الجمعة، 30 يونيو 2023

يأتوك رجالاً

 خاطرة الجمعة /402

الجمعة 30 يونيو 2023م

(يأتوك رجالاً)

 

بمناسبة موسم الحج، وهذه الأيام المُباركة من شهر ذي الحجة، اخترتُ لكم قصة رحلة حجٍ مؤثرة، بدأت أحداثها في غرب «إفريقيا».

يقول راوي القصة: أحكي لكم عن أحد الحجاج الذين قاموا برحلة الحج مشياً على الأقدام، من غرب «إفريقيا» إلى الكعبة المُشرفة في «مكة المُكرمة»؛ إنه المرحوم بإذن الله الشيخ الحاجّ/ عُثمان دابو، من جمهورية «جامبيا» في أقصى الغرب الإفريقي، كان قد تجاوز الثمانين من عمره عندما حدَّثنا عن رحلته الطويلة قبل خمسين عاماً إلى البيت العتيق، ماشياً على قدميه مع أربعةٍ من صحبه من «بانجول» عاصمة بلدهم إلى «مكة المُكرمة»، قاطعين قارة «إفريقيا» من غربها إلى شرقها، لم يركبوا فيها إلا فتراتٍ يسيرةً مُتقطعةً على بعض الدّواب، إلى أنْ وصلوا إلى «البحر الأحمر»، حيث ركبوا السفينة إلى ميناء «جدة». كانت رحلةً مليئةً بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دُوّنت لكانت من أكثر كُتب الرحلات إثارةً. استمرَّت الرحلة أكثر من سنتين كاملتين، ينزل الحاج/ عُثمان وصحبه أحياناً في بعض المُدن للراحة وللتكسب والتَّزود لنفقات الرِّحلة، ثم يواصلون المسير. أصابَهم في طريقهم من المشقَة والضيق والكَرب ما الله به عليم؛ فكم من ليلةٍ باتوا فيها على الجوع حتَّى كادوا يهلكون؟! وكم من ليلةٍ طاردتهم السِّباعُ، وفارقهم لذيذ النوم؟ وكم من ليلةٍ أحاط بهم الخوف من كلِّ مكانٍ؛ فقطّاعُ الطّرق يَعرِضون للمسافرين في كلِّ وادٍ.

يقول الراوي: سألتُ الحاج/ عُثمان: "أليس حجُّ البيت الحرام فرضٌ على المُستطيع، وأنتم في ذلك الوقت غير مُستطيعين؟"، قال: "بلى، ولكننا تذكرنا سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام، عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرعٍ عند بيت الله المُحرَّم، فقال أحدنا: نحن الآن شبابٌ أَقوياء أصحاء؛ فما عُذرنا عند الله تعالى إنْ نحن قصَّرنا في المسير إلى بيته المحرَّم، خاصةً أننا نظن أنّ الأيام لن تُزيدنا إلا ضعفاً، فلماذا التأخير؟"، عندها خرجنا نحن الصحاب من بلدنا، ليس معنا من القُوت إلا ما يكفينا لأسبوعٍ واحدٍ فقط".

يُكمل الحاج/ عُثمان سرد ذكرياته فيقول: لُدغتُ ذات ليلةٍ في أثناء السَّفر، فأصابتني حمّى شديدة، وشممتُ رائحة الموت تسري في عُروقي، فكان أصحابي يَذهبون للعمل، وأمكثُ تحت ظلِّ شجرةٍ إلى أنْ يأتوا في آخر النَّهار؛ فكان الشيطانُ يوسوس في صدري: "أما كان الأولى لكَ أنْ تبقى في وطنك؟ لماذا تُكلّف نفسك ما لا تُطيق؟ ألم يَفرض اللهُ الحجَّ على المُستطيع فقط؟"، فثقلت نفسي وكِدتُ أضعف، فلمّا جاء أصحابي؛ نظرَ أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفتُ عنهُ ومسحتُ دمعةً غلبتني، فكأنه أحسَّ بما بي؛ فقال: "قُم فتوضأ وصلِّ، ولن تجد إلا خيراً -بإذن الله- وذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فانشرح صدري، وأذهب اللهُ عنّي الحُزن، ولله الحمد".

يقول راوي القصة: كان الشَّوقُ للوصول إلى الحرمين الشَّريفين يَحْدُوهم في كلِّ أحوالهم، ويُخفف عنهم آلام السفر ومشاقّ الطريق ومخاطِرَهُ، مات واحدٌ منهم في الطريق، ثم مات الثاني، أما الثالث فقد مات في عَرض البحر. واللطيفُ في أمر الحاج/ عُثمان أنّه كتب وصيةً لصاحبيه قال لهما فيها: "إذا وصلتما إلى المسجد الحرام، فأخبرا الله تعالى عن شوقي للقائه، واسألاه أنْ يجمعني ووالدتي في الجنَّة مع النبي صلى الله عليه وسلم".

يصف الحاج/ عُثمان ما حدث بعد وفاة ثالث أصحابه فيقول: "لمّا مات صاحبنا الثالث؛ نزَل بي همٌّ شديدٌ وغمٌّ عظيمٌ، وكان ذلك أشدّ ما لاقيتُ في رحلتي؛ فقد كان أكثرنا صبراً وقوّةً، وخشيتُ أنْ أموت قَبل أنْ أنعمَ بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنتُ أحسبُ الأيام والسّاعات على أحرِّ من الجمر؛ فلمّا وصلنا إلى «جدة» مرضتُ مَرضاً شديداً، وخشيتُ أنْ أموتَ قَبل أنْ أصل إلى «مكة المكرمة»، فأوصيتُ صاحبي إذا متُّ أنْ يُكفنني في إحرامي، ويُقرّبني قدْر طاقته إلى «مكة»، عسى الله أنْ يُضاعف لي الأجر، ويَقبلني في الصَّالحين". واستطرد قائلاً: "مكثنا في «جدّة» أياماً، ثم واصلنا طريقنا إلى «مكة»، كانت أنفاسي تتسارع والبِشرُ يملأ وجهي، والشّوقُ يَهُزّني ويَشُدّني، إلى أنْ وصلنا إلى المسجد الحرام". سكتَ الحاج/ عُثمان قليلاً، وأخذ يُكفكِفُ عَبَراتِهِ، وأَقسمَ بالله تعالى أنّه لم يرَ لذةً في حياته كتلك اللذّة التي غمرت قلبَهُ لما رأى الكعبة المشرَّفة، ووصف تلك اللحظة؛ فقال: "لما رأيتُ الكعبةَ سجدتُ لله شُكراً، وأخذتُ أبكي من شدّة الرَّهبة والهيبة؛ كما يَبكي الأطفالُ، فما أَشرَفَهُ من بيتٍ وأعظمه من مكانٍ، ثمّ تذكَّرتُ أصحابي الذين لم يَتيسر لهمُ الوصولَ إلى المسجد الحرام، فحمدتُ الله تعالى على نعمتهِ وفضلهِ عليَّ، ثم سألتُه ـ سبحانه ـ أنْ يَكتب خُطواتهم في موازين حسناتهم، وألا يَحرمهم الأجر، وأنْ يَجمعنا بهم في مقعد صِدْقٍ عند مَليكٍ مُقتدر".

 

أحبتي في الله.. إنهم رجالٌ تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾، أسألكم الدعاء لهم، ولأمثالهم، بالمغفرة والرحمة. كانوا فقراء بمقياس المال، أغنياء بمقياس الصدق مع النفس والإخلاص لله سبحانه وتعالى، بل ربما كانوا أكثر من حج البيت الحرام فقراً وأشدهم حاجةً.

فهل يا تُرى كتب التاريخ عن أغنى الحجاج وأكثرهم مالاً؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وقلتُ: "إن الفقراء (يأتون رجالاً) كما أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، فكيف تكون رحلة أغنى حاجٍ في التاريخ؟ هل أتى راكباً أفخر طائرة؟ أم أغلى سيارة؟ أم أفخم باخرة؟" لكن -وللعجب- فوجئتُ بأن أغنى من حج بيت الله الحرام كان هو الآخر ممن وصفت الآية الكريمة وسيلة انتقالهم من وطنهم إلى البيت المُشرَّف بعبارة (يأتوك رجالاً)!

إنه الحاج/ مانسا موسى الأول، الذي أجمع المؤرخون على أنه أغنى أغنياء البشر على مدى كُل العصور، وكان مَلِكاً مُسلماً من ملوك «أفريقيا»، قُدرت ثروته بما يُقارب 400 مليار دولار بمعيار وقتنا الحاضر. كان مانسا موسى المولود عام 1280م مَلِكاً لمملكة «مالي» وعاصمتها «نياني» في وسط غرب «أفريقيا» في الفترة (1312م - 1337م)، وكان عالِماً إلى جانب حِنكته السياسية، وكانت مملكة «مالي» في حِقبته مركزاً للازدهار والتجارة ومنارةً للعِلم في القارة الأفريقية، في الوقت الذي كانت «أوروبا» تغط في عصور الظلام. كانت «تمبكتو» في «مالي» حينها عاصمة التجارة الأفريقية ومُلتقى القوافل، اشتُهرت أسواقها بتجارة الذهب؛ حيث بلغت حصة «مالي» منها آنذاك ما يُقارب نصف إجمالي حجم سوق الذهب العالمي، كما كانت لأسواقها الحصة العُظمى أيضاً من تجارة المِلح؛ الذي كان من أغلى السلع في ذلك الوقت. أدى كل هذا لنهضةٍ حضاريةٍ وعِلميةٍ وإنسانيةٍ كُبرى، ومن الشواهد على ذلك إنشاء جامعة «سانكوري» كمركزٍ للعِلم في «أفريقيا» ومسجد «جنجو يريبر» الشهير، وكلاهما قائمٌ إلى وقتنا الحاضر، وقيل إن مانسا موسى كان يبني جامعاً كل جُمعة.

قام مانسا موسى برحلته التاريخية الشهيرة للحج سنة 1324م، في قافلةٍ مَلكيةٍ ضمت ما يُقارب المئة بعيرٍ مُحملةً بما يُقارب المئة وستةً وثلاثين كيلوغراماً من الذهب لكل بعيرٍ، وستين ألفاً من الحرس، واثني عشر ألفاً من العبيد، جميعهم يحملون عِصياً مصنوعةً من الذهب. قطع في رحلته أكثر من أربعة آلاف ميل، واستغرقت قُرابة العام، وعاد مُحملاً بالكُتب التي حولت «تمبكتو» إلى عاصمةٍ للفقه والثقافة والعِلم في غرب «أفريقيا». بدأ رحلته للحج من عاصمته «نياني» مُتجهاً إلى مدينة «ولاتا» في «موريتانيا»، ثم «توات» في «الجزائر»، ومن ثمَّ أكمل زيارته الشهيرة إلى «القاهرة» حيث استقبله فيها السُلطان المملوكي الملك الناصر بحفاوةٍ بالغةٍ، حتى وصل إلى «المدينة المنورة» ثم إلى «مكة المكرمة» حيث أتم فيها المناسك. وأغدق من الخيرات على أهالي المُدن التي زارها بإسهابٍ؛ لدرجة أن سعر الذهب بالعالم انخفض بسبب ما أُنفِقَ في رحلة الحج، ولكثرة ما وزع من ذهبٍ طول الرحلة، حتى أن ذلك أدخل اقتصاد العالم أجمع في حالةٍ من التضخم السريع، وحتى أن مانسا موسى اضُطر في نهاية رحلة الحج تلك للاقتراض لنفاد كمية الذهب التي كانت معه. قال أحد المؤرخين إنه وجد حين زار «القاهرة» بعد زيارة مانسا موسى باثني عشر عاماً أن القاهريين مازالوا يحكون عن تلك الزيارة، لما أغدق على فقرائهم ومُحتاجيهم من ذهبٍ وخيراتٍ وصدقات. توفي الملك مانسا موسى عام 1337م، بعد أن أصبحت العاصمة «تمبكتو» بجنوب غرب «النيجر» مركزاً لتجارة الذهب وتعليم الإسلام.

 

أحبتي.. كانت هاتان القصتان عن رجلين؛ أولهما ربما كان أفقر من حج بيت الله الحرام، والثاني كان يقيناً أغنى الحجاج مُنذ فُرض الحج على المسلمين إلى يومنا هذا. ورغم ذلك فقد انطبق على كلٍ منهما الوصف ذاته: (يأتوك رجالاً)، كما أن كلاً منهما أتى من ﴿فَجٍّ عَمِيقٍ﴾. أما الأول فهو أُسوةٌ حسنةٌ لكل فقيرٍ يحرص على أداء رُكنٍ مُهمٍ من أركان الإسلام؛ ألا وهو الحج، وأما الآخر فلسان حاله يقول لكل غنيٍ: بادِر إلى الحج قبل فوات الأوان، لا تؤجل أداء فريضة الله طالما كنتَ مُستطيعاً، أعد ترتيب أولوياتك واجعل أداء هذه الشعيرة العظيمة أولى الأولويات؛ فلا تعلم هل يُمهلك القدر لأداء هذا الفرض في المُستقبل أم لا؟

ومع وجود الطائرات والسفن والسيارات الحديثة لم تعد لأيٍ منا حُجةٌ لإتمام حِجةٍ مفروضةٍ على كل مُسلمٍ مُستطيعٍ فور توفر شرط الاستطاعة، دون إبطاءٍ أو تأجيلٍ أو تأخير.

اللهم ارحم الحُجاج الذين وردت الإشارة لهم في الآية الكريمة بعبارة (يأتوك رجالاً)؛ فكم تحملوا من صعوباتٍ ومشاق، ويسَّر لنا جميعاً حجاً مبروراً مقبولاً إلى بيتك الحرام.

https://bit.ly/3JG0wQp

 

الجمعة، 23 يونيو 2023

القرآن المُذهل

 

خاطرة الجمعة /401

الجمعة 23 يونيو 2023م

(القرآن المُذهل)

 

قبل حوالي 45 عاماً اشترك أحد قساوسة النصارى في مُناظرةٍ عن الإسلام والمسيحية مع داعيةٍ إسلاميٍ شهير، وكان منطق هذا القسيس قوياً وحُجته حاضرةً، وغلب بحثه عن الحقيقة على تعصبه لدينه، حتى إن عدداً من الشباب المُسلم الذي حضر المُناظرة، تمنوا أن لو أسلم هذا الرجل. كان ذلك الرجل هو الدكتور جاري ميلر، المُبشر الكندي النشيط، وأُستاذ الرياضيات والمنطق في جامعة تورنتو بكندا، بدأ حياته قسيساً، وكان كثير التهجم على الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم.

بعد تلك المُناظرة زاره شابٌ مُسلمٌ وأهداه ترجمةً لمعاني القُرآن الكريم، وقال له: "أنت تُهاجم القُرآن الكريم رغم أنك لم تطلع عليه من قبل، اقرأه ثم هاجمه إذا أردتَ بعد ذلك". قرر الدكتور ميلر أن يقرأ القُرآن ليُقدم خدمةً جليلةً للمسيحية بالكشف عن الأخطاء العلمية والتاريخية فيه، بما يُفيده وزملاءه المُبشرين عند الدعوة للمسيحية. عكف على قراءة المُصحف عكوف العدو للعدو. قرأ ميلر حتى وصل إلى سورة الناس، ولم يجد خطأً واحداً، وقال إن ما هزّه من الأعماق هو الآية الكريمة: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾؛ فتوسُع الكون هو كشفٌ حديثٌ جداً لم يُدركه العُلماء إلا في الثُلث الأول من القرن العشرين، فكيف للرسول الكريم أن يُدركه في ذلك العصر وأن يعرف تلك الحقيقة إن لم يكن موصولاً بالوحي ومُعلَماً من قِبَل الخالق جلَّ وعلا؟

دخل ميلر الحلبة مُتحدياً وخرج منها مُنبهراً بما وجده، دخل بمنطق تصيد الأخطاء وفضحها، لكن غلب عليه الإنصاف فخرجت دراسته وتعليقاته أفضل مما يُمكن أن يكتبه مُعظم المُسلمين عن القُرآن الكريم.

وكانت المفاجأة عام 1978م حين أشهر الدكتور ميلر إسلامه واتخذ اسم عبد الأحد عمر، وعمل لسنواتٍ في جامعة البترول والمعادن بالسُعودية قبل أن يتفرغ تماماً للدعوة للإسلام وتقديم البرامج التليفزيونية والإذاعية والمحاضرات العامة التي تعرض الإسلام عقيدةً وشريعة.

 

أحبتي في الله.. يقول الدكتور عبد الأحد عمر إنه أخذ يقرأ القُرآن بتمعُّنٍ لعله يجد ما يؤخذ عليه، ولكنه صُعق بآيةٍ عظيمةٍ وعجيبةٍ ألا وهي: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. يقول عن هذه الآية: "من المبادئ العلمية المعروفة في الوقت الحاضر مبدأ "تقصِّي الأخطاء في النظريات إلى أن تثبت صحتها"، لكن العجيب أن القُرآن يدعو المُسلمين وغير المُسلمين إلى إيجاد الأخطاء فيه، ولن يجدوا. لا يوجد مؤلِفٌ في العالَم يمتلك الجرأة ليؤلِّف كتاباً ثم يقول: "هذا الكتاب خالٍ من الأخطاء"، ولكن القُرآن على العكس تماماً يقول لك: "لا توجد أخطاء".

-وكان مما أذهله صيغة التحدي التي برزت في مواضع كثيرةٍ مثل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾، ثم زاد التحدي؛ فقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، ثم زاد أكثر وأكثر؛ فقال سُبحانه: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، رغم أن العرب كانوا أهل فصاحةٍ وبلاغة.

-توقف عبد الأحد عمر عند قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾، مُشيراً إلى التجربة التي أجراها أحد الباحثين في جامعة تورنتو عن "فعالية المُناقشة الجماعية"، وجمع فيها أعداداً مُختلفةً من المُناقشين، وقارن النتائج؛ فاكتشف أن أقصى فعاليةٍ للنقاش عندما يكون عدد المُتحاورين اثنين، وأن الفعالية تقل كلما زاد هذا العدد.

-ومن الآيات التي وقف الدكتور عبد الأحد عمر عندها طويلاً آية: ﴿أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ﴾ يقول: إن هذه الآية هي بالضبط البحث العلمي الذي حصل على جائزة نوبل عام 1973م، وكان عن نظرية الانفجار الكبير، وهي تنصُّ على أن الكون الموجود هو نتيجة انفجارٍ ضخمٍ حدث منه الكون بما فيه من سماواتٍ وكواكب، فالرتق هو الشيء المُتماسك، في حين أن الفتق هو الشيء المُتفكك! أما عن الجُزء الأخير من الآية، وهو الكلام عن الماء كمصدرٍ للحياة، فيقول الدكتور عبد الأحد عمر: "إن هذا الأمر من العجائب؛ حيث أن العلم الحديث أثبت مؤخراً أن الخلية تتكون من السيتوبلازم الذي يمثل 80٪ منها، والسيتوبلازم مكونٌ بشكلٍ أساسيٍ من الماء، فكيف لرجلٍ أُمِّيٍّ عاش قبل 1400 سنة أن يعلم كل هذا لولا أنه متصلٌ بالوحي من السماء؟!

بعد ذلك، كتب عبد الأحد عمر كتاباً بعنوان (القرآن المُذهل) كان بوابةً للعديد من غير المُسلمين للدخول إلى الإسلام، وفيما يلي بعضٌ مما ورد في ذلك الكتاب:

- لا يستعرض القُرآن الأحداث العصيبة التي مرت بالنبي –صلى الله عليه وسلم– مثل وفاة زوجته خديجة أو وفاة أبنائه وبناته، بل الأغرب أن الآيات التي نزلت تعقيباً على بعض النكسات في طريق الدعوة كانت تُبشر بالنصر، وتلك التي نزلت تعقيباً على الانتصارات كانت تدعو إلى عدم الاغترار والمزيد من التضحيات والعطاء. لو كان أحدٌ يُؤرخ لسيرته لعظَّم من شأن الانتصارات، وبرَّر الهزائم، ولكن القُرآن فعل العكس تماماً، لأنه لا يؤرخ لفترةٍ تاريخيةٍ بقدر ما يضع القواعد العامة للعلاقة مع الله والآخرين.

- هناك سورةٌ كاملةٌ في القُرآن تُسمى "سورة مريم"، وفيها تشريفٌ لمريم عليها السلام بما لا مثيل له في الكتاب المُقدس للنصارى، بينما لا توجد في القُرآن سورةٌ باسم عائشة أو فاطمة أو خديجة.

-وذُكر عيسى عليه السلام بالاسم 25 مرةً في القُرآن، في حين أن النبي مُحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يُذكر إلا 5 مراتٍ فقط.

-الشيء المُذهل في أمر النبي مُحمد -صلى الله عليه وسلم- هو الادعاء بأن الشياطين هي التي تُعينه، والله تعالى يقول: ﴿مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ويقول: ﴿فإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾؛ فهل هذه طريقة الشيطان في كتابة أي كتاب؟ يؤلف كتاباً ثم يقول "لا أستطيع أن أؤلفه"، بل ويقول: "قبل أن تقرأ هذا الكتاب يجب عليك أن تتعوذ مني؟!"

- وإذا كنتَ في موقف الرسول –صلى الله عليه وسلم– هو وأبو بكر مُحاصريْن في الغار، بحيث لو نظر أحد المُشركين تحت قدميه لرآهما، ألن يكون الرد الطبيعي على خوف أبي بكر هو من مثل: "دعنا نبحث عن بابٍ خلفي"، أو "اصمت تماماً كي لا يسمعك أحد"، ولكن الرسول –صلى الله عليه وسلم– قال بهدوءٍ: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ بمعنى أن الله معنا ولن يُضيّعنا، هل هذه عقلية كذابٍ أو مُخادعٍ، أم عقلية نبيٍ ورسولٍ يثق بعناية الله له؟

- وعن إعجازٍ آخر؛ يقول عبد الأحد عمر: نزلت سورة المَسَد قبل وفاة أبي لهب بعشر سنواتٍ، وكانت أمامه 365 يوماً× 10 سنوات= أي 3650 فرصةً لإثبات أن هذا الكتاب وَهْمٌ لو أنه أعلن إسلامه ولو بالتظاهر، لكنه لم يفعل ومات كافراً، وظلت الآيات تُتلى حتى اليوم. كيف يكون الرسول واثقاً خلال عشر سنواتٍ أن ما لديه حقٌ، لو لم يكن يعلم أنه وحيٌ من الله؟

- وحول قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا﴾ تعقيباً على بعض القصص القُرآني، يقول عبد الأحد عمر: "لا يوجد كتابٌ من الكُتب الدينية المُقدسة يتكلم بهذا الأسلوب، القُرآن يمد القارئ بالمعلومة ثم يقول له هذه معلومةٌ جديدةٌ! هذا تحدٍ لا مثيل له؟ ماذا لو كذَّبه أهل مكة –ولو بالادعاء– فقالوا: "كذبتَ؛ كنا نعرف هذا من قبل؟"، ماذا لو كذَّبه أحد الباحثين بعد ذلك مُدعياً أن هذه المعلومات كانت معروفةً من قبل؟ ولكن كل ذلك لم يحدث.

 

بعد كتابه (القرآن المُذهل) قام الدكتور عبد الأحد عمر بإصدار عددٍ من المُؤلفات عن الإسلام؛ مثل: "الفرق بين القُرآن والكتاب المُقدس"، و"نظرةٌ إسلاميةٌ لأساليب المُبشرين". وقد أسلم على يديه الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، واستفاد الكثير من الدُعاة من أسلوبه وخبراته.

 

أحبتي.. لن أُطيل؛ أود فقط أن أُشير إلى أمرين: الأول- إيجابية تصرف الشاب المُسلم الذي أهدى الدكتور عبد الأحد عمر ترجمةً لمعاني القُرآن الكريم. والثاني- هو الالتزام بالموضوعية، ولو مع الخصوم، والتفكير بتجردٍ بحثاً عن الحقيقة، ثم شجاعة التنازل عن الأفكار والمعتقدات الخاطئة مهما طالت مدة الإيمان بها، ثم التحول الإيجابي النشط لتعريف الآخرين بالحقيقة وعدم تركهم فريسةً للأفكار والمُعتقدات التي ثبت عدم صحتها، وهذا بالضبط ما فعله أخونا في الله عبد الأحد عمر، جاري ميلر سابقاً، لم يكتفِ بوصوله للحقيقة وإسلامه وإنما وضع ما توصل إليه في كُتبٍ كان أولها كتاب (القرآن المُذهل)، وفي محاضراتٍ ولقاءاتٍ صحفيةٍ وبرامج إذاعيةٍ وتلڤزيونية.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

واعذروني على الإطالة.

https://bit.ly/46gPJpr

الجمعة، 16 يونيو 2023

عسَّلكَ الله

 خاطرة الجمعة /400

الجمعة 16 يونيو 2023م

(عسَّلكَ الله)

 

قلتُ لصديقٍ كان يُحدثني عن عمل خيرٍ وفقه الله للقيام به: (عسَّلكَ الله)، فتعجب من هذه العبارة وسألني: "أتقصد أن يزيدني الله حلاوةً كحلاوة العسل؟"، قلتُ له: "لفظ "عسّل" له علاقةٌ بهذا المعنى، أما العبارة كاملةً فلها معنىً آخر"، تساءل مُتلهفاً: "ما هو يا ترى؟"، قلتُ له اسمع أولاً هذه القصة، ثم نُكمل حديثنا عن معنى (عسَّلكَ الله) بعدها.

ورويتُ له القصة التالية، وهي قصةٌ حقيقيةٌ يرويها سائق سيارة أُجرة سعوديٌ يقول: أوقفني مجموعةٌ من الشباب في «الرياض» يُريدون الذهاب إلى المنطقة الشرقية، ونحن في الطريق وقفنا عند محطة بنزين، وكان وقت صلاة العصر، فقلتُ لهم: "ما رأيكم يا شباب نُصلي العصر؟"، فقال أكبرهم: "نحن لا نُصلي". يقول السائق: وقعت هذه الكلمات على أُذنيّ كالصاعقة؛ فقلتُ: "يا شباب هل هناك مُسلمٌ لا يُصلي؟ مهما عظمت ذنوبنا أو قصّرنا فهذا لا يمنعنا من الصلاة"، فكّر كبير الشباب قليلاً فيما قاله السائق ثم قال لأصحابه: "ما رأيكم يا شباب ننزل نُصلي؟". يقول السائق: فنزلنا فقدموني فصليتُ بهم العصر ركعتين لأننا على سفرٍ، فلما انتهيتُ التفتُ فوجدتُ كبيرهم الذي قال "نحن لا نُصلي" وجدتُه ساجداً، فصار أصحابه يُمازحونه "أصبحتَ شيخاً؟" فحركوه فإذا هو ميتٌ، أصحابه كلهم لم يُصدقوا؛ يظنون أنه يمزح، أحدهم رشّ على وجهه الماء، والآخر وضع أذنه عند قلبه، وبدأ البكاء يضج في المسجد، حتى اجتمع المُصلون حولنا. يقول السائق: وكان من بين الشباب شابٌ يصيح مثل صياح الطفل، علمتُ أنه الأخ الأصغر للشاب المتوفى، فذكّرتُه بالله، وقلتُ له: "لا تحزن؛ أخوك مات وهو ساجدٌ وسيُبعث ساجداً"، فقال الشاب: "والله لا أبكي لموت أخي، ولكني أبكي لأننا منذ خمسة عشرة سنةً لم نسجد لله سجدةً واحدةً، لا أنا ولا أخي". يقول السائق: "يا سُبحان الله؛ لم يسجد لله كل هذه السنوات ثم يقبض الله روحه وهو ساجدٌ! الله أكبر، الله رحيمٌ بعباده. اللهم ارزقنا حُسن الخاتمة".

 

أحبتي في الله.. قال لي صديقي: "أعتقد أن (عسَّلكَ الله) لها علاقة بحُسن الخاتمة؛ أليس كذلك؟"، قلتُ: "بلى، ولتأكيد هذا المعنى إليك القصة التالية:

‏وهي قصةٌ تدمع لها العيون. قصةٌ واقعيةٌ حقيقةٌ، عن أختٍ فاضلةٍ كانت مديرةً لدار تحفيظٍ للقرآن الكريم، كانت تُحوَّل جميع جلساتها الاجتماعية سواءً مع اﻷسرة أو في العمل أو في اللقاءات المُختلفة -أياً كان نوعها- إلى وقفةٍ مع آيةٍ من كتاب الله، أو درسٍ قُرآنيٍ، أو مُعجزةٍ من مُعجزات كتاب الله الكريم. أُصيبت بجلطةٍ، وأُدخلت على أثرها إلى المستشفى. تحكي صديقةٌ لها عنها فتقول: إنها وقت أن تكون مُحررةً من اﻷجهزة والمُغذيات تمر على غُرف المستشفى غُرفةً غُرفةً تدعو إلى درسٍ قُرآنيٍ في غُرفتها، وإن كانت الأجهزة مُعلقةً تستخدم الهاتف الداخلي للغُرف وتدعو مَن في الغُرف لحضور درسها القُرآني. كانت حافظةً للقرآن الكريم، اتصلت بها يوماً للاطمئنان عليها، فطلبت منها طلباً؛ قالت: "أرغب بأن تُراجعي لي القُرآن"؛ فقد كانت تخشى أن تموت نتيجةً لمرضها وهي غير مُتمكنةٍ منه، قالت صديقتها: "أبشري، سأتصل بك يومياً وأُسَّمِع لكِ"، قالت لها: "ﻻ ﻻ، أرغب بحضورك عندي بالمُستشفى، وتُراجعي لي عن قُربٍ؛ لأستشعر حلقة التحفيظ وأعيش أجواءها"، وافقت صديقتها على طلبها، وكانت تأتي لزيارتها يومياً من العصر إلى العشاء، تُراجع معها القُرآن. دخل شهر رمضان عليها وأمرها اﻷطباء باﻹفطار، قالت: "لا والله، ما أُفطر نهار رمضان أبداً"، قال اﻷطباء: "ستهلكين!!"، قالت: "لا والله، لا أستطيع اﻹفطار في نهار رمضان". في اليوم الثاني من رمضان وافتها المنية، ووقت احتضارها كانت صديقتها بجوارها، تقول الصديقة: "بدأت تحتضر ولسانها يلهج بآية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ بدأ صوتها يعلو ويعلو وهي تُردد هذه اﻵية، وصلت إلى أعلى حدٍ من الصوت وهي تُرددها، ثم بدأ صوتها ينخفض رُويداً رُويداً وهي ما زالت تُرددها حتى فارقت الحياة. فارقت الحياة وهي ممسكةٌ بالمُصحف بكلتا يديها. نُقلت إلى مغسلة اﻷموات، حاولوا في المغسلة أن يفكوا المُصحف من بين يديها لم يستطيعوا، اتصلتُ على شيخٍ معروفٍ وأخبرته عن ذلك، قال الشيخ: مُستحيل مُستحيل، لن أصدق حتى أراها، قلتُ له: تعال وانظر بنفسك". لما حضر الشيخ حجّبوها ودخل؛ فما إن رأى الموقف حتى برك على رُكبتيه باكياً، وقال: "والله إنها لهذه هي الخاتمة الحسنة، غسِّلوها وكفِّنوها وادفنوها بمُصحفها"، وفعلاً غسَّلوها وكفَّنوها ودفنوها بمُصحفها.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا أراد اللهُ عزَّ وجلَّ بعبدٍ خيرًا عسَّلهُ، وهل تَدْرونَ ما عسَّلَهُ؟]، قالوا: اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُهُ أعلمُ، قال: [يفتَحُ اللهُ عزَّ وجلَّ له عملًا صالحًا بيْنَ يَدَيْ موْتِهِ حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ]. من هنا كان الدُعاء بعبارة (عسَّلكَ الله) يعني تَمَنّي حُسن الخاتمة.

يقول العُلماء إن قوله صلى الله عليه وسلم: "عسَّلَه" أي: جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعامُ، وكما يُقال: فلانٌ معسول الكلام، إذا كان حُلو المنطق، مليح اللفظ، حسن المعنى. وأمارة التعسيل أن يرضى عنكَ مَنْ حولكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: [حتَّى يَرضى عنه جيرانُهُ، أو مَن حوْلَهُ].

 

وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: [يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ].

وفي روايةٍ أخرى قال صلى الله عليه وسلم: [إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا طهَّرَهُ قبلَ موتِه]، قالُوا: وما طَهُورُ العبدِ؟ قال: [عملٌ صالِحٌ يُلهِمُهُ إيّاهُ حتى يَقبِضَهُ عليهِ].

 

وسواءً كان اللفظ "عسَّلَه" أو "استعمله" أو "طهَّره" فإن المعنى هو حُسن الخاتمة، أي أن يُوفَق العبد قبل موته للبُعد عما يُغضب الرب سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة. إنه توفيق من الله سُبحانه وتعالى للعبد لعملٍ صالحٍ يقبضه ويتوفاه عليه؛ مِن ذلك مَن مات وهو ساجدٌ بين يدي الله، أو من ماتت وهي في الحج مُلبِّيةً، أو من مات وهو يقرأ القُرآن. إنها النهاية السعيدة، وإنه حُسْنُ الختام، أراد الله لعبده خيراً؛ لأنه أرى اللهَ من نفسه خيراً.

 

قال أحد السلف: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل". وقال آخر: "إذا أراد الله بالإنسان خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه". وقال غيرهما: "إذا أراد الله بعبده خيراً، فتح له أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذُل، والافتقار، والاستعانة به، وصِدْق اللجوء إليه، ودوام التضرُّع والدُعاء، والتقرُّب إليه بما أمكنه من الحسنات، ورؤية عيوب نفسه، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه ورحمته، وجُوده وبِرِّه".

 

ويقول أهل العلم إن من أعظم أسباب "التعسيل" و"الاستعمال" و"التطهير" قبل الخاتمة أن يلزم الإنسان طاعة الله وتقواه، ويحذر من ارتكاب المُحرمات، ويُبادر إلى التوبة من السيئات. وأن يُلِّح المرء في دعاء الله تعالى أن يتوفاه على الإيمان والتقوى. وأن يعمل جهده وطاقته في إصلاح ظاهره وباطنه، وأن تكون نيته متوجهةً لتحقيق ذلك بإخلاص.

ومن ذلك الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. وحُسن الظن بالله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي]. والتقوى؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. والصدق؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾. والتوبة؛ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والمُداومة على الطاعات. وذِكر الموت وقصر الأمل. والخوف من أسباب سُوء الخاتمة؛ كالإصرار على المعاصي وتسويف التوبة وحُب الدنيا.

 

أحبتي.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه]، ويُقال إن العبرة بالخواتيم؛ لهذا يجب أن يحرص كلٌ منا على أن يُبعث على أحسن حالٍ يتمنى أن تكون خاتمته عليه. ليس المهم ما كُنا عليه، ولا ما نحن عليه الآن، وإنما المهم ما سنكون عليه ونثبت عليه -بإذن الله- حين نعمل بإخلاص لأن نحظى بحُسن الخاتمة. نسأل الله سبحانه وتعالى حُسن الخاتمة.

اللهم عسِّلنا واستعملنا وطهِّرنا قبل أن تقبضنا إليك، ووفِّقنا للسعي إلى مرضاتك، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا.

وأختم بدعوةٍ مني لكل واحدٍ منكم: (عسَّلكَ الله)، برجاء أن تردوا عليّ بمثلها.

أحسَن الله خاتمتنا، وجمع بيننا في الفردوس الأعلى من الجنة، مع النبيين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً.

https://bit.ly/43Hjoq5

الجمعة، 9 يونيو 2023

حيّ على الفلاح

 خاطرة الجمعة /399

الجمعة 9 يونيو 2023م

(حيّ على الفلاح)

 

لاحظتُ وقت صلاة العشاء في أحد أيام الأسبوع الماضي قلة عدد المُصلين في مسجدنا، سألتُ عن السبب؛ فقيل لي إن هناك مباراةً في كُرة القدم تُبث الآن على الهواء مباشرةً. وتأكدتُ من ذلك -بعد انتهاء صلاة العشاء وخروجنا من المسجد- عندما شاهدتُ أحد المقاهي القريب من المسجد يغص بالشباب، الأمر الذي ذكرني بمثيلٍ له يتكرر في المباريات الدولية التي يكون موعد بعضها وقت صلاة الفجر؛ فنجد عشراتٍ من الشباب الذين لا يستيقظون لصلاة الفجر أبداً جالسين في المقهى لمُشاهدة المباراة؛ نراهم ونحن ذاهبون إلى المسجد، ونراهم ونحن عائدون منه!

إنه أمرٌ مؤلمٌ بالتأكيد، لكن الأكثر إيلاماً أن يكون من بين هؤلاء بعض إخوةٍ أفاضل من الذين يُواظبون على صلاة جميع الفروض مع الجماعة في المسجد ثم تفتقدهم مساجدهم وقت مُباريات كُرة القدم!

كيف يُفوِّتون ثواباً عظيماً مُقابل عَرَضٍ زائلٍ لا قيمة له إطلاقاً يوم الحساب؟ ألهذه الدرجة يُزين الشيطان للناس أعمالهم؟ ألا يسمعون مُكبرات الصوت من المساجد حولهم من كل مكانٍ والمؤذنون يُرددون فيها (حيّ على الفلاح)؟ أليس فيهم أو من بينهم رجلٌ رشيد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

عن تأخير الصلاة عن موعدها كتبت إحداهن تقول: منذ زمنٍ وأنا اتمنى الزواج من ابن عمي، وأرى فيه الرجل المُناسب لي أو كما يقولون: "فارس الأحلام"، وبفضل الله تحقق لي ذلك الحلم؛ تقدم ابن عمي لخطبتي فوافقتُ عليه والسعادة تغمرني بشكلٍ لا يوصف. لكن بعد زواجنا انقلب الأمر وظهرت الحقيقة؛ لم يكن زوجي كما توقعتُ أبداً؛ صرتُ أرى عكس ما كنتُ أراه في أحلامي؛ مشاكلنا تزداد يوماً بعد يومٍ، لا أجد طعماً للراحة، ننسجم مع بعضنا يوماً، ونتشاجر بالأيام وقد تصل إلى أسابيع! وفي كل مرةٍ ينتهي بي الأمر غاضبةً فأذهب للنوم في منزل أُمي وأبي. شكوتُ لأُمي الكثير والكثير مما أُعاني، وأنا دوماً أتساءل: "لماذا يحدث هذا معي؟". وكانت لي أُختٌ تصغرني بسنةٍ، تحدثتُ معها يوماً، أنصحها وأنقل لها خبرتي في الحياة، فقلتُ لها: "يجب أن تنتبهي عندما تختارين زوج المستقبل؛ فبعض الرجال قد تنخدعين بظاهرهم لكنهم في الحقيقة شيءٌ آخر!". هنا كانت المفاجأة؛ فأُختي -التي أعتبرها طفلةً صغيرةً في حاجةٍ إلى النصح والتوجيه والإرشاد- ردت عليّ رداً عجزتُ عن أن أتكلم بعده، قالت لي: "أنا أُحافظ على صلواتي وألتزم بها في وقتها؛ لذلك لستُ أنا من سأختار زوجي، الله سيختاره لي".

فكرتُ بيني وبين نفسي طويلاً؛ هل حقاً كل ما يحدث لي بسبب تهاوني واستهتاري بالصلاة؟ فأنا دائماً أُطيل السهر ولا أستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد أن تُشرق الشمس، وأتهاون في صلواتي الباقية؛ فحتى عندما أكون جالسةً وليس عندي شيءٌ وأسمع الأذان للصلاة، وأسمع (حيّ على الفلاح) فإنني أشغل نفسي بأي شيءٍ؛ أمسك بهاتفي أُحدث أي أحدٍ، أو أبقى مُستلقيةً على السرير بحُجة أن الصلاة لا يُمكن اعتبارها تأخيراً إلا عندما تُصبح قضاءً!

ثم راودني سؤالٌ طرحته على أُختي قلتُ لها: "ماذا قلتِ؟ إن الله سيختار زوجك لأنك مُحافظةٌ على الصلاة؟ لماذا اخترتِ الصلاة دون أي شيءٍ آخر؟"، قالت لي: "لأن الصلاة وحدها هي المقرونة بالفلاح؛ فكيف يُفلح من لا يُصلي؟ وكيف يُفلح من يتهاون بصلاته؟ إن فلاح المُسلم في جميع أموره يرتبط بمقدار اهتمامه بالصلاة". كنتُ أستمع إلى كلام أُختي باهتمامٍ، وعقدتُ النية على التغيير. وسُبحان الله بمجرد أن عقدتُ النية على أن أُحافظ على صلاتي في وقتها اتصل بي زوجي يعتذر، وأخبرني أنه سيأتي ويأخذني إلى المنزل، لا أقول أن حياتي أصبحت بلا مشاكل؛ فالحياة لا بد من المشاكل فيها، ولكن أصبحت مشاكل من نوعٍ آخر؛ لم تعد تلك المشاكل التي تُرغمني على أن أذهب إلى منزل أهلي وأبقى أياماً عديدةً هناك، لم تعد تلك المشاكل التي تجعلني أُفكر في الطلاق وأندب حظي لما يحدث لي، أصبحت مشاكل تُعلمني خطأي وتُعلم زوجي خطأه، صارت خلافاتٍ نعرف أهميتها في الحياة، ونعرف كيف نتداركها، حينها أيقنتُ حقاً لماذا يُنادىَ للصلاة بعبارة (حيّ على الفلاح)؛ فالصلاة هي صلة الإنسان المُسلم بالله سُبحانه وتعالى، وبالمُحافظة عليها في وقتها يكون فلاح الإنسان في الدُنيا والآخرة.

 

أحبتي في الله.. الصلاة في أول وقتها سبيلٌ لدخول الجنة؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾. قال المفسرون: المُحافظة على الصلاة تكون بأدائها أول وقتها خوف فَوْت فضلها.

قال أحد الصحابة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفرٍ، مُسندي ظهورنا إلى مسجده فقال: [ما أجلسكم؟] قلتُ: جلسنا ننتظر الصلاة، قال: فأرَمّ قليلاً "أرَمّ أي: سكت"، ثم أقبل علينا فقال: [هل تدرون ما يقول ربُّكم؟]، قلنا: لا، قال: [فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها، ولم يُضيعها استخفافاً بحقها، فله عليَّ عهدٌ أن أُدخله الجنة، ومن لم يُصلها لوقتها ولم يُحافظ عليها، وضيَّعها استخفافًا بحقِّها، فلا عهد له عليَّ: إن شئتُ عذَّبتُه وإن شئتُ غفرتُ له].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عزَّ وجلَّ: إني فرضتُ على أمَّتك خمس صلواتٍ، وعهدتُ عندي عهدًا أنه من يُحافظ عليهن لوقتهنَّ، أدخلته الجنة، ومن لم يُحافظ عليهن، فلا عهد له عندي].

وقال أحد الصحابة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَن حافظ على الصلوات الخمس ركوعهنَّ، وسجودهنَّ، ومواقيتهنَّ، وعلم أنهن حقٌ من عند الله دخل الجنة]، أو قال: "وجبت له الجنة"، أو قال: "حُرِّم على النار".

وسأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله].

وعن صحابيةٍ كانت ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة على وقتها].

قال شُرّاح الأحاديث: "لوقتها" أو "على وقتها" أي في أول الوقت. وقالوا عن فضل الصلاة في أول وقتها إنها من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وإنها تُحرِّم فاعلها على النار، وتكون سبباً -برحمةٍ من الله وفضلٍ- في دخول الجنة.

 

وأرسلت إحدى النساء بسؤالٍ إلى شيخٍ جليلٍ؛ قالت: أحياناً أؤخر الصلاة عن وقتها، ليس عن تهاونٍ ولكن لكثرة أعمالي المنزلية، فهل عليّ ذنب؟ فكان جواب الشيخ: "نعم، عليك ذنبٌ، ولا يجوز أن تؤخري الصلاة عن وقتها أبداً، فهي ركنٌ من أركان الإسلام، والله تعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾؛ فلا بد أن تؤديها في وقتها. وأقول لكِ: إذا أديتِ الصلاة كان ذلك معونةً لكِ على أعمالك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾.

ورداً على سؤالٍ آخر عن تأخير صلاة الفجر؛ قال صاحبه: ما حُكم تأخير صلاة الفجر حتى تطلع الشمس دائماً، وفي بعض الأوقات عمداً؟ كانت الإجابة: ذلك مُحرمٌ، حتى إن بعض أهل العلم يقول: "من ترك صلاةً مفروضةً عمداً حتى خرج وقتها فهو كافرٌ والعياذ بالله، وإذا أخرَّها عمداً حتى خرج وقتها لم تُقبل منه ولو صلى ألف مرةٍ"؛ لقول النبي ﷺ: [من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهو ردٌّ] أي مردودٌ عليه؛ فعلى المرء أن يتقي الله عزَّ وجلَّ في نفسه، وأن لا يُضيِّع الصلاة فيدخل في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾.

 

قال أحدهم يصف عبارة (حيّ على الفلاح): هي دعوةٌ إلى الفوز والفرج والنجاح، ما ألطفها وما أحنّها وما أصدقها وما أرقّها من دعوةٍ لا خُسران فيها، إلا لمن تجاهلها ولم يستجب لها.

وقال الشاعر:

ألا فَلْنُصَلِّ لِنَلْقَ الصَّلاح

وحَيَّ نُصَلِّي نُجِبْ لِلْفَلاح

لنُرضِي إلَهي فَذاكَ الرَّباح

ورَحمَةُ رَبِّي فَثَمَّ النَّجاح

أُرِيدُ النَّجاةَ أُرِيدُ السَّماح

وجَنَّاتِ خُلْدٍ ورَوْحٍ وراح

 

أحبتي.. المُحافظة على أداء الصلاة في وقتها من الأعمال التي ينال بها المُسلم محبة الله، وهي سببٌ في مُضاعفة الحسنات، وسبيلٌ للفوز بالجنة؛ فلنعوِّد أنفسنا وأهلنا وأبناءنا على سرعة الاستجابة عندما نسمع المُؤذن يقول: حيّ على الصلاة (حيّ على الفلاح)، فنترك كل ما يشغلنا عن تلبية النداء، مَهما بدا لنا مُهمّاً، ونستعد للصلاة ونؤديها على وجهها الأكمل، ولنتذكر أن من سِمات الصالحين أنهم لا ينتظرون الاستماع إلى الأذان؛ بل يُبادرون فيذهبون إلى المسجد قبل رفع الأذان؛ قال أحد التابعين: "ما أذّن المُؤذن منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضاً أو مُسافراً".

أحبتي.. إن لم يكن الفلاح في الصلاة ففيمَ يكون؟ وإن لم يكن من يَعِد المُحافظين على الصلاة في أوقاتها، الخاشعين فيها، بالجنة هو الله عزَّ وجلَّ فمن يكون؟ وهو سُبحانه وتعالى القائل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.

وصدق من قال: "من خان حيّ على الصلاة، تخونه (حيّ على الفلاح)؛ فميزان الله عدل".

لقد بات من المُهم أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، وأن نُحسِن تنظيم أوقاتنا، نحتاج فقط إلى نيةٍ مُخلصةٍ وعزيمةٍ صادقةٍ فيكون التوفيق بعد ذلك من الله سُبحانه وتعالى.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين، واجعلنا من عبادك الصالحين، ويسّر لنا أن نؤدي الصلاة على وقتها فنكون من المُفلحين.

https://bit.ly/3WWEX3m

الجمعة، 2 يونيو 2023

ثمرة الورع

 خاطرة الجمعة /398

الجمعة 2 يونيو 2023م

(ثمرة الورع)

 

في «دمشق» مسجدٌ كبيرٌ اسمه «جامع التوبة»، وهو جامعٌ مُباركٌ، فيه أُنْسٌ وجمال، سُمّي بجامع التوبة؛ لأنه كان خاناً تُرتَكَب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً. وكان فيه، من نحو سبعين سنة، شيخٌ مُرَبٍّ عالمٌ عاملٌ، وكان أهل الحي يَثِقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دُنياهم، وكان عند هذا الشيخ تلميذٌ صالحٌ، يسكن في غُرفةٍ في المسجد، وكان مَضْرِب المثل في فقره وفي إِبَائِه وعِزَّة نفسه، مرّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعَمه ولا ما يشتري به طعاماً؛ فلما جاء اليوم الثالث أَحَسَّ كأنه مُشْرِفٌ على الموت،

وفكَّر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطّرار الذي يُجيز له أكْل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يُقِيمُ صُلْبَه.

وكان المسجد في حيٍ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها مُتلاصقةٌ، والأسطح مُتَّصِلةٌ، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مَشْياً على أسطح البيوت؛ فصعد إلى سطح المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمَح فيها نساءً فغَضّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى بجانبها داراً خاليةً، وشمَّ رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس من جوعه لمّا شمّها كأنها مغناطيسٌ يجذبه إليها، وكانت الدور من طابقٍ واحدٍ، فقفز قفزتين من السطح إلى الشُّرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القِدر، فرأى فيها باذنجاناً مَحشُوّاً، فأخذ واحدةً ولم يُبالِ من شدة جوعه بسخونتها، وعضّ منها عضةً، فما كاد يبتلعها حتى ارتدّ إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: "أعوذ بالله، أنا طالب علمٍ مُقيمٌ في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟". وكَبُر عليه ما فعل، فندم واستغفر ورَدّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء. فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد -من شدة الجوع- يفهم ما يسمع، فلما انقضى الدرس وانصرف الناس جاءت امرأةٌ مُسْتَتِرة فكلَّمَت الشيخ بكلامٍ لم يسمعه تلميذه، فتلفّت الشيخ حوله فلم يَرَ غيرَه، فدعاه، وسأله: "هل أنت مُتزوج؟"، قال: "لا"، سأله: "هل تُريد الزواج؟"، فسكت؛ فقال له الشيخ: "قُل، هل تُريد الزواج؟"، قال: "يا سيدي، ما عندي ثمن رغيفٍ آكله فبماذا أتزوج؟!"، قال الشيخ: "إنّ هذه المرأة أخبّرتني أن زوجها تُوفي، وأنها غريبةٌ عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدُنيا إلا عمٌّ شيخٌ فقير، وقد جاءت به معها -وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة- وقد ورِثَت دار زوجها ومعاشَه، وهي تُحِبُّ أن تجد رجلاً يتزوجها على سُنة الله ورسوله، لئلا تبقى مُنفردةً فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تُريد أن تتزوج بها؟"، قال: "نعم"، وسألها الشيخ: "هل تقبلين به زوجاً؟"، قالت: "نعم"، فدعا بعَمِّها ودعا بشاهدين وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: "خُذ بيد زوجتك"، فأخذ بيدها، أو أخذت هي بيده فقادته إلى بيتها، فلما دخلته كشفت عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله! وسألته: "هل تأكل؟ "، قال: "نعم"؛ فكشفت غطاء القِدْر فرأت الباذنجانة

فقالت: "عجباً! مَن دخل الدار فعضّها؟!"، فبكى الرجل وقصّ عليها الخبر، فقالت له: "هذه (ثمرة الورع)، عفَفْتَ عن الباذنجانة الحرام؛ فأعطاك الله الدار كُلَّها وصاحبتَها بالحلال".

 

روى هذه القصة الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، في كتابه: «فصولٌ في الثقافة والأدب»، وقال عنها: "إنها قصةٌ واقعيةٌ أعرِف أشخاصها وأعرف تفاصيلها وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خيرٌ أو شر، أو أنه جائزٌ أو ممنوع ".

 

أحبتي في الله.. الورع: هو اجتناب الشُبهات خوفاً من الوقوع في المُحرمات.

وعن الورع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُنْ وَرِعًا تَكُنْ من أَعْبَدِ الناسِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ]، وفي روايةٍ: [فَضْلُ العِلْمِ أفْضَلُ مِنَ العِبادَةِ، ومِلاكُ الدِّينِ الوَرَعُ]. وعبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن الورع كله في عبارةٍ واحدةٍ فقال: [مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ]، فهذا -كما يقول الفقهاء- يعم الترك لما لا يعني الإنسان المُسلم من الكلام والنظر والاستماع والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة. والورع البُعد عن الحرام واجتنابه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس؛ فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ مَلكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى اللهِ محارمُه]. والمعنى: أن على المرء ألا يدخل في المُتشابهات التي قد تورده المُحرمات، بل عليه أن يقف عند الحلال البيِّن، ففيه كفايةٌ للمرء عن الدخول في المُتشابهات. وقال صلى الله عليه وسلم: [دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ]، أي: دع الشيء الذي تشكّ فيه إلى الشيء الذي لا شكَّ فيه. ومن الورع البر وحُسن الخُلُق؛ قال عليه الصلاة والسلام: [البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ]. وحين جاء صحابيٌ إلى النبي فقال له صلى الله عليه وسلم: [جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثمِ]، فقال: نعم، قال له عليه الصلاة والسلام: [استَفْتِ قلبَك: البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاك الناسُ وأَفْتَوْك].

 

فالورع -كما يرى أهل العِلم- هو في الأصل: الكفّ عن المحارم، والبُعد عن الشُبهات، وهو عامٌ في كل قولٍ وفعلٍ وعِلمٍ وعملٍ وعبادةٍ ومُعاملةٍ وعلاقة. وعلى المؤمن أن يتحرَّى الخير والمُباح والطيب في قوله وعمله وسيرته، ويتباعد عن المُشتبهات، أو محلّ الريب، يرجو ثواب الله وفضله وإحسانه وهذه هي (ثمرة الورع).

والورع قسمان: ورعٌ واجبٌ: وهو ترك المُحرمات وفعل الواجبات، وورعٌ مُستحبٌ: وهو ترك ما يُشتبه في تحريمه، وفعل ما يُشتبه في وجوبه.

وينشأ خُلُق الورع من الخوف والخشية من الله، وكلما زاد الخوف في قلب المؤمن كلما زاد ورعه وتوقيه مما يضره في الآخرة، وكلما نقص الخوف في قلب المؤمن نقص ورعه وخاض في المُحرمات وتساهل في أسبابها.

يقول العلماء إن الورع يحجز عن محارم الله تعالى، وعن انتهاك حدوده أو تضييع فرائضه، ويحمل النفس على الطاعات وعلى المُراقبة للمولى سُبحانه، وإذا كان المرء كذلك فقد سلم له دينُه، وهذا ما كان عليه سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- فعمّروا دِينهم ودُنياهم، وانقلبوا إلى ربهم سالمين من الأوزار، فأثابهم الله (ثمرة الورع) صلاحاً في دُنياهم، وحُسن مآبٍ في أُخراهم.

 

وقيل عن الورع: "كل ما شككتَ فيه فالورع اجتنابه"، "من خاف صبر، ومن صبر ورع، ومن ورع أمسك عن الشُبهات"، "ما رأيتُ أسهل من الورع؛ ما حاك في نفسك فاتركه"، "ما لاريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في حُرمته فليس فعله من الورع"، "أفضل العبادة التفكر والورع"، "إن الدين مع الورع هو الخير كله"، و"الورع أول الزُهد، كما أنَّ القناعة أول الرضا".

وقال الشاعر:

جليلُ العطايا في دقيقِ التورُّعِ

فدقِّقْ تنلْ عالي المقام المُرّفعِ

وتسلمْ من المحظورِ في كلِّ حالةٍ

وتغنمْ مِن الخيراتِ في كُلِّ موضعِ

وقال آخر:

تورَّع ودعْ ما قد يُريبك كلَّه

جميعاً إلى ما لا يُريبك تسلمِ

وحافظْ على أعضائِك السبعِ جُملةً

وراعِ حقوقَ الله في كُلِّ مُسلمِ

وكُنْ راضياً بالله ربّاً وحاكماً

وفوِّض إليه في الأمورِ وسَلِّمِ

 

أحبتي.. أختم بقولٍ أعجبني لأحد السادة العُلماء؛ قال: تورّعْ عن الوقوع في الشُبهات، وتورع عن تعاطي المُنكرات، واعلم أن مَن دقّ في الدنيا ورعُه، جلّ في القيامة خطرُه. عليك بالورع؛ ففي الورع سلامةٌ للمرء في دُنياه وفي أُخراه. عليك بالورع، ليخفّف الله حسابك، وادفع الشّك باليقين يسلمْ لك دِينك.

 عليكم بالورع؛ الْزَمُوه، وتعلموه، وعلموه أبناءكم، واجعلوه خُلُقاً شائعاً في أُسَرِكُم، ومُجتمعاتكم، حتى نجني (ثمرة الورع) مُجتمعاً صالحاً نظيفاً، لا يتطلع فيه أحدٌ إلى ما ليس له.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الورع، وأن يُعيننا على ترك الشُبهات، والبُعد عن المُحرمات. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا رب العالمين.

https://bit.ly/45Gn8d0

الجمعة، 26 مايو 2023

الصديق الوفي

 خاطرة الجمعة /397

الجمعة 26 مايو 2023م

(الصديق الوفي)

أمسك بهاتفه واتصل بصديقه وقال له: "أُمي مريضةٌ وليس معي ثمن الدواء"، ردّ عليه صديقه: "تمام يا صاحبي؛ اتصل بي بعد ساعة". اتصل بصديقه بعد ساعةٍ فوجد هاتفه مُغلقاً! أعاد اتصاله مراتٍ ومراتٍ دون جدوى حتى ملّ من ذلك؛ فصار يبحث عمن يُقرضه ثمن الدواء فلم يجد أحداً! أحس أن الدنيا كلها ضاقت به، وأن الكون لم يعد يسعه، حزن كثيراً لأجل والدته المريضة، وحزن أكثر لخذلان صديقه له، وتساءل بينه وبين نفسه هل هذا هو (الصديق الوفي)؟ لم يعرف ماذا يفعل. عاد إلى البيت يجر خيبته، وجد أمه نائمةً وملامح الراحة باديةً على وجهها، وبجانبها علب دواءٍ؛ سأل أخته عمن أحضر الدواء، قالت له: "جاء صديقك قبل قليلٍ وأخذ الوصفة ثم أحضر الدواء". ضحك والدمع في عيونه وخرج مُسرعاً يبحث عن صديقه حتى وجده فقال له: "اتصلتُ بك عدة مراتٍ وهاتفك مُغلق"، فأجابه صديقه: "نعم؛ لقد بعتُ هاتفي واشتريت بثمنه الدواء ﻷمنا!".

 

أحبتي في الله.. هكذا تكون الصداقة الحقة؛ فالوفاء شرف الصداقة. لكن هل كل صديقٍ يكون وفياً وقت الحاجة؟ في القصة التالية إجابةٌ عن هذا السؤال:

‏كان هناك شابٌ يعمل والده في تجارة الجواهر والياقوت، وكان الشاب يؤثر أصدقائه ويُغدق عليهم بالمال، وهُم بدورهم يُجلونه ويحترمونه بشكلٍ لا مثيل له، وتدور الأيام دورتها، ويموت الوالد، وتفتقر العائلة افتقاراً شديداً، فقلّب الشاب في ذكرياته ليبحث عن أصدقائه؛ فتذكر أعز صديقٍ كان يُكرمه وكان أكثرهم مودةً وقُرباً منه، وعلم أنه قد أثرى ثراءً لا يوصف وأصبح من أصحاب القصور والأملاك والأموال؛ فتوجه إليه عسى أن يجد عنده عملاً أو سبيلاً لإصلاح حاله، فلما وصل باب القصر استقبله الخدم والحشم فذكر لهم صلته بصاحب القصر وما كان بينهما من مودةٍ قديمةٍ؛ فذهب الخدم فأخبروا صديقه بذلك؛ فنظر إليه من خلف الستار فرأى شخصاً رث الثياب عليه آثار الفقر فرفض لقاءه، وأخبر الخدم أن يُخبروه أن صاحب القصر لا يُمكنه استقبال أحد. خرج الشاب والدهشة تغلب عليه، هل هذا هو (الصديق الوفي)؟ كان يتألم، ويتعجب على الصداقة وكيف ماتت، وعلى القيم وكيف تذهب بصاحبها بعيداً عن الوفاء. بالقرب من داره صادف الشاب ثلاثةً من الرجال عليهم أثر الحيرة وكأنهم يبحثون عن شيءٍ فسألهم: "ما أمر القوم؟"، فقالوا له: "نبحث عن رجلٍ يُدعى فلان بن فلان" وذكروا اسم والده؛ فقال لهم: "إنه أبي، وقد مات منذ زمن"، فقالوا: "إن أباك كان يُتاجر بالجواهر، وله عندنا قطعٌ نفيسةٌ من المرجان كان قد تركها عندنا أمانة"

وأخرجوا كيساً كبيراً مليئاً بالمرجان ودفعوه إليه ورحلوا عنه والدهشة تعلوه، لا يكاد يُصدق ما يرى ويسمع، لكن تساءل أين اليوم من يشتري المرجان؟ إن بيعه يحتاج إلى أثرياء والناس في بلدته ليس فيهم من يملك ثمن قطعةٍ واحدةٍ. مضى في طريقه وبعد برهةٍ من الوقت صادف سيدةً كبيرةً في العُمر عليها آثار النعمة والخير، فقالت له: "يا بُني أين أجد جواهر للبيع في بلدتكم؟"، فتسمر الشاب في مكانه وسألها: "عن أي نوعٍ من الجواهر تبحثين؟"، فقالت: "أية أحجارٍ كريمةٍ رائعة الشكل، وسأشتريها بأي ثمن"، فسألها إن كان يُعجبها المرجان فقالت له: "نِعمَ المطلب"، فأخرج بضعة قطعٍ من الكيس؛ فأُدهشت السيدة مما رأت؛ فابتاعت منه قطعاً، ووعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد. وهكذا عادت حال الشاب إلى يُسرٍ بعد عُسرٍ، وعادت تجارته تنشط بشكلٍ كبيرٍ، فتذكر بعد حينٍ من الزمن ذلك الصديق الذي ما أدى حق الصداقة ولم يكن وفياً معه؛ فبعث إليه مع أحد الأصدقاء ببيتين من الشعر قال فيهما:

صحبتُ قوماً لئاماً لا وفاءَ لهم

يدعون بين الورى بالمكرِ والحيلِ

كانوا يجلونني مُذ كنتُ ربَ غنىً

وحين أفلستُ عدّوني من الجُهلِ

فلما قرأ ذلك الصديق هذين البيتين كتب على ورقةٍ ثلاثة أبياتٍ وبعث بهم إلى الشاب، قال فيهم:

أما الثلاثةُ فقد وافوكم من قِبَلي

ولم تكن سبباً إلا من الحيلِ

أما من ابتاعت المرجانَ والدتي

وأنت أنت أخي بل مُنتهى أملي

وما طردناك من بُخلٍ وقِللِ

ولكن عليك خشينا وقفةَ الخجلِ

 

الصداقة هي الصُحبة عن محبةٍ، وهي مأخوذةٌ من الصدق؛ لأن (الصديق الوفي) يصدُق صديقه ويُصِّدُقه. وقد حثّ الشرع على حُسن اختيار الأصدقاء لما لهم من تأثيرٍ قويٍّ على الأفكار والمُعتقدات والاتجاهات والسلوك؛ قال صلى الله عليه وسلم: [المرءُ على دينِ خليلِه؛ فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، وجَلِيسِ السُّوءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ...].

 

يقول أهل العِلم إن (الصديق الوفي) هو من يُذكِّرك بالله تعالى، وإن من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الصديق حتى يكون صديقاً صالحاً: الوفاء والأمانة والصدق والبذل، والبُعد عن ضد ذلك من الصفات. ويُقال الرفيق قبل الطريق. والصداقة إذا لم تكن على الطاعة فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوةٍ؛ يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. وفي الآخرة يتحسّر أَهْلُ النَّارِ على فوات صُحبة الصالحين فيقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾، قال المفسرون: يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحاً نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحاً شَفَعَ. وكان سيدنا عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: "عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ فَإِنَّهُمْ عُدَّةُ الدُّنْيَا وَعُدَّةُ الآخرة".

وقال الشاعر:

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خَيَارَهُمْ

وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدِي

وقال آخر:

إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً

فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا

وَلا خَيرَ في خِلٍّ يَخونُ خَليلَهُ

وَيَلقاهُ مِن بَعدِ المَوَدَّةِ بِالجَفا

وَيُنكِرُ عَيشاً قَد تَقادَمَ عَهدُهُ

وَيُظهِرُ سِرّاً كانَ بِالأَمسِ قَد خَفا

سَلامٌ عَلى الدُنيا إِذا لَم يَكُن بِها

صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا

 

يُقال للخِل الحميم و(الصديق الوفي) "صاحب" لكثرة مُصاحبته، وهو الوصف الذي وصف به المولى عزَّ وجلَّ سيدنا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو أقرب الناس إلى قلب الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. وسُمي أكثر الناس مُصاحبةً لنبينا الكريم "الصحابة". ويُقال في الأمثال عن الصاحب: "الصاحب ساحب".

 

أحبتي.. لينظر كلٌ منا إلى أصدقائه خاصةً الأقرب منهم إليه، ليرى إن كانوا يسحبونه نحو الخير والعمل الصالح فنعمّ الأصدقاء هُم؛ فليحمد الله على وجودهم في حياته، ويُعزز علاقته بهم، أما إن كان العكس فبئس الأصدقاء هُم، ويكون التخلص منهم مكسباً، يزداد بقدر سُرعة إنهاء علاقتنا بهم. نفس الأمر ينطبق على أبنائنا وبناتنا علينا أن نُساعدهم على حُسن اختيار الأصدقاء والأصحاب؛ ليكونوا خير مُعينٍ لهم يصحبونهم دائماً إلى طريق الخير والهُدى والرشاد، ويكونوا مثل الأصحاب الذين أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ أولادنا، وقيض لنا (الصديق الوفي) الذي يأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاك ومرضاتك، ويُبعدنا عما فيه غضبك وسخطك.

https://bit.ly/43uX42m

 

الجمعة، 19 مايو 2023

الرزاق ذو القوة المتين

 خاطرة الجمعة /396

الجمعة 19 مايو 2023م

(الرزاق ذو القوة المتين)

يروي أحد الشباب العراقيين هذه القصة، يقول: منذ عدة سنواتٍ جمعني لقاءٌ بشيخٍ عراقيٍّ تجاوز عمرُه وقتئذٍ مائةَ سنةٍ، زارني في بيتي ببغدادَ، وبعد جلسةٍ مؤنسةٍ وادِعةٍ سألتُه مُغتنماً الفرصة: "ما أعجبُ ما مرَّ بك يا عمّ في عُمرك المديد؟!"؛ فأطرق برأسَه هُنيهةً ثم رفعه مُتنهداً وقال: "لقد رأيتُ في حياتي أحداثاً عجيبةً، ولكن أعجبها إليَّ ما سوف أقصُّه عليك، فاحفظ عني وخُذ العبرةَ لك ولمن وراءك!".

قال الشيخ: كُنا في الزمن الغابر، نقتاتُ في بعض مواسم السنة على ما نقومُ بصيده، وكنتُ قد خرجتُ ذاتَ موسمٍ أصطاد، ومرَّت بضعةُ أيامٍ وأنا أتربَّصُ للصيد دون جدوى، حتى بدأ اليأسُ من الحصول على الرزق يدبُّ إلى نفسي في تلك الغدوة. وبينما أنا كذلك أراني الله عجباً؛ لقد رأيتُ ثُعباناً يُراقبُ شيئاً ما ويتحرَّك نحوه ببطءٍ، فتبعتُه حتى رأيتُ أمامَه يربوعاً صغيراً يأكلُ من خَشاش الأرض، سرعان ما صار بين فكيِّ الثُعبان وبدأ بابتلاعه، وأنا في مكمني أتابعُ المشهد، وأرى جسمَ اليربوع يتنقَّلُ في جوف الثعبان ببطءٍ من حلقه إلى وسطه، وعندما وصلَ اليربوعُ إلى نحو نصفِ جسم الثُعبان تحرَّكتُ نحوه وأنا لا أدري لِمَ تحركتُ، وأخرجتُ بُندقيتي وصوبتُ فوهتَها نحو رأس الثُعبان وأطلقتُ رصاصةً خرقَتَه وتركَتَه يتلوى قليلاً ثم سكن.

أقبلتُ على الثُعبان وأخرجتُ حربتي وطعنتُ في الموضع المنتفخ من جلده وشققتُه، فخرجَ اليربوعُ وفيه رمَقٌ، لم يمُت بعد! ركزتُ حربتي في الأرض وجلستُ غيرَ بعيدٍ منه وأنا أتأملُ فيما صنعتُ؛ لا أدري ما الذي دفعني لفعل ذلك! رأيتُ الحياةَ تعودُ إلى اليربوع، بدأ يمشي ويُحاولُ الركضَ لكنه يترنَّحُ يُمنةً ويُسرةً، بدأ يُسرع، رَكْضَتُهُ مُستقيمةٌ، يا الله لقد نجا، لقد نجا! لم أكد أُنهي خاطرَتي إلاّ وصقرٌ كبيرٌ ينقَضُّ من عُلوٍّ كالبرق، فيُنشبُ مخالبَه في جسد اليربوع ليطيرَ به بعيداً ويختفي عن مدى بصري ويتركني في ذهولٍ من مشهدٍ سريعٍ خاطفٍ مرَّ كلمح البصر، ولكني شعرتُ حينئذٍ بأنَّ رسالةً ما قد بلغتني عن ربي مفادُها: [ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك، وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ]؛ نعم إنَّ الله هو من يُعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع. لقد أفدتُّ من ذلك الدرس ألا أهتم للرزق ما حييتُ، أسعى بقدر استطاعتي ولكني أعلم يقيناً أن الأرزاق بيد الله وحده. وها أنا ذا يا ولدي أمامَك قد جاوزتُ المئة، ومرَّ على تلك الحادثة قُرابة سبعين سنةٍ وأنا أتقلَّبُ في رزقِ ربي، ﴿لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾.

يقول الشاب: الآن وبعد مُرور سنين عديدةٍ على لقائي مع ذلك الشيخ ما زلتُ أتأمل في ذلك الدرس الذي تعلمته منه، وأعلم يقيناً أن الرزق والأجل كلاهما بيد الله وحده، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

لقد وافى الثعبانَ أجلُهُ في لحظةٍ ظفرَ فيها برزقٍ وافرٍ كان يظنُّ أنَّه سوف يستمتعُ به، وإذا به رزقُ غيره سيخرجُه الله له من داخل جوف الثُعبان وهو لا يعلم! وأما اليربوع فقد أُكِلَ مرَّتين، وكانت المرةُ الثانيةُ في اللحظة التي ظنَّ فيها أنه نجا بالفعل، ولم يعلم أن مُستقرَّهُ سوف يكون في بطنٍ آخر بعد أن يُقطَّعَ إرَباً! وأما أمرُ الطائر فهو الأعجبُ عندي، فقد أخرجَ اللهُ له رزقَهُ من أغرب مكانٍ، من بطن الثُعبان، وسخَّر له المخلوقَ الأرقى في الأرض ليقومَ بتلك المُهمة ويُقرِّب إليه رزقه!

يا الله ما أبلغَهُ من درسٍ. لعلَّ الشيخ قد فارقَ الحياة على الأغلب، لكنَّ صورته لم تُفارق مُخيلتي، وكلما ضاقت أبوابُ الرزق أتذكَّرُ ذلك الشيخَ وأقول: «الزَمها فهي موعظةُ مُعمِّر».

 

أحبتي في الله.. لا شك في أن الله هو وحده الرزاق؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾. وهو المُتفرد بالرزق وحده لا شريك له؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾. يتفضل برزقه على من يشاء من عباده بغير حدٍ ولا عدٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. ورزقُ الله للعباد صورةٌ من صور لُطفه بهم؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾. والرزق عطاءٌ من رب العزة لا يختص به المؤمنين دون غيرهم، بل هو لجميع البشر؛ المؤمن منهم والكافر، البَرّ منهم والفاجر؛ يقول تعالى: ﴿كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾. ورزق الله واسعٌ لا ينفد، باقٍ لا يزول؛ يقول تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾. ولا يقتصر رزقه على البشر فقط، فالرزاق سبحانه تكفّل بأرزاق الخلائق جميعاً، من إنسانٍ وحيوانٍ وطيورٍ وغيرهم من المخلوقات، وقسَم لكلٍ منهم رزقه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾.

يقول أهل العلم إن الله سبحانه قائمٌ على كل نفسٍ، وَسِع الخلقَ كلهم برزقه، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى القوي المُعافَى، مُتكفلٌ بالأقوات وإيصالها؛ فهو سُبحانه (الرزاق ذو القوة المتين) ما من مخلوقٍ إلا وهو مُتمتعٌ برزقه، مغمورٌ بكرمه، يبعث إليه من الرزق ما يُصلحه، حتى الذرّ في باطن الأرض {الذر صغار النمل}، والطير في الهواء، والحيتان في الأعماق، والأجنّة في الأرحام، والحشرات في الصخور، فسُبحان الرزاق العليم، يُسبغ نعمه على جميع مخلوقاته. إن خزائن الله عزَّ وجلَّ مملوءةٌ بكل شيءٌ، يُعطي منها جميع الخلائق، ولا تنقص إلا كما تنقص إبرة الخياطة إذا أُدخلت البحر، ولو سأله جميع الخلائق فأعطاهم لم ينقص ذلك من مُلكه شيئاً؛ يقول الله في الحديث القدسي: [.. يَا عِبَادِي: لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ]. وأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى كيفية طلب الرزق فقال: [أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ]. وتطمئن النفوس إلى كفاية من تكفّل بأرزاقها، فرزقُها يطلبها كأجلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ ابنَ آدمَ هرَبَ من رزقِهِ كما يهرَبُ من الموتِ، لأدْرَكَهُ رزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ الموتُ].

يقول العلماء إن الإيمان والتقوى سببان عظيمان للحصول على البركات والأرزاق؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. والمعاصي تذهب بالأرزاق؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [.. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ]. وتزيد الأرزاق بالشكر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. ومن الأرزاق ما هو خفيٌ؛ كالقناعة والرضا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ]. ومِن جميل رزقه وأرفعه أن يرزق عبده عِلماً هادياً، ولساناً مُرشداً مُعلِماً، ويداً مُنفقةً مُتصدقةً. وإن أعظم رزقٍ يرزقه الله عباده، وأحسنه وأكمله وأفضله وأكرمه وأعلاه وأدومه، وهو الذي لا ينقطع ولا يزول، هو أن يرزقهم الجنة بفضله ومنّه وكرمه.

 

أحبتي.. إنه هو الله وحده عزَّ وجلَّ (الرزاق ذو القوة المتين) يرزق من يشاء بما شاء كيفما شاء، رزقه وفيرٌ وفضله كبيرٌ، لا يُشاركه في ذلك أحد. فما بال أقوامٍ يظنون أن أرزاقهم بيد غيرهم من البشر؟! فيُطيعونهم طاعةً عمياء ويُقدِّمون لهم فروض الولاء في كل أمرٍ بغير ترددٍ، أما إذا ذُكِّروا بالواحد الأحد الفرد الصمد الذي يرزقهم حقيقةً فالأمر وقتها فيه نظر! لو طُلب منهم أن يحضروا لمقر العمل قبل صلاة الفجر وجدتهم يُسارعون إلى الالتزام بغير مُناقشةٍ ولا اعتراض، وإذا دعاهم ربهم إلى الصلاة واستمعوا إلى صوت المؤذن يُنادي "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" فلديهم حينئذٍ ألف عُذرٍ وعُذرٍ للتفلت والنكوص وتأجيل الصلاة أو حتى التهرب من أدائها! تراهم يُفكرون في الرزق ليل نهار، ولا يكادوا يتذكرون الرزاق سُبحانه وتعالى! هؤلاء في خطرٍ كبيرٍ، عليهم أن يُراجعوا أنفسهم؛ وليتذكروا الآية الكريمة: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾؟ وعلينا جميعاً أن نوقن بأن الله هو (الرزاق ذو القوة المتين) وأن غيره من البشر ليسوا إلا أسباباً لا يملكون لأنفسهم -ولا لغيرهم- نفعاً ولا ضَراً إلا بإذنه تعالى؛ فلنثق في الله سُبحانه وتعالى ونُحسن الظن به ونتوكل عليه ونتقرب إليه بما يُحبه من فروضٍ ونوافل، ثم نأخذ بالأسباب إلى مداها، واثقين أنه لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، موقنين أننا لو حفظنا الله واتقيناه لحفظنا وزاد رزقه لنا؛ فلا نسأل غيره، ولا نستعين إلا به. متأكدين من أن الناس لو اجتمعوا جميعاً لن ينفعونا ولن يضرونا إلا بما قد كُتب لنا أو علينا؛ قال عليه الصلاة والسلام: [احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ].

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا من المؤمنين المُخبتين وممن ترزقهم ربنا بغير حساب، وأعنّا اللهم على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

https://bit.ly/3WfZSyd