الجمعة، 23 يوليو 2021

خروف العيد

 

خاطرة الجمعة /301


الجمعة 23 يوليو 2021م

(خروف العيد)

 

أراد رجلٌ غنيٌ أن يتصدق بعددٍ من خراف العيد دون أن يعرف أحد، وكان يضع على خرافه علاماتٍ مميزةً لا يعرفها سواه؛ فأرسل خروفاً سميناً مع أحد عماله إلى إحدى القرى المجاورة الأكثر فقراً، وطلب منه أن يعطي الخروف إلى صاحب بيتٍ معدمٍ فقيرٍ كثير الأبناء، وكان من حُسن أخلاق هذا الرجل الغني أن يتصدق بكثرةٍ ولا يعرف أحدٌ من الناس بالصدقات إلا عماله فقط. ‏وبينما الرجل الغني المتصدق صاحب الغنم يتجول في السوق إذ وجد رجلاً فقيراً يقف ومعه نفس الخروف الذي تصدق به بالأمس؛ فاستغرب وقال في نفسه: "هذا الخروف من مزرعتي، وعاملي أعطاه له فكيف يبيعه؟ من المؤكد أنه غير مستحق، وأن عاملي أخطأ في اختياره"، ثم اقترب المحسن من الفقير وسأله: "هذا الخروف الكبير، هل هو من تربية بيتك أم اشتريته من أحد التجار"؟ فابتسم الفقير قائلاً: "والله لا هذا ولا ذاك، فلهذا الخروف قصةٌ عجيبةٌ؛ وهي أنه بالأمس طرق عليّ الباب أحد الرجال، ولا أعرفه، وقال لي هذا خروفٌ وهبه لك سيدي، ولم يذكر اسم سيده، ومشي. وهذا الخروف كما ترى كبيرٌ جداً، ولي جارٌ فقيرٌ معدمٌ مثلي، وله ذريةٌ كبيرة العدد معدمةٌ لا يستطيع شراء خروفٍ للعيد، ولا حتى لحمٍ أو حتى دجاج، فجئتُ لأبيع هذا الخروف الكبير؛ واشتري بثمنه خروفين صغيرين واحدٌ لي والثاني لجاري المعدم مثلي"، فبكي الغني وقال: "هنيئاً لك قول ربنا في كتابه الكريم: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾؛ فأنت تنفق وأنت في أشد الاحتياج لهذا اللحم، وصدق النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حين قال: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ]، هذا هو الإسلام حقاً أن تشعر بجارك؛ وصدق صلى اللَّه عليه وسلم حين قال: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ]. أيها الرجل أنا اشتريتُ هذا الخروف الكبير منك فخذ هذا ثمنه، اشترِ به خروفين، وافعل كما شئتَ أيها الصادق المتصدق المتعفف، فأنت أحسن مني ومن أمثالي الأغنياء؛ لأن الأغنياء ينفقون من وسع، وأنت تنفق من ضيقٍ".

 

أحبتي في الله .. الحديث عن (خروف العيد) ذكرني بقصةٍ أخرى حدثت منذ عدة سنوات، قبل عيد الأضحى بأيام، إذ طلب رجلٌ من زوجته أن تعطيه مبلغاً من المال كان قد ادخره لشراء أضحية العيد؛ فأعطته زوجته المال الذي ادخروه لذلك طوال ثلاثة شهور. ذهب الرجل إلى سوق الأضاحي ليشتري الخروف، وأخذ يتمشى ويعاين الخرفان يريد خروفاً سميناً يليق بالأضحية ويفرح به زوجته وأبناءه، فوجد طلبه واشترى الخروف وذهب به إلى منزله، فلما أراد إنزال الخروف فلت من يديه وراح يركض في الحي، وأخيراً وقف الخروف أمام باب منزل الجيران ثم دخل مسرعاً، وصاحبه خلفه، فلما أراد أن يطرق الباب سمع الأولاد يهللون ويصرخون، يظنونه خروف عيدهم، وهؤلاء الأولاد يتامى الأب ومساكين معروفين في الحي، فلم يستطع الرجل أن يُفسد علي الأولاد فرحتهم؛ فدخل عليهم وقال: "نعم، هذا خروفكم"، وأخذ يمزح معهم ويلاعبهم وترك لهم الخروف وعاد إلى منزله. في المساء ذهب يتمشى في سوق الأضاحي ليسلي نفسه، فوجد مجموعة من أصدقائه فصار يتحدث معهم، وقد نسي تماماً ما حدث معه وأنه ظل بلا أضحية عيد. وهو واقف في السوق إذ بشاحنةٍ صغيرةٍ تصف بجانبه، تحمل خرفاناً، فوقع نظره على خروفٍ أعجبه فتقدم من السيارة وظل يعاين الخروف من باب الفضول فقط، وسأل البائع صاحب السيارة: "بكم هذا الخروف"؟ رد عليه البائع: "أخي، لقد عاهدت الله أن أول شخص يضع يده على خروف من خرافي يأخذه صدقةً لوجه الله "، فقال له الرجل: "لا يا عم، أنا أسال فقط"، فرد عليه البائع: "يا أخانا أنا لم أعاهدك أنت، أنا عاهدت الله ربي وربك، فلا تحنثني في عهدي، خُذ الخروف وانطلق". فحصل هذا الرجل الطيب على أضحيته، وكذلك اليتامى حصلوا على خروفهم، ورضي الجميع، وكأن الله يقول للرجل: "لستَ أكرم مني يا عبدي".

والحديث عن (خروف العيد) لا يكتمل إلا بالحديث عن "صكوك الأضاحي"؛ ففي السنوات الماضية انتشرت فكرة هذه الصكوك باعتبارها وسيلةً جديدةً مستحدثةً تُسهل عملية شراء وذبح الأضاحي وتوزيع لحومها على المحتاجين؛ حيث يشتري المضحي صكاً بقيمةٍ ماليةٍ محددةٍ، من إحدى الجهات الرسمية الحكومية أو من مؤسسةٍ أهليةٍ خيريةٍ، تتولى بالوكالة عنه شراء الأضحية وذبحها وتوزيعها، والملاحظ أن هذه الصكوك صارت مجال تنافسٍ كبيرٍ بين مختلف الجهات التي تصدرها، ومن كثرة الحملات الإعلانية -الكثيرة والمكلفة- بات بعض المسلمين يختارون صك الأضحية لمن يقدم لهم أقل سعرٍ وأكبر كميةٍ من لحم الأضحية!

صدرت فتاوى من المؤسسات الدينية المختصة بإجازة هذه الصكوك، وامتدحها كثيرٌ من رجال الدين البارزين وشاركوا في الترويج لها، لكن آخرين يرون أنها بدعة.

يقول المؤيدون لفكرة صكوك الأضاحي إنها بدعةٌ حسنةٌ، وإنها مطابقةٌ للشريعة الإسلامية، وهي وسيلةٌ تُمكن الذي يرغب في التضحية ولا يستطيع القيام بذلك بنفسه من توكيل غيره للقيام نيابةً عنه بذبح الأضحية وإطعام الفقير. ويؤكدون على أن ذبح الأضاحي سوف يتم على الطريقة الشرعية، وفي الوقت الشرعي للذبح، ويجري إعداد قوائم المستحقين في المناطق الأكثر احتياجاً للأسر الأولى بالرعاية.

على الجانب الآخر ظهرت أصواتٌ تطالب بالتخلي عن صك الأضحية، باعتباره بدعةً، وتركز على أنه يجب التمسك بشعائر الدين وكل السُنن، وأن التنازل عن أي شيءٍ منها مهما كان صغيراً سيكون عند الله كبيراً، وسيؤدي تدريجياً إلى التنازل عن غيره من الشعائر والسنن. يقول أصحاب هذا الرأي إن الصكوك لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن من شروط قبول الأعمال الاتباع وهذا غير موجودٍ في الصكوك، كما أن العبادات توقيفيةٌ وغير خاضعةٍ للتغيير، ولا يمكن الابتداع بسبب عدم وجود مكانٍ تُذبح فيه الأضاحي؛ فالأولى المحافظة على الشعائر الدينية والعمل على إنشاء وتوفير المجازر وأماكن الذبح المناسبة.

 

في خضم هذا الجدل المستمر اطلعتُ على مقالٍ نُشر منذ عدة سنواتٍ، قالت كاتبته في مقدمته: "لم يعد لنا في هذا الزمان سوى اتخاذ موقع المشاهدة ليتناسب وإيقاع هذا العصر، وليواكب آخر التقاليع العصرية المستحدثة. فإذا كان الفرد منا لم يعد يحتمل بعض الوقت لكي يقف على أضحيته بين يدي الله، يكبر عليها ثم ينحرها، بل وتقف عليها الأسرة كلها من طفلها حتى شيخها. فأهلونا قد علمونا أن الحسنات بعدد شعراتها إذا ما وقف الفرد على نحرها، ثم تتجمع الأسرة في فرحةٍ غامرةٍ للإفطار من كبدها، وذلك بعدما نتصدق بالثلث ونهدي الثلث وندخر بالثلث. ثم إن وقوفنا عليها حين نحرها يغرس في نفوسنا كأطفال ما لن نتنازل عنه أبداً فيما بعد، وهو النحر يوم العيد". ثم أشارت كاتبة المقال إلى الآثار الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والتربوية لعملية النحر، وكيف أن صكوك الأضاحي لا تحقق أياً من هذه الآثار، وتساءلتْ: "صك الأضحية كسلٌ أم رفاهية"؟ وجعلتْ هذا التساؤل عنواناً لمقالها. أعجبني المقال وقمتُ بإعادة نشره، وإذ بالتعليقات تنهال عليّ ما بين مؤيدٍ ومُعارض!

وكان ردي أن فتاوى الجهات الرسمية التي أجازت هذه الصكوك، أجازتها للحالات الخاصة فقط، مسلمٌ قادرٌ مادياً يريد أن يُضحي ولا يستطيع لأسبابٍ خاصةٍ أن يقوم بذلك بنفسه فهو يوكل غيره -شخصاً كان أو مؤسسة- للقيام بذلك. ولا شك أن هذا رأيٌ شرعيٌ صحيح، لكن ما أود التنبيه إليه هو ألا يعتبر الناس هذه الإجازة هي الأصل فيما يتعلق بشعيرة الذبح، فهي شعيرةٌ من شعائر الله تستوجب التعظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ويقول عنها سبحانه: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى﴾، ويقول كذلك: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما عملَ آدميٌّ منْ عملٍ يومَ النحرِ، أحبَّ إلى اللهِ منْ إهراقِ الدمِ إنها لتأتي يومَ القيامةِ بقرونِها، وأشعارِها، وأظلافِها، وإنَّ الدمَ ليقعَ من اللهِ بمكانٍ، قبلَ أن يقعَ على الأرضِ، فطيبُوا بها نفسًا]، وقال عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة: [يَا فَاطِمَةُ قَوْمِي إِلَى أُضْحِيَّتِكَ فَاشْهَدِيهَا فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ]. ولصكوك الأضاحي مزايا معتبرةٌ وفوائد لا يُنكرها إلا جاحد، لكنها لا ترقى أبداً لمزايا وفوائد التمسك بالسُنة النبوية الشريفة، وتبقى الصكوك رخصةً فقط لمن لا يستطيع، حتى لا نُفوِّت على أنفسنا ثواب الالتزام بالسُنة.

أحبتي .. عرضتُ عليكم رأي المؤيدين لفكرة الصكوك، كما عرضتُ رأي المعارضين لها، وحددتُ موقفي من هذين الرأيين، وأقول لمن له رأيٌ مخالفُ، كما قال الإمام الشافعي: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب". وكل عام ونحن وأنتم والأمة الإسلامية بخيرٍ، سواءً اشترينا (خروف العيد) أو تشاركنا في أضحيةٍ من البقر أو الجاموس أو الجمال وعظَّمنا شعائر الله والتزمنا بسُنة نبينا في أضاحينا، أو قمنا بشراء صك أضحيةٍ؛ فالخلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية، نسأل الله القبول.

اللهم تقبل منا طاعاتنا، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا اللهم سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/3rsSuQs

الجمعة، 16 يوليو 2021

عواقب التسرع

خاطرة الجمعة /300


الجمعة 16 يوليو 2021م

(عواقب التسرع)

 

تقول إحدى المعلمات: دربتُ مجموعةً من الأطفال في نهاية العام الدراسي لأداء نشيدٍ أمام أمهاتهن في تلك الحفلة. وبعد بروفاتٍ عديدةٍ ومتقنةٍ، جاء حفل الافتتاح والتخرج، وبدأ النشيد، غير أن ما عكر ذلك الاستعراض الجميل، هو أن إحدى الطفلات، تركت الإنشاد مع زميلاتها، وأخذت تحرك يديها وجسمها وأصابعها وملامح وجهها بطريقةٍ هي أشبه ما تكون بالكاريكاتيرية، إلى درجة أنها كادت تُربك الفتيات الأخريات بحركاتها الغريبة المستهجنة. ‏حاولتُ أن أنهرها وأنبهها للانضباط دون جدوى، إلى درجة أنني من شدة الغضب كدتُ أن أسحبها عنوةً من على خشبة المسرح، غير أنني كلما اقتربتُ منها، راوغتني كالزئبق، وتمادت في حركاتها التي لفتت أنظار الجميع، وأخذت تتعالى ضحكات وقهقهات الأمهات الحاضرات المندهشات مما يحصل. ووقعتُ عيناي على المديرة التي سال عرق وجهها من شدة الخجل، وتركت مقعدها واتجهت نحوي وهي تقول: "لا بد أن نفصل ونطرد تلك الطفلة المشاغبة من المدرسة"، فشجعتها على ذلك. غير أن ما لفت نظرنا أن أم تلك الطفلة كانت طوال الوقت واقفةً تُصفق لابنتها بحرارةٍ، وكأنها تحثها على الاستمرار بعبثها غير المفهوم. وما إن انتهى النشيد حتى اندفعتُ إلى خشبة المسرح وجذبتُ هذه الطفلة من ذراعها بكل قوةٍ وسألتها: "لماذا لم تُنشدي مع زميلاتك بدلاً من أن تقومي بتلك الحركات الغبية"؟! فقالت: "لأن أمي كانت موجودةً"، فتعجبت من ردها ذاك، ولكنني صُدمت عندما قالت لي بكل براءةٍ: "إن أمي لا تسمع ولا تتكلم، وأردتُ أن أقوم بالترجمة لها على طريقة الصُم البُكم؛ لكي تعرف كلمات النشيد الجميلة، وأريدها أن تفرح كذلك مثل بقية الأمهات". ما إن سمعتُ تبريرها حتى انهرتُ وحضنتُها وبكيتُ رغماً عني، وعندما عرف الجميع السبب تحولت القاعة بكاملها إلى بكاء. ولكن أحلى ما في الموضوع أن المديرة بدلاً من أن تفصلها كرمتها، ومنحتها لقب: الطفلة المثالية، وخرجت مع أمها مرفوعة الرأس وهي تقفز على قدميها من فرط السعادة!

 

أحبتي في الله .. التسرع في الحكم على الآخرين أو التسرع في الحكم على تصرفاتهم وسلوكهم لا يوصل الإنسان عادةً إلى استنتاجٍ صحيحٍ، ومن ثمّ إلى رد فعلٍ طبيعيٍ ومنطقيٍ، بل قد يصل به إلى ما لا تُحمد عقباه، وغالباً ما يجد الإنسان نفسه محرجاً ونادماً وشاعراً بالأسى والأسف، وهذا كله من (عواقب التسرع).

وهذا موقفٌ حدث في صباح أحد الأيام في قطار الأنفاق بمدينة «نيويورك»، يقول راوي الموقف: كان الركاب جالسين في سكينةٍ؛ بعضهم يقرأ الصحف، وبعضهم مستغرقٌ بالتفكير، وآخرون في حالة استرخاء. كان الجو ساكناً مفعماً بالهدوء! فجأةً، صعد رجلٌ بصحبة أطفاله الذين سرعان ما ملأ ضجيجهم وهرجهم عربة القطار. جلس الرجل إلى جانبي وأغلق عينيه متغافلاً عن الموقف كله؛ كان الأطفال يتبادلون الصياح ويتقاذفون بالأشياء، بل ويجذبون الصحف من الركاب. كان الأمر مثيراً للإزعاج، ورغم ذلك استمر الرجل في جلسته إلى جواري دون أن يحرك ساكناً! لم أكن أصدق أن يكون على هذا القدر من التبلد والسماح لأبنائه بالركض هكذا دون أن يفعل شيئاً. بعد أن نفد صبري التفتُ إلى الرجل قائلاً: "إن أطفالك يا سيدي يسببون إزعاجاً للكثير من الناس، وإني لأعجب من كونك لم تفعل شيئاً لكبح جماحهم، إنك عديم الإحساس"، فتح الرجل عينيه -كما لو كان يعي الموقف للمرة الأولى- وقال بلطفٍ: "نعم إنك على حقٍ، يبدو أنه يتعين عليّ أن أفعل شيئاً إزاء هذا الأمر، لقد قدِمنا لتوِّنا من المستشفى حيث لفظت والدتهم أنفاسها الأخيرة منذ ساعةٍ واحدةٍ، إنني عاجزٌ عن التفكير، ولا أعلم كيف أقول لهم هذا الخبر، فكلما رأيتهم يلعبون ويمرحون يعجز لساني عن الكلام، وأظن أنهم لا يدرون كيف يواجهون الموقف أيضاً"!!

يقول راوي الموقف: تخيلوا شعوري آنئذٍ، فجأةً امتلأ قلبي بآلام الرجل، وتدفقت مشاعر التعاطف والتراحم دون قيودٍ، وقلتُ له: "هل ماتت زوجتك للتو؟ إنني آسفٌ، هل يمكنني المساعدة"؟ لقد تغير كل شيءٍ في لحظةٍ، وشعرتُ بالإحراج من نفسي ومن تسرعي بحكمي على ذلك الرجل واتهامه بعدم الإحساس.

 

وهذا موقفٌ آخر يوضح بجلاء أن (عواقب التسرع) وخيمةٌ؛ إذ لاحظ مدير مصنعٍ خلال تجواله في المصنع شاباً يستند إلى الحائط ولا يقوم بأي عملٍ؛ اقترب منه وقال له بهدوءٍ: "كم راتبك"؟ كان الشاب هادئاً ومتفاجئاً بالسؤال لكنه أجاب: "500$ تقريباً شهرياً يا سيدي، لماذا"؟ دون أن يتكلم أخرج المدير محفظته وسحب منها 500$ نقداً أعطاها للشاب -بمثابة إنهاء لخدمته- وقال له: "أنا أدفع للناس هنا ليعملوا وليس للوقوف دون عملٍ. والآن هذا راتبك الشهري مقدماً، أُخرج ولا تعد"! أخذ الشاب المبلغ وهو مندهشٌ واستدار وخرج مسرعاً. نظر المدير إلى باقي العمال وقال بنبرة تهديد: "هذا ينطبق على الجميع في هذا المصنع؛ من لا يعمل نُنهي عقده مباشرةً". اقترب المدير من أحد العمال الموجودين وسأله: "مَن هو الشاب الذي قمتُ بطرده"؟ فجاءه الرد المفاجئ: "إنه رجل توصيل البيتزا يا سيدي، ولا يعمل هنا"!

 

أما ما أثَّر فيّ وجعل دموعي تتساقط من عينيّ رغماً عني فهي هذه القصة التي تُروى عن (عواقب التسرع)؛ فقد كان أبٌ يلمع سيارته الجديدة الأنيقة ذات يومٍ، إذ فوجئ بابنه الصغير يخدش السيارة ويكتب عليها بمسمارٍ التقطه من الأرض على حين غفلةٍ من أبيه، ثار الأب وفي قمة غضبه واندفاعه أخذ بيد ابنه وضربه عليها عدة مراتٍ دون أن يشعر أنه كان يستخدم للعقاب قضيباً حديدياً ضخماً. كانت ثورة الأب عارمةً؛ فالسيارة جديدةٌ وتخريب الابن لها لم يكن متوقعاً، لهذا كانت الضربات قاسيةً وقويةً مما أدى إلى بتر أصابع الابن في المستشفى لاحقاً، وتحول العقاب إلى مأساةٍ، عندما سأل الطفل المسكين أباه ببراءةٍ: "متى ستنمو أصابعي ثانيةً يا أبي"؟ هذا السؤال كاد يمزق قلب الأب ويحرقه حسرةً وندماً.

ترك الأب المستشفى عائداً للبيت وتوجه إلى السيارة وبدأ يركلها بقدمه عدة مراتٍ حتى أعياه التعب فجلس بجوارها يبكي بحرقةٍ، ثم إذا به ينظر إلى جانب السيارة المخدوش فوجد أن ابنه كان قد كتب: "أحبك يا أبي".

 

إن (عواقب التسرع) دائماً ما تؤدي إلى الندم؛ لذا يقول الله سبحانه وتعالى حاثاً المؤمنين على عدم التسرع، طالباً منهم التبين والتثبت والتأكد حتى لا يصيبهم الندم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، أما في عمل الخيرات فيكون المطلوب هو المسارعة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾، وكذلك في طلب المغفرة يقول سبحانه: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾. ويصف المولى عزَّ وجلَّ الإنسان بأنه عجول؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. يُفَسِر العلماء ذلك بأن العجلة هي السرعة في الشيء، وهي مذمومةٌ فيما كان المطلوب فيه الأناة، محمودةٌ فيما يُطلَب تعجيله والمسارعة إليه كأعمال الخيرات؛ كما في قول سيدنا موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [التُّؤدة في كلِّ شيء خيرٌ إلَّا في عمل الآخرة] -وقيل أنه قولٌ لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه- ومعناه: التَّأنِّي وترْكُ العجَلَةِ خَيْرٌ في كلِّ الأعْمالِ، إلَّا في العَملِ المُتعلِّقِ بالآخِرَةِ مِن أمْرٍ أو نهيٍ، أو بأعمالِ التقرُّبِ إلى اللهِ تعالَى؛ فالتَّأخيرُ في هذا العَملِ مَذْمومٌ غيرُ محْمودٍ، بل يَنْبغي الإسْراعُ والمُسابَقَةُ إلى عمَلِ الآخِرَةِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَعْلَمُ متى يَنتهي عمرُه ويأتيه أجَلُه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: [إنَّ فيك خُلَّتَينِ يُحِبُّهما اللهُ: الحِلْمَ والأَناةَ]، فما أحوجنا إلى التحلي بهذا الخلق الطيب في بيوتنا ومجتمعاتنا التي تعاني من التسرع والعجلة في الحكم على الغير وفي اتخاذ القرارات؛ فالعجلة بصفةٍ عامةٍ مذمومةٌ، ونقيضها وهو التأني محمودٌ؛ قال النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام: [التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ]، فالعجلة -كما يقول العلماء- خفَّةٌ وطيشٌ وحِدَّةٌ في العبد تمنعه من التَّثبُّت والوقار والحلم، وتُوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعاً من الشُّرور، وتمنع عنه أنواعاً من الخير، وهي قرين النَّدامة؛ فقَلَّ من استعجل إلَّا ندم. ومن المواقف التي ينبغي عدم التعجل فيها إجابة الدُّعاء؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي] فالاستعجال هنا يحرم الشخص من إجابة دعائه.

 

أما المختصون في علم النفس وعلم الاجتماع فيقولون إن الشخصية المتسرعة في الحكم من دون النظر إلى الموضوع بشيءٍ من التروي تتصف بالاندفاع، وعادةً ما يندم المتصفون بالتسرع في الأحكام ويقعون في حرجٍ دائمٍ، ما يجعلهم كثيري الاعتذار للآخرين. وينصحون بتجنب التسرع في إصدار الأحكام على الآخرين؛ لأنها قد تكون أحكاماً خاطئةً. ويشيرون إلى أن التنشئة داخل الأسرة لها أثرٌ مباشرٌ في اكتساب صفة العجلة في الحكم على الآخرين من دون تروٍ وتثبتٍ، فالابن يلاحظ أبويه وإخوانه الكبار يصدرون أحكاماً تخصه أو تخص أقاربهم من دون أن يستمع منهم بأنهم يجب أن يتثبتوا مما سمعوا. ويرى المختصون أن التسرع في الحكم يفقدنا كثيراً من الأصدقاء المخلصين، إذ لن يقبلوا منا أن نجعلهم في مرمى سوء الظن والحكم الخاطئ غير المبني على الحقائق، مما يؤثر في العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد؛ فكثيرٌ من الخلافات التي تقع بين أخوين أو زوجين أو صديقين تكون من بين (عواقب التسرع) أو عدم التثبت. والتسرع صفةٌ التصقت دوماً بالمتهورين من الناس أو الذين لا يفكرون بشكلٍ متأنٍ أو يعطون أنفسهم وقتاً كافياً للتفكير؛ لذا فإن أغلب القرارات المتسرعة تكون خاطئة، لا نجني من ورائها إلا الندم؛ فلا يمكن استرجاع الكلمات بعد نُطقها، ولا يمكن استرجاع الخطأ بعد وقوعه، إن التأني والحلم والرفق ومجاهدة النفس دليل رجاحة العقل واتزان النفس، وعلى العكس فإن التهور والاندفاع دليل خفة العقل؛ فكم من الحماقات ارتُكِبَت بسبب التهور وعدم التأني، وكم من الصداقات تقطعت بسبب التسرع والتهور والعجلة، وكم من المشكلات حدثت، وكم من البيوت هُدمت لهذا السبب!

 

قالوا عن التسرع: ما نفعله بسرعة لا نفعله بإتقان، على النابل أن يتأنى فالسهم متى انطلق لا يعود، خيرٌ لك أن تصل متأخراً من ألا تصل أبداً، الذين يتقدمون باندفاعٍ كبيرٍ يتراجعون بسرعةٍ أكبر، ما يُعمل بالسرعة لا يُعمل بالحكمة، العجلة هي أم الإخفاق، كلما أسرعنا تأخرنا في الوصول، في التأني السلامة وفي العجلة الندامة، ومن تأنى نال ما تمنى.

 

أحبتي .. علينا التحلي بخُلُق الأناة والتروي والتؤدة، والسعي لاكتساب هذا الخُلُق إن لم نكن نملكه؛ واكتسابه أمرٌ ممكنٌ لكنه يحتاج إلى صبرٍ ومجاهدة نفس. وعلينا أن ننتبه جيداً إلى أن أبناءنا يتعلمون منا قيمنا وسلوكنا ويتشربوها منا دون أن نشعر.

رزقنا الله وإياكم هذا الخُلُق، وأعاننا على شهوة النفس وجموحها إلى السرعة والعجلة، وعافانا من (عواقب التسرع) وتبعاته المؤلمة.

https://bit.ly/2Tixrne


الجمعة، 9 يوليو 2021

نعمة الأخت

 

خاطرة الجمعة /299


الجمعة 9 يوليو 2021م

(نعمة الأخت)

 

يقول راوي القصة: طلبتْ مني والدتي إيصال بعض الأغراض إلى منزل أختي، ورغم أني حاولتُ التهرب من ذلك بحجة العمل ومشاغل الحياة المختلفة؛ فقد أصرت أمي على طلبها ما جعلني أستسلم لها في الأخير، فتوجهتُ نحو منزل أختي بعد أن أعلمتها والدتي عبر الهاتف مسبقاً بقدومي. الأمر الغريب أني لم أزر منزل أختي منذ زواجها، بحجة إقامتها مع أهل زوجها في منزلٍ مشترك! ‏وبسبب ثقل الأغراض التي نقلتها اضطررتُ إلى دخول منزل أختي بنفسي لأول مرةٍ؛ حتى أضع ما جلبته في غرفتها، فكان أول ما شد انتباهي هو السعادة التي لمحتها في عيون أختي حتى أنها ظلت تُحدث أهل زوجها عني بسعادةٍ غامرةٍ: "أخي، إنه أخي، نعم أخي هو من جلبها"، قالت إحداهن -ربما أخت زوجها-: "أهذا أخوك؟! لم نره من قبل" فردت: "مشغولٌ في عمله، المسكين لا يرتاح أبداً". كم شعرتُ بالخجل حين سمعتُ محاولات أختي لتبرئتي من تهمة الإهمال الذي أقدمه لها كل يومٍ بعدم زيارتها والاطمئنان عليها، بينما ظلت هي تحاول الدفاع عني بأعذار واهيةٍ لا أساس لها! وأكثر من ذلك، حين حاولتُ المغادرة أوقفتني قائلةً: "توقف، لن تغادر قبل أن تشرب القهوة، لقد أعددتُ لك فطوراً لكنك تأخرتَ لهذا سأقدم لك القهوة، أعددتُ لك بعض الحلويات التي تحبها"، حاولتُ الرفض فلمحتُ دموعاً تجمعت في عينيها فتيقنتُ أني لو ذهبتُ لانفجرت بعد مغادرتي بالبكاء، فكأنما لسان حالها يقول: "أنت لا تأتي مطلقاً، وعندما أتيتَ تذهب بهذه السرعة؟ هل أتيتَ من أجل الأغراض فقط؟ وأنا؟ ألا يهمك أمري مطلقاً؟!"، تنهدتُ موافقاً على دعوتها، حينها اتصلت بزوجها مدعيةً سؤالها عن تأخره، وهي فعلت ذلك فقط لتخبره عن زيارتي، كانت تخبره بلهفةٍ ولو استطاعت لأخبرت كل الأهل والجيران بذلك من فرط سعادتها. لم أحظَ باستقبالٍ كهذا في حياتي، هل هي مكانتي الكبيرة عندها؟ أم هي محاولةٌ منها لتعويض أيامٍ غبتها عنها وحرمتها من زيارتي لها؟ كانت فرحتها كطفلةٍ تنتظر عودة أبيها بعد طول غياب، وكان اهتمامها كأمٍ تحاول تعويض ابنها بحنانها وسرد تفاصيل حياتها كلها دفعةً واحدة!

غادرتُ بيتها بعد ذلك وأنا أحس أني صغيرٌ جداً، كطفلٍ وُلد للتو، فأنا لا أستحق كل ذلك الكرم من أختي، ولم أتوقع أبداً مدى سعادتها بزيارتي. سألت نفسي كيف تمكنت أختي من تقديم كل ذلك لي وأنا الذي دفنتها منذ سنوات في مقبرة الإهمال والنسيان؟ غادرتُ ورغم ذلك ظلت تطل من شِق نافذة غرفتها حتى ابتعدتُ وتواريتُ عن نظرها، ودعتني وكلها خوفٌ أن تكون هذه آخر زيارةٍ مني لها، فظلت تقول: "عُد لزيارتي مرةً أخرى، عُد لزيارتي رجاءً، عُد يا أخي فأنا أنتظرك".

 

أحبتي في الله .. ما أجمل ولا أروع من أن يعيش الإنسان على فطرته التي خلقه الله عليها؛ فلا يحاول تغييرها أو تبديلها. لقد فُطر الأخ على حب أخواته، وفُطرت الأخت على حب إخوانها. إنها (نعمة الأخت) أنعم بها الله سبحانه وتعالى على من له أخت.

وبقدر فرحة وسعادة الأخت بزيارة أخيها الذي لم يزرها منذ مدةٍ طويلةٍ، بقدر فرحة وسعادة أختٍ أخرى أنقذها أخوها بذكاءٍ من موقفٍ محرج؛ تقول الأخت: بعد أن نظفتُ بيتي ورتبتُه، اتصلَ بي أخي، قائلاً لي: "أنا آتٍ لزيارتِكِ ومعي زوجتي"، دخلتُ مطبخي لأُعدَّ لهم ما تيسرَ، فلم أجد شيئاً عندي للضيافة، ذهبتُ أبحثُ عن شيءٍ أقدمُهُ لهما، فلم أجد سوى حباتٍ قليلةٍ من البرتقال، فحضَّرتُ كأسيّ عصيرٍ باردٍ على الفور. عندما دخل أخي وزوجتُه، فوجئتُ بأمِّ زوجةِ أخي معهما، أتت لزيارتي للمرةِ الأولى، فقدمتُ الكأسين لزوجة أخي وأمِها، ووضعتُ كأس ماءٍ أمام أخي، وقلتُ له: "أعرفُ أنكَ تحبُ السڤن آب"، فشربَ منهُ رشفةً وعرفَ أنه ماء، وإذا بأمِّ زوجةِ أخي تقول: "أنا أرغبُ في السڤن آب لأنهُ مريحٌ لمعدتي فأعطني إياه"، هنا أُصِبْتُ بالإرباكِ والخجلِ لكنَّ أخي أنقذني حينَ قال لها: "سآتيكِ بزجاجةٍ جديدةٍ من المطبخِ "، حملَ كأسَ الماء معه وتوجه إلى المطبخ، بعدها سمعنا صوتَ زجاجٍ ينكسر؛ فعادَ أخي وقالَ لأمِّ زوجتِه: "للأسفِ الشديدِ وقعَت الزجاجة وانكسرَت، لكنْ لا بأسَ سأذهبُ للبقالةِ لأجلبَ غيرَها"، هنا رفضتْ أمُّ الزوجةِ قائلةً: "لا داعي لذلك فليسَ لي فيهِ نصيب". وحينَ خروجِهم ودَّعني أخي، وفي أثناءِ عناقه لي دسَّ في يدي مبلغاً من المالِ قائلاً: "التفتي لحالِكِ، ولا تنسي تنظيفَ المطبخِ من الزجاجِ المكسورِ" ، وودعني بابتسامةٍ وحُب، وبهذا سترَ أخي عليّ ضيقَ حالي وتقصيري، وراعى مشاعري، وأنقذني من ذلك الموقف المحرج.

 

يقول ناشر القصة: الأخوةُ ورابطةُ الدمِ تكونُ قويةً عندما يشدد الأخُ عضدَهُ بأخيه؛ ألا يقول الإنسانَ عندما يتألمُ "أخ"؟ هذا يوضح كم يجبُ أن تكونَ العلاقةُ بين الإخوةِ قويةً؛ فَهُم ليسَ لهم بعدَ اللهِ إلا علاقتهم بوالديهما وببعضِهم البعض قبلَ أيِّة علاقةٍ أخرى.

 

عن الأخت على وجه الخصوص يقول الله سبحانه وتعالى وهو يشير إلى أم نبي الله موسى عليه السلام: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، يقول أحد العلماء عن هذه الآية: إنها قصة الأخت التي أعلى الله شأنها في كتابه بذكرها؛ حيث مضت في عالمٍ من الخوف والجبروت خلف أخيها الرضيع، لا يمكن لقلبٍ على وجه الأرض -بعد أمه- أن يقوم بهذا الدور الشجاع إلا قلب الأخت، تابعت التابوت حتى ألقاه الموج بالقصر ولم تتراجع، مضت تتابع خبره في القصر رغم المخاطر، واقترحت عليهم ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾. قصة أخت موسى قصة حبٍ مكررةٍ وموجودةٍ في كل بيتٍ من بيوتنا؛ قلوبٌ تحمل هذا الحب للإخوان. سطر القرآن ما يحملنه الأخوات من حبٍ لإخوانهن، لم يقل فلانة لأنه ليست قضية فلانةٍ، بل قال: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ﴾ لأن الأخوة الكامنة هنا الأخوة التي تبعث على الرحمة والعطاء والصلة والإحسان والقرب. الأخت هي النسخة المؤهلة لحمل رسالة الأم؛ فيا حظ من كان من نِعم الله عليه (نعمة الأخت).

 

ويقول سبحانه وتعالى عن النساء بصفةٍ عامةٍ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عنهن: [رِفْقًا بِالْقَوَارِير]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم]، كما قال: [إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]، وقال كذلك: [أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا]، وقال أيضاً: [خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي].

 

ويقول أهل العلم إن الأخ سند أخته وحاميها وخط دفاعها الرئيسي بعد والدها، وهو ينصرها ويرفع عنها الظلم حتى لو كان من زوجها، والأخت من أقرب القرابات، وهي أَوْلَى الناس بالصلة بعد الآباء والأُمهات، وهي من الرحم الواجب وصله. وللأخت حقوقٌ على أخيها ليُقَوي بها ضعفها ويدعمها في عجزها فهو السند الحامي؛ فالأخت أتت من ذات صلب أخيها، ومن ذات الرحم الذي أتى منه فمن أحق منها بالعناية واللطف والرعاية؟

في حال وجود الأب على قيد الحياة يكون للأخ دورٌ في نُصح أخته ومصادقتها والأخذ بيدها، وفي حال وفاة الأب فالأخ يكفل أخته شرعاً، ويكون له الحق في تربيتها وتوجيهها، ومساندتها والعطف عليها ومد يد المساعدة لها أينما احتاجت. والأب هو المسؤول عن النفقة على البيت والأولاد بما فيهم البنات، وبعد وفاته يصبح الأخ مكلفاً بهذا الإنفاق، فيكون هو المعيل الشرعي لأخواته في هذه الحالة.

وفي كثيرٍ من الأحيان تكون حاجة الأخت لوجود أخيها معها معنويةً أكثر منها مادية، فتحتاج إلى وجوده النفسي ودعمه لها والاستماع لها، ودرء الخطر عنها، والسؤال عن أخبارها وأمورها والحفاظ على صداقتها.

وإكرام الأخت والإحسان إليها وصلتها بعد زواجها يشد من أزرها ويرفع رأسها أمام أهل زوجها. وكم هو جميلٌ أن تكون علاقة الأخ بزوج أخته طيبةً وتقوم على الاحترام؛ فالمشترك بينهما هو تلك الأخت، واحترام زوجها من احترامها.

وعلى الأخ أن يساعد أخته ويقف معها وقت اتخاذ قرارات مصيرية وهامة في الحياة مثل: الدراسة والزواج والعمل، وغيرها من الأمور الهامة التي تحتاج فيها إلى الرأي والمشورة. وعلى الأخ أن يُشعر أخته باهتمامه بها وخوفه عليها، وبهذا يكسب ثقتها، لكن للأسف نرى من واقع الحياة أن بعض الإخوة يتسلطون على أخواتهم؛ فينتهكون حرياتهم، ويؤذونهم بحكم أنه الذكر القوي وهي الأنثى الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة. ومن بين صور التسلط حرمان الأخوات من حقهن في التعليم، حجب الميراث الشرعي عنهن، إجبارهن على الزواج ممن لا يرغبن، فرض القيود المشددة المبالغ فيها على خروجهن أو اتصالاتهن أو ملابسهن.

 

وعن (نعمة الأخت) قال الشاعر:

قدرُ الأخوةِ فيكِ لا يُعلى عليه وإن بعدتِ

فمكانكِ بين الحنايا والشغافِ فأنتِ أختي

إن قدَّرَ اللهُ الّلقاءَ فأنا سعدتُ وأنتِ طبتِ

فيكِ عرفتُ القلبَ يطربُ إنْ نطقتِ أو سكتِ

أدعو الإلهَ يصونكِ أنى رحلتِ أو أقمتِ

ويقيمُ فيكِ مراكبي إنْ هاجَ بحركِ أو سكنتِ

 

أحبتي .. لن تكتمل خيريتنا لأهلنا إلا بأن نكون خيرين مع أخواتنا، فهُنّ بحنانهن البلسم لحياتنا، إنهُنّ يُشِعْن في بيوتنا البهجة والأنس، ويهتمون بنا كما لو كُنّ أمهاتنا! فالله الله في أخواتكم، رفقاً بهنّ وإكراماً لهنّ. أختم بما قاله أحدهم: "هناك رجالٌ أدوا حقوق أخواتهم؛ يتفقدونهن يزورونهن يكرمون أزواجهن إكراما لهنّ، يسندونهن يُعينهن يؤنسهن يفرحون بهن، إذا قدمت إحداهن له يعطيها حقها قبل أن تسأله؛ فالشهم يُعامل الكبيرة كأمه يحترمها ويرعاها، ويُعامل الصغيرة كابنته يتلطف معها ويسعى لخدمتها". فلنكن من هؤلاء الرجال الذين يضعون أخواتهم في قلوبهم وعيونهم، ويرعونهم، ويحافظون على حقوقهن، ويقضون لهم مصالحهن قدر الاستطاعة، ثم يشكرون الله سبحانه وتعالى من قبل ومن بعد على ما أنعم به عليهم من نِعمٍ لا تُعد ولا تُحصى، منها (نعمة الأخت).

https://bit.ly/3AWoiSm

الجمعة، 2 يوليو 2021

على نياتكم تُرزقون

 

خاطرة الجمعة /298


الجمعة 2 يوليو 2021م

(على نياتكم تُرزقون)

 

يُروى أنه كان في «دمشق» سائق سيارة أجرة استوقفه يوماً رجلٌ فقيرٌ وشبه عاجزٍ، سأله السائق: "إلى أين"؟ قال الرجل: "إلى أقصى جادة في الجبل، وما معي دراهم أعطيك إيَّاها"، قال له السائق: "تفضل"، وأوصله إلى آخر جادة، فلما نزل من المركبة، أقبل عليه أولاده، وسألوه: "أجئتنا بالخبز يا أبت"؟ فقال: "لا والله ما جئتُ بالخبز" وأخفى السبب في نفسه؛ أنه لا يملك المال.

‏أراد السائق أن يُكمل معروفه، فنزل إلى جادةٍ في أسفل الجبل، واشترى خمسة أكياس خبزٍ وعاد إلى الرجل، وأعطاه الخبز. أقسم السائق بالله أن أولاد الرجل الفقير التهموا نصف الخبز في دقائق، من شدة جوعهم. بعد ذلك نزل السائق بسيارته من الجبل إلى المدينة يسعى في كسب رزقه ويبحث عن زبونٍ وراكبٍ جديدٍ؛ فاستوقفه سائحان وطلبا منه أن يصحبهما إلى المطار؛ فأوصلهما إلى المطار، وأعطياه ألفين وخمسمائة ليرة، والتسعيرة الاعتيادية لهذه الرحلة خمسمائة ليرة! وهو في المطار جاءه سائحان آخران طلبا أن يوصلهما إلى فندق في «دمشق» وأعطياه مئتي دولار، وهو مبلغ يُعادل عشرة آلاف ليرة! رجع السائق إلى بيت الرجل الفقير أعلى الجبل، حاملاً ما اشتراه مما لذ وطاب من الفواكه والحلويات واللحوم، وقال للرجل الفقير: "ساق الله لي كل هذا الرزق بسببك، لأنني خدمتك وكانت خدمتي لك خالصةً لوجه الله تعالى، وعدتُ إليك لأني أردتُ أن أعوّد نفسي وأربيها على التعلق بالله تعالى فهو الرزاق، وأربّيها على التصدق وإخلاص النية".

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أغرب منها حدثت في «الرياض» إذ كان هناك شخصٌ من سكان هذه المدينة حالته المادية ضعيفة؛ راتبه التقاعدي لا يتجاوز ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال، عمل المستحيل لكي يزيد من دخله ولكن محاولاته كانت تبوء بالفشل، وكان يسمع من الناس أن «الإمارات» دولةٌ غنيةٌ وبها رزقٌ وبيعٌ وشراء، وكان يراوده التفكير دائماً بالذهاب إلى تلك الدولة ليبيع ويشتري هناك، كان يعتقد بأن «دبي» مثل الحراج في مدينته! وعندما استلم راتبه أعطى زوجته ألف وخمسمائة ريال، وأخذ ألفي ريالٍ وقال لزوجته: "سوف أذهب لأتاجر بهذين الألفين في «الإمارات»"، وزوجته مسكينةٌ لا تعرف «الإمارات» ولا التجارة، قالت له: "توكل على الله واذهب"، وقامت بتوديع زوجها ودعت له بالخير والبركة في هذه التجارة! ذهب الرجل واشترى تذكرة طائرة لمدينة «دبي»، وفي الطائرة كان الراكب بجواره شخصاً سعودياً أخذ يتحدث معه ويسأله عن سبب ذهابه إلى «دبي»، فقال له: "أنا إنسان على باب الله، وأردت أن أخوض غمار التجارة في «دبي» لعلي أكسب بعض المال"، سأله: "وكم معك من النقود"؟ قال: "ألف وثلاث مائة ريال، كانت ألفين فاشتريت تذكرة الطائرة بسبع مائة ريالٍ؛ وهذا ما بقي معي"، تبسم الرجل وسكت. وعند وصول الطائرة إلى «دبي» سأله الرجل: "أين ستسكن"؟ قال: "لا أعلم، سوف أبحث لي عن مكان"، قال له الرجل: "بل تأتي معي للمكان الذي سوف أسكن فيه"، قال: "اعفني؛ فأنا سأبحث عن مكانٍ يكون على قدر استطاعتي"، قال له الرجل: "لا تقلق؛ أنت ستكون في ضيافتي"، فرفض الفقير بعزة نفسٍ، إلا أن الرجل أصر وألح عليه حتى وافق على الذهاب معه؛ فلما وصلا إلى الفندق إذا هو فندقٌ فخمٌ، وقام الرجل وأوصل الفقير إلى غرفته، وقال له: "كُن جاهزاً في المساء فسوف آخذك معي إلى مكانٍ فيه بيعٌ وشراءٌ لتتاجر بريالاتك". وفي المساء مر الرجل على الفقير وأخذه معه إلى إحدى البنايات الشاهقة، ودخل معه إلى مكانٍ كبيرٍ يعج بأناسٍ من مختلف الجنسيات كانوا جالسين على طاولة اجتماعات، جلس الرجل وأجلس الفقير معه، وبدأ الحديث بين الرجل والموجودين باللغة الإنجليزية، والفقير لا يعرف الإنجليزية، وكان الرجل وهو يتحدث يشير إلى هذا الفقير، وعندما أشار إليه ارتفعت أصوات المجتمعين وغضبوا، والرجل يشير إلى الفقير مرةً أخرى حتى أن الفقير شك في الأمر وظن بأن الأمر فيه نصبٌ واحتيالٌ عليه؛ فأوجس في نفسه خيفةً وهَمّ بالهرب عدة مرات إلا إنه كان يتراجع حتى يرى النهاية. بعد قليلٍ هدأت الأصوات وقام الجميع يوقعون أوراقاً، ومن ضمنهم هذا الرجل الذي قام بإخراج دفتر شيكات، وحرر ثلاثة شيكات أعطاها لهم، وحرر الرابع وأعطاه للفقير وقال له: "احتفظ بهذا الشيك معك حتى نخرج"، فلما انتهى الاجتماع وذهب الرجل مع الفقير قال الرجل: "أنا جئتُ لغرض شراء برجٍ من الأبراج في «دبي» وكان هذا هو الموعد لتوقيع صفقة البيع فأردتُ أن تستفيد معي فاشترطتُ أن تكون أنت شريكٌ في السعي فغضبوا جميعاً، إلا إنني قلتُ إن لم يكن هذا الشخص شريكاً في السعي فسوف أتراجع عن الشراء فوافقوا، وهذا شيكٌ بمليوني درهمٍ إماراتي، ارجع إلى أهلك بمليونين بدل الألفين، واعلم أن هذا رزقٌ قد ساقه الله إليك؛ والدليل على ذلك أنني دائماً أركب في الدرجة الأولى إلا إنني هذه المرة لم أجد حجزاً في الدرجة الأولى، وحاولتُ بشتى الطرق ولكن دون جدوى، وما ذلك إلا لأن الله أراد لك هذا الرزق، فاذهب واحمد الله". وعاد الفقير إلى زوجته وقد أصبح غنياً، وأخبرها بما كان معه من الأمر فسجدت شكراً وحمداً لله عزَّ وجلَّ.

 

تقول الحكمة المشهورة (على نياتكم تُرزقون)؛ وانظر إلى رزق السائق ورزق الرجل الفقير، وعلى العكس منهما، فإن النية السيئة تكون دائماً خساراً على صاحبها، إنها الوجه الآخر لذات المقولة (على نياتكم تُرزقون)؛ إذ يروي أحدهم عن رجلٍ اصطحب زوجته إلى محل الهدايا، وقال لها: "أريد أن تختاري لأمي هديةً على ذوقك"، شعرت الزوجة بالغيرة بداخلها، فاختارت أقل هديةٍ قيمةً، وفي المساء أتى الرجل إلى زوجته، وقدَّم لها الهدية التي اختارتها، وقال لها: "أحببتُ أن تشتري هديتك بنفسك؛ لتكون كما تحبينها"، أصيبت بإحباط؛ لأنها لو أحبت لغيرها ما تُحب لنفسها لكانت هديتها أجمل.

 

علق أحدهم على مثل هذه القصة بقوله: (على نياتكم تُرزقون) تعني أنه عندما تكون نقياً من الداخل يمنحك الله نوراً من حيث ﻻ تعلم، ويحبك الناس من حيث ﻻ تعلم، وتأتيك مطالبك من حيث ﻻ تعلم، صاحب النية الطيبة يتمنى الخير للناس جميعاً دون استثناء؛ فـسعادة الآخرين لن تأخذ من سعادتك، وغناهم لن ينقص من رزقك، وصحتهم لن تسلبك عافيتك، فـكن صاحب نيةٍ طيبةٍ وأثرٍ طيب.

 

لم ترد كلمة "نوى" ولا مشتقاتها في القرآن الكريم، لكن وردت الإشارة إليها بمعناها في العديد من الآيات؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وقوله: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ﴾، وقوله: ﴿وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ﴾، وقوله: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾، وقوله: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

 

وعندما سُئل أحد العلماء عن قول (على نياتكم ترزقون) أجاب: هذا القول ليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعلمه ثابتاً في شيءٍ من الأحاديث الصحيحة، ولا هو ثابتٌ عن أحدٍ من الصحابة ولا عن أحدٍ من التابعين، ولكنه كلامٌ يُقال على أنه من الحِكَم، وله ما يشهد له من الأدلة؛ كالحديث القدسي {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي}. فقوله لا بأس به إن شاء الله تعالى، ولا جرم أن النية الطيبة المقرونة بالعزيمة الصادقة والهمة الماضية لها دورها في استجلاب الرزق من الله تعالى، ولكن لا يُفهم من هذا القول ضرورة التلازم؛ فإنه من الناس من هو خبيث النية ولكنه يُرزق، إلا أن رزقه بهذه النية الخبيثة لا خير فيه ولا بركة، فالرزق الطيب الحلال والبركة في الأرزاق إنما تكون في كسب الرزق بالنية الصالحة. والنية الصالحة وحدها بدون كدٍ ولا جهدٍ ولا بذل أسبابٍ لا تكفي، بل لا بد معها من العمل وطَرْق أبواب الرزق الحلال. فالمطلوب من العبد أن يُصلح نيته في طلب الرزق، وأن يبذل الجهد في طلبه، والله تعالى يفتح له أبواب الرزق ويبارك له فيما رزقه؛ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للمَرءِ الصَّالح].

 

وقال عالمٌ آخر عن مقولة (بنياتكم تُرزقون) إنها من العبارات التي انتشرت بين الناس، وهي عبارةٌ صحيحة المعنى؛ لأنها لا تتنافى مع العقيدة أو المعاني الشرعية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى]، فمن نوى نيةً حسنةً كان له من الثواب قدر نيته، ومن نقصت نيته نقص ثوابه، حتى إن صاحب النية الصادقة يكون له أجر العامل نفسه ولو لم يعمل. ويشتمل هذا الحديث على قاعدة أن الأمور بمقاصدها؛ فإن النية هي الإرادة وهي القصد الباعث على العمل، ومقاصد العباد تختلف اختلافاً عظيماً بحسب ما يقوم في القلب؛ فمن نوى في عمله الله والدار الآخرة، كتب الله له ثواب عمله، وإن أراد به السمعة والرياء، فقد حبط عمله، فإن الحديث يربط بين النية والعمل، ومن أجل ذلك عُني الشرع عنايةً عظيمةً بإصلاح مقاصد العباد ونياتهم.

وقال بعض أهل العلم إن النية ثلث العلم؛ لأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة. وقال بعضهم: إنه نصف الإسلام؛ لأن الدين: إما ظاهرٌ وهو العمل، أو باطنٌ وهو النية.

 

أحبتي .. أختم ببشرى لكل مسلمٍ حريصٍ على زيادة رصيده من الحسنات، تُبين لنا أهمية النية قبل العمل؛ قال النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث القُدسيِّ الذي يَرويه عن ربِّ العزة: {إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ له عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحِدَةً}.

فلنعقد العزم على أن تكون نيتنا في كل قولٍ أو عملٍ نية خيرٍ خالصةً لوجه الله، ولندعو الله سبحانه وتعالى أن يُعيننا على فعل كل ما يكون فيه خيرٌ لنا في دنيانا وآخرتنا، وأن يتقبله منا، ويُضاعف لنا ثوابه، ويزيدنا من رزقه؛ فإنه قد صدق من قال: (على نياتكم تُرزقون).

 

https://bit.ly/3jD3byi

الجمعة، 25 يونيو 2021

الصديق الصدوق

 

خاطرة الجمعة /297


الجمعة 25 يونيو 2021م

(الصديق الصدوق)

 

رجل أعمالٍ في «تبوك» بالمملكة العربية السعودية، زاره صديقٌ له من «الرياض» وعند الانتهاء من ضيافته قال له: "دعنا نخرج وقت العصر في جولة لترى ماذا أملك وتشاهد أملاكي". بعد انتهاء الجولة قال رجل الأعمال لصديقه: "ما رأيك فيما شاهدت"؟ قال صديقه: "ما شاهدتُ شيئاً"!! انصدم رجل الأعمال من إجابة صديقه فقال: "كيف ما شاهدتَ شيئاً"؟!! قال له صديقه: "كل ما شاهدتُه هو أملاك الورثة بعد موتك، لم أرَ فيما شاهدتُ شيئاً تفتخر أنت به، كل ما شاهدتُ لن ينفعك ولن يفيدك"!! قال: "كل هذا"؟ قال: "نعم؛ ما شاهدتُ لك مسجداً أو وقفاً خيرياً"، انصدم الرجل من كلام صديقه. وبمجرد تودیعه، شرع في بناء مسجدٍ يتسع لألفي مصلٍ بكل مرافقه؛ من سكن إمامٍ ومؤذنٍ ومغسلة أموات، وبعدها بشهرين تُوفي إلى رحمة الله.

سبحان الله العظيم، توفيق الله، ثم نصيحةٌ مخلصةٌ من صديقه كانت سبباً في قيامة ببناء هذا المسجد، ليكون صدقةً جاريةً له بعد موته، ورصيداً له ينفعه بالآخرة.

 

أحبتي في الله .. (الصديق الصدوق) هو الصديق الحقيقي المخلص الذي يقال عنه "صديقُك من صدَقَك لا من صدَّقك"؛ فمخطئٌ من يظن أن الصديق الحقيقي هو الذي يوافقك دائماً ويُثني عليك في كل الأحوال، بل الصديق الحقيقي هو الشخص الصادق معك، الذي يشد من أزرك ويقف معك وقت الشدائد، لكنه في ذات الوقت يُقوّمك عندما تخطئ، ويُقدم لك النصائح بإخلاصٍ، ويُنبهك إلى مواقع الزلل التي قد تقع فيها، هو الصديق الذي يُضحي بأعز ما يملك من أجلك، لا ذلك الذي يوافقك في ضلالك، خوفاً من انفعالك. (الصديق الصدوق) مَن يُخلص لك النصيحة، دون مجاملةٍ أو تملق.

 

وهذه قصةٌ عن الصديق الحقيقي (الصديق الصدوق) المخلص لصديقه حياً كان أو ميتاً، كتب يقول: كنتُ شريكاً في التجارة مع صديقي سعود في مدينتنا «بريدة» وذات يومٍ ذهبتُ لصلاة الجمعة في الجامع الكبير كعادتي، فسمعت الإمام يقول: "الصلاة على الجنازة"، تساءل المصلون: مَن المتوفى؟! فإذا هي الصدمة؛ إنه صديق عمري سعود، تُوفي بسكتةٍ قلبيةٍ في الليل ولم أعلم بالخبر، فقد كان هذا الحادث عام ١٤١٥هـ قبل ظهور الجوالات ووسائل الاتصال السريع. صُدمت بشدةٍ، وصلينا الجنازة على حبيبي وصديق عمري رحمه الله. بعد شهورٍ من الحادث بدأتُ أصفي حساباتي المادية مع أبناء سعود وورثته، وكنتُ أعلم أن سعود رحمه الله عليه دَيْنٌ بمبلغ ٣٠٠ ألف ريالٍ لأحد التجار، فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص هذا الدَيْن عند أبناء سعود، وحيث إن الدَيْن لم يكن مثبتاً بشكلٍ واضحٍ لأنه تم عبر عدة صفقاتٍ لم يتضح لأبناء سعود هل والدهم سدد ثمن الصفقات أم لا؟ ورفض أبناء سعود التسديد ما لم يكن هناك أوراقٌ ثابتةٌ تُبين أن والدهم لم يسدد المبلغ، ولأن العلاقة بيننا نحن التجار تحكمها الثقة لم يوثق ذلك التاجر مراحل التسديد بوضوحٍ ولم تُقبل شهادتي، وصارحني ابن سعود قائلاً: "لم يترك لنا والدي سوى ٦٠٠ ألف ريالٍ فهل نسدد الدَيْن الذي لم يهتم صاحبه بإثباته ونبقى بلا مال؟!! دارت بي الدنيا وتخيلتُ صديقي سعود معلقاً في قبره مرهوناً بدَيْنه!! كيف أتركك وأتخلى عنك يا صديق الطفولة ويا شريك التجارة!! بعد يومين لم أنم فيهما، وكنتُ كلما أغمضتُ عينيّ بدت لي ابتسامة سعود الطيبة وكأنه ينتظر مني مساعدة. عرضتُ محلي التجاري بما فيه من بضائع للبيع وجمعتُ كل ما أملك وكان المبلغ ٤٥٠ ألف ريالٍ فسددتُ دَيْن سعود، لكني فوجئتُ بعد أسبوعين إذ جاءني التاجر الدائن لسعود وأعاد لي مبلغ ١٠٠ ألف ريالٍ وقال إنه تنازل عنها عندما عرف أني بعتُ بضاعتي ومحلي من أجل تسديد دَيْن صديقي المتوفى. ذكر التاجر الدائن قصتي لمجموعةٍ من تجار «بريدة» فاتصل بي أحدهم وأعطاني محلين كان قد حولهما لمخزن، وذلك لأعود لتجارتي من جديدٍ، وأقسم عليّ ألا أدفع ريالاً واحداً، وما إن استلمتُ المحلين ونظفتهما مع بعض العمال إلا وسيارةٌ كبيرةٌ محملةٌ بالبضائع نزل منها شابٌ صغيرٌ وقال لي: "هذه البضائع من والدي التاجر فلان يقول لك عندما تبيعها تسدد لنا نصف قيمتها فقط والنصف الباقي هديةٌ لك، وكلما احتجت بضاعةً تكون لك منا على التصريف"! أشخاصٌ لا أعرفهم بدأوا بمساعدتي من كل مكان، وانتعشت تجارتي أضعاف ما كانت قبل تلك الحادثة؛ فنحن الآن في رمضان ١٤٣٦هـ والحمد لله لقد أخرجتُ زكاة مالي ثلاثة ملايين ريال!!!

أولاد سعود؛ فلذات كبده، لم يكترثوا بسداد دَيْن والدهم طمعاً في الميراث، و(الصديق الصدوق) الذي كان بمثابة الأخ المخلص ضحى بباب رزقه حتى لا يُحبس صديقه في قبره ويُعذب بسبب دَيْنه! هذه هي الصداقة الحقيقية والصحبة الطيبة والأخوة المخلصة.

 

يقول العلماء إن أصل مفهوم الصداقة من الصدق، وهو ذلك الخلق العظيم الذي حثت عليه الشريعة الإسلامية، ودعت المسلمين إلى الالتزام به، كما أن مفهوم الصداقة يأتي من قيم الوفاء والإخلاص. وقد وردت كلمة الصداقة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بمصطلحات مختلفة منها: الخلّة يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾، ويبين سبحانه العداوة بين الأخلاء والأصدقاء غير المتقين يوم القيامة حين يتلفت أهل النار يميناً ويساراً، يتطلّعون إلى من كانوا يصادقونهم من أمثالهم ليشفعوا لهم فلا يرون أحداً، فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ ويقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ فيحسون بالندم والحسرة من صداقتهم لمثل هؤلاء؛ يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾، والظالم هو الذي ظلم نفسه بالكفر أو بالضلال والمعصية، يقول الواحد منهم -من حسرته- يا ليتني عشتُ على منهج الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويجعله الندم ينادي بالويل والثبور؛ فيقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ أي ليتني لم أتخذ فلاناً صديقاً، وتسأله: ماذا فعل بك صديقك فلان؟ فيجيبك: ﴿لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾، فلقد جاءني ذِكر الله على لسان رسوله، عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الصديق الضال وقف حاجزاً بيني وبين ذِكر الله، إلى أن واجهتُ مصيري المحتوم. مثله في ذلك مثل قرين السوء الذي وصفه لنا صاحب الجنة وحمد الله أنه لم يُطعه وإلا كان مصيره نار جهنم والعياذ بالله؛ يقول تعالى على لسان صاحب الجنة: ﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ . أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ . قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ . قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴾. أما من أطاع قرين السوء فيقول في الآخرة وقت لا ينفع الندم: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ وقتها يتنصل منه قرينه ويتخلى عنه ويقول: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾.

 

وقد ورد مفهوم الصداقة بمعنى الصحبة والجليس الصالح في الأحاديث النبوية؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا تُصاحِبْ إلاّ مُؤمِناً، ولاّ يأكُلْ طَعامَكَ إلاّ تَقِيّ]؛ فالصداقة في الإسلام ترتبط بالعقيدة والخلق القويم، ولا خير في الصديق والصاحب العاصي؛ لأنه يضر المسلم ولا ينفعه، وتكون صحبته فتنةً له في دينه ودنياه، لذلك حذر النبي الكريم من جليس السوء، وحث على ملازمة الجليس الصالح، قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّما مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ، كَحاملِ المِسْكِ ونافخِ الكيرِ. فَحامِلُ المِسْكِ إمَّا أن يُحْذِيَكَ وإمَّا أن تَبْتاعَ مِنْهُ وإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكيرِ إمَّا أنْ يَحْرِقَ ثِيابَكَ وإمَّا أنْ تَجِدَ ريحًا خَبِيثَةً]، فالصديق الصالح في الإسلام نعمةٌ من الله على عباده، ذلك أنه يحث صاحبه على الخير، والالتزام بمنهج الله وشريعته، ولذلك تَوَّجب على المسلم أن ينظر ويتحرى عن الصديق الصالح الذي ينفعه في الدنيا والآخرة. والصديق مرآة صديقه؛ فإذا كان الرجل ملتزماً بشريعة ربه، وسنة نبيه، حريصاً على التحلي بالأخلاق الحسنة في تعامله مع الناس، وجدت صديقه يشابهه في تلك الصفات والأحوال.

ويبين لنا كتاب الله صفات ومواصفات مجتمع الأصدقاء الذين ينبغي أن نصادقهم ونعيش معهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، يقول العلماء: أي صادِق الذين يخلصون لله ويعبدونه ويبتهلون إليه؛ لأنّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك، وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد. وفي هذه الآية الكريمة أمر ٌبصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم، فعليك بالمواظب على الطاعات، الذاكر لله كثيراً، المجتنب المعاصي والسيئات، فمن عظَّم حقوق الله في قلبه وأداها بجوارحه، حريٌ به أن يحفظ حقوق إخوانه وأصدقائه. علينا أن نختار الصاحب الناصح الأمين سيما في مواطن الفتن، نختاره من ذوي الرأي السديد والعقل الراجح القويم، ليعيننا على العصمة من فتنة الدِين ودوام تذكر الآخرة. كذلك نختار من لا يخالطنا لغرضٍ دنيويٍ أو مصلحةٍ ماديةٍ ومنفعةٍ وقتيةٍ، إنما يريد بصداقته لنا وجه الله والنصح والأخوة الصادقة.

إن الصاحب ساحبٌ، ومَن صَحِبَ قوماً عُرِفَ بهم، وقد يترتب على هذا الاختيار خيري الدنيا والآخرة، أو تعاسة الدنيا والآخرة؛ فلا بد من حُسن اختيار الأصدقاء.

 

قال الشاعر:

كم من أخٍ لكَ لم يلدْه أبوكا

وأخٌ أبوه أبوكَ قد يجفوكا

صافِ الكِرام إذا أردتَ إخاءَهم

واعلمْ بأنَّ أخا الحِفَاظِ أخوكا

كَمْ إخوةٍ لكَ لم يلدْك أبوهُم

وكأنَما آباؤهُم وَلَدوكا

 

أحبتي .. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل]، فإذا أردنا أن نصادق فعلينا أن ندرس دين من نصادقه حتى نتأكد مِن أنّ مَن نصادقه لن يُضلّنا عن ديننا، إنما يقوّي لنا إيماننا. وهكذا يكون توجيهنا لأبنائنا في اختيار أصدقائهم. وعلينا أن نحافظ على (الصديق الصدوق) المخلص الوفي مهما كان صريحاً أو قاسياً أو مخالفاً لهوانا، فهو المرآة الحقيقية التي نرى فيها أنفسنا.

اللهم ارزقنا صحبةً صالحةً تُعيننا على طريق الاستقامة والهداية، ينصحوننا أحياءً ويصبرون علينا، ويدعون لنا بعد الممات بكل صدقٍ وإخلاص.

ونصيحةٌ من القلب: ﻻ تُفرِّط في صديقك الصالح، (الصديق الصدوق) المخلص الوفي فهو شيءٌ نادرٌ وجميلٌ، تمسك به فإنه لا يُعوَض.

 

https://bit.ly/3x06xyU

الجمعة، 18 يونيو 2021

تضحية الأم

 

خاطرة الجمعة /296


الجمعة 18 يونيو 2021م

(تضحية الأم)

 

داخل إحدى غرف العمليات بمعهد الكبد القومي بمحافظة المنوفية بجمهورية مصر العربية تسطر أمٌ تضحيةً ليست بجديدةٍ على مَن تحت أقدامهن جنة الرحمن، قررت الأم التبرع لابنتها ذات السنوات الأربع بجزءٍ من كبدها. وانتشرت عبر صفحات التواصل الاجتماعي دعواتٌ للتبرع بالدم ودعواتٌ بالدعاء للأم وطفلتها الصغيرة.

‏ تعود أحداث قصة (تضحية الأم) إلى أربع سنواتٍ مضت؛ بعد ولادة الطفلة بعدة شهور، حيث فوجئت الأم أن ابنتها مصابةٌ بتليفٍ في الكبد؛ فبدأت الأم رحلتها في البحث عن أملٍ لعلاج ابنتها، فعرضتها على أطباء المعهد الذين أجمعوا على ضرورة زراعة كبدٍ للطفلة، وكان عمرها حينئذٍ لا يتجاوز ستة شهور؛ فأرجأ الأطباء تنفيذ عملية الزراعة إلى حين يكون الوقت مناسباً لذلك، واستمروا في متابعة الطفلة بشكلٍ دقيقٍ حتى بلغت عمر أربع  سنواتٍ، فقرر الأطباء أنه حان الوقت لإجراء الجراحة وزرع الكبد، وكان لابد من وجود متبرعٍ، دون أي تفكيرٍ قررت الأم إجراء جميع التحاليل للتبرع لابنتها بجزءٍ من كبدها، لتأتي نتيجة التحاليل متوافقةً مع حالة الطفلة، وتمت العملية بنجاحٍ، لتضيف هذه القصة قصةً جديدةً إلى ملف قصص (تضحية الأم).

 

أحبتي في الله .. (تضحية الأم) لإنقاذ أحد أبنائها ليست بالأمر الغريب، فهي تحدث في كل زمانٍ ومكانٍ، إذ أن الأمهات فُطرن على ذلك؛ فهذه أمٌ أخرى عندما أفاقت بعد الولادة، طلبت من الممرضة رؤية ابنها الذي انتظرته لسنين طويلةٍ، فأحضرته لها الممرضة لتراه ثم خرجت، رفعت الأم الغطاء من عن وجه ابنها فخافت مما رأت! رأت طفلاً بلا أذنين! عادت الممرضة فسألتها الأم: "هل طفلي يسمع"!؟ فقالت الممرضة: "نعم يسمع رغم تشوه أذنيه"؛ فابتسمت الأم في وجه طفلها، ورفعت يديها وشكرت الله على عطيته مهما كانت، واحتضنت الطفل في صدرها وهمست إليه: "أنت ابني مهما يكن". مع الأيام كبر الطفل وواجهت أمه معه صعوباتٍ كثيرةً نتيجةً لمضايقات أصدقائه وجيرانه وأقربائه، إلا أنها كانت دائماً مبتسمةً في وجهه وداعمةً له. لن تنسى تلك المرة التي رمى طفلها بنفسه في أحضانها باكياً من استهزاء أحد أصدقائه به، وتسميته بالوحش، إلا أنها قالت: "أحبك كما خُلقت". ورغم هذه الإعاقة إلا أن أداء الابن كان متميزاً في الدراسة، حتى كبر ودخل كليةً مرموقةً، ودرس السياسة والعلاقات الإنسانية. في أحد الأيام كان والده جالساً مع أحد الجراحين المشهورين، فحكى له مأساة ابنه؛ فقال له الطبيب: "إن هناك عمليات نقلٍ للأذنين، ولكننا في حاجةٍ لمتبرع"، فوافق الأب على إجراء العملية حينما يظهر أي متبرع. بعد فترةٍ من الزمن، اتصل الطبيب بالأب، وقال له: "لقد وجدنا المتبرع لإجراء العملية لابنك". أُجريت الجراحة للشاب بنجاح، وأصبح الطفل الوحش رجلاً وسيماً، وسأل عن المتبرع حتى يشكره؛ فرفض الطبيب ذكر اسم المتبرع، بناءً على رغبته. دفعت هذه الحالة الجديدة، الابن للتفوق أكثر وأكثر حتى أصبح سفيراً لبلاده، وتزوج بمن أحب، إلا أنه، وطوال السنوات التي أعقبت إجراء العملية، ظل يتساءل عن الشخص الذي قدم له أذنيه! هل كان متوفياً دماغياً، ومن هم ذووه؟ هل كان شخصاً مريضاً؟ ولماذا تبرع؟ أسئلةٌ كثيرةٌ بدون أجوبةٍ كانت تمر دائماً على خاطره ولا تفارقه أبداً. سأل والده عدة مراتٍ عن المتبرع، وقال إنه يحمل له الكثير من التقدير والعرفان بالجميل، ولا يستطيع أن يكافأه، لأنه كان له الدور الكبير في نجاحاته المتعاقبة في حياته، يبتسم الأب ويقول لابنه: "صدقني؛ حتى لو عرفته، فلن تستطيع أن توفيه حقه". في أحد الأيام زار الابن بيت والديه بعد سَفرٍ طويلٍ أمضاه في دولةٍ أجنبيةٍ في إطار عمله، حمل الابن لوالديه الكثير من الهدايا كان من ضمنها قرطان ذهبيان اشتراهما لأمه، وكانت دهشة الأم كبيرةً عندما شاهدت جمال هذين القرطين، حاولت رفض الهدية بشدةٍ قائلةً له إن زوجته أحق بهما منها، فهي أكثر شباباً وجمالاً، إلا أن إصرار الابن كان أكبر من إصرار والدته؛ فأخرج القرط الأول ليلبسها إياه، واقترب منها، وأزاح شعرها فأصابه الذهول عندما رأى أمه بلا أذنين! أدرك الابن وقتها فقط أن أمه هي من تبرع له بأذنيها، فأُصيبَ بصدمةٍ، وأجْهش بالبكاء. وضعتْ الأمُ يديها على وجنتي ابنها وهي تبتسم، قائلةً له: "لا تحزن، فلم يقلل ذلك من جمالي أبداً، ولم أشعر بأني فقدت أذنيّ يوماً، بل ازداد جمالي بولدي الذي استطاع أن يعيش حياةً كريمةً من دون تجريحٍ من أحد".

 

وعن (تضحية الأم) يحكي شابٌ هذه القصة فيقول:

تُوفي أبي منذ أن كنتُ في الرابعة من عمري، وكانت أمي تعمل عاملةً في مدرسةٍ لكي توفر لي احتياجاتي، وكانت أمي بعينٍ واحدة. عندما كنتُ في المدرسة كان أصدقائي يعايرونني بأن أمي عاملةٌ في المدرسة وبأنها بعينٍ واحدة. وكلما كنتُ أكبر كلما كانت تزيد معايرة أصدقائي لي. كرهتُ أمي وأصبحتُ أُحرج منها، ولا أسير معها في الطريق من شدة خجلي من شكلها ومن عملها، بالرغم من أنها كانت تعمل وتتعب كثيراً من أجلي إلا أنني كنتُ أعاملها بكل قسوةٍ، وأكره النظر في وجهها. كبرتُ وأصبحتُ مهندساً -بفضل عملها وتعبها- لكني لم أُقدِّر لها ذلك، وسافرتُ خارج البلاد ولم أسأل عنها يوماً ولا عن أحوالها. بعد عدة سنواتٍ عدتُ إلى بلدي، ولم أفكر أن أذهب إلى أمي أو أعطيها أموالاً، وتزوجتُ من فتاةٍ جميلةٍ من عائلةٍ كبيرةٍ، وعندما سألتني عن أمي أُحرجت أن أحكي لها عنها أنها كانت عاملةً في مدرسةٍ وأن شكلها مخيف. مرت سنواتٌ أخرى وأنجبتُ ولداً وبنتاً. وفي أحد الأيام طُرق باب المنزل ففتحتُ الباب فوجدتُ أمي، كانت تلبس ثياباً قديمةً، وكان يظهر عليها الفقر وكِبَر السن، لم أُدخلها إلى المنزل، وطلبتُ منها الرحيل قبل أن يراها أبنائي ويخافوا من شكلها لأنها بعينٍ واحدة. بعدها بيومٍ واحدٍ جاء إليّ رجلٌ من جيران أمي وأخبرني أنها تُوفيت، لم أندم وقتها على ما فعلتُه بها، وقلتُ لزوجتي إني سوف أسافر للعمل وأعود بعد بضعة أيام. دفنتُ أمي، وقام أحد الجيران بإعطائي جواباً من أمي، فتحتُ الجواب فوجدتُ أمي قد كتبت فيه (ابني العزيز؛ أحبك بالرغم من كل ما فعلتَه بي، ولن أغضب عليك، فقد ضحيتُ كثيراً من أجلك، ولكنك لم تقدر ذلك، وكنتَ تخاف من شكلي لأني بعينٍ واحدةٍ، لكن ما لم تكن تعرفه هو أنك أنت كنتَ بعينٍ واحدةٍ يا بني؛ عندما كنتَ صغيراً وتعرضتَ لحادثٍ أفقدك إحدى عينيك، فلم أتردد لحظةً في أن أُقدِم عيني لك. أتمنى لك أن ترى السعادة مع أسرتك بكلتا العينين: عيني وعينك). عندما قرأتُ تلك الكلمات كان قلبي يبكي قبل عينيّ، وندمتُ كثيراً على ما فعلتُه بأمي؛ فبدلاً من أن أُقدرها وأُكرمها كما أكرمتني أهنتها. لكن ماذا يفيد الندم الآن؟ لقد أصبحتُ غير قادرٍ على الحياة بسبب عذاب الضمير وخوفي من عذاب الآخرة.

 

بعيداً عن جحود بعض الأبناء، تظل (تضحية الأم) نهجاً مستمراً للأمهات يُضحين بأكبادهن وآذانهن وعيونهن، ويضحين بأموالهن وأملاكهن وحتى بأنفسهن، ويتنازلن عن حقوقهن من أجل أبنائهن، منتهى الإيثار والنبل، فما السبب في ذلك يا تُرى؟

كشفت دراسةٌ علميةٌ حديثةٌ عن (تضحية الأم) أن الأم يمكنها التضحية بحياتها دفاعاً عن حياة أبنائها، وأن الأمر متعلقٌ بنشاط أحد الهرمونات الموجود بالدماغ، والمعروف باسم «هرمون الحب»، والذي يلعب دوراً رئيسياً في الترابط بين الأمهات وأبنائهم، إذ لاحظ الباحثون زيادة نشاط هذا الهرمون عند شعور الأمهات بخطرٍ يُهدد أبناءهن، في حين يتجمد نشاطه تلقائياً عندما يزول الخطر.

أما نحن المسلمون فنقول سبحان الله إنها ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

 

عن قلب الأم قال الشاعر:

أغرى امرؤٌ يوماً غُلاماً جاهلاً

بنقودِه حتى ينالَ به الوَطَرْ

قال: ائتني بفؤادِ أمكِ يا فتى

ولكَ الدَراهمُ والجواهرُ والدُرَرْ

فمضى وأغرزَ خِنجراً في صَدْرِها

والقَلبُ أخرَجهُ وعادَ على الأثرْ

لكنه مِن فرطِ سُرعتِه هوى

فتدَحْرَجَ القلبُ المُعَفَّرُ إذْ عَثرْ

ناداه قَلبُ الأمِ وهو مُعَفرٌ:

ولدي، حَبيبي، هَلْ أصابكَ مِن ضَررْ؟

فكأن هذا الصَوتَ رُغْمَ حُنُوِّهِ

غَضَبُ السَماءِ على الوليدِ قَدْ انْهَمَرْ

ورَأى فَظيعَ جِنايةٍ لم يأتِها

أحَدٌ سِواهُ مُنْذُ تاريخِ البَشَرْ

وارتدَ نَحو القَلبِ يغسلهُ بما

فاضتْ به عيناهُ مِن سيلِ العِبرْ

ويقول: يا قلبُ انتقمْ مني ولا

تغفرْ، فإن جريمتي لا تُغتفرْ

واستلَّ خِنجرَهُ ليطعنَ صدرَهُ

طعناً سيبقى عبرةً لمن اعتبرْ

ناداه قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً ولا

تذبحْ فؤادي مرتين ِ على الأثرْ

 

أحبتي .. صدق عالمٌ جليلٌ حين قال: "الأم هي تجسيدٌ لأسمى معاني الحُبِّ والعطاء، والتضحية والوفاء، وهي المأمن في المُلمات، وحِصن القلب في الفَزَعَات، أعلى ربُّنا منزلتها؛ فجعل الجنَّة عند قدميها، وكرَّر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في برِّها الوصية، فقال: [أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك....] فكونوا لأمهاتكم كما كُنَّ لكم".

أختم بقولي إن وجود الأم نعمةٌ من أعظم نعم الله علينا، فمن كانت له أمٌ يبرها فليحمد الله، ويزد في بِره لها، وليسأل نفسه متى كانت آخر مرةٍ قَبَّل فيها قَدم أمه، وهو يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا]؟ أو قَبَّل يديها؟ أو قَّبَّل -على الأقل- رأسها وجبينها؟ ابدأ من اليوم، واجعلها عادة، وانظر مقدار السعادة الذي أدخلته على قلب أمك.

أمّا مَن كان لا يبر أمه لأي سببٍ من الأسباب؛ فليراجع نفسه فوراً ويصحح خطأه، وينقذ نفسه قبل فوات الأوان، ويُبادر إلى الاعتذار لها، وتعويضها عن كل برٍ فاته القيام به، ويعاملها -ووالده-بالرحمة؛ يقول تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾.

ومَن كانت أمه في ذمة الله؛ فليكثر من الدعاء لها -ولوالده- بالرحمة؛ يقول تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ وليتصدق عنها، ويصل الرحم التي لا تُوصل إلا بها، ويُكرم صديقاتها، ويُحسِن إلى جميع معارفها.

جعلنا الله وإياكم ممن يبرون أمهاتهم ويقدرون تضحياتهم.

 

https://bit.ly/3gAHUD9

الجمعة، 11 يونيو 2021

أسباب الدنيا

 

خاطرة الجمعة /295


الجمعة 11 يونيو 2021م

(أسباب الدنيا)

 

بعد عَقد قرانها مُباشرةً أصابها الألم والمرض، واصفرَّ وجهُها وَذَبُلت، فذهبت إلى الطَبيبة لتطمئن فكانت المُفاجأة حين أخبرتها الطبيبة بأنَّ الرّحم يكاد يكون مشقوقاً نِصفين وأنها لن تستطيع الحمل. خرجت مِن المُستشفى وكُل ما يجول في خاطرها تُرى كيف سأقول هذا لزوجي، وهل سيترُكني!؟ أنا أُحبّه بشدَّة فماذا أفعل! أمسكت بهاتِفها وحاولت الاتصال بزوجها، وبعد أكثر مِن مُحاولةٍ أجابها، وأخبرتهُ بكُل شيءٍ، فكان ردّه صادماً بالنِّسبة لها، قال لَها: "وأنا لَن أستطيع أن أُكمل معكِ". انعقد لسانها، حتّى كلمات الغَزل التي اعتادت أن تقولها لَهُ في كُل مكالمةٍ؛ لَم تستطع البوح بِها فَصمتت، وانتظرت مِنهُ أن يُخبرها أنّه كان يَمزح، وأن يُخبرها بموعد الزفاف، لكنّها فوجئت به يرسل لها ورقة الطّلاق، لم تَتحمّل الصمود كثيراً ووقعت مغشياً عليها. عندما أفاقت وجدت نفسها في المَنزل، وأُمّها تربّت على يدها، وَتُقبّل رأسها، أخذت الفتاة تبكي بشدّة وتقول: "تَركني يا أُمي وأنا في أمسّ الحاجة إليه"، قالت الأم: "لا بأس يا حَبيبتي، كُلما جاءت الخيباتُ باكراً كلما صار ترميمها أسهل، نظَر هو إلى (أسباب الدنيا) والطّب، ولم يَنظُر إلى قوّة الرّب، ليس لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْء؛ ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾، عليكِ فقط أن تعودي كَما كُنتِ، واللّٰهُ يَعلم مَنْ هو الأصلحُ لك والأجدر بِحُبّك، اصبري واحتسبي، فَمَن للصبرِ غيرك"؟

مرّت الأيام والشهور، وتحسَّنت صِحتها قليلاً، وبعد عامٍ تَقدَّم لَها شابٌ ذو خُلقٍ ودين، وفي الرؤية الشرعية قالت لَهُ: "لَن أستطيع الإنجاب"، قال لَها: "ما ضيرُ لو أنَّنا توكّلنا على الله الذي يَمنح ويَمنع"! سألته: "لِمَ لا تتزوّج غيري وَتُنجب؟ كيف لعاقلٍ أن يَتزوّج مِن عاقرٍ وهو يعلم أنها لَن تُنجب"؟! رد بقوله: "تقصدين كيف لعاقلٍ أن يأخُذ بأسباب البشر ويغضُّ الطرفَ عَن المُسبِّب؟ إن كُنتِ تقصدين هذا فالذي أعطي زكريا سيُعطيني". وافقت عليه، وتمَّت الخطبة والزفاف، وبعد أكثر مِن ثلاثة أعوامٍ حَملت في الطفل الأول، شعُرت وكأنَّ الدُّنيا قد أشرقت بالربيعُ في عُمرها، لكن تأتي المُصيبة؛ لم يَستمر الطفل في رَحمها أكثر مِن ستة أشهُر ثُم توفي. مرَّ عامٌ وحَملت مرَّة أُخرى، كانت هذهِ المرَّة خائفةً كثيراً، فقرَّرت عَدم تَرك الفراش، كانت تُصلي وتنام، وتولّى زوجها خدمتها في هذهِ الفترة، فقد كان يذهب إلى العَمل ويعود ليُعدّ الطعام، ويُنظّف المَنزل. يرى في عينيها مدى اشتياقها للطفلِ، فيزداد تحمُّلاً لأجلها، وَيزداد قوّةً بصبرها، ولكِن ما شاء اللّٰه كان، وتُوفي هذا الطفل في الرّحم أيضاً. أُصيبت هذهِ المرّة بنوبةٍ مِن الحُزن، فبدأ زوجها يجلس معها ليُصبّرها، مرًّة يقرأ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ...﴾، ومرةً يقرأ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ...﴾، ومرًّة يقرأ: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا  فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾، ثُم يتسلَّل في الَّليل ويبكي لله عزّ وجلّ ويطلب مِنهُ أن يُراضيها.

صبر الزوجان بيقينٍ وبثقةٍ ودُعاء المُضطر، وكانت الآية الكريمة: ﴿فَإِذَا فَرَغْتِ فَانصَبِ، وَإِلَى رَبِّك فَارْغَب﴾ ملاذاً لهما، يدعوان الله كي يسوق إليهما سحائب الخيرِ، يقولان: "اللّٰهم أجرنا في مُصيبتنا، واخلف لنا خيراً مِنها".

مَرّ عامان وَحملت بالطّفل الثالث، وهذه المرّة شاء اللّٰه أن يَمحي (أسباب الدنيا) لأجل صَبرها، وَضعت طفلها، وخرجت الطبيبة مِن غُرفة العَمليات، فأراد الزوج أن يطمئنّ على صِحة زوجته وطفله، فسأل الطَبيبة فكان جوابها: "لا أعلمُ كيف حدثَ ذلك؟ وكَيف حَملت واستمر حَملها؟ وَكيف أنجبت طفلاً بصحةٍ جيدةٍ، وَلَم تُنجب طفلاً واحداً بل طفلين، لا أدري كَيف حَملت والرّحم يكاد يكون مشقوقاً"؟

وبعد أن أفاقت مِن البنج، رأت أُمها فابتسمت وقالت لَها: "ألم أقُل لَكِ أن اللّٰه أعلم مَن هو الأصلحُ لك والأجدر بِحُبّك؟ ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَنحنُ لَا نَعلم، وها أنتِ أُمٌ لطفلين، وزوجك الأول تزوّج ولَم يُنجب؛ حيث اتضح أنّهُ لا يُنجب"!

 

أحبتي في الله .. استجاب المولى عزَّ وجلَّ لدعاء الزوجين بإخلاصٍ، وتسليمهما بأنه سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب، ويقينهما التام بأن (أسباب الدنيا) -التي تظهر لنا كما لو كانت هي وحدها التي تحقق النتائج- لا تعمل إلا بأمر الله ومشيئته، وثقتهما الكاملة والمطلقة بأن الدعاء يُغَيّر القدر.

 

وعن علاقة الدعاء بالقدر، يقول العلماء إن من القضاء ردُ البلاء بالدعاء؛ فالدعاء سببٌ لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سببٌ لرد السهم، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، والذي قدَّر الخير قدَّره بسبب، والذي قدَّر الشر قدَّر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور؛ يقول تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ فالأرزاق والمحن والمصائب يُثبتها الله سبحانه وتعالى في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة. فإن قال قائلٌ: ألستم تزعمون أن المقادير سابقةٌ قد جفّ بها القلم، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات؟ قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم، فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه.

قال صلى الله عليه وسلم: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ]، فالقضاء خوف العبد من نزول المكروه، والدعاء يتسبب في زوال هذا الخوف، واطمئنان العبد لما سيقع أياً كان، ويُشعر الإنسان بمعاني التوكل على الله تعالى والاستسلام لقدره، والرضا بقضائه، فتهدأ نفسه وتستريح، ويُخفف الله عنه بذلك ويُرضيه؛ فالدوام على الدعاء يُطيّب ورود القضاء فكأنه رده، ورده للقدر تهوينه حتى يصير القضاء النازل كأنه ما نزل. قال صلى الله عليه وسلم: [الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ] فالدعاء ينفع مما نزل من المصائب والمكاره، أي يسهل تحمل ما نزل من البلاء فيصبره أو يرضيه حتى أنه لا يكون متمنياً خلافه، ومما لم ينزل منها؛ بأن يصرف ذلك عنه، أو يمده قبل النزول بتأييدٍ إلهيٍ من عنده، حتى لا يعبأ به إذا نزل. والدعاء بإخلاصٍ قربٌ من الله، وذِكرٌ له سبحانه، فهو مُسبب الأسباب، ومُجيب الدعاء، ومُحقق الرجاء.

ومن العجب أن ترى كثيراً من الناس -وهُم يسعون إلى الرزق- يهتمون برضا رئيس القسم أو المدير، بأكثر مما يهتمون برضا الرزاق وهو الله! وتراهم -وقت المرض- ينفذون أوامر الطبيب بمنتهى الدقة، بأكثر مما يهتمون بتنفيذ أوامر الشافي وهو الله!

الحق أنه لا ضير من سعي الناس لكسب الرزق، ولا من تداويهم وبحثهم عن العلاج، فقد أمرنا الله بالأخذ بالأسباب؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى للسيدة مريم وهي في قمة ضعفها لحظة ولادتها: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾، هذه هي (أسباب الدنيا) نأخذ بها ونتوكل على الله؛ يقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. لكن أن نأخذ فقط بالأسباب المادية المباشرة (أسباب الدنيا) فتلك هي الغفلة، وذاك هو الإعراض؛ يقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ .... لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، والطريق واضحةٌ لا لبس فيها؛ إما اتباع الهُدى أو الإعراض عن ذِكر الله؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، والخيار لنا.

أحبتي .. لن يُفلح في حياته الدنيا وأخراه إلا من هو قريبٌ من ربه، مستجيبٌ لأوامره، بعيدٌ نواهيه، راضٍ بقضائه وقدره، مداومٌ على ذِكره، حريصٌ على دعائه والطلب منه والتذلل له والإلحاح عليه. نحن مأمورون بأن نأخذ بالأسباب (أسباب الدنيا) ولكن مع التوكل على الله مُسبب الأسباب. علينا -مع الأخذ بالأسباب- أن نُكثر من الدعاء لله في كل وقتٍ وحين؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ]، وبه تتغير الأقدار ويُتحصَل المراد ويُحاز الثواب، وكفانا رحمةً من الله أن ندعوه سبحانه وتعالى فيستجيب دعاءنا، ويختار ما هو الأصلح لنا في ديننا ودنيانا.

ولكل من يلهثون وراء الدنيا، مفرطين في حقوق الله أقول: أفيقوا من غفلتكم، وانتبهوا لأنفسكم، واعتبروا بما حدث لغيركم، يرحمكم الله.

اللهُّم لا تجعل الدُنيا أكبر همنا، ولا مَبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا وقرارنا، واهدنا اللهم سواء السبيل.

https://bit.ly/3iMXAFd