الجمعة، 20 أغسطس 2021

أليس منكم رجلٌ رشيد؟

 

خاطرة الجمعة /305


الجمعة 20 أغسطس 2021م

(أليس منكم رجلٌ رشيد؟)

 

قرأتُ مقالاً نُشر قبل حوالي أسبوعين عن حال شريحةٍ من الشباب في بلدٍ عربيٍ الغالبية العُظمى من مواطنيه مسلمون. هزني المقال هزاً عنيفاً؛ فالمقال يتضمن معلوماتٍ مُروعةً تُدلي بها شاهدة عيانٍ -هي ذاتها الصحفية التي كتبت المقال ونشرته في واحدةٍ من أهم صُحف ذلك البلد- كتبت تقول:

ما يفعله الشباب في الساحل الشمالي شيءٌ يُثير الخوف والحزن والاشمئزاز والذهول! أيّامٌ قليلةٌ أمضيتها في قريةٍ سياحيةٍ حرصتُ خلالها على التجول في مختلف القرى الأخرى الممتدة على طول الساحل فرأيتُ العجب العُجاب! شيءٌ لا يصدقه عقل! انحرافٌ لا مثيل له في العالم! شبابٌ ضائعٌ، صايعٌ، غير مسؤولٍ، فهل هؤلاء الشباب هُم مَن نُعَوِّل عليه لحمل راية الوطن والدفاع عنه؟!

ساقتني الصدفة لحضور حفلٍ -لمطربٍ شعبيٍ- لم أستطع البقاء فيه لأكثر من خمس عشرة دقيقة، لم تكن المفاجأة من حضور هذا العدد الضخم من الشباب، ولكن من سلوك هؤلاء الشباب؛ الكل -بلا استثناء- يرفع يده حاملاً كؤوس الخمر وفي حالة سُكرٍ غير عاديةٍ، ويتمايل يميناً وشمالاً، ويرقص بلا وعيٍ على إيقاع موسيقى تصم الآذان. هذا بخلاف مَنْ تلمحه عن بُعدٍ يختلس قبلةً ساخنةً دون اكتراثٍ بمن حوله، وكأننا في ماخور! ناهيك عن المظهر غير اللائق والعُري المُستباح، والتزاحم والتدافع وسط زحامٍ هائلٍ وكأننا في يوم الحشر! شيءٌ حقاً لا يُحتمل! لقد تفوقنا على المجتمعات الأجنبية في الانحلال والتمزق الاجتماعي؛ ما هذه العادات الغريبة الوافدة إلينا من الشيطان!؟ تُرى إلى أي طبقةٍ ينتمي هذا الشباب غير المسؤول، خاصةً بعد أن تعرف أن تذكرة الدخول للحفل كانت بألف جنيه، هذا إضافةً إلى المشروبات الكحولية والمزات والطعام والذي منه! أما إذا نزلتَ في الصباح أو ساعة العصاري على شواطئ بعض القرى السياحية على الساحل، فترى صورةً قبيحةً من الفتيات اللاتي يتجولن بالمايوهات البكيني والتكيني دون حياءٍ ولا كسوف! شيءٌ حقاً يُثير الذهول والقرف. هل هذا هو شباب الطبقة الأرستقراطية في بلدنا؟! هل هؤلاء الشباب -الذي من المفترض أنه ينتمي إلى عائلاتٍ راقيةٍ- هُم مَن سيتحمل المسؤولية؟! أين ذهبت أعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا؟! أين ذهبت الأسرة المتماسكة المترابطة؟! أين الآباء والأمهات الذين يُلقنون أبناءهم الأدب والأصول والأخلاق؟! حقاً، حزنتُ كثيراً على هؤلاء!

 

أحبتي في الله .. نقلتُ لكم المقال بتصرفٍ يسير؛ لنرى معاً صورةً واقعيةً لحال بعض الشباب في بلدنا المسلمة، ونسأل هؤلاء (أليس منكم رجلٌ رشيد؟).

لقد ذكرني هذا المقال بمقالٍ آخر نشره أحدهم منذ فترةٍ قال فيه:

كان الموقف مؤثراً ومثيراً للشفقة في ذات الوقت، مع احتراق القلب لما آل إليه حال الشباب محط آمال المستقبل، وذخيرة الغد، وعدة الأمة لملاقاة الأعادي، لقد كان المشهد لصبيٍ في مقتبل شبابه يبكي من كل قلبه، وبمنتهى الأسى والأسف لأن الفريق الذي يُشجعه خسر إحدى مبارياته، حتى لقد انعقد لسانه عن الرد على المذيع الذي لفت انتباهه شدة بكاء الصبي فأسرع ليعرف سبب هذا البكاء المرير، ويُحاول ترضيته بأنها ليست النهاية، ولكن الصبي لم يستطع أن يُتم الحديث وترك المُحاور وذهب وهو يبكي بكاءً مُراً.

يُذكرنا كاتب المقال بواقعةٍ حدثت عندما كان الصليبيون يخططون لإخراج المسلمين من الأندلس؛ إذ بعث الصليبيون أحد جواسيسهم إلى أرض الأندلس المسلمة ليعرف ما إذا كان الوقت مناسباً لإخراج المسلمين منها أم لا، وبينما الجاسوس يتجول في أراضي المسلمين إذا به يرى غلاماً يبكي وبجواره شابٌ يُطيِّب خاطره، فسأل الجاسوس الشاب: "ما الذي يُبكي صاحبك؟"، فقال: "يبكي لأنه كان يُصيب عشرة أسهمٍ من عشرةٍ في الرمي، لكنه اليوم أصاب تسعةً من عشرة"؛ فأرسل الجاسوس إلى الصليبيين يُخبرهم: «لن تستطيعوا هزيمة هؤلاء القوم فلا تغزوهم». ومرت الأعوام وتغيرت الأحوال وتبدلت معها الهمم والهموم، وجاء الجاسوس الصليبي إلى أرض المسلمين مرةً أخرى، فرأى شابين أحدهما يبكي والآخر يُطيِّب خاطره، فسأله الجاسوس: "ما الذي يُبكي صاحبك؟"، فأجابه: "إنه يبكي لأن فتاته التي يُحبها قد هجرته إلى غيره"؛ فأرسل الجاسوس إلى قومه: «أن اغزوهم الآن فإنهم مهزومون».

 

وإذا كان للأمر علاقةٌ بالتطور، فالتطور أمرٌ لا اعتراض عليه، إنه سُنة الحياة، وهو مقبولٌ من الجميع، لكن لا يستقيم أن يكون التطور بغير ضوابط ولا مرجعية، وإلا نكون قد فقدنا بوصلتنا، وفقدنا الاتجاه الصحيح.

إنّ ضوابطنا ومرجعيتنا في جميع مجالات الحياة -نحن المسلمين- هي الشريعة التي ارتضاها الله لنا؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة من فوق جبل الرحمة: [... تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ ...]. فأين نحن من كتاب الله؟ وهل التطور والحداثة يعنيان البُعد عن الدين وعن شرع الله؟ هل يجب على المسلمين أن يتخلوا عن عقيدتهم وأحكام دينهم حتى لا يوصفوا بأنهم متخلفون؟ لماذا نقبل الدنية في ديننا وقد أخبرنا المولى عزَّ وجلَّ بأننا الأعلون شرط أن نكون مؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾؟

هل من الحضارة والتقدم والمدنية والحداثة مجاراة أصحاب العقائد الباطلة فنكون كما وصفنا نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، حين قال: [لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ]؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: [فَمَن؟!].

هل اعتبرنا النهي عن المنكر من مخلفات الماضي؟ ألم نتعظ بما حدث لبني إسرائيل واستحقوا عليه لعنة الله؛ يقول تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

هل تاهت خطانا؟ هل أضعنا الطريق؟ أما آن لنا أن نستشعر مسئوليتنا عن حفظ الدين من الضياع؟ ثم ماذا نحن فاعلون إزاء كل ما نراه بأم أعيننا؟ هل نظل في حالة السلبية التي نحن عليها؟ أم يدفعنا الواقع المتردي -والذي يزداد كل يومٍ رداءةً وسوءاً- إلى أن نكون إيجابيين؟

هؤلاء الشباب -المشار إليهم في المقالين- أليس لهم أهل؟ ألا يوجد أبٌ يُوجه وأمٌ تُربي؟ أليس لهم إخوةٌ كبارٌ يرشدونهم؟ أليس لهم أخوالٌ وأعمامٌ يهتمون بأمرهم؟ أليس لهم أصدقاء صالحون يهدونهم إلى الهدى يقولون لهم: ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ﴾؟ أليس لهم ولي أمرٍ سمع بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، ...]. ألم يتعلم هؤلاء الشباب في مدارسهم شيئاً عن الحلال والحرام؟ ألم يسمعوا شيئاً عن المعلوم من الدين بالضرورة؟ ثم أين هو دور الجهات المسئولة لمواجهة مثل هذه التصرفات؟ هل هم راضون عن ذلك ويعتبرون كل هذه المخالفات الدينية الصارخة نوعاً من الحرية الشخصية؟ ألم تأخذهم الغيرة على دين الله؟ ألم يسمعوا بالأثر المعروف عن الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حين قال: «إنَّ اللهَ يَزَعُ بالسلطانِ ما لَا يَزَعُ بالقُرآن»؟

أسأل هؤلاء جميعاً: (أليس منكم رجلٌ رشيد؟).

 

أليس ما نراه منكراً؟ ألم يسمع البعض منا -أو أحدنا على الأقل- بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ]؟ وإذا كان قد سمع فماذا فعل؟

يقول أهل العلم إنه قد يكون الرجل صالحاً في نفسه، ويكون الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مُتعيناً عليه، ومع ذلك يُقصِّر فيه، فيقع ما ورد في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ، أَنْزَلَ اللهُ بَأسَهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَالِحُونَ؟ قَالَ: [نَعَمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِم صَالِحُونَ، يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ]، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بأن فيهم صالحين.

يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قال المفسرون: إذا كثُر المفسدون وقَلَّ الصالحون هلك المفسدون والصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف. واللهِ إني لأخشى إنْ قصَّرنا وتقاعسنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنْ يشملنا قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

 

أحبتي .. نقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، و«حسبنا الله ونعم الوكيل». ومع ذلك ينبغي علينا -ونحن نرى ما نرى- ألا نظل سلبيين كأن الأمر لا يخصنا أو يعنينا، إنه ديننا الذي أوشك أن يضيع منا، علينا أن نبدأ بأنفسنا، نُصلح أحوالنا وأحوال أبنائنا، ونُعلمهم ونُوجههم ونُرشدهم؛ نُعلمهم دينهم وسُنة نبيهم، ونُوجههم بأن نكون لهم قدوةً عمليةً يتمثلونها في حياتهم، ونُرشدهم إلى صحيح الدين في كل صغيرةٍ وكبيرة، وليكن ذلك باللين والحُسنى؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ولنعلم جميعاً أننا محاسبون عن تقصيرنا.

علينا أحبتي أن نتحول جميعاً من مسلمين إلى مؤمنين، ومن صالحين إلى مُصلحين، وأن نفتح باب الحوار مع أبنائنا، ونرشدهم لاختيار أصدقائهم بعنايةٍ؛ فالصاحب ساحب.

كلمةٌ أخيرةٌ أوجهها إلى كل شابٍ غرته الحياة الدنيا فترك دينه، وإلى كل مسئولٍ عن هؤلاء الشباب، أقول كما قال لوطٌ عليه السلام لقومه الذين كانوا يعملون السيئات: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾. لا خير فينا إن لم نقلها لهم، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها منا.

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم اهدنا إلى طريق الرشد لا نضل بعده أبداً. اللهم اهدنا سواء السبيل، ولا تؤاخذنا -ربنا- بما فعل السفهاء منا.

 

https://bit.ly/3AXNln3

الجمعة، 13 أغسطس 2021

إِلْف النعمة

 

خاطرة الجمعة /304


الجمعة 13 أغسطس 2021م

(إِلْف النعمة)

 

يقول أحد الشباب: أعمل بأحد المستشفيات، وذات ليلةٍ -وقد قاربت فترة عملي على نهايتها- أبلغني المشرف أن شخصيةً اقتصاديةً تتعامل بمئات الملايين قادمٌ للمستشفى، وَعليّ استقباله وإكمال إجراءات دخوله. انتظرتُ عند بوابة المستشفى، ولمحتُ من هناك سيارتي القديمة وَتذكرتُ ديوني الكثيرة وأقساطي المتعددة! هنا وصل المليونير ليكمل مأساتي، حيث حضر بسيارةٍ أعجز -حتى في أحلام المساء- عن أن أمتلك مثلها، يقودها سائقٌ يرتدي ملابس أغلى بكثيرٍ من ثيابي التي أرتديها!

‏ دخلتُ في دوامة التفكير والمقارنة بين حالي وحاله! مستواي ومستواه! شكلي وشكله! ثم قلتُ بكل حُرقةٍ، ومنظر سيارتي الرابضة كالبعير الأجرب يؤجج مشاعري: "هل هذه عيشة"؟!

على كل حالٍ، سبقته إلى مكتبي، وحضر خلفي على كرسيه المتحرك يقوده السائق، لفت انتباهي أنّ رجله اليُمنى مبتورةٌ من الفخذ! اهتزت مشاعري وَسألته: "هل عندك مشكلةٌ في الرجل المبتورة"؟ أجاب: "لا"! قلتُ: "فما هي المشكلة إذن يا سيدي"؟ قال: "عندي "موعد تنويم"، قلتُ: "ولماذا"؟ نظر إليّ وهو يكتم عبرته ويُخفي دمعته بغترته وقال: "ذبحتني الغرغرينا، وموعدي الآن هو من أجل بتر الرجل الثانية"! عندها أخفيتُ أنا وجهي، وبكيتُ بكاءً حاراً، ليس على وضعه فحسب، بل على كُفر النعمة الذي يُصيب الإنسان عند أدنى نقصٍ في حاله؛ ينسى كل نعم المولى في لحظةٍ، ويستشيط غضباً عند أقل خسارة! تحسستُ قدميّ وتذكرتُ صحتي فوجدتُها تساوي كل أموال وَسيارات العالم فقلتُ: "الحمد لله رب العالمين".

 

أحبتي في الله .. إنه (إِلْف النعمة) واعتيادها ومن ثَمّ التفريط في حمد الله سبحانه وتعالى وشكره عليها، إذ لا نتذكرها إلا إذا فقدناها أو كدنا نفقدها، أو إذا فقدها غيرنا وكنا على ذلك شاهدين!

 

ذكرتني هذه القصة بأخرى عن رجلٍ أراد أن يبيع بيته وينتقل إلى بيتٍ أفضل؛ فذهب إلى أحد أصدقائه -وهو رجل أعمالٍ وخبيرٌ في أعمال التسويق- وطلب منه أن يساعده في كتابة إعلانٍ لبيع البيت، وكان الخبير يعرف البيت جيداً فكتب وصفاً مفصلاً له؛ أشاد فيه بالموقع الجميل، والمساحة الكبيرة، ووصف التصميم الهندسي الرائع، وتحدث عن الحديقة، وحمام السباحة، .. إلخ، ثم قرأ كلمات الإعلان علي صاحب البيت الذي أصغى إليه باهتمامٍ شديدٍ وقال: "أرجوك أعد قراءة الإعلان"، وحين أعاد الكاتب القراءة صاح الرجل: "يا له من بيتٍ رائع! لقد ظللتُ طول عمري أحلم باقتناء مثل هذا البيت، ولم أكن أعلم أنني أعيش فيه إلى أن سمعتك تصفه"، ثم ابتسم قائلاً: "من فضلك لا تنشر الإعلان؛ فبيتي غير معروضٍ للبيع"!

لقد كان صاحب البيت مثالاً لكثيرٍ منا؛ ألِفَ أن يسكن بيته لسنواتٍ طويلةٍ، ووصل به (إِلْف النعمة) إلى درجة عدم الإحساس بكونها نعمةً من نعم الله تستوجب الحمد والشكر، ونسي أن نعم الله تدوم وتزداد بشكره عليها؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

 

يقول أهل العلم إن أعظم سورةٍ في القرآن الكريم وهي الفاتحة، وهي التي لا تصح الصلاة إلا بها، تبدأ بعد البسملة بـ "الحمد لله رب العالمين"، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ خطبته بالحمد لله، فالحمد لله كلمةٌ عظيمةٌ لا يُدرك أسرارها إلا من يُكررها ويستشعر عظمتها! آياتٌ كثيرةٌ تحض على الشكر، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾. ويذكرنا الله بنعمه وفضله علينا، ولكن معظم الناس غافلون عن الشكر وفوائده، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾. والشكر صفةٌ لله تعالى يقول تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾. فشكر الله عزَّ وجلَّ يكون من خلال كرمه وفضله ورزقه لنا، وشكرنا لله تعالى يكون من خلال التزامنا بتعاليمه وطاعة أوامره والانتهاء عما نهى عنه؛ لذلك فإن الله جعل الشكر صفةً له فقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾، وكذلك جعل الشكر صفةً لأنبيائه عليهم السلام فقال في حق سيدنا إبراهيم: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. وقال تعالى عن نفسه: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾. وحتى يوم القيامة فإن المؤمن يحمد الله تعالى وهو في الجنة، ويشكر الله الغفور الشكور على هذه النعمة، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

 

إن (إِلْف النعمة) والتعود عليها -كما يصفها العلماء- مرضٌ خفيٌ إذا أصابنا أفقدنا بركة القليل وزيادة الكثير؛ فالضمان والكفيل لحفظ هذه النعم وزيادتها إنما هو شكرها، والشكر يتجاوز النطق باللسان فكم من شاكرٍ بلسانه أما قلبه وحاله ففي نكرانٍ وجحودٍ، بل يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ المرء مرحلةً من العُتو والبطر والجحود ألا يستشعر أساساً النعم التي أمده الله بها ابتداءً، وما ذلك إلا لأنها صارت جزءاً روتينياً في حياته اعتادها ومن شدة اعتيادها فَقَدَ الشعور بوجودها.

 

إنها نعم الله نرفل فيها، ونكاد لا نحس بها إلا إذا فقدناها. كم واحدٍ منا يوفي حق الله سبحانه وتعالى شكراً وعرفاناً؟! كم منا من يتذكر نعم الله -وهي أكثر من أن تُعد أو تُحصى- فيستحي على تقصيره في الحمد والشكر والثناء؟

بالشكر تدوم النعم ويُثاب الشاكر، وبكفرانها والجحود بها تزول ويأثم المتبطر المتبجح ناكر الجميل. وما بين الشكر والكفران يعيش معظم الناس في حالةٍ من (إِلْف النعمة) والتعود عليها فلا هُم يشكرون ولا هُم يكفرون، لكنهم غافلون غير منتبهين إلى ما هم غارقون فيه من نعم الله، حتى إذا فقدوا إحداها أحسوا بقيمتها فتذكروا كم كان بُعدهم عن المولى عزَّ وجلَّ، وما كانوا عليه من تقصيرٍ في حمد الله وشكره على كل هذه النعم، وكيف كان الله سبحانه وتعالى حليماً عليهم رؤوفاً رحيماً بهم رغم بُعدهم عنه، وغفلتهم عن حمده وشكره.

 

يحثنا أحدهم على تذكر بعض نعم الله فيقول: هل تفكرتَ أيها المسلم في نعم الله عليك؟ وأول هذه النعم أن خَلَقَكَ إنساناً؟ تخيّل لو أنك كنت نوعاً آخر من مخلوقات الله! ثم هل تفّكرتَ في نعمة العقل وأنك ممن خصهم الله بهذه النعمة؟ تخيّل لو أنك كنتَ إنساناً ولكنك مجنونٌ تتيه في الشوارع ويضحك عليك الأطفال والصبية! هل شكرتَ الله على نعمة العقل ومليارات الخلايا العصبية في دماغك؟ هل تفكّرتَ في أنك ممن فضّلهم الله بأعظم نعمةٍ وهي نعمة الإسلام، وهداك وخصّك بهذه النعمة من بين ملايين البشر؟ هل حمدتَ الله على أنك ما كنتَ من أهل الاعتقادات الباطلة؟ هل تفكّرتَ أيّها العربيّ في أنك ممن فضلهم الله بأن كانوا عرباً وممن يفهمون مباشرةً كتاب الله سبحانه وتعالى وأحاديث رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فلا تحتاج إلى تُرجمان؟ هل تفكّرتَ يا من تعيش في أمنٍ وأمانٍ أنك ممن أنعم الله عليهم بذلك؟ فكم من الناس يعيش في خوفٍ وهلعٍ ولا يدري إذا أصبح هل يُمسي سليماً وإذا أمسى هل يُصبح بأمان أم لا؟ كم وكم وكم سوف تتخيل من نعم، وكم وكم وكم سوف تحمد ربك وتشكره على هذه النعم التي افتقدها غيرك من بني البشر.

 

وهذا آخر كتب يقول: أسألك بالله كم شخصاً تمنى لو أنه يملك مثل سيارتك أو بيتك أو جوالك أو شهادتك أو وظيفتك .. إلخ؟ كم من الناس يمشون حفاةً وأنت تقود سيارة؟ كم من الناس ينامون في الخلاء وأنت في بيتك؟ كم شخصاً يتمنى فرصةً للتعليم وأنت تملك شهادة؟ كم .. وكم .. وكم .. وكم ..؟! فهل حمدتَ الله الآن؟ هل وفيته شكره؟

 

وقال ثالثٌ مذكراً: لا تنسَ أبداً؛ زوجتك البسيطة هي حلم كل أعزب، ابنك الشقي هو حلم كل عقيم، بيتك الصغير هو حلم كل مشرد، عملك الشاق هو حلم كل عاطل عن العمل، مالك القليل هو حلم كل مديون، صحتك الغالية هي حلم كل مريض، ابتسامتك العادية هي حلم كل مهموم، سَتْرُ الله عليك هو حلم كل مفضوح، وحريتك في الحياة هي حلم كل مسجون؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

أما هذا فيقول: "تألمتُ كثيراً عندما وجدتُ نفسي حافي القدمين، ولكنني شكرتُ الله كثيراً حينما وجدتُ آخر ليست له قدمان"!

 

وما يجري على الأفراد من (إِلْف النعمة) وعدم حمد الله عليها وشكره يجري كذلك على الأقوام؛ فلنا في قوم سبأٍ عبرةٌ وعظةٌ؛ اكتملتْ نِعَمُهم، وكُفُوا مؤونة الطعام والشراب، ولم يطلب ربُّهم منهم مقابلَ هذه النعم إلا شكرَه عليها، بإقامة دينه وتحقيق توحيده، لكنهم قابلوا دعوة الله تعالى لهم بالإعراض والاستكبار، فاستحقوا العذابَ والدمار؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا﴾، وكان إعراضهم أن عدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما قال الهدهد لسليمان عليه السلام: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فكانت عاقبتهم كما يقول سبحانه: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾، إذ فتح الله تعالى عليهم سدَّهم؛ ليغرق بلادهم، ويُهلك حرثهم وأنعامهم، وذهبتْ نعمهم في لمح البصر. وكان من عظيم ما أنعم الله تعالى به عليهم، أنهم كانوا يسافرون من اليمن إلى الشام في أمنٍ وطمأنينة؛ يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ فبَلَغ مِن كفرهم بهذه النعمة أنهم قالوا: ﴿رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾؛ فكانت النتيجة، كما يخبرنا سبحانه: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾.

 

أحبتي .. ليُمْسِك كلٌ منا ورقةً وقلماً ويبدأ في تسجيل نعم الله عليه، وليسأل نفسه متى آخر مرةٍ حمد الله فيها وشكره على كل نعمةٍ منها، سنجد أنفسنا مقصرين، وأي تقصير؟!

واللهِ، الذي لا إله إلا هو، لو أننا عوَّدنا أنفسنا وأهلينا -خاصةً أبناءنا الصغار- على الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى على كل حالٍ وفي كل وقتٍ وحينٍ على نعمه وأفضاله، ولو أن المسلمين في جميع أرجاء الأرض اتعظوا بقوم سبأٍ وغيرهم من الأقوام السابقة؛ فحمدوا الله سبحانه وتعالى وشكروه على نعمه التي اعتادوا عليها وألفوها، بإقامة شرع الله الذي أكمله الله لنا وأتمه علينا وارتضاه لنا ديناً في جميع شئون حياتنا، لو حدث هذا -وسيحدث بنا أو بغيرنا- لعاش المسلمون في نعيمٍ ورغدٍ؛ يقول تعالى: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾، وإلا كنا ممن وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.

اللهم لا تجعل (إِلْف النعمة) يُنسينا المنعم، وحقه من الحمد والشكر. اللهم اجعلنا من الحامدين الشاكرين. اللهم اغفر لنا ما قصَّرنا فيه، واعفُ عما سلف. ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، وأعِنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

 

https://bit.ly/3jTG3d3

الجمعة، 6 أغسطس 2021

الابتلاء نعمة

 

خاطرة الجمعة /303


الجمعة ٦ أغسطس ٢٠٢١م

(الابتلاء نعمة)

 

عالمٌ سوريٌ جليلٌ -أثق في علمه- كتب يحكي عن ثلاثة أشخاص فقال:

لي أخٌ انتظم في الصلاة بالمسجد من سنواتٍ عدةٍ، قال لي: "قبل أن أصطلح مع الله كنتُ أعمل في عملٍ تجاريٍ درَّ عليَّ مبالغ كبيرةً جداً، وضعتُ في جيبي 500 ألف ليرة، وتوجهتُ إلى بلدٍ بعيدٍ كي أستمتع، ولم آخذ معي أحداً، وفهمكم كفاية"! أخبرني أنه وصل إلى ذلك البلد البعيد، وهو يحلم بأن يقضي شهراً كما يُحب من دون قيدٍ، من دون ضابطٍ، من دون رقابةٍ، من دون محاسبةٍ، من دون تكليفٍ. وإذ تظهر فجأةً آلامٌ في ظهره، قال: "فدخلتُ إلى المستشفى، وأجريتُ الفحوص؛ كانت نتيجة التشخيص: سرطان في العمود الفقري"! قال لي: "عدتُ أدراجي إلى الشام بسرعةٍ أتنقل من مسجدٍ إلى مسجدٍ، ومن شيخٍ إلى شيخٍ، ثم تبين بعد فترةٍ أن التشخيص كان غير صحيحٍ، كان خطأً ولا يوجد بي أي مرض"! قال: ثم تاب الله عليه والتزم.

‏ قال عالِمنا: وكانت هناك فتاةٌ تحب أن تتوظف في التدريس، وهي متفلِّتةٌ، سافرةٌ، لا تُصلي، قدمت أوراقها الثبوتية للتوظيف، فطولبت بشهادةٍ صحيةٍ من المشفى، ذهبت إلى المشفى وأجرت فحصاً شاملاً؛ فكان الجواب: سلٌّ رئوي!! وهو مرضٌ مُعدٍ، فعلم أهلها بذلك، وابتعدوا عنها، وجعلوها تقبع في غرفتها، واستخدموا لها أدواتٍ خاصةً بها، وبقيت تبكي وتبكي وتبكي، وهي ترى مصيرها الأسود، ثم خطر لها أن تتوب إلى الله، وأن تصطلح معه، وأن تبدأ بالصلاة، وأن تبدأ بالحجاب، وتابت إلى الله عزَّ وجلّ؛ فذهب أخوها صدفةً إلى المستشفى ليتأكد من النتيجة، فإذا بالنتيجة كانت ليست لها، بل لغيرها، ولكن بالخطأ أعطوها لها!

 

وقال عالِمنا: وأعرف رجلاً بعيداً عن الدين كبُعد الأرض عن السماء، يحمل شهادةً عليا بفرعٍ نادرٍ من العلوم، وهو جميل الصورة، ومتفلِّتٌ في مِزاحه وفي لسانه وفي عقيدته؛ لدرجة أنه كان يستهزأ بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! تزوج فتاةً تروق له، فأنجبت له بنتاً صغيرةً، كاد عقله يذهب بحبها، فإذا هي تُصاب بمرضٍ عضالٍ في دمها! أنا أعرفه إنساناً شارداً، أعرفه غارقاً في المعاصي والآثام، أعرفه بعيداً عن الدين، فجأةً وجدتُه في حالٍ لا يُصدق من الإنابة والتوبة والخشوع، سألته: "ما الذي حصل"؟ قال: "هذه البنت الصغيرة أصابها مرضٌ عضالٌ، لم أترك طبيباً إلا وعرضتُها عليه، ثم بعتُ بيتي، وذهبتُ بها إلى «بريطانيا»، ولم تشفَ من مرضها، بعد هذه المحاولات اليائسة أُلهمتُ أنْ إذا تبتُ إلى الله أنا وزوجتي ورجعنا إلى الله، لعلَّ الله يشفيها". قال عالمِنا: فبدأ يُصلي، وحجَّب زوجته، والتزم في مسجدنا، ثم بعد فترةٍ شفى الله ابنته. وبعد حينٍ من الزمن دُعيتُ إلى عقد قرانٍ من قِبله لابنته، وألقيتُ كلمةً، ولما انتهت الكلمة سألته: "هيَ هيَ"؟! قال: "هيَ هيَ"! قال عالْمنا: واللهِ بكيتُ وقلتُ: "يا رب، كل هذا المرض الخبيث جاء كضيفٍ فهدى الأب والأم، وانصرف بسلامٍ، هذا فِعلُ الله عزَّ وجل".

 

ختم عالِمنا كل قصةٍ من هذه القصص الثلاث بعبارةٍ واحدةٍ يُشير فيها إلى صاحب القصة ثم يوجه نصيحته للقارئ فيقول: "فالله عزَّ وجلَّ أتى به مُسرعاً؛ فإما أن تأتيه مُسرعاً، أو أن يأتي بك مُسرعاً". ثم عقَّب عليها جميعاً بما يلي: "يقول تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾؛ فالبطولة هي أن تأتيه أنت بنفسك طائعاً، أن تأتيه مسرعاً بمبادرةٍ منك، قبل أن يأتي بك مسرعاً ذليلاً، مكسوراً، مجروراً إليه. البطولة أن تأتيه وأنت معافىً صحيحٌ، ليس عندك مشكلةٌ، آمنٌ في بيتك، عندك زوجةٌ، عندك أولاد، عندك عملٌ، ما عندك مشكلةٌ ماليةٌ، تُصلي له وتدعوه وتناجيه".

 

أحبتي في الله .. إنها محنة الابتلاء عندما تتحول إلى منحة! لقد كانت كل محنةٍ منها سبباً في عودة المُبتلى إلى الله سبحانه وتعالى، وما أحلاها وأغلاها من منحةٍ، تؤكد لنا أنّ (الابتلاء نعمة).

 

يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.

والابتلاء من الله تعالى قد يكون دليلاً على محبته للعبد؛ فأشد الناس ابتلاءً الأنبياء أراد الله تعالى أن يرفع درجتهم ويُثَبِّت حجتهم ويجعلهم قدوةً للخلق، قال عليه الصلاة والسلام حينما سُئل أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟: [الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ].

 

يقول أحد العلماء: لو تفكّر الإنسان في هذا الكون وسننه والغاية من خلقه، لعلم أنّ للابتلاء نوراً يُضيء له ظلمات دروبه وتُشرق له نفسه، بل لو تفكر هذا العبد وتخلّى عن نظرته القاصرة التي تدفعه للجري وراء النعم العاجلة، لأدرك أنّ الابتلاء والمصائب التي يُمتحن بها ما هي إلا قطرات غيثٍ تتساقط على ربوع قلبه وصفحة روحه، إن استقبلها استقبالاً حسناً صابراً راضياً أينعت روحه وأشرقت نفسه وتبددت الحُجُب من حوله، وفَهِم المعنى المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ]. ولو تفكّر وتريث قليلاً لأدرك أن وجوده في هذه الحياة إنما هو ابتداءً ابتلاءٌ وامتحانٌ يخوضه منذ بلوغه سن التكليف والتمييز، وأنّ هذه الابتلاءات هي التي ترقى به للعلا، أو تهبط به لأسفل الدرجات. ومن طبيعة الإنسان أنه يجزع لضرٍ مسّه، أو لفوات خيرٍ عنه، فتراه يستقبل ابتلاء ربه وقد اسودّ وجهه، وانقبضت نفسه، وعبست أساريره، ولو أدرك أية منحةٍ تكمن في محنته هذه لما رفع رأسه من سجود شكرٍ لله حتى يلقاه، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: [يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بالْمَقَارِيضِ]. إن الذي يستقبل عطايا الله في النعم بالشكر، يستقبل الابتلاءات بالصبر والرضا؛ لأنه يعلم حقيقة أن النصر في أي سباقٍ أو الفوز والخلاص من أي امتحانٍ، إنما بدايته صبر ساعةٍ، وبعدها تغمره لطائف الله، فهو يتقلب من خيرٍ لخيرٍ في كل أموره، وقد منحه الله بصيرةً من خلالها تيقن أن وراء كل محنةٍ لابد من منحةٍ؛ كأشد أوقات الظُلمة حلكةً يُسفر عن فجرٍ ساطعٍ لا زيف فيه.

ويختم العالم كلامه بقوله: فليُلزم كلٌّ منا نفسه المقام الذي وضعه به خالقه ومليكه ومولاه، فإنه استخدمك في النعمة؛ ليسمع قلبك يخفق شكراً وحمداً وثناءً، وهو جلَّ شأنه من يملك أن يمتحنك بالبلاء والفتن؛ لتجود بدمع ضعفك بين يدي سيدك، مُقراً بفقرك إليه، وغناه عنك، وأنك العبد الذي لا سيد ولا رب لك سواه، وكم يا مسكين من عبيدٍ غيرك للعزيز الجبار ما حالت مصائبهم ولا منعتهم محنهم من الانطراح على عتباته رضاً وحباً وفقراً وتذللاً وتقرباً.

 

وقال آخر مبيناً حقيقة الابتلاء، موضحاً أن (الابتلاء نعمة): إن الله عزَّ وجلَّ لم يضع الابتلاء ليعذب به المؤمنين والسائرين على طريقه، وإنما وضعه؛ ليصطفيهم ويُرقيهم ويُميزهم عن غيرهم ممن تنقطع بهم الأنفاس عن الاستمرار في الطريق الموصل إليه سبحانه، وكتب سبحانه التوفيق لأوليائه بالنصر في الدنيا، ولو تأخر لسببٍ من الأسباب، والجزاء العظيم في الآخرة بجنةٍ عرضها السماوات والأرض؛ يقول تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.

 

ويخلص عالِمٌ ثالثٌ إلى نتيجةٍ مؤداها أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور، كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار. وقد يكون لتكفير السيئات؛ كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ خَيْرًا عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللَّه بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بهِ يَومَ الْقِيامةِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]. إن الابتلاءات والمحن سببٌ لرفعة منزلة المُبتلى؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَمَا يَزَالُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ إِيَّاهَا].

 

حقاً وصدقاً ويقيناً إنٌ (الابتلاء نعمة)؛ فمن فوائده كما يخبرنا أحد العارفين: تكفير الذنوب ومحو السيئات، رفع الدرجة والمنزلة في الآخرة، الشعور بالتفريط في حق الله واتهام النفس ولومها، فتح باب التوبة والذُل والانكسار بين يدي الله، تقوية صلة العبد بربه، تَذَكُر أهل الشقاء والمحرومين والإحساس بآلامهم، قوة الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتَذَكُر المآل وإبصار الدنيا على حقيقتها.

 

وصدق الشاعر حين قال:

قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بالبَلْوى وإنْ عَظُمَتْ

ويَبْتَلي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بالنِعَمِ

وقال آخر:

إذَا اشْتَدَّت البَلْوَى تُخَفّفْ بِالرِضَا

عَن اللهِ قَدْ فَازَ الرَضِيُّ المُرَاقِبُ

وَكَمْ نِعْمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِبَلِيّةٍ

عَلَىَ النَاسِ تَخْفَىَ وَالبَلايَا مَوَاهِبُ

وقال ثالثٌ:

رُبَّ أَمْرٍ تَتَقِيه

جَرَّ أَمْرَاً تَرْتَضِيهِ

خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ

وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ

 

أحبتي .. كان أحد الصالحين إذا أصابه بلاءٌ قال: "ما ابْتُلِيتُ ببلاءٍ إلاَّ كان لله -تعالى- عَلَيَّ فيه أربعُ نِعَمٍ: إذْ لم يكن في ديني، وإذْ لم يكن أعظم منه، وإذ لم أُحْرَم الرضا به، وإذْ أرجو الثوابَ عليه".

اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا ومالنا. اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا. اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، ونسألك أن تُعطينا من اليقين ما تُهَوِّنُ به علينا مصائب الدنيا.

https://bit.ly/3Ck7Ewy

الجمعة، 30 يوليو 2021

يكذبون كما يتنفسون

 

خاطرة الجمعة /302


الجمعة 30 يوليو 2021م

(يكذبون كما يتنفسون)

 

في برنامجٍ إذاعيٍ محليٍ يستقبل اتصاﻻت الطلبة العرب المبتعثين للدراسة في الخارج، اتصل طالبٌ كان يدرس في «بريطانيا» وحكى قصةً واقعيةً حدثت معه حينما كان يُقيم مع أسرةٍ بريطانيةٍ استضافته وقت دراسته. قال إن تلك اﻷسرة مكونةٌ من اﻷم واﻷب وطفلة، وفي أحد الأيام قرر الزوجان الخروج في شأنٍ لهما، وسأﻻني ما إذا كنتُ لن أغادر الشقة فستبقى الطفلة معي، فقلتُ: "ﻻ بأس سأبقى مع الطفلة". خرج الزوجان وبعد قليلٍ ذهبتْ الطفلة إلى المطبخ وأوقعت كأساً زجاجياً فانكسر، وسمعتُ بكاءها، توجهتُ إلى المطبخ مسرعاً خوفاً من أن تكون الطفلة قد تأذت، فوجدتها -والحمد لله- سليمةً لم تُصب بسوءٍ، قالت لي وهي تبكي: "أمي ستعاقبني"، قلتُ لها: "ﻻ تخافي، وإذا سألتكِ أمك قولي أنا الذي كسرتُ الكأس". وفعلاً عندما عادت اﻷم، ﻻحظتْ الكأس المكسور وسألتْ الطفلة فأخبرتها بما قلتُه لها. ذهبتُ أنا إلى السوق واشتريتُ طقم أكوابٍ جديدٍ؛ لأقدمه لربة البيت عوضاً عن الكأس الذي اتفقنا أنا والطفلة على أنني أنا الذي كسرتُه، وقبل أن أقدم طقم الأكواب للأم جاءتني الطفلة تبكي، وقالت: "ﻻ أستطيع النوم ﻷني كذبتُ على أمي وسأخبرها الحقيقة"، ثم جرت نحو أمها وأخبرتها بحقيقة ما حدث، جاءتني والدتها لتتأكد من صدق ما سمعته من ابنتها، فلما علمتْ بما قلتُه للطفلة قالت لي بمنتهى الهدوء: "إنك شابٌ طيبٌ ومحترمٌ، ونحن منذ وﻻدة هذه الطفلة نعلمها الصدق، وهذه هي المرة اﻷولى التي تكذب فيها. عُذراً منك أيها الشاب لن أدمر شخصية ابنتي بسلوك شنيعٍ كالكذب، أمامك 24 ساعةً لتغادر، فابحث لك عن مكانٍ آخر".

يقول الطالب السعودي: "خرجتُ وأنا في منتهى الأسف؛ لقد شوهتُ صورة الإسلام، الكذب مرةً واحدةً تعني الكثير في تربية اﻷطفال، بالله عليكم كم من المرات كذبنا فيها على أبنائنا وتعلموا منا الكذب"؟

 

أحبتي في الله .. لقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى الكذب في كتابه الكريم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ أي: كذَّابٍ في مقاله، أثيمٍ في فعاله، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾.

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [... وإيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا]، وقال عليه الصلاة والسلام: [آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ كَاذِبًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ رَجُلٍ لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبَانُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [أنا زعيمٌ ببَيْتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإنْ كان مُحِقًّا، وببَيْتٍ في وسَطِ الجنَّةِ لِمَن ترَك الكذِبَ وإنْ كان مازحًا، وببَيْتٍ في أعلى الجنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُه]، وقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا"؟ فَقَالَ: ‏[نَعَمْ]، فَقِيلَ لَهُ: "أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلاً"؟ فَقَالَ: ‏[نَعَمْ]، فَقِيلَ لَهُ: "أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا"؟ فَقَالَ: ‏[لاَ]‏.

 

بعد كل ذلك، ألا يعلم الكاذبون أن الكذب حرامٌ؟ وأنهم محاسبون عليه؟

وحتى بعيداً عن الدين، ألا يعلم هؤلاء أن الكذب خصلةٌ ذميمةٌ غير مقبولةٍ في كثيرٍ من المجتمعات؛ كما حدث في دولةٍ كبيرةٍ من عدة سنواتٍ حين أجبر ممثلو الشعب رئيسهم المنتخب على الاستقالة، ليس لممارسته الجنس في مكتبه الرسمي مع إحدى المتدربات، ولكن لكذبه عندما سُئل عن ذلك!

 

حينما قرأتُ قصة الطفلة الإنجليزية الصغيرة، تذكرتُ على الفور الجملة المشهورة "قل له أبي غير موجود"، والتي تقول الأسطورة إن الأب قالها لابنه عندما رد على مكالمةٍ هاتفيةٍ لا يريدها الأب، فما كان من الابن إلا أن قال للمتحدث: "أبي يقول لك إنه غير موجود"! إنها الجملة التي يُستشهد بها دائماً عندما يصل الحديث إلى كيف يتعلم أبناؤنا الكذب. فالصغار يتعلمون الكذب من الكبار؛ حينما تقول الأم لابنها وهو صغير: "إذا أكملتَ طعامك سوف آخذك في نزهة"، فيكمل طعامه ويقول لها: "أمي هيا نذهب"، ترد عليه: "تأخر الوقت، وفي الخارج شبحٌ يأكل الصغار، لا نستطيع الخروج الآن"؛ فيجلس الصغير حزيناً وهو يسمع أصوات الأطفال وهم يلهون في الشارع ولم يلتهمهم شيء! وتستمر الحكاية؛ يكبر الصغير قليلاً ويدخل المدرسة، يخبرهم المعلم أنّ مَن يُحسن السلوك سوف يأخذه في رحلةٍ نهاية الأسبوع، يبذل الصغير جهده ليكون أول المختارين للرحلة، وينتهي الأسبوع فيسأل معلمه: "متى نذهب إلى الرحلة"؟ يجيبه معلمه: "عن أية رحلةٍ تتحدث"؟! وتستمر الحكاية؛ في البيت وجده أبوه يذاكر دروسه فقال له: "إذا نجحتَ سوف أشتري لك دراجةً رائعةً"، انتهى العام الدراسي وكان الأول على صفه، سأل والده: "أين دراجتي"؟ قال له الأب: "الدراجة ستعرضك للحوادث دعك منها"! وتستمر الحكاية؛ يكبر الولد ويصبح بارعاً في الكذب والخداع، والكل يسأل: "من أين أتى بهذا الخُلُق الذميم"؟!

وأكثر ما يكون الكذب في الأسواق؛ حين يُزين الشيطان للتاجر الكذب على أنه شطارةٌ ومهارةٌ تُزيد الرزق، فهذا تاجرٌ كان يبيع الدجاج أوصله الكذب إلى مأزقٍ كبيرٍ؛ حين دخلت سيدةٌ محله قبل الإغلاق مباشرةً وسألته: "هل ما زال لديك دجاج؟"، فتح البائع ثلاجته وأخرج الدجاجة الوحيدة المتبقية لديه ووضعها على الميزان الإلكتروني، وقال: "الدجاجة تزن 1.5 كجم"، نظرت المرأة إلى الدجاجة وتحققت من الميزان، ثم سألت: "هل لديك واحدةٌ أكبر بقليلٍ من هذه؟"، قام البائع بوضع الدجاجة مرةً أخرى في الثلاجة ثم أخرج نفس الدجاجة، ووضعها على الميزان، لكن هذه المرة زين له الشيطان أن يضع إبهامه الضخم على حافة الميزان؛ فعرض مؤشر الميزان الوزن 2 كجم، قالت السيدة: "إنه لأمرٌ رائع، سآخذ كلتا الدجاجتين من فضلك"!

يُقال -تهكماً- إن البائع لا تزال رأسه محشورةً في الثلاجة حتى الآن، يبحث عن الدجاجة الأولى!

 

الكذب رذيلةٌ إنسانيةٌ منتشرةٌ للأسف بين الكثير من الناس، البعض يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون لكنهم يبررون كذبهم، والبعض يكذبون ولا يشعرون أنهم يكذبون، تحول الكذب لديهم إلى عادةٍ، تجدهم يكذبون في معظم ما يُحدثون به، حتى أن بعضهم يكذب على نفسه ثم يصدق كذبته! وبعض الناس يخلطون ما بين الكذب والمزاح، وبعضهم لا يُفرق ما بين الكذب والخيال. وترى بعض الناس يُلونون الكذب باللون الأبيض؛ الغريب أنهم اختاروا اللون الأبيض لأسوأ كذباتهم وأكثرها سواداً!

ويبدو أن التطور الذي طال كل شيءٍ لم يستثنِ الكذب؛ فبعد أن كان الكذب وجهاً لوجهٍ، أصبح الآن كذباً إلكترونياً يمارسه كثيرٌ من الناس، خاصةً الشباب على شبكة الإنترنت، لدرجة أنهم صاروا (يكذبون كما يتنفسون) وهم يستخدمون برامج ومواقع التواصل الاجتماعي على حواسيبهم أو هواتفهم النقالة؛ فيدخلون بأسماء وهميةٍ وصورٍ مزورةٍ وبياناتٍ غير صحيحةٍ، للنصب والاحتيال أو التغرير بالآخرين واصطياد الضحايا أو لمجرد اللهو السخيف السمج! وعن الهواتف النقالة فحدِّث ولا حرج؛ فكم من مرةٍ تسمع أحدهم يجلس بجوارك في وسيلةٍ من وسائل المواصلات العامة يتحدث في هاتفه ويقول: "أنا الآن في الإسكندرية"، وأنت وهو وجميع الركاب موجودون في القاهرة!

وصدق من قال:

الصِّـدْقُ فِي أَقْوَالِنَا أَقْوَى لَنَا

وَالكِذْبُ فِي أَفْعَالِنَا أَفْعَى لَنَا

 

من أسوأ الكاذبين الذين يتخذون من الكذب وسيلةً يتكسبون منها مالاً أو جاهاً أو سلطاناً؛ يقول تعالى عنهم: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾، فهم يعلمون أنهم يكذبون، يمتهنون الكذب ويجعلونه مصدر رزقٍ لهم، يبيعون كذبهم لمن يدفع لهم! بل ويحلفون على ذلك ليصدقهم الناس؛ يقول عنهم سبحانه: ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

لكن أسوأهم على الإطلاق الذين يكذبون ويتمادون في كذبهم، لصالح غيرهم، دون أن يستفيدوا هم شيئاً! إنهم أحمق الناس؛ سأل حكيمٌ جُلَسَاءه: "أَخْبِرُونِي بِأَحْمَقِ النَّاسِ"؟ قَالُوا: "رَجُلٌ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ"!! فَقَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَحْمَقَ مِنْهُ"؟ قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: "رَجُلٌ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ"!! يقول العلماء في معنى "باع آخرته بدنياه": أي ارتكب معصية الله تعالى لينتفع في الدنيا، وعَرَّض نفسه لخسارة نعيم الآخرة، كمن حلف كاذباً أو غش ليربح في البيع، أو تعامل بالربا ليجمع الأموال، أو ظلم الناس وأكل أموالهم بغير حق، كالسارق والغاصب والخائن. أما معنى "باع آخرته بدنيا غيره" فذلك يُطلق على من يعصي الله تعالى ويُعرِّض نفسه لخسارة نعيم الآخرة، لا من أجل أن يتنعم هو بالدنيا، ولكن ليتنعم غيره بها؛ فهو يُصلح دنيا غيره بفساد آخرته، كمن أعان ظالماً ليتمكن من ظلمه، كعلماء السوء أو جنود الحكام الظلمة الذين يُعينونهم على ظلم رعيتهم، فهؤلاء أعانوا ذلك الظالم ليستمتع بدنياه ويتمكن فيها، وأذهبوا آخرتهم، فباعوا آخرتهم ولم يستفيدوا هم شيئاً من الدنيا وإنما استفاد غيرهم!

 

أحبتي .. اعذروني على الإطالة؛ فالموضوع ذو شجون، حركها أحدهم عندما سمعته وهو يُقسم بالله، ويغلظ في القسم، وأنا وغيري يعلمون علم اليقين أنه ﴿كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾، جمع بين رذيلتين: الكذب واليمين الغموس "يتعمد صاحبها الحلف على الكذب، فتغمسه في الإثم وقيل تغمسه في النار".

اللهم اجعلنا من الصادقين، الذين يقولون الصدق شهداء لله ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، واحشرنا مع الصادقين يوم ينفعهم صدقهم ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ومع الذين أنعمتَ عليهم ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رفيقا،﴾، ولا تجعلنا ربنا من الذين (يكذبون كما يتنفسون) ﴿الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ فنكون من الخاسرين.

 

https://bit.ly/2UX7aMd

الجمعة، 23 يوليو 2021

خروف العيد

 

خاطرة الجمعة /301


الجمعة 23 يوليو 2021م

(خروف العيد)

 

أراد رجلٌ غنيٌ أن يتصدق بعددٍ من خراف العيد دون أن يعرف أحد، وكان يضع على خرافه علاماتٍ مميزةً لا يعرفها سواه؛ فأرسل خروفاً سميناً مع أحد عماله إلى إحدى القرى المجاورة الأكثر فقراً، وطلب منه أن يعطي الخروف إلى صاحب بيتٍ معدمٍ فقيرٍ كثير الأبناء، وكان من حُسن أخلاق هذا الرجل الغني أن يتصدق بكثرةٍ ولا يعرف أحدٌ من الناس بالصدقات إلا عماله فقط. ‏وبينما الرجل الغني المتصدق صاحب الغنم يتجول في السوق إذ وجد رجلاً فقيراً يقف ومعه نفس الخروف الذي تصدق به بالأمس؛ فاستغرب وقال في نفسه: "هذا الخروف من مزرعتي، وعاملي أعطاه له فكيف يبيعه؟ من المؤكد أنه غير مستحق، وأن عاملي أخطأ في اختياره"، ثم اقترب المحسن من الفقير وسأله: "هذا الخروف الكبير، هل هو من تربية بيتك أم اشتريته من أحد التجار"؟ فابتسم الفقير قائلاً: "والله لا هذا ولا ذاك، فلهذا الخروف قصةٌ عجيبةٌ؛ وهي أنه بالأمس طرق عليّ الباب أحد الرجال، ولا أعرفه، وقال لي هذا خروفٌ وهبه لك سيدي، ولم يذكر اسم سيده، ومشي. وهذا الخروف كما ترى كبيرٌ جداً، ولي جارٌ فقيرٌ معدمٌ مثلي، وله ذريةٌ كبيرة العدد معدمةٌ لا يستطيع شراء خروفٍ للعيد، ولا حتى لحمٍ أو حتى دجاج، فجئتُ لأبيع هذا الخروف الكبير؛ واشتري بثمنه خروفين صغيرين واحدٌ لي والثاني لجاري المعدم مثلي"، فبكي الغني وقال: "هنيئاً لك قول ربنا في كتابه الكريم: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾؛ فأنت تنفق وأنت في أشد الاحتياج لهذا اللحم، وصدق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ]، هذا هو الإسلام حقاً أن تشعر بجارك؛ وصدق صلى اللَّه عليه وسلم حين قال: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ]. أيها الرجل أنا اشتريتُ هذا الخروف الكبير منك فخذ هذا ثمنه، اشترِ به خروفين، وافعل كما شئتَ أيها الصادق المتصدق المتعفف، فأنت أحسن مني ومن أمثالي الأغنياء؛ لأن الأغنياء ينفقون من وسع، وأنت تنفق من ضيقٍ".

 

أحبتي في الله .. الحديث عن (خروف العيد) ذكرني بقصةٍ أخرى حدثت منذ عدة سنوات، قبل عيد الأضحى بأيام، إذ طلب رجلٌ من زوجته أن تعطيه مبلغاً من المال كان قد ادخره لشراء أضحية العيد؛ فأعطته زوجته المال الذي ادخروه لذلك طوال ثلاثة شهور. ذهب الرجل إلى سوق الأضاحي ليشتري الخروف، وأخذ يتمشى ويعاين الخرفان يريد خروفاً سميناً يليق بالأضحية ويفرح به زوجته وأبناءه، فوجد طلبه واشترى الخروف وذهب به إلى منزله، فلما أراد إنزال الخروف فلت من يديه وراح يركض في الحي، وأخيراً وقف الخروف أمام باب منزل الجيران ثم دخل مسرعاً، وصاحبه خلفه، فلما أراد أن يطرق الباب سمع الأولاد يهللون ويصرخون، يظنونه خروف عيدهم، وهؤلاء الأولاد يتامى الأب ومساكين معروفين في الحي، فلم يستطع الرجل أن يُفسد علي الأولاد فرحتهم؛ فدخل عليهم وقال: "نعم، هذا خروفكم"، وأخذ يمزح معهم ويلاعبهم وترك لهم الخروف وعاد إلى منزله. في المساء ذهب يتمشى في سوق الأضاحي ليسلي نفسه، فوجد مجموعة من أصدقائه فصار يتحدث معهم، وقد نسي تماماً ما حدث معه وأنه ظل بلا أضحية عيد. وهو واقف في السوق إذ بشاحنةٍ صغيرةٍ تصف بجانبه، تحمل خرفاناً، فوقع نظره على خروفٍ أعجبه فتقدم من السيارة وظل يعاين الخروف من باب الفضول فقط، وسأل البائع صاحب السيارة: "بكم هذا الخروف"؟ رد عليه البائع: "أخي، لقد عاهدت الله أن أول شخص يضع يده على خروف من خرافي يأخذه صدقةً لوجه الله "، فقال له الرجل: "لا يا عم، أنا أسال فقط"، فرد عليه البائع: "يا أخانا أنا لم أعاهدك أنت، أنا عاهدت الله ربي وربك، فلا تحنثني في عهدي، خُذ الخروف وانطلق". فحصل هذا الرجل الطيب على أضحيته، وكذلك اليتامى حصلوا على خروفهم، ورضي الجميع، وكأن الله يقول للرجل: "لستَ أكرم مني يا عبدي".

والحديث عن (خروف العيد) لا يكتمل إلا بالحديث عن "صكوك الأضاحي"؛ ففي السنوات الماضية انتشرت فكرة هذه الصكوك باعتبارها وسيلةً جديدةً مستحدثةً تُسهل عملية شراء وذبح الأضاحي وتوزيع لحومها على المحتاجين؛ حيث يشتري المضحي صكاً بقيمةٍ ماليةٍ محددةٍ، من إحدى الجهات الرسمية الحكومية أو من مؤسسةٍ أهليةٍ خيريةٍ، تتولى بالوكالة عنه شراء الأضحية وذبحها وتوزيعها، والملاحظ أن هذه الصكوك صارت مجال تنافسٍ كبيرٍ بين مختلف الجهات التي تصدرها، ومن كثرة الحملات الإعلانية -الكثيرة والمكلفة- بات بعض المسلمين يختارون صك الأضحية لمن يقدم لهم أقل سعرٍ وأكبر كميةٍ من لحم الأضحية!

صدرت فتاوى من المؤسسات الدينية المختصة بإجازة هذه الصكوك، وامتدحها كثيرٌ من رجال الدين البارزين وشاركوا في الترويج لها، لكن آخرين يرون أنها بدعة.

يقول المؤيدون لفكرة صكوك الأضاحي إنها بدعةٌ حسنةٌ، وإنها مطابقةٌ للشريعة الإسلامية، وهي وسيلةٌ تُمكن الذي يرغب في التضحية ولا يستطيع القيام بذلك بنفسه من توكيل غيره للقيام نيابةً عنه بذبح الأضحية وإطعام الفقير. ويؤكدون على أن ذبح الأضاحي سوف يتم على الطريقة الشرعية، وفي الوقت الشرعي للذبح، ويجري إعداد قوائم المستحقين في المناطق الأكثر احتياجاً للأسر الأولى بالرعاية.

على الجانب الآخر ظهرت أصواتٌ تطالب بالتخلي عن صك الأضحية، باعتباره بدعةً، وتركز على أنه يجب التمسك بشعائر الدين وكل السُنن، وأن التنازل عن أي شيءٍ منها مهما كان صغيراً سيكون عند الله كبيراً، وسيؤدي تدريجياً إلى التنازل عن غيره من الشعائر والسنن. يقول أصحاب هذا الرأي إن الصكوك لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن من شروط قبول الأعمال الاتباع وهذا غير موجودٍ في الصكوك، كما أن العبادات توقيفيةٌ وغير خاضعةٍ للتغيير، ولا يمكن الابتداع بسبب عدم وجود مكانٍ تُذبح فيه الأضاحي؛ فالأولى المحافظة على الشعائر الدينية والعمل على إنشاء وتوفير المجازر وأماكن الذبح المناسبة.

 

في خضم هذا الجدل المستمر اطلعتُ على مقالٍ نُشر منذ عدة سنواتٍ، قالت كاتبته في مقدمته: "لم يعد لنا في هذا الزمان سوى اتخاذ موقع المشاهدة ليتناسب وإيقاع هذا العصر، وليواكب آخر التقاليع العصرية المستحدثة. فإذا كان الفرد منا لم يعد يحتمل بعض الوقت لكي يقف على أضحيته بين يدي الله، يكبر عليها ثم ينحرها، بل وتقف عليها الأسرة كلها من طفلها حتى شيخها. فأهلونا قد علمونا أن الحسنات بعدد شعراتها إذا ما وقف الفرد على نحرها، ثم تتجمع الأسرة في فرحةٍ غامرةٍ للإفطار من كبدها، وذلك بعدما نتصدق بالثلث ونهدي الثلث وندخر بالثلث. ثم إن وقوفنا عليها حين نحرها يغرس في نفوسنا كأطفال ما لن نتنازل عنه أبداً فيما بعد، وهو النحر يوم العيد". ثم أشارت كاتبة المقال إلى الآثار الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والتربوية لعملية النحر، وكيف أن صكوك الأضاحي لا تحقق أياً من هذه الآثار، وتساءلتْ: "صك الأضحية كسلٌ أم رفاهية"؟ وجعلتْ هذا التساؤل عنواناً لمقالها. أعجبني المقال وقمتُ بإعادة نشره، وإذ بالتعليقات تنهال عليّ ما بين مؤيدٍ ومُعارض!

وكان ردي أن فتاوى الجهات الرسمية التي أجازت هذه الصكوك، أجازتها للحالات الخاصة فقط، مسلمٌ قادرٌ مادياً يريد أن يُضحي ولا يستطيع لأسبابٍ خاصةٍ أن يقوم بذلك بنفسه فهو يوكل غيره -شخصاً كان أو مؤسسة- للقيام بذلك. ولا شك أن هذا رأيٌ شرعيٌ صحيح، لكن ما أود التنبيه إليه هو ألا يعتبر الناس هذه الإجازة هي الأصل فيما يتعلق بشعيرة الذبح، فهي شعيرةٌ من شعائر الله تستوجب التعظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ويقول عنها سبحانه: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى﴾، ويقول كذلك: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما عملَ آدميٌّ منْ عملٍ يومَ النحرِ، أحبَّ إلى اللهِ منْ إهراقِ الدمِ إنها لتأتي يومَ القيامةِ بقرونِها، وأشعارِها، وأظلافِها، وإنَّ الدمَ ليقعَ من اللهِ بمكانٍ، قبلَ أن يقعَ على الأرضِ، فطيبُوا بها نفسًا]، وقال عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة: [يَا فَاطِمَةُ قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ]. ولصكوك الأضاحي مزايا معتبرةٌ وفوائد لا يُنكرها إلا جاحد، لكنها لا ترقى أبداً لمزايا وفوائد التمسك بالسُنة النبوية الشريفة، وتبقى الصكوك رخصةً فقط لمن لا يستطيع، حتى لا نُفوِّت على أنفسنا ثواب الالتزام بالسُنة.

أحبتي .. عرضتُ عليكم رأي المؤيدين لفكرة الصكوك، كما عرضتُ رأي المعارضين لها، وحددتُ موقفي من هذين الرأيين، وأقول لمن له رأيٌ مخالفُ، كما قال الإمام الشافعي: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب". وكل عام ونحن وأنتم والأمة الإسلامية بخيرٍ، سواءً اشترينا (خروف العيد) أو تشاركنا في أضحيةٍ من البقر أو الجاموس أو الجمال وعظَّمنا شعائر الله والتزمنا بسُنة نبينا في أضاحينا، أو قمنا بشراء صك أضحيةٍ؛ فالخلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية، نسأل الله القبول.

اللهم تقبل منا طاعاتنا، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا اللهم سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/3rsSuQs

الجمعة، 16 يوليو 2021

عواقب التسرع

خاطرة الجمعة /300


الجمعة 16 يوليو 2021م

(عواقب التسرع)

 

تقول إحدى المعلمات: دربتُ مجموعةً من الأطفال في نهاية العام الدراسي لأداء نشيدٍ أمام أمهاتهن في تلك الحفلة. وبعد بروفاتٍ عديدةٍ ومتقنةٍ، جاء حفل الافتتاح والتخرج، وبدأ النشيد، غير أن ما عكر ذلك الاستعراض الجميل، هو أن إحدى الطفلات، تركت الإنشاد مع زميلاتها، وأخذت تحرك يديها وجسمها وأصابعها وملامح وجهها بطريقةٍ هي أشبه ما تكون بالكاريكاتيرية، إلى درجة أنها كادت تُربك الفتيات الأخريات بحركاتها الغريبة المستهجنة. ‏حاولتُ أن أنهرها وأنبهها للانضباط دون جدوى، إلى درجة أنني من شدة الغضب كدتُ أن أسحبها عنوةً من على خشبة المسرح، غير أنني كلما اقتربتُ منها، راوغتني كالزئبق، وتمادت في حركاتها التي لفتت أنظار الجميع، وأخذت تتعالى ضحكات وقهقهات الأمهات الحاضرات المندهشات مما يحصل. ووقعتُ عيناي على المديرة التي سال عرق وجهها من شدة الخجل، وتركت مقعدها واتجهت نحوي وهي تقول: "لا بد أن نفصل ونطرد تلك الطفلة المشاغبة من المدرسة"، فشجعتها على ذلك. غير أن ما لفت نظرنا أن أم تلك الطفلة كانت طوال الوقت واقفةً تُصفق لابنتها بحرارةٍ، وكأنها تحثها على الاستمرار بعبثها غير المفهوم. وما إن انتهى النشيد حتى اندفعتُ إلى خشبة المسرح وجذبتُ هذه الطفلة من ذراعها بكل قوةٍ وسألتها: "لماذا لم تُنشدي مع زميلاتك بدلاً من أن تقومي بتلك الحركات الغبية"؟! فقالت: "لأن أمي كانت موجودةً"، فتعجبت من ردها ذاك، ولكنني صُدمت عندما قالت لي بكل براءةٍ: "إن أمي لا تسمع ولا تتكلم، وأردتُ أن أقوم بالترجمة لها على طريقة الصُم البُكم؛ لكي تعرف كلمات النشيد الجميلة، وأريدها أن تفرح كذلك مثل بقية الأمهات". ما إن سمعتُ تبريرها حتى انهرتُ وحضنتُها وبكيتُ رغماً عني، وعندما عرف الجميع السبب تحولت القاعة بكاملها إلى بكاء. ولكن أحلى ما في الموضوع أن المديرة بدلاً من أن تفصلها كرمتها، ومنحتها لقب: الطفلة المثالية، وخرجت مع أمها مرفوعة الرأس وهي تقفز على قدميها من فرط السعادة!

 

أحبتي في الله .. التسرع في الحكم على الآخرين أو التسرع في الحكم على تصرفاتهم وسلوكهم لا يوصل الإنسان عادةً إلى استنتاجٍ صحيحٍ، ومن ثمّ إلى رد فعلٍ طبيعيٍ ومنطقيٍ، بل قد يصل به إلى ما لا تُحمد عقباه، وغالباً ما يجد الإنسان نفسه محرجاً ونادماً وشاعراً بالأسى والأسف، وهذا كله من (عواقب التسرع).

وهذا موقفٌ حدث في صباح أحد الأيام في قطار الأنفاق بمدينة «نيويورك»، يقول راوي الموقف: كان الركاب جالسين في سكينةٍ؛ بعضهم يقرأ الصحف، وبعضهم مستغرقٌ بالتفكير، وآخرون في حالة استرخاء. كان الجو ساكناً مفعماً بالهدوء! فجأةً، صعد رجلٌ بصحبة أطفاله الذين سرعان ما ملأ ضجيجهم وهرجهم عربة القطار. جلس الرجل إلى جانبي وأغلق عينيه متغافلاً عن الموقف كله؛ كان الأطفال يتبادلون الصياح ويتقاذفون بالأشياء، بل ويجذبون الصحف من الركاب. كان الأمر مثيراً للإزعاج، ورغم ذلك استمر الرجل في جلسته إلى جواري دون أن يحرك ساكناً! لم أكن أصدق أن يكون على هذا القدر من التبلد والسماح لأبنائه بالركض هكذا دون أن يفعل شيئاً. بعد أن نفد صبري التفتُ إلى الرجل قائلاً: "إن أطفالك يا سيدي يسببون إزعاجاً للكثير من الناس، وإني لأعجب من كونك لم تفعل شيئاً لكبح جماحهم، إنك عديم الإحساس"، فتح الرجل عينيه -كما لو كان يعي الموقف للمرة الأولى- وقال بلطفٍ: "نعم إنك على حقٍ، يبدو أنه يتعين عليّ أن أفعل شيئاً إزاء هذا الأمر، لقد قدِمنا لتوِّنا من المستشفى حيث لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة منذ ساعةٍ واحدةٍ، إنني عاجزٌ عن التفكير، ولا أعلم كيف أقول لهم هذا الخبر، فكلما رأيتهم يلعبون ويمرحون يعجز لساني عن الكلام، وأظن أنهم لا يدرون كيف يواجهون الموقف أيضاً"!!

يقول راوي الموقف: تخيلوا شعوري آنئذٍ، فجأةً امتلأ قلبي بآلام الرجل، وتدفقت مشاعر التعاطف والتراحم دون قيودٍ، وقلتُ له: "هل ماتت زوجتك للتو؟ إنني آسفٌ، هل يمكنني المساعدة"؟ لقد تغير كل شيءٍ في لحظةٍ، وشعرتُ بالإحراج من نفسي ومن تسرعي بحكمي على ذلك الرجل واتهامه بعدم الإحساس.

 

وهذا موقفٌ آخر يوضح بجلاء أن (عواقب التسرع) وخيمةٌ؛ إذ لاحظ مدير مصنعٍ خلال تجواله في المصنع شاباً يستند إلى الحائط ولا يقوم بأي عملٍ؛ اقترب منه وقال له بهدوءٍ: "كم راتبك"؟ كان الشاب هادئاً ومتفاجئاً بالسؤال لكنه أجاب: "500$ تقريباً شهرياً يا سيدي، لماذا"؟ دون أن يتكلم أخرج المدير محفظته وسحب منها 500$ نقداً أعطاها للشاب -بمثابة إنهاء لخدمته- وقال له: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا وليس للوقوف دون عملٍ. والآن هذا راتبك الشهري مقدماً، أُخرج ولا تعد"! أخذ الشاب المبلغ وهو مندهشٌ واستدار وخرج مسرعاً. نظر المدير إلى باقي العمال وقال بنبرة تهديد: "هذا ينطبق على الجميع في هذا المصنع؛ من لا يعمل نُنهي عقده مباشرةً". اقترب المدير من أحد العمال الموجودين وسأله: "مَن هو الشاب الذي قمتُ بطرده"؟ فجاءه الرد المفاجئ: "إنه رجل توصيل البيتزا يا سيدي، ولا يعمل هنا"!

 

أما ما أثَّر فيّ وجعل دموعي تتساقط من عينيّ رغماً عني فهي هذه القصة التي تُروى عن (عواقب التسرع)؛ فقد كان أبٌ يلمع سيارته الجديدة الأنيقة ذات يومٍ، إذ فوجئ بابنه الصغير يخدش السيارة ويكتب عليها بمسمارٍ التقطه من الأرض على حين غفلةٍ من أبيه، ثار الأب وفي قمة غضبه واندفاعه أخذ بيد ابنه وضربه عليها عدة مراتٍ دون أن يشعر أنه كان يستخدم للعقاب قضيباً حديدياً ضخماً. كانت ثورة الأب عارمةً؛ فالسيارة جديدةٌ وتخريب الابن لها لم يكن متوقعاً، لهذا كانت الضربات قاسيةً وقويةً مما أدى إلى بتر أصابع الابن في المستشفى لاحقاً، وتحول العقاب إلى مأساةٍ، عندما سأل الطفل المسكين أباه ببراءةٍ: "متى ستنمو أصابعي ثانيةً يا أبي"؟ هذا السؤال كاد يمزق قلب الأب ويحرقه حسرةً وندماً.

ترك الأب المستشفى عائداً للبيت وتوجه إلى السيارة وبدأ يركلها بقدمه عدة مراتٍ حتى أعياه التعب فجلس بجوارها يبكي بحرقةٍ، ثم إذا به ينظر إلى جانب السيارة المخدوش فوجد أن ابنه كان قد كتب: "أحبك يا أبي".

 

إن (عواقب التسرع) دائماً ما تؤدي إلى الندم؛ لذا يقول الله سبحانه وتعالى حاثاً المؤمنين على عدم التسرع، طالباً منهم التبين والتثبت والتأكد حتى لا يصيبهم الندم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، أما في عمل الخيرات فيكون المطلوب هو المسارعة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾، وكذلك في طلب المغفرة يقول سبحانه: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾. ويصف المولى عزَّ وجلَّ الإنسان بأنه عجول؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. يُفَسِر العلماء ذلك بأن العجلة هي السرعة في الشيء، وهي مذمومةٌ فيما كان المطلوب فيه الأناة، محمودةٌ فيما يُطلَب تعجيله والمسارعة إليه كأعمال الخيرات؛ كما في قول سيدنا موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [التُّؤدة في كلِّ شيء خيرٌ إلَّا في عمل الآخرة] -وقيل أنه قولٌ لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه- ومعناه: التَّأنِّي وترْكُ العجَلَةِ خَيْرٌ في كلِّ الأعْمالِ، إلَّا في العَملِ المُتعلِّقِ بالآخِرَةِ مِن أمْرٍ أو نهيٍ، أو بأعمالِ التقرُّبِ إلى اللهِ تعالَى؛ فالتَّأخيرُ في هذا العَملِ مَذْمومٌ غيرُ محْمودٍ، بل يَنْبغي الإسْراعُ والمُسابَقَةُ إلى عمَلِ الآخِرَةِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَعْلَمُ متى يَنتهي عمرُه ويأتيه أجَلُه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: [إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ]، فما أحوجنا إلى التحلي بهذا الخلق الطيب في بيوتنا ومجتمعاتنا التي تعاني من التسرع والعجلة في الحكم على الغير وفي اتخاذ القرارات؛ فالعجلة بصفةٍ عامةٍ مذمومةٌ، ونقيضها وهو التأني محمودٌ؛ قال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام: [التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ]، فالعجلة -كما يقول العلماء- خفَّةٌ وطيشٌ وحِدَّةٌ في العبد تمنعه من التَّثبُّت والوقار والحلم، وتُوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعاً من الشُّرور، وتمنع عنه أنواعاً من الخير، وهي قرين النَّدامة؛ فقَلَّ من استعجل إلَّا ندم. ومن المواقف التي ينبغي عدم التعجل فيها إجابة الدُّعاء؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي] فالاستعجال هنا يحرم الشخص من إجابة دعائه.

 

أما المختصون في علم النفس وعلم الاجتماع فيقولون إن الشخصية المتسرعة في الحكم من دون النظر إلى الموضوع بشيءٍ من التروي تتصف بالاندفاع، وعادةً ما يندم المتصفون بالتسرع في الأحكام ويقعون في حرجٍ دائمٍ، ما يجعلهم كثيري الاعتذار للآخرين. وينصحون بتجنب التسرع في إصدار الأحكام على الآخرين؛ لأنها قد تكون أحكاماً خاطئةً. ويشيرون إلى أن التنشئة داخل الأسرة لها أثرٌ مباشرٌ في اكتساب صفة العجلة في الحكم على الآخرين من دون تروٍ وتثبتٍ، فالابن يلاحظ أبويه وإخوانه الكبار يصدرون أحكاماً تخصه أو تخص أقاربهم من دون أن يستمع منهم بأنهم يجب أن يتثبتوا مما سمعوا. ويرى المختصون أن التسرع في الحكم يفقدنا كثيراً من الأصدقاء المخلصين، إذ لن يقبلوا منا أن نجعلهم في مرمى سوء الظن والحكم الخاطئ غير المبني على الحقائق، مما يؤثر في العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد؛ فكثيرٌ من الخلافات التي تقع بين أخوين أو زوجين أو صديقين تكون من بين (عواقب التسرع) أو عدم التثبت. والتسرع صفةٌ التصقت دوماً بالمتهورين من الناس أو الذين لا يفكرون بشكلٍ متأنٍ أو يعطون أنفسهم وقتاً كافياً للتفكير؛ لذا فإن أغلب القرارات المتسرعة تكون خاطئة، لا نجني من ورائها إلا الندم؛ فلا يمكن استرجاع الكلمات بعد نُطقها، ولا يمكن استرجاع الخطأ بعد وقوعه، إن التأني والحلم والرفق ومجاهدة النفس دليل رجاحة العقل واتزان النفس، وعلى العكس فإن التهور والاندفاع دليل خفة العقل؛ فكم من الحماقات ارتُكِبَت بسبب التهور وعدم التأني، وكم من الصداقات تقطعت بسبب التسرع والتهور والعجلة، وكم من المشكلات حدثت، وكم من البيوت هُدمت لهذا السبب!

 

قالوا عن التسرع: ما نفعله بسرعة لا نفعله بإتقان، على النابل أن يتأنى فالسهم متى انطلق لا يعود، خيرٌ لك أن تصل متأخراً من ألا تصل أبداً، الذين يتقدمون باندفاعٍ كبيرٍ يتراجعون بسرعةٍ أكبر، ما يُعمل بالسرعة لا يُعمل بالحكمة، العجلة هي أم الإخفاق، كلما أسرعنا تأخرنا في الوصول، في التأني السلامة وفي العجلة الندامة، ومن تأنى نال ما تمنى.

 

أحبتي .. علينا التحلي بخُلُق الأناة والتروي والتؤدة، والسعي لاكتساب هذا الخُلُق إن لم نكن نملكه؛ واكتسابه أمرٌ ممكنٌ لكنه يحتاج إلى صبرٍ ومجاهدة نفس. وعلينا أن ننتبه جيداً إلى أن أبناءنا يتعلمون منا قيمنا وسلوكنا ويتشربوها منا دون أن نشعر.

رزقنا الله وإياكم هذا الخُلُق، وأعاننا على شهوة النفس وجموحها إلى السرعة والعجلة، وعافانا من (عواقب التسرع) وتبعاته المؤلمة.

https://bit.ly/2Tixrne


الجمعة، 9 يوليو 2021

نعمة الأخت

 

خاطرة الجمعة /299


الجمعة 9 يوليو 2021م

(نعمة الأخت)

 

يقول راوي القصة: طلبتْ مني والدتي إيصال بعض الأغراض إلى منزل أختي، ورغم أني حاولتُ التهرب من ذلك بحجة العمل ومشاغل الحياة المختلفة؛ فقد أصرت أمي على طلبها ما جعلني أستسلم لها في الأخير، فتوجهتُ نحو منزل أختي بعد أن أعلمتها والدتي عبر الهاتف مسبقاً بقدومي. الأمر الغريب أني لم أزر منزل أختي منذ زواجها، بحجة إقامتها مع أهل زوجها في منزلٍ مشترك! ‏وبسبب ثقل الأغراض التي نقلتها اضطررتُ إلى دخول منزل أختي بنفسي لأول مرةٍ؛ حتى أضع ما جلبته في غرفتها، فكان أول ما شد انتباهي هو السعادة التي لمحتها في عيون أختي حتى أنها ظلت تُحدث أهل زوجها عني بسعادةٍ غامرةٍ: "أخي، إنه أخي، نعم أخي هو من جلبها"، قالت إحداهن -ربما أخت زوجها-: "أهذا أخوك؟! لم نره من قبل" فردت: "مشغولٌ في عمله، المسكين لا يرتاح أبداً". كم شعرتُ بالخجل حين سمعتُ محاولات أختي لتبرئتي من تهمة الإهمال الذي أقدمه لها كل يومٍ بعدم زيارتها والاطمئنان عليها، بينما ظلت هي تحاول الدفاع عني بأعذار واهيةٍ لا أساس لها! وأكثر من ذلك، حين حاولتُ المغادرة أوقفتني قائلةً: "توقف، لن تغادر قبل أن تشرب القهوة، لقد أعددتُ لك فطوراً لكنك تأخرتَ لهذا سأقدم لك القهوة، أعددتُ لك بعض الحلويات التي تحبها"، حاولتُ الرفض فلمحتُ دموعاً تجمعت في عينيها فتيقنتُ أني لو ذهبتُ لانفجرت بعد مغادرتي بالبكاء، فكأنما لسان حالها يقول: "أنت لا تأتي مطلقاً، وعندما أتيتَ تذهب بهذه السرعة؟ هل أتيتَ من أجل الأغراض فقط؟ وأنا؟ ألا يهمك أمري مطلقاً؟!"، تنهدتُ موافقاً على دعوتها، حينها اتصلت بزوجها مدعيةً سؤالها عن تأخره، وهي فعلت ذلك فقط لتخبره عن زيارتي، كانت تخبره بلهفةٍ ولو استطاعت لأخبرت كل الأهل والجيران بذلك من فرط سعادتها. لم أحظَ باستقبالٍ كهذا في حياتي، هل هي مكانتي الكبيرة عندها؟ أم هي محاولةٌ منها لتعويض أيامٍ غبتها عنها وحرمتها من زيارتي لها؟ كانت فرحتها كطفلةٍ تنتظر عودة أبيها بعد طول غياب، وكان اهتمامها كأمٍ تحاول تعويض ابنها بحنانها وسرد تفاصيل حياتها كلها دفعةً واحدة!

غادرتُ بيتها بعد ذلك وأنا أحس أني صغيرٌ جداً، كطفلٍ وُلد للتو، فأنا لا أستحق كل ذلك الكرم من أختي، ولم أتوقع أبداً مدى سعادتها بزيارتي. سألت نفسي كيف تمكنت أختي من تقديم كل ذلك لي وأنا الذي دفنتها منذ سنوات في مقبرة الإهمال والنسيان؟ غادرتُ ورغم ذلك ظلت تطل من شِق نافذة غرفتها حتى ابتعدتُ وتواريتُ عن نظرها، ودعتني وكلها خوفٌ أن تكون هذه آخر زيارةٍ مني لها، فظلت تقول: "عُد لزيارتي مرةً أخرى، عُد لزيارتي رجاءً، عُد يا أخي فأنا أنتظرك".

 

أحبتي في الله .. ما أجمل ولا أروع من أن يعيش الإنسان على فطرته التي خلقه الله عليها؛ فلا يحاول تغييرها أو تبديلها. لقد فُطر الأخ على حب أخواته، وفُطرت الأخت على حب إخوانها. إنها (نعمة الأخت) أنعم بها الله سبحانه وتعالى على من له أخت.

وبقدر فرحة وسعادة الأخت بزيارة أخيها الذي لم يزرها منذ مدةٍ طويلةٍ، بقدر فرحة وسعادة أختٍ أخرى أنقذها أخوها بذكاءٍ من موقفٍ محرج؛ تقول الأخت: بعد أن نظفتُ بيتي ورتبتُه، اتصلَ بي أخي، قائلاً لي: "أنا آتٍ لزيارتِكِ ومعي زوجتي"، دخلتُ مطبخي لأُعدَّ لهم ما تيسرَ، فلم أجد شيئاً عندي للضيافة، ذهبتُ أبحثُ عن شيءٍ أقدمُهُ لهما، فلم أجد سوى حباتٍ قليلةٍ من البرتقال، فحضَّرتُ كأسيّ عصيرٍ باردٍ على الفور. عندما دخل أخي وزوجتُه، فوجئتُ بأمِّ زوجةِ أخي معهما، أتت لزيارتي للمرةِ الأولى، فقدمتُ الكأسين لزوجة أخي وأمِها، ووضعتُ كأس ماءٍ أمام أخي، وقلتُ له: "أعرفُ أنكَ تحبُ السڤن آب"، فشربَ منهُ رشفةً وعرفَ أنه ماء، وإذا بأمِّ زوجةِ أخي تقول: "أنا أرغبُ في السڤن آب لأنهُ مريحٌ لمعدتي فأعطني إياه"، هنا أُصِبْتُ بالإرباكِ والخجلِ لكنَّ أخي أنقذني حينَ قال لها: "سآتيكِ بزجاجةٍ جديدةٍ من المطبخِ "، حملَ كأسَ الماء معه وتوجه إلى المطبخ، بعدها سمعنا صوتَ زجاجٍ ينكسر؛ فعادَ أخي وقالَ لأمِّ زوجتِه: "للأسفِ الشديدِ وقعَت الزجاجة وانكسرَت، لكنْ لا بأسَ سأذهبُ للبقالةِ لأجلبَ غيرَها"، هنا رفضتْ أمُّ الزوجةِ قائلةً: "لا داعي لذلك فليسَ لي فيهِ نصيب". وحينَ خروجِهم ودَّعني أخي، وفي أثناءِ عناقه لي دسَّ في يدي مبلغاً من المالِ قائلاً: "التفتي لحالِكِ، ولا تنسي تنظيفَ المطبخِ من الزجاجِ المكسورِ" ، وودعني بابتسامةٍ وحُب، وبهذا سترَ أخي عليّ ضيقَ حالي وتقصيري، وراعى مشاعري، وأنقذني من ذلك الموقف المحرج.

 

يقول ناشر القصة: الأخوةُ ورابطةُ الدمِ تكونُ قويةً عندما يشدد الأخُ عضدَهُ بأخيه؛ ألا يقول الإنسانَ عندما يتألمُ "أخ"؟ هذا يوضح كم يجبُ أن تكونَ العلاقةُ بين الإخوةِ قويةً؛ فَهُم ليسَ لهم بعدَ اللهِ إلا علاقتهم بوالديهما وببعضِهم البعض قبلَ أيِّة علاقةٍ أخرى.

 

عن الأخت على وجه الخصوص يقول الله سبحانه وتعالى وهو يشير إلى أم نبي الله موسى عليه السلام: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، يقول أحد العلماء عن هذه الآية: إنها قصة الأخت التي أعلى الله شأنها في كتابه بذكرها؛ حيث مضت في عالمٍ من الخوف والجبروت خلف أخيها الرضيع، لا يمكن لقلبٍ على وجه الأرض -بعد أمه- أن يقوم بهذا الدور الشجاع إلا قلب الأخت، تابعت التابوت حتى ألقاه الموج بالقصر ولم تتراجع، مضت تتابع خبره في القصر رغم المخاطر، واقترحت عليهم ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾. قصة أخت موسى قصة حبٍ مكررةٍ وموجودةٍ في كل بيتٍ من بيوتنا؛ قلوبٌ تحمل هذا الحب للإخوان. سطر القرآن ما يحملنه الأخوات من حبٍ لإخوانهن، لم يقل فلانة لأنه ليست قضية فلانةٍ، بل قال: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾ لأن الأخوة الكامنة هنا الأخوة التي تبعث على الرحمة والعطاء والصلة والإحسان والقرب. الأخت هي النسخة المؤهلة لحمل رسالة الأم؛ فيا حظ من كان من نِعم الله عليه (نعمة الأخت).

 

ويقول سبحانه وتعالى عن النساء بصفةٍ عامةٍ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عنهن: [رِفْقًا بِالْقَوَارِير]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم]، كما قال: [إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]، وقال كذلك: [أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا]، وقال أيضاً: [خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي].

 

ويقول أهل العلم إن الأخ سند أخته وحاميها وخط دفاعها الرئيسي بعد والدها، وهو ينصرها ويرفع عنها الظلم حتى لو كان من زوجها، والأخت من أقرب القرابات، وهي أَوْلَى الناس بالصلة بعد الآباء والأُمهات، وهي من الرحم الواجب وصله. وللأخت حقوقٌ على أخيها ليُقَوي بها ضعفها ويدعمها في عجزها فهو السند الحامي؛ فالأخت أتت من ذات صلب أخيها، ومن ذات الرحم الذي أتى منه فمن أحق منها بالعناية واللطف والرعاية؟

في حال وجود الأب على قيد الحياة يكون للأخ دورٌ في نُصح أخته ومصادقتها والأخذ بيدها، وفي حال وفاة الأب فالأخ يكفل أخته شرعاً، ويكون له الحق في تربيتها وتوجيهها، ومساندتها والعطف عليها ومد يد المساعدة لها أينما احتاجت. والأب هو المسؤول عن النفقة على البيت والأولاد بما فيهم البنات، وبعد وفاته يصبح الأخ مكلفاً بهذا الإنفاق، فيكون هو المعيل الشرعي لأخواته في هذه الحالة.

وفي كثيرٍ من الأحيان تكون حاجة الأخت لوجود أخيها معها معنويةً أكثر منها مادية، فتحتاج إلى وجوده النفسي ودعمه لها والاستماع لها، ودرء الخطر عنها، والسؤال عن أخبارها وأمورها والحفاظ على صداقتها.

وإكرام الأخت والإحسان إليها وصلتها بعد زواجها يشد من أزرها ويرفع رأسها أمام أهل زوجها. وكم هو جميلٌ أن تكون علاقة الأخ بزوج أخته طيبةً وتقوم على الاحترام؛ فالمشترك بينهما هو تلك الأخت، واحترام زوجها من احترامها.

وعلى الأخ أن يساعد أخته ويقف معها وقت اتخاذ قرارات مصيرية وهامة في الحياة مثل: الدراسة والزواج والعمل، وغيرها من الأمور الهامة التي تحتاج فيها إلى الرأي والمشورة. وعلى الأخ أن يُشعر أخته باهتمامه بها وخوفه عليها، وبهذا يكسب ثقتها، لكن للأسف نرى من واقع الحياة أن بعض الإخوة يتسلطون على أخواتهم؛ فينتهكون حرياتهم، ويؤذونهم بحكم أنه الذكر القوي وهي الأنثى الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة. ومن بين صور التسلط حرمان الأخوات من حقهن في التعليم، حجب الميراث الشرعي عنهن، إجبارهن على الزواج ممن لا يرغبن، فرض القيود المشددة المبالغ فيها على خروجهن أو اتصالاتهن أو ملابسهن.

 

وعن (نعمة الأخت) قال الشاعر:

قدرُ الأخوةِ فيكِ لا يُعلى عليه وإن بعدتِ

فمكانكِ بين الحنايا والشغافِ فأنتِ أختي

إن قدَّرَ اللهُ الّلقاءَ فأنا سعدتُ وأنتِ طبتِ

فيكِ عرفتُ القلبَ يطربُ إنْ نطقتِ أو سكتِ

أدعو الإلهَ يصونكِ أنى رحلتِ أو أقمتِ

ويقيمُ فيكِ مراكبي إنْ هاجَ بحركِ أو سكنتِ

 

أحبتي .. لن تكتمل خيريتنا لأهلنا إلا بأن نكون خيرين مع أخواتنا، فهُنّ بحنانهن البلسم لحياتنا، إنهُنّ يُشِعْن في بيوتنا البهجة والأنس، ويهتمون بنا كما لو كُنّ أمهاتنا! فالله الله في أخواتكم، رفقاً بهنّ وإكراماً لهنّ. أختم بما قاله أحدهم: "هناك رجالٌ أدوا حقوق أخواتهم؛ يتفقدونهن يزورونهن يكرمون أزواجهن إكراما لهنّ، يسندونهن يُعينهن يؤنسهن يفرحون بهن، إذا قدمت إحداهن له يعطيها حقها قبل أن تسأله؛ فالشهم يُعامل الكبيرة كأمه يحترمها ويرعاها، ويُعامل الصغيرة كابنته يتلطف معها ويسعى لخدمتها". فلنكن من هؤلاء الرجال الذين يضعون أخواتهم في قلوبهم وعيونهم، ويرعونهم، ويحافظون على حقوقهن، ويقضون لهم مصالحهن قدر الاستطاعة، ثم يشكرون الله سبحانه وتعالى من قبل ومن بعد على ما أنعم به عليهم من نِعمٍ لا تُعد ولا تُحصى، منها (نعمة الأخت).

https://bit.ly/3AWoiSm