجلست في منزلها"، قلتُ: "يحق لها فقد تعبت كثيراً"، لمعت عينا صديقي ببريقٍ غريبٍ تفاجأتُ به، وابتسم ابتسامةً أغرب، قلتُ: "ما وراءك؟"، قال: "حققت «فاطمة» هدفها؛ فهدأ بالها واطمأنت نفسها فتوقفت عن العمل"، سألته: "وما كان هدفها؟ تعليم أولادها؟ هل تخرجوا؟"، ذهب إلى أحد الأدراج وأخرج منه صورة مسجدٍ جميلٍ أنيقٍ صغيرٍ، كُتبت على حَجَر رخاميٍ كبيرٍ في مُقدمته عبارةٌ بالخط الأسود {مسجد فاطمة}، قلتُ: "ما هذا؟"، قال: "هذا هو هدف «فاطمة» الذي حققته؛ لقد كان هدفها أن تبني مسجداً من تعبها وعرقها ليكون صدقةً جاريةً لها وبركةً في حياتها وبعد مماتها".

عندما سمعتُ الخبر دارت بي الدنيا ولفت، وصغرت نفسي أمام عينيّ، أحسستُ أنني قزمٌ أمام عملاقٍ اسمه «فاطمة»؛ الخادمة الآسيوية التي وضعت لنفسها هذا الهدف السامي النبيل، ولم تكتفِ بأن يظل ذلك الهدف مجرد حلمٍ يُراودها، ولم تتقاعس، وإنما دفعها (السعي للآخرة) إلى العمل الحثيث والدؤوب، بهمةٍ لا تفتر ولا تنقطع، ولأنها أخلصت النية لله سبحانه وتعالى فتح الله لها أبواب الرزق لتُحقق ذلك الهدف.

 

أحبتي في الله.. ختم راوي القصة بالقول: أنا الآن أتساءل: "إذا كان (السعي للآخرة) هو هدف خادمةٍ أعجميةٍ غير عربيةٍ، فما هي أهدافنا نحن العرب الذين نقرأ القرآن بمهارةٍ، ونفهم ما فيه، نحن الذين تعلمنا، وأنعم الله علينا بنعمٍ كثيرةٍ، ما هي أهدافنا وإلى ماذا نسعى؟ بناء منزلٍ أكبر؟ شراء سيارةٍ أفخم؟ توسيع التجارة؟ تعليم الأولاد الطب والهندسة ليُقال والد الطبيب ووالد المهندس؟

قصة «فاطمة» جعلتني أفكر في الموازين والمفاضلات: مَنْ أفضل مِنْ مَنْ؟ مَن الرابح؟ ومَن الخاسر؟ مَن يسعى للدنيا، أم مَن يسعى للآخرة؟

 

إن شريعة الإسلام شريعةٌ وسطيةٌ، تقوم على التوازن والاعتدال بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير؛ يقول تعالى عن أمة الإسلام: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. والقاعدة الإلهية في فقه التعامل مع الدنيا والآخرة تؤكد وسطية الإسلام؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، ويُبين الله سبحانه وتعالى الفرق بين الدنيا والآخرة بقوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، ويُذكِّرنا سبحانه بأن وجودنا في الدنيا هو للاختبار والابتلاء فعلينا أن نُحسِن العمل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، ومع ذلك فإن مِن الناس مَن شدته الحياة الدنيا فانشغل بها ولم يسعَ للآخرة؛ يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، بل ومنهم من فضّل الدنيا على الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ووصف عزّ وجلّ الذين رضوا بالحياة الدنيا ولم يعملوا للآخرة بالغافلين، وتوعدهم بالنار مأوىً لهم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

ومن الناس من جمع بين العمل للدنيا و(السعي للآخرة)، وهؤلاء هُم مَن مدحهم المولى عزّ وجلّ بقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. وعن هذه الآية الكريمة يقول العلماء إن هؤلاء هُم أصحاب الهمم العالية، يسألون الله خيري الدنيا‏ والآخرة، قدموا توسلهم بأجمل الأسامي والصفات: ﴿رَبَّنَا﴾ نداءٌ فيه إقرارٌ بالربوبية ‏العامة للَّه تعالى وتوحيدْ لألوهيته؛ فليس لهم غير ربهم يتولاهم، ويُصلح أمورهم. ثم يقولون: ﴿آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يسألون ربهم من خير الدنيا كله بأوجز لفظٍ وعبارةٍ، فجمعت هذه الدعوة كل خيرٍ يتمناه العبد في الدنيا من عافيةٍ، ودارٍ رحبةٍ، وزوجةٍ حسنةٍ، ‏ورزقٍ واسعٍ، وعلمٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ، ومركبٍ هنيءٍ. ويقولون: ﴿وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ يسألون ربهم الحسنة في الآخرة؛ بالبعث على أمنٍ، والنشور إلى ظلٍ، ومجاوزة الصراط، ويُسر الحساب، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله عزّ وجلّ. ثم يقولون: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ مع ما يقتضيه هذا من تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشُبهات والحرام. فصار هذا الدعاء أجمع دعاءٍ وأكمله؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الدعاء به، والحث عليه.

 

ويُنبه أهل العلم إلى أن من كان يريد الحياة الدنيا؛ فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يُريد لأجلٍ محدودٍ، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ومن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها دون أن يعمل لآخرته، فإن الله يُعجِّل له حظه منها حين يشاء، ثم مصيره إلى جهنم؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾. أما الذي يريد الآخرة فلابدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويُقيم سعيه لها على الإيمان؛ فيلقى التكريم في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾.

 

ومن (السعي للآخرة) الإكثار من الصدقات الجارية، ومن أفضلها: سقي الماء، والوقف بأنواعه كبناء المساجد، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، وبناء المدارس، والمستشفيات.

وعن فضل الصدقات الجارية يقول أهل العلم إن الصدقة تُطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء، وتُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النارَ، وهي دواءٌ للأمراض البدنية وأمراض القلوب، وبُرهانٌ على صدق إيمان المسلم، كما أنها تُطهِّر نفس الإنسان وتُخلصه مما قد يُصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب، وتُطهِّر المال ممّا قد يُصيبه من الحرام، وتدفع البلاء، وتؤدي إلى انشراح الصدر وطمأنينة القلب وراحته، وهي سببٌ للبركة في المال، وسببٌ لوصول المسلم إلى مرتبة البر، وسببٌ لدعاء الملائكة كل يومٍ للمتصدق، وسببٌ لسروره ونضرة وجهه يوم القيامة، وسببٌ لمضاعفة أجره، وبعده عن النار، ودخوله الجنة من بابٍ خاصٍ يُقال له باب الصدقة، وهل أفضل من أن يكون المتصدق في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ إن الصدقات من أفضل الأعمال الصالحة والقُربات إلى الله سبحانه وتعالى.

 

أحبتي.. ليس منا من لم تأخذه الدنيا -بزخرفها وفتنتها، ومشاغلها ومشاكلها- بعيداً عن طريق الله، ولو قليلاً، إلا من رحم ربي. بعضنا سارع بالعودة إلى الصراط المستقيم، والبعض منا ما تزال الدنيا شاغله الأول والأخير. فلينظر كلٌ منا أين هو، هل حيث يُحب الله أن يراه؟ نبذل الكثير من الوقت والجهد والمال، ونتخاصم ونتعارك لتحصيل أكبر حظٍ ممكنٍ من الدنيا ونحن نعلم أنها إلى زوالٍ، فماذا أعددنا لحياتنا الأبدية؟ ما الذي يُمكن أن نفعله كي نعوض ما فات ونلحق بركب الصالحين؟ هل خططنا لأهدافنا الأخروية كما نخطط لأهدافنا الدنيوية؟ هل نكون أقل من «فاطمة»؟

ولأن الحكمة تقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" فليكن عملنا لدنيانا لتوفير ما نحتاج إليه فيها، وما يُغنينا عن الناس، ولتكون الدنيا مزرعةً للآخرة، نبذل فيها من الجهد من نُعمِّر به منازلنا الأبدية الخالدة في الآخرة بأكثر من جهدنا لتعمير قصرٍ نسكنه في الدنيا الفانية ثم حتماً نفارقه. نعمل لآخرتنا كأننا نموت غداً؛ لا نؤخر ولا نسوِّف لأجلٍ قد لا نُدركه، وإذا أدركناه قد يحبسنا عن العمل مرضٌ، أو ضعفٌ، أو قلة مالٍ أو فتور همةٍ؛ فلنبادر إلى (السعي للآخرة) بتحديد هدفٍ يُقربنا من مرضاة الله سبحانه وتعالى، وينفعنا كصدقةٍ جاريةٍ ترفع من درجتنا وتُعلي منزلتنا في الآخرة، ونظل ننتفع بآثارها بعد موتنا.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/47daAe1

الجمعة، 28 يوليو 2023

رد المظالم

 خاطرة الجمعة /406

الجمعة 28 يوليو 2023م

(رد المظالم)

 

يحدثنا أحد الإخوة الذين يعيشون في قريةٍ تقع شرق زنجبار، والذي وُلد يتيماً ووحيداً، حيث مات أبوه شاباً بعد زواجه بعدة أشهر، وكان ثمرة هذا الزواج هذا الأخ الذي يُحدثنا الآن.

يقول: نشأتُ يتيماً ووحيداً، وقامت على تربيتي أمي الأرملة الشابة، وتأيمت من أجلي، فكنتُ مشروعها في الحياة، وكنا نعيش على معاش المرحوم أبي، ومعنا أرضٍ تمدنا أحياناً بما يُقيم أودنا، ولم يكن عمي بعيداً عنا، إذ كان يتفقدنا الفينة بعد الفينة، وهكذا مضت طفولتي لا يُعكرها شيءٌ إلا فَقْدُ الأب وضيق الحال، ولكنها كانت رغم ذلك تمشي كحياة مَن حولي. أما عمي فهو رجلٌ عسكريٌ؛ إذ إنه ضابطٌ في الجيش برتبة عقيد، وكان رجلاً طيباً يحنو علينا ويسأل عنا، ولم نرَ منه إلا كل خيرٍ، وكان جارنا في الأرض؛ إذ تقاسم هو وأبي الأرض نصفين، وأعطانا قسم أبي نقوم عليه وننتفع به. عاد عمي قبل مدةٍ من سفرٍ، ووصل إلى بيته في وقتٍ متأخرٍ من الليل، وفي ضحى اليوم التالي جاءني إلى بيتي وجلس معي في ديواني -على غير عادته- حيث أنه إذا أراد مني شيئاً كان يستدعيني إلى بيته، فأدركتُ أن هناك أمراً مهماً يشغل باله، وبعد المجاملات وتناول الشاي، قال لي: "يا ولدي لقد جئتك إلى بيتك رغم أني لا أزال مرهقاً من السفر حتى أتفق معك في أمر مهم".

وأردف يقول: "يا بُني إن قطعة الأرض الفلانية -التي تقع على الساقية والتي هي أفضل أرضنا- كانت من نصيب المرحوم أبيك حينما قُسِّمت الأرض وأنت لا تزال طفلاً، جاءت في سهم أبيك، ولكني استوليتُ عليها بسبب جشعي وأنانيتي, وما طابت نفسي أن لا تكون في قسمي، والآن يا ولدي، ومن هذه اللحظة، هذه القطعة من الأرض، سوف أنقل ملكيتها لك بطريقةٍ رسميةٍ حتى لا تختلف مع أولادي، وأما ما أكلتُ منها من حرامٍ فلك الحكم لو تحب أعطيك مقابله قطعة أرضٍ أخرى أو أسددك نقداً ولكن بالتقسيط ونُقدِّر الأمر تقديراً تقريبياً, لأني أريد أن أتخلص من كل ما هو متعلقٌ بهذا الأمر واستحلك قبل أن يُداهمني الموت". فلما أكمل عمي كلماته رأيتُ الدمع يتحدر من عينيه وهو يطلب مني أن أسامحه على خطأه ذاك؛ فقلت: "يا عم أنت بمقام أبي، وأنا نشأتُ في الدنيا وكنتَ أنت ملجأي وعزوتي، ولو تحب فأنا متنازلٌ عن أي حقٍ لي في تلك القطعة من الأرض، وسوف أسترضي أمي فيما لها من ميراثٍ فيها. اِحتفظ بها واعتبرها مِلكك كما كانت، وأنا مُسامِحك دنيا وآخرة". هنا لم يتمالك عمي نفسه فاحتضني وبكى بكاءً شديداً، وقال: "لا والله ما لي قسم فيها بعد اليوم، ولن ألقى الله وهي في مِلكي"، فلما أصر طلبتُ منه أن يقبل أن أسامحه فيما مضى وأن تنتقل قطعة الأرض لي من الآن، وما فات فات، واتفقنا على هذا. في آخر المجلس سألتُ عمي عن سبب هذا التحول بعد أكثر من خمسٍ وعشرين سنة؟ فقال: "يا بُني وأنا في طريق عودتي من سفري هذا حلت صلاة الجمعة فمررتُ أصلي في أحد المساجد فوقف الخطيب على المنبر وخطب خطبةً بليغةً مؤثرةً عن حُرمة مال اليتيم وعن (رد المظالم) بكلامٍ لم أسمعه من قبل؛ فخفتُ خوفاً شديداً أن يحدث لي شيءٌ قبل أن أصل إلى بيتي وأعيد لك ما اغتصبته من أرضك".

 

أحبتي في الله.. لقد حرَّم الله سبحانه وتعالى الظلم تحريماً قاطعاً؛ فهو سبحانه الحكم العدل لا يَظلِم ولا يرضى لعباده الظلم؛ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: {إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}، وفي روايةٍ: {إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا}. ويقول عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾، وهو سبحانه لا يحب الظالمين: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، بل ويلعنهم: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويصفهم بأنهم لا يُفلحون: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، ويُبيّن أن مصيرهم هو الخيبة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾، ويُخبرنا سبحانه أن الإنسان -بنفسه الأمارة بالسوء- لديه الاستعداد لأن يَظلِم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، ومع كل ذلك، فإن الله العزيز الحكيم، بلطفه ورحمته وفيض كرمه، يفتح باب المغفرة والتوبة أمام كل ظالم: ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ويكون (رد المظالم) هو باب قبول توبتهم.

 

وعن (رد المظالم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه.]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَحشُرُ اللهُ العبادَ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ حتى اللطمة فما فوقها، ولا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النارَ وعنده مظلمةٌ، حتى اللطمة فما فوقها (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)]، قلنا: يا رسول الله، كيف وإنما نأتي حفاةً عُراةً غُرلًا بُهمًا؟ قال: [بالحسناتِ والسيئاتِ جزاءً وفاقًا ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾].

 

يقول أهل العلم إن الحقوق -التي ينبغي رد مظالمها- نوعان: حق الله، وحق الآدمي: فحق الله لا مدخل للصلح فيه؛ كالحدود، والزكوات، والكفَّارات، ونحوها؛ وإنما الصلح بين العبد وبين ربِّه في المسارعة إلى إقامتها والوفاء بها. أما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عنها.

 

وعن الحقوق الخاصة بالآخرين كتب أحدهم سائلاً الظالمين ومُذكِّراً لهم بيوم الحساب يُعدد صوراً من المظالم التي تستوجب الرد؛ كتب يقول:

هل أنت جاهز؟ يا من ظلمتَ الناس؟ يا من شهدتَ زوراً من أجل إرضاء الآخرين؟ يا من تركتَ الصلاة؟ يا من قطعتَ الأرحام؟ يا من أكلتَ حقوق غيرك؟ يا من ظلمتَ أبناءك وزوجتك؟ يا من عققتَ والديك وخاصمتَ إخوانك؟ يا من سرقتَ ورث إخوانك وأخواتك؟ يا من افتريتَ على خلق الله؟ يا من فرَّقتَ بين أبنائك الذكور والإناث؟ يا من استخدمتَ السحر لأذية غيرك؟ يا من أكلتَ مال اليتيم؟ يا من عطلتَ عمداً مصالح الآخرين؟ يا من جرحتَ إنساناً وظلمته قهراً وغدراً؟ يا من خُنتَ شخصاً أَمِنَك على حاله وماله؟ يا من كنتَ سبباً في خراب بيوت الناس؟ يا من طعنتَ بعِرض الناس وشرفهم؟ يا من استقويتَ على الضعيف ونسيت أن الله أقوى منك؟ يا من ألقيتَ بأمك أو أبيك خارج بيتك إرضاءً لزوجتك؟ يا من أكلتَ حق العامل وتعبه وشقاه؟ يا من تعاليتَ وتكبرتَ على الناس بمنصبك أو نسبك؟ هل أنت جاهز؟

إن حقوق العباد ستُرفع إلى قاضي السماء يوم الحساب، الذي يحسبه الغافلون بعيداً وهو أقرب إلينا من صحوتنا من النوم؛ فما وجودنا في الدنيا إلا وجودٌ عابرٌ ومسألة وقت، والرحيل إلى حيث الخلود لا مفر منه، وكل ساقٍ سيُسقَى بما سقَى، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.

 

يقول العلماء إن التوبة النصوح هي المشتملة على: الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفاً من الله سبحانه وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، مع (رد المظالم) إن كان عند التائب مظالم للناس من دمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ، أو استحلالهم منها، أي: طلب المسامحة منهم. ومن كان ظلمه للناس من جهة الغيبة وخشي إن أخبرهم أن يحدث ما هو أكبر من الضرر، لم يخبرهم، ودعا لهم، واستغفر لهم، وأظهر ما يعلم من محاسنهم في مقابل إساءته لهم بالغيبة. أما من أخذ أموالاً بغير حقٍ بسرقةٍ أو غيرها فالواجب عليه أن يبذل كل الوسع في البحث عن أصحابها حتى يردها إليهم هُم، أو ورثتهم إن كان أصحابها قد ماتوا، فإن أيس من العثور عليهم ولم يتسنَ له معرفة ورثتهم فله التصدق بها عنهم، وعلى كل حالٍ عليه الإكثار من كل ما يُقرب إلى الله ويزيد في ميزان الحسنات فإن حقوق العباد إذا لم يأخذوها الآن، فسيأخذونها يوم القيامة حسناتٍ أو تخلصاً من سيئات.

إن أفضل الأعمال أن يأتي المسلم يوم القيامة سالِماً من الظُّلْم، ولا يكون ذلك إلا بالمبادرة إلى أن يتحلَّل من مظالم الناس كشرطٍ لقبول توبته.

 

أحبتي.. من منا لم يَظلِم؟ لا يوجد من بيننا من مرت سنوات حياته دون أن يظلم نفسه أو يظلم غيره -إلا من رحم ربي وهُم قليل- فليبادر كلٌ منا إلى توبةٍ نصوحٍ بدايتها الصحيحة الإنابة والعودة إلى الله عزَّ وجلَّ والمحافظة على الفروض وقضاء الفوائت قدر المستطاع، و(رد المظالم) إلى العباد.

ومن منا لا يتمنى لنفسه العيش الآمن والهداية؟ كلنا نتمنى ذلك؛ فلنعلم أن ذلك مشروطٌ بأن نُقوي ونعزز إيماننا بالله، ولا نظلم غيرنا ليتحقق لنا وعد الله الذي لا يُخلف وعده؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

ولنتذكر المقولة المشهورة: "أن تصل متأخراً خيرٌ لك من ألا تصل أبداً".

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/44NjTQe

 

الجمعة، 21 يوليو 2023

تصحيح النية

 خاطرة الجمعة /405

الجمعة 21 يوليو 2023م

(تصحيح النية)

 

هذه القصة حدثت في فلسطين قبل أكثر من مائة سنة. يقول راويها إنه سمعها من صديقٍ فلسطينيٍ حدثت لجده، وتداولها الأبناء والأحفاد. يقول الجد وكان مُزارعاً:

دخل موعد شراء البذور للُمزارعين في فلسطين ولم يكن لديّ من المال ما أشتري به بذوراً؛ فسافرتُ من قريتي إلى القُدس حيث سمعتُ بأن هناك رجلاً من الأغنياء الصالحين يُقرض المُحتاجين قرضاً حسناً إلى أجل. زرته في بيته، وكانت خزانة المال بجانبه، فقلت له: "أريد أن أقترض منك مائة دينارٍ ذهبيٍ لأشتري بها بذوراً للزرع، ولك عليّ عهدٌ أن أردها لك كاملةً بعد الحصاد والبيع بإذن الله"؛ فأخذ الرجل من الخزانة كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ، معصوباً بشريطٍ أحمر من رأسه، وقال لي: "تفضل يا أخي"، قلتُ له: "ألا تُكاتبني على دَينك؟ ألا تستشهد عليّ أحداً؟"، فأجاب: "أنا يا أخي لا أستكتب على إقراضي لأحدٍ إلا بالله، ولا أستشهد على إقراضي لأحدٍ إلا الله، والله خير الشاهدين بيني وبينك".

خرجتُ من عنده وكانت نيتي سليمة بأني سأشتري البذور وأزرع وأحصد وأبيع وأرد له كامل ماله بالكمال والتمام، ولكني بعد أن صرتُ على الطريق قال لي شيطان نفسي: "هذا الرجل لا يعرفك، وأنت من قريةٍ بعيدةٍ جداً عن مكانه، ولم يُكاتبك على دَينه، ولم يستشهد عليك أحداً، والمبلغ كبيرٌ، فتصرف بالمال كما شئتَ" فتغيرت نيتي من الخير للشر. وقد كنتُ جائعاً، ففتحتُ كيس المال، وأخذتُ منه ديناراً ذهبياً، وأغلقتُ الكيس بالشريط الأحمر، وذهبتُ إلى السوق، واشتريتُ بجزءٍ من الدينار الذهبي طعاماً، وأرجعتُ باقيه إلى جيبي، وقفلتُ راجعاً باتجاه قريتي. جلستُ تحت ظل شجرة برتقالٍ، ووضعتُ كيس النقود بجانبي، والطعام أمامي، وبدأتُ آكل طعامي الذي اشتريت. وكانت الغربان تكثر في تلك المنطقة نظراً لكثرة الزروع والثمار، فلمح غرابٌ الشريط الأحمر الذي رُبط به كيس الدنانير، فظنه قطعة لحمٍ حمراء، فانقض على الكيس وخطفه من جانبي وحلّق به سابحاً في السماء عالياً، جريتُ خلفه حتى دخل وسط الأحياء السكنية لمدينة القدس الشريفة واختفى نهائياً؛ فعدتُ إلى مكان طعامي تحت شجرة البرتقال، وبكيتُ كثيراً، وندمتُ كثيراً، وحزنتُ كثيراً، ومرغتُ وجهي في التراب ندماً وأسفاً وناجيتُ ربي مباشرةً وبدون تردد قائلاً: "اللهم إنك كنتَ تعلم صدق نيتي فسهّلتَ أمري، وعلمتَ الآن سوء نيتي فجازيتني، اللهم إني أُشهدك بأني سأشتري بذوراً بما بقي من الدينار الذهبي الذي في جيبي، وأني سأوفي كامل دَيني إلى أخي الذي أقرضني في وقته".

ثم ذهبتُ إلى السوق واشتريتُ بذوراً بالمبلغ الذي تبقى لديّ من الدينار الذهبي ورجعتُ إلى قريتي البعيدة، زرعتُ البذور في مزرعتي، وكانت صغيرة المساحة، فبارك الله في زرعي وأنبت في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ، ونقّى زرعي، بقدرته سبحانه، من جميع الحشرات والآفات؛ فحصدتُ الزرع وبعتُ ثلثي الحصاد بأكثر من مائتي دينارٍ ذهبي، وأبقيتُ ثلث الحصاد لبذور السنة التالية، وتجهزتُ للسفر لإرجاع الدَين لصاحبه. وبعد سفرٍ طويلٍ، دققتُ الباب على صاحب المال، وعندما فتح لي الباب عرفني وعانقني عناقاً شديداً وهو يبكي ويقول: "حمداً لله على سلامتك يا أخي ظننتك ميتاً!"، دخلنا المنزل وأنا مُستغربٌ من عناقه وبكائه وشدة ترحيبه بي، فسألته: "يا أخي لماذا فعلتَ ما فعلتَ وأنا قد جئتك على موعدي لسداد دَينك؟"، قال لي صاحب المال مُتعجباً: "بعد أن فارقتنا بساعاتٍ كانت زوجتي تنشر الغسيل على سطح المنزل، فإذا بغُرابٍ يُسقط كيساً من رجليه على سطح بيتنا، وعندما أحضرت لي زوجتي الكيس فإذا هو نفس كيس المال الذي أعطيتك إياه، وبعد أن فتحته وعددتُ ما فيه من دنانير وجدته ناقصاً ديناراً واحداً، فقلتُ في نفسي بأن قُطاع طريقٍ قد قتلوك وأخذوا الكيس، وحصل عليه ذلك الغراب، ولا أعلم كيف حصل عليه؟! فالحمد لله على سلامتك يا أخي، فهلا أخبرتني ما كان من أمرك؟"، فأخبرته بقصتي بصدقٍ، ومددتُ إليه كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ سداداً لدَيني، فقال لي صاحب المال: "مالي صار معي، ولا ينقصه سوى دينارٍ واحدٍ، وأنا يا أخي أهبُك هذا الكيس الذي فيه تسعةٌ وتسعون ديناراً هديةً لك على سلامتك، ومكافأةً لك على صدقك وأمانتك وحُسن وفائك، ولا تتردد مُستقبلاً في زيارتي لأية حاجةٍ في نفسك، اعتبرني أخاً لك لم تلده أُمك".

 

يقول راوي القصة:

حينما كانت نية الجد المُزارع حسنةً؛ سهّل الله له الحصول على المال. ثم عندما تغيرت نيته للشر؛ سلب الغُراب منه المال. ثم بعد (تصحيح النية) وتغييرها للخير؛ زرع وحصد وباع وفتح الله له ما يَعْدِل سداد دَينه وزيادة. ووهبه الله تسعةً وتسعين ديناراً مُكافأةً له على صدقه وأمانته ووفائه؛ وصدق الله العظيم حين قال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ سميعٌ عليمٌ﴾.

 

أحبتي في الله.. النية محلها القلب، وهي ركنٌ أساسيٌ في جميع الأعمال والعبادات.

وردت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تشير إلى النية وتربط بينها وبين الإخلاص في العمل؛ من بين هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾. وقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾.

وعن النية قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه ِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

وعن أجر وثواب النية قال عليه الصلاة والسلام فيما يَروي عن ربه عَزَّ وَجَلَّ: [إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً]. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة تبوك: [إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ هَبَطْتُمْ وَادِيًا، إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا].

 

يقول العُلماء إن النية ارادةٌ ورغبةٌ داخل الإنسان تتواجد في القلب، وتُمثل ما بداخل الإنسان من مشاعر ورغباتٍ حقيقية. وقيل إنها العزم. وقيل إنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل. وقيل إنها مطلق القصد إلى الفعل. ويُشترط فيها أن تكون خارجةً من قلب الإنسان ومن مكنون نفسه، وأن لا يتم الإعلان عنها إلى أن يتم فعلها؛ فالنية لا يعلمها إلا صاحبها، اما بالنسبة للآخرين فيجب أن تتحول إلى فعلٍ أولاً.

 

وعن (تصحيح النية) حتى يرتبط العمل بالإخلاص يقول تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويُستفاد من ذلك أن لكل عملٍ صالحٍ رُكنين لا يُقبَل عند الله إلا بهما: أولهما: إخلاص النية بأن يكون المقصود بالعمل وجه الله وحده دون سواه، وثانيهما: موافقة العمل لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم. بالرُكن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر.

 

أحبتي.. قال الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [منِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ]. وعلى كلٍ منا أن يُبادر إلى (تصحيح النية)؛ فكثيرٌ منا يكتفي بأن تكون نيته في العمل إرضاء رؤسائه، أو كسب رضا الزبائن والمتعاملين، أو السعي لنيل ترقيةٍ أو علاوةٍ، وفي علاقاته الشخصية تكون نيته قاصرةً على إسعاد زوجته أو تربية أبنائه أفضل تربيةٍ ممكنةٍ أو التعامل بلطفٍ مع جيرانه وأصدقائه. نفعل ذلك، ولا حرج فيه، لكننا نغفل أن تكون نيتنا هي رضا الله سُبحانه وتعالى أولاً، ثم رضا من هُم دونه. علينا إذن أن نُسارع إلى (تصحيح النية) حتى تكون نيتنا دائماً وقبل كل شيءٍ هي رضا الله عزَّ وجلَّ؛ فإذا رضي الله عنا حقق لنا كل ما نسعى إليه من رضا الآخرين أو تحقيق مصالح دُنيوية، بل ويُثيبنا سُبحانه في الآخرة خير الثواب تفضلاً منه وتكرماً.

اللهم اجعل نيات أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، فلا نعمل نفاقاً ولا رياءً ولا سمعةً ولا فخراً، ولا لرضا أي مخلوقٍ كان، وإنما تكون أعمالنا كلها خالصةً لك وحدك، لا شريك لك، نرجو بها رضاك.

https://bit.ly/44xzSld

الجمعة، 14 يوليو 2023

الصدق مع الله

 خاطرة الجمعة /404

الجمعة 14 يوليو 2023م

(الصدق مع الله)

 

في حج هذا العام ١٤٤٤هـ، ونقلاً عن إحدى السيدات الثقات، قالت: تعرفتُ على بعض الأخوات الفُضليات، جلسنا نتحدث عن أمورٍ مختلفةٍ يدور مُعظمها عن الدار الآخرة، فوجّهت إحدى الأخوات لنا سؤالاً: "أخبروني كيف أتيتُم إلى هُنا؟"، أجابت كل واحدةٍ عن السؤال إجابةً معروفةً من قبيل: هذه أتى بها زوجها، وهذه أتى بها ابنها، وهذه أتت مع أبيها، وبقيَت أختٌ واحدةٌ انتظرنا أن تُجيب لكنها سكتت، فبادرت السائلة بلفت انتباهها لتُجيب، فقالت: "أتيتُ بالحُب!"، فتعجبنا جميعاً كيف هذا؟! قالت وقد بدأت الدموع تتجمع في عينيها: "أحببتُه لدرجة أنني لم أستطع أن أصبِر فأتى بيَ الحب إلى هنا"، فسألتها إحداهن قائلةً: "كيف هذا؟"، فقالت: "كان لي منزلٌ صغيرٌ أعيش فيه وحدي بعد موت والدَيّ، عرضتُه للبيع، وبثمن البيع جئتُ إلى هنا"، فغرَت كل واحدةٍ منا فاها! هل هذه من البشر أم جاءت من زمن الصحابة؟ هل يُعقل هذا؟!

فأسرعنا بسؤالها: "وبعد العودة، أين ستعيشين؟ أنتِ وحيدةٌ؟ هل لكِ مكانٌ آخر تعيشين فيه؟"، فابتسمت وقالت: "لقد عِشتُ عمري كلّه وحيدةً بالفعل؛ حينما آثرتُ الدُنيا على الآخرة، وآثرتُ نفسي على ربي، وانشغلتُ بشهواتي عن إصلاح قلبي، حينها حقاً كنتُ وحيدةً، لأن الحياة الخالية من معرفة الله حياةٌ كئيبةٌ، والقلب الخالي من معرفة الله قلبٌ لا يعرف للأُنس سبيلاً، أمّا الآن فلسُت وحدي، معي خالق الكون، ومؤنس القلوب، وجليس مَن ذكرَه، فكيف أستوحشُ أو أشعرُ بالوحدة؟"، فقالت إحدى الأخوات بنبرةٍ هادئةٍ وتأثُرٍ بالغٍ بهذا الحديث: "وماذا عن مكان معيشتك بعد العودة؟!"، فأجابت قائلةً: "أرجو من الله أن يُبدلني خيراً منه في الجنة، فلا طاقة لي بالرجوع مرةً أخرى، أخشىٰ أن أعود فأُسلَب حُباً ملأ قلبي ووِجداني، أخشىٰ أن أعود للدُنيا فأفقد الله مرةً أخرى، وأعيش عيشة الحائر لا إلى العُصاة ولا إلى العارفين"، فقالت إحداهن مُتعجبةً: "سُبحان الله!"، سكتت قليلاً ثم أردفت تُكمل: "ولكن حبيبتي، يُمكننا مساعدتك في إيجاد شقةٍ ولو بالإيجار ونوفر لكِ عملاً، زوجي يستطيع مساعدتك في هذا الأمر، عسى الله أن يتقبل منكِ بَيعتك، ويرزقك مقابلها الجنة"، ثم ربتَت على يدها وقالت: "ولا تنسَي أختي نصيبكِ من الدُنيا"، فتبسمت صاحبتُنا وقالت: "أيُّ نصيبٍ يا عَيني؟ لقد أخذتُ نصيبي من الدُنيا كاملاً، بل أكثر من نصيبي، صدقيني لقد طلّقتُ الدُنيا ثلاثاً، لا تُفكرن في هذا الأمر ولا تحملن همّي فلي ربٌّ لا ينساني سيرزقني منزلاً خيراً من منزلي هاهُنا، هذا ظني به فهو أوفىٰ حبيب"، ثم قالت: "لله درّ إحدى نساء السلف وهي القائلة: «لو كان الموت يُشترى لاشتريته شوقاً للقاء ربي»".

لا أُخفي عليكم بكينا جميعاً لحالها، وتضاءلت كل تنازلاتنا مقارنةً بتنازلها لله، تمنينا لو أن الله أصلح قلوبنا لدرجة صلاحها هذه، أن نخرج في سبيل الله ولا ننظر للوراء ماذا ينتظرنا في الدُنيا، أن نولِّي قلوبنا شطر سُبل الصلاح فثمّ النعيم المُقيم. بعد حديثها لم نعرف ماذا نقول فآثرنا الصمت، وبالفعل ماذا نقول لمُحبّةٍ صدقت في محبتها؟ نُقنعها بأن تُقلل من شوقها لربها وتؤثِر الدُنيا قليلاً؟ كيف نُقنعها بأن تُفكر في الدُنيا ثانيةً بعد أن تَمَلَكَ حبُ الله قلبَها؟ واللهِ لقد استحَييتُ أن أقول لها مثلما قالت الأخوات–رغم أنني أعلم أنهن قُلن هذا حرصاً عليها– ولكنني استحييتُ أن أنصحها بالتفكير في الدُنيا وفي قلبها سكَن حبُ الخالق وحده، فكيف أُدخِل على هذا الساكن الجليل ساكناً رديئاً حقيراً.

وبينما كنا نفكر في أمرها وساد الصمتُ، وجدناها تكتب وُريقاتٍ مُتعددةً، ووزعتها علينا وقالت: "ناشدتكن الله ألا تفتحنَها إلا بعد عودتكن"، ورغم الفضول نزلنا على رغبتها واستسلمنا لِما قالت.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة، قُبيل مغرب يوم عرفة قابلنا صاحبتنا فوجدناها ازدادت جمالاً عن ذي قبل، كيف لا وحب الله يُضفي على الروح جمالاً من جمال الله فكيف بالبدن!

فقلتُ لها: "كلما رأيتكِ تذكرتُ نساء السلف يا حبيبة، أرجو ألا تكوني نسيتِني من صالح دعائكِ"، فتبسمت وقالت: "لم أنسَ لا تقلقي، اسأل الله ألا ينساكِ"، فارتجف قلبي وأمسكتُ بيدها ومشينا استعداداً للصلاة، فقالت لي سأذهب لفعل شيءٍ وأعود إليكِ، فلم أحب أن أُثقل عليها بالسؤال وتركتها تذهب. بدأنا الصلاة وهي لم تأتِ بعد؛ فقلقتُ عليها ودعوتُ الله أن يُيسر أمرها، وبعدما فرغنا من الصلاة، وجدنا الناس مُلتفّين حول أحدٍ، لا ندري ماذا حدث، فوقفنا بعيداً، فإذا بنا نجد صاحبتنا قد ماتت، لا أستطيع وصف الصدمة والذهول الذي بدا علينا، فاقتربنا منها والدمع كالسيل؛ فقالت إحدانا: "ربحَ البَيع يا حبيبةُ ربح البيع، لقد أبدلكِ الله جواراً خيراً من جوارنا وبيتاً خيراً من بيوتنا ومنزلاً خيراً من منازلنا، لله درّ الصادقين لقد أحدثوا في قلوبنا العجب العُجاب".

دُفنت حبيبة في خير بقاع الأرض، وصلينا عليها عقب صلاة العشاء.

لمّا عُدتُ من رحلة الحج كان كل ما يشغل بالي هو فتح الورقة التي كتبتها لنا حبيبة، ففتحتُها فور وصولي لبلدتي فوجدتُ فيها «بسمِ اللهِ الرحمٰن الرحيم، من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدُوا اللهَ عليهِ، الحمدُ للهِ الذي لم يخذُل صادقاً، بالصدق بلغ أصحابُ النبي فهلّا صدقنا؟». بكيتُ لساعاتٍ طوال، لقد كان موقف موتها مَهيباً، لقد صلَى عليها أكثر من مليون مُسلمٍ، هذا التشريف من أهل الأرض، فكيف بأهل السماء؟ رُحماك يا رب لقد أسرفنا، فهلا قبلتنا وأدخلتنا في الصالحين، إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

أحبتي في الله.. إنه (الصدق مع الله)؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين﴾. ويقول سبحانه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْكَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من سألَ اللَّهَ الشَّهادةَ صادقًا بلَّغَه اللَّهُ منازلَ الشُّهداءِ وإن ماتَ علَى فراشِه].

 

يقول أهل العلم إن (الصدق مع الله) أساسه صدق النوايا؛ والإنسان بالنية الصادقة -مع العزم الأكيد والأخذ بالأسباب- يأخذ الأجر وإن لم يقع منه الفعل، وهذا مِنْ كرم الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ].

فالنوايا الصادقة هي الأساس للأعمال المُخلصة الخالصة لوجه الله تعالى التي تحظى بالقبول، وإلا كانت مثل أعمال الثلاثة: قارئ القرآن الذي كان يقوم به آناء الليل وآناء النهار ليُقال أنه قارئ، وصاحب المال الذي كان يصل به رحمه ويتصدق ليُقال عنه جواد، والذي قُتل وهو يُجاهد في سبيل الله ليُقال عنه جريء. هؤلاء الثلاثة لم تنفعهم أعمالهم التي تبدو طيبةً وحسنةً لكن نياتهم لم تكن خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى؛ فقال عنهم صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: [أولئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلقِ اللهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ].

 

و(الصدق مع الله) تعالى كما ينفع الناس في الآخرة، فإنه يفيدهم كذلك في الدُنيا؛ ففي حديث الثلاثة الذين أُغلق عليهم الغار أنه قال بعضهم لبعضٍ: "إنَّه واللَّهِ يا هَؤُلَاءِ، لا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنكُم بما يَعْلَمُ أنَّه قدْ صَدَقَ فِيهِ" فتوسل أحدهم بعفته، وآخر بأمانته، وآخر ببره بوالديه؛ [فَفَرَّجَ الله عنهم فَخَرَجُوا].

 

وقيل: "ليس شيءٌ أنفع للعبد من صدق ربه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه وفي فعله قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم﴾. ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره".

 

أحبتي.. أختم بنصيحةٍ لأحد الصالحين كتب يقول: "ينبغي أن نُحرر النوايا وأن نصدُق مع الله في الطلب، والله عزَّ وجلَّ حاشاه أن يَصْدُقَ إنسانٌ في طلبه ثم لا يُعطيه، إذا طلب الطاعة بصدقٍ أعانه الله عليها، وإذا طلب الرزق الحلال بصدقٍ يسِّره الله له. وأعظَمُ الصِّدق مع الله أن نَصْدُقَ في طلب الجنة فنبذل لها أسبابها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ عبادةً وطاعةً وإنفاقاً ومحبَّةً وخيراً، فإذا صدقنا الله في طلب الجنة ننالُها إن شاء الله برحمته وفضله وجُوده وإحسانه".

نسألك اللهم أن ترزقنا الصدق معك، وأن تُنزلنا منازل الصديقين.

https://bit.ly/44KjjlO

 

الجمعة، 7 يوليو 2023

صناعة الكذب

 خاطرة الجمعة /403

الجمعة 7 يوليو 2023م

(صناعة الكذب)

 

كتب هذه القصة كاتبٌ مصري راحل له العديد من القصص القصيرة والروايات المنشورة، كتب يقول: يجلس الرجل جواري في سيارة الأُجرة، والتي تقطع أحد شوارع «القاهرة» المُزدحمة.. يُمسك بشطيرةٍ مليئةٍ باللحم، والدُهن يوشك على أن يسيل منها ليُغرقنا جميعاً حتى الأعناق. يقضم منها في كفاءةٍ يُحسد عليها. هنا يدق جرس الهاتف المحمول فيمد يده المُلوثة بحذرٍ ليلتقطه.. ثم تسمع المُحادثة: "نعم.. نعم.. أنا في الطريق.. منذ قلتِ لي هذه الكلمات القاسية وأنا لا أنام ولا آكل.. أُقسم أنني لم أذق طعم الزاد مُنذ ثلاثة أيام". ويمسح قطرات الدهن على شفته السُفلى، وينظر لي بعينٍ ناريةٍ مُهدِدةٍ.. الويل لمن يعترض. لكني فعلاً مُعجبٌ بشهية هذا الذي لا يذوق طعم الزاد! إنه يواصل الكلام: "أنا في «الإسكندرية».. أُقسم أنني في شارع «صفية زغلول».. سوف أكون عندكِ خلال ثلاث دقائق.. لا تقلقي أبداً". أنظر إلى شوارع «القاهرة» المُحيطة بنا وأتنهد.. هو رجلٌ دقيقٌ كذلك.. في «الإسكندرية» وفي شارع «صفية زغلول»! تُرى هل هي زوجةٌ غاضبةٌ أم شريكةُ عملٍ تُطالب بمُستحقاتها المالية؟ وماذا ستقول عندما تكتشف أنه لن يكون عندها بعد ثلاث دقائق ما لم يطر في الهواء طبعاً؟ يُنهي الرجل المكالمة وبلا أدنى ذرةٍ من التردد يواصل التهام الشطيرة الدسمة. خطر لي أنه يتمتع بضميرٍ صافٍ فعلاً.. كل هذا الكذب وأمام شهودٍ يعرفون كم هو كاذبٌ، وهو يملك صفاقةً تسمح له بأن يغرس أصابعه في عيوننا لو اعترضنا.

يقول الكاتب: لقد رأيتُ موقف الكذب على الهاتف هذا كثيراً، وفي آخر مرةٍ كان الفتى يُكلم حبيبته على الهاتف وهو يُمسك بيد حبيبته الأخرى! أعتقد أن الهاتف الذي ينقل صورة المُتكلم سوف يجلب متاعب عديدةً على أمثال مُحترفي الكذب هؤلاء، لكني لن أندهش لو ظهرت تقنياتُ كذبٍ جديدةٌ تُناسب الموقف.. سوف تُباع خلفياتٌ جداريةٌ تُمثل شوارع «الإسكندرية» ليلصقها وراءه أثناء الكلام، وسوف يكون هناك مُمثلون يقومون بدور باعة الكورنيش في «الإسكندرية»، ولربما تدّخل المُخرجون ليستعملوا حيل الكروما بحيث تبدو أمواج البحر حيةً يقظةً وراء ظهره.. وسيكون هناك فنانو ماكياجٍ يُضيفون على ملامحه لمساتٍ تجعله يبدو مُرهقاً مُسهداً ناحلاً. إن الكذب يتطور مع الزمن ليتحول إلى فنٍ من الفنون الراقية، وعلينا أن نفهم هذا قبل فوات الأوان!

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصةً قصيرةً لكاتبٍ مصريٍ رسمت صورةً لشكلٍ من أشكال الكذب الذي صار يتطور بتنوع أساليبه وأشكاله ومجالاته حتى أصبح صناعةً كاملة يُطلق عليها (صناعة الكذب)!

 

وقد ذمّ الله سبحانه وتعالى الكذب ونهى عنه في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ منها: يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ . ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾. ويقول جلَّ وعلا: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾. ووصف عزَّ وجلَّ المنافقين بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. ونهى عن الكذب بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.

 

كما ورد ذمّ الكذب والنهي عنه في السُنة النبوية في العديد من الأحاديث الشريفة؛ منها: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [دعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ فإنَّ الصدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحكَ به القومَ فيكذبُ، ويلٌ له، ويلٌ له]. وفي حديثٍ وإن كان ضعيفاً: قيل يا رسولَ اللهِ أيكون المؤمنُ جبانًا؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكونُ المؤمنُ بخيلًا؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكونُ المؤمنُ كذَّابًا؟ قال: [لا].

 

يقول أهل الاختصاص إن الكذب قد انتشر في أيامنا هذه بشكلٍ كبيرٍ حتى صار صناعةً كاملةً، وأصبحت (صناعة الكذب) حرفةً لها أهلها الذين يتنافسون في إتقانها والإجادة فيها بل وتطويرها! ولعل هؤلاء هُم مَن خاطبهم المولى سُبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾. وتحولت بعض الأدوات والوسائل الإعلامية من هدف بيان الحقائق إلى غرض نشر وتوزيع الأكاذيب والافتراءات على أفرادٍ وجماعاتٍ ودُولٍ، واستخدموا في ذلك كل ما استطاعوا من أدواتٍ ووسائل: التلفاز والمذياع والصُحف والمجلات والكُتب والإعلانات والأفلام والمُسلسلات ومقاطع الڤيديو والأناشيد والأغاني ومواقع شبكة الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المحمولة والمناهج الدراسية، بل والرُسوم المُتحركة الخاصة بالأطفال وألعابهم الإلكترونية، وغير ذلك من أدواتٍ إن تحرر الإنسان من سطوة بعضها لم يَسلم من سطوة البعض الآخر.

وتزداد دائرة (صناعة الكذب) لتشمل الكثير من الأفراد العاديين، الذين يقومون بنشر الأكاذيب بحُسن نية؛ فمما زاد الطين بِلةً، سهولة النشر بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ يُمكن لأي شخصٍ أن ينشر أية مادةٍ -صحيحةً كانت أو مكذوبةً باطلةً- بالنسخ واللصق ثم إعادة النشر، بل ويتسابق الناس في ذلك بشكلٍ غريبٍ وكأنهم حريصون على أن يكونوا أول وأسرع من ينشر ويُعمم، ولا يدري الواحد منهم -في حالة نشره الأكاذيب- كم يتحمل من الوِزر والإثم. ولا حُجة لمن يقول: "نشرتها كما وصلتني"؛ فقد توفرت العديد من وسائل التحقق من صحة الأحاديث النبوية، إذا لم يكن البعض يُجيد استخدامها فإن بمقدوره أن يتريث قبل النشر والتعميم ويسأل غيره ممن يعلمون كيف يُفرِّقون بين الصحيح والباطل؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

 

كتب أحد العارفين يقول: خطورة الكذب أنه يُخفي الحقيقة، ويقلب الأوضاع، ويطمِس الحق؛ فهو يُخبر عن الشيءِ بخلاف ما هو عليه. لقد أضحت (صناعة الكذب) -للأسف- مُزدهرةً في العالم كله، يُديرها المُنتفعون والمُنافقون، ويُنفذها الذين يبغونَها عِوجاً. وكم وُجد في عصرنا هذا مَن باع دِينه وضميره، وأهدر مروءته، وكذب وشهد زوراً، وافترى بُهتاناً، طمعاً في انتقامٍ، أو رغبةً في تشَفٍّ، أو حبّاً في تشويهٍ، أو كسباً لمالٍ أو جاهٍ، أو نفاقاً ومُراءاةً وحرصاً على التقرب زلفى، أو مُجاملةً للغير! إن الكذب رأسُ كل خطيئةٍ، وقلب كل بليَّةٍ؛ فكم من شخصٍ تضرر بخبرٍ كاذب؟ وكم من أسرةٍ شُرّدت بخبرٍ كاذب؟ بل كم من حربٍ نشبت بخبرٍ كاذب؟

 

وفي المقابل فقد مدح الله سُبحانه وتعالى الصدق حين جعله من صفات المُتقين الذين وعدهم بدخول الجنة؛ يقول تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾، ووجّهنا سُبحانه لأن نكون مع الصادقين؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، ووعد مَن حرص منا على الصدق بخير الجزاء؛ يقول تعالى: ﴿لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، أما يوم الحساب فسيكون يوم حصول الصادقين على الجائزة؛ وهل من جائزةٍ أعظم من الخُلود في الجنة ورضا الله عنهم؟ يقول تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

أحبتي.. الكلام عن الكذب يطول، فهو من أسوأ صفات البشر. ورغم نتائجه الكارثية فلا يسلم منه كثيرٌ منا ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾؛ إذ يُغري على مُمارسة الكذب أنه سهلٌ متاحٌ لكل شخصٍ في كل وقتٍ، وفي جميع المجالات، سريع النتائج، غير مُكلِّفٍ غالباً؛ فاتسعت حدود تلك الصناعة لتشمل الملايين من البشر الذين لا يكاد ينقضي يومٌ من حياتهم إلا وقد كذبوا على أنفسهم أو أهليهم أو زملائهم أو جيرانهم، في البيوت وفي مقرات العمل وفي الأسواق، حتى أن الكذب أصبح هوايةً للبعض!

اللهم أعِنّا على جهاد النفس للبُعد عن الكذب [إلَّا في ثلاثٍ: الإصلاحِ بينَ النَّاسِ، وحديثِ الرَّجُلِ امرأتَهُ، وحديثِ المرأةِ زَوْجَها] كما رخّص في ذلك نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. واجعلنا ربنا من الصادقين الفائزين في دُنيانا وآخرتنا بصدق نياتنا وأقوالنا وأفعالنا.

https://bit.ly/3PRwUDL

 

الجمعة، 30 يونيو 2023

يأتوك رجالاً

 خاطرة الجمعة /402

الجمعة 30 يونيو 2023م

(يأتوك رجالاً)

 

بمناسبة موسم الحج، وهذه الأيام المُباركة من شهر ذي الحجة، اخترتُ لكم قصة رحلة حجٍ مؤثرة، بدأت أحداثها في غرب «إفريقيا».

يقول راوي القصة: أحكي لكم عن أحد الحجاج الذين قاموا برحلة الحج مشياً على الأقدام، من غرب «إفريقيا» إلى الكعبة المُشرفة في «مكة المُكرمة»؛ إنه المرحوم بإذن الله الشيخ الحاجّ/ عُثمان دابو، من جمهورية «جامبيا» في أقصى الغرب الإفريقي، كان قد تجاوز الثمانين من عمره عندما حدَّثنا عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعةٍ من صحبه من «بانجول» عاصمة بلدهم إلى «مكة المُكرمة»، قاطعين قارة «إفريقيا» من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فتراتٍ يسيرةً مُتقطعةً على بعض الدّواب، إلى أنْ وصلوا إلى «البحر الأحمر»، حيث ركبوا السفينة إلى ميناء «جدة». كانت رحلةً مليئةً بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوّنت لكانت من أكثر كُتب الرحلات إثارةً. استمرَّت الرحلة أكثر من سنتين كاملتين، ينزل الحاج/ عُثمان وصحبه أحياناً في بعض المُدن للراحة وللتكسب والتَّزود لنفقات الرِّحلة، ثم يواصلون المسير. أصابَهم في طريقهم من المشقَة والضيق والكَرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلةٍ باتوا فيها على الجوع حتَّى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلةٍ طاردتهم السِّباعُ، وفارقهم لذيذ النوم؟ وكم من ليلةٍ أحاط بهم الخوف من كلِّ مكانٍ؛ فقطّاعُ الطّرق يَعرِضون للمسافرين في كلِّ وادٍ.

يقول الراوي: سألتُ الحاج/ عُثمان: "أليس حجُّ البيت الحرام فرضٌ على المُستطيع، وأنتم في ذلك الوقت غير مُستطيعين؟"، قال: "بلى، ولكننا تذكرنا سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام، عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرعٍ عند بيت الله المُحرَّم، فقال أحدنا: نحن الآن شبابٌ أَقوياء أصحاء؛ فما عُذرنا عند الله تعالى إنْ نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرَّم، خاصةً أننا نظن أنّ الأيام لن تُزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟"، عندها خرجنا نحن الصحاب من بلدنا، ليس معنا من القُوت إلا ما يكفينا لأسبوعٍ واحدٍ فقط".

يُكمل الحاج/ عُثمان سرد ذكرياته فيقول: لُدغتُ ذات ليلةٍ في أثناء السَّفر، فأصابتني حمّى شديدة، وشممتُ رائحة الموت تسري في عُروقي، فكان أصحابي يَذهبون للعمل، وأمكثُ تحت ظلِّ شجرةٍ إلى أنْ يأتوا في آخر النَّهار؛ فكان الشيطانُ يوسوس في صدري: "أما كان الأولى لكَ أنْ تبقى في وطنك؟ لماذا تُكلّف نفسك ما لا تُطيق؟ ألم يَفرض اللهُ الحجَّ على المُستطيع فقط؟"، فثقلت نفسي وكِدتُ أضعف، فلمّا جاء أصحابي؛ نظرَ أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفتُ عنهُ ومسحتُ دمعةً غلبتني، فكأنه أحسَّ بما بي؛ فقال: "قُم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً -بإذن الله- وذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فانشرح صدري، وأذهب اللهُ عنّي الحُزن، ولله الحمد".

يقول راوي القصة: كان الشَّوقُ للوصول إلى الحرمين الشَّريفين يَحْدُوهم في كلِّ أحوالهم، ويُخفف عنهم آلام السفر ومشاقّ الطريق ومخاطِرَهُ، مات واحدٌ منهم في الطريق، ثم مات الثاني، أما الثالث فقد مات في عَرض البحر. واللطيفُ في أمر الحاج/ عُثمان أنّه كتب وصيةً لصاحبيه قال لهما فيها: "إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى عن شوقي للقائه، واسألاه أنْ يجمعني ووالدتي في الجنَّة مع النبي صلى الله عليه وسلم".

يصف الحاج/ عُثمان ما حدث بعد وفاة ثالث أصحابه فيقول: "لمّا مات صاحبنا الثالث؛ نزَل بي همٌّ شديدٌ وغمٌّ عظيمٌ، وكان ذلك أشدّ ما لاقيتُ في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوّةً، وخشيتُ أنْ أموت قَبل أنْ أنعمَ بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنتُ أحسبُ الأيام والسّاعات على أحرِّ من الجمر؛ فلمّا وصلنا إلى «جدة» مرضتُ مَرضاً شديداً، وخشيتُ أنْ أموتَ قَبل أنْ أصل إلى «مكة المكرمة»، فأوصيتُ صاحبي إذا متُّ أنْ يُكفنني في إحرامي، ويُقرّبني قدْر طاقته إلى «مكة»، عسى الله أنْ يُضاعف لي الأجر، ويَقبلني في الصَّالحين". واستطرد قائلاً: "مكثنا في «جدّة» أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى «مكة»، كانت أنفاسي تتسارع والبِشرُ يملأ وجهي، والشّوقُ يَهُزّني ويَشُدّني، إلى أنْ وصلنا إلى المسجد الحرام". سكتَ الحاج/ عُثمان قليلاً، وأخذ يُكفكِفُ عَبَراتِهِ، وأَقسمَ بالله تعالى أنّه لم يرَ لذةً في حياته كتلك اللذّة التي غمرت قلبَهُ لما رأى الكعبة المشرَّفة، ووصف تلك اللحظة؛ فقال: "لما رأيتُ الكعبةَ سجدتُ لله شُكراً، وأخذتُ أبكي من شدّة الرَّهبة والهيبة؛ كما يَبكي الأطفالُ، فما أَشرَفَهُ من بيتٍ وأعظمه من مكانٍ، ثمّ تذكَّرتُ أصحابي الذين لم يَتيسر لهمُ الوصولَ إلى المسجد الحرام، فحمدتُ الله تعالى على نعمتهِ وفضلهِ عليَّ، ثم سألتُه ـ سبحانه ـ أنْ يَكتب خُطواتهم في موازين حسناتهم، وألا يَحرمهم الأجر، وأنْ يَجمعنا بهم في مقعد صِدْقٍ عند مَليكٍ مُقتدر".

 

أحبتي في الله.. إنهم رجالٌ تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، أسألكم الدعاء لهم، ولأمثالهم، بالمغفرة والرحمة. كانوا فقراء بمقياس المال، أغنياء بمقياس الصدق مع النفس والإخلاص لله سبحانه وتعالى، بل ربما كانوا أكثر من حج البيت الحرام فقراً وأشدهم حاجةً.

فهل يا تُرى كتب التاريخ عن أغنى الحجاج وأكثرهم مالاً؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وقلتُ: "إن الفقراء (يأتون رجالاً) كما أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، فكيف تكون رحلة أغنى حاجٍ في التاريخ؟ هل أتى راكباً أفخر طائرة؟ أم أغلى سيارة؟ أم أفخم باخرة؟" لكن -وللعجب- فوجئتُ بأن أغنى من حج بيت الله الحرام كان هو الآخر ممن وصفت الآية الكريمة وسيلة انتقالهم من وطنهم إلى البيت المُشرَّف بعبارة (يأتوك رجالاً)!

إنه الحاج/ مانسا موسى الأول، الذي أجمع المؤرخون على أنه أغنى أغنياء البشر على مدى كُل العصور، وكان مَلِكاً مُسلماً من ملوك «أفريقيا»، قُدرت ثروته بما يُقارب 400 مليار دولار بمعيار وقتنا الحاضر. كان مانسا موسى المولود عام 1280م مَلِكاً لمملكة «مالي» وعاصمتها «نياني» في وسط غرب «أفريقيا» في الفترة (1312م - 1337م)، وكان عالِماً إلى جانب حِنكته السياسية، وكانت مملكة «مالي» في حِقبته مركزاً للازدهار والتجارة ومنارةً للعِلم في القارة الأفريقية، في الوقت الذي كانت «أوروبا» تغط في عصور الظلام. كانت «تمبكتو» في «مالي» حينها عاصمة التجارة الأفريقية ومُلتقى القوافل، اشتُهرت أسواقها بتجارة الذهب؛ حيث بلغت حصة «مالي» منها آنذاك ما يُقارب نصف إجمالي حجم سوق الذهب العالمي، كما كانت لأسواقها الحصة العُظمى أيضاً من تجارة المِلح؛ الذي كان من أغلى السلع في ذلك الوقت. أدى كل هذا لنهضةٍ حضاريةٍ وعِلميةٍ وإنسانيةٍ كُبرى، ومن الشواهد على ذلك إنشاء جامعة «سانكوري» كمركزٍ للعِلم في «أفريقيا» ومسجد «جنجو يريبر» الشهير، وكلاهما قائمٌ إلى وقتنا الحاضر، وقيل إن مانسا موسى كان يبني جامعاً كل جُمعة.

قام مانسا موسى برحلته التاريخية الشهيرة للحج سنة 1324م، في قافلةٍ مَلكيةٍ ضمت ما يُقارب المئة بعيرٍ مُحملةً بما يُقارب المئة وستةً وثلاثين كيلوغراماً من الذهب لكل بعيرٍ، وستين ألفاً من الحرس، واثني عشر ألفاً من العبيد، جميعهم يحملون عِصياً مصنوعةً من الذهب. قطع في رحلته أكثر من أربعة آلاف ميل، واستغرقت قُرابة العام، وعاد مُحملاً بالكُتب التي حولت «تمبكتو» إلى عاصمةٍ للفقه والثقافة والعِلم في غرب «أفريقيا». بدأ رحلته للحج من عاصمته «نياني» مُتجهاً إلى مدينة «ولاتا» في «موريتانيا»، ثم «توات» في «الجزائر»، ومن ثمَّ أكمل زيارته الشهيرة إلى «القاهرة» حيث استقبله فيها السُلطان المملوكي الملك الناصر بحفاوةٍ بالغةٍ، حتى وصل إلى «المدينة المنورة» ثم إلى «مكة المكرمة» حيث أتم فيها المناسك. وأغدق من الخيرات على أهالي المُدن التي زارها بإسهابٍ؛ لدرجة أن سعر الذهب بالعالم انخفض بسبب ما أُنفِقَ في رحلة الحج، ولكثرة ما وزع من ذهبٍ طول الرحلة، حتى أن ذلك أدخل اقتصاد العالم أجمع في حالةٍ من التضخم السريع، وحتى أن مانسا موسى اضُطر في نهاية رحلة الحج تلك للاقتراض لنفاد كمية الذهب التي كانت معه. قال أحد المؤرخين إنه وجد حين زار «القاهرة» بعد زيارة مانسا موسى باثني عشر عاماً أن القاهريين مازالوا يحكون عن تلك الزيارة، لما أغدق على فقرائهم ومُحتاجيهم من ذهبٍ وخيراتٍ وصدقات. توفي الملك مانسا موسى عام 1337م، بعد أن أصبحت العاصمة «تمبكتو» بجنوب غرب «النيجر» مركزاً لتجارة الذهب وتعليم الإسلام.

 

أحبتي.. كانت هاتان القصتان عن رجلين؛ أولهما ربما كان أفقر من حج بيت الله الحرام، والثاني كان يقيناً أغنى الحجاج مُنذ فُرض الحج على المسلمين إلى يومنا هذا. ورغم ذلك فقد انطبق على كلٍ منهما الوصف ذاته: (يأتوك رجالاً)، كما أن كلاً منهما أتى من ﴿فَجٍّ عَمِيقٍ﴾. أما الأول فهو أُسوةٌ حسنةٌ لكل فقيرٍ يحرص على أداء رُكنٍ مُهمٍ من أركان الإسلام؛ ألا وهو الحج، وأما الآخر فلسان حاله يقول لكل غنيٍ: بادِر إلى الحج قبل فوات الأوان، لا تؤجل أداء فريضة الله طالما كنتَ مُستطيعاً، أعد ترتيب أولوياتك واجعل أداء هذه الشعيرة العظيمة أولى الأولويات؛ فلا تعلم هل يُمهلك القدر لأداء هذا الفرض في المُستقبل أم لا؟

ومع وجود الطائرات والسفن والسيارات الحديثة لم تعد لأيٍ منا حُجةٌ لإتمام حِجةٍ مفروضةٍ على كل مُسلمٍ مُستطيعٍ فور توفر شرط الاستطاعة، دون إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تأخير.

اللهم ارحم الحُجاج الذين وردت الإشارة لهم في الآية الكريمة بعبارة (يأتوك رجالاً)؛ فكم تحملوا من صعوباتٍ ومشاق، ويسَّر لنا جميعاً حجاً مبروراً مقبولاً إلى بيتك الحرام.

https://bit.ly/3JG0wQp