الجمعة، 12 مايو 2023

هو الحكيم الخبير

 خاطرة الجمعة /395

الجمعة 12 مايو 2023م

(هو الحكيم الخبير)

تحت عنوان "عندما يكون السارق شريفاً" كتب الشاعر والكاتب الباكستاني "أديب مرزا" المتوفي سنة 1999م في كتابه "المصباح" يقول:

ذهبتُ إلى «دلهي» في الستينات للعمل.. وفي أحد الأيام نزلتُ من الحافلة؛ ثم فتشتُ جيوبي لأتفاجأ بأن أحدهم قد سرقني، وما كان في جيبي حين نُهبت سوى تسع روبياتٍ، ورسالةٍ في مظروفٍ كنتُ قد كتبتها إلى أمي أقول في الرسالة: "أمِّي الحنون، فُصلتُ من عملي، لا أستطيعُ أن أُرسل لكِ هذا الشهر مبلغ الخمسين روبية المعتاد". وكنتُ قد وضعتُ رسالتي هذه في جيبي منذ ثلاثة أيامٍ على أمل أن أُرسلها في وقتٍ لاحقٍ بما يتوفر من روبيات، وبالرغم من أن الروبيات التسع التي سُرقت لا تُساوي شيئاً؛ لكن الذي فُصل من عمله؛ وسُرق ماله تساوي في نظره 9000 روبية! مضت أيامٌ ثم وصلتني رسالةٌ من أمي.. توجستُ خوفاً، وقلتُ في نفسي: "لا بد أنها طلبت المبلغ الذي اعتدتُ إرساله إليها"، لكني عندما قرأتُ الرسالة احترتُ كونها تحمل شكرها ودعواتها لي، قائلةً: "وصلتني منك 50 روبية عبر حوالتك المالية، كم أنت رائعٌ يا بني، تُرسل لي المبلغ في وقته ولا تتأخر بتاتاً، رغم أنهم فصلوك من عملك، أدعو لك بالتوفيق وسعة الرزق..".

عشتُ مُتردداً مُحتاراً لأيام.. مَنْ يا تُرى الذي أرسل هذا المبلغ إلى أُمي؟!! وبعد أيامٍ وصلتني رسالةٌ أُخرى بخط يدٍ بالكاد يُقرأ، كتب فيها صاحبها: "حصلتُ على عنوانك من ظرف الرسالة، وقد أضفتُ إلى روبياتك التسعة، إحدى وأربعين روبيةً كنتُ قد جمعتها سابقاً، وأرسلتها بحوالةٍ ماليةٍ إلى أُمك حسب العنوان الذي في رسالتك.. وبصراحةٍ فإني قد فكرتُ في أُمي وأُمك، فقلتُ في نفسي: لماذا تبيت أُمك أيامها طاويةً على الجوع وأتحمل ذنبك وذنبها؟ تحياتي لك.. أنا صاحبك الذي سرقك في الحافلة.. فسامحني"!

 

أحبتي في الله.. سبحانه وتعالى يدبر أمور الكون كله ويصرف شئون العباد و(هو الحكيم الخبير). انظروا كيف دبّر الله أمر تلك المرأة كبيرة السن، لا تعمل ولا عائل لها، ويبعد عنها ابنها الذي يكفلها آلاف الكيلومترات! وانظروا كيف تم التدبير! لقد سخّر المولى عزَّ وجلَّ سارقاً لإيصال رزقه إلى تلك المرأة عندما عجز ابنها عن ذلك! فسُبحان من رقّق قلب هذا السارق لها! سُبحانه وتعالى يُدّبر الأمر من حيث لا نحتسب؛ أليس (هو الحكيم الخبير)؟!

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى بطلها هو الآخر لص! قصةٌ تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي تقول إن شخصاً اتصل بأحد البرامج الإذاعية الصباحية الذي يُبث يومياً على إحدى الإذاعات الأردنية، وعرّف المتصل بنفسه على أنه حرامي يقتات من السرقة! ولديه قصةٌ يُريد أن يقولها عبر الإذاعة ليُعرِّف الناس بها علهم يجدون حلاً للغزٍ حيَّره. لم يُصدق المذيع أن أحداً يُعرِّف بنفسه على أنه حرامي واعتقد بأنّ في الأمر دُعابةً، إلا أنه سمح للحرامي أن يقص قصته ويسرد وقائعها! قال الحرامي إنه دأب على مراقبة ڤيلا في إحدى أرقى ضواحي العاصمة الأردنية بمنطقة «عبدون» لمدةٍ تقرب من الشهر؛ لأنه كان ينوي سرقة الڤيلا لمعرفته بأنها شبه خاويةٍ من أهلها، لكنه وأثناء مراقبته لاحظ أمراً عجيباً؛ فبين كل يومٍ ويومٍ يأتي رجلٌ وامرأةٌ ومعهما شابٌ أو فتاةٌ أو أكثر، وبعد مُضي بعض الوقت يخرج الرجل والمرأة ولا يخرج من كان معهما أبداً؛ فبدأ بالمراقبة الحثيثة للڤيلا عله يعرف متى ستكون خاويةً لينقضّ عليها ويسرقها، لكنه كان يرى ذات الشيء يتكرر؛ الرجل والمرأة يخرجان ولا يخرج من كان بصحبتهما! ومما زاد من حيرته واستغرابه كيف يبقى كل هؤلاء الشباب والفتيات في ظُلمةٍ بغير أي ضوءٍ وبلا حركةٍ تظهر من أيٍ منهم؟! راقب كل منافذ الڤيلا والأسوار المحيطة بها عله يرى باباً سحرياً أو منفذاً يخرج منه هؤلاء، فلم يرَ شيئاً! الأمر الذي دعاه للاتصال بالبرنامج لأنه لا يستطيع أن يلجأ إلى الشرطة مُعرّفاً بنفسه أنه حرامي يريد أن يسرق تلك الڤيلا! فما كان من القائمين عن البرنامج الإذاعي إلا التأكد من كلام ذلك الحرامي والاتصال بالأمن ليكتشف المجتمع الأردني واحدةً من أبشع جرائم العصر؛ إذ اكتشف رجال الأمن أن الڤيلا كانت مقبرةً جماعيةً وسوقاً للأعضاء البشرية، واكتشفوا أن الرجل والمرأة هما من سماسرة الأعضاء البشرية، يُحضران الشباب والفتيات ويُخدِّرونهم ثم يقتلونهم بعدما يأخذون الأعضاء المُناسبة من أجسامهم كالنخاع الشوكي والكليتين والقلب وكل ما يلزم، ثم يدفنون موتاهم في الڤيلا المجهزة بالثلاجات وكافة الوسائل لحفظ الأعضاء البشرية!

جريمةٌ كشفها لصٌ، ما كانت لتخطر على بال أحد، في وسط أرقى أحياء «عمّان» وفي وضح النهار! وهكذا أسدل هذا الحرامي الستار عن واحدةٍ من أبشع الجرائم!

ورغم نفي الجهات المسئولة صحة هذه الواقعة، فإنه لا يوجد ما يمنع حدوثها بالفعل، وهي تُبين لنا أن الله إذا أراد لشيءٍ أن يكون فإنه يُسّخر من يشاء لفعل ما يشاء وقت ما يشاء وكيفما شاء أليس (هو الحكيم الخبير)؟

 

يقول أهل العلم إن اسم الله (الحكيم) ورد في القرآن الكريم إحدى وتسعين مرةً، واقترن بـ(الخبير) أربع مراتٍ، وورد اسم الله (الخبير) في القرآن الكريم خمساً وأربعين مرةً. والآيات التي اقترن فيها الاسمان هي: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.

فالله عزَّ وجلَّ حكيمٌ، موصوفٌ بكمال الحكمة، وبكمال الحُكم بين المخلوقات؛ فهو واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، تام القدرة، يضع الأشياء مواضعها، ويُنزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، حكيمٌ فيما أمر به ونهى، وأثاب وعاقب، وفيما خلق وقدّر، وفي تدبيره شئون جميع خلقه، لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها، ولا يقع في تدبيره خلل.

وهو سُبحانه خبيرٌ مُطلعٌ على الظواهر والبواطن، والسرائر والضمائر وخفايا الأمور، أحاط علمه بالماضي والحاضر والمستقبل، لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، لا يجري في مُلكه وملكوته شيءٌ إلا ويكون عنده خبره، عالِمٌ بدقائق الأمور، عالِمٌ بما كان وما سيكون وما هو كائنٌ وما لم يكن لو كان كيف يكون.

يُدبر سُبحانه وتعالى الأمر؛ بتقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حالٍ وأفضل عاقبةٍ، يُقدِّر أمر جميع الكائنات والمخلوقات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويُهيئ بقدرته أسبابها لتجيء محمودة العاقبة.

سُبحانه وتعالى (هو الحكيم الخبير) المدبر لشئون خلقه، لا يكون من أمرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ إلا بعلمه وتقديره.

 

أحبتي.. قدرة الله لا حدود لها؛ فهو عزَّ وجلَّ ﴿بَالِغُ أَمْرِهِ﴾، وهو ﴿غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾، كما أنه ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ وهو ﴿الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، وهو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ و(هو الحكيم الخبير)، وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ لا شيء يُعجزه؛ فلنُحسن الظن به، نلجأ إليه، ونتوكل عليه، وندعوه ونُلح في الدعاء ونحن موقنون بالإجابة، ونأخذ بالأسباب، حينها تتنزل علينا رحمته؛ فيستجيب دعاءنا، ويُحقق رجاءنا، ويُدهشنا ليس فقط بكرم عطائه بل وبالطريقة التي يصل لنا عطاؤه بها!

أنصح نفسي وإياكم بتقوى الله، والإخلاص له، والثقة فيه، وحُسن الظن به، ثم علينا الأخذ بالأسباب التي لا تُخالف الشرع إلى مداها، ولا نحمل بعد ذلك هّم الإجابة؛ فسيُدّبر لنا الله برحمته وقدرته ما فيه نفعٌ لنا، ولو عن طريق عدوٍ، أو بواسطة شخصٍ نستبعد تماماً أن يكون مصدر خير!

أهم ما يتوجب علينا فعله أحبتي هو التقرب إلى الله بالمُحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {...وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...}.

اللهم ثبّتنا على الهُدى، وزِد إيماننا، وقوِ عزائمنا، وأعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/3MjhWmD

 

الجمعة، 5 مايو 2023

القاتل الصامت

 خاطرة الجمعة /394

الجمعة 5 مايو 2023م

(القاتل الصامت)

من القصص الواقعية، كتبت إحداهن تقول: تزوجتُ قبل عشر سنواتٍ من شابٍ مُدخنٍ دون علمي أنه يدخن.. ورغم ثقافته ورزانته وحُسن تعامله، ومُحافظته على الصلاة، إلا أنني ذقتُ الجحيم والمصائب من جراء تدخينه ورائحته النتنة ورائحة ملابسه، وحاولتُ أن أشجعه على ترك التدخين فكان يعدني خيراً ولكنه يُماطل ويُسوّف.. واستمر هذا الوضع حتى كرهتُ نفسي؛ فقد كان يُدخن في السيارة وفي المنزل وفي كل مكانٍ حتى إنني فكرتُ في طلب الطلاق بسبب التدخين.. وبعد أشهر رزقني الله بطفلٍ كان يمنعني من طلب الطلاق. أُصيب طفلنا بالربو الشُعَبي وذكر الطبيب أن سبب ذلك يعود إلى التدخين، وخصوصاً حوله، لأن والده يُدخن بجواره.. ولم ينثنِ زوجي عن التدخين، وذات ليلةٍ قمتُ من نومي على سُعال طفلي؛ كان يسعل بشدةٍ بسبب ربو الأطفال، وقمتُ أبكي لحاله وحالي، فعزمتُ أن أُنهي هذه المأساة بأي ثمن، ولكن هاتفاً أخذ يهتف بداخلي لماذا لا تلجئي إلى الله؟ قمتُ وتوضأتُ وصليتُ ما شاء الله لي أن أُصلي، ودعوتُ الله بأن يُعينني على هذه المصيبة ويهدي زوجي لترك التدخين (القاتل الصامت)، وقررتُ الانتظار.

وذات ليلةٍ كنا نزور مريضاً من أقاربنا مُنوماً في إحدى مستشفيات «الرياض»، وبعد خروجنا من زيارة المريض وأثناء توجهنا لموقف السيارات أخذ زوجي يُدخن فكررتُ الدعاء له في سري، وبالقُرب من سيارتنا لمحتُ طبيباً يرتدي البالطو الأبيض يبحث عن سيارته هو الآخر داخل الموقف، ثم فجأةً قام بالاقتراب من زوجي وقال له: "يا أخي أنا مُنذ السابعة صباحاً وأنا أُحاول مع فريقٍ طبيٍ إنقاذ حياة أحد ضحايا هذه السجائر اللعينة من مرض سرطان الرئة! وهو شابٌ في مثل عمرك ولديه زوجةٌ وأطفال!! ويا ليتك تذهب معي الآن لأُريك كيف يُعاني هذا المريض، ويا ليتك ترى كيف حال أبنائه الصغار وزوجته الشابة من حوله، ويا ليتك تشعر بدموعهم وهُم يسألونني كل ساعةٍ عن وضع والدهم، ويا ليتك تُحس بما يشعر به وهو داخل غرفة العناية المركزة حينما يرى أطفاله يبكون وترى دموعه تتساقط داخل كمامة الأُكسجين، لقد سمحتُ لأطفاله بزيارته لأنني أعلم من خبرتي بأنه سيموت خلال ساعاتٍ إلا أن يشاء الله أن يرحمه، ثم يا ليتك تشعر به وهو ينتحب ويبكي بكاء الأطفال لأنه يعلم خطورة حاله وأنه سيودّعهم إلى الدار الآخرة!! أتريد أن تكون مثله لكي تشعر بخطورة التدخين (القاتل الصامت)؟! يا أخي أليس لك قلب؟! أليس لك أطفالٌ وزوجة؟! لمن تتركهم؟! أيهونون عليك لمجرد سيجارةٍ لا فائدة منها سوى الأمراض والأسقام؟!".

سمعتُ أنا وزوجي هذه الكلمات، وما هي إلا لحظاتٌ حتى رمى زوجي سيجارته، ومن ورائها علبة السجائر، فقال له الطبيب المُخلص: "عسى ألا تكون هذه الحركة مُجاملةً منك، أرجو أن تكون صادقاً مع نفسك؛ وسترى الصحة والسعادة!!". ثم ذهب إلى سيارته وأنا أرمقه، بُح صوتي وتجمعت العبرات في مُقلتيّ، وانفجرتُ من البكاء حتى ظهر صوتي، عجزتُ عن كتم شعوري، ولم أتمالك نفسي وأخذتُ أبكي وكأنني أنا زوجة ذلك المسكين الذي سيموت. أما زوجي فقد أخذه الوجوم، وأطبق عليه الصمت ولم يستطع تشغيل سيارته إلا بعد فترة، وأخذ يشكر ذلك الطبيب، ويكيل له عبارات الثناء والمدح، ويقول يا له من طبيبٍ مُخلص. وكانت هذه نهاية قصة زوجي مع التدخين.

 

أحبتي في الله..

يقول أهل العلم إن التَّدخين (القاتل الصامت) مُحرمٌ شرعاً؛ لما فيه من خُبثٍ وأضرارٍ ومفاسد كثيرةٍ وعظيمةٍ على المدخِّن وعلى غيره من أهله وأصدقائه وكل مَن يكون بقُربه عندما يُدخِّن، وذلك بالأدلة الشَّرعيَّة من القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة الشَّريفة.

فمن القرآن الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾، وتُبين الآية أن كلَّ طيِّبٍ حلالٍ وكلَُ خبيثٍ حرامٌ، ولا شك أن الدخان يُصنف من الخبائث لا من الطيبات من حيث الطعم والرائحة والآثار في البدن. ويقول تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾، فالآية الكريمة تدعو إلى عدم قتل النَّفس، وكلُّ ما يؤدِّي إلى إهلاك النَّفس فهو مُحرَّمٌ، ومن المعروف أن التَّدخين سببٌ رئيسيٌّ لأمراضٍ خطيرةٍ فتَّاكةٍ بجسم الإنسان وصحَّته، ومن هنا كان التَّدخين مُحرَّماً؛ لأنَّه قتلٌ للنَّفس؛ فقد أجمع الأطبَّاء على أنَّ التَّدخين يُسبِّب العديد من الأمراض منها السرطان؛ ممَّا يؤدي إلى الموت، ويدخل ذلك في الانتحار المُحرَّم، ومن المعلوم أنَّ المحافظة على النَّفس واجبٌ شرعيٌ، كما أنَّه مقصدٌ من مقاصد الشَّريعة. والتدخين يهدر المال فيما لا ينفع، والإسلام نهى عن الإسراف في المال، وعدَّ المسرف مُبذِّراً لماله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.

ومن السُنة النبوية قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ [يَنْهَى عن قيلَ وقالَ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وإضَاعَةِ المَالِ] والدخان فيه إضاعةٌ للمال واستهلاكٌ لمبالغ طائلةٍ بلا فائدة. ووجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفظ النَّفس وعدم الاضرار بها، وقال: [لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ]، أي أنَّ ما يُسبَّب ضرراً للإنسان فهو مُحرَّمٌ يجب الابتعاد عنه، والتَّدخين فيه أضرارٌ كثيرةٌ وليس ضرراً واحداً. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الضرر سواءً كان ضرراً جسمياً أو مادياً أو نفسياً، والدخان ضارٌ بكل ذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ]، وفي الحديث أيضاً أنه قال: [مَن آذى مُسلِمًا فقدْ آذاني، ومَن آذاني فقدْ آذَى اللهَ] والمُدخن يؤذي الناس برائحته سواءً وقت التدخين أو بعد التدخين؛ فالتدخين له رائحةٌ كريهةٌ تعافها النفس وتنفر منها، ولا شكَّ أنَّ مَن يكون حول المدخِّن لا يطيق الاقتراب منه بسبب تلك الرائحة، والإسلام حرص على تجنُّب الإضرار بالنَّاس والابتعاد عن كلِّ ما ينفِّرهم؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [مَن أكَلَ ثُومًا أوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا -أوْ قالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- ولْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ]. وقال كذلك: [إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وجَلِيسِ السُّوءِ كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ؛ فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أنْ يَحْذِيَكَ وإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وإِمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ إِمَّا أنْ يَحْرِقَ ثَيابَكَ وإِمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبيثَةً] فهل يُعدّ المُدخِّن حاملاً للمسك، أم أنَّه أقرب ما يكون إلى نافخ الكير؟ وفضلاً عن ذلك كله فقد نهانا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن "كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ"، فهل يُجادل أحدٌ في أن الدخان مفترٌ للجسم؟ ألا ترى المُدخن ضعيفاً واهناً يتعب من أقل مجهودٍ، يشكو من ضيق الصدر وصعوبة التنفس وينتابه السُعال؟

 

ويقول العلماء إنه إذا اعتبر البعض أن التدخين معصيةٌ لكنه صغيرةٌ من الصغائر؛ فالجواب أن الصغيرة يكون لها حكم الكبيرة بواحدٍ من الأشياء التالية:

الإصرار عليها، التهاون بها والاستخفاف وعدم المبالاة بفعلها، الفرح والسرور بها.

 

ومن الوسائل التي يرى المختصون أنها تُساعد على ترك التدخين (القاتل الصامت): العزم على التَّوبة إلى الله من التَّدخين وطلب العون منه على تركه. والمُحافظة على الصلوات الخمس؛ حيث إنَّها تنهى عن المنكر. وقوَّة النيَّة والإرادة في التَّرك. والصَّبر والثَّبات في بداية الإقلاع عن التَّدخين؛ لأنَّه سيسهُل ويصبح أكثر بساطةً فيما بعد ولن يعود إليه صاحبه بإذن الله. ومن المهم كذلك الابتعاد عن كلِّ ما يزيد الرَّغبة بالتَّدخين، كالجلوس مع المدخنين.

فمن ابتُلي بالتدخين -أياً كان نوعه سجائر أو سيجاراً أو شيشةً "أرجيلة" أو سيجارةً إلكترونية- ومن باب أولى من ابتُلي بالمُكيفات الأخرى، عليه أن يُقلع فوراً ويتوب، ويعترف بخطئه عسى الله أن يرزقه التوبة، ويُخفف عنه أعراض الإقلاع، لا أن يُكابر وتأخذه العزة بالإثم؛ فيؤذي نفسه ويؤذي أحب الناس إليه وأقربهم إلى قلبه.

 

أحبتي.. أعلم أن عادة التدخين تتحول مع الأيام إلى اعتيادٍ وتعوْدٍ وتصير نوعاً من الإدمان، لكن مع قوة الإيمان ومع العزيمة الصادقة وطلب العون من الله بإخلاصٍ يمكن أن يُقلع عن التدخين، مثله في ذلك مثل كثيرٍ من الناس الذين أيقنوا أن التدخين حرامٌ شرعاً؛ فآثروا رضا الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- على اتباع الهوى وتسليم النفس للشهوات؛ فتركوا التدخين (القاتل الصامت).. هؤلاء ينظر الناس إليهم على أنهم أذكياء اختاروا طريق الهُدى والصواب واغتنموا الفرصة قبل أن تضيع فيصلوا إلى وقتٍ لا ينفع فيه الندم.

أخي وعزيزي المدخن كُن ذكياً واختر لنفسك ولأهلك وأبنائك سبيل الرُشد، ولا تترك نفسك لتكون من الغافلين الذين تصفهم الآية الكريمة: ﴿وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا عِلماً، وأصلح لنا شأننا كله، ولا تتركنا لأنفسنا طرفة عين.

https://bit.ly/3HKlhto

 

الجمعة، 28 أبريل 2023

إسلام عالِم

 خاطرة الجمعة /393

الجمعة 28 إبريل 2023م

(إسلام عالِم)

كثيرٌ من الناس يدخلون في الإسلام يومياً، وتختلف أسباب اعتناق كلٍ منهم الإسلام، لكن بعضهم له قصةٌ عجيبةٌ تقف وراء إسلامه؛ منهم العالِم الفرنسي «موريس بوكاي».

تبدأ القصة في عام 1881م حين أعلن مُدير الآثار المصرية الفرنسي آنذاك «جاستون ماسبيرو» عن العثور على مجموعةٍ من المومياوات، كان من بينها مومياء عجيبةٌ لم تتغير كثيراً على الرغم من بقائها لأكثر من 3500 عاماً، وكانت هذه الجُثة للملك «رمسيس الثاني»، هذا الملك هو نفسه فرعون «موسى»!

بعد ذلك بمائة عامٍ، وفي عام 1981م تسلم الرئيس الفرنسي الراحل «فرانسوا ميتران» زمام الحُكم في «فرنسا» ليطلب من الحكومة المصرية في نهاية الثمانينات استضافة مومياء «فرعون» لإجراء اختباراتٍ وفحوصاتٍ أثريةٍ عليها؛ وفعلًا تم نقل جُثمان أشهر طاغوتٍ عرفته الأرض «فرعون» إلى «باريس»، وهناك عند سلم الطائرة اصطف الرئيس الفرنسي مُنحنياً هو ووزراؤه وكبار المسؤولين الفرنسيين ليستقبلوا «فرعون» استقبالاً ملكياً وكأنه مازال حياً!

عندما انتهت مراسم الاستقبال حُملت مومياء الطاغوت بموكبٍ لا يقل حفاوةً عن استقباله، وتم نقله إلى جناحٍ خاصٍ في مركز الآثار الفرنسي، ليبدأ بعدها أكبر علماء الآثار في «فرنسا» وأطباء الجراحة والتشريح دراسة تلك المومياء واكتشاف أسرارها، وكان رئيس الجراحين والمسؤول الأول عن دراسة هذه المومياء هو البُروفيسور «موريس بوكاي». وبينما كان المُعالجون مُهتمين بترميم المومياء، كان اهتمام «موريس» مُنصباً على مُحاولة اكتشاف كيفية موت هذا الفرعون؛ فجُثة «رمسيس الثاني» لم تكن كباقي جُثث الفراعين التي تم تحنيطها من قبل، فوضعية الموت عنده غريبةٌ جداً، إذ فوجئ المُكتشفون عندما قاموا بفك أربطة التحنيط بيده اليُسرى تقفز فجأة للأمام! أي أن من قاموا بتحنيطه أجبروا يديه على الانضمام لصدره كباقي الفراعين الذين ماتوا من قبل! فأخذ البُروفسور «بوكاي» يُحلل الجُثة لعله يجد حلاً لذلك اللغز، وفي ساعةٍ متأخرةٍ من الليل ظهرت النتائج النهائية للبروفيسور «موريس»؛ لقد كانت هناك بقايا للملح عالقةً في جسد الفرعون، وتبين أيضاً مع صورةٍ بأشعة إكس أن عظام «فرعون» قد انكسرت من دون أن يتمزق الجلد المُحيط بها! فاستنتج البُروفسور الفرنسي من ذلك أن الفرعون قد مات غرقاً، وأن سبب انكسار عظامه دون تمزق اللحم كان بسبب الضغط الرهيب الذي سببته المياه في أعماق البحر الساحقة، ولكن الغريب أن جُثة «فرعون» رغم سُقوطها في قاع البحر العميق يبدو عليها أنها طفت بشكلٍ غريبٍ على سطح البحر بسُرعةٍ ليتم تحنيطها فوراً قبل تحلل الجُثة! واستطاع «بوكاي» أيضاً تفسير الوضعية الغريبة ليد «رمسيس» اليُسرى، فلقد أوضح «بوكاي» أن «فرعون» كان يُمسك لجام فرسه أو السيف بيده اليُمنى، ودرعه باليد اليُسرى، وأنه في وقت الغرق رأى شيئاً غريباً أدى لتجنش أعصابه بشكلٍ فظيعٍ ساعة الموت، ونتيجةً لشدة المفاجأة وبلوغ حالته العصبية ذروتها ودفعه الماء بدرعه فقد تشنجت يده اليُسرى وتيبست على هذا الوضع، فاستحالت عودتها بعد ذلك لمكانها! وهذه الحالة تُشبه تماماً حالة تيبس يد الضحية وإمساكها بشيءٍ من القاتل كملابسه مثلاً، ولكن سؤالاً أخيراً بقي يُحير البروفسور «موريس بوكاي»، وهو كيف بقيت هذه الجُثة أكثر سلامةً من غيرها رغم أنها استُخرجت من البحر الذي من المفروض أن يعمل أكثر على سرعة تحلل الجُثة؟!! فأعد البُروفيسور الفرنسي «موريس بوكاي» تقريراً نهائياً لكي يُعلن للعالم عن اكتشافه الجديد، أو ما كان يعتقد أنه اكتشافٌ جديدٌ، فقرر أن يعقد مؤتمراً صحفياً لكي يُعلن ذلك، قبل أن يهمس أحد مُعاونيه في أُذنه: "لا تتعجل يا سيد «بوكاي» فإن المُسلمين يعرفون هذا الشيء بالفعل!"؛ فتعجب البُروفيسور من هذا الكلام، واستنكر بشدةٍ هذا الخبر واستغربه، فمثل هذا الاكتشاف لا يُمكن معرفته إلا من خلال أجهزةٍ حاسوبيةٍ حديثةٍ بالغة الدقة، ثم -وهو الأهم- أن مومياء «رمسيس» تم اكتشافها أصلاً عام 1898م، فازداد البُروفيسور ذهولاً وأخذ يتساءل: "كيف يستقيم في العقل هذا الكلام، والبشرية جمعاء وليس العرب فقط لم يكونوا يعلمون شيئاً عن قيام قدماء المصريين بتحنيط جُثث الفراعنة أصلاً إلا قبل عقودٍ قليلةٍ؟!". فجلس «موريس بوكاي» ليلته بالمُختبر مُحدِّقاً بجثمان «فرعون»، وهو يسترجع في ذهنه ما قاله له زميله أن قرآن المُسلمين يتحدث عن نجاة هذه الجثة بعد الغرق! في الوقت الذي لا يوجد أي ذكرٍ في الكتاب المقدس عندهم لمصير الجثة بعد غرقها، وانهالت التساؤلات على ذهن «موريس»، ثم قرر أن يطلب نُسخةً من الكتاب المُقدس، فأخذ يقرأ: "فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش «فرعون» الذي دخل وراءهم في البحر، ولم يبقَ منهم أحدٌ!". وبقي «موريس بوكاي» حائراً، فحتى الكتاب المُقدس، الذي يزعم علماء النصارى أن مُحمداً قد سرق منه قصص الأنبياء السابقين، لم يتحدث من قريبٍ أو بعيدٍ عن نجاة هذه الجُثة وبقائها سليمةً! فمن أين أتى هذا البدوي بهذه الحقيقة العلمية وهو في أعماق الصحراء؟!

بعد أن تمت مُعالجة جُثمان «فرعون» وترميمه أعادت «فرنسا» لمصر المومياء، ولكن «موريس» لم يهدأ له بالٌ منذ أن هزه الخبر الذي يتناقله المُسلمون عن سلامة هذه الجُثة، فحزم أمتعته وقرر السفر إلى «السُعودية» لحضور مؤتمرٍ طبيٍ فيه جمعٌ من علماء التشريح المُسلمين، وهناك كان أول حديثٍ معهم عما اكتشفه من نجاة جُثة «فرعون» بعد الغرق؛ فقام أحدهم وفتح المصحف وأخذ يقرأ قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، يقول «بوكاي»: "لقد كان وقع هذه الآية عليّ شديداً؛ فوقفتُ أمام الحضور وصرختُ بأعلى صوتي: "لقد آمنتُ برب هذا الكتاب، لقد آمنتُ بالرسول الذي جاء به! لقد دخلتُ الإسلام وآمنتُ بهذا القرآن". كانت هذه بداية قصة (إسلام عالِم)، لكن القصة لم تنتهِ بعد!

رجع «موريس بوكاي» إلى «فرنسا» بغير الوجه الذي ذهب به، وهناك مكث عشر سنواتٍ ليس لديه شغلٌ يشغله سوى دراسة مدى تطابق الحقائق العلمية والمُكتشفة حديثاً مع القرآن الكريم، فكانت ثمرة هذه السنوات أن خرج بتأليف كتابٍ من أعظم كُتب القرن العشرين، وقع هذا الكتاب كالزلزال في أوساط الكنيسة في «روما»، فلقد كان عنوان الكتاب «القرآن والتوراة والإنجيل والعِلم.. دراسة الكُتب المُقدسة في ضوء المعارف الحديثة»، ومن أول طبعةٍ له نفد من جميع المكتبات في «أوروبا»! ثم أُعيدت طباعته بمئات الآلاف من النسخ بعد أن تُرجم من لغته الأصلية الفرنسية إلى سبع عشرة لغةً منها العربية والإنكليزية والإندونيسية والتركية والألمانية، لينتشر بعدها في كل مكتبات الشرق والغرب، وليدخل من خلاله آلاف الناس في الإسلام. ومما كتبه في هذا الكتاب: "لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القُرآن دهشتي العميقة في البداية، فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عددٍ كبيرٍ إلى هذا الحد من الدقة بموضوعاتٍ شديدة التنوع، ومُطابقتها تماماً للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصٍ قد كُتب منذ أكثر من أربعة عشر قرناً". "لقد قمتُ أولاً بدراسة القُرآن الكريم، وذلك دون أي فكرٍ مُسبقٍ وبموضوعيةٍ تامةٍ، باحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومُعطيات العلم الحديث، وكنتُ أعرف أن القُرآن يذكر أنواعاً كثيرةً من الظواهر الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزةً، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعتُ أن أُحقق قائمةً، أدركتُ بعد الانتهاء منها أن القُرآن لا يحتوي على أية مقولةٍ قابلةٍ للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث". ويقول «موريس بوكاي»: "لو كان قائل القُرآن إنساناً، فكيف يستطيع في القرن السابع أن يكتب حقائق لا تنتمي إلى عصره؟". ويقول: "كيف يُمكن لإنسانٍ أنْ يُصرِّح بحقائق ذات طابعٍ علميٍ لم يكن في مقدور أيِّ إنسانٍ في ذلك العصر أنْ يُكِّونَهَا، وذلك دون أنْ يكشف تصريحه عن أقلِّ خطأٍ من هذه الوجهة؟". ويقول: "القُرآن فوق المستوى العلمي للعرب، وفوق المستوى العلمي للعالَم، وفوق المستوى العلمي للعُلماء في العصور اللاحقة، وفوق مستوانا العلمي المُتقدم في عصر العلم والمعرفة، ولا يمكن أن يصدر هذا عن أميٍ؛ وهذا يدل على ثبوت نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنه نبيٌ يُوحى إليه".

 

أحبتي في الله.. انتهت قصة (إسلام عالِم) بوفاة «موريس بوكاي» في «باريس» بتاريخ 18 فبراير 1998م، لكن قصص إسلام العُلماء ما تزال مستمرةً يوماً بعد يوم، رغم تشكيك البعض في إسلامهم؛ وسُبحان القائل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.

وما يزال الناس -عُلماء وغير عُلماء-يدخلون في دين الله أفواجاً مصداقاً لحديث النبي؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمرُ مَا بَلَغَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ، بعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ].

 

أحبتي.. أعتذر لكم عن الإطالة، لكن يكفينا من عرض هذه القصة أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قادرٌ على كل شيءٍ، بما في ذلك أن يجعل من قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ ومات كافراً، يجعله سبباً في (إسلام عالِم) بعد أكثر من 3500 عاماً، ليكون هذا العالِم سبباً لاعتناق الآلاف للإسلام، تحولوا بعدها ليكونوا دعاةً للإسلام بأخلاقهم وسلوكهم ومعاملاتهم المُعبرة بصدقٍ عن الإسلام وشريعته أفضل تعبير. فسبحان الله العظيم، مُقلب القلوب ومُسبب الأسباب، والهادي إلى كل خيرٍ.

يقول تعالى: ﴿یُرِیدُونَ أَن یُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَاهِهِمۡ وَیَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّاۤ أَن یُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ . هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/3LiIHac

 

الجمعة، 21 أبريل 2023

تكبيرات العيد

 خاطرة الجمعة /392

الجمعة 21 إبريل 2023م

(تكبيرات العيد)

كتب يقول: أُحب ليلة العيد وصباحه، وبعد ذلك أفقد الإحساس به؛ فيتشابه معه عندي مع بقية الأيام، وما أكثر ما قضيتُ العيد خارج «مصر» خلال زياراتي لعديدٍ من دول العالم، لكني وجدتُ نفسي ذات ليلة عيدٍ في أبعد مكانٍ عن بيتي وأُسرتي وبلدي، في «هلسنكي» عاصمة «فنلندا»، في أقصى الطرف الشمالي من الكُرة الأرضية. وليلة العيد في «هلسنكي» ذكرتني بصباح أول أيام عيد الأضحى في «لندن» الذي تصادف أن شهدته هناك أكثر من مرةٍ، فلقد رغبتُ في أن أُصلي العيد في المسجد الكبير بشارع «بارك رود» واتفقتُ مع صديقٍ لي على أن يوقظني بالهاتف في موعدٍ مُناسبٍ لكي نلتقي فيه، لكن صديقي لم يتصل بي، ونهضتُ في الثامنة صباحاً؛ فاكتأبتُ لفوات صلاة العيد وسماع تكبيراته التي أتفاءل بها، واتصلتُ بصديقي مُعاتباً، وجاءني صوته ضاحكاً: "ولا يهمك؛ تستطيع أن تُصلي العيد في مسجد «بارك رود» حتى الساعة الثانية بعد الظُهر، فالمسجد لا يستوعب أعداد الراغبين في الصلاة؛ لهذا يُضطر إمام المسجد إلى أن يُكرر صلاة العيد خمس أو ست مراتٍ بنفس مراسمها لكي يستطيع الجميع الصلاة.

سعدتُ بذلك كثيراً، وأسرعتُ بالخروج، وركبتُ سيارة أُجرةٍ وأنا مُبتهجٌ، وأنزلني السائق الإنجليزي بالقُرب من المسجد فأعطيته خمسة جُنيهاتٍ بقشيشاً فرح بها كثيراً وسألني: "ما المناسبة؟"، فأجبته: "عيد الأضحى عند المسلمين"، فضحك وسألني: "كم عيداً عندكم؟"، فأجبته: "اثنان فقط: عيد الفطر، وعيد الأضحى"، فقال: "يا خُسارة؛ تمنيتُ لو كان لديكم عشرون عيداً"، وضحكنا معاً. اقتربتُ من أسوار المسجد الخارجية فرأيتُ زحاماً كزحام يوم الحشر، رغم أن الساعة كانت تقترب من الثانية عشرة ظُهراً، وشققتُ طريقي وسط الزحام، فأعطاني أكثر من شخصٍ قُصاصةً صغيرةً، نظرتُ فيها فوجدتها تحمل صيغة تكبيرات العيد بالحروف اللاتينية، وجلستُ بين مُصلين أوروبيين ومن «إفريقيا» و«الهند» و«باكستان» وكل أنحاء الأرض، يُمسك كلٌ منهم بمثل هذه القُصاصة ويُردد منها التكبيرات، ولاحظ بعضهم أني أُرددها من الذاكرة؛ فنظروا إليّ بإكبارٍ كأني حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي، أو سُلطان العلماء العز بن عبد السلام! وانتهت الصلاة وخرجنا، وعلى باب المسجد توادعنا، وسعى كلٌ منا في الأرض وقد استزاد زاداً روحياً جميلاً يجعل الإنسان أكثر رغبةً في أن يكف أذاه عن الآخرين، وأكثر فهماً لآلامهم، وأكثر استعداداً لمعاونتهم على أمورهم، وأكثر حُباً في خدمة الحياة والإضافة إليها وإعلاء مُثُلها العُليا، واحترام القيم الأخلاقية، والالتزام بها لينال سعادة الأرض ونعيم الآخرة.

ويا ليلة العيد في «هلسنكي» آنستينا وقلّبتِ علينا الذكريات والمباهج والأحزان!

 

أحبتي في الله.. كنتُ قد ذكرتُ قصةً مشابهةً تماماً عاينتها بنفسي وقت صلاة عيد الأضحى في أحد مساجد ولاية «نيوجرسي» في «الولايات المتحدة الأمريكية»، ونشرتها بالعدد رقم ٣٥٢ من خواطر الجمعة بتاريخ ١٥ يوليو ٢٠٢٢م تحت عنوان: "حُسن التصرف".

أما ما استوقفني في قصة اليوم فهو ما أشار إليه صاحب القصة من تفاؤله بسماع (تكبيرات العيد)؛ حيث أنّ لها وقعاً خاصاً في نفوسنا نحن الكبار، ووقعها في نفوس الأطفال أكبر؛ فهو يبقى محفوراً في ذاكرتهم طوال العمر.

وعن ذلك كتب أحدهم يقول: إحساسٌ مملوءٌ بالجمال يعترينا عند سماع (تكبيرات العيد)، شيءٌ من السعادة والأمل، ممزوجٌ بالارتقاء إلى أعلى، ذلك أنّ لها مشاعر بنكهةٍ خاصةٍ يشعر بها السامع لها في صباحات العيد المُفعمة بالمودة والمحبة مع الأقارب والجيران، حتى ولكأنها تحمل طاقةً تبثها في السامعين.

 

وعن قصة (تكبيرات العيد) قال أحد العلماء: عندما همّ سيدنا إبراهيم بذبح ابنه سيدنا إسماعيل ووضع السكين على عُنقه ليذبحه، لم يكن يعلم بمشيئة الله، وعندها جعل سيدنا إبراهيم وجه سيدنا إسماعيل للأرض؛ خشية أن يرى عينيه فيصعب عليه تنفيذ أمر الله، فقد كان ذلك أعظم ابتلاءٍ يبتلي به الله إنساناً. وعندما بدأ سيدنا إبراهيم بنحر سيدنا إسماعيل وبدأ بتحريك السكين بكل قوةٍ لنحر ابنه إسماعيل، فإذا بالسكين لا تقطع مع أنها حادةٌ كالسيف؛ فقد أمرها الله عزَّ وجلَّ بألا تقطع، وسمعا حينها صوت جبريل عليه السلام مُجلجلاً جميلاً قادماً من السماء وهو يحمل كبش الفداء، ويقول: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر"، هنا رفع سيدنا إبراهيم رأسه وقال: "لا إله إلا الله"، كرر سيدنا جبريل عليه السلام قوله: "الله أكبر الله أكبر"، هنا رفع سيدنا إسماعيل رأسه قائلاً: "ولله الحمد". هذه العبارات تُحيي في الأذهان ذكرى نجاح إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- في الامتحان الكبير، وهو الانتصار على النفس، وتُعطي العبرة لكلِّ المسلمين، بأن الخير -كل الخير- في الاستجابة لأوامر الله سُبحانه وتعالى.

 

وتروي الآيات هذا المشهد العظيم في تسع آياتٍ مُحكماتٍ، فيقول تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ . فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ . كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

يقول أهل العلم إن التّكبير لغةً: هو التعظيم، والمُراد به في (تكبيرات العيد) تعظيمٌ الله عزَّ وجلَّ، والشهادة بوحدانيته؛ لذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم، وكذلك شُرع التكبير عند انتهاء الصيام بقوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾؛ لذلك مضت السُّنَّة بأن يُكبِّر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد، ويُكبِّر الإمام في خطبة العيد وفي صلاة العيد. والتكبير في العيدين سُنَّةٌ يقول تعالى بعد آيات الصيام: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ علَى مَا هَدَاكُمْ﴾، وحُمِل التكبير في الآية على تكبير عيد الفطر. ويقول سُبحانه في آيات الحج: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ ويقول أيضاً: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ علَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾، ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ علَى مَا هَدَاكُمْ﴾.

 

و(تكبيرات العيد) لم يرد شيءٌ بخصوصها في السُنة المطهرة، ولكن درج البعض على التكبير بصيغة: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد". والأمر فيه سعةٌ؛ لأن النص الوارد في ذلك -كما يقول العلماء- مطلقٌ، وهو قوله تعالى: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾، والْمُطْلَقُ يُؤْخَذُ على إطلاقه حتى يأتي ما يُقيده في الشرع، لذا فليس من البدعة التكبير بصيغة: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسُبحان الله بكرةً وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جُنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، اللهم صلِ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أنصار سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلِّم تسليماً كثيراً". وهي صيغةٌ شرعيةٌ صحيحةٌ؛ قال عنها الإمام الشافعي: "وإن كُبِّر على ما يُكبر عليه الناس اليوم فحسنٌ، وإن زاد تكبيراً فحسنٌ، وما زاد مع هذا من ذِكر الله أحببتُه".

 

أحبتي.. ليكن العيد فرصةً لنشر الحب والمودة والصفح والسماح والتصالح، وفرصةً لصلة الأرحام، وفرصةً للتواصل مع الأهل والجيران والأصدقاء. لنترك خلافاتنا وراء ظهورنا، ونُطهِّر نفوسنا ونعمل على إشاعة السعادة والبهجة في حياتنا. وليكن العيد فرصةً للاهتمام بالفقراء والمساكين، والعناية باليتامى، والسؤال عن المرضى، إن لم يكن بتقديم الصدقات والهدايا فليكن على الأقل بالسؤال عن أحوالهم وقضاء مصالحهم والتبسم في وجوههم وإدخال السرور على نفوسهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ].

اللهم تقبّل صيامنا وصلاتنا وقيامنا وزكاتنا ودعاءنا وسائر طاعاتنا. اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، والنجاة من نيرانك، اجعلنا فيه من المقبولين، ومن النار معتوقين. اللهم اجعلنا ممن شملتهم الرحمة، وعمتهم المغفرة وحازوا العتق من النار. اللهم لا تجعل رمضان هذا آخر عهدنا بشهرك الكريم، وأعده علينا أعواماً عديدة، وأزمنةً مديدة، ونحن في صحةٍ وعافيةٍ وحياةٍ سعيدة، واجعلنا فيه من المرحومين، ولا تجعلنا فيه من المحرومين. اللهم لا تجعله آخر عهدنا بالصيام والقيام والقرآن، واجعله شاهداً لنا لا علينا يا أرحم الراحمين.

https://bit.ly/3LlIsw0

 

الجمعة، 14 أبريل 2023

التضحية والإيثار

 خاطرة الجمعة /391

الجمعة 14 إبريل 2023م

(التضحية والإيثار)

كان ذا أُسرةٍ كبيرة العدد ودخلٍ محدودٍ، أثقلته مُتطلبات الأسرة ونفقات المدارس؛ فأخذ يستدين حتى يفي بما يلزمه من مصاريف، فتراكمت عليه الديون وحاصرته من كل مكانٍ، وازدادت عليه الهموم؛ فقد بلغت ديونه مبلغاً كبيراً لا يُمكن لدخله المحدود أن يفي ولو بجزءٍ صغيرٍ منه، فوقف عاجزاً بين مُتطلبات أسرته الكبيرة وبين أصحاب الديون الذين أخذوا يطالبونه بحقوقهم. أغلقت له الدنيا أبوابها، فلجأ إلى باب الواحد الأحد الذي لا يرد سائلاً، ولا يُغلق بابه في وجه مَن قصده، تلجأ إليه جميع الخلائق لقضاء حوائجها ولا يحتاج هو لأحدٍ، سُبحانه وتعالى.

ظل يدعو بقلبٍ تملؤه الثقة بالله تعالى وبفرجه ورحمته؛ فأشرق له بصيصٌ من أملٍ في قضاء دَيْنه، حين تقدم لخطبة إحدى بناته واحدٌ من كبار التجار، وعرض مهراً كبيراً يُمكن به أن يقضي ما على الأب من ديون. فرح الأب بذلك وعرض على ابنته الكُبرى الأمر فرفضت بشدة؛ لأنه أكبر منها سناً؛ فهو في عُمر والدها. حاول الأب أن يُقنعها لعلها توافق عليه، وذكرّها بما عليه من ديونٍ أثقلت كاهله، وأحنت قامته ورأسه، لكنها لم تلن، ولم تقبل أن تُضحي من أجل والدها. لم يشأ والدها أن يُجبرها فيكون سبباً في تعاستها، لكنه تمنى منها أن تُقدّر ظروفه وتُوافق؛ فالمتقدم رجلٌ لا غبار عليه في خُلُقٍ أو دِين؛ لكنه كبيرٌ في السن نوعاً ما، وهذا شيءٌ لا يُقدح فيه؛ فكثيرٌ من الرجال يتزوج في كبره ويكون الزواج ناجحاً وسعيداً، لكنها أصرت على موقفها؛ فشعر الأب أن الباب الذي يُمكن أن يكون سبباً لإزاحة هذا الثقل عن كاهله قد أُغلق، فأسبل الدمع حُزناً وعجزاً عن دفع هذا الهم الذي يكاد يقتله، وسداد هذا الدين الذي أرهقه، وقال: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فرأته ابنته الصُغرى ورأت دموع العجز والحُزن تنحدر على خديه، فقالت له: "كفكف دموعك يا أبي؛ لن أرضى أن تخرج هذه الدموع الغالية وأنا أستطيع أن أكفكفها عنك، ادفعني إليه يا أبي فإني أرضى أن أكون زوجةً له بشرط أن يُسدد جميع ديونك"، لم يُصدِّق الأب ما سمع؛ فكررت ابنته عليه ما قالت، فسُرّ بذلك وحمد الله وأثنى على ابنته خيراً ودعا لها. تم العقد عليها لذلك الرجل، ودفع لهم مبلغاً كبيراً مهراً لعروسه؛ فأعطته لوالدها وقضى به ما عليه من دَيْنٍ، وأزاحت بذلك عن والدها الهم الذي أثقله سنواتٍ عديدة. لقد كانت تتمنى -مثل كثيرٍ من الفتيات- الشاب الذي يُقاربها في السن، ويكون ذا علمٍ ودِينٍ وخُلُق، الشاب الذي تكون هي أول زوجةٍ تدخل في حياته؛ لتُحيلها إلى سعادةٍ وحُبور، والشاب الذي ترضاه لنفسها بدون ضغوطٍ أو اضطرارٍ، الذي تقبله لشخصه وليس لماله حتى لا يمتن عليها بماله، ويظن أنه اشتراها به. ثارت في نفسها مشاعرُ مُختلطةٌ ما بين خوفٍ وقلقٍ وحُزنٍ؛ لكنها لجأت إلى الله تعالى أن يمدها بعونٍ منه ورحمةٍ وأن يُعوضها خيراً وأن يُصبِّرها ويرزقها طاعة زوجها وإكمال حقوقه. وحددوا موعد الزواج، وقبل الموعد المُحدد بأيامٍ اضُطر زوجها للسفر فجأةً لعملٍ مُهمٍ فتأجل الزواج إلى حين عودته، لكنه لم يعد؛ فقد وافته منيته في تلك السفرة، ولم يتم الزواج، وورثت زوجته التي لم يدخل بها الملايين، وأصبحت -ما بين عشيةٍ وضُحاها- من الأغنياء، وهي التي ضحّت بنفسها من أجل المال حتى تقضي به ما على والدها من ديون، وهي التي لم تستطع أن تتحمل رؤية دموع العجز والانكسار في عينيّ والدها، فآثرت أن تُضحي بسعادتها من أجل أن تمسح الشعور بالذُل الذي يُلازم والدها، وتُرجع إليه الابتسامة التي افتقدتها فيه منذ مدة. لقد عوّضها ربها خيراً عن صبرها وتضحيتها من أجل والدها؛ فكفاها الأمر، ورزقها من حيث لا تحتسب، فسُبحان من لا يرد سائلاً، ولا يُخيّب راجياً، وسُبحان من يُجيب من دعاه، ويكفي من توكل عليه.

 

أحبتي في الله.. قدمت الابنة الصُغرى نموذجاً حياً لخُلُقٍ نبيلٍ من الأخلاق الإسلامية؛ وهو خُلُق (التضحية والإيثار)؛ فقد ضحت بنفسها وآمالها وحياتها الشخصية، وبكل ما تتمناه كل بنتٍ في سنها، ضحت وآثرت سعادة أبيها على سعادتها الشخصية، وكأنها كانت تتمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: [أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا...]، إن كان هذا مع كل الناس فما أجمل أن يكون مع أقرب الناس وأحب الناس؛ إذ كانت تضحيتها لأبيها وإيثارها له سبباً في سرورٍ أدخلته عليه، وكربةٍ كشفتها عنه، ودَيْنٍ قضته عنه. ولم يُضيع الله تضحيتها وإيثارها؛ فأنعم عليها بما لم تكن تحلم به، ولا خطر على بالها.

 

يقول أهل العلم إن الإسلام جاء حاملًا معهُ الخير العظيم، فجاء يدعو إلى الأخلاق الحميدة، وخاصةً إلى البذل والعطاء، ومن ذلك (التضحية والإيثار).

والتضحية هي بذل النَّفس أو الوقت أو المال؛ لغايةٍ أعظم، ولأجل هدفٍ أسمى، مع النية في احتساب الثواب من الله -عزَّ وجلَّ-. أما الإيثار فهو تقديم الغيرِ على النفس، وتقديم مصلحته على المصلحة الذاتية، وهو أعلى درجات السخاء، وأكمل أنواع الجود والكرم، ومنزلةٌ عظيمةٌ من منازل العطاء.

وقد ضرب صحابة النبي-عليه الصلاة والسلام- أروع الأمثلة في ذلك؛ فقدَّم الأنصار مثالاً رائعاً في (التضحية والإيثار) حين قدِمَ إليهم المُهاجرون من مكّة، فأحسنوا استقبالهم، وقاسموهم كل ما يملكون، من مالٍ وعملٍ، وحتى زوجاتهم، فكانوا خير مثالٍ في (التضحية والإيثار)، ونزل فيهم قوله تعالى مادحاً لهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. قال المفسرون إنّ هذا وصفٌ للأنصار الذين أعطوا إخوانهم المهاجرين أموالهم، إيثَاراً لهم بِها على أنفسهم، رغم ما كان بهم من حاجةٍ وفاقةٍ، قدِّموهم على حاجة أنفسهم؛ فكانوا مثالاً فريداً للتضحية بكل غالٍ وللإيثَار مع الخصاصة.

 

ومن أمثلة (التضحية والإيثار) تقول أمُّ المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمراتٍ، فأعطت كلَّ واحدةٍ منهما تمرةً. ورفعت إلى فيها تمرةً لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: [إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، أو أعتقها بها مِن النَّار] فهذا الإيثَار دافعه حبُّ الأم لابنتيها ورحمتها بهما.

وفي غزوة اليرموك أصيب عددٌ من المسلمين بجروحٍ شديدةٍ فاستسقوا ماءً، فجيء إليهم بشربة ماءٍ، فلمَّا قُرِّبت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها كلُّهم -مِن واحدٍ إلى واحدٍ- حتى ماتوا جميعاً ولم يشربها أحدٌ منهم -رضي الله عنهم- أجمعين.

 

يقول العُلماء إنّ خُلُق (التضحية والإيثار) له العديد من الفوائد؛ من ذلك: تحقيق التكافل والتراحم بين أفراد المجتمع، وتنمية الإحساس بالمسئولية الاجتماعية وعلو الهمة تجاه الآخرين، وتعزيز سلوك الرحمة ومحبة الغير، والابتعاد عن الأثرة المذمومة، والبُعد عن داء الشُح والأنانية، وكل ذلك يعمل على تقوية الأمة وتماسك أفرادها.

 

وعن الإيثار قال الشاعر:

المالُ للرَّجلِ الكريمِ ذرائعٌ

يبغي بهنَّ جلائلَ الأخطارِ

والنَّاسُ شتى في الخِلَالِ وخيرُهم

مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ

 

أحبتي.. كلما عمّ خُلُق (التضحية والإيثار) وانتشر بين الناس بعضهم وبعض، كلما قوي المجتمع وتماسك، وسادت فيه روح التكافل والتضامن والتآزر، فصار كالبيت الواحد ينعم فيه جميع سكانه بالأمن والأمان والسلام، ويتمتعون بالمحبة والسكينة والوئام. فمن كان منا هذا خُلُقه فليستمر ويحمد الله على هذه النعمة ويجتهد في الإكثار منها، أما من كان هذا الخُلُق صعباً عليه فلا يتركه، بل عليه أن يُجاهد نفسه حتى يتغلب على شُحها، ويكتسب هذا الخُلُق النبيل، يُساعده في ذلك أن يتذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على مساعدة الآخرين ومعاونتهم؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]، وقوله: [إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا]، وقوله: [وَاللهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ]، وغيرها كثير.

اللهم اجعلنا مُسلمين صالحين، نافعين لغيرنا، مُضّحين من أجلهم مؤْثرين مصالحهم على مصالحنا فيما لا إثم فيه ولا معصية، واجعلنا اللهم من المُفلحين الذين وصفتهم بقولك سُبحانك: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

https://bit.ly/41afK75

الجمعة، 7 أبريل 2023

رزق ربك

 خاطرة الجمعة /390

الجمعة 7 إبريل 2023م

(رزق ربك)

يقول راوي القصة: خرجتُ في أحد الأيام وركبتُ سيارة أُجرة فوجدتُ السائق رجلاً كبيراً في السن تظهر عليه معالم الكِبَر من تجاعيد في الوجه ومعاني الشقاء؛ فتكلمتُ معه، وكان من ضمن حديثي سألته: "مُنذ متى وأنت في هذه المهنة يا والدي؟"، فقال: "من سنة 1968م"، فقلتُ: "ما هو أغرب موقفٍ حدث معك يا والدي؟"، فحكى لي قصةً عجيبةً؛ قال: في يومٍ من الأيام لم يكن في البيت جنيه واحد؛ فقد ظللتُ لمدة ثلاثة أيامٍ لا أستطيع العمل، وفي شدة المرض والإجهاد، لا أستطيع الحركة، وزوجتي تمر على الجيران تُحاول أن تجد من يُقرضها 20 جنيه أو من معه أي فائض طعام، وتعود إليّ زوجتي تبكي لأنها لم تجد من الجيران من يستطيع مساعدتنا، قلتُ لها: "سأقوم وأحاول العمل لإحضار أي مال"، قالت لي: "لا؛ أنت متعبٌ جداً، وأخشى عليك" فكذبتُ عليها وقلتُ: "إذن سأنزل أجلس على المقهى فقد انتابني الملل" -وأنا أنوي الخروج للعمل لإحضار أي مال- فوافقتْ على وعدٍ مني ألا أذهب للعمل.

نزلتُ وركبتُ سيارتي الأجرة، واستغفرتُ الله كثيراً وقلتُ في نفسي: "يا ربِ لقد اجتهدتُ وضغطتُ على نفسي، ارزقني بأي مالٍ أُطعم به عيالي" وظللتُ أمشي وأمشي بالسيارة ولا فائدة! وفجأةً ظهر أمامي رجلٌ بسيارة أُجرةٍ مُعطلةٍ أوقفني وقال لي: "معي رجلٌ عربيٌ أريد توصيله إلى المطار؛ وتعطلت سيارتي فهلا وصلته أنت؟"، أخذتُ الراكب معي لتوصيله إلى المطار، وفي الطريق دار بيننا الحديث وعلمتُ منه أنه يُريد الذهاب إلى المطار ليس للسفر وإنما لاستلام بضاعةٍ من قرية البضائع بالمطار؛ فأخبرته بأن لي قريباً هناك يستطيع إنهاء الإجراءات له بسرعةٍ ويُسرٍ فطلب مني أن أفعل. وصلنا إلى قرية البضائع وقابلتُ قريبي وأخبرته عن الراكب فأنهى له معاملته بسرعةٍ واستلم البضاعة بتكلفةٍ أقل؛ فبدلاً من أنه كان سيدفع 1500 جنيه لاستلام البضاعة دفع 500 جنيهاً فقط! فشكرني الرجل، وقال لي: "أرجعني إلى منزلي"، رجعتُ به إلى المنزل فأخرج من جيبه 200 جنيه وقال لي: "هل أنت راضٍ بهذه الأجرة؟"، قلتُ له: "نعم؛ راضٍ جداً، أنا كنتُ أبحث فقط عن 20 جنيهاً فأعطاني الله عشر أضعافها، الحمد لله"، فناداني الرجل ثانيةً قائلاً: "كنتُ سأدفع 1500 جنيها لإنهاء إجراءات استلام البضاعة فساعدتني على إنهاء الإجراءات ب 500 جنيه فقط فهذه ألف 1000 جنيه حلالٌ عليك وربنا يسعدك". يقول الرجل فذهبتُ وأخذتُ طوال طريق عودتي للبيت أبكي وأقول: "يا ربِ ما أكرمك.. خرجتُ لترزقني 20 جنيهاً فرزقتني 1200 جنيه!!".

 

أحبتي في الله.. إنه (رزق الله) يهبه لمن يشاء من عباده فهو سبحانه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ وهو الذي يُنزِّل الأرزاق على عبيده؛ يقول تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾.

 

ولنعلم أن ليس كل الرزق مالاً يجنيه الإنسان في حياته، وليس منصباً ولا جاهاً يفخر به بين أهله وناسه، فقد يمتد (رزق ربك) إلى ما لا يتوقعه أحدٌ؛ قد يمتد إلى بعد موت الإنسان! نعم يمتد الرزق إلى ما بعد وفاة الشخص، وقد حدث هذا قبل يومين؛ كنا قد صلينا الظهر في مسجد السلام بمدينة نصر بالقاهرة، ثم صلينا صلاة الجنازة على من حضر من أموات المسلمين، فما إن انتهينا من صلاة الجنازة إلا وتقدم أهل ميتٍ آخر بجُثمان ميتهم يطلبون الصلاة عليه، فأعاد الإمام صلاة الجنازة كاملةً على جميع الأموات؛ من صلينا عليهم بالفعل، ومن أتى متأخراً؛ فصار دُعاء المصلين مُضاعفاً لمن سبقت الصلاة عليهم، وكان ذلك (رزق ربك) ساقه سبحانه وتعالى لهم وهُم أموات.

 

يقول تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾. قال المفسرون إنّ المراد بالرزق هنا الثواب، والمعنى أن ما وعد الله به عباده من الثواب في الآخرة هو خيرٌ وأبقى من متع الحياة الدنيا؛ لأن ثوابه سبحانه لا انقطاع له ولا نفاد. وإضافة الرزق إلى الرب في قوله: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ إضافة تشريفٍ؛ وإلا فإن الرزق كله من الله، ولكن رزق الكافرين لِمَا خالطه وحفَّ به حال أصحابه من غضب الله عليهم، ولِمَا فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة لكفرانهم النعمة، جُعِلَ كالمنكور انتسابه إلى الله، وجُعِلَ رزق الله هو السالم من ملابسة الكُفران ومن تبعات ذلك.

ويقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾، قال المفسرون إنّ الله يبسط رزقه لمن يشاء من عباده؛ فيُوسع عليه، ويقدر على من يشاء أي يقِّل ويضيِّق عليه. والله هو الرزاق بما يشاء؛ فيُغني من يشاء، ويُفقر من يشاء، بما له في ذلك من الحكمة؛ يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ بَصِيْرٌ﴾، وكما جاء في الحديث المروي: {إنَّ مِن عبادي مَن لا يَصلحُ إيمانُهُ إلَّا بالغِنى ولَو أفقرتُهُ لَكَفرَ، وإنَّ مِن عبادي من لا يَصلحُ إيمانُهُ إلَّا بالفَقرِ ولَو أغنيتُهُ لَكَفرَ}، وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً، والفقر عقوبةً عياذاً بالله من هذا وهذا.

 

ويرى أهل العلم أنّ للرزق أسباباً عديدةً من أهمها تقوى الله وطاعته؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. والعكس صحيحٌ أيضاً فإن المعصية تنقص الرزق وتمحق البركة؛ لأن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، يقول سبحانه: ﴿ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ]. ومن أسباب الرزق التوبة والاستغفار؛ يقول تعالى على لسان نبيه هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾. ويقول سبحانه على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾. وأيضاً بِرُ الوالدين وصلة الأرحام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ]. وكذلك الإنفاق في سبيل الله؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. والإحسان إلى الضعفاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلَّا بضُعَفَائِكُمْ؟]. وأيضاً استحضار القلب في العبادات؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ يا ابنَ آدمَ: تفرَّغْ لعبادتي أملأْ صدرَكَ غنًى وأسدَّ فقرَكَ، وإلَّا تَفْعَلْ ملأتُ يديْكَ شغلاً، ولم أسدَّ فقرَكَ]. وشكر الله على النعم الموجودة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. وكذلك الزواج؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. والمتابعة بين الحج والعمرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهما ينفِيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفي الْكيرُ خبثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ]. ويكون ذلك كله مع الأخذ بأسباب الكسب؛ يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾.

 

وعن (رزق ربك) قال الشاعر:

وكيف أخافُ الفقرَ والله رازقي

ورازقُ هذا الخلقِ في العُسرِ واليُسرِ

تكفّلَ بالأرزاقِ للخلقِ كلهمُ

وللضبِ في البيداءِ والحوتِ في البحرِ

 

وقال آخر:

لا تجزعْ لضيقِ الرزقِ أبداً

يرزقُ العُصفورَ من بين النسور

واعلم بأن اللهَ يعلمُ

نظرةَ العينِ وما تُخفي الصدور

كُنْ شاكراً ما دمتَ حياً

واعلم بأن الدُنيا أيامٌ تدور

 

أحبتي.. علينا أن نشكر الله سبحانه وتعالى على كل ما تفضل به علينا من أرزاق لا تُعد ولا تُحصى. وعلينا -ونحن نسعى لتحصيل الرزق- ألا يكون همنا إرضاء صاحب العمل أو الوزير أو المدير، وإنما يكون رضا الله هو غايتنا فهو ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. وإذا كنا في سبيل تحصيل الرزق نستجيب لطلبات المسئولين وأوامرهم ولا نخالفها أبداً مهما بدت صعبةً أو شاقةً، فمن باب أولى علينا أن نستجيب لطلبات الله سبحانه وتعالى وأوامره ونلتزم بفروضه وننتهي عما نهانا عنه، وهي كلها أمورٌ ليست صعبةً ولا شاقةً؛ إنْ فعلناها نلنا رضاه، ومَن يرضَ عنه الله يُدهشه بعطائه.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

https://bit.ly/3maTbjt

 

الجمعة، 31 مارس 2023

الإنفاق مما نُحب

 خاطرة الجمعة /389

الجمعة 31 مارس 2023م

(الإنفاق مما نُحب)

قصةٌ حقيقيةٌ رواها أحد الأطباء؛ قال إنه وقبل عدة أعوامٍ، وفي حارته القديمة، كان له جارٌ مُتحدثٌ لبقٌ، مُستمعٌ جيدٌ، ومُحاورٌ هادئٌ، وكان إنساناً اجتماعياً ومحبوباً. يقول: في أحد الأيام التقيتُ به وهو يُجهز سيارته ليذهب إلى مكانٍ ما، ومما أثار استغرابي عُلب شوكولا فاخرةٍ، أكثر من عشرين عُلبةً موجودةً بالمقعد الخلفي للسيارة! فألقيتُ عليه السلام وسألته: "إلى أين أنت ذاهبٌ يا جاري؟"، فرد عليّ السلام وابتسم ابتسامةً جميلةً لم أفهم معناها وقال: "ما رأيك أن ترافقني؟"، قلتُ: "لا مشكلة أرافقك، ولكن أتمنى ألا يكون المكان بعيداً"، قال: "إن شاء الله لن نتأخر".

توجهنا إلى حيٍ فقيرٍ جداً يبعد عن حارتنا قرابة ساعةٍ بالسيارة، ثم أوقف السيارة ونزلنا منها، وحمل مجموعةً من عُلب الشوكولاتة وتوجه إلى عددٍ من البيوت! دق على الباب الأول ففتح الباب أولادٌ صغارٌ، وعندما رأوه قفزوا فَرَحاً ونادوا أُمهم: "صاحب الشوكولاتة جاء يا أُمي، صاحب الشوكولاتة جاء يا أمي"؛ فأعطاهم علبة الشوكولاتة وتكلم مع الأطفال قليلاً، ثم استأذن! ثم دق الباب على البيت الثاني، ففتحت امرأةٌ كبيرةٌ بالعمر وعندما رأته دعت له كثيراً: "الله يفتحها عليك يا ابني، الله يرضى عليك، الله يطعمك من ثمار الجنة، والله يا ابني إنك تجبر خاطرنا، الله يُجبر خاطرك!"، ثم أعطاها عُلبة الشوكولاتة واستأذن. وهكذا مع بقية البيوت، وكل بيتٍ كان قصةً بحد ذاته، وفي كل بيتٍ سيمفونيةٌ جميلةٌ ورائعةٌ من المشاعر والأحاسيس والدُعاء. انتهينا من توزيع عُلب الشوكولاتة ورجعنا إلى السيارة وتوجهنا إلى البيت؛ قلتُ له: "جزاك الله خيراً، والله يعطيك العافية يا جار، شيءٌ جميلٌ ما صنعته، ولكن لدي سؤال ونصيحة لك"، قال: "تفضل"، قلتُ: "لماذا لا تُعطيهم مالاً؟ أليس أفضل لهم ويستطيعون شراء ما يحتاجون بأنفسهم؟!"، ضحك جاري ضحكةً قويةً وكأن سؤالي أعجبه!! ثم التفت إلى مقعد السيارة الخلفي وتناول عُلبة شوكولاتة وقدمها لي، وقال: "افتحها يا دكتور"، فتحتُ العُلبة وأنا مترقبٌ وكلي شوقٌ لرؤية ما تحتويه، فوجدتُ فيها -بالإضافة للشوكولاتة- مُغلفٌ فيه مبلغٌ ماليٌ جيد! فزادت حيرتي أكثر!! قلتُ له: "لماذا لا تُعطيهم المال مُباشرةً يا جار؟ لماذا بداخل عُلبة الشوكولاتة؟"، فنظر إليَّ وابتسم كعادته وقال: "يا دكتور، أنا شخصٌ أُحب الشوكولاتة كثيراً، وهي أكثر شيءٍ أُحبه في حياتي، وآكل منها يومياً، والله عزَّ وجلَّ قال: ﴿لَن تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنفِقوا مِمّا تُحِبّونَ﴾ وأنا أُنفق مع الصدقة ما أُحب في هذه الحياة. ثم قال لي: "يا دكتور، الصدقة فنٌ، والفقير يشتهي كما نشتهي".

 

أحبتي في الله.. تُبين هذه القصة أهمية الصدقات، وتوضح كيف يُتقن البعض تقديم صدقاته، وكيف يُبدع في تقديمها للمُحتاجين بطريقةٍ غير مألوفةٍ يُراعي فيها مشاعرهم ويحفظ بها كرامتهم بما يُمكن أن نسميه "فن الصدقة".

لكن أكثر ما استوقفي وشدّ انتباهي في هذه القصة هو التزام المُتصدق بمبدأ (الإنفاق مما نُحب)، وحرصه على تطبيقه، وهذا دليلٌ على مُنتهى الكرم بلا شك.

في المقابل هناك من وصفهم أحد الأفاضل بقوله: إنْ تصدق بدرهمٍ واحدٍ ظنّ أنه وصل إلى الجنة من أوسع أبوابها، وظلّ يُذكر نفسه بهذا الدرهم! بل الأدهى أنه قد يفعل ذنوباً بعدها على حساب الدرهم سالف الذكر! لا يتصدق إلا بأبخس الأشياء، وديدنه ومبدأه في ذلك أنّ ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، فلا يُخرج لله إلا ما لا يرضى هو نفسه أن يستعمله، ولا يدري المسكين أن الأيام دولٌ، وقد يأتي عليه يومٌ ينتظر أن يجود عليه غيره بما يحتاج، فهل يقبل أن تمتد له يدٌ بمثل ما كان يتصدق به من قبل؟ وهذا بغير شكٍ دليلٌ على مُنتهى البخل؛ يقول تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾.

 

وقد ذكرني أمر (الإنفاق مما نُحب) بالقصة المشهورة للصحابي الجليل أبي طلحة؛ إذ كان أكثر أنصاريٍ بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «يُقال أن الأصل في الاسم بئر حاء»، وكانت مستقبلةً المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو بِرها وذُخرها عند الله؛ فضعها يا رسول الله حيث شئتَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين]; فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

 

يقول المفسرون للآية الكريمة ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ إنّ فيها حثاً من الله لنا على (الإنفاق مما نُحب) في طرق الخيرات، فقال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي: تُدركوا وتبلغوا البِر، الذي هو كل خيرٍ من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات، الموصل لصاحبه إلى الجنة، ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي: من أموالكم النفيسة التي تُحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دلّ ذلك على إيمانكم الصادق وبِر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المُنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة.

ودلت الآية على أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بِره، وأنه ينقص من بِره بحسب ما نقص من ذلك. ولما كان الإنفاق على أي وجهٍ كان مُثاباً عليه العبد، سواءً كان قليلاً أو كثيراً، محبوباً للنفس أم لا، وكان قوله ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافعٍ، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؛ فلا يُضيّق عليكم، بل يُثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

يقول أهل العلم إنه ينبغي للمؤمن أن يُنافس في الخيرات، وأن يُخرج من طيب كسبه وماله، يرجو ما عند الله؛ لأنَّ التقرب إلى الله يكون بما يُناسبه سبحانه، ويكون ذلك من الطيب، لا من الخبيث؛ يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾. وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]؛ فجديرٌ بالمؤمن أن يُنافس في الخيرات، وأن يُسارع في النفقات الطيبة.

 

أحبتي.. غاية ما يُحب كلٌ منا لنفسه أن يشمله الله سبحانه وتعالى برحمته فيُدخله الجنة؛ فلنعمل من أجل هذا، ونجتهد ما استطعنا للحصول على هذه السلعة الغالية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ]، إنها أغلى سلعةٍ ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على الحصول عليها. ولا يكون ذلك إلا بالاستجابة لأوامر الله سبحانه وتعالى وتجنب نواهيه، والالتزام بسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الإكثار من الصدقات؛ فلنتصدق بما استطعنا ولو بشق تمرةٍ؛ فنُثاب على ذلك، ولنعلم أن الثواب يزداد ويعظم كلما كان التصدق و(الإنفاق مما نُحب) بل ومن أفضل ما نُحب. ولنتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم [ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ]. إن ما نُنفقه اليوم في الدُنيا يسبقنا إلى الآخرة ويوم الحساب، وينفعنا في موقفٍ نكون أحوج ما نكون فيه إلى هذا الذي تصدقنا به. ولا ننسى أبداً أن المال مال الله، وأننا مستخلفون فيه، وأنّ الصدقة تقع في يد الرب قبل أن تقع في يد الفقير أو المسكين أو المُحتاج.

اللهم قنا شُح أنفسنا، وحبِّب إلينا الكرم والسخاء في الإنفاق في سبيلك، وتقبّل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

https://bit.ly/40R3nfv