الجمعة، 28 يوليو 2023

رد المظالم

 خاطرة الجمعة /406

الجمعة 28 يوليو 2023م

(رد المظالم)

 

يحدثنا أحد الإخوة الذين يعيشون في قريةٍ تقع شرق زنجبار، والذي وُلد يتيماً ووحيداً، حيث مات أبوه شاباً بعد زواجه بعدة أشهر، وكان ثمرة هذا الزواج هذا الأخ الذي يُحدثنا الآن.

يقول: نشأتُ يتيماً ووحيداً، وقامت على تربيتي أمي الأرملة الشابة، وتأيمت من أجلي، فكنتُ مشروعها في الحياة، وكنا نعيش على معاش المرحوم أبي، ومعنا أرضٍ تمدنا أحياناً بما يُقيم أودنا، ولم يكن عمي بعيداً عنا، إذ كان يتفقدنا الفينة بعد الفينة، وهكذا مضت طفولتي لا يُعكرها شيءٌ إلا فَقْدُ الأب وضيق الحال، ولكنها كانت رغم ذلك تمشي كحياة مَن حولي. أما عمي فهو رجلٌ عسكريٌ؛ إذ إنه ضابطٌ في الجيش برتبة عقيد، وكان رجلاً طيباً يحنو علينا ويسأل عنا، ولم نرَ منه إلا كل خيرٍ، وكان جارنا في الأرض؛ إذ تقاسم هو وأبي الأرض نصفين، وأعطانا قسم أبي نقوم عليه وننتفع به. عاد عمي قبل مدةٍ من سفرٍ، ووصل إلى بيته في وقتٍ متأخرٍ من الليل، وفي ضحى اليوم التالي جاءني إلى بيتي وجلس معي في ديواني -على غير عادته- حيث أنه إذا أراد مني شيئاً كان يستدعيني إلى بيته، فأدركتُ أن هناك أمراً مهماً يشغل باله، وبعد المجاملات وتناول الشاي، قال لي: "يا ولدي لقد جئتك إلى بيتك رغم أني لا أزال مرهقاً من السفر حتى أتفق معك في أمر مهم".

وأردف يقول: "يا بُني إن قطعة الأرض الفلانية -التي تقع على الساقية والتي هي أفضل أرضنا- كانت من نصيب المرحوم أبيك حينما قُسِّمت الأرض وأنت لا تزال طفلاً، جاءت في سهم أبيك، ولكني استوليتُ عليها بسبب جشعي وأنانيتي, وما طابت نفسي أن لا تكون في قسمي، والآن يا ولدي، ومن هذه اللحظة، هذه القطعة من الأرض، سوف أنقل ملكيتها لك بطريقةٍ رسميةٍ حتى لا تختلف مع أولادي، وأما ما أكلتُ منها من حرامٍ فلك الحكم لو تحب أعطيك مقابله قطعة أرضٍ أخرى أو أسددك نقداً ولكن بالتقسيط ونُقدِّر الأمر تقديراً تقريبياً, لأني أريد أن أتخلص من كل ما هو متعلقٌ بهذا الأمر واستحلك قبل أن يُداهمني الموت". فلما أكمل عمي كلماته رأيتُ الدمع يتحدر من عينيه وهو يطلب مني أن أسامحه على خطأه ذاك؛ فقلت: "يا عم أنت بمقام أبي، وأنا نشأتُ في الدنيا وكنتَ أنت ملجأي وعزوتي، ولو تحب فأنا متنازلٌ عن أي حقٍ لي في تلك القطعة من الأرض، وسوف أسترضي أمي فيما لها من ميراثٍ فيها. اِحتفظ بها واعتبرها مِلكك كما كانت، وأنا مُسامِحك دنيا وآخرة". هنا لم يتمالك عمي نفسه فاحتضني وبكى بكاءً شديداً، وقال: "لا والله ما لي قسم فيها بعد اليوم، ولن ألقى الله وهي في مِلكي"، فلما أصر طلبتُ منه أن يقبل أن أسامحه فيما مضى وأن تنتقل قطعة الأرض لي من الآن، وما فات فات، واتفقنا على هذا. في آخر المجلس سألتُ عمي عن سبب هذا التحول بعد أكثر من خمسٍ وعشرين سنة؟ فقال: "يا بُني وأنا في طريق عودتي من سفري هذا حلت صلاة الجمعة فمررتُ أصلي في أحد المساجد فوقف الخطيب على المنبر وخطب خطبةً بليغةً مؤثرةً عن حُرمة مال اليتيم وعن (رد المظالم) بكلامٍ لم أسمعه من قبل؛ فخفتُ خوفاً شديداً أن يحدث لي شيءٌ قبل أن أصل إلى بيتي وأعيد لك ما اغتصبته من أرضك".

 

أحبتي في الله.. لقد حرَّم الله سبحانه وتعالى الظلم تحريماً قاطعاً؛ فهو سبحانه الحكم العدل لا يَظلِم ولا يرضى لعباده الظلم؛ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: {إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}، وفي روايةٍ: {إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا}. ويقول عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾، وهو سبحانه لا يحب الظالمين: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، بل ويلعنهم: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، ويصفهم بأنهم لا يُفلحون: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، ويُبيّن أن مصيرهم هو الخيبة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾، ويُخبرنا سبحانه أن الإنسان -بنفسه الأمارة بالسوء- لديه الاستعداد لأن يَظلِم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، ومع كل ذلك، فإن الله العزيز الحكيم، بلطفه ورحمته وفيض كرمه، يفتح باب المغفرة والتوبة أمام كل ظالم: ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ويكون (رد المظالم) هو باب قبول توبتهم.

 

وعن (رد المظالم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه.]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَحشُرُ اللهُ العبادَ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ حتى اللطمة فما فوقها، ولا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النارَ وعنده مظلمةٌ، حتى اللطمة فما فوقها (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)]، قلنا: يا رسول الله، كيف وإنما نأتي حفاةً عُراةً غُرلًا بُهمًا؟ قال: [بالحسناتِ والسيئاتِ جزاءً وفاقًا ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾].

 

يقول أهل العلم إن الحقوق -التي ينبغي رد مظالمها- نوعان: حق الله، وحق الآدمي: فحق الله لا مدخل للصلح فيه؛ كالحدود، والزكوات، والكفَّارات، ونحوها؛ وإنما الصلح بين العبد وبين ربِّه في المسارعة إلى إقامتها والوفاء بها. أما حقوق الآدميين، فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عنها.

 

وعن الحقوق الخاصة بالآخرين كتب أحدهم سائلاً الظالمين ومُذكِّراً لهم بيوم الحساب يُعدد صوراً من المظالم التي تستوجب الرد؛ كتب يقول:

هل أنت جاهز؟ يا من ظلمتَ الناس؟ يا من شهدتَ زوراً من أجل إرضاء الآخرين؟ يا من تركتَ الصلاة؟ يا من قطعتَ الأرحام؟ يا من أكلتَ حقوق غيرك؟ يا من ظلمتَ أبناءك وزوجتك؟ يا من عققتَ والديك وخاصمتَ إخوانك؟ يا من سرقتَ ورث إخوانك وأخواتك؟ يا من افتريتَ على خلق الله؟ يا من فرَّقتَ بين أبنائك الذكور والإناث؟ يا من استخدمتَ السحر لأذية غيرك؟ يا من أكلتَ مال اليتيم؟ يا من عطلتَ عمداً مصالح الآخرين؟ يا من جرحتَ إنساناً وظلمته قهراً وغدراً؟ يا من خُنتَ شخصاً أَمِنَك على حاله وماله؟ يا من كنتَ سبباً في خراب بيوت الناس؟ يا من طعنتَ بعِرض الناس وشرفهم؟ يا من استقويتَ على الضعيف ونسيت أن الله أقوى منك؟ يا من ألقيتَ بأمك أو أبيك خارج بيتك إرضاءً لزوجتك؟ يا من أكلتَ حق العامل وتعبه وشقاه؟ يا من تعاليتَ وتكبرتَ على الناس بمنصبك أو نسبك؟ هل أنت جاهز؟

إن حقوق العباد ستُرفع إلى قاضي السماء يوم الحساب، الذي يحسبه الغافلون بعيداً وهو أقرب إلينا من صحوتنا من النوم؛ فما وجودنا في الدنيا إلا وجودٌ عابرٌ ومسألة وقت، والرحيل إلى حيث الخلود لا مفر منه، وكل ساقٍ سيُسقَى بما سقَى، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.

 

يقول العلماء إن التوبة النصوح هي المشتملة على: الندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفاً من الله سبحانه وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، مع (رد المظالم) إن كان عند التائب مظالم للناس من دمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ، أو استحلالهم منها، أي: طلب المسامحة منهم. ومن كان ظلمه للناس من جهة الغيبة وخشي إن أخبرهم أن يحدث ما هو أكبر من الضرر، لم يخبرهم، ودعا لهم، واستغفر لهم، وأظهر ما يعلم من محاسنهم في مقابل إساءته لهم بالغيبة. أما من أخذ أموالاً بغير حقٍ بسرقةٍ أو غيرها فالواجب عليه أن يبذل كل الوسع في البحث عن أصحابها حتى يردها إليهم هُم، أو ورثتهم إن كان أصحابها قد ماتوا، فإن أيس من العثور عليهم ولم يتسنَ له معرفة ورثتهم فله التصدق بها عنهم، وعلى كل حالٍ عليه الإكثار من كل ما يُقرب إلى الله ويزيد في ميزان الحسنات فإن حقوق العباد إذا لم يأخذوها الآن، فسيأخذونها يوم القيامة حسناتٍ أو تخلصاً من سيئات.

إن أفضل الأعمال أن يأتي المسلم يوم القيامة سالِماً من الظُّلْم، ولا يكون ذلك إلا بالمبادرة إلى أن يتحلَّل من مظالم الناس كشرطٍ لقبول توبته.

 

أحبتي.. من منا لم يَظلِم؟ لا يوجد من بيننا من مرت سنوات حياته دون أن يظلم نفسه أو يظلم غيره -إلا من رحم ربي وهُم قليل- فليبادر كلٌ منا إلى توبةٍ نصوحٍ بدايتها الصحيحة الإنابة والعودة إلى الله عزَّ وجلَّ والمحافظة على الفروض وقضاء الفوائت قدر المستطاع، و(رد المظالم) إلى العباد.

ومن منا لا يتمنى لنفسه العيش الآمن والهداية؟ كلنا نتمنى ذلك؛ فلنعلم أن ذلك مشروطٌ بأن نُقوي ونعزز إيماننا بالله، ولا نظلم غيرنا ليتحقق لنا وعد الله الذي لا يُخلف وعده؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾.

ولنتذكر المقولة المشهورة: "أن تصل متأخراً خيرٌ لك من ألا تصل أبداً".

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/44NjTQe

 

الجمعة، 21 يوليو 2023

تصحيح النية

 خاطرة الجمعة /405

الجمعة 21 يوليو 2023م

(تصحيح النية)

 

هذه القصة حدثت في فلسطين قبل أكثر من مائة سنة. يقول راويها إنه سمعها من صديقٍ فلسطينيٍ حدثت لجده، وتداولها الأبناء والأحفاد. يقول الجد وكان مُزارعاً:

دخل موعد شراء البذور للُمزارعين في فلسطين ولم يكن لديّ من المال ما أشتري به بذوراً؛ فسافرتُ من قريتي إلى القُدس حيث سمعتُ بأن هناك رجلاً من الأغنياء الصالحين يُقرض المُحتاجين قرضاً حسناً إلى أجل. زرته في بيته، وكانت خزانة المال بجانبه، فقلت له: "أريد أن أقترض منك مائة دينارٍ ذهبيٍ لأشتري بها بذوراً للزرع، ولك عليّ عهدٌ أن أردها لك كاملةً بعد الحصاد والبيع بإذن الله"؛ فأخذ الرجل من الخزانة كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ، معصوباً بشريطٍ أحمر من رأسه، وقال لي: "تفضل يا أخي"، قلتُ له: "ألا تُكاتبني على دَينك؟ ألا تستشهد عليّ أحداً؟"، فأجاب: "أنا يا أخي لا أستكتب على إقراضي لأحدٍ إلا بالله، ولا أستشهد على إقراضي لأحدٍ إلا الله، والله خير الشاهدين بيني وبينك".

خرجتُ من عنده وكانت نيتي سليمة بأني سأشتري البذور وأزرع وأحصد وأبيع وأرد له كامل ماله بالكمال والتمام، ولكني بعد أن صرتُ على الطريق قال لي شيطان نفسي: "هذا الرجل لا يعرفك، وأنت من قريةٍ بعيدةٍ جداً عن مكانه، ولم يُكاتبك على دَينه، ولم يستشهد عليك أحداً، والمبلغ كبيرٌ، فتصرف بالمال كما شئتَ" فتغيرت نيتي من الخير للشر. وقد كنتُ جائعاً، ففتحتُ كيس المال، وأخذتُ منه ديناراً ذهبياً، وأغلقتُ الكيس بالشريط الأحمر، وذهبتُ إلى السوق، واشتريتُ بجزءٍ من الدينار الذهبي طعاماً، وأرجعتُ باقيه إلى جيبي، وقفلتُ راجعاً باتجاه قريتي. جلستُ تحت ظل شجرة برتقالٍ، ووضعتُ كيس النقود بجانبي، والطعام أمامي، وبدأتُ آكل طعامي الذي اشتريت. وكانت الغربان تكثر في تلك المنطقة نظراً لكثرة الزروع والثمار، فلمح غرابٌ الشريط الأحمر الذي رُبط به كيس الدنانير، فظنه قطعة لحمٍ حمراء، فانقض على الكيس وخطفه من جانبي وحلّق به سابحاً في السماء عالياً، جريتُ خلفه حتى دخل وسط الأحياء السكنية لمدينة القدس الشريفة واختفى نهائياً؛ فعدتُ إلى مكان طعامي تحت شجرة البرتقال، وبكيتُ كثيراً، وندمتُ كثيراً، وحزنتُ كثيراً، ومرغتُ وجهي في التراب ندماً وأسفاً وناجيتُ ربي مباشرةً وبدون تردد قائلاً: "اللهم إنك كنتَ تعلم صدق نيتي فسهّلتَ أمري، وعلمتَ الآن سوء نيتي فجازيتني، اللهم إني أُشهدك بأني سأشتري بذوراً بما بقي من الدينار الذهبي الذي في جيبي، وأني سأوفي كامل دَيني إلى أخي الذي أقرضني في وقته".

ثم ذهبتُ إلى السوق واشتريتُ بذوراً بالمبلغ الذي تبقى لديّ من الدينار الذهبي ورجعتُ إلى قريتي البعيدة، زرعتُ البذور في مزرعتي، وكانت صغيرة المساحة، فبارك الله في زرعي وأنبت في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ، ونقّى زرعي، بقدرته سبحانه، من جميع الحشرات والآفات؛ فحصدتُ الزرع وبعتُ ثلثي الحصاد بأكثر من مائتي دينارٍ ذهبي، وأبقيتُ ثلث الحصاد لبذور السنة التالية، وتجهزتُ للسفر لإرجاع الدَين لصاحبه. وبعد سفرٍ طويلٍ، دققتُ الباب على صاحب المال، وعندما فتح لي الباب عرفني وعانقني عناقاً شديداً وهو يبكي ويقول: "حمداً لله على سلامتك يا أخي ظننتك ميتاً!"، دخلنا المنزل وأنا مُستغربٌ من عناقه وبكائه وشدة ترحيبه بي، فسألته: "يا أخي لماذا فعلتَ ما فعلتَ وأنا قد جئتك على موعدي لسداد دَينك؟"، قال لي صاحب المال مُتعجباً: "بعد أن فارقتنا بساعاتٍ كانت زوجتي تنشر الغسيل على سطح المنزل، فإذا بغُرابٍ يُسقط كيساً من رجليه على سطح بيتنا، وعندما أحضرت لي زوجتي الكيس فإذا هو نفس كيس المال الذي أعطيتك إياه، وبعد أن فتحته وعددتُ ما فيه من دنانير وجدته ناقصاً ديناراً واحداً، فقلتُ في نفسي بأن قُطاع طريقٍ قد قتلوك وأخذوا الكيس، وحصل عليه ذلك الغراب، ولا أعلم كيف حصل عليه؟! فالحمد لله على سلامتك يا أخي، فهلا أخبرتني ما كان من أمرك؟"، فأخبرته بقصتي بصدقٍ، ومددتُ إليه كيساً به مائة دينارٍ ذهبيٍ سداداً لدَيني، فقال لي صاحب المال: "مالي صار معي، ولا ينقصه سوى دينارٍ واحدٍ، وأنا يا أخي أهبُك هذا الكيس الذي فيه تسعةٌ وتسعون ديناراً هديةً لك على سلامتك، ومكافأةً لك على صدقك وأمانتك وحُسن وفائك، ولا تتردد مُستقبلاً في زيارتي لأية حاجةٍ في نفسك، اعتبرني أخاً لك لم تلده أُمك".

 

يقول راوي القصة:

حينما كانت نية الجد المُزارع حسنةً؛ سهّل الله له الحصول على المال. ثم عندما تغيرت نيته للشر؛ سلب الغُراب منه المال. ثم بعد (تصحيح النية) وتغييرها للخير؛ زرع وحصد وباع وفتح الله له ما يَعْدِل سداد دَينه وزيادة. ووهبه الله تسعةً وتسعين ديناراً مُكافأةً له على صدقه وأمانته ووفائه؛ وصدق الله العظيم حين قال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ ٱللَّهَ سميعٌ عليمٌ﴾.

 

أحبتي في الله.. النية محلها القلب، وهي ركنٌ أساسيٌ في جميع الأعمال والعبادات.

وردت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تشير إلى النية وتربط بينها وبين الإخلاص في العمل؛ من بين هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾. وقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. وقوله تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾.

وعن النية قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه ِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

وعن أجر وثواب النية قال عليه الصلاة والسلام فيما يَروي عن ربه عَزَّ وَجَلَّ: [إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ؛ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً]. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة تبوك: [إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لأَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ هَبَطْتُمْ وَادِيًا، إِلاَّ وَهُمْ مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا].

 

يقول العُلماء إن النية ارادةٌ ورغبةٌ داخل الإنسان تتواجد في القلب، وتُمثل ما بداخل الإنسان من مشاعر ورغباتٍ حقيقية. وقيل إنها العزم. وقيل إنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل. وقيل إنها مطلق القصد إلى الفعل. ويُشترط فيها أن تكون خارجةً من قلب الإنسان ومن مكنون نفسه، وأن لا يتم الإعلان عنها إلى أن يتم فعلها؛ فالنية لا يعلمها إلا صاحبها، اما بالنسبة للآخرين فيجب أن تتحول إلى فعلٍ أولاً.

 

وعن (تصحيح النية) حتى يرتبط العمل بالإخلاص يقول تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ويُستفاد من ذلك أن لكل عملٍ صالحٍ رُكنين لا يُقبَل عند الله إلا بهما: أولهما: إخلاص النية بأن يكون المقصود بالعمل وجه الله وحده دون سواه، وثانيهما: موافقة العمل لسُنة النبي صلى الله عليه وسلم. بالرُكن الأول تتحقق صحة الباطن، وبالثاني تتحقق صحة الظاهر.

 

أحبتي.. قال الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: [منِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ]. وعلى كلٍ منا أن يُبادر إلى (تصحيح النية)؛ فكثيرٌ منا يكتفي بأن تكون نيته في العمل إرضاء رؤسائه، أو كسب رضا الزبائن والمتعاملين، أو السعي لنيل ترقيةٍ أو علاوةٍ، وفي علاقاته الشخصية تكون نيته قاصرةً على إسعاد زوجته أو تربية أبنائه أفضل تربيةٍ ممكنةٍ أو التعامل بلطفٍ مع جيرانه وأصدقائه. نفعل ذلك، ولا حرج فيه، لكننا نغفل أن تكون نيتنا هي رضا الله سُبحانه وتعالى أولاً، ثم رضا من هُم دونه. علينا إذن أن نُسارع إلى (تصحيح النية) حتى تكون نيتنا دائماً وقبل كل شيءٍ هي رضا الله عزَّ وجلَّ؛ فإذا رضي الله عنا حقق لنا كل ما نسعى إليه من رضا الآخرين أو تحقيق مصالح دُنيوية، بل ويُثيبنا سُبحانه في الآخرة خير الثواب تفضلاً منه وتكرماً.

اللهم اجعل نيات أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، فلا نعمل نفاقاً ولا رياءً ولا سمعةً ولا فخراً، ولا لرضا أي مخلوقٍ كان، وإنما تكون أعمالنا كلها خالصةً لك وحدك، لا شريك لك، نرجو بها رضاك.

https://bit.ly/44xzSld

الجمعة، 14 يوليو 2023

الصدق مع الله

 خاطرة الجمعة /404

الجمعة 14 يوليو 2023م

(الصدق مع الله)

 

في حج هذا العام ١٤٤٤هـ، ونقلاً عن إحدى السيدات الثقات، قالت: تعرفتُ على بعض الأخوات الفُضليات، جلسنا نتحدث عن أمورٍ مختلفةٍ يدور مُعظمها عن الدار الآخرة، فوجّهت إحدى الأخوات لنا سؤالاً: "أخبروني كيف أتيتُم إلى هُنا؟"، أجابت كل واحدةٍ عن السؤال إجابةً معروفةً من قبيل: هذه أتى بها زوجها، وهذه أتى بها ابنها، وهذه أتت مع أبيها، وبقيَت أختٌ واحدةٌ انتظرنا أن تُجيب لكنها سكتت، فبادرت السائلة بلفت انتباهها لتُجيب، فقالت: "أتيتُ بالحُب!"، فتعجبنا جميعاً كيف هذا؟! قالت وقد بدأت الدموع تتجمع في عينيها: "أحببتُه لدرجة أنني لم أستطع أن أصبِر فأتى بيَ الحب إلى هنا"، فسألتها إحداهن قائلةً: "كيف هذا؟"، فقالت: "كان لي منزلٌ صغيرٌ أعيش فيه وحدي بعد موت والدَيّ، عرضتُه للبيع، وبثمن البيع جئتُ إلى هنا"، فغرَت كل واحدةٍ منا فاها! هل هذه من البشر أم جاءت من زمن الصحابة؟ هل يُعقل هذا؟!

فأسرعنا بسؤالها: "وبعد العودة، أين ستعيشين؟ أنتِ وحيدةٌ؟ هل لكِ مكانٌ آخر تعيشين فيه؟"، فابتسمت وقالت: "لقد عِشتُ عمري كلّه وحيدةً بالفعل؛ حينما آثرتُ الدُنيا على الآخرة، وآثرتُ نفسي على ربي، وانشغلتُ بشهواتي عن إصلاح قلبي، حينها حقاً كنتُ وحيدةً، لأن الحياة الخالية من معرفة الله حياةٌ كئيبةٌ، والقلب الخالي من معرفة الله قلبٌ لا يعرف للأُنس سبيلاً، أمّا الآن فلسُت وحدي، معي خالق الكون، ومؤنس القلوب، وجليس مَن ذكرَه، فكيف أستوحشُ أو أشعرُ بالوحدة؟"، فقالت إحدى الأخوات بنبرةٍ هادئةٍ وتأثُرٍ بالغٍ بهذا الحديث: "وماذا عن مكان معيشتك بعد العودة؟!"، فأجابت قائلةً: "أرجو من الله أن يُبدلني خيراً منه في الجنة، فلا طاقة لي بالرجوع مرةً أخرى، أخشىٰ أن أعود فأُسلَب حُباً ملأ قلبي ووِجداني، أخشىٰ أن أعود للدُنيا فأفقد الله مرةً أخرى، وأعيش عيشة الحائر لا إلى العُصاة ولا إلى العارفين"، فقالت إحداهن مُتعجبةً: "سُبحان الله!"، سكتت قليلاً ثم أردفت تُكمل: "ولكن حبيبتي، يُمكننا مساعدتك في إيجاد شقةٍ ولو بالإيجار ونوفر لكِ عملاً، زوجي يستطيع مساعدتك في هذا الأمر، عسى الله أن يتقبل منكِ بَيعتك، ويرزقك مقابلها الجنة"، ثم ربتَت على يدها وقالت: "ولا تنسَي أختي نصيبكِ من الدُنيا"، فتبسمت صاحبتُنا وقالت: "أيُّ نصيبٍ يا عَيني؟ لقد أخذتُ نصيبي من الدُنيا كاملاً، بل أكثر من نصيبي، صدقيني لقد طلّقتُ الدُنيا ثلاثاً، لا تُفكرن في هذا الأمر ولا تحملن همّي فلي ربٌّ لا ينساني سيرزقني منزلاً خيراً من منزلي هاهُنا، هذا ظني به فهو أوفىٰ حبيب"، ثم قالت: "لله درّ إحدى نساء السلف وهي القائلة: «لو كان الموت يُشترى لاشتريته شوقاً للقاء ربي»".

لا أُخفي عليكم بكينا جميعاً لحالها، وتضاءلت كل تنازلاتنا مقارنةً بتنازلها لله، تمنينا لو أن الله أصلح قلوبنا لدرجة صلاحها هذه، أن نخرج في سبيل الله ولا ننظر للوراء ماذا ينتظرنا في الدُنيا، أن نولِّي قلوبنا شطر سُبل الصلاح فثمّ النعيم المُقيم. بعد حديثها لم نعرف ماذا نقول فآثرنا الصمت، وبالفعل ماذا نقول لمُحبّةٍ صدقت في محبتها؟ نُقنعها بأن تُقلل من شوقها لربها وتؤثِر الدُنيا قليلاً؟ كيف نُقنعها بأن تُفكر في الدُنيا ثانيةً بعد أن تَمَلَكَ حبُ الله قلبَها؟ واللهِ لقد استحَييتُ أن أقول لها مثلما قالت الأخوات–رغم أنني أعلم أنهن قُلن هذا حرصاً عليها– ولكنني استحييتُ أن أنصحها بالتفكير في الدُنيا وفي قلبها سكَن حبُ الخالق وحده، فكيف أُدخِل على هذا الساكن الجليل ساكناً رديئاً حقيراً.

وبينما كنا نفكر في أمرها وساد الصمتُ، وجدناها تكتب وُريقاتٍ مُتعددةً، ووزعتها علينا وقالت: "ناشدتكن الله ألا تفتحنَها إلا بعد عودتكن"، ورغم الفضول نزلنا على رغبتها واستسلمنا لِما قالت.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة، قُبيل مغرب يوم عرفة قابلنا صاحبتنا فوجدناها ازدادت جمالاً عن ذي قبل، كيف لا وحب الله يُضفي على الروح جمالاً من جمال الله فكيف بالبدن!

فقلتُ لها: "كلما رأيتكِ تذكرتُ نساء السلف يا حبيبة، أرجو ألا تكوني نسيتِني من صالح دعائكِ"، فتبسمت وقالت: "لم أنسَ لا تقلقي، اسأل الله ألا ينساكِ"، فارتجف قلبي وأمسكتُ بيدها ومشينا استعداداً للصلاة، فقالت لي سأذهب لفعل شيءٍ وأعود إليكِ، فلم أحب أن أُثقل عليها بالسؤال وتركتها تذهب. بدأنا الصلاة وهي لم تأتِ بعد؛ فقلقتُ عليها ودعوتُ الله أن يُيسر أمرها، وبعدما فرغنا من الصلاة، وجدنا الناس مُلتفّين حول أحدٍ، لا ندري ماذا حدث، فوقفنا بعيداً، فإذا بنا نجد صاحبتنا قد ماتت، لا أستطيع وصف الصدمة والذهول الذي بدا علينا، فاقتربنا منها والدمع كالسيل؛ فقالت إحدانا: "ربحَ البَيع يا حبيبةُ ربح البيع، لقد أبدلكِ الله جواراً خيراً من جوارنا وبيتاً خيراً من بيوتنا ومنزلاً خيراً من منازلنا، لله درّ الصادقين لقد أحدثوا في قلوبنا العجب العُجاب".

دُفنت حبيبة في خير بقاع الأرض، وصلينا عليها عقب صلاة العشاء.

لمّا عُدتُ من رحلة الحج كان كل ما يشغل بالي هو فتح الورقة التي كتبتها لنا حبيبة، ففتحتُها فور وصولي لبلدتي فوجدتُ فيها «بسمِ اللهِ الرحمٰن الرحيم، من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدُوا اللهَ عليهِ، الحمدُ للهِ الذي لم يخذُل صادقاً، بالصدق بلغ أصحابُ النبي فهلّا صدقنا؟». بكيتُ لساعاتٍ طوال، لقد كان موقف موتها مَهيباً، لقد صلَى عليها أكثر من مليون مُسلمٍ، هذا التشريف من أهل الأرض، فكيف بأهل السماء؟ رُحماك يا رب لقد أسرفنا، فهلا قبلتنا وأدخلتنا في الصالحين، إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

أحبتي في الله.. إنه (الصدق مع الله)؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين﴾. ويقول سبحانه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْكَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من سألَ اللَّهَ الشَّهادةَ صادقًا بلَّغَه اللَّهُ منازلَ الشُّهداءِ وإن ماتَ علَى فراشِه].

 

يقول أهل العلم إن (الصدق مع الله) أساسه صدق النوايا؛ والإنسان بالنية الصادقة -مع العزم الأكيد والأخذ بالأسباب- يأخذ الأجر وإن لم يقع منه الفعل، وهذا مِنْ كرم الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ].

فالنوايا الصادقة هي الأساس للأعمال المُخلصة الخالصة لوجه الله تعالى التي تحظى بالقبول، وإلا كانت مثل أعمال الثلاثة: قارئ القرآن الذي كان يقوم به آناء الليل وآناء النهار ليُقال أنه قارئ، وصاحب المال الذي كان يصل به رحمه ويتصدق ليُقال عنه جواد، والذي قُتل وهو يُجاهد في سبيل الله ليُقال عنه جريء. هؤلاء الثلاثة لم تنفعهم أعمالهم التي تبدو طيبةً وحسنةً لكن نياتهم لم تكن خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى؛ فقال عنهم صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: [أولئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلقِ اللهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ].

 

و(الصدق مع الله) تعالى كما ينفع الناس في الآخرة، فإنه يفيدهم كذلك في الدُنيا؛ ففي حديث الثلاثة الذين أُغلق عليهم الغار أنه قال بعضهم لبعضٍ: "إنَّه واللَّهِ يا هَؤُلَاءِ، لا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنكُم بما يَعْلَمُ أنَّه قدْ صَدَقَ فِيهِ" فتوسل أحدهم بعفته، وآخر بأمانته، وآخر ببره بوالديه؛ [فَفَرَّجَ الله عنهم فَخَرَجُوا].

 

وقيل: "ليس شيءٌ أنفع للعبد من صدق ربه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه وفي فعله قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم﴾. ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره".

 

أحبتي.. أختم بنصيحةٍ لأحد الصالحين كتب يقول: "ينبغي أن نُحرر النوايا وأن نصدُق مع الله في الطلب، والله عزَّ وجلَّ حاشاه أن يَصْدُقَ إنسانٌ في طلبه ثم لا يُعطيه، إذا طلب الطاعة بصدقٍ أعانه الله عليها، وإذا طلب الرزق الحلال بصدقٍ يسِّره الله له. وأعظَمُ الصِّدق مع الله أن نَصْدُقَ في طلب الجنة فنبذل لها أسبابها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ عبادةً وطاعةً وإنفاقاً ومحبَّةً وخيراً، فإذا صدقنا الله في طلب الجنة ننالُها إن شاء الله برحمته وفضله وجُوده وإحسانه".

نسألك اللهم أن ترزقنا الصدق معك، وأن تُنزلنا منازل الصديقين.

https://bit.ly/44KjjlO

 

الجمعة، 7 يوليو 2023

صناعة الكذب

 خاطرة الجمعة /403

الجمعة 7 يوليو 2023م

(صناعة الكذب)

 

كتب هذه القصة كاتبٌ مصري راحل له العديد من القصص القصيرة والروايات المنشورة، كتب يقول: يجلس الرجل جواري في سيارة الأُجرة، والتي تقطع أحد شوارع «القاهرة» المُزدحمة.. يُمسك بشطيرةٍ مليئةٍ باللحم، والدُهن يوشك على أن يسيل منها ليُغرقنا جميعاً حتى الأعناق. يقضم منها في كفاءةٍ يُحسد عليها. هنا يدق جرس الهاتف المحمول فيمد يده المُلوثة بحذرٍ ليلتقطه.. ثم تسمع المُحادثة: "نعم.. نعم.. أنا في الطريق.. منذ قلتِ لي هذه الكلمات القاسية وأنا لا أنام ولا آكل.. أُقسم أنني لم أذق طعم الزاد مُنذ ثلاثة أيام". ويمسح قطرات الدهن على شفته السُفلى، وينظر لي بعينٍ ناريةٍ مُهدِدةٍ.. الويل لمن يعترض. لكني فعلاً مُعجبٌ بشهية هذا الذي لا يذوق طعم الزاد! إنه يواصل الكلام: "أنا في «الإسكندرية».. أُقسم أنني في شارع «صفية زغلول».. سوف أكون عندكِ خلال ثلاث دقائق.. لا تقلقي أبداً". أنظر إلى شوارع «القاهرة» المُحيطة بنا وأتنهد.. هو رجلٌ دقيقٌ كذلك.. في «الإسكندرية» وفي شارع «صفية زغلول»! تُرى هل هي زوجةٌ غاضبةٌ أم شريكةُ عملٍ تُطالب بمُستحقاتها المالية؟ وماذا ستقول عندما تكتشف أنه لن يكون عندها بعد ثلاث دقائق ما لم يطر في الهواء طبعاً؟ يُنهي الرجل المكالمة وبلا أدنى ذرةٍ من التردد يواصل التهام الشطيرة الدسمة. خطر لي أنه يتمتع بضميرٍ صافٍ فعلاً.. كل هذا الكذب وأمام شهودٍ يعرفون كم هو كاذبٌ، وهو يملك صفاقةً تسمح له بأن يغرس أصابعه في عيوننا لو اعترضنا.

يقول الكاتب: لقد رأيتُ موقف الكذب على الهاتف هذا كثيراً، وفي آخر مرةٍ كان الفتى يُكلم حبيبته على الهاتف وهو يُمسك بيد حبيبته الأخرى! أعتقد أن الهاتف الذي ينقل صورة المُتكلم سوف يجلب متاعب عديدةً على أمثال مُحترفي الكذب هؤلاء، لكني لن أندهش لو ظهرت تقنياتُ كذبٍ جديدةٌ تُناسب الموقف.. سوف تُباع خلفياتٌ جداريةٌ تُمثل شوارع «الإسكندرية» ليلصقها وراءه أثناء الكلام، وسوف يكون هناك مُمثلون يقومون بدور باعة الكورنيش في «الإسكندرية»، ولربما تدّخل المُخرجون ليستعملوا حيل الكروما بحيث تبدو أمواج البحر حيةً يقظةً وراء ظهره.. وسيكون هناك فنانو ماكياجٍ يُضيفون على ملامحه لمساتٍ تجعله يبدو مُرهقاً مُسهداً ناحلاً. إن الكذب يتطور مع الزمن ليتحول إلى فنٍ من الفنون الراقية، وعلينا أن نفهم هذا قبل فوات الأوان!

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصةً قصيرةً لكاتبٍ مصريٍ رسمت صورةً لشكلٍ من أشكال الكذب الذي صار يتطور بتنوع أساليبه وأشكاله ومجالاته حتى أصبح صناعةً كاملة يُطلق عليها (صناعة الكذب)!

 

وقد ذمّ الله سبحانه وتعالى الكذب ونهى عنه في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ منها: يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ . ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾. ويقول جلَّ وعلا: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾. ووصف عزَّ وجلَّ المنافقين بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. ونهى عن الكذب بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.

 

كما ورد ذمّ الكذب والنهي عنه في السُنة النبوية في العديد من الأحاديث الشريفة؛ منها: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [دعْ ما يُريبُكَ إلى ما لا يُريبُكَ فإنَّ الصدقَ طُمأنينةٌ وإنَّ الكذبَ رِيبَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحكَ به القومَ فيكذبُ، ويلٌ له، ويلٌ له]. وفي حديثٍ وإن كان ضعيفاً: قيل يا رسولَ اللهِ أيكون المؤمنُ جبانًا؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكونُ المؤمنُ بخيلًا؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكونُ المؤمنُ كذَّابًا؟ قال: [لا].

 

يقول أهل الاختصاص إن الكذب قد انتشر في أيامنا هذه بشكلٍ كبيرٍ حتى صار صناعةً كاملةً، وأصبحت (صناعة الكذب) حرفةً لها أهلها الذين يتنافسون في إتقانها والإجادة فيها بل وتطويرها! ولعل هؤلاء هُم مَن خاطبهم المولى سُبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾. وتحولت بعض الأدوات والوسائل الإعلامية من هدف بيان الحقائق إلى غرض نشر وتوزيع الأكاذيب والافتراءات على أفرادٍ وجماعاتٍ ودُولٍ، واستخدموا في ذلك كل ما استطاعوا من أدواتٍ ووسائل: التلفاز والمذياع والصُحف والمجلات والكُتب والإعلانات والأفلام والمُسلسلات ومقاطع الڤيديو والأناشيد والأغاني ومواقع شبكة الإنترنت وبرامج التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المحمولة والمناهج الدراسية، بل والرُسوم المُتحركة الخاصة بالأطفال وألعابهم الإلكترونية، وغير ذلك من أدواتٍ إن تحرر الإنسان من سطوة بعضها لم يَسلم من سطوة البعض الآخر.

وتزداد دائرة (صناعة الكذب) لتشمل الكثير من الأفراد العاديين، الذين يقومون بنشر الأكاذيب بحُسن نية؛ فمما زاد الطين بِلةً، سهولة النشر بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ يُمكن لأي شخصٍ أن ينشر أية مادةٍ -صحيحةً كانت أو مكذوبةً باطلةً- بالنسخ واللصق ثم إعادة النشر، بل ويتسابق الناس في ذلك بشكلٍ غريبٍ وكأنهم حريصون على أن يكونوا أول وأسرع من ينشر ويُعمم، ولا يدري الواحد منهم -في حالة نشره الأكاذيب- كم يتحمل من الوِزر والإثم. ولا حُجة لمن يقول: "نشرتها كما وصلتني"؛ فقد توفرت العديد من وسائل التحقق من صحة الأحاديث النبوية، إذا لم يكن البعض يُجيد استخدامها فإن بمقدوره أن يتريث قبل النشر والتعميم ويسأل غيره ممن يعلمون كيف يُفرِّقون بين الصحيح والباطل؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

 

كتب أحد العارفين يقول: خطورة الكذب أنه يُخفي الحقيقة، ويقلب الأوضاع، ويطمِس الحق؛ فهو يُخبر عن الشيءِ بخلاف ما هو عليه. لقد أضحت (صناعة الكذب) -للأسف- مُزدهرةً في العالم كله، يُديرها المُنتفعون والمُنافقون، ويُنفذها الذين يبغونَها عِوجاً. وكم وُجد في عصرنا هذا مَن باع دِينه وضميره، وأهدر مروءته، وكذب وشهد زوراً، وافترى بُهتاناً، طمعاً في انتقامٍ، أو رغبةً في تشَفٍّ، أو حبّاً في تشويهٍ، أو كسباً لمالٍ أو جاهٍ، أو نفاقاً ومُراءاةً وحرصاً على التقرب زلفى، أو مُجاملةً للغير! إن الكذب رأسُ كل خطيئةٍ، وقلب كل بليَّةٍ؛ فكم من شخصٍ تضرر بخبرٍ كاذب؟ وكم من أسرةٍ شُرّدت بخبرٍ كاذب؟ بل كم من حربٍ نشبت بخبرٍ كاذب؟

 

وفي المقابل فقد مدح الله سُبحانه وتعالى الصدق حين جعله من صفات المُتقين الذين وعدهم بدخول الجنة؛ يقول تعالى: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾، ووجّهنا سُبحانه لأن نكون مع الصادقين؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، ووعد مَن حرص منا على الصدق بخير الجزاء؛ يقول تعالى: ﴿لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، أما يوم الحساب فسيكون يوم حصول الصادقين على الجائزة؛ وهل من جائزةٍ أعظم من الخُلود في الجنة ورضا الله عنهم؟ يقول تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

أحبتي.. الكلام عن الكذب يطول، فهو من أسوأ صفات البشر. ورغم نتائجه الكارثية فلا يسلم منه كثيرٌ منا ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾؛ إذ يُغري على مُمارسة الكذب أنه سهلٌ متاحٌ لكل شخصٍ في كل وقتٍ، وفي جميع المجالات، سريع النتائج، غير مُكلِّفٍ غالباً؛ فاتسعت حدود تلك الصناعة لتشمل الملايين من البشر الذين لا يكاد ينقضي يومٌ من حياتهم إلا وقد كذبوا على أنفسهم أو أهليهم أو زملائهم أو جيرانهم، في البيوت وفي مقرات العمل وفي الأسواق، حتى أن الكذب أصبح هوايةً للبعض!

اللهم أعِنّا على جهاد النفس للبُعد عن الكذب [إلَّا في ثلاثٍ: الإصلاحِ بينَ النَّاسِ، وحديثِ الرَّجُلِ امرأتَهُ، وحديثِ المرأةِ زَوْجَها] كما رخّص في ذلك نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. واجعلنا ربنا من الصادقين الفائزين في دُنيانا وآخرتنا بصدق نياتنا وأقوالنا وأفعالنا.

https://bit.ly/3PRwUDL

 

الجمعة، 30 يونيو 2023

يأتوك رجالاً

 خاطرة الجمعة /402

الجمعة 30 يونيو 2023م

(يأتوك رجالاً)

 

بمناسبة موسم الحج، وهذه الأيام المُباركة من شهر ذي الحجة، اخترتُ لكم قصة رحلة حجٍ مؤثرة، بدأت أحداثها في غرب «إفريقيا».

يقول راوي القصة: أحكي لكم عن أحد الحجاج الذين قاموا برحلة الحج مشياً على الأقدام، من غرب «إفريقيا» إلى الكعبة المُشرفة في «مكة المُكرمة»؛ إنه المرحوم بإذن الله الشيخ الحاجّ/ عُثمان دابو، من جمهورية «جامبيا» في أقصى الغرب الإفريقي، كان قد تجاوز الثمانين من عمره عندما حدَّثنا عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعةٍ من صحبه من «بانجول» عاصمة بلدهم إلى «مكة المُكرمة»، قاطعين قارة «إفريقيا» من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فتراتٍ يسيرةً مُتقطعةً على بعض الدّواب، إلى أنْ وصلوا إلى «البحر الأحمر»، حيث ركبوا السفينة إلى ميناء «جدة». كانت رحلةً مليئةً بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوّنت لكانت من أكثر كُتب الرحلات إثارةً. استمرَّت الرحلة أكثر من سنتين كاملتين، ينزل الحاج/ عُثمان وصحبه أحياناً في بعض المُدن للراحة وللتكسب والتَّزود لنفقات الرِّحلة، ثم يواصلون المسير. أصابَهم في طريقهم من المشقَة والضيق والكَرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلةٍ باتوا فيها على الجوع حتَّى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلةٍ طاردتهم السِّباعُ، وفارقهم لذيذ النوم؟ وكم من ليلةٍ أحاط بهم الخوف من كلِّ مكانٍ؛ فقطّاعُ الطّرق يَعرِضون للمسافرين في كلِّ وادٍ.

يقول الراوي: سألتُ الحاج/ عُثمان: "أليس حجُّ البيت الحرام فرضٌ على المُستطيع، وأنتم في ذلك الوقت غير مُستطيعين؟"، قال: "بلى، ولكننا تذكرنا سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام، عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرعٍ عند بيت الله المُحرَّم، فقال أحدنا: نحن الآن شبابٌ أَقوياء أصحاء؛ فما عُذرنا عند الله تعالى إنْ نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرَّم، خاصةً أننا نظن أنّ الأيام لن تُزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟"، عندها خرجنا نحن الصحاب من بلدنا، ليس معنا من القُوت إلا ما يكفينا لأسبوعٍ واحدٍ فقط".

يُكمل الحاج/ عُثمان سرد ذكرياته فيقول: لُدغتُ ذات ليلةٍ في أثناء السَّفر، فأصابتني حمّى شديدة، وشممتُ رائحة الموت تسري في عُروقي، فكان أصحابي يَذهبون للعمل، وأمكثُ تحت ظلِّ شجرةٍ إلى أنْ يأتوا في آخر النَّهار؛ فكان الشيطانُ يوسوس في صدري: "أما كان الأولى لكَ أنْ تبقى في وطنك؟ لماذا تُكلّف نفسك ما لا تُطيق؟ ألم يَفرض اللهُ الحجَّ على المُستطيع فقط؟"، فثقلت نفسي وكِدتُ أضعف، فلمّا جاء أصحابي؛ نظرَ أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفتُ عنهُ ومسحتُ دمعةً غلبتني، فكأنه أحسَّ بما بي؛ فقال: "قُم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً -بإذن الله- وذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فانشرح صدري، وأذهب اللهُ عنّي الحُزن، ولله الحمد".

يقول راوي القصة: كان الشَّوقُ للوصول إلى الحرمين الشَّريفين يَحْدُوهم في كلِّ أحوالهم، ويُخفف عنهم آلام السفر ومشاقّ الطريق ومخاطِرَهُ، مات واحدٌ منهم في الطريق، ثم مات الثاني، أما الثالث فقد مات في عَرض البحر. واللطيفُ في أمر الحاج/ عُثمان أنّه كتب وصيةً لصاحبيه قال لهما فيها: "إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى عن شوقي للقائه، واسألاه أنْ يجمعني ووالدتي في الجنَّة مع النبي صلى الله عليه وسلم".

يصف الحاج/ عُثمان ما حدث بعد وفاة ثالث أصحابه فيقول: "لمّا مات صاحبنا الثالث؛ نزَل بي همٌّ شديدٌ وغمٌّ عظيمٌ، وكان ذلك أشدّ ما لاقيتُ في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوّةً، وخشيتُ أنْ أموت قَبل أنْ أنعمَ بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنتُ أحسبُ الأيام والسّاعات على أحرِّ من الجمر؛ فلمّا وصلنا إلى «جدة» مرضتُ مَرضاً شديداً، وخشيتُ أنْ أموتَ قَبل أنْ أصل إلى «مكة المكرمة»، فأوصيتُ صاحبي إذا متُّ أنْ يُكفنني في إحرامي، ويُقرّبني قدْر طاقته إلى «مكة»، عسى الله أنْ يُضاعف لي الأجر، ويَقبلني في الصَّالحين". واستطرد قائلاً: "مكثنا في «جدّة» أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى «مكة»، كانت أنفاسي تتسارع والبِشرُ يملأ وجهي، والشّوقُ يَهُزّني ويَشُدّني، إلى أنْ وصلنا إلى المسجد الحرام". سكتَ الحاج/ عُثمان قليلاً، وأخذ يُكفكِفُ عَبَراتِهِ، وأَقسمَ بالله تعالى أنّه لم يرَ لذةً في حياته كتلك اللذّة التي غمرت قلبَهُ لما رأى الكعبة المشرَّفة، ووصف تلك اللحظة؛ فقال: "لما رأيتُ الكعبةَ سجدتُ لله شُكراً، وأخذتُ أبكي من شدّة الرَّهبة والهيبة؛ كما يَبكي الأطفالُ، فما أَشرَفَهُ من بيتٍ وأعظمه من مكانٍ، ثمّ تذكَّرتُ أصحابي الذين لم يَتيسر لهمُ الوصولَ إلى المسجد الحرام، فحمدتُ الله تعالى على نعمتهِ وفضلهِ عليَّ، ثم سألتُه ـ سبحانه ـ أنْ يَكتب خُطواتهم في موازين حسناتهم، وألا يَحرمهم الأجر، وأنْ يَجمعنا بهم في مقعد صِدْقٍ عند مَليكٍ مُقتدر".

 

أحبتي في الله.. إنهم رجالٌ تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، أسألكم الدعاء لهم، ولأمثالهم، بالمغفرة والرحمة. كانوا فقراء بمقياس المال، أغنياء بمقياس الصدق مع النفس والإخلاص لله سبحانه وتعالى، بل ربما كانوا أكثر من حج البيت الحرام فقراً وأشدهم حاجةً.

فهل يا تُرى كتب التاريخ عن أغنى الحجاج وأكثرهم مالاً؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وقلتُ: "إن الفقراء (يأتون رجالاً) كما أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، فكيف تكون رحلة أغنى حاجٍ في التاريخ؟ هل أتى راكباً أفخر طائرة؟ أم أغلى سيارة؟ أم أفخم باخرة؟" لكن -وللعجب- فوجئتُ بأن أغنى من حج بيت الله الحرام كان هو الآخر ممن وصفت الآية الكريمة وسيلة انتقالهم من وطنهم إلى البيت المُشرَّف بعبارة (يأتوك رجالاً)!

إنه الحاج/ مانسا موسى الأول، الذي أجمع المؤرخون على أنه أغنى أغنياء البشر على مدى كُل العصور، وكان مَلِكاً مُسلماً من ملوك «أفريقيا»، قُدرت ثروته بما يُقارب 400 مليار دولار بمعيار وقتنا الحاضر. كان مانسا موسى المولود عام 1280م مَلِكاً لمملكة «مالي» وعاصمتها «نياني» في وسط غرب «أفريقيا» في الفترة (1312م - 1337م)، وكان عالِماً إلى جانب حِنكته السياسية، وكانت مملكة «مالي» في حِقبته مركزاً للازدهار والتجارة ومنارةً للعِلم في القارة الأفريقية، في الوقت الذي كانت «أوروبا» تغط في عصور الظلام. كانت «تمبكتو» في «مالي» حينها عاصمة التجارة الأفريقية ومُلتقى القوافل، اشتُهرت أسواقها بتجارة الذهب؛ حيث بلغت حصة «مالي» منها آنذاك ما يُقارب نصف إجمالي حجم سوق الذهب العالمي، كما كانت لأسواقها الحصة العُظمى أيضاً من تجارة المِلح؛ الذي كان من أغلى السلع في ذلك الوقت. أدى كل هذا لنهضةٍ حضاريةٍ وعِلميةٍ وإنسانيةٍ كُبرى، ومن الشواهد على ذلك إنشاء جامعة «سانكوري» كمركزٍ للعِلم في «أفريقيا» ومسجد «جنجو يريبر» الشهير، وكلاهما قائمٌ إلى وقتنا الحاضر، وقيل إن مانسا موسى كان يبني جامعاً كل جُمعة.

قام مانسا موسى برحلته التاريخية الشهيرة للحج سنة 1324م، في قافلةٍ مَلكيةٍ ضمت ما يُقارب المئة بعيرٍ مُحملةً بما يُقارب المئة وستةً وثلاثين كيلوغراماً من الذهب لكل بعيرٍ، وستين ألفاً من الحرس، واثني عشر ألفاً من العبيد، جميعهم يحملون عِصياً مصنوعةً من الذهب. قطع في رحلته أكثر من أربعة آلاف ميل، واستغرقت قُرابة العام، وعاد مُحملاً بالكُتب التي حولت «تمبكتو» إلى عاصمةٍ للفقه والثقافة والعِلم في غرب «أفريقيا». بدأ رحلته للحج من عاصمته «نياني» مُتجهاً إلى مدينة «ولاتا» في «موريتانيا»، ثم «توات» في «الجزائر»، ومن ثمَّ أكمل زيارته الشهيرة إلى «القاهرة» حيث استقبله فيها السُلطان المملوكي الملك الناصر بحفاوةٍ بالغةٍ، حتى وصل إلى «المدينة المنورة» ثم إلى «مكة المكرمة» حيث أتم فيها المناسك. وأغدق من الخيرات على أهالي المُدن التي زارها بإسهابٍ؛ لدرجة أن سعر الذهب بالعالم انخفض بسبب ما أُنفِقَ في رحلة الحج، ولكثرة ما وزع من ذهبٍ طول الرحلة، حتى أن ذلك أدخل اقتصاد العالم أجمع في حالةٍ من التضخم السريع، وحتى أن مانسا موسى اضُطر في نهاية رحلة الحج تلك للاقتراض لنفاد كمية الذهب التي كانت معه. قال أحد المؤرخين إنه وجد حين زار «القاهرة» بعد زيارة مانسا موسى باثني عشر عاماً أن القاهريين مازالوا يحكون عن تلك الزيارة، لما أغدق على فقرائهم ومُحتاجيهم من ذهبٍ وخيراتٍ وصدقات. توفي الملك مانسا موسى عام 1337م، بعد أن أصبحت العاصمة «تمبكتو» بجنوب غرب «النيجر» مركزاً لتجارة الذهب وتعليم الإسلام.

 

أحبتي.. كانت هاتان القصتان عن رجلين؛ أولهما ربما كان أفقر من حج بيت الله الحرام، والثاني كان يقيناً أغنى الحجاج مُنذ فُرض الحج على المسلمين إلى يومنا هذا. ورغم ذلك فقد انطبق على كلٍ منهما الوصف ذاته: (يأتوك رجالاً)، كما أن كلاً منهما أتى من ﴿فَجٍّ عَمِيقٍ﴾. أما الأول فهو أُسوةٌ حسنةٌ لكل فقيرٍ يحرص على أداء رُكنٍ مُهمٍ من أركان الإسلام؛ ألا وهو الحج، وأما الآخر فلسان حاله يقول لكل غنيٍ: بادِر إلى الحج قبل فوات الأوان، لا تؤجل أداء فريضة الله طالما كنتَ مُستطيعاً، أعد ترتيب أولوياتك واجعل أداء هذه الشعيرة العظيمة أولى الأولويات؛ فلا تعلم هل يُمهلك القدر لأداء هذا الفرض في المُستقبل أم لا؟

ومع وجود الطائرات والسفن والسيارات الحديثة لم تعد لأيٍ منا حُجةٌ لإتمام حِجةٍ مفروضةٍ على كل مُسلمٍ مُستطيعٍ فور توفر شرط الاستطاعة، دون إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تأخير.

اللهم ارحم الحُجاج الذين وردت الإشارة لهم في الآية الكريمة بعبارة (يأتوك رجالاً)؛ فكم تحملوا من صعوباتٍ ومشاق، ويسَّر لنا جميعاً حجاً مبروراً مقبولاً إلى بيتك الحرام.

https://bit.ly/3JG0wQp

 

الجمعة، 23 يونيو 2023

القرآن المُذهل

 

خاطرة الجمعة /401

الجمعة 23 يونيو 2023م

(القرآن المُذهل)

 

قبل حوالي 45 عاماً اشترك أحد قساوسة النصارى في مُناظرةٍ عن الإسلام والمسيحية مع داعيةٍ إسلاميٍ شهير، وكان منطق هذا القسيس قوياً وحُجته حاضرةً، وغلب بحثه عن الحقيقة على تعصبه لدينه، حتى إن عدداً من الشباب المُسلم الذي حضر المُناظرة، تمنوا أن لو أسلم هذا الرجل. كان ذلك الرجل هو الدكتور جاري ميلر، المُبشر الكندي النشيط، وأُستاذ الرياضيات والمنطق في جامعة تورنتو بكندا، بدأ حياته قسيساً، وكان كثير التهجم على الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم.

بعد تلك المُناظرة زاره شابٌ مُسلمٌ وأهداه ترجمةً لمعاني القُرآن الكريم، وقال له: "أنت تُهاجم القُرآن الكريم رغم أنك لم تطلع عليه من قبل، اقرأه ثم هاجمه إذا أردتَ بعد ذلك". قرر الدكتور ميلر أن يقرأ القُرآن ليُقدم خدمةً جليلةً للمسيحية بالكشف عن الأخطاء العلمية والتاريخية فيه، بما يُفيده وزملاءه المُبشرين عند الدعوة للمسيحية. عكف على قراءة المُصحف عكوف العدو للعدو. قرأ ميلر حتى وصل إلى سورة الناس، ولم يجد خطأً واحداً، وقال إن ما هزّه من الأعماق هو الآية الكريمة: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾؛ فتوسُع الكون هو كشفٌ حديثٌ جداً لم يُدركه العُلماء إلا في الثُلث الأول من القرن العشرين، فكيف للرسول الكريم أن يُدركه في ذلك العصر وأن يعرف تلك الحقيقة إن لم يكن موصولاً بالوحي ومُعلَماً من قِبَل الخالق جلَّ وعلا؟

دخل ميلر الحلبة مُتحدياً وخرج منها مُنبهراً بما وجده، دخل بمنطق تصيد الأخطاء وفضحها، لكن غلب عليه الإنصاف فخرجت دراسته وتعليقاته أفضل مما يُمكن أن يكتبه مُعظم المُسلمين عن القُرآن الكريم.

وكانت المفاجأة عام 1978م حين أشهر الدكتور ميلر إسلامه واتخذ اسم عبد الأحد عمر، وعمل لسنواتٍ في جامعة البترول والمعادن بالسُعودية قبل أن يتفرغ تماماً للدعوة للإسلام وتقديم البرامج التليفزيونية والإذاعية والمحاضرات العامة التي تعرض الإسلام عقيدةً وشريعة.

 

أحبتي في الله.. يقول الدكتور عبد الأحد عمر إنه أخذ يقرأ القُرآن بتمعُّنٍ لعله يجد ما يؤخذ عليه، ولكنه صُعق بآيةٍ عظيمةٍ وعجيبةٍ ألا وهي: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. يقول عن هذه الآية: "من المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر مبدأ "تقصِّي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها"، لكن العجيب أن القُرآن يدعو المُسلمين وغير المُسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه، ولن يجدوا. لا يوجد مؤلِفٌ في العالَم يمتلك الجرأة ليؤلِّف كتاباً ثم يقول: "هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء"، ولكن القُرآن على العكس تماماً يقول لك: "لا توجد أخطاء".

-وكان مما أذهله صيغة التحدي التي برزت في مواضع كثيرةٍ مثل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾، ثم زاد التحدي؛ فقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، ثم زاد أكثر وأكثر؛ فقال سُبحانه: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، رغم أن العرب كانوا أهل فصاحةٍ وبلاغة.

-توقف عبد الأحد عمر عند قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾، مُشيراً إلى التجربة التي أجراها أحد الباحثين في جامعة تورنتو عن "فعالية المُناقشة الجماعية"، وجمع فيها أعداداً مُختلفةً من المُناقشين، وقارن النتائج؛ فاكتشف أن أقصى فعاليةٍ للنقاش عندما يكون عدد المُتحاورين اثنين، وأن الفعالية تقل كلما زاد هذا العدد.

-ومن الآيات التي وقف الدكتور عبد الأحد عمر عندها طويلاً آية: ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ يقول: إن هذه الآية هي بالضبط البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل عام 1973م، وكان عن نظرية الانفجار الكبير، وهي تنصُّ على أن الكون الموجود هو نتيجة انفجارٍ ضخمٍ حدث منه الكون بما فيه من سماواتٍ وكواكب، فالرتق هو الشيء المُتماسك، في حين أن الفتق هو الشيء المُتفكك! أما عن الجُزء الأخير من الآية، وهو الكلام عن الماء كمصدرٍ للحياة، فيقول الدكتور عبد الأحد عمر: "إن هذا الأمر من العجائب؛ حيث أن العلم الحديث أثبت مؤخراً أن الخلية تتكون من السيتوبلازم الذي يمثل 80٪ منها، والسيتوبلازم مكونٌ بشكلٍ أساسيٍ من الماء، فكيف لرجلٍ أُمِّيٍّ عاش قبل 1400 سنة أن يعلم كل هذا لولا أنه متصلٌ بالوحي من السماء؟!

بعد ذلك، كتب عبد الأحد عمر كتاباً بعنوان (القرآن المُذهل) كان بوابةً للعديد من غير المُسلمين للدخول إلى الإسلام، وفيما يلي بعضٌ مما ورد في ذلك الكتاب:

- لا يستعرض القُرآن الأحداث العصيبة التي مرت بالنبي –صلى الله عليه وسلم– مثل وفاة زوجته خديجة أو وفاة أبنائه وبناته، بل الأغرب أن الآيات التي نزلت تعقيباً على بعض النكسات في طريق الدعوة كانت تُبشر بالنصر، وتلك التي نزلت تعقيباً على الانتصارات كانت تدعو إلى عدم الاغترار والمزيد من التضحيات والعطاء. لو كان أحدٌ يُؤرخ لسيرته لعظَّم من شأن الانتصارات، وبرَّر الهزائم، ولكن القُرآن فعل العكس تماماً، لأنه لا يؤرخ لفترةٍ تاريخيةٍ بقدر ما يضع القواعد العامة للعلاقة مع الله والآخرين.

- هناك سورةٌ كاملةٌ في القُرآن تُسمى "سورة مريم"، وفيها تشريفٌ لمريم عليها السلام بما لا مثيل له في الكتاب المُقدس للنصارى، بينما لا توجد في القُرآن سورةٌ باسم عائشة أو فاطمة أو خديجة.

-وذُكر عيسى عليه السلام بالاسم 25 مرةً في القُرآن، في حين أن النبي مُحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يُذكر إلا 5 مراتٍ فقط.

-الشيء المُذهل في أمر النبي مُحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الادعاء بأن الشياطين هي التي تُعينه، والله تعالى يقول: ﴿مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ويقول: ﴿فإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾؛ فهل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب؟ يؤلف كتاباً ثم يقول "لا أستطيع أن أؤلفه"، بل ويقول: "قبل أن تقرأ هذا الكتاب يجب عليك أن تتعوذ مني؟!"

- وإذا كنتَ في موقف الرسول –صلى الله عليه وسلم– هو وأبو بكر مُحاصريْن في الغار، بحيث لو نظر أحد المُشركين تحت قدميه لرآهما، ألن يكون الرد الطبيعي على خوف أبي بكر هو من مثل: "دعنا نبحث عن بابٍ خلفي"، أو "اصمت تماماً كي لا يسمعك أحد"، ولكن الرسول –صلى الله عليه وسلم– قال بهدوءٍ: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ بمعنى أن الله معنا ولن يُضيّعنا، هل هذه عقلية كذابٍ أو مُخادعٍ، أم عقلية نبيٍ ورسولٍ يثق بعناية الله له؟

- وعن إعجازٍ آخر؛ يقول عبد الأحد عمر: نزلت سورة المَسَد قبل وفاة أبي لهب بعشر سنواتٍ، وكانت أمامه 365 يوماً× 10 سنوات= أي 3650 فرصةً لإثبات أن هذا الكتاب وَهْمٌ لو أنه أعلن إسلامه ولو بالتظاهر، لكنه لم يفعل ومات كافراً، وظلت الآيات تُتلى حتى اليوم. كيف يكون الرسول واثقاً خلال عشر سنواتٍ أن ما لديه حقٌ، لو لم يكن يعلم أنه وحيٌ من الله؟

- وحول قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا﴾ تعقيباً على بعض القصص القُرآني، يقول عبد الأحد عمر: "لا يوجد كتابٌ من الكُتب الدينية المُقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، القُرآن يمد القارئ بالمعلومة ثم يقول له هذه معلومةٌ جديدةٌ! هذا تحدٍ لا مثيل له؟ ماذا لو كذَّبه أهل مكة –ولو بالادعاء– فقالوا: "كذبتَ؛ كنا نعرف هذا من قبل؟"، ماذا لو كذَّبه أحد الباحثين بعد ذلك مُدعياً أن هذه المعلومات كانت معروفةً من قبل؟ ولكن كل ذلك لم يحدث.

 

بعد كتابه (القرآن المُذهل) قام الدكتور عبد الأحد عمر بإصدار عددٍ من المُؤلفات عن الإسلام؛ مثل: "الفرق بين القُرآن والكتاب المُقدس"، و"نظرةٌ إسلاميةٌ لأساليب المُبشرين". وقد أسلم على يديه الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، واستفاد الكثير من الدُعاة من أسلوبه وخبراته.

 

أحبتي.. لن أُطيل؛ أود فقط أن أُشير إلى أمرين: الأول- إيجابية تصرف الشاب المُسلم الذي أهدى الدكتور عبد الأحد عمر ترجمةً لمعاني القُرآن الكريم. والثاني- هو الالتزام بالموضوعية، ولو مع الخصوم، والتفكير بتجردٍ بحثاً عن الحقيقة، ثم شجاعة التنازل عن الأفكار والمعتقدات الخاطئة مهما طالت مدة الإيمان بها، ثم التحول الإيجابي النشط لتعريف الآخرين بالحقيقة وعدم تركهم فريسةً للأفكار والمُعتقدات التي ثبت عدم صحتها، وهذا بالضبط ما فعله أخونا في الله عبد الأحد عمر، جاري ميلر سابقاً، لم يكتفِ بوصوله للحقيقة وإسلامه وإنما وضع ما توصل إليه في كُتبٍ كان أولها كتاب (القرآن المُذهل)، وفي محاضراتٍ ولقاءاتٍ صحفيةٍ وبرامج إذاعيةٍ وتلڤزيونية.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

واعذروني على الإطالة.

https://bit.ly/46gPJpr

الجمعة، 16 يونيو 2023

عسَّلكَ الله

 خاطرة الجمعة /400

الجمعة 16 يونيو 2023م

(عسَّلكَ الله)

 

قلتُ لصديقٍ كان يُحدثني عن عمل خيرٍ وفقه الله للقيام به: (عسَّلكَ الله)، فتعجب من هذه العبارة وسألني: "أتقصد أن يزيدني الله حلاوةً كحلاوة العسل؟"، قلتُ له: "لفظ "عسّل" له علاقةٌ بهذا المعنى، أما العبارة كاملةً فلها معنىً آخر"، تساءل مُتلهفاً: "ما هو يا ترى؟"، قلتُ له اسمع أولاً هذه القصة، ثم نُكمل حديثنا عن معنى (عسَّلكَ الله) بعدها.

ورويتُ له القصة التالية، وهي قصةٌ حقيقيةٌ يرويها سائق سيارة أُجرة سعوديٌ يقول: أوقفني مجموعةٌ من الشباب في «الرياض» يُريدون الذهاب إلى المنطقة الشرقية، ونحن في الطريق وقفنا عند محطة بنزين، وكان وقت صلاة العصر، فقلتُ لهم: "ما رأيكم يا شباب نُصلي العصر؟"، فقال أكبرهم: "نحن لا نُصلي". يقول السائق: وقعت هذه الكلمات على أُذنيّ كالصاعقة؛ فقلتُ: "يا شباب هل هناك مُسلمٌ لا يُصلي؟ مهما عظمت ذنوبنا أو قصّرنا فهذا لا يمنعنا من الصلاة"، فكّر كبير الشباب قليلاً فيما قاله السائق ثم قال لأصحابه: "ما رأيكم يا شباب ننزل نُصلي؟". يقول السائق: فنزلنا فقدموني فصليتُ بهم العصر ركعتين لأننا على سفرٍ، فلما انتهيتُ التفتُ فوجدتُ كبيرهم الذي قال "نحن لا نُصلي" وجدتُه ساجداً، فصار أصحابه يُمازحونه "أصبحتَ شيخاً؟" فحركوه فإذا هو ميتٌ، أصحابه كلهم لم يُصدقوا؛ يظنون أنه يمزح، أحدهم رشّ على وجهه الماء، والآخر وضع أذنه عند قلبه، وبدأ البكاء يضج في المسجد، حتى اجتمع المُصلون حولنا. يقول السائق: وكان من بين الشباب شابٌ يصيح مثل صياح الطفل، علمتُ أنه الأخ الأصغر للشاب المتوفى، فذكّرتُه بالله، وقلتُ له: "لا تحزن؛ أخوك مات وهو ساجدٌ وسيُبعث ساجداً"، فقال الشاب: "والله لا أبكي لموت أخي، ولكني أبكي لأننا منذ خمسة عشرة سنةً لم نسجد لله سجدةً واحدةً، لا أنا ولا أخي". يقول السائق: "يا سُبحان الله؛ لم يسجد لله كل هذه السنوات ثم يقبض الله روحه وهو ساجدٌ! الله أكبر، الله رحيمٌ بعباده. اللهم ارزقنا حُسن الخاتمة".

 

أحبتي في الله.. قال لي صديقي: "أعتقد أن (عسَّلكَ الله) لها علاقة بحُسن الخاتمة؛ أليس كذلك؟"، قلتُ: "بلى، ولتأكيد هذا المعنى إليك القصة التالية:

‏وهي قصةٌ تدمع لها العيون. قصةٌ واقعيةٌ حقيقةٌ، عن أختٍ فاضلةٍ كانت مديرةً لدار تحفيظٍ للقرآن الكريم، كانت تُحوَّل جميع جلساتها الاجتماعية سواءً مع اﻷسرة أو في العمل أو في اللقاءات المُختلفة -أياً كان نوعها- إلى وقفةٍ مع آيةٍ من كتاب الله، أو درسٍ قُرآنيٍ، أو مُعجزةٍ من مُعجزات كتاب الله الكريم. أُصيبت بجلطةٍ، وأُدخلت على أثرها إلى المستشفى. تحكي صديقةٌ لها عنها فتقول: إنها وقت أن تكون مُحررةً من اﻷجهزة والمُغذيات تمر على غُرف المستشفى غُرفةً غُرفةً تدعو إلى درسٍ قُرآنيٍ في غُرفتها، وإن كانت الأجهزة مُعلقةً تستخدم الهاتف الداخلي للغُرف وتدعو مَن في الغُرف لحضور درسها القُرآني. كانت حافظةً للقرآن الكريم، اتصلت بها يوماً للاطمئنان عليها، فطلبت منها طلباً؛ قالت: "أرغب بأن تُراجعي لي القُرآن"؛ فقد كانت تخشى أن تموت نتيجةً لمرضها وهي غير مُتمكنةٍ منه، قالت صديقتها: "أبشري، سأتصل بك يومياً وأُسَّمِع لكِ"، قالت لها: "ﻻ ﻻ، أرغب بحضورك عندي بالمُستشفى، وتُراجعي لي عن قُربٍ؛ لأستشعر حلقة التحفيظ وأعيش أجواءها"، وافقت صديقتها على طلبها، وكانت تأتي لزيارتها يومياً من العصر إلى العشاء، تُراجع معها القُرآن. دخل شهر رمضان عليها وأمرها اﻷطباء باﻹفطار، قالت: "لا والله، ما أُفطر نهار رمضان أبداً"، قال اﻷطباء: "ستهلكين!!"، قالت: "لا والله، لا أستطيع اﻹفطار في نهار رمضان". في اليوم الثاني من رمضان وافتها المنية، ووقت احتضارها كانت صديقتها بجوارها، تقول الصديقة: "بدأت تحتضر ولسانها يلهج بآية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ بدأ صوتها يعلو ويعلو وهي تُردد هذه اﻵية، وصلت إلى أعلى حدٍ من الصوت وهي تُرددها، ثم بدأ صوتها ينخفض رُويداً رُويداً وهي ما زالت تُرددها حتى فارقت الحياة. فارقت الحياة وهي ممسكةٌ بالمُصحف بكلتا يديها. نُقلت إلى مغسلة اﻷموات، حاولوا في المغسلة أن يفكوا المُصحف من بين يديها لم يستطيعوا، اتصلتُ على شيخٍ معروفٍ وأخبرته عن ذلك، قال الشيخ: مُستحيل مُستحيل، لن أصدق حتى أراها، قلتُ له: تعال وانظر بنفسك". لما حضر الشيخ حجّبوها ودخل؛ فما إن رأى الموقف حتى برك على رُكبتيه باكياً، وقال: "والله إنها لهذه هي الخاتمة الحسنة، غسِّلوها وكفِّنوها وادفنوها بمُصحفها"، وفعلاً غسَّلوها وكفَّنوها ودفنوها بمُصحفها.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد اللهُ عزَّ وجلَّ بعبدٍ خيرًا عسَّلهُ، وهل تَدْرونَ ما عسَّلَهُ؟]، قالوا: اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُهُ أعلمُ، قال: [يفتَحُ اللهُ عزَّ وجلَّ له عملًا صالحًا بيْنَ يَدَيْ موْتِهِ حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ]. من هنا كان الدُعاء بعبارة (عسَّلكَ الله) يعني تَمَنّي حُسن الخاتمة.

يقول العُلماء إن قوله صلى الله عليه وسلم: "عسَّلَه" أي: جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعامُ، وكما يُقال: فلانٌ معسول الكلام، إذا كان حُلو المنطق، مليح اللفظ، حسن المعنى. وأمارة التعسيل أن يرضى عنكَ مَنْ حولكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: [حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ].

 

وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: [يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ].

وفي روايةٍ أخرى قال صلى الله عليه وسلم: [إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا طهَّرَهُ قبلَ موتِه]، قالُوا: وما طَهُورُ العبدِ؟ قال: [عملٌ صالِحٌ يُلهِمُهُ إيّاهُ حتى يَقبِضَهُ عليهِ].

 

وسواءً كان اللفظ "عسَّلَه" أو "استعمله" أو "طهَّره" فإن المعنى هو حُسن الخاتمة، أي أن يُوفَق العبد قبل موته للبُعد عما يُغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة. إنه توفيق من الله سُبحانه وتعالى للعبد لعملٍ صالحٍ يقبضه ويتوفاه عليه؛ مِن ذلك مَن مات وهو ساجدٌ بين يدي الله، أو من ماتت وهي في الحج مُلبِّيةً، أو من مات وهو يقرأ القُرآن. إنها النهاية السعيدة، وإنه حُسْنُ الختام، أراد الله لعبده خيراً؛ لأنه أرى اللهَ من نفسه خيراً.

 

قال أحد السلف: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل". وقال آخر: "إذا أراد الله بالإنسان خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه". وقال غيرهما: "إذا أراد الله بعبده خيراً، فتح له أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذُل، والافتقار، والاستعانة به، وصِدْق اللجوء إليه، ودوام التضرُّع والدُعاء، والتقرُّب إليه بما أمكنه من الحسنات، ورؤية عيوب نفسه، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه ورحمته، وجُوده وبِرِّه".

 

ويقول أهل العلم إن من أعظم أسباب "التعسيل" و"الاستعمال" و"التطهير" قبل الخاتمة أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، ويحذر من ارتكاب المُحرمات، ويُبادر إلى التوبة من السيئات. وأن يُلِّح المرء في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى. وأن يعمل جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون نيته متوجهةً لتحقيق ذلك بإخلاص.

ومن ذلك الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وحُسن الظن بالله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي]. والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. والصدق؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. والتوبة؛ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والمُداومة على الطاعات. وذِكر الموت وقصر الأمل. والخوف من أسباب سُوء الخاتمة؛ كالإصرار على المعاصي وتسويف التوبة وحُب الدنيا.

 

أحبتي.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه]، ويُقال إن العبرة بالخواتيم؛ لهذا يجب أن يحرص كلٌ منا على أن يُبعث على أحسن حالٍ يتمنى أن تكون خاتمته عليه. ليس المهم ما كُنا عليه، ولا ما نحن عليه الآن، وإنما المهم ما سنكون عليه ونثبت عليه -بإذن الله- حين نعمل بإخلاص لأن نحظى بحُسن الخاتمة. نسأل الله سبحانه وتعالى حُسن الخاتمة.

اللهم عسِّلنا واستعملنا وطهِّرنا قبل أن تقبضنا إليك، ووفِّقنا للسعي إلى مرضاتك، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا.

وأختم بدعوةٍ مني لكل واحدٍ منكم: (عسَّلكَ الله)، برجاء أن تردوا عليّ بمثلها.

أحسَن الله خاتمتنا، وجمع بيننا في الفردوس الأعلى من الجنة، مع النبيين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً.

https://bit.ly/43Hjoq5

الجمعة، 9 يونيو 2023

حيّ على الفلاح

 خاطرة الجمعة /399

الجمعة 9 يونيو 2023م

(حيّ على الفلاح)

 

لاحظتُ وقت صلاة العشاء في أحد أيام الأسبوع الماضي قلة عدد المُصلين في مسجدنا، سألتُ عن السبب؛ فقيل لي إن هناك مباراةً في كُرة القدم تُبث الآن على الهواء مباشرةً. وتأكدتُ من ذلك -بعد انتهاء صلاة العشاء وخروجنا من المسجد- عندما شاهدتُ أحد المقاهي القريب من المسجد يغص بالشباب، الأمر الذي ذكرني بمثيلٍ له يتكرر في المباريات الدولية التي يكون موعد بعضها وقت صلاة الفجر؛ فنجد عشراتٍ من الشباب الذين لا يستيقظون لصلاة الفجر أبداً جالسين في المقهى لمُشاهدة المباراة؛ نراهم ونحن ذاهبون إلى المسجد، ونراهم ونحن عائدون منه!

إنه أمرٌ مؤلمٌ بالتأكيد، لكن الأكثر إيلاماً أن يكون من بين هؤلاء بعض إخوةٍ أفاضل من الذين يُواظبون على صلاة جميع الفروض مع الجماعة في المسجد ثم تفتقدهم مساجدهم وقت مُباريات كُرة القدم!

كيف يُفوِّتون ثواباً عظيماً مُقابل عَرَضٍ زائلٍ لا قيمة له إطلاقاً يوم الحساب؟ ألهذه الدرجة يُزين الشيطان للناس أعمالهم؟ ألا يسمعون مُكبرات الصوت من المساجد حولهم من كل مكانٍ والمؤذنون يُرددون فيها (حيّ على الفلاح)؟ أليس فيهم أو من بينهم رجلٌ رشيد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

عن تأخير الصلاة عن موعدها كتبت إحداهن تقول: منذ زمنٍ وأنا اتمنى الزواج من ابن عمي، وأرى فيه الرجل المُناسب لي أو كما يقولون: "فارس الأحلام"، وبفضل الله تحقق لي ذلك الحلم؛ تقدم ابن عمي لخطبتي فوافقتُ عليه والسعادة تغمرني بشكلٍ لا يوصف. لكن بعد زواجنا انقلب الأمر وظهرت الحقيقة؛ لم يكن زوجي كما توقعتُ أبداً؛ صرتُ أرى عكس ما كنتُ أراه في أحلامي؛ مشاكلنا تزداد يوماً بعد يومٍ، لا أجد طعماً للراحة، ننسجم مع بعضنا يوماً، ونتشاجر بالأيام وقد تصل إلى أسابيع! وفي كل مرةٍ ينتهي بي الأمر غاضبةً فأذهب للنوم في منزل أُمي وأبي. شكوتُ لأُمي الكثير والكثير مما أُعاني، وأنا دوماً أتساءل: "لماذا يحدث هذا معي؟". وكانت لي أُختٌ تصغرني بسنةٍ، تحدثتُ معها يوماً، أنصحها وأنقل لها خبرتي في الحياة، فقلتُ لها: "يجب أن تنتبهي عندما تختارين زوج المستقبل؛ فبعض الرجال قد تنخدعين بظاهرهم لكنهم في الحقيقة شيءٌ آخر!". هنا كانت المفاجأة؛ فأُختي -التي أعتبرها طفلةً صغيرةً في حاجةٍ إلى النصح والتوجيه والإرشاد- ردت عليّ رداً عجزتُ عن أن أتكلم بعده، قالت لي: "أنا أُحافظ على صلواتي وألتزم بها في وقتها؛ لذلك لستُ أنا من سأختار زوجي، الله سيختاره لي".

فكرتُ بيني وبين نفسي طويلاً؛ هل حقاً كل ما يحدث لي بسبب تهاوني واستهتاري بالصلاة؟ فأنا دائماً أُطيل السهر ولا أستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد أن تُشرق الشمس، وأتهاون في صلواتي الباقية؛ فحتى عندما أكون جالسةً وليس عندي شيءٌ وأسمع الأذان للصلاة، وأسمع (حيّ على الفلاح) فإنني أشغل نفسي بأي شيءٍ؛ أمسك بهاتفي أُحدث أي أحدٍ، أو أبقى مُستلقيةً على السرير بحُجة أن الصلاة لا يُمكن اعتبارها تأخيراً إلا عندما تُصبح قضاءً!

ثم راودني سؤالٌ طرحته على أُختي قلتُ لها: "ماذا قلتِ؟ إن الله سيختار زوجك لأنك مُحافظةٌ على الصلاة؟ لماذا اخترتِ الصلاة دون أي شيءٍ آخر؟"، قالت لي: "لأن الصلاة وحدها هي المقرونة بالفلاح؛ فكيف يُفلح من لا يُصلي؟ وكيف يُفلح من يتهاون بصلاته؟ إن فلاح المُسلم في جميع أموره يرتبط بمقدار اهتمامه بالصلاة". كنتُ أستمع إلى كلام أُختي باهتمامٍ، وعقدتُ النية على التغيير. وسُبحان الله بمجرد أن عقدتُ النية على أن أُحافظ على صلاتي في وقتها اتصل بي زوجي يعتذر، وأخبرني أنه سيأتي ويأخذني إلى المنزل، لا أقول أن حياتي أصبحت بلا مشاكل؛ فالحياة لا بد من المشاكل فيها، ولكن أصبحت مشاكل من نوعٍ آخر؛ لم تعد تلك المشاكل التي تُرغمني على أن أذهب إلى منزل أهلي وأبقى أياماً عديدةً هناك، لم تعد تلك المشاكل التي تجعلني أُفكر في الطلاق وأندب حظي لما يحدث لي، أصبحت مشاكل تُعلمني خطأي وتُعلم زوجي خطأه، صارت خلافاتٍ نعرف أهميتها في الحياة، ونعرف كيف نتداركها، حينها أيقنتُ حقاً لماذا يُنادىَ للصلاة بعبارة (حيّ على الفلاح)؛ فالصلاة هي صلة الإنسان المُسلم بالله سُبحانه وتعالى، وبالمُحافظة عليها في وقتها يكون فلاح الإنسان في الدُنيا والآخرة.

 

أحبتي في الله.. الصلاة في أول وقتها سبيلٌ لدخول الجنة؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾. قال المفسرون: المُحافظة على الصلاة تكون بأدائها أول وقتها خوف فَوْت فضلها.

قال أحد الصحابة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفرٍ، مُسندي ظهورنا إلى مسجده فقال: [ما أجلسكم؟] قلتُ: جلسنا ننتظر الصلاة، قال: فأرَمّ قليلاً "أرَمّ أي: سكت"، ثم أقبل علينا فقال: [هل تدرون ما يقول ربُّكم؟]، قلنا: لا، قال: [فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها، ولم يُضيعها استخفافاً بحقها، فله عليَّ عهدٌ أن أُدخله الجنة، ومن لم يُصلها لوقتها ولم يُحافظ عليها، وضيَّعها استخفافًا بحقِّها، فلا عهد له عليَّ: إن شئتُ عذَّبتُه وإن شئتُ غفرتُ له].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عزَّ وجلَّ: إني فرضتُ على أمَّتك خمس صلواتٍ، وعهدتُ عندي عهدًا أنه من يُحافظ عليهن لوقتهنَّ، أدخلته الجنة، ومن لم يُحافظ عليهن، فلا عهد له عندي].

وقال أحد الصحابة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَن حافظ على الصلوات الخمس ركوعهنَّ، وسجودهنَّ، ومواقيتهنَّ، وعلم أنهن حقٌ من عند الله دخل الجنة]، أو قال: "وجبت له الجنة"، أو قال: "حُرِّم على النار".

وسأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله].

وعن صحابيةٍ كانت ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة على وقتها].

قال شُرّاح الأحاديث: "لوقتها" أو "على وقتها" أي في أول الوقت. وقالوا عن فضل الصلاة في أول وقتها إنها من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وإنها تُحرِّم فاعلها على النار، وتكون سبباً -برحمةٍ من الله وفضلٍ- في دخول الجنة.

 

وأرسلت إحدى النساء بسؤالٍ إلى شيخٍ جليلٍ؛ قالت: أحياناً أؤخر الصلاة عن وقتها، ليس عن تهاونٍ ولكن لكثرة أعمالي المنزلية، فهل عليّ ذنب؟ فكان جواب الشيخ: "نعم، عليك ذنبٌ، ولا يجوز أن تؤخري الصلاة عن وقتها أبداً، فهي ركنٌ من أركان الإسلام، والله تعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾؛ فلا بد أن تؤديها في وقتها. وأقول لكِ: إذا أديتِ الصلاة كان ذلك معونةً لكِ على أعمالك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾.

ورداً على سؤالٍ آخر عن تأخير صلاة الفجر؛ قال صاحبه: ما حُكم تأخير صلاة الفجر حتى تطلع الشمس دائماً، وفي بعض الأوقات عمداً؟ كانت الإجابة: ذلك مُحرمٌ، حتى إن بعض أهل العلم يقول: "من ترك صلاةً مفروضةً عمداً حتى خرج وقتها فهو كافرٌ والعياذ بالله، وإذا أخرَّها عمداً حتى خرج وقتها لم تُقبل منه ولو صلى ألف مرةٍ"؛ لقول النبي ﷺ: [من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهو ردٌّ] أي مردودٌ عليه؛ فعلى المرء أن يتقي الله عزَّ وجلَّ في نفسه، وأن لا يُضيِّع الصلاة فيدخل في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾.

 

قال أحدهم يصف عبارة (حيّ على الفلاح): هي دعوةٌ إلى الفوز والفرج والنجاح، ما ألطفها وما أحنّها وما أصدقها وما أرقّها من دعوةٍ لا خُسران فيها، إلا لمن تجاهلها ولم يستجب لها.

وقال الشاعر:

ألا فَلْنُصَلِّ لِنَلْقَ الصَّلاح

وحَيَّ نُصَلِّي نُجِبْ لِلْفَلاح

لنُرضِي إلَهي فَذاكَ الرَّباح

ورَحمَةُ رَبِّي فَثَمَّ النَّجاح

أُرِيدُ النَّجاةَ أُرِيدُ السَّماح

وجَنَّاتِ خُلْدٍ ورَوْحٍ وراح

 

أحبتي.. المُحافظة على أداء الصلاة في وقتها من الأعمال التي ينال بها المُسلم محبة الله، وهي سببٌ في مُضاعفة الحسنات، وسبيلٌ للفوز بالجنة؛ فلنعوِّد أنفسنا وأهلنا وأبناءنا على سرعة الاستجابة عندما نسمع المُؤذن يقول: حيّ على الصلاة (حيّ على الفلاح)، فنترك كل ما يشغلنا عن تلبية النداء، مَهما بدا لنا مُهمّاً، ونستعد للصلاة ونؤديها على وجهها الأكمل، ولنتذكر أن من سِمات الصالحين أنهم لا ينتظرون الاستماع إلى الأذان؛ بل يُبادرون فيذهبون إلى المسجد قبل رفع الأذان؛ قال أحد التابعين: "ما أذّن المُؤذن منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضاً أو مُسافراً".

أحبتي.. إن لم يكن الفلاح في الصلاة ففيمَ يكون؟ وإن لم يكن من يَعِد المُحافظين على الصلاة في أوقاتها، الخاشعين فيها، بالجنة هو الله عزَّ وجلَّ فمن يكون؟ وهو سُبحانه وتعالى القائل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.

وصدق من قال: "من خان حيّ على الصلاة، تخونه (حيّ على الفلاح)؛ فميزان الله عدل".

لقد بات من المُهم أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، وأن نُحسِن تنظيم أوقاتنا، نحتاج فقط إلى نيةٍ مُخلصةٍ وعزيمةٍ صادقةٍ فيكون التوفيق بعد ذلك من الله سُبحانه وتعالى.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين، واجعلنا من عبادك الصالحين، ويسّر لنا أن نؤدي الصلاة على وقتها فنكون من المُفلحين.

https://bit.ly/3WWEX3m