الجمعة، 9 يونيو 2023

حيّ على الفلاح

 خاطرة الجمعة /399

الجمعة 9 يونيو 2023م

(حيّ على الفلاح)

 

لاحظتُ وقت صلاة العشاء في أحد أيام الأسبوع الماضي قلة عدد المُصلين في مسجدنا، سألتُ عن السبب؛ فقيل لي إن هناك مباراةً في كُرة القدم تُبث الآن على الهواء مباشرةً. وتأكدتُ من ذلك -بعد انتهاء صلاة العشاء وخروجنا من المسجد- عندما شاهدتُ أحد المقاهي القريب من المسجد يغص بالشباب، الأمر الذي ذكرني بمثيلٍ له يتكرر في المباريات الدولية التي يكون موعد بعضها وقت صلاة الفجر؛ فنجد عشراتٍ من الشباب الذين لا يستيقظون لصلاة الفجر أبداً جالسين في المقهى لمُشاهدة المباراة؛ نراهم ونحن ذاهبون إلى المسجد، ونراهم ونحن عائدون منه!

إنه أمرٌ مؤلمٌ بالتأكيد، لكن الأكثر إيلاماً أن يكون من بين هؤلاء بعض إخوةٍ أفاضل من الذين يُواظبون على صلاة جميع الفروض مع الجماعة في المسجد ثم تفتقدهم مساجدهم وقت مُباريات كُرة القدم!

كيف يُفوِّتون ثواباً عظيماً مُقابل عَرَضٍ زائلٍ لا قيمة له إطلاقاً يوم الحساب؟ ألهذه الدرجة يُزين الشيطان للناس أعمالهم؟ ألا يسمعون مُكبرات الصوت من المساجد حولهم من كل مكانٍ والمؤذنون يُرددون فيها (حيّ على الفلاح)؟ أليس فيهم أو من بينهم رجلٌ رشيد؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

عن تأخير الصلاة عن موعدها كتبت إحداهن تقول: منذ زمنٍ وأنا اتمنى الزواج من ابن عمي، وأرى فيه الرجل المُناسب لي أو كما يقولون: "فارس الأحلام"، وبفضل الله تحقق لي ذلك الحلم؛ تقدم ابن عمي لخطبتي فوافقتُ عليه والسعادة تغمرني بشكلٍ لا يوصف. لكن بعد زواجنا انقلب الأمر وظهرت الحقيقة؛ لم يكن زوجي كما توقعتُ أبداً؛ صرتُ أرى عكس ما كنتُ أراه في أحلامي؛ مشاكلنا تزداد يوماً بعد يومٍ، لا أجد طعماً للراحة، ننسجم مع بعضنا يوماً، ونتشاجر بالأيام وقد تصل إلى أسابيع! وفي كل مرةٍ ينتهي بي الأمر غاضبةً فأذهب للنوم في منزل أُمي وأبي. شكوتُ لأُمي الكثير والكثير مما أُعاني، وأنا دوماً أتساءل: "لماذا يحدث هذا معي؟". وكانت لي أُختٌ تصغرني بسنةٍ، تحدثتُ معها يوماً، أنصحها وأنقل لها خبرتي في الحياة، فقلتُ لها: "يجب أن تنتبهي عندما تختارين زوج المستقبل؛ فبعض الرجال قد تنخدعين بظاهرهم لكنهم في الحقيقة شيءٌ آخر!". هنا كانت المفاجأة؛ فأُختي -التي أعتبرها طفلةً صغيرةً في حاجةٍ إلى النصح والتوجيه والإرشاد- ردت عليّ رداً عجزتُ عن أن أتكلم بعده، قالت لي: "أنا أُحافظ على صلواتي وألتزم بها في وقتها؛ لذلك لستُ أنا من سأختار زوجي، الله سيختاره لي".

فكرتُ بيني وبين نفسي طويلاً؛ هل حقاً كل ما يحدث لي بسبب تهاوني واستهتاري بالصلاة؟ فأنا دائماً أُطيل السهر ولا أستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد أن تُشرق الشمس، وأتهاون في صلواتي الباقية؛ فحتى عندما أكون جالسةً وليس عندي شيءٌ وأسمع الأذان للصلاة، وأسمع (حيّ على الفلاح) فإنني أشغل نفسي بأي شيءٍ؛ أمسك بهاتفي أُحدث أي أحدٍ، أو أبقى مُستلقيةً على السرير بحُجة أن الصلاة لا يُمكن اعتبارها تأخيراً إلا عندما تُصبح قضاءً!

ثم راودني سؤالٌ طرحته على أُختي قلتُ لها: "ماذا قلتِ؟ إن الله سيختار زوجك لأنك مُحافظةٌ على الصلاة؟ لماذا اخترتِ الصلاة دون أي شيءٍ آخر؟"، قالت لي: "لأن الصلاة وحدها هي المقرونة بالفلاح؛ فكيف يُفلح من لا يُصلي؟ وكيف يُفلح من يتهاون بصلاته؟ إن فلاح المُسلم في جميع أموره يرتبط بمقدار اهتمامه بالصلاة". كنتُ أستمع إلى كلام أُختي باهتمامٍ، وعقدتُ النية على التغيير. وسُبحان الله بمجرد أن عقدتُ النية على أن أُحافظ على صلاتي في وقتها اتصل بي زوجي يعتذر، وأخبرني أنه سيأتي ويأخذني إلى المنزل، لا أقول أن حياتي أصبحت بلا مشاكل؛ فالحياة لا بد من المشاكل فيها، ولكن أصبحت مشاكل من نوعٍ آخر؛ لم تعد تلك المشاكل التي تُرغمني على أن أذهب إلى منزل أهلي وأبقى أياماً عديدةً هناك، لم تعد تلك المشاكل التي تجعلني أُفكر في الطلاق وأندب حظي لما يحدث لي، أصبحت مشاكل تُعلمني خطأي وتُعلم زوجي خطأه، صارت خلافاتٍ نعرف أهميتها في الحياة، ونعرف كيف نتداركها، حينها أيقنتُ حقاً لماذا يُنادىَ للصلاة بعبارة (حيّ على الفلاح)؛ فالصلاة هي صلة الإنسان المُسلم بالله سُبحانه وتعالى، وبالمُحافظة عليها في وقتها يكون فلاح الإنسان في الدُنيا والآخرة.

 

أحبتي في الله.. الصلاة في أول وقتها سبيلٌ لدخول الجنة؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾. قال المفسرون: المُحافظة على الصلاة تكون بأدائها أول وقتها خوف فَوْت فضلها.

قال أحد الصحابة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفرٍ، مُسندي ظهورنا إلى مسجده فقال: [ما أجلسكم؟] قلتُ: جلسنا ننتظر الصلاة، قال: فأرَمّ قليلاً "أرَمّ أي: سكت"، ثم أقبل علينا فقال: [هل تدرون ما يقول ربُّكم؟]، قلنا: لا، قال: [فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها، ولم يُضيعها استخفافاً بحقها، فله عليَّ عهدٌ أن أُدخله الجنة، ومن لم يُصلها لوقتها ولم يُحافظ عليها، وضيَّعها استخفافًا بحقِّها، فلا عهد له عليَّ: إن شئتُ عذَّبتُه وإن شئتُ غفرتُ له].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عزَّ وجلَّ: إني فرضتُ على أمَّتك خمس صلواتٍ، وعهدتُ عندي عهدًا أنه من يُحافظ عليهن لوقتهنَّ، أدخلته الجنة، ومن لم يُحافظ عليهن، فلا عهد له عندي].

وقال أحد الصحابة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَن حافظ على الصلوات الخمس ركوعهنَّ، وسجودهنَّ، ومواقيتهنَّ، وعلم أنهن حقٌ من عند الله دخل الجنة]، أو قال: "وجبت له الجنة"، أو قال: "حُرِّم على النار".

وسأل رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله].

وعن صحابيةٍ كانت ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الصلاة على وقتها].

قال شُرّاح الأحاديث: "لوقتها" أو "على وقتها" أي في أول الوقت. وقالوا عن فضل الصلاة في أول وقتها إنها من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، وإنها تُحرِّم فاعلها على النار، وتكون سبباً -برحمةٍ من الله وفضلٍ- في دخول الجنة.

 

وأرسلت إحدى النساء بسؤالٍ إلى شيخٍ جليلٍ؛ قالت: أحياناً أؤخر الصلاة عن وقتها، ليس عن تهاونٍ ولكن لكثرة أعمالي المنزلية، فهل عليّ ذنب؟ فكان جواب الشيخ: "نعم، عليك ذنبٌ، ولا يجوز أن تؤخري الصلاة عن وقتها أبداً، فهي ركنٌ من أركان الإسلام، والله تعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾؛ فلا بد أن تؤديها في وقتها. وأقول لكِ: إذا أديتِ الصلاة كان ذلك معونةً لكِ على أعمالك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾.

ورداً على سؤالٍ آخر عن تأخير صلاة الفجر؛ قال صاحبه: ما حُكم تأخير صلاة الفجر حتى تطلع الشمس دائماً، وفي بعض الأوقات عمداً؟ كانت الإجابة: ذلك مُحرمٌ، حتى إن بعض أهل العلم يقول: "من ترك صلاةً مفروضةً عمداً حتى خرج وقتها فهو كافرٌ والعياذ بالله، وإذا أخرَّها عمداً حتى خرج وقتها لم تُقبل منه ولو صلى ألف مرةٍ"؛ لقول النبي ﷺ: [من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهو ردٌّ] أي مردودٌ عليه؛ فعلى المرء أن يتقي الله عزَّ وجلَّ في نفسه، وأن لا يُضيِّع الصلاة فيدخل في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾.

 

قال أحدهم يصف عبارة (حيّ على الفلاح): هي دعوةٌ إلى الفوز والفرج والنجاح، ما ألطفها وما أحنّها وما أصدقها وما أرقّها من دعوةٍ لا خُسران فيها، إلا لمن تجاهلها ولم يستجب لها.

وقال الشاعر:

ألا فَلْنُصَلِّ لِنَلْقَ الصَّلاح

وحَيَّ نُصَلِّي نُجِبْ لِلْفَلاح

لنُرضِي إلَهي فَذاكَ الرَّباح

ورَحمَةُ رَبِّي فَثَمَّ النَّجاح

أُرِيدُ النَّجاةَ أُرِيدُ السَّماح

وجَنَّاتِ خُلْدٍ ورَوْحٍ وراح

 

أحبتي.. المُحافظة على أداء الصلاة في وقتها من الأعمال التي ينال بها المُسلم محبة الله، وهي سببٌ في مُضاعفة الحسنات، وسبيلٌ للفوز بالجنة؛ فلنعوِّد أنفسنا وأهلنا وأبناءنا على سرعة الاستجابة عندما نسمع المُؤذن يقول: حيّ على الصلاة (حيّ على الفلاح)، فنترك كل ما يشغلنا عن تلبية النداء، مَهما بدا لنا مُهمّاً، ونستعد للصلاة ونؤديها على وجهها الأكمل، ولنتذكر أن من سِمات الصالحين أنهم لا ينتظرون الاستماع إلى الأذان؛ بل يُبادرون فيذهبون إلى المسجد قبل رفع الأذان؛ قال أحد التابعين: "ما أذّن المُؤذن منذ ثلاثين سنةً إلا وأنا في المسجد، إلا أن أكون مريضاً أو مُسافراً".

أحبتي.. إن لم يكن الفلاح في الصلاة ففيمَ يكون؟ وإن لم يكن من يَعِد المُحافظين على الصلاة في أوقاتها، الخاشعين فيها، بالجنة هو الله عزَّ وجلَّ فمن يكون؟ وهو سُبحانه وتعالى القائل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.

وصدق من قال: "من خان حيّ على الصلاة، تخونه (حيّ على الفلاح)؛ فميزان الله عدل".

لقد بات من المُهم أن نُعيد ترتيب أولوياتنا، وأن نُحسِن تنظيم أوقاتنا، نحتاج فقط إلى نيةٍ مُخلصةٍ وعزيمةٍ صادقةٍ فيكون التوفيق بعد ذلك من الله سُبحانه وتعالى.

اللهم لا تجعلنا من الغافلين، واجعلنا من عبادك الصالحين، ويسّر لنا أن نؤدي الصلاة على وقتها فنكون من المُفلحين.

https://bit.ly/3WWEX3m

الجمعة، 2 يونيو 2023

ثمرة الورع

 خاطرة الجمعة /398

الجمعة 2 يونيو 2023م

(ثمرة الورع)

 

في «دمشق» مسجدٌ كبيرٌ اسمه «جامع التوبة»، وهو جامعٌ مُباركٌ، فيه أُنْسٌ وجمال، سُمّي بجامع التوبة؛ لأنه كان خاناً تُرتَكَب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد الملوك في القرن السابع الهجري وهدمه وبناه مسجداً. وكان فيه، من نحو سبعين سنة، شيخٌ مُرَبٍّ عالمٌ عاملٌ، وكان أهل الحي يَثِقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم وأمور دُنياهم، وكان عند هذا الشيخ تلميذٌ صالحٌ، يسكن في غُرفةٍ في المسجد، وكان مَضْرِب المثل في فقره وفي إِبَائِه وعِزَّة نفسه، مرّ عليه يومان لم يأكل فيهما شيئاً، وليس عنده ما يَطعَمه ولا ما يشتري به طعاماً؛ فلما جاء اليوم الثالث أَحَسَّ كأنه مُشْرِفٌ على الموت،

وفكَّر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطّرار الذي يُجيز له أكْل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة، فآثر أن يسرق ما يُقِيمُ صُلْبَه.

وكان المسجد في حيٍ من الأحياء القديمة، والبيوت فيها مُتلاصقةٌ، والأسطح مُتَّصِلةٌ، يستطيع المرء أن ينتقل من أول الحي إلى آخره مَشْياً على أسطح البيوت؛ فصعد إلى سطح المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمَح فيها نساءً فغَضّ من بصره وابتعد، ونظر فرأى بجانبها داراً خاليةً، وشمَّ رائحة الطبخ تصعد منها، فأحس من جوعه لمّا شمّها كأنها مغناطيسٌ يجذبه إليها، وكانت الدور من طابقٍ واحدٍ، فقفز قفزتين من السطح إلى الشُّرفة فصار في الدار، وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القِدر، فرأى فيها باذنجاناً مَحشُوّاً، فأخذ واحدةً ولم يُبالِ من شدة جوعه بسخونتها، وعضّ منها عضةً، فما كاد يبتلعها حتى ارتدّ إليه عقله ودينه، وقال لنفسه: "أعوذ بالله، أنا طالب علمٍ مُقيمٌ في المسجد، ثم أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟". وكَبُر عليه ما فعل، فندم واستغفر ورَدّ الباذنجانة، وعاد من حيث جاء. فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد -من شدة الجوع- يفهم ما يسمع، فلما انقضى الدرس وانصرف الناس جاءت امرأةٌ مُسْتَتِرة فكلَّمَت الشيخ بكلامٍ لم يسمعه تلميذه، فتلفّت الشيخ حوله فلم يَرَ غيرَه، فدعاه، وسأله: "هل أنت مُتزوج؟"، قال: "لا"، سأله: "هل تُريد الزواج؟"، فسكت؛ فقال له الشيخ: "قُل، هل تُريد الزواج؟"، قال: "يا سيدي، ما عندي ثمن رغيفٍ آكله فبماذا أتزوج؟!"، قال الشيخ: "إنّ هذه المرأة أخبّرتني أن زوجها تُوفي، وأنها غريبةٌ عن هذا البلد، ليس لها فيه ولا في الدُنيا إلا عمٌّ شيخٌ فقير، وقد جاءت به معها -وأشار إليه قاعداً في ركن الحلقة- وقد ورِثَت دار زوجها ومعاشَه، وهي تُحِبُّ أن تجد رجلاً يتزوجها على سُنة الله ورسوله، لئلا تبقى مُنفردةً فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام، فهل تُريد أن تتزوج بها؟"، قال: "نعم"، وسألها الشيخ: "هل تقبلين به زوجاً؟"، قالت: "نعم"، فدعا بعَمِّها ودعا بشاهدين وعقد العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: "خُذ بيد زوجتك"، فأخذ بيدها، أو أخذت هي بيده فقادته إلى بيتها، فلما دخلته كشفت عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هو البيت الذي نزله! وسألته: "هل تأكل؟ "، قال: "نعم"؛ فكشفت غطاء القِدْر فرأت الباذنجانة

فقالت: "عجباً! مَن دخل الدار فعضّها؟!"، فبكى الرجل وقصّ عليها الخبر، فقالت له: "هذه (ثمرة الورع)، عفَفْتَ عن الباذنجانة الحرام؛ فأعطاك الله الدار كُلَّها وصاحبتَها بالحلال".

 

روى هذه القصة الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، في كتابه: «فصولٌ في الثقافة والأدب»، وقال عنها: "إنها قصةٌ واقعيةٌ أعرِف أشخاصها وأعرف تفاصيلها وأروي ما فعل الرجل، لا أحكم على فعله بأنه خيرٌ أو شر، أو أنه جائزٌ أو ممنوع ".

 

أحبتي في الله.. الورع: هو اجتناب الشُبهات خوفاً من الوقوع في المُحرمات.

وعن الورع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُنْ وَرِعًا تَكُنْ من أَعْبَدِ الناسِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [فَضْلُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِينِكُمُ الْوَرَعُ]، وفي روايةٍ: [فَضْلُ العِلْمِ أفْضَلُ مِنَ العِبادَةِ، ومِلاكُ الدِّينِ الوَرَعُ]. وعبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن الورع كله في عبارةٍ واحدةٍ فقال: [مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ]، فهذا -كما يقول الفقهاء- يعم الترك لما لا يعني الإنسان المُسلم من الكلام والنظر والاستماع والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة. والورع البُعد عن الحرام واجتنابه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الحلالَ بيِّنٌ وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس؛ فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه، ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرامِ، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ مَلكٍ حمًى، ألا وإنَّ حمى اللهِ محارمُه]. والمعنى: أن على المرء ألا يدخل في المُتشابهات التي قد تورده المُحرمات، بل عليه أن يقف عند الحلال البيِّن، ففيه كفايةٌ للمرء عن الدخول في المُتشابهات. وقال صلى الله عليه وسلم: [دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ]، أي: دع الشيء الذي تشكّ فيه إلى الشيء الذي لا شكَّ فيه. ومن الورع البر وحُسن الخُلُق؛ قال عليه الصلاة والسلام: [البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ، والإِثْمُ ما حاكَ في صدْرِكَ، وكرِهْتَ أنْ يَطلِعَ عليه الناسُ]. وحين جاء صحابيٌ إلى النبي فقال له صلى الله عليه وسلم: [جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثمِ]، فقال: نعم، قال له عليه الصلاة والسلام: [استَفْتِ قلبَك: البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفسُ، واطمأنَّ إليه القلبُ، والإثمُ ما حاك في النَّفسِ وتردَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاك الناسُ وأَفْتَوْك].

 

فالورع -كما يرى أهل العِلم- هو في الأصل: الكفّ عن المحارم، والبُعد عن الشُبهات، وهو عامٌ في كل قولٍ وفعلٍ وعِلمٍ وعملٍ وعبادةٍ ومُعاملةٍ وعلاقة. وعلى المؤمن أن يتحرَّى الخير والمُباح والطيب في قوله وعمله وسيرته، ويتباعد عن المُشتبهات، أو محلّ الريب، يرجو ثواب الله وفضله وإحسانه وهذه هي (ثمرة الورع).

والورع قسمان: ورعٌ واجبٌ: وهو ترك المُحرمات وفعل الواجبات، وورعٌ مُستحبٌ: وهو ترك ما يُشتبه في تحريمه، وفعل ما يُشتبه في وجوبه.

وينشأ خُلُق الورع من الخوف والخشية من الله، وكلما زاد الخوف في قلب المؤمن كلما زاد ورعه وتوقيه مما يضره في الآخرة، وكلما نقص الخوف في قلب المؤمن نقص ورعه وخاض في المُحرمات وتساهل في أسبابها.

يقول العلماء إن الورع يحجز عن محارم الله تعالى، وعن انتهاك حدوده أو تضييع فرائضه، ويحمل النفس على الطاعات وعلى المُراقبة للمولى سُبحانه، وإذا كان المرء كذلك فقد سلم له دينُه، وهذا ما كان عليه سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- فعمّروا دِينهم ودُنياهم، وانقلبوا إلى ربهم سالمين من الأوزار، فأثابهم الله (ثمرة الورع) صلاحاً في دُنياهم، وحُسن مآبٍ في أُخراهم.

 

وقيل عن الورع: "كل ما شككتَ فيه فالورع اجتنابه"، "من خاف صبر، ومن صبر ورع، ومن ورع أمسك عن الشُبهات"، "ما رأيتُ أسهل من الورع؛ ما حاك في نفسك فاتركه"، "ما لاريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في حُرمته فليس فعله من الورع"، "أفضل العبادة التفكر والورع"، "إن الدين مع الورع هو الخير كله"، و"الورع أول الزُهد، كما أنَّ القناعة أول الرضا".

وقال الشاعر:

جليلُ العطايا في دقيقِ التورُّعِ

فدقِّقْ تنلْ عالي المقام المُرّفعِ

وتسلمْ من المحظورِ في كلِّ حالةٍ

وتغنمْ مِن الخيراتِ في كُلِّ موضعِ

وقال آخر:

تورَّع ودعْ ما قد يُريبك كلَّه

جميعاً إلى ما لا يُريبك تسلمِ

وحافظْ على أعضائِك السبعِ جُملةً

وراعِ حقوقَ الله في كُلِّ مُسلمِ

وكُنْ راضياً بالله ربّاً وحاكماً

وفوِّض إليه في الأمورِ وسَلِّمِ

 

أحبتي.. أختم بقولٍ أعجبني لأحد السادة العُلماء؛ قال: تورّعْ عن الوقوع في الشُبهات، وتورع عن تعاطي المُنكرات، واعلم أن مَن دقّ في الدنيا ورعُه، جلّ في القيامة خطرُه. عليك بالورع؛ ففي الورع سلامةٌ للمرء في دُنياه وفي أُخراه. عليك بالورع، ليخفّف الله حسابك، وادفع الشّك باليقين يسلمْ لك دِينك.

 عليكم بالورع؛ الْزَمُوه، وتعلموه، وعلموه أبناءكم، واجعلوه خُلُقاً شائعاً في أُسَرِكُم، ومُجتمعاتكم، حتى نجني (ثمرة الورع) مُجتمعاً صالحاً نظيفاً، لا يتطلع فيه أحدٌ إلى ما ليس له.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الورع، وأن يُعيننا على ترك الشُبهات، والبُعد عن المُحرمات. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، يا رب العالمين.

https://bit.ly/45Gn8d0

الجمعة، 26 مايو 2023

الصديق الوفي

 خاطرة الجمعة /397

الجمعة 26 مايو 2023م

(الصديق الوفي)

أمسك بهاتفه واتصل بصديقه وقال له: "أُمي مريضةٌ وليس معي ثمن الدواء"، ردّ عليه صديقه: "تمام يا صاحبي؛ اتصل بي بعد ساعة". اتصل بصديقه بعد ساعةٍ فوجد هاتفه مُغلقاً! أعاد اتصاله مراتٍ ومراتٍ دون جدوى حتى ملّ من ذلك؛ فصار يبحث عمن يُقرضه ثمن الدواء فلم يجد أحداً! أحس أن الدنيا كلها ضاقت به، وأن الكون لم يعد يسعه، حزن كثيراً لأجل والدته المريضة، وحزن أكثر لخذلان صديقه له، وتساءل بينه وبين نفسه هل هذا هو (الصديق الوفي)؟ لم يعرف ماذا يفعل. عاد إلى البيت يجر خيبته، وجد أمه نائمةً وملامح الراحة باديةً على وجهها، وبجانبها علب دواءٍ؛ سأل أخته عمن أحضر الدواء، قالت له: "جاء صديقك قبل قليلٍ وأخذ الوصفة ثم أحضر الدواء". ضحك والدمع في عيونه وخرج مُسرعاً يبحث عن صديقه حتى وجده فقال له: "اتصلتُ بك عدة مراتٍ وهاتفك مُغلق"، فأجابه صديقه: "نعم؛ لقد بعتُ هاتفي واشتريت بثمنه الدواء ﻷمنا!".

 

أحبتي في الله.. هكذا تكون الصداقة الحقة؛ فالوفاء شرف الصداقة. لكن هل كل صديقٍ يكون وفياً وقت الحاجة؟ في القصة التالية إجابةٌ عن هذا السؤال:

‏كان هناك شابٌ يعمل والده في تجارة الجواهر والياقوت، وكان الشاب يؤثر أصدقائه ويُغدق عليهم بالمال، وهُم بدورهم يُجلونه ويحترمونه بشكلٍ لا مثيل له، وتدور الأيام دورتها، ويموت الوالد، وتفتقر العائلة افتقاراً شديداً، فقلّب الشاب في ذكرياته ليبحث عن أصدقائه؛ فتذكر أعز صديقٍ كان يُكرمه وكان أكثرهم مودةً وقُرباً منه، وعلم أنه قد أثرى ثراءً لا يوصف وأصبح من أصحاب القصور والأملاك والأموال؛ فتوجه إليه عسى أن يجد عنده عملاً أو سبيلاً لإصلاح حاله، فلما وصل باب القصر استقبله الخدم والحشم فذكر لهم صلته بصاحب القصر وما كان بينهما من مودةٍ قديمةٍ؛ فذهب الخدم فأخبروا صديقه بذلك؛ فنظر إليه من خلف الستار فرأى شخصاً رث الثياب عليه آثار الفقر فرفض لقاءه، وأخبر الخدم أن يُخبروه أن صاحب القصر لا يُمكنه استقبال أحد. خرج الشاب والدهشة تغلب عليه، هل هذا هو (الصديق الوفي)؟ كان يتألم، ويتعجب على الصداقة وكيف ماتت، وعلى القيم وكيف تذهب بصاحبها بعيداً عن الوفاء. بالقرب من داره صادف الشاب ثلاثةً من الرجال عليهم أثر الحيرة وكأنهم يبحثون عن شيءٍ فسألهم: "ما أمر القوم؟"، فقالوا له: "نبحث عن رجلٍ يُدعى فلان بن فلان" وذكروا اسم والده؛ فقال لهم: "إنه أبي، وقد مات منذ زمن"، فقالوا: "إن أباك كان يُتاجر بالجواهر، وله عندنا قطعٌ نفيسةٌ من المرجان كان قد تركها عندنا أمانة"

وأخرجوا كيساً كبيراً مليئاً بالمرجان ودفعوه إليه ورحلوا عنه والدهشة تعلوه، لا يكاد يُصدق ما يرى ويسمع، لكن تساءل أين اليوم من يشتري المرجان؟ إن بيعه يحتاج إلى أثرياء والناس في بلدته ليس فيهم من يملك ثمن قطعةٍ واحدةٍ. مضى في طريقه وبعد برهةٍ من الوقت صادف سيدةً كبيرةً في العُمر عليها آثار النعمة والخير، فقالت له: "يا بُني أين أجد جواهر للبيع في بلدتكم؟"، فتسمر الشاب في مكانه وسألها: "عن أي نوعٍ من الجواهر تبحثين؟"، فقالت: "أية أحجارٍ كريمةٍ رائعة الشكل، وسأشتريها بأي ثمن"، فسألها إن كان يُعجبها المرجان فقالت له: "نِعمَ المطلب"، فأخرج بضعة قطعٍ من الكيس؛ فأُدهشت السيدة مما رأت؛ فابتاعت منه قطعاً، ووعدته بأن تعود لتشتري منه المزيد. وهكذا عادت حال الشاب إلى يُسرٍ بعد عُسرٍ، وعادت تجارته تنشط بشكلٍ كبيرٍ، فتذكر بعد حينٍ من الزمن ذلك الصديق الذي ما أدى حق الصداقة ولم يكن وفياً معه؛ فبعث إليه مع أحد الأصدقاء ببيتين من الشعر قال فيهما:

صحبتُ قوماً لئاماً لا وفاءَ لهم

يدعون بين الورى بالمكرِ والحيلِ

كانوا يجلونني مُذ كنتُ ربَ غنىً

وحين أفلستُ عدّوني من الجُهلِ

فلما قرأ ذلك الصديق هذين البيتين كتب على ورقةٍ ثلاثة أبياتٍ وبعث بهم إلى الشاب، قال فيهم:

أما الثلاثةُ فقد وافوكم من قِبَلي

ولم تكن سبباً إلا من الحيلِ

أما من ابتاعت المرجانَ والدتي

وأنت أنت أخي بل مُنتهى أملي

وما طردناك من بُخلٍ وقِللِ

ولكن عليك خشينا وقفةَ الخجلِ

 

الصداقة هي الصُحبة عن محبةٍ، وهي مأخوذةٌ من الصدق؛ لأن (الصديق الوفي) يصدُق صديقه ويُصِّدُقه. وقد حثّ الشرع على حُسن اختيار الأصدقاء لما لهم من تأثيرٍ قويٍّ على الأفكار والمُعتقدات والاتجاهات والسلوك؛ قال صلى الله عليه وسلم: [المرءُ على دينِ خليلِه؛ فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، وجَلِيسِ السُّوءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ...].

 

يقول أهل العِلم إن (الصديق الوفي) هو من يُذكِّرك بالله تعالى، وإن من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الصديق حتى يكون صديقاً صالحاً: الوفاء والأمانة والصدق والبذل، والبُعد عن ضد ذلك من الصفات. ويُقال الرفيق قبل الطريق. والصداقة إذا لم تكن على الطاعة فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوةٍ؛ يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾. وفي الآخرة يتحسّر أَهْلُ النَّارِ على فوات صُحبة الصالحين فيقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾، قال المفسرون: يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحاً نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحاً شَفَعَ. وكان سيدنا عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنه، يقول: "عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ فَإِنَّهُمْ عُدَّةُ الدُّنْيَا وَعُدَّةُ الآخرة".

وقال الشاعر:

إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خَيَارَهُمْ

وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي

عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدِي

وقال آخر:

إِذا لَم يَكُن صَفوُ الوِدادِ طَبيعَةً

فَلا خَيرَ في وِدٍّ يَجيءُ تَكَلُّفا

وَلا خَيرَ في خِلٍّ يَخونُ خَليلَهُ

وَيَلقاهُ مِن بَعدِ المَوَدَّةِ بِالجَفا

وَيُنكِرُ عَيشاً قَد تَقادَمَ عَهدُهُ

وَيُظهِرُ سِرّاً كانَ بِالأَمسِ قَد خَفا

سَلامٌ عَلى الدُنيا إِذا لَم يَكُن بِها

صَديقٌ صَدوقٌ صادِقُ الوَعدِ مُنصِفا

 

يُقال للخِل الحميم و(الصديق الوفي) "صاحب" لكثرة مُصاحبته، وهو الوصف الذي وصف به المولى عزَّ وجلَّ سيدنا أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو أقرب الناس إلى قلب الحبيب المُصطفى عليه الصلاة والسلام؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. وسُمي أكثر الناس مُصاحبةً لنبينا الكريم "الصحابة". ويُقال في الأمثال عن الصاحب: "الصاحب ساحب".

 

أحبتي.. لينظر كلٌ منا إلى أصدقائه خاصةً الأقرب منهم إليه، ليرى إن كانوا يسحبونه نحو الخير والعمل الصالح فنعمّ الأصدقاء هُم؛ فليحمد الله على وجودهم في حياته، ويُعزز علاقته بهم، أما إن كان العكس فبئس الأصدقاء هُم، ويكون التخلص منهم مكسباً، يزداد بقدر سُرعة إنهاء علاقتنا بهم. نفس الأمر ينطبق على أبنائنا وبناتنا علينا أن نُساعدهم على حُسن اختيار الأصدقاء والأصحاب؛ ليكونوا خير مُعينٍ لهم يصحبونهم دائماً إلى طريق الخير والهُدى والرشاد، ويكونوا مثل الأصحاب الذين أشارت لهم الآية الكريمة: ﴿لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ أولادنا، وقيض لنا (الصديق الوفي) الذي يأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاك ومرضاتك، ويُبعدنا عما فيه غضبك وسخطك.

https://bit.ly/43uX42m

 

الجمعة، 19 مايو 2023

الرزاق ذو القوة المتين

 خاطرة الجمعة /396

الجمعة 19 مايو 2023م

(الرزاق ذو القوة المتين)

يروي أحد الشباب العراقيين هذه القصة، يقول: منذ عدة سنواتٍ جمعني لقاءٌ بشيخٍ عراقيٍّ تجاوز عمرُه وقتئذٍ مائةَ سنةٍ، زارني في بيتي ببغدادَ، وبعد جلسةٍ مؤنسةٍ وادِعةٍ سألتُه مُغتنماً الفرصة: "ما أعجبُ ما مرَّ بك يا عمّ في عُمرك المديد؟!"؛ فأطرق برأسَه هُنيهةً ثم رفعه مُتنهداً وقال: "لقد رأيتُ في حياتي أحداثاً عجيبةً، ولكن أعجبها إليَّ ما سوف أقصُّه عليك، فاحفظ عني وخُذ العبرةَ لك ولمن وراءك!".

قال الشيخ: كُنا في الزمن الغابر، نقتاتُ في بعض مواسم السنة على ما نقومُ بصيده، وكنتُ قد خرجتُ ذاتَ موسمٍ أصطاد، ومرَّت بضعةُ أيامٍ وأنا أتربَّصُ للصيد دون جدوى، حتى بدأ اليأسُ من الحصول على الرزق يدبُّ إلى نفسي في تلك الغدوة. وبينما أنا كذلك أراني الله عجباً؛ لقد رأيتُ ثُعباناً يُراقبُ شيئاً ما ويتحرَّك نحوه ببطءٍ، فتبعتُه حتى رأيتُ أمامَه يربوعاً صغيراً يأكلُ من خَشاش الأرض، سرعان ما صار بين فكيِّ الثُعبان وبدأ بابتلاعه، وأنا في مكمني أتابعُ المشهد، وأرى جسمَ اليربوع يتنقَّلُ في جوف الثعبان ببطءٍ من حلقه إلى وسطه، وعندما وصلَ اليربوعُ إلى نحو نصفِ جسم الثُعبان تحرَّكتُ نحوه وأنا لا أدري لِمَ تحركتُ، وأخرجتُ بُندقيتي وصوبتُ فوهتَها نحو رأس الثُعبان وأطلقتُ رصاصةً خرقَتَه وتركَتَه يتلوى قليلاً ثم سكن.

أقبلتُ على الثُعبان وأخرجتُ حربتي وطعنتُ في الموضع المنتفخ من جلده وشققتُه، فخرجَ اليربوعُ وفيه رمَقٌ، لم يمُت بعد! ركزتُ حربتي في الأرض وجلستُ غيرَ بعيدٍ منه وأنا أتأملُ فيما صنعتُ؛ لا أدري ما الذي دفعني لفعل ذلك! رأيتُ الحياةَ تعودُ إلى اليربوع، بدأ يمشي ويُحاولُ الركضَ لكنه يترنَّحُ يُمنةً ويُسرةً، بدأ يُسرع، رَكْضَتُهُ مُستقيمةٌ، يا الله لقد نجا، لقد نجا! لم أكد أُنهي خاطرَتي إلاّ وصقرٌ كبيرٌ ينقَضُّ من عُلوٍّ كالبرق، فيُنشبُ مخالبَه في جسد اليربوع ليطيرَ به بعيداً ويختفي عن مدى بصري ويتركني في ذهولٍ من مشهدٍ سريعٍ خاطفٍ مرَّ كلمح البصر، ولكني شعرتُ حينئذٍ بأنَّ رسالةً ما قد بلغتني عن ربي مفادُها: [ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك، وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ]؛ نعم إنَّ الله هو من يُعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع. لقد أفدتُّ من ذلك الدرس ألا أهتم للرزق ما حييتُ، أسعى بقدر استطاعتي ولكني أعلم يقيناً أن الأرزاق بيد الله وحده. وها أنا ذا يا ولدي أمامَك قد جاوزتُ المئة، ومرَّ على تلك الحادثة قُرابة سبعين سنةٍ وأنا أتقلَّبُ في رزقِ ربي، ﴿لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾.

يقول الشاب: الآن وبعد مُرور سنين عديدةٍ على لقائي مع ذلك الشيخ ما زلتُ أتأمل في ذلك الدرس الذي تعلمته منه، وأعلم يقيناً أن الرزق والأجل كلاهما بيد الله وحده، ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.

لقد وافى الثعبانَ أجلُهُ في لحظةٍ ظفرَ فيها برزقٍ وافرٍ كان يظنُّ أنَّه سوف يستمتعُ به، وإذا به رزقُ غيره سيخرجُه الله له من داخل جوف الثُعبان وهو لا يعلم! وأما اليربوع فقد أُكِلَ مرَّتين، وكانت المرةُ الثانيةُ في اللحظة التي ظنَّ فيها أنه نجا بالفعل، ولم يعلم أن مُستقرَّهُ سوف يكون في بطنٍ آخر بعد أن يُقطَّعَ إرَباً! وأما أمرُ الطائر فهو الأعجبُ عندي، فقد أخرجَ اللهُ له رزقَهُ من أغرب مكانٍ، من بطن الثُعبان، وسخَّر له المخلوقَ الأرقى في الأرض ليقومَ بتلك المُهمة ويُقرِّب إليه رزقه!

يا الله ما أبلغَهُ من درسٍ. لعلَّ الشيخ قد فارقَ الحياة على الأغلب، لكنَّ صورته لم تُفارق مُخيلتي، وكلما ضاقت أبوابُ الرزق أتذكَّرُ ذلك الشيخَ وأقول: «الزَمها فهي موعظةُ مُعمِّر».

 

أحبتي في الله.. لا شك في أن الله هو وحده الرزاق؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾. وهو المُتفرد بالرزق وحده لا شريك له؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾. يتفضل برزقه على من يشاء من عباده بغير حدٍ ولا عدٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. ورزقُ الله للعباد صورةٌ من صور لُطفه بهم؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾. والرزق عطاءٌ من رب العزة لا يختص به المؤمنين دون غيرهم، بل هو لجميع البشر؛ المؤمن منهم والكافر، البَرّ منهم والفاجر؛ يقول تعالى: ﴿كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾. ورزق الله واسعٌ لا ينفد، باقٍ لا يزول؛ يقول تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾. ولا يقتصر رزقه على البشر فقط، فالرزاق سبحانه تكفّل بأرزاق الخلائق جميعاً، من إنسانٍ وحيوانٍ وطيورٍ وغيرهم من المخلوقات، وقسَم لكلٍ منهم رزقه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾، ويقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾.

يقول أهل العلم إن الله سبحانه قائمٌ على كل نفسٍ، وَسِع الخلقَ كلهم برزقه، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى القوي المُعافَى، مُتكفلٌ بالأقوات وإيصالها؛ فهو سُبحانه (الرزاق ذو القوة المتين) ما من مخلوقٍ إلا وهو مُتمتعٌ برزقه، مغمورٌ بكرمه، يبعث إليه من الرزق ما يُصلحه، حتى الذرّ في باطن الأرض {الذر صغار النمل}، والطير في الهواء، والحيتان في الأعماق، والأجنّة في الأرحام، والحشرات في الصخور، فسُبحان الرزاق العليم، يُسبغ نعمه على جميع مخلوقاته. إن خزائن الله عزَّ وجلَّ مملوءةٌ بكل شيءٌ، يُعطي منها جميع الخلائق، ولا تنقص إلا كما تنقص إبرة الخياطة إذا أُدخلت البحر، ولو سأله جميع الخلائق فأعطاهم لم ينقص ذلك من مُلكه شيئاً؛ يقول الله في الحديث القدسي: [.. يَا عِبَادِي: لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ]. وأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى كيفية طلب الرزق فقال: [أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ]. وتطمئن النفوس إلى كفاية من تكفّل بأرزاقها، فرزقُها يطلبها كأجلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ ابنَ آدمَ هرَبَ من رزقِهِ كما يهرَبُ من الموتِ، لأدْرَكَهُ رزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ الموتُ].

يقول العلماء إن الإيمان والتقوى سببان عظيمان للحصول على البركات والأرزاق؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. والمعاصي تذهب بالأرزاق؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [.. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ]. وتزيد الأرزاق بالشكر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. ومن الأرزاق ما هو خفيٌ؛ كالقناعة والرضا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ]. ومِن جميل رزقه وأرفعه أن يرزق عبده عِلماً هادياً، ولساناً مُرشداً مُعلِماً، ويداً مُنفقةً مُتصدقةً. وإن أعظم رزقٍ يرزقه الله عباده، وأحسنه وأكمله وأفضله وأكرمه وأعلاه وأدومه، وهو الذي لا ينقطع ولا يزول، هو أن يرزقهم الجنة بفضله ومنّه وكرمه.

 

أحبتي.. إنه هو الله وحده عزَّ وجلَّ (الرزاق ذو القوة المتين) يرزق من يشاء بما شاء كيفما شاء، رزقه وفيرٌ وفضله كبيرٌ، لا يُشاركه في ذلك أحد. فما بال أقوامٍ يظنون أن أرزاقهم بيد غيرهم من البشر؟! فيُطيعونهم طاعةً عمياء ويُقدِّمون لهم فروض الولاء في كل أمرٍ بغير ترددٍ، أما إذا ذُكِّروا بالواحد الأحد الفرد الصمد الذي يرزقهم حقيقةً فالأمر وقتها فيه نظر! لو طُلب منهم أن يحضروا لمقر العمل قبل صلاة الفجر وجدتهم يُسارعون إلى الالتزام بغير مُناقشةٍ ولا اعتراض، وإذا دعاهم ربهم إلى الصلاة واستمعوا إلى صوت المؤذن يُنادي "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" فلديهم حينئذٍ ألف عُذرٍ وعُذرٍ للتفلت والنكوص وتأجيل الصلاة أو حتى التهرب من أدائها! تراهم يُفكرون في الرزق ليل نهار، ولا يكادوا يتذكرون الرزاق سُبحانه وتعالى! هؤلاء في خطرٍ كبيرٍ، عليهم أن يُراجعوا أنفسهم؛ وليتذكروا الآية الكريمة: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾؟ وعلينا جميعاً أن نوقن بأن الله هو (الرزاق ذو القوة المتين) وأن غيره من البشر ليسوا إلا أسباباً لا يملكون لأنفسهم -ولا لغيرهم- نفعاً ولا ضَراً إلا بإذنه تعالى؛ فلنثق في الله سُبحانه وتعالى ونُحسن الظن به ونتوكل عليه ونتقرب إليه بما يُحبه من فروضٍ ونوافل، ثم نأخذ بالأسباب إلى مداها، واثقين أنه لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، موقنين أننا لو حفظنا الله واتقيناه لحفظنا وزاد رزقه لنا؛ فلا نسأل غيره، ولا نستعين إلا به. متأكدين من أن الناس لو اجتمعوا جميعاً لن ينفعونا ولن يضرونا إلا بما قد كُتب لنا أو علينا؛ قال عليه الصلاة والسلام: [احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ].

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا من المؤمنين المُخبتين وممن ترزقهم ربنا بغير حساب، وأعنّا اللهم على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

https://bit.ly/3WfZSyd

 

الجمعة، 12 مايو 2023

هو الحكيم الخبير

 خاطرة الجمعة /395

الجمعة 12 مايو 2023م

(هو الحكيم الخبير)

تحت عنوان "عندما يكون السارق شريفاً" كتب الشاعر والكاتب الباكستاني "أديب مرزا" المتوفي سنة 1999م في كتابه "المصباح" يقول:

ذهبتُ إلى «دلهي» في الستينات للعمل.. وفي أحد الأيام نزلتُ من الحافلة؛ ثم فتشتُ جيوبي لأتفاجأ بأن أحدهم قد سرقني، وما كان في جيبي حين نُهبت سوى تسع روبياتٍ، ورسالةٍ في مظروفٍ كنتُ قد كتبتها إلى أمي أقول في الرسالة: "أمِّي الحنون، فُصلتُ من عملي، لا أستطيعُ أن أُرسل لكِ هذا الشهر مبلغ الخمسين روبية المعتاد". وكنتُ قد وضعتُ رسالتي هذه في جيبي منذ ثلاثة أيامٍ على أمل أن أُرسلها في وقتٍ لاحقٍ بما يتوفر من روبيات، وبالرغم من أن الروبيات التسع التي سُرقت لا تُساوي شيئاً؛ لكن الذي فُصل من عمله؛ وسُرق ماله تساوي في نظره 9000 روبية! مضت أيامٌ ثم وصلتني رسالةٌ من أمي.. توجستُ خوفاً، وقلتُ في نفسي: "لا بد أنها طلبت المبلغ الذي اعتدتُ إرساله إليها"، لكني عندما قرأتُ الرسالة احترتُ كونها تحمل شكرها ودعواتها لي، قائلةً: "وصلتني منك 50 روبية عبر حوالتك المالية، كم أنت رائعٌ يا بني، تُرسل لي المبلغ في وقته ولا تتأخر بتاتاً، رغم أنهم فصلوك من عملك، أدعو لك بالتوفيق وسعة الرزق..".

عشتُ مُتردداً مُحتاراً لأيام.. مَنْ يا تُرى الذي أرسل هذا المبلغ إلى أُمي؟!! وبعد أيامٍ وصلتني رسالةٌ أُخرى بخط يدٍ بالكاد يُقرأ، كتب فيها صاحبها: "حصلتُ على عنوانك من ظرف الرسالة، وقد أضفتُ إلى روبياتك التسعة، إحدى وأربعين روبيةً كنتُ قد جمعتها سابقاً، وأرسلتها بحوالةٍ ماليةٍ إلى أُمك حسب العنوان الذي في رسالتك.. وبصراحةٍ فإني قد فكرتُ في أُمي وأُمك، فقلتُ في نفسي: لماذا تبيت أُمك أيامها طاويةً على الجوع وأتحمل ذنبك وذنبها؟ تحياتي لك.. أنا صاحبك الذي سرقك في الحافلة.. فسامحني"!

 

أحبتي في الله.. سبحانه وتعالى يدبر أمور الكون كله ويصرف شئون العباد و(هو الحكيم الخبير). انظروا كيف دبّر الله أمر تلك المرأة كبيرة السن، لا تعمل ولا عائل لها، ويبعد عنها ابنها الذي يكفلها آلاف الكيلومترات! وانظروا كيف تم التدبير! لقد سخّر المولى عزَّ وجلَّ سارقاً لإيصال رزقه إلى تلك المرأة عندما عجز ابنها عن ذلك! فسُبحان من رقّق قلب هذا السارق لها! سُبحانه وتعالى يُدّبر الأمر من حيث لا نحتسب؛ أليس (هو الحكيم الخبير)؟!

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى بطلها هو الآخر لص! قصةٌ تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي تقول إن شخصاً اتصل بأحد البرامج الإذاعية الصباحية الذي يُبث يومياً على إحدى الإذاعات الأردنية، وعرّف المتصل بنفسه على أنه حرامي يقتات من السرقة! ولديه قصةٌ يُريد أن يقولها عبر الإذاعة ليُعرِّف الناس بها علهم يجدون حلاً للغزٍ حيَّره. لم يُصدق المذيع أن أحداً يُعرِّف بنفسه على أنه حرامي واعتقد بأنّ في الأمر دُعابةً، إلا أنه سمح للحرامي أن يقص قصته ويسرد وقائعها! قال الحرامي إنه دأب على مراقبة ڤيلا في إحدى أرقى ضواحي العاصمة الأردنية بمنطقة «عبدون» لمدةٍ تقرب من الشهر؛ لأنه كان ينوي سرقة الڤيلا لمعرفته بأنها شبه خاويةٍ من أهلها، لكنه وأثناء مراقبته لاحظ أمراً عجيباً؛ فبين كل يومٍ ويومٍ يأتي رجلٌ وامرأةٌ ومعهما شابٌ أو فتاةٌ أو أكثر، وبعد مُضي بعض الوقت يخرج الرجل والمرأة ولا يخرج من كان معهما أبداً؛ فبدأ بالمراقبة الحثيثة للڤيلا عله يعرف متى ستكون خاويةً لينقضّ عليها ويسرقها، لكنه كان يرى ذات الشيء يتكرر؛ الرجل والمرأة يخرجان ولا يخرج من كان بصحبتهما! ومما زاد من حيرته واستغرابه كيف يبقى كل هؤلاء الشباب والفتيات في ظُلمةٍ بغير أي ضوءٍ وبلا حركةٍ تظهر من أيٍ منهم؟! راقب كل منافذ الڤيلا والأسوار المحيطة بها عله يرى باباً سحرياً أو منفذاً يخرج منه هؤلاء، فلم يرَ شيئاً! الأمر الذي دعاه للاتصال بالبرنامج لأنه لا يستطيع أن يلجأ إلى الشرطة مُعرّفاً بنفسه أنه حرامي يريد أن يسرق تلك الڤيلا! فما كان من القائمين عن البرنامج الإذاعي إلا التأكد من كلام ذلك الحرامي والاتصال بالأمن ليكتشف المجتمع الأردني واحدةً من أبشع جرائم العصر؛ إذ اكتشف رجال الأمن أن الڤيلا كانت مقبرةً جماعيةً وسوقاً للأعضاء البشرية، واكتشفوا أن الرجل والمرأة هما من سماسرة الأعضاء البشرية، يُحضران الشباب والفتيات ويُخدِّرونهم ثم يقتلونهم بعدما يأخذون الأعضاء المُناسبة من أجسامهم كالنخاع الشوكي والكليتين والقلب وكل ما يلزم، ثم يدفنون موتاهم في الڤيلا المجهزة بالثلاجات وكافة الوسائل لحفظ الأعضاء البشرية!

جريمةٌ كشفها لصٌ، ما كانت لتخطر على بال أحد، في وسط أرقى أحياء «عمّان» وفي وضح النهار! وهكذا أسدل هذا الحرامي الستار عن واحدةٍ من أبشع الجرائم!

ورغم نفي الجهات المسئولة صحة هذه الواقعة، فإنه لا يوجد ما يمنع حدوثها بالفعل، وهي تُبين لنا أن الله إذا أراد لشيءٍ أن يكون فإنه يُسّخر من يشاء لفعل ما يشاء وقت ما يشاء وكيفما شاء أليس (هو الحكيم الخبير)؟

 

يقول أهل العلم إن اسم الله (الحكيم) ورد في القرآن الكريم إحدى وتسعين مرةً، واقترن بـ(الخبير) أربع مراتٍ، وورد اسم الله (الخبير) في القرآن الكريم خمساً وأربعين مرةً. والآيات التي اقترن فيها الاسمان هي: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.

فالله عزَّ وجلَّ حكيمٌ، موصوفٌ بكمال الحكمة، وبكمال الحُكم بين المخلوقات؛ فهو واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، تام القدرة، يضع الأشياء مواضعها، ويُنزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، حكيمٌ فيما أمر به ونهى، وأثاب وعاقب، وفيما خلق وقدّر، وفي تدبيره شئون جميع خلقه، لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل.

وهو سُبحانه خبيرٌ مُطلعٌ على الظواهر والبواطن، والسرائر والضمائر وخفايا الأمور، أحاط علمه بالماضي والحاضر والمستقبل، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، لا يجري في مُلكه وملكوته شيءٌ إلا ويكون عنده خبره، عالِمٌ بدقائق الأمور، عالِمٌ بما كان وما سيكون وما هو كائنٌ وما لم يكن لو كان كيف يكون.

يُدبر سُبحانه وتعالى الأمر؛ بتقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حالٍ وأفضل عاقبةٍ، يُقدِّر أمر جميع الكائنات والمخلوقات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويُهيئ بقدرته أسبابها لتجيء محمودة العاقبة.

سُبحانه وتعالى (هو الحكيم الخبير) المدبر لشئون خلقه، لا يكون من أمرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ إلا بعلمه وتقديره.

 

أحبتي.. قدرة الله لا حدود لها؛ فهو عزَّ وجلَّ ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾، وهو ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾، كما أنه ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ وهو ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، وهو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ و(هو الحكيم الخبير)، وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ لا شيء يُعجزه؛ فلنُحسن الظن به، نلجأ إليه، ونتوكل عليه، وندعوه ونُلح في الدعاء ونحن موقنون بالإجابة، ونأخذ بالأسباب، حينها تتنزل علينا رحمته؛ فيستجيب دعاءنا، ويُحقق رجاءنا، ويُدهشنا ليس فقط بكرم عطائه بل وبالطريقة التي يصل لنا عطاؤه بها!

أنصح نفسي وإياكم بتقوى الله، والإخلاص له، والثقة فيه، وحُسن الظن به، ثم علينا الأخذ بالأسباب التي لا تُخالف الشرع إلى مداها، ولا نحمل بعد ذلك هّم الإجابة؛ فسيُدّبر لنا الله برحمته وقدرته ما فيه نفعٌ لنا، ولو عن طريق عدوٍ، أو بواسطة شخصٍ نستبعد تماماً أن يكون مصدر خير!

أهم ما يتوجب علينا فعله أحبتي هو التقرب إلى الله بالمُحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {...وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...}.

اللهم ثبّتنا على الهُدى، وزِد إيماننا، وقوِ عزائمنا، وأعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/3MjhWmD

 

الجمعة، 5 مايو 2023

القاتل الصامت

 خاطرة الجمعة /394

الجمعة 5 مايو 2023م

(القاتل الصامت)

من القصص الواقعية، كتبت إحداهن تقول: تزوجتُ قبل عشر سنواتٍ من شابٍ مُدخنٍ دون علمي أنه يدخن.. ورغم ثقافته ورزانته وحُسن تعامله، ومُحافظته على الصلاة، إلا أنني ذقتُ الجحيم والمصائب من جراء تدخينه ورائحته النتنة ورائحة ملابسه، وحاولتُ أن أشجعه على ترك التدخين فكان يعدني خيراً ولكنه يُماطل ويُسوّف.. واستمر هذا الوضع حتى كرهتُ نفسي؛ فقد كان يُدخن في السيارة وفي المنزل وفي كل مكانٍ حتى إنني فكرتُ في طلب الطلاق بسبب التدخين.. وبعد أشهر رزقني الله بطفلٍ كان يمنعني من طلب الطلاق. أُصيب طفلنا بالربو الشُعَبي وذكر الطبيب أن سبب ذلك يعود إلى التدخين، وخصوصاً حوله، لأن والده يُدخن بجواره.. ولم ينثنِ زوجي عن التدخين، وذات ليلةٍ قمتُ من نومي على سُعال طفلي؛ كان يسعل بشدةٍ بسبب ربو الأطفال، وقمتُ أبكي لحاله وحالي، فعزمتُ أن أُنهي هذه المأساة بأي ثمن، ولكن هاتفاً أخذ يهتف بداخلي لماذا لا تلجئي إلى الله؟ قمتُ وتوضأتُ وصليتُ ما شاء الله لي أن أُصلي، ودعوتُ الله بأن يُعينني على هذه المصيبة ويهدي زوجي لترك التدخين (القاتل الصامت)، وقررتُ الانتظار.

وذات ليلةٍ كنا نزور مريضاً من أقاربنا مُنوماً في إحدى مستشفيات «الرياض»، وبعد خروجنا من زيارة المريض وأثناء توجهنا لموقف السيارات أخذ زوجي يُدخن فكررتُ الدعاء له في سري، وبالقُرب من سيارتنا لمحتُ طبيباً يرتدي البالطو الأبيض يبحث عن سيارته هو الآخر داخل الموقف، ثم فجأةً قام بالاقتراب من زوجي وقال له: "يا أخي أنا مُنذ السابعة صباحاً وأنا أُحاول مع فريقٍ طبيٍ إنقاذ حياة أحد ضحايا هذه السجائر اللعينة من مرض سرطان الرئة! وهو شابٌ في مثل عمرك ولديه زوجةٌ وأطفال!! ويا ليتك تذهب معي الآن لأُريك كيف يُعاني هذا المريض، ويا ليتك ترى كيف حال أبنائه الصغار وزوجته الشابة من حوله، ويا ليتك تشعر بدموعهم وهُم يسألونني كل ساعةٍ عن وضع والدهم، ويا ليتك تُحس بما يشعر به وهو داخل غرفة العناية المركزة حينما يرى أطفاله يبكون وترى دموعه تتساقط داخل كمامة الأُكسجين، لقد سمحتُ لأطفاله بزيارته لأنني أعلم من خبرتي بأنه سيموت خلال ساعاتٍ إلا أن يشاء الله أن يرحمه، ثم يا ليتك تشعر به وهو ينتحب ويبكي بكاء الأطفال لأنه يعلم خطورة حاله وأنه سيودّعهم إلى الدار الآخرة!! أتريد أن تكون مثله لكي تشعر بخطورة التدخين (القاتل الصامت)؟! يا أخي أليس لك قلب؟! أليس لك أطفالٌ وزوجة؟! لمن تتركهم؟! أيهونون عليك لمجرد سيجارةٍ لا فائدة منها سوى الأمراض والأسقام؟!".

سمعتُ أنا وزوجي هذه الكلمات، وما هي إلا لحظاتٌ حتى رمى زوجي سيجارته، ومن ورائها علبة السجائر، فقال له الطبيب المُخلص: "عسى ألا تكون هذه الحركة مُجاملةً منك، أرجو أن تكون صادقاً مع نفسك؛ وسترى الصحة والسعادة!!". ثم ذهب إلى سيارته وأنا أرمقه، بُح صوتي وتجمعت العبرات في مُقلتيّ، وانفجرتُ من البكاء حتى ظهر صوتي، عجزتُ عن كتم شعوري، ولم أتمالك نفسي وأخذتُ أبكي وكأنني أنا زوجة ذلك المسكين الذي سيموت. أما زوجي فقد أخذه الوجوم، وأطبق عليه الصمت ولم يستطع تشغيل سيارته إلا بعد فترة، وأخذ يشكر ذلك الطبيب، ويكيل له عبارات الثناء والمدح، ويقول يا له من طبيبٍ مُخلص. وكانت هذه نهاية قصة زوجي مع التدخين.

 

أحبتي في الله..

يقول أهل العلم إن التَّدخين (القاتل الصامت) مُحرمٌ شرعاً؛ لما فيه من خُبثٍ وأضرارٍ ومفاسد كثيرةٍ وعظيمةٍ على المدخِّن وعلى غيره من أهله وأصدقائه وكل مَن يكون بقُربه عندما يُدخِّن، وذلك بالأدلة الشَّرعيَّة من القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة الشَّريفة.

فمن القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾، وتُبين الآية أن كلَّ طيِّبٍ حلالٍ وكلَُ خبيثٍ حرامٌ، ولا شك أن الدخان يُصنف من الخبائث لا من الطيبات من حيث الطعم والرائحة والآثار في البدن. ويقول تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، فالآية الكريمة تدعو إلى عدم قتل النَّفس، وكلُّ ما يؤدِّي إلى إهلاك النَّفس فهو مُحرَّمٌ، ومن المعروف أن التَّدخين سببٌ رئيسيٌّ لأمراضٍ خطيرةٍ فتَّاكةٍ بجسم الإنسان وصحَّته، ومن هنا كان التَّدخين مُحرَّماً؛ لأنَّه قتلٌ للنَّفس؛ فقد أجمع الأطبَّاء على أنَّ التَّدخين يُسبِّب العديد من الأمراض منها السرطان؛ ممَّا يؤدي إلى الموت، ويدخل ذلك في الانتحار المُحرَّم، ومن المعلوم أنَّ المحافظة على النَّفس واجبٌ شرعيٌ، كما أنَّه مقصدٌ من مقاصد الشَّريعة. والتدخين يهدر المال فيما لا ينفع، والإسلام نهى عن الإسراف في المال، وعدَّ المسرف مُبذِّراً لماله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.

ومن السُنة النبوية قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ [يَنْهَى عن قيلَ وقالَ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وإضَاعَةِ المَالِ] والدخان فيه إضاعةٌ للمال واستهلاكٌ لمبالغ طائلةٍ بلا فائدة. ووجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفظ النَّفس وعدم الاضرار بها، وقال: [لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ]، أي أنَّ ما يُسبَّب ضرراً للإنسان فهو مُحرَّمٌ يجب الابتعاد عنه، والتَّدخين فيه أضرارٌ كثيرةٌ وليس ضرراً واحداً. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الضرر سواءً كان ضرراً جسمياً أو مادياً أو نفسياً، والدخان ضارٌ بكل ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ]، وفي الحديث أيضاً أنه قال: [مَن آذى مُسلِمًا فقدْ آذاني، ومَن آذاني فقدْ آذَى اللهَ] والمُدخن يؤذي الناس برائحته سواءً وقت التدخين أو بعد التدخين؛ فالتدخين له رائحةٌ كريهةٌ تعافها النفس وتنفر منها، ولا شكَّ أنَّ مَن يكون حول المدخِّن لا يطيق الاقتراب منه بسبب تلك الرائحة، والإسلام حرص على تجنُّب الإضرار بالنَّاس والابتعاد عن كلِّ ما ينفِّرهم؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [مَن أكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا -أوْ قالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- ولْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ]. وقال كذلك: [إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وجَلِيسِ السُّوءِ كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ؛ فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أنْ يَحْذِيَكَ وإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وإِمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ إِمَّا أنْ يَحْرِقَ ثَيابَكَ وإِمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبيثَةً] فهل يُعدّ المُدخِّن حاملاً للمسك، أم أنَّه أقرب ما يكون إلى نافخ الكير؟ وفضلاً عن ذلك كله فقد نهانا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن "كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ"، فهل يُجادل أحدٌ في أن الدخان مفترٌ للجسم؟ ألا ترى المُدخن ضعيفاً واهناً يتعب من أقل مجهودٍ، يشكو من ضيق الصدر وصعوبة التنفس وينتابه السُعال؟

 

ويقول العلماء إنه إذا اعتبر البعض أن التدخين معصيةٌ لكنه صغيرةٌ من الصغائر؛ فالجواب أن الصغيرة يكون لها حكم الكبيرة بواحدٍ من الأشياء التالية:

الإصرار عليها، التهاون بها والاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها، الفرح والسرور بها.

 

ومن الوسائل التي يرى المختصون أنها تُساعد على ترك التدخين (القاتل الصامت): العزم على التَّوبة إلى الله من التَّدخين وطلب العون منه على تركه. والمُحافظة على الصلوات الخمس؛ حيث إنَّها تنهى عن المنكر. وقوَّة النيَّة والإرادة في التَّرك. والصَّبر والثَّبات في بداية الإقلاع عن التَّدخين؛ لأنَّه سيسهُل ويصبح أكثر بساطةً فيما بعد ولن يعود إليه صاحبه بإذن الله. ومن المهم كذلك الابتعاد عن كلِّ ما يزيد الرَّغبة بالتَّدخين، كالجلوس مع المدخنين.

فمن ابتُلي بالتدخين -أياً كان نوعه سجائر أو سيجاراً أو شيشةً "أرجيلة" أو سيجارةً إلكترونية- ومن باب أولى من ابتُلي بالمُكيفات الأخرى، عليه أن يُقلع فوراً ويتوب، ويعترف بخطئه عسى الله أن يرزقه التوبة، ويُخفف عنه أعراض الإقلاع، لا أن يُكابر وتأخذه العزة بالإثم؛ فيؤذي نفسه ويؤذي أحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه.

 

أحبتي.. أعلم أن عادة التدخين تتحول مع الأيام إلى اعتيادٍ وتعوْدٍ وتصير نوعاً من الإدمان، لكن مع قوة الإيمان ومع العزيمة الصادقة وطلب العون من الله بإخلاصٍ يمكن أن يُقلع عن التدخين، مثله في ذلك مثل كثيرٍ من الناس الذين أيقنوا أن التدخين حرامٌ شرعاً؛ فآثروا رضا الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- على اتباع الهوى وتسليم النفس للشهوات؛ فتركوا التدخين (القاتل الصامت).. هؤلاء ينظر الناس إليهم على أنهم أذكياء اختاروا طريق الهُدى والصواب واغتنموا الفرصة قبل أن تضيع فيصلوا إلى وقتٍ لا ينفع فيه الندم.

أخي وعزيزي المدخن كُن ذكياً واختر لنفسك ولأهلك وأبنائك سبيل الرُشد، ولا تترك نفسك لتكون من الغافلين الذين تصفهم الآية الكريمة: ﴿وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا عِلماً، وأصلح لنا شأننا كله، ولا تتركنا لأنفسنا طرفة عين.

https://bit.ly/3HKlhto

 

الجمعة، 28 أبريل 2023

إسلام عالِم

 خاطرة الجمعة /393

الجمعة 28 إبريل 2023م

(إسلام عالِم)

كثيرٌ من الناس يدخلون في الإسلام يومياً، وتختلف أسباب اعتناق كلٍ منهم الإسلام، لكن بعضهم له قصةٌ عجيبةٌ تقف وراء إسلامه؛ منهم العالِم الفرنسي «موريس بوكاي».

تبدأ القصة في عام 1881م حين أعلن مُدير الآثار المصرية الفرنسي آنذاك «جاستون ماسبيرو» عن العثور على مجموعةٍ من المومياوات، كان من بينها مومياء عجيبةٌ لم تتغير كثيراً على الرغم من بقائها لأكثر من 3500 عاماً، وكانت هذه الجُثة للملك «رمسيس الثاني»، هذا الملك هو نفسه فرعون «موسى»!

بعد ذلك بمائة عامٍ، وفي عام 1981م تسلم الرئيس الفرنسي الراحل «فرانسوا ميتران» زمام الحُكم في «فرنسا» ليطلب من الحكومة المصرية في نهاية الثمانينات استضافة مومياء «فرعون» لإجراء اختباراتٍ وفحوصاتٍ أثريةٍ عليها؛ وفعلًا تم نقل جُثمان أشهر طاغوتٍ عرفته الأرض «فرعون» إلى «باريس»، وهناك عند سلم الطائرة اصطف الرئيس الفرنسي مُنحنياً هو ووزراؤه وكبار المسؤولين الفرنسيين ليستقبلوا «فرعون» استقبالاً ملكياً وكأنه مازال حياً!

عندما انتهت مراسم الاستقبال حُملت مومياء الطاغوت بموكبٍ لا يقل حفاوةً عن استقباله، وتم نقله إلى جناحٍ خاصٍ في مركز الآثار الفرنسي، ليبدأ بعدها أكبر علماء الآثار في «فرنسا» وأطباء الجراحة والتشريح دراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها، وكان رئيس الجراحين والمسؤول الأول عن دراسة هذه المومياء هو البُروفيسور «موريس بوكاي». وبينما كان المُعالجون مُهتمين بترميم المومياء، كان اهتمام «موريس» مُنصباً على مُحاولة اكتشاف كيفية موت هذا الفرعون؛ فجُثة «رمسيس الثاني» لم تكن كباقي جُثث الفراعين التي تم تحنيطها من قبل، فوضعية الموت عنده غريبةٌ جداً، إذ فوجئ المُكتشفون عندما قاموا بفك أربطة التحنيط بيده اليُسرى تقفز فجأة للأمام! أي أن من قاموا بتحنيطه أجبروا يديه على الانضمام لصدره كباقي الفراعين الذين ماتوا من قبل! فأخذ البُروفسور «بوكاي» يُحلل الجُثة لعله يجد حلاً لذلك اللغز، وفي ساعةٍ متأخرةٍ من الليل ظهرت النتائج النهائية للبروفيسور «موريس»؛ لقد كانت هناك بقايا للملح عالقةً في جسد الفرعون، وتبين أيضاً مع صورةٍ بأشعة إكس أن عظام «فرعون» قد انكسرت من دون أن يتمزق الجلد المُحيط بها! فاستنتج البُروفسور الفرنسي من ذلك أن الفرعون قد مات غرقاً، وأن سبب انكسار عظامه دون تمزق اللحم كان بسبب الضغط الرهيب الذي سببته المياه في أعماق البحر الساحقة، ولكن الغريب أن جُثة «فرعون» رغم سُقوطها في قاع البحر العميق يبدو عليها أنها طفت بشكلٍ غريبٍ على سطح البحر بسُرعةٍ ليتم تحنيطها فوراً قبل تحلل الجُثة! واستطاع «بوكاي» أيضاً تفسير الوضعية الغريبة ليد «رمسيس» اليُسرى، فلقد أوضح «بوكاي» أن «فرعون» كان يُمسك لجام فرسه أو السيف بيده اليُمنى، ودرعه باليد اليُسرى، وأنه في وقت الغرق رأى شيئاً غريباً أدى لتجنش أعصابه بشكلٍ فظيعٍ ساعة الموت، ونتيجةً لشدة المفاجأة وبلوغ حالته العصبية ذروتها ودفعه الماء بدرعه فقد تشنجت يده اليُسرى وتيبست على هذا الوضع، فاستحالت عودتها بعد ذلك لمكانها! وهذه الحالة تُشبه تماماً حالة تيبس يد الضحية وإمساكها بشيءٍ من القاتل كملابسه مثلاً، ولكن سؤالاً أخيراً بقي يُحير البروفسور «موريس بوكاي»، وهو كيف بقيت هذه الجُثة أكثر سلامةً من غيرها رغم أنها استُخرجت من البحر الذي من المفروض أن يعمل أكثر على سرعة تحلل الجُثة؟!! فأعد البُروفيسور الفرنسي «موريس بوكاي» تقريراً نهائياً لكي يُعلن للعالم عن اكتشافه الجديد، أو ما كان يعتقد أنه اكتشافٌ جديدٌ، فقرر أن يعقد مؤتمراً صحفياً لكي يُعلن ذلك، قبل أن يهمس أحد مُعاونيه في أُذنه: "لا تتعجل يا سيد «بوكاي» فإن المُسلمين يعرفون هذا الشيء بالفعل!"؛ فتعجب البُروفيسور من هذا الكلام، واستنكر بشدةٍ هذا الخبر واستغربه، فمثل هذا الاكتشاف لا يُمكن معرفته إلا من خلال أجهزةٍ حاسوبيةٍ حديثةٍ بالغة الدقة، ثم -وهو الأهم- أن مومياء «رمسيس» تم اكتشافها أصلاً عام 1898م، فازداد البُروفيسور ذهولاً وأخذ يتساءل: "كيف يستقيم في العقل هذا الكلام، والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئاً عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جُثث الفراعنة أصلاً إلا قبل عقودٍ قليلةٍ؟!". فجلس «موريس بوكاي» ليلته بالمُختبر مُحدِّقاً بجثمان «فرعون»، وهو يسترجع في ذهنه ما قاله له زميله أن قرآن المُسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق! في الوقت الذي لا يوجد أي ذكرٍ في الكتاب المقدس عندهم لمصير الجثة بعد غرقها، وانهالت التساؤلات على ذهن «موريس»، ثم قرر أن يطلب نُسخةً من الكتاب المُقدس، فأخذ يقرأ: "فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش «فرعون» الذي دخل وراءهم في البحر، ولم يبقَ منهم أحدٌ!". وبقي «موريس بوكاي» حائراً، فحتى الكتاب المُقدس، الذي يزعم علماء النصارى أن مُحمداً قد سرق منه قصص الأنبياء السابقين، لم يتحدث من قريبٍ أو بعيدٍ عن نجاة هذه الجُثة وبقائها سليمةً! فمن أين أتى هذا البدوي بهذه الحقيقة العلمية وهو في أعماق الصحراء؟!

بعد أن تمت مُعالجة جُثمان «فرعون» وترميمه أعادت «فرنسا» لمصر المومياء، ولكن «موريس» لم يهدأ له بالٌ منذ أن هزه الخبر الذي يتناقله المُسلمون عن سلامة هذه الجُثة، فحزم أمتعته وقرر السفر إلى «السُعودية» لحضور مؤتمرٍ طبيٍ فيه جمعٌ من علماء التشريح المُسلمين، وهناك كان أول حديثٍ معهم عما اكتشفه من نجاة جُثة «فرعون» بعد الغرق؛ فقام أحدهم وفتح المصحف وأخذ يقرأ قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، يقول «بوكاي»: "لقد كان وقع هذه الآية عليّ شديداً؛ فوقفتُ أمام الحضور وصرختُ بأعلى صوتي: "لقد آمنتُ برب هذا الكتاب، لقد آمنتُ بالرسول الذي جاء به! لقد دخلتُ الإسلام وآمنتُ بهذا القرآن". كانت هذه بداية قصة (إسلام عالِم)، لكن القصة لم تنتهِ بعد!

رجع «موريس بوكاي» إلى «فرنسا» بغير الوجه الذي ذهب به، وهناك مكث عشر سنواتٍ ليس لديه شغلٌ يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمُكتشفة حديثاً مع القرآن الكريم، فكانت ثمرة هذه السنوات أن خرج بتأليف كتابٍ من أعظم كُتب القرن العشرين، وقع هذا الكتاب كالزلزال في أوساط الكنيسة في «روما»، فلقد كان عنوان الكتاب «القرآن والتوراة والإنجيل والعِلم.. دراسة الكُتب المُقدسة في ضوء المعارف الحديثة»، ومن أول طبعةٍ له نفد من جميع المكتبات في «أوروبا»! ثم أُعيدت طباعته بمئات الآلاف من النسخ بعد أن تُرجم من لغته الأصلية الفرنسية إلى سبع عشرة لغةً منها العربية والإنكليزية والإندونيسية والتركية والألمانية، لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب، وليدخل من خلاله آلاف الناس في الإسلام. ومما كتبه في هذا الكتاب: "لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القُرآن دهشتي العميقة في البداية، فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عددٍ كبيرٍ إلى هذا الحد من الدقة بموضوعاتٍ شديدة التنوع، ومُطابقتها تماماً للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصٍ قد كُتب منذ أكثر من أربعة عشر قرناً". "لقد قمتُ أولاً بدراسة القُرآن الكريم، وذلك دون أي فكرٍ مُسبقٍ وبموضوعيةٍ تامةٍ، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومُعطيات العلم الحديث، وكنتُ أعرف أن القُرآن يذكر أنواعاً كثيرةً من الظواهر الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزةً، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعتُ أن أُحقق قائمةً، أدركتُ بعد الانتهاء منها أن القُرآن لا يحتوي على أية مقولةٍ قابلةٍ للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث". ويقول «موريس بوكاي»: "لو كان قائل القُرآن إنساناً، فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنتمي إلى عصره؟". ويقول: "كيف يُمكن لإنسانٍ أنْ يُصرِّح بحقائق ذات طابعٍ علميٍ لم يكن في مقدور أيِّ إنسانٍ في ذلك العصر أنْ يُكِّونَهَا، وذلك دون أنْ يكشف تصريحه عن أقلِّ خطأٍ من هذه الوجهة؟". ويقول: "القُرآن فوق المستوى العلمي للعرب، وفوق المستوى العلمي للعالَم، وفوق المستوى العلمي للعُلماء في العصور اللاحقة، وفوق مستوانا العلمي المُتقدم في عصر العلم والمعرفة، ولا يمكن أن يصدر هذا عن أميٍ؛ وهذا يدل على ثبوت نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنه نبيٌ يُوحى إليه".

 

أحبتي في الله.. انتهت قصة (إسلام عالِم) بوفاة «موريس بوكاي» في «باريس» بتاريخ 18 فبراير 1998م، لكن قصص إسلام العُلماء ما تزال مستمرةً يوماً بعد يوم، رغم تشكيك البعض في إسلامهم؛ وسُبحان القائل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.

وما يزال الناس -عُلماء وغير عُلماء-يدخلون في دين الله أفواجاً مصداقاً لحديث النبي؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمرُ مَا بَلَغَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ، بعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ].

 

أحبتي.. أعتذر لكم عن الإطالة، لكن يكفينا من عرض هذه القصة أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على كل شيءٍ، بما في ذلك أن يجعل من قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ ومات كافراً، يجعله سبباً في (إسلام عالِم) بعد أكثر من 3500 عاماً، ليكون هذا العالِم سبباً لاعتناق الآلاف للإسلام، تحولوا بعدها ليكونوا دعاةً للإسلام بأخلاقهم وسلوكهم ومعاملاتهم المُعبرة بصدقٍ عن الإسلام وشريعته أفضل تعبير. فسبحان الله العظيم، مُقلب القلوب ومُسبب الأسباب، والهادي إلى كل خيرٍ.

يقول تعالى: ﴿یُرِیدُونَ أَن یُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَاهِهِمۡ وَیَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّاۤ أَن یُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ . هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/3LiIHac