الجمعة، 25 يونيو 2021

الصديق الصدوق

 

خاطرة الجمعة /297


الجمعة 25 يونيو 2021م

(الصديق الصدوق)

 

رجل أعمالٍ في «تبوك» بالمملكة العربية السعودية، زاره صديقٌ له من «الرياض» وعند الانتهاء من ضيافته قال له: "دعنا نخرج وقت العصر في جولة لترى ماذا أملك وتشاهد أملاكي". بعد انتهاء الجولة قال رجل الأعمال لصديقه: "ما رأيك فيما شاهدت"؟ قال صديقه: "ما شاهدتُ شيئاً"!! انصدم رجل الأعمال من إجابة صديقه فقال: "كيف ما شاهدتَ شيئاً"؟!! قال له صديقه: "كل ما شاهدتُه هو أملاك الورثة بعد موتك، لم أرَ فيما شاهدتُ شيئاً تفتخر أنت به، كل ما شاهدتُ لن ينفعك ولن يفيدك"!! قال: "كل هذا"؟ قال: "نعم؛ ما شاهدتُ لك مسجداً أو وقفاً خيرياً"، انصدم الرجل من كلام صديقه. وبمجرد تودیعه، شرع في بناء مسجدٍ يتسع لألفي مصلٍ بكل مرافقه؛ من سكن إمامٍ ومؤذنٍ ومغسلة أموات، وبعدها بشهرين تُوفي إلى رحمة الله.

سبحان الله العظيم، توفيق الله، ثم نصيحةٌ مخلصةٌ من صديقه كانت سبباً في قيامة ببناء هذا المسجد، ليكون صدقةً جاريةً له بعد موته، ورصيداً له ينفعه بالآخرة.

 

أحبتي في الله .. (الصديق الصدوق) هو الصديق الحقيقي المخلص الذي يقال عنه "صديقُك من صدَقَك لا من صدَّقك"؛ فمخطئٌ من يظن أن الصديق الحقيقي هو الذي يوافقك دائماً ويُثني عليك في كل الأحوال، بل الصديق الحقيقي هو الشخص الصادق معك، الذي يشد من أزرك ويقف معك وقت الشدائد، لكنه في ذات الوقت يُقوّمك عندما تخطئ، ويُقدم لك النصائح بإخلاصٍ، ويُنبهك إلى مواقع الزلل التي قد تقع فيها، هو الصديق الذي يُضحي بأعز ما يملك من أجلك، لا ذلك الذي يوافقك في ضلالك، خوفاً من انفعالك. (الصديق الصدوق) مَن يُخلص لك النصيحة، دون مجاملةٍ أو تملق.

 

وهذه قصةٌ عن الصديق الحقيقي (الصديق الصدوق) المخلص لصديقه حياً كان أو ميتاً، كتب يقول: كنتُ شريكاً في التجارة مع صديقي سعود في مدينتنا «بريدة» وذات يومٍ ذهبتُ لصلاة الجمعة في الجامع الكبير كعادتي، فسمعت الإمام يقول: "الصلاة على الجنازة"، تساءل المصلون: مَن المتوفى؟! فإذا هي الصدمة؛ إنه صديق عمري سعود، تُوفي بسكتةٍ قلبيةٍ في الليل ولم أعلم بالخبر، فقد كان هذا الحادث عام ١٤١٥هـ قبل ظهور الجوالات ووسائل الاتصال السريع. صُدمت بشدةٍ، وصلينا الجنازة على حبيبي وصديق عمري رحمه الله. بعد شهورٍ من الحادث بدأتُ أصفي حساباتي المادية مع أبناء سعود وورثته، وكنتُ أعلم أن سعود رحمه الله عليه دَيْنٌ بمبلغ ٣٠٠ ألف ريالٍ لأحد التجار، فطلب مني التاجر أن أذهب معه للشهادة بخصوص هذا الدَيْن عند أبناء سعود، وحيث إن الدَيْن لم يكن مثبتاً بشكلٍ واضحٍ لأنه تم عبر عدة صفقاتٍ لم يتضح لأبناء سعود هل والدهم سدد ثمن الصفقات أم لا؟ ورفض أبناء سعود التسديد ما لم يكن هناك أوراقٌ ثابتةٌ تُبين أن والدهم لم يسدد المبلغ، ولأن العلاقة بيننا نحن التجار تحكمها الثقة لم يوثق ذلك التاجر مراحل التسديد بوضوحٍ ولم تُقبل شهادتي، وصارحني ابن سعود قائلاً: "لم يترك لنا والدي سوى ٦٠٠ ألف ريالٍ فهل نسدد الدَيْن الذي لم يهتم صاحبه بإثباته ونبقى بلا مال؟!! دارت بي الدنيا وتخيلتُ صديقي سعود معلقاً في قبره مرهوناً بدَيْنه!! كيف أتركك وأتخلى عنك يا صديق الطفولة ويا شريك التجارة!! بعد يومين لم أنم فيهما، وكنتُ كلما أغمضتُ عينيّ بدت لي ابتسامة سعود الطيبة وكأنه ينتظر مني مساعدة. عرضتُ محلي التجاري بما فيه من بضائع للبيع وجمعتُ كل ما أملك وكان المبلغ ٤٥٠ ألف ريالٍ فسددتُ دَيْن سعود، لكني فوجئتُ بعد أسبوعين إذ جاءني التاجر الدائن لسعود وأعاد لي مبلغ ١٠٠ ألف ريالٍ وقال إنه تنازل عنها عندما عرف أني بعتُ بضاعتي ومحلي من أجل تسديد دَيْن صديقي المتوفى. ذكر التاجر الدائن قصتي لمجموعةٍ من تجار «بريدة» فاتصل بي أحدهم وأعطاني محلين كان قد حولهما لمخزن، وذلك لأعود لتجارتي من جديدٍ، وأقسم عليّ ألا أدفع ريالاً واحداً، وما إن استلمتُ المحلين ونظفتهما مع بعض العمال إلا وسيارةٌ كبيرةٌ محملةٌ بالبضائع نزل منها شابٌ صغيرٌ وقال لي: "هذه البضائع من والدي التاجر فلان يقول لك عندما تبيعها تسدد لنا نصف قيمتها فقط والنصف الباقي هديةٌ لك، وكلما احتجت بضاعةً تكون لك منا على التصريف"! أشخاصٌ لا أعرفهم بدأوا بمساعدتي من كل مكان، وانتعشت تجارتي أضعاف ما كانت قبل تلك الحادثة؛ فنحن الآن في رمضان ١٤٣٦هـ والحمد لله لقد أخرجتُ زكاة مالي ثلاثة ملايين ريال!!!

أولاد سعود؛ فلذات كبده، لم يكترثوا بسداد دَيْن والدهم طمعاً في الميراث، و(الصديق الصدوق) الذي كان بمثابة الأخ المخلص ضحى بباب رزقه حتى لا يُحبس صديقه في قبره ويُعذب بسبب دَيْنه! هذه هي الصداقة الحقيقية والصحبة الطيبة والأخوة المخلصة.

 

يقول العلماء إن أصل مفهوم الصداقة من الصدق، وهو ذلك الخلق العظيم الذي حثت عليه الشريعة الإسلامية، ودعت المسلمين إلى الالتزام به، كما أن مفهوم الصداقة يأتي من قيم الوفاء والإخلاص. وقد وردت كلمة الصداقة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بمصطلحات مختلفة منها: الخلّة يقول تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾، ويبين سبحانه العداوة بين الأخلاء والأصدقاء غير المتقين يوم القيامة حين يتلفت أهل النار يميناً ويساراً، يتطلّعون إلى من كانوا يصادقونهم من أمثالهم ليشفعوا لهم فلا يرون أحداً، فيتساءلون: أين هو الصديق الحميم؟ ويقولون: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ . وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ فيحسون بالندم والحسرة من صداقتهم لمثل هؤلاء؛ يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾، والظالم هو الذي ظلم نفسه بالكفر أو بالضلال والمعصية، يقول الواحد منهم -من حسرته- يا ليتني عشتُ على منهج الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويجعله الندم ينادي بالويل والثبور؛ فيقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ أي ليتني لم أتخذ فلاناً صديقاً، وتسأله: ماذا فعل بك صديقك فلان؟ فيجيبك: ﴿لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾، فلقد جاءني ذِكر الله على لسان رسوله، عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الصديق الضال وقف حاجزاً بيني وبين ذِكر الله، إلى أن واجهتُ مصيري المحتوم. مثله في ذلك مثل قرين السوء الذي وصفه لنا صاحب الجنة وحمد الله أنه لم يُطعه وإلا كان مصيره نار جهنم والعياذ بالله؛ يقول تعالى على لسان صاحب الجنة: ﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ . أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ . قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ . قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴾. أما من أطاع قرين السوء فيقول في الآخرة وقت لا ينفع الندم: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ وقتها يتنصل منه قرينه ويتخلى عنه ويقول: ﴿رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾.

 

وقد ورد مفهوم الصداقة بمعنى الصحبة والجليس الصالح في الأحاديث النبوية؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا تُصاحِبْ إلاّ مُؤمِناً، ولاّ يأكُلْ طَعامَكَ إلاّ تَقِيّ]؛ فالصداقة في الإسلام ترتبط بالعقيدة والخلق القويم، ولا خير في الصديق والصاحب العاصي؛ لأنه يضر المسلم ولا ينفعه، وتكون صحبته فتنةً له في دينه ودنياه، لذلك حذر النبي الكريم من جليس السوء، وحث على ملازمة الجليس الصالح، قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّما مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ، كَحاملِ المِسْكِ ونافخِ الكيرِ. فَحامِلُ المِسْكِ إمَّا أن يُحْذِيَكَ وإمَّا أن تَبْتاعَ مِنْهُ وإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكيرِ إمَّا أنْ يَحْرِقَ ثِيابَكَ وإمَّا أنْ تَجِدَ ريحًا خَبِيثَةً]، فالصديق الصالح في الإسلام نعمةٌ من الله على عباده، ذلك أنه يحث صاحبه على الخير، والالتزام بمنهج الله وشريعته، ولذلك تَوَّجب على المسلم أن ينظر ويتحرى عن الصديق الصالح الذي ينفعه في الدنيا والآخرة. والصديق مرآة صديقه؛ فإذا كان الرجل ملتزماً بشريعة ربه، وسنة نبيه، حريصاً على التحلي بالأخلاق الحسنة في تعامله مع الناس، وجدت صديقه يشابهه في تلك الصفات والأحوال.

ويبين لنا كتاب الله صفات ومواصفات مجتمع الأصدقاء الذين ينبغي أن نصادقهم ونعيش معهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، يقول العلماء: أي صادِق الذين يخلصون لله ويعبدونه ويبتهلون إليه؛ لأنّ هؤلاء هم الذين يزيدون إيمانك، وهم الذين يحفظون لك ودّك ويفون لك الوعد والعهد. وفي هذه الآية الكريمة أمر ٌبصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم، فعليك بالمواظب على الطاعات، الذاكر لله كثيراً، المجتنب المعاصي والسيئات، فمن عظَّم حقوق الله في قلبه وأداها بجوارحه، حريٌ به أن يحفظ حقوق إخوانه وأصدقائه. علينا أن نختار الصاحب الناصح الأمين سيما في مواطن الفتن، نختاره من ذوي الرأي السديد والعقل الراجح القويم، ليعيننا على العصمة من فتنة الدِين ودوام تذكر الآخرة. كذلك نختار من لا يخالطنا لغرضٍ دنيويٍ أو مصلحةٍ ماديةٍ ومنفعةٍ وقتيةٍ، إنما يريد بصداقته لنا وجه الله والنصح والأخوة الصادقة.

إن الصاحب ساحبٌ، ومَن صَحِبَ قوماً عُرِفَ بهم، وقد يترتب على هذا الاختيار خيري الدنيا والآخرة، أو تعاسة الدنيا والآخرة؛ فلا بد من حُسن اختيار الأصدقاء.

 

قال الشاعر:

كم من أخٍ لكَ لم يلدْه أبوكا

وأخٌ أبوه أبوكَ قد يجفوكا

صافِ الكِرام إذا أردتَ إخاءَهم

واعلمْ بأنَّ أخا الحِفَاظِ أخوكا

كَمْ إخوةٍ لكَ لم يلدْك أبوهُم

وكأنَما آباؤهُم وَلَدوكا

 

أحبتي .. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل]، فإذا أردنا أن نصادق فعلينا أن ندرس دين من نصادقه حتى نتأكد مِن أنّ مَن نصادقه لن يُضلّنا عن ديننا، إنما يقوّي لنا إيماننا. وهكذا يكون توجيهنا لأبنائنا في اختيار أصدقائهم. وعلينا أن نحافظ على (الصديق الصدوق) المخلص الوفي مهما كان صريحاً أو قاسياً أو مخالفاً لهوانا، فهو المرآة الحقيقية التي نرى فيها أنفسنا.

اللهم ارزقنا صحبةً صالحةً تُعيننا على طريق الاستقامة والهداية، ينصحوننا أحياءً ويصبرون علينا، ويدعون لنا بعد الممات بكل صدقٍ وإخلاص.

ونصيحةٌ من القلب: ﻻ تُفرِّط في صديقك الصالح، (الصديق الصدوق) المخلص الوفي فهو شيءٌ نادرٌ وجميلٌ، تمسك به فإنه لا يُعوَض.

 

https://bit.ly/3x06xyU

الجمعة، 18 يونيو 2021

تضحية الأم

 

خاطرة الجمعة /296


الجمعة 18 يونيو 2021م

(تضحية الأم)

 

داخل إحدى غرف العمليات بمعهد الكبد القومي بمحافظة المنوفية بجمهورية مصر العربية تسطر أمٌ تضحيةً ليست بجديدةٍ على مَن تحت أقدامهن جنة الرحمن، قررت الأم التبرع لابنتها ذات السنوات الأربع بجزءٍ من كبدها. وانتشرت عبر صفحات التواصل الاجتماعي دعواتٌ للتبرع بالدم ودعواتٌ بالدعاء للأم وطفلتها الصغيرة.

‏ تعود أحداث قصة (تضحية الأم) إلى أربع سنواتٍ مضت؛ بعد ولادة الطفلة بعدة شهور، حيث فوجئت الأم أن ابنتها مصابةٌ بتليفٍ في الكبد؛ فبدأت الأم رحلتها في البحث عن أملٍ لعلاج ابنتها، فعرضتها على أطباء المعهد الذين أجمعوا على ضرورة زراعة كبدٍ للطفلة، وكان عمرها حينئذٍ لا يتجاوز ستة شهور؛ فأرجأ الأطباء تنفيذ عملية الزراعة إلى حين يكون الوقت مناسباً لذلك، واستمروا في متابعة الطفلة بشكلٍ دقيقٍ حتى بلغت عمر أربع  سنواتٍ، فقرر الأطباء أنه حان الوقت لإجراء الجراحة وزرع الكبد، وكان لابد من وجود متبرعٍ، دون أي تفكيرٍ قررت الأم إجراء جميع التحاليل للتبرع لابنتها بجزءٍ من كبدها، لتأتي نتيجة التحاليل متوافقةً مع حالة الطفلة، وتمت العملية بنجاحٍ، لتضيف هذه القصة قصةً جديدةً إلى ملف قصص (تضحية الأم).

 

أحبتي في الله .. (تضحية الأم) لإنقاذ أحد أبنائها ليست بالأمر الغريب، فهي تحدث في كل زمانٍ ومكانٍ، إذ أن الأمهات فُطرن على ذلك؛ فهذه أمٌ أخرى عندما أفاقت بعد الولادة، طلبت من الممرضة رؤية ابنها الذي انتظرته لسنين طويلةٍ، فأحضرته لها الممرضة لتراه ثم خرجت، رفعت الأم الغطاء من عن وجه ابنها فخافت مما رأت! رأت طفلاً بلا أذنين! عادت الممرضة فسألتها الأم: "هل طفلي يسمع"!؟ فقالت الممرضة: "نعم يسمع رغم تشوه أذنيه"؛ فابتسمت الأم في وجه طفلها، ورفعت يديها وشكرت الله على عطيته مهما كانت، واحتضنت الطفل في صدرها وهمست إليه: "أنت ابني مهما يكن". مع الأيام كبر الطفل وواجهت أمه معه صعوباتٍ كثيرةً نتيجةً لمضايقات أصدقائه وجيرانه وأقربائه، إلا أنها كانت دائماً مبتسمةً في وجهه وداعمةً له. لن تنسى تلك المرة التي رمى طفلها بنفسه في أحضانها باكياً من استهزاء أحد أصدقائه به، وتسميته بالوحش، إلا أنها قالت: "أحبك كما خُلقت". ورغم هذه الإعاقة إلا أن أداء الابن كان متميزاً في الدراسة، حتى كبر ودخل كليةً مرموقةً، ودرس السياسة والعلاقات الإنسانية. في أحد الأيام كان والده جالساً مع أحد الجراحين المشهورين، فحكى له مأساة ابنه؛ فقال له الطبيب: "إن هناك عمليات نقلٍ للأذنين، ولكننا في حاجةٍ لمتبرع"، فوافق الأب على إجراء العملية حينما يظهر أي متبرع. بعد فترةٍ من الزمن، اتصل الطبيب بالأب، وقال له: "لقد وجدنا المتبرع لإجراء العملية لابنك". أُجريت الجراحة للشاب بنجاح، وأصبح الطفل الوحش رجلاً وسيماً، وسأل عن المتبرع حتى يشكره؛ فرفض الطبيب ذكر اسم المتبرع، بناءً على رغبته. دفعت هذه الحالة الجديدة، الابن للتفوق أكثر وأكثر حتى أصبح سفيراً لبلاده، وتزوج بمن أحب، إلا أنه، وطوال السنوات التي أعقبت إجراء العملية، ظل يتساءل عن الشخص الذي قدم له أذنيه! هل كان متوفياً دماغياً، ومن هم ذووه؟ هل كان شخصاً مريضاً؟ ولماذا تبرع؟ أسئلةٌ كثيرةٌ بدون أجوبةٍ كانت تمر دائماً على خاطره ولا تفارقه أبداً. سأل والده عدة مراتٍ عن المتبرع، وقال إنه يحمل له الكثير من التقدير والعرفان بالجميل، ولا يستطيع أن يكافأه، لأنه كان له الدور الكبير في نجاحاته المتعاقبة في حياته، يبتسم الأب ويقول لابنه: "صدقني؛ حتى لو عرفته، فلن تستطيع أن توفيه حقه". في أحد الأيام زار الابن بيت والديه بعد سَفرٍ طويلٍ أمضاه في دولةٍ أجنبيةٍ في إطار عمله، حمل الابن لوالديه الكثير من الهدايا كان من ضمنها قرطان ذهبيان اشتراهما لأمه، وكانت دهشة الأم كبيرةً عندما شاهدت جمال هذين القرطين، حاولت رفض الهدية بشدةٍ قائلةً له إن زوجته أحق بهما منها، فهي أكثر شباباً وجمالاً، إلا أن إصرار الابن كان أكبر من إصرار والدته؛ فأخرج القرط الأول ليلبسها إياه، واقترب منها، وأزاح شعرها فأصابه الذهول عندما رأى أمه بلا أذنين! أدرك الابن وقتها فقط أن أمه هي من تبرع له بأذنيها، فأُصيبَ بصدمةٍ، وأجْهش بالبكاء. وضعتْ الأمُ يديها على وجنتي ابنها وهي تبتسم، قائلةً له: "لا تحزن، فلم يقلل ذلك من جمالي أبداً، ولم أشعر بأني فقدت أذنيّ يوماً، بل ازداد جمالي بولدي الذي استطاع أن يعيش حياةً كريمةً من دون تجريحٍ من أحد".

 

وعن (تضحية الأم) يحكي شابٌ هذه القصة فيقول:

تُوفي أبي منذ أن كنتُ في الرابعة من عمري، وكانت أمي تعمل عاملةً في مدرسةٍ لكي توفر لي احتياجاتي، وكانت أمي بعينٍ واحدة. عندما كنتُ في المدرسة كان أصدقائي يعايرونني بأن أمي عاملةٌ في المدرسة وبأنها بعينٍ واحدة. وكلما كنتُ أكبر كلما كانت تزيد معايرة أصدقائي لي. كرهتُ أمي وأصبحتُ أُحرج منها، ولا أسير معها في الطريق من شدة خجلي من شكلها ومن عملها، بالرغم من أنها كانت تعمل وتتعب كثيراً من أجلي إلا أنني كنتُ أعاملها بكل قسوةٍ، وأكره النظر في وجهها. كبرتُ وأصبحتُ مهندساً -بفضل عملها وتعبها- لكني لم أُقدِّر لها ذلك، وسافرتُ خارج البلاد ولم أسأل عنها يوماً ولا عن أحوالها. بعد عدة سنواتٍ عدتُ إلى بلدي، ولم أفكر أن أذهب إلى أمي أو أعطيها أموالاً، وتزوجتُ من فتاةٍ جميلةٍ من عائلةٍ كبيرةٍ، وعندما سألتني عن أمي أُحرجت أن أحكي لها عنها أنها كانت عاملةً في مدرسةٍ وأن شكلها مخيف. مرت سنواتٌ أخرى وأنجبتُ ولداً وبنتاً. وفي أحد الأيام طُرق باب المنزل ففتحتُ الباب فوجدتُ أمي، كانت تلبس ثياباً قديمةً، وكان يظهر عليها الفقر وكِبَر السن، لم أُدخلها إلى المنزل، وطلبتُ منها الرحيل قبل أن يراها أبنائي ويخافوا من شكلها لأنها بعينٍ واحدة. بعدها بيومٍ واحدٍ جاء إليّ رجلٌ من جيران أمي وأخبرني أنها تُوفيت، لم أندم وقتها على ما فعلتُه بها، وقلتُ لزوجتي إني سوف أسافر للعمل وأعود بعد بضعة أيام. دفنتُ أمي، وقام أحد الجيران بإعطائي جواباً من أمي، فتحتُ الجواب فوجدتُ أمي قد كتبت فيه (ابني العزيز؛ أحبك بالرغم من كل ما فعلتَه بي، ولن أغضب عليك، فقد ضحيتُ كثيراً من أجلك، ولكنك لم تقدر ذلك، وكنتَ تخاف من شكلي لأني بعينٍ واحدةٍ، لكن ما لم تكن تعرفه هو أنك أنت كنتَ بعينٍ واحدةٍ يا بني؛ عندما كنتَ صغيراً وتعرضتَ لحادثٍ أفقدك إحدى عينيك، فلم أتردد لحظةً في أن أُقدِم عيني لك. أتمنى لك أن ترى السعادة مع أسرتك بكلتا العينين: عيني وعينك). عندما قرأتُ تلك الكلمات كان قلبي يبكي قبل عينيّ، وندمتُ كثيراً على ما فعلتُه بأمي؛ فبدلاً من أن أُقدرها وأُكرمها كما أكرمتني أهنتها. لكن ماذا يفيد الندم الآن؟ لقد أصبحتُ غير قادرٍ على الحياة بسبب عذاب الضمير وخوفي من عذاب الآخرة.

 

بعيداً عن جحود بعض الأبناء، تظل (تضحية الأم) نهجاً مستمراً للأمهات يُضحين بأكبادهن وآذانهن وعيونهن، ويضحين بأموالهن وأملاكهن وحتى بأنفسهن، ويتنازلن عن حقوقهن من أجل أبنائهن، منتهى الإيثار والنبل، فما السبب في ذلك يا تُرى؟

كشفت دراسةٌ علميةٌ حديثةٌ عن (تضحية الأم) أن الأم يمكنها التضحية بحياتها دفاعاً عن حياة أبنائها، وأن الأمر متعلقٌ بنشاط أحد الهرمونات الموجود بالدماغ، والمعروف باسم «هرمون الحب»، والذي يلعب دوراً رئيسياً في الترابط بين الأمهات وأبنائهم، إذ لاحظ الباحثون زيادة نشاط هذا الهرمون عند شعور الأمهات بخطرٍ يُهدد أبناءهن، في حين يتجمد نشاطه تلقائياً عندما يزول الخطر.

أما نحن المسلمون فنقول سبحان الله إنها ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

 

عن قلب الأم قال الشاعر:

أغرى امرؤٌ يوماً غُلاماً جاهلاً

بنقودِه حتى ينالَ به الوَطَرْ

قال: ائتني بفؤادِ أمكِ يا فتى

ولكَ الدَراهمُ والجواهرُ والدُرَرْ

فمضى وأغرزَ خِنجراً في صَدْرِها

والقَلبُ أخرَجهُ وعادَ على الأثرْ

لكنه مِن فرطِ سُرعتِه هوى

فتدَحْرَجَ القلبُ المُعَفَّرُ إذْ عَثرْ

ناداه قَلبُ الأمِ وهو مُعَفرٌ:

ولدي، حَبيبي، هَلْ أصابكَ مِن ضَررْ؟

فكأن هذا الصَوتَ رُغْمَ حُنُوِّهِ

غَضَبُ السَماءِ على الوليدِ قَدْ انْهَمَرْ

ورَأى فَظيعَ جِنايةٍ لم يأتِها

أحَدٌ سِواهُ مُنْذُ تاريخِ البَشَرْ

وارتدَ نَحو القَلبِ يغسلهُ بما

فاضتْ به عيناهُ مِن سيلِ العِبرْ

ويقول: يا قلبُ انتقمْ مني ولا

تغفرْ، فإن جريمتي لا تُغتفرْ

واستلَّ خِنجرَهُ ليطعنَ صدرَهُ

طعناً سيبقى عبرةً لمن اعتبرْ

ناداه قلبُ الأمِّ: كُفَّ يداً ولا

تذبحْ فؤادي مرتين ِ على الأثرْ

 

أحبتي .. صدق عالمٌ جليلٌ حين قال: "الأم هي تجسيدٌ لأسمى معاني الحُبِّ والعطاء، والتضحية والوفاء، وهي المأمن في المُلمات، وحِصن القلب في الفَزَعَات، أعلى ربُّنا منزلتها؛ فجعل الجنَّة عند قدميها، وكرَّر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في برِّها الوصية، فقال: [أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك....] فكونوا لأمهاتكم كما كُنَّ لكم".

أختم بقولي إن وجود الأم نعمةٌ من أعظم نعم الله علينا، فمن كانت له أمٌ يبرها فليحمد الله، ويزد في بِره لها، وليسأل نفسه متى كانت آخر مرةٍ قَبَّل فيها قَدم أمه، وهو يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا]؟ أو قَبَّل يديها؟ أو قَّبَّل -على الأقل- رأسها وجبينها؟ ابدأ من اليوم، واجعلها عادة، وانظر مقدار السعادة الذي أدخلته على قلب أمك.

أمّا مَن كان لا يبر أمه لأي سببٍ من الأسباب؛ فليراجع نفسه فوراً ويصحح خطأه، وينقذ نفسه قبل فوات الأوان، ويُبادر إلى الاعتذار لها، وتعويضها عن كل برٍ فاته القيام به، ويعاملها -ووالده-بالرحمة؛ يقول تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾.

ومَن كانت أمه في ذمة الله؛ فليكثر من الدعاء لها -ولوالده- بالرحمة؛ يقول تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ وليتصدق عنها، ويصل الرحم التي لا تُوصل إلا بها، ويُكرم صديقاتها، ويُحسِن إلى جميع معارفها.

جعلنا الله وإياكم ممن يبرون أمهاتهم ويقدرون تضحياتهم.

 

https://bit.ly/3gAHUD9

الجمعة، 11 يونيو 2021

أسباب الدنيا

 

خاطرة الجمعة /295


الجمعة 11 يونيو 2021م

(أسباب الدنيا)

 

بعد عَقد قرانها مُباشرةً أصابها الألم والمرض، واصفرَّ وجهُها وَذَبُلت، فذهبت إلى الطَبيبة لتطمئن فكانت المُفاجأة حين أخبرتها الطبيبة بأنَّ الرّحم يكاد يكون مشقوقاً نِصفين وأنها لن تستطيع الحمل. خرجت مِن المُستشفى وكُل ما يجول في خاطرها تُرى كيف سأقول هذا لزوجي، وهل سيترُكني!؟ أنا أُحبّه بشدَّة فماذا أفعل! أمسكت بهاتِفها وحاولت الاتصال بزوجها، وبعد أكثر مِن مُحاولةٍ أجابها، وأخبرتهُ بكُل شيءٍ، فكان ردّه صادماً بالنِّسبة لها، قال لَها: "وأنا لَن أستطيع أن أُكمل معكِ". انعقد لسانها، حتّى كلمات الغَزل التي اعتادت أن تقولها لَهُ في كُل مكالمةٍ؛ لَم تستطع البوح بِها فَصمتت، وانتظرت مِنهُ أن يُخبرها أنّه كان يَمزح، وأن يُخبرها بموعد الزفاف، لكنّها فوجئت به يرسل لها ورقة الطّلاق، لم تَتحمّل الصمود كثيراً ووقعت مغشياً عليها. عندما أفاقت وجدت نفسها في المَنزل، وأُمّها تربّت على يدها، وَتُقبّل رأسها، أخذت الفتاة تبكي بشدّة وتقول: "تَركني يا أُمي وأنا في أمسّ الحاجة إليه"، قالت الأم: "لا بأس يا حَبيبتي، كُلما جاءت الخيباتُ باكراً كلما صار ترميمها أسهل، نظَر هو إلى (أسباب الدنيا) والطّب، ولم يَنظُر إلى قوّة الرّب، ليس لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْء؛ ﴿إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾، عليكِ فقط أن تعودي كَما كُنتِ، واللّٰهُ يَعلم مَنْ هو الأصلحُ لك والأجدر بِحُبّك، اصبري واحتسبي، فَمَن للصبرِ غيرك"؟

مرّت الأيام والشهور، وتحسَّنت صِحتها قليلاً، وبعد عامٍ تَقدَّم لَها شابٌ ذو خُلقٍ ودين، وفي الرؤية الشرعية قالت لَهُ: "لَن أستطيع الإنجاب"، قال لَها: "ما ضيرُ لو أنَّنا توكّلنا على الله الذي يَمنح ويَمنع"! سألته: "لِمَ لا تتزوّج غيري وَتُنجب؟ كيف لعاقلٍ أن يَتزوّج مِن عاقرٍ وهو يعلم أنها لَن تُنجب"؟! رد بقوله: "تقصدين كيف لعاقلٍ أن يأخُذ بأسباب البشر ويغضُّ الطرفَ عَن المُسبِّب؟ إن كُنتِ تقصدين هذا فالذي أعطي زكريا سيُعطيني". وافقت عليه، وتمَّت الخطبة والزفاف، وبعد أكثر مِن ثلاثة أعوامٍ حَملت في الطفل الأول، شعُرت وكأنَّ الدُّنيا قد أشرقت بالربيعُ في عُمرها، لكن تأتي المُصيبة؛ لم يَستمر الطفل في رَحمها أكثر مِن ستة أشهُر ثُم توفي. مرَّ عامٌ وحَملت مرَّة أُخرى، كانت هذهِ المرَّة خائفةً كثيراً، فقرَّرت عَدم تَرك الفراش، كانت تُصلي وتنام، وتولّى زوجها خدمتها في هذهِ الفترة، فقد كان يذهب إلى العَمل ويعود ليُعدّ الطعام، ويُنظّف المَنزل. يرى في عينيها مدى اشتياقها للطفلِ، فيزداد تحمُّلاً لأجلها، وَيزداد قوّةً بصبرها، ولكِن ما شاء اللّٰه كان، وتُوفي هذا الطفل في الرّحم أيضاً. أُصيبت هذهِ المرّة بنوبةٍ مِن الحُزن، فبدأ زوجها يجلس معها ليُصبّرها، مرًّة يقرأ: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ...﴾، ومرةً يقرأ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ...﴾، ومرًّة يقرأ: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا  فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾، ثُم يتسلَّل في الَّليل ويبكي لله عزّ وجلّ ويطلب مِنهُ أن يُراضيها.

صبر الزوجان بيقينٍ وبثقةٍ ودُعاء المُضطر، وكانت الآية الكريمة: ﴿فَإِذَا فَرَغْتِ فَانصَبِ، وَإِلَى رَبِّك فَارْغَب﴾ ملاذاً لهما، يدعوان الله كي يسوق إليهما سحائب الخيرِ، يقولان: "اللّٰهم أجرنا في مُصيبتنا، واخلف لنا خيراً مِنها".

مَرّ عامان وَحملت بالطّفل الثالث، وهذه المرّة شاء اللّٰه أن يَمحي (أسباب الدنيا) لأجل صَبرها، وَضعت طفلها، وخرجت الطبيبة مِن غُرفة العَمليات، فأراد الزوج أن يطمئنّ على صِحة زوجته وطفله، فسأل الطَبيبة فكان جوابها: "لا أعلمُ كيف حدثَ ذلك؟ وكَيف حَملت واستمر حَملها؟ وَكيف أنجبت طفلاً بصحةٍ جيدةٍ، وَلَم تُنجب طفلاً واحداً بل طفلين، لا أدري كَيف حَملت والرّحم يكاد يكون مشقوقاً"؟

وبعد أن أفاقت مِن البنج، رأت أُمها فابتسمت وقالت لَها: "ألم أقُل لَكِ أن اللّٰه أعلم مَن هو الأصلحُ لك والأجدر بِحُبّك؟ ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَنحنُ لَا نَعلم، وها أنتِ أُمٌ لطفلين، وزوجك الأول تزوّج ولَم يُنجب؛ حيث اتضح أنّهُ لا يُنجب"!

 

أحبتي في الله .. استجاب المولى عزَّ وجلَّ لدعاء الزوجين بإخلاصٍ، وتسليمهما بأنه سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب، ويقينهما التام بأن (أسباب الدنيا) -التي تظهر لنا كما لو كانت هي وحدها التي تحقق النتائج- لا تعمل إلا بأمر الله ومشيئته، وثقتهما الكاملة والمطلقة بأن الدعاء يُغَيّر القدر.

 

وعن علاقة الدعاء بالقدر، يقول العلماء إن من القضاء ردُ البلاء بالدعاء؛ فالدعاء سببٌ لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سببٌ لرد السهم، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، والذي قدَّر الخير قدَّره بسبب، والذي قدَّر الشر قدَّر لدفعه سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور؛ يقول تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ فالأرزاق والمحن والمصائب يُثبتها الله سبحانه وتعالى في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة. فإن قال قائلٌ: ألستم تزعمون أن المقادير سابقةٌ قد جفّ بها القلم، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات؟ قلنا: ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم، فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه.

قال صلى الله عليه وسلم: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ]، فالقضاء خوف العبد من نزول المكروه، والدعاء يتسبب في زوال هذا الخوف، واطمئنان العبد لما سيقع أياً كان، ويُشعر الإنسان بمعاني التوكل على الله تعالى والاستسلام لقدره، والرضا بقضائه، فتهدأ نفسه وتستريح، ويُخفف الله عنه بذلك ويُرضيه؛ فالدوام على الدعاء يُطيّب ورود القضاء فكأنه رده، ورده للقدر تهوينه حتى يصير القضاء النازل كأنه ما نزل. قال صلى الله عليه وسلم: [الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ عِبَادَ اللَّهِ] فالدعاء ينفع مما نزل من المصائب والمكاره، أي يسهل تحمل ما نزل من البلاء فيصبره أو يرضيه حتى أنه لا يكون متمنياً خلافه، ومما لم ينزل منها؛ بأن يصرف ذلك عنه، أو يمده قبل النزول بتأييدٍ إلهيٍ من عنده، حتى لا يعبأ به إذا نزل. والدعاء بإخلاصٍ قربٌ من الله، وذِكرٌ له سبحانه، فهو مُسبب الأسباب، ومُجيب الدعاء، ومُحقق الرجاء.

ومن العجب أن ترى كثيراً من الناس -وهُم يسعون إلى الرزق- يهتمون برضا رئيس القسم أو المدير، بأكثر مما يهتمون برضا الرزاق وهو الله! وتراهم -وقت المرض- ينفذون أوامر الطبيب بمنتهى الدقة، بأكثر مما يهتمون بتنفيذ أوامر الشافي وهو الله!

الحق أنه لا ضير من سعي الناس لكسب الرزق، ولا من تداويهم وبحثهم عن العلاج، فقد أمرنا الله بالأخذ بالأسباب؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى للسيدة مريم وهي في قمة ضعفها لحظة ولادتها: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾، هذه هي (أسباب الدنيا) نأخذ بها ونتوكل على الله؛ يقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. لكن أن نأخذ فقط بالأسباب المادية المباشرة (أسباب الدنيا) فتلك هي الغفلة، وذاك هو الإعراض؛ يقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ .... لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، والطريق واضحةٌ لا لبس فيها؛ إما اتباع الهُدى أو الإعراض عن ذِكر الله؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، والخيار لنا.

أحبتي .. لن يُفلح في حياته الدنيا وأخراه إلا من هو قريبٌ من ربه، مستجيبٌ لأوامره، بعيدٌ نواهيه، راضٍ بقضائه وقدره، مداومٌ على ذِكره، حريصٌ على دعائه والطلب منه والتذلل له والإلحاح عليه. نحن مأمورون بأن نأخذ بالأسباب (أسباب الدنيا) ولكن مع التوكل على الله مُسبب الأسباب. علينا -مع الأخذ بالأسباب- أن نُكثر من الدعاء لله في كل وقتٍ وحين؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ]، وبه تتغير الأقدار ويُتحصَل المراد ويُحاز الثواب، وكفانا رحمةً من الله أن ندعوه سبحانه وتعالى فيستجيب دعاءنا، ويختار ما هو الأصلح لنا في ديننا ودنيانا.

ولكل من يلهثون وراء الدنيا، مفرطين في حقوق الله أقول: أفيقوا من غفلتكم، وانتبهوا لأنفسكم، واعتبروا بما حدث لغيركم، يرحمكم الله.

اللهُّم لا تجعل الدُنيا أكبر همنا، ولا مَبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا وقرارنا، واهدنا اللهم سواء السبيل.

https://bit.ly/3iMXAFd

الجمعة، 4 يونيو 2021

قصة قارون

 

خاطرة الجمعة /294


الجمعة 4 يونيو 2021م

(قصة قارون)

 

قصةٌ حقيقيةٌ رواها أحد الدعاة، وكان يتولى رئاسة لجنة الزكاة بالمملكة العربية السعودية، قال إن اللجنة كانت تُحصل الزكاة من كبار الأغنياء وتنفقها كالعادة على الفقراء والمستحقين للزكاة في مصارفها المحددة. فوجئنا بأن مليارديراً كانت تُحصل منه اللجنة مبلغاً بملايين الريالات رفض دفع الزكاة، وقال للجنة إنه لن يدفع زكاة ماله، فأرسلنا إليه محذرين بالحكمة والموعظة الحسنة، وقلنا له ما الذي جرى لك؟ إن الشيطان ينزغ بينك وبين عملك الصالح فلا تستمع لصوت الشيطان، أنت تؤدي زكاواتك على الدوام فزادك الله نعيماً فوق نعيمٍ فلا تُهلك نفسك بنفسك، فرفض مرةً بعد مرةٍ، واستخسر أن يُفرط في الملايين التي كان يدفعها، فزدنا في نصحه ولكنه قال: "لن أدفع، ولا يقل لي أحدٌ إن المال سيضيع وسينتهي؛ فأنا معي مالٌ لو أراد الله أن يُفقرني فلن يستطيع"! وهنا تركوه ولم يتحدثوا معه ثانيةً.

‏تدور الأيام وبعد شهور قليلةٍ فقط يمرض ذلك الملياردير ويدخل المستشفى مصاباً بسخونةٍ، تتوقف درجة حرارته عند أربعين درجة، ويحتار الأطباء في أمره، حاولوا معه كل الحيل والحرارة لا تنزل أبداً وهو يتوجع؛ فأحضروا له أطباء من الخارج أجروا له عملية استئصالٍ لورمٍ بجانب المرارة، ولم يحدث له أي تقدم؛ فاستقدمت المستشفى أطباء آخرين، ومع ذلك لم تتحسن حالته، وتحملت المستشفى التكاليف والنفقات الباهظة انتظاراً للتحصيل من الملياردير في النهاية ثقةً منها في قدرته على السداد.

تعطلت أعمال الملياردير وشركاته؛ فاتصل مدير أعماله بنجله الشاب -الذي كان قد تزوج من أمريكيةٍ وهاجر معها إلى الولايات المتحدة- ليحضر مرض أبيه، فجاء الشاب ورافق أباه لمدة أسبوعين، وقام الأب بعمل توكيلٍ عامٍ للابن لإدارة أعماله، وبعد شهرٍ واحدٍ أصاب الضجر الابن وحضرت زوجته الأمريكية للسعودية بطفليها، واتفق الابن وزوجته على أن يبيعا جميع ممتلكات الأب ويعودا من حيث أتوا، ظناً منهم بأن مسألة موت الأب مسألة وقتٍ؛ فقام الابن ببيع جميع ممتلكات أبيه من شركاتٍ ومصانع واستولى على أرصدته بالبنوك وعاد إلى الولايات المتحدة مرةً أخرى، وبمجرد أن حدث ذلك فوجئ أطباء المستشفى بشفاء الملياردير وكأنه لم يمرض للحظة! وطالبته إدارة المستشفى بفاتورةٍ طويلةٍ كان الابن قد سافر دون أن يُسددها، واكتشف الرجل بأنه قد أصبح خالي الوفاض من أي مالٍ، بل وأصبح مديوناً؛ فاتصل بنجله ففوجئ به يسأله: "هل ما زلتَ حياً"؟ وأغلق الهاتف في وجهه وانقطعت العلاقة بينهما. ظل الرجل يبكي بكاءً مريراً وانتبه لحاله وتذكر قولته التي قالها، واتصل بأحد شيوخ اللجنة فجاءه في المستشفى وعلم ما حدث له ودعاه للتوبة من كلام الكفر الذي قاله وقال: "دعك الآن من مالك الذي ضاع، واسجد لله شكراً أن منحك فرصةً للتوبة". وقامت لجنة الزكاة بدفع فاتورة المستشفى بعد أن خفضتها إدارة المستشفى لتناسب حالة الفقير الجديد الخارج تواً من رحلته كملياردير في هذه الحياة المتقلبة!

 

أحبتي في الله .. كثيرون للأسف يكررون (قصة قارون) يغترون بأموالهم وثرواتهم وأملاكهم، ويظنون أنها آلت إليهم عن علمٍ أو ذكاءٍ أو شطارة، ويُزين لهم الشيطان أعمالهم، فيمتنعون عن أداء حق الله في المال الذي رزقهم إياه، والثروة التي مكنهم منها، والأملاك التي أنعم بها عليهم.

 

كنتُ منذ فترةٍ كتبت خاطرةً تحت عنوان فتنة المال عن أغنى رجلٍ عربيٍ على الإطلاق، كان يُلقب بقارون العصر؛ اشتهت ابنته ذات يومٍ آيس كريم من باريس، وشوكولاتة من جنيف، فأقلعت طائرته الخاصة بكامل طاقمها في رحلةٍ لمدة سبع ساعاتٍ لجلب الآيس كريم والشوكولاتة! ومع كل هذه الأموال الطائلة فإنه كان يستنكف أن يساعد محتاجاً، بل ويبخل حتى على عُمّاله وخدمه المحتاجين. أفلس في آخر عمره إفلاساً عجيباً. ويُقال إن رجلاً مغترباً كان يعمل خادماً عنده احتاج مبلغاً من المال ليرسله لأهله في بلاده لعلاج زوجته المريضة؛ فذهب وطلب المبلغ من الملياردير كمساعدةٍ أو قرضٍ يتم تقسيطه من راتبه الشهري، فوبّخهُ الملياردير وأذلهُ، وطرده من قصره ليلاً شرّ طردة؛ فقال له الخادم مقهوراً: "أسأل الله العلي العظيم ألا يُميتني حتى أراك ذليلاً تمدّ يدك للناس"، فغضب الملياردير من هذه الدعوة وقام بفصل العامل وأنهى عمله. ولما افتقر هذا الملياردير قيّض الله له أحد رجال الأعمال الكبار في بلده فاشترى له تذكرةً سياحيةً للسفر إلى بلدٍ آخر، وأعطاه مبلغاً من المال لاستئجار شقةٍ، وقال له: "أنا لم أتفضل عليك، ولكن الله أمرني أن أدفع لك، وكل شهرٍ سيأتيك مصروفك مني محولاً على البنك". قال قارون العصر: "قبل سفري ذهبتُ إلى رجل الأعمال لاستلام المال الذي وعدني به، فاتصل بأحد العاملين لديه ليحضر لي المال؛ فكانت أسوأ لحظةٍ عشتها في حياتي عندما دخل العامل الذي أعطاني المال؛ فإذا هو خادمي الذي طردته وفصلته من العمل وقف ينظر إليّ مذهولاً مفزوعاً عندما رآني، وكأنه لا يصدّق ما يرى، ورأيته خرج وعيناه مبللةٌ بالدموع".

 

إنها (قصة قارون) تتكرر، رغم أن الله سبحانه وتعالى أوردها في كتابه الكريم ليست كقصةٍ تُروى للتسلية، وإنما لكي نتعظ منها ونتعلم ونستخلص العبر.

ويتكرر مع كل قصةٍ خسفٌ ليس كالخسف بقارون، بل ربما أشد؛ فهو خسفٌ نفسيٌ؛ عذابٌ أليمٌ موجعٌ بالذل والخزي والمهانة، والإحساس المستمر بالحسرة والندامة، حتى أن صاحبه يتمنى الموت ولو بالخسف ولا يُدركه!

 

وعن المال في الإسلام يرى أهل العلم أن المال من نِعم اللَّه العظيمة على عباده؛ يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾، ويقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. والمال إما أن يُستخدم في الخير أو الشر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، وهو من الفتن العظيمة التي يُبتلى بها المؤمن، والقليل من الناس من يصبر عليها؛ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ]. والعبد يُسأل عن ماله يوم القيامة ماذا عمل فيه؛ قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ]. وقد جُبِلَت النفوس على حب المال؛ يقول تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ]. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ] والعَرَض هو متاع الدنيا؛ فالغنى المحمود هو غنى النفس وشبعها لا كثرة المال.

قال الشاعر:

النفسُ تَجْزَعُ أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً

والفَقْرُ خَيْرٌ مِن غِنىً يُطغِيهَا

وَغِنَى النُّفُوسِ هُوَ الكفافُ فإنْ أَبَتْ

فَجَمِيعُ ما فِي الأرضِ لا يَكْفِيهَا

وهذا المال إن لم يستخدمه صاحبه في طاعة اللَّه وينفقه في سبيله، كان وبالاً وحسرة عليه؛ يقول تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ]. وقد أخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن البركة إنما تحل في هذا المال، إذا أخذه صاحبه بطيب نفسٍ من غير شَرَهٍ ولا إلحاح؛ قال عليه الصلاة والسلام: [... إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأكُلُ وَلَا يَشْبَعُ]. وقد أخبر عزَّ وجلَّ أن المال عَرَضٌ زائلٌ ومتاعٌ مُفارَقٌ، يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور﴾، وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ]. وبعض الناس يظن أنّ مَن رُزق مالاً كثيراً، فإنه قد وُفِّق، وهو دليلٌ على محبة اللَّه له، والأمر ليس كذلك، فإن الدنيا يعطيها اللَّه من يحب ومن لا يحب؛ يقول تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِين . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُون﴾، ويقول تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن . كَلاَّ﴾.

 

أحبتي .. فليحذر كلٌ منا أن يُزين له الشيطان أنه أُوتي ماله عن علمٍ أو شطارةٍ أو ذكاء، ولنعلم أن المال مال الله يؤتيه من يشاء من عباده بفضلٍ منه، وينظر ماذا نحن فاعلون؛ فلنحرص على اكتساب المال من حلالٍ وإرجاع الفضل لله وحده، وإنفاق المال في حلالٍ؛ بالوفاء بحق الله فيه وحقوق العباد خاصةً منهم الفقراء والمساكين، والبعد عن المعاملات المالية المحرمة: كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها؛ لنكون من الفائزين. ولنقاوم نزغات الشيطان ووسوسته وتزيينه، ونقهر هوى النفس، وإلا صار مَن ضَعُف وخضع لشيطانه وهوى نفسه ممن يكررون (قصة قارون) والعياذ بالله.

اللهم ثبِّتنا على طاعتك، وزِد إيماننا، وأعِنَّا على مغالبة الهوى، ولا تَدَعْنا لأنفسنا، واهدنا سواء السبيل.

 

https://bit.ly/3pmGeAf

الجمعة، 28 مايو 2021

عمل الخير لا يضيع

 

خاطرة الجمعة /293


الجمعة 28 مايو 2021م

(عمل الخير لا يضيع)

 

يُحكى أنه في ليلةٍ عاصفةٍ شديدة البرودة، كان هناك طبيبٌ شابٌ ساهرٌ في طوارئ إحدى المستشفيات الصغيرة، دخلت عليه امرأةٌ كبيرةٌ في السن تبدو عليها مظاهر الإجهاد والمرض، تظهر من ملابسها وهيئتها العامة حالتها المادية البسيطة، وكان معها شابٌ في العشرين من عمره، تبدو عليه هو الآخر علامات التعب والإرهاق وقلة النوم، وقد أخذ الزمن ضحكته. سأل الطبيب المريضة: "أخبريني سيدتي ما الذي يؤلمك"؟ أجابته المرأة بصوتٍ خافتٍ متعبٍ: "أعتقد أن السكر والضغط مرتفعان"، قال الطبيب بهدوءٍ: "حسناً؛ فلنبدأ الكشف على الفور". في هذه الأثناء رنَّ هاتف الشاب المصاحب للمرأة فخرج من غرفة الكشف معتذراً بأدبٍ حتى يُجيب على مكالمة الهاتف، وبعد دقائق معدودةٍ عاد إلى غرفة الكشف وعيونه مغرورقةٌ بالدموع، دون أن يقول أي شيءٍ، سأل باهتمامٍ الطبيب عن حالة المريضة؛ فأخبره أنها بحاجةٍ عاجلةٍ إلى الأنسولين، وهو للأسف غير متوفرٍ في المستشفى، فقال الشاب: "سوف أحضره حالاً من الصيدلية"، قالت له المرأة: "ولكن البرد قارسٌ بالخارج يا بني، لا أريد أن أشق عليك، يكفي ما قمتَ به حتي الآن"، رد الشاب بسرعة: "المهم سلامتك"، ثم انصرف ليشتري الأنسولين من الصيدلية. قال الطبيب للسيدة: "لا تقلقي، إن من واجبه رعايتك؛ فأنتِ أمه"، ردت المرأة باستغرابٍ: "أنا لستُ أمه، لقد كنتُ آتيةً إلى المستشفى سيراً على قدميّ في هذا الجو البارد؛ حتى أوفر ثمن المواصلات، فتوقف هذا الشاب بسيارته بجانبي وعرض عليّ أن يقوم بتوصيلي إلى المكان الذي أريده، وأحضرني إلى المستشفى، ثم ها هو أيضاً ذهب ليجلب لي الدواء ويدفع ثمنه من جيبه"! بعد دقائق معدودةٍ عاد الشاب ومعه الأنسولين، ومن جديدٍ رنَّ هاتفه فخرج ليجيب على المكالمة، لكنه عاد هذه المرة وعلى وجهه ابتسامةٌ عريضةٌ وهو يردد: "الحمد لله، الحمد الله، أشكرك يا رب، ألف حمدٍ وألف شكر"، لم يتمكن الطبيب من كبح فضوله فسأل الشاب: "ما الموضوع"؟ فأخبره الشاب أنه مغتربٌ، يعيش بمفرده في هذه البلاد، وزوجته تعيش في بلدٍ أخرى، وهي حاملٌ بعد سبع سنواتٍ من الزواج، واليوم هو موعد الولادة، وقد نزفت دماء كثيرةً، في الاتصال الأول أخبروني أن حالتها خطيرةٌ وتحتاج إلى دمٍ، ولا يوجد في المستشفى دمٌ من فصيلة دمها"، سكت برهةً واستطرد يقول: "طوال طريقي إلى الصيدلية لشراء الأنسولين كنتُ أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يُنجِّيها ويُنجّي المولود"، التقط أنفاسه لبرهةٍ ثم قال: "في الاتصال الثاني أخبروني إنه فجأةً دخل ثلاثة أشخاصٍ من جمعية التبرع بالدم، غرباء وطلبوا التبرع بدمهم للمستشفى، وكانت فصيلة دم أحدهم من ذات فصيلة دم زوجتي، وهكذا تم إنقاذها وإنقاذ الوليد، وهما الآن بصحةٍ تامةٍ والحمد لله"، قال له الطبيب في ذهولٍ: “الخير الذي فعلته مع هذه السيدة عاد إليك بالخير؛ (عمل الخير لا يضيع)".

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بأخرى مترجمةٍ؛ فعمل الخير لا جنسية له ولا وطن، إنه من أعمال الفطرة التي يولد بها الإنسان أياً كان دينه أو لونه أو مستواه الثقافي أو مكانته الاجتماعية.

تقول القصة: في أحد الأيام الممطرة رأى رجلٌ يُدعى أندي سيدةً مسنةً تقف على جانب الطريق، وعلى ما يبدو أنها كانت تحتاج للمساعدة حيث رآها تقف بجوار سيارتها، وهي تبدو في حيرةٍ من أمرها، فتقدم إليها وسألها قائلاً: "هل تحتاجين للمساعدة يا أمي"؟ فقالت السيدة المسنة: "نعم يا بني فقد توقفت سيارتي فجأةً ويبدو أن الإطار الأمامي يحتاج إلى تغييرٍ، وأنا لا أستطيع القيام بذلك كما ترى فأنا امرأةُ عجوز"، ابتسم  لها وقال: "لا عليكِ يا أمي، تفضلي بالجلوس في سيارتك وسأقوم أنا بتغيير الإطار"، وبالفعل بدأ أندي في إصلاح الإطار المعطل، وبعد أن انتهى من تغيير الإطار، قالت له السيدة العجوز: "كم أنا مدينةٌ لك أيها الرجل الطيب، أنا مستعدةٌ لدفع كل ما تريده من المال لأنك أنقذتني بالفعل في هذا الجو العاصف"، ولكن أندي قال لها: "لقد كانت مجرد مساعدةٍ بسيطةٍ لشخصٍ يحتاج المساعدة، ويعلم الله أنني أفعل هذا دائماً؛ أساعد الناس حتى أجد من يساعدني". وحينما أصرت العجوز على رد المعروف قال لها أندي: "إذا أردتِ أن تردي لي المعروف، في المرة التي ترين فيها شخصاً يحتاج إلى المساعدة عليكِ أن تقدميها له"، فشكرته السيدة واستقلت سيارتها وسارت بها إلى وجهتها. وعلى بُعد عدة أميالٍ من الطريق شاهدت مقهىً صغيراً، فتوقفت لتأكل فيه وجبةً قبل أن تكمل طريقها إلى المنزل، وعندما جلست على الطاولة جاءت النادلة، وكان لها ابتسامةٌ جميلةٌ تُطل بها في وجه الزبائن؛ فارتاحت لها العجوز، ولاحظت أن النادلة حاملٌ في الشهور الأخيرة، ولكنها على الرغم من ذلك ومع صعوبة الجو كانت تتحامل على نفسها وتقوم بهذا العمل، وعلى الفور تذكرت أندي وما فعله معها، فقررت مساعدة النادلة. وبمجرد أن أنهت السيدة طعامها أعطت النادلة مائة دولار، وكان هذا المبلغ أكثر بكثيرٍ من ثمن الفاتورة الفعلي؛ فذهبت النادلة على الفور لجلب المبلغ الباقي، وعندما عادت به لترده إلى السيدة وجدت أنها غادرت المطعم وتركت على الطاولة منديلاً مكتوباً عليه بعض الكلمات، أمسكت به وقرأت ما عليه ثم بكت بكاءً شديداً؛ فقد كتبت لها تلك السيدة: "كنتُ على الطريق وتعرضتُ لمحنةٍ فساعدني شخصٌ لا أعرفه، وإذا كنتِ تريدين رد المعروف ساعدي أنتِ كل من يحتاج، ولا تدعي سلسلة الخير والعطاء تنتهي عندكِ"، ووجدت النادلة تحت المنديل مبلغ أربعمائة دولار تركته لها السيدة العجوز، ففرحت كثيراً، وحينما عادت إلى بيتها في تلك الليلة لم تستطع النوم، وظلت تفكر في المال الذي معها وما كتبته السيدة العجوز، وسألت نفسها: "كيف عرفت تلك السيدة بأمر احتياجها هي وزوجها للمال"؟ فمع قدوم الطفل في الشهر التالي سيكون الوضع صعباً عليها وعلى زوجها، وكانت النادلة تعرف بمدى قلق زوجها حيال هذا الأمر، فقبلته وهو نائمٌ بجوارها وقالت له: "كل شيءٍ سيكون على ما يُرام يا أندي"!

 

سبحان الله، (عمل الخير لا يضيع) أبداً، مهما قلٍّ أو صغر. يقول أهل العلم إن فعل الخير والمسارعة إليه، هو من أنبل المقاصد وأسمى الغايات التي يسعى الإنسان إليها؛ فبه تسمو إنسانيته ويتشبّه بالملائكة، ويتحلّى بأخلاق الأنبياء والصادقين، ولذلك فقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يفعلوا الخير مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، والخير هو اسمٌ لكل ما يعود على بالنفع على صاحبه وعلى الآخرين، ويُعتبر من أهم الأعمال التي يقوم بها المسلم، لأنه يتقرّب به من الله، كما إنه يعتبر جزءاً من العبادة، وقد أكثر الله من الدعوة إليه، وجعله عنصراً من عناصر الفلاح والفوز؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

كثيرةٌ هي آيات القرآن الكريم التي تحثّ على فعل الخير؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾، كما يقول: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم﴾، ويقول كذلك: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا﴾، ويقول عزّ من قائل: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وغير ذلك من آيات.

 

(عمل الخير لا يضيع)، وينبغي على المسلم ألا يستصغر أي عملٍ من أعمال الخير، مهما كان صغيراً أو قليلاً فإن الله يؤجرنا عليه؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾. وفي الحديث أن رجلاً رأى غصن شوكٍ في الطريق فأزاله حتى لا يؤذي الناس؛ فشكر الله له وأدخله الجنة. وفي الحديث: بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلبٍ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. وفي الحديث: بينما كلب يطيف بركيةٍ كاد يقتله العطش إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغُفر لها به. ويصل تنوع أبواب الخير إلى حد أن كَفَّ شرِنا عن الغير هو في حد ذاته عملٌ من أعمال الخير؛ قالَ عليه الصلاة والسلام: [تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ].

 

قال الشاعر:

مَن يفعلِ الخيرَ لا يعدمْ جوازيه

لا يذهبْ العرفُ بين اللهِ والناسِ

مَن يزرعِ الخيرَ يحصدْ ما يُسَّر به

وزارعُ الشرَ منكوسٌ على الراسِ

وقال آخر:

الخيرُ زرعٌ والفتى حاصدُ

وغايةُ المزروعِ أنْ يُحصدا

وأسعدُ العالَمِ مَن قدَّمَ الإحسانَ

في الدنيا لينجو غدا

 

أحبتي .. (عمل الخير لا يضيع)، ينفع صاحبه في الدنيا وفي الآخرة؛ فلنحرص على مضاعفة جهودنا في مجالات الخير الكثيرة والمتنوعة، بالزكاوات والصدقات وإطعام الفقراء والمساكين ورعاية الأيتام والسعي في قضاء مصالح المحتاجين وإماطة الأذى عن الطريق والابتسامة في وجه الناس، وغير ذلك من أعمال الخير، شرط أن تكون مسبوقةً بنيتنا الصادقة وأن تكون خالصةً لله، بغير رياءٍ أو سمعةٍ أو نفاق.

اللهم اهدنا للخير، ويسِّره لنا، وتقبله منا خالصاً لوجهك الكريم.

 

https://bit.ly/3fvExwS

الجمعة، 21 مايو 2021

الوازع الديني

 

خاطرة الجمعة /292


الجمعة 21 مايو 2021م

(الوازع الديني)

 

حيزان الحربي، سيبقى في الذاكرة على أنه صاحب أغرب قضيةٍ عرفتها المحاكم الشرعية السعودية. ترجع تفاصيل القضية إلى اختلافه مع شقيقه الأصغر غالب، حول رعاية والدتهما المُسِنة، حيث كان يريد كلٌ منهما أن يبرها ويكسب أجرها، وتطوّر الخلاف بينهما حتى وصل إلى ساحة القضاء.

حيزان كان يعيش وحيداً، وكان لا يعمل في أي وظيفة ليتفرغ لإعالة والدته. وعندما تقدمت به السن جاء شقيقه الأصغر غالب الذي يسكن مدينةً أخرى، ليأخذ والدته حتى تعيش مع أسرته، ويوفر لها الخدمة والرعاية المطلوبة. حينها رفض حيزان التنازل عن أمه بحجة أنه لا زال قادراً على رعايتها، وأن شيئاً لا ينقصها، اشتد الخلاف بينهما ووصل إلى طريقٍ مسدود، استدعى تدخل المحكمة الشرعية لفض النزاع، وقال حيزان حينها "بيني وبينك حكم الله يا غالب". توجها بعدها إلى محكمة «الأسياح» لتتوالى الجلسات، وتتحول إلى قضية رأي عام على مستوى المحافظة، تحت شعار أيهما يفوز بالرعاية؟ نالت قضية خلاف حيزان الحربي وشقيقه حول من فيهما الأحق برعاية والدتهما، شهرةً واسعةً، كونها قضيةً غريبةً من نوعها؛ تعكس حرص كلٍ من الأخين على بر والدتهما. استمرت مداولات القضية في المحكمة فترةً طويلةً، ولاقت تفاعلاً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. حاولت المحكمة في البداية أن تُقرِّب بين وجهتي نظر الأخين، وعندما لم يصلا إلى حلٍ طلب القاضي إحضار الأم إلى المحكمة لتحسم الأمر وتختار بنفسها من تريد، وفي الجلسة المحددة أحضرها ابناها يتناوبان حملها في كرتون، ووضعاها أمام القاضي الذي وجه لها سؤالاً، لا تزال هي رغم تقدمها بالعمر تدرك كل أبعاده: "أيهما تختارين يا أم حيزان"؟ لم تكن الإجابة أفضل من كل محاولات تقريب وجهات النظر، نظرت إلى ابنيها بحنانٍ وأشارت إلى حيزان، وقالت: "هذا عيني هاذي"، ثم أشارت إلى غالب وقالت: "وذاك عيني تلك، ليس عندي غير هذا". هنا كان على القاضي أن يحكم بين الأخين بما تمليه مصلحة الأم. وبعد جلساتٍ قضائيةٍ طويلةٍ، حكم القاضي بأن تكون رعاية الأم للأخ الأصغر، وذلك لتقدُّم سن حيزان، فبكى حيزان بشدةٍ وتأثرٍ لأن والدته ستغادر منزله، ولأن ذلك يعني أن تُؤخذ أمه منه، وتنتقل إلى منزل شقيقه في ذلك اليوم، ومع بكاء حيزان، بكى شقيقه، وخرجا يتناوبان حمل أمهما إلى السيارة التي أقلتها -يرحمها الله- إلى مسكنها الجديد.

انتشرت قصة حيزان في الأوساط السعودية، وحظيت بإعجابٍ واسع. وظلت قضيته في الذاكرة، والمحاكمة الجميلة بين شقيقين، ربما تكون واحدةً من أغرب الخصومات التي شهدتها المحاكم الشرعية السعودية في تاريخها. المحاكمة التي بكى فيها حيزان، وبكى منها كل من سمع بها، تناولها خطباء الجوامع على المنابر، جاعلين منها مضرب مثلٍ للبر الحقيقي والتضحية الصادقة؛ فالخصومة بين حيزان وشقيقه الوحيد لم تكن بسبب مالٍ أو عقارٍ، بل كانا يتنازعان على امرأةٍ لا يتجاوز وزنها الحقيقي عشرين كيلوغراماً، هي والدتهما المسنة التي لا تملك في هذه الدنيا سوى خاتمٍ من النحاس في أصبع يدها. تم تصوير مقاطع فيديو لحيزان -قبل وفاته- وهو يتحدث عن فضل أمه وحبه لها، وكيف يحاول أن يقدم لها الطعام ويبر بها ويدعو لها بالجنة، ويقول كيف تكون أمه حيةً ولا يكون تحت قدميها، داعياً الصغار إلى البر بأمهاتهم ليكسبوا رضا الرحمن.

تُوفي حيزان بعد ذلك بفترةٍ متأثراً بإصابته في حادث دهسٍ تعرض له في بلدة «البندرية» بمحافظة «الأسياح» أدخل على إثره إلى المستشفى، وظل في العناية المركزة حتى رحيله.

ونعاه أمير المنطقة قائلاً: ”تُوفي حيزان الحربي بعد أن ضرب أروع النماذج في بر الوالدين عندما اختلف مع شقيقه حول أحقية رعاية والدتهما لتصل للقضاء للفصل بينهما، ويبكي عندما حُكم لصالح أخيه لأن والدته ستغادر منزله.. نموذجٌ لبر الوالدين يجب أن يُحتذى به في هذا الزمان. اللهم اغفر له وارحمه واجعل مثواه الجنة“.

 

أحبتي في الله .. كانت قصة حيزان وأخوه غالب قصةً حقيقيةً، حدثت في ذات الوقت الذي نقرأ ونسمع ونشاهد فيه الكثير من قصص عقوق الوالدين، وخاصةً الأم، وصل الأمر في إحداها، والتي وقعت قبل أيامٍ، وخلال شهر رمضان المبارك، إلى أن يقتل الابن العاق أمه. نشرت إحدى الصحف اليومية تفاصيل هذه الجريمة المروعة فقالت: بينما يتأهب المسلمون لتناول سحور اليوم السابع عشر من شهر رمضان، إذ بصرخات استغاثةٍ تصدر من أحد المنازل الهادئة التي تقطنها أمٌ برفقة ابنها. انتُزعت من الابن كل مشاعر الرحمة والإنسانية، فقد أطلقت الأم صرخاتها واستنجدت بجيرانها من فلذة كبدها الذي تجمد قلبه وتحجر، حيث يعيش برأس خالٍ من العقل وضلوعٍ لا تحمل بينها قلباً حسبما برهنت أفعاله. حاول الشاب التخلص من حياته لظروفٍ خاصةٍ ألمت به، ولكن الأم رأت هذه الظروف هينةً لا تستحق الحكم على النفس بالموت، عزَّ عليها أن يزهق نور عينيها وقرتها روحه بيده، فسعت العجوز بكل قواها المتواضعة لمنعه من إنهاء حياته. لم يهن الشاب على أمه بينما هانت هي عليه؛ لم ترضَ له الموت، ولكنه ارتضاه لها عن طيب خاطر، لم يُقدِّر حرصها وخوفها عليه، بل قابل هذا بطعناتٍ نافذةٍ في أحن صدرٍ ارتمى في حضنه. حاولت المسكينة منع ابنها من الانتحار، خشيت أن تضيع قطعةٌ من قلبها أو يذهب تعبها في تربية ابنها هدراً، فكان جفاؤه وجحوده، الذي لم يراعِ أنها بلغت من الكبر عتياً وشارفت على إتمام السبعين من عمرها، وما بقي لها من أيامٍ على ظهر الدنيا لا يُقارَن بما فات، هانت عليه تضحياتها وتحملها الآهات والهموم، ليكون سبباً في تركها الدنيا له بلا مصدرٍ للحنان بعدها، وليواجه قساوة الدنيا مكشوفاً بلا ساترٍ يقيه مرارة الأيام، أو دعواتٍ تزيل عنه الكربات، أو أيدٍ تطبطب عليه وقت الابتلاءات. أرادت أمه أن تمنعه من الانتحار فيموت كافراً، فنحرها بغير رحمة بذات السكين الذي كان ينوي الانتحار به!

 

أحبتي .. في كلتا القصتين نلاحظ أن (الوازع الديني) هو البطل؛ إما بحضوره بشدةٍ كما في القصة الأولى، أو بغيابه تماماً كما في القصة الثانية.

يُعرِّف العلماء (الوازع الديني) بأنه "زاجرٌ شرعيٌ قلبيٌ خفيٌ كافٌّ للنفس عن مخالفة الشرع بالقول أو الفعل أو القصد"، وهو يوازي الضمير والنفس اللوامة والتقوى بمفهومها الشرعي. فإن إيمان الفرد بالله وبالبعث ويوم الحساب هو الباعث الأساسي له على فعل الخيرات واجتناب المنكرات من الأقوال والأفعال والسلوكيات في الحياة.

كما أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتركيبة الخُلْقية التي شاء الله أن يُجبَل الناس عليها لها تأثيرٌ بالغٌ في تحديد مسار الإنسان في الحياة، والطريق الذي يسلكه، والوجهة التي يختارها، وهذا ما يظهر جلياً في تصرفاته وأفعاله لو بقي محافظاً على نقاء فطرته؛ قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ ... وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: "فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله"].

 

وإذا كانت التقوى هي الغاية من زرع وتنمية (الوازع الديني) لدى الإنسان، فإن أهل العلم يرون أنّ العبادات في الإسلام هي وسائل لتمكين التقوى في نفس الإنسان؛ فيقول الله تعالى في الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، فهي تهدف إلى خلق الوازع الذي يردع عن الانحراف، وإذا لم يتحقق هذا الهدف، فلا قيمة لتلك الصلاة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا]. والحكمة من تشريع الصوم هي الوصول إلى درجة التقوى؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وكذلك الحج؛ المقصود بمناسكه وشعائره -ومنها الأضحية- تحقيق التقوى، وتقوية (الوازع الديني) في النفس؛ يقول تعالى عن الأضاحي: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾؛ فالمطلوب أن نزرع ملكة التقوى في قلوبنا حتى تُثمر ويكون (الوازع الديني) قوياً وثابتاً، يدفع الإنسان نحو الخير، ويمنعه عن الانحراف والشر.

 

أحبتي .. نحن في حاجةٍ إلى تقوية (الوازع الديني) ليكون واعظاً وزاجراً لنا فلا نقع في المعاصي ولا نقترف الذنوب. إن جوهر الدين يكمن في زرع وتقوية وتعزيز هذا الوازع الذي يَنهى النفس الأمارة بالسوء عن تحقيق أهدافها، ويُمكِّن النفس اللوّامة من أن تقوم بدورها كضميرٍ حيٍ يراقب نوايانا وأقوالنا وأفعالنا طوال الوقت حتى نسمو بنفوسنا ونصل بها إلى درجة ومستوى النفس المُطمئنة، فنسعد في حياتنا ونرضي ربنا. وإن كان هذا الأمر مهماً للجميع، فإنه أكثر أهميةً لأبنائنا الصغار، حتى ينشأ أطفالنا ولديهم (الوازع الديني) ينمو معهم ويتحول مع الوقت إلى أن يكون مكوناً أساسياً من مكونات شخصياتهم، وجزءاً من منظومة القيم التي تضبط سلوكهم، وتكون بمثابة البوصلة التي ترشدهم إلى طريق الخير والرشد والصواب.

اللهم ألهمنا رشدنا، وأعنّا على أنفسنا الأمارة بالسوء، وردنا إلى دينك رداً جميلاً.

 

https://bit.ly/2RApwRj

الجمعة، 14 مايو 2021

الأم مَدرسة

 

خاطرة الجمعة /291


الجمعة 14 مايو 2021م

(الأم مَدرسة)

 

يروي الناشر قصتين كان لقلم الرصاص فيهما تأثيرٌ عجيبٌ في مستقبل طفلين؛ إذ أصبح أحدهما سارقاً، أما الآخر فقد صار مسؤولاً عن أكبر جمعيةٍ خيريةٍ في مدينته!

يقول راوي القصة الأولى: كنتُ ذات يومٍ جالساً في مكتب أحد المحامين، وهناك تعرفتُ على رجلٍ مسجلٍ أنه شقيٌ خطر سرقات، وله قضيةٌ عند هذا المحامي، فسألتُ الرجل: "كيف وصلتَ إلى هذه الحال"؟ فقال مبتسماً: "أمي هي السبب"، فقلتُ: "وكيف ذلك"؟ فازدادت ابتسامته وقال: "كنتُ تلميذاً في الصف الرابع الابتدائي، وذات يومٍ عدتُ من المدرسة وقد ضاع مني قلمي الرصاص، وعندما علمت أمي بالخبر ضربتني بشدةٍ وشتمتني بأبشع الشتائم ووصفتني بالعبط، وعدم تحمل المسؤولية. ونتيجةً لقسوة أمي الزائدة عن الحد قررتُ ألا أعود أبداً لأمي فارغ اليدين، قررتُ أن أسرق أقلام زملائي، وفي اليوم التالي نفذتُ خطتي، ولم اكتفِ بسرقة قلمٍ أو قلمين، بل سرقتُ جميع زملائي في الفصل! في بادئ الأمر كنتُ أحس بالخوف وأنا أسرق، وشيئاً فشيئاً تشجعتُ ولم يعد للخوف في قلبي مكانٌ. ومن الطرائف أنني كنتُ أسرق الأقلام من زملائي وأبيعها لهم، وبعد شهرٍ كاملٍ من سرقة زملائي في الفصل لم يعد الأمر يقتصر على سرقة أقلام الرصاص، ولم تعد له تلك اللذة الأولى، فقد قررتُ أن أنطلق نحو الفصول المجاورة وإلى أغراض أخرى، ومن فصلٍ إلى آخر انتهى بي المطاف إلى حجرة مدير المدرسة لأسرقها! علمت أمي بما كنتُ أقوم به، فلم تنهني عنه، وإن كانت لم تشجعني عليه بالكلام، لكني أحسستُ أنها راضيةٌ عنه. ذلك العام كان عام التدريب الميداني، تعلمتُ فيه السرقة عملياً بأساليب وطرق وحيل مختلفة ومتعددة، انطلقتُ بعد ذلك لسرقة الكثير من الأغراض خارج المدرسة، حتى صرتُ محترفاً".

أما راوية القصة الثانية فهي أم الولد الآخر؛ قالت: عندما كان ابني في الصف الثاني الابتدائي رجع يوماً من المدرسة وقد ضاع قلمه الرصاص، فقلتُ له: "وماذا فعلت"؟، قال: "أخذتُ قلماً من زميلي"، فقلتُ له: "تصرفٌ جيدٌ، ولكن ماذا كسب زميلك عندما أعطاك قلماً لتكتب به؟ هل أخذ منك طعاماً أو شراباً أو مالاً"؟، قال ابني: "لا، لم يفعل"، فقلتُ له: "إذاً لقد ربح منك الكثير من الحسنات. يا بُنيّ، لماذا يكون هو أذكى منك؟ لماذا لا تكسب أنت الحسنات"؟، قال: "وكيف ذلك"؟، فقلتُ: "سأشتري لك قلمين: قلماً تكتب به، والآخر نسميه قلم الحسنات، وهذا لأنك ستعطيه من نسي قلمه أو ضاع منه، ثم تأخذه بعدما تنتهي الحصة". كم فرح ابني بتلك الفكرة، وزادت سعادته بعدما طبقها عملياً، لدرجة أنه أصبح يحمل في حقيبته قلماً يكتب به وستة أقلام للحسنات! والعجيب في الأمر أن ابني هذا كان يكره المدرسة، ومستواه الدراسي ضعيف، لكن بعد أن طبق هذه الفكرة فوجئتُ بأنه بدأ يحب المدرسة؛ إذ أنه أصبح نجم الفصل في شيءٍ ما؛ فكل المعلمين أصبحوا يعرفونه، وزملاؤه يقصدونه في الأزمات، كل واحدٍ ضاع منه قلمه يأخذ منه واحداً، وكل معلمٍ يكتشف أن أحد التلاميذ لا يكتب لأن قلمه ليس معه يقول: "أين فلان صاحب الأقلام الاحتياطية"؟، ونتيجةً لأن ابني أحب الدراسة بدأ مستواه الدراسي يتحسن شيئاً فشيئاً. ورغم أنه اليوم قد تخرج من الجامعة وتزوج ورزقه الله الأولاد، فهو لم ينسَ يوماً قلم الحسنات، لدرجة أنه اليوم مسؤولٌ عن أكبر جمعيةٍ خيريةٍ في مدينتنا!

 

أحبتي في الله .. عقَّب ناشر القصتين عليهما مُرَكِّزاً على العامل المشترك فيهما وهو قلم الرصاص، لكن ما شد انتباهي ليس قلم الرصاص وإنما دور الأم في كلتا القصتين.

(الأم مَدرسة) ودورها مهمٌ في تربية الأطفال، يقول الخبراء في المجال التربوي إن الأم تتحمّل أعباء تغذية الأطفال والعناية بهم حتّى يتمكّنوا من الاعتماد على أنفسهم، وتلك المهام تتطلّب منها مشاعر فيّاضة من الصبر والمثابرة؛ فهي المعلمة الأولى في حياة أبنائها تُعلّمهم المهارات الأساسية في حياتهم كالكلام والمشي، وهي مصدر معظم المعلومات والحقائق، كما أنها هي التي تعلمهم المشاعر الإنسانية؛ كالحب، والرحمة، والمودة، والأخلاق الحميدة؛ مثل المساواة والاحترام والكرم وغير ذلك. ومعلومٌ أن الأطفال يتأثرون بكلّ ما يُحيط بهم، وتحتفظ عقولهم بما يُراقبونه ويُقلّدونه باستمرار، ونظراً إلى أنّهم يقضون معظم أوقاتهم مع الأم فإنّهم يتأثّرون بها كثيراً ويُصدّقونها ويُطيعونها؛ لذلك فالأم هي المسؤولة الأولى عن سعادة أبنائها وتكوين شخصياتهم بطريقة إيجابية، كما أنّ الأبناء يرون في أمهم صديقةً لهم تشاركهم أوقاتهم وألعابهم، ويتّخذونها قدوةً لهم؛ فيتشبهّون بها ويتمنّون أن يكونوا مثلها عندما يكبرون.

 

والأم في الإسلام لها وضعٌ فريدٌ؛ إذ يقول أهل الاختصاص إن التاريخ لا يعرف ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة باعتبارها أماً، وأعلى من مكانتها مثلما جاء به الإسلام الذي رفع مكانتها وجعل برها من أصول الفضائل، وجعل حقها أعظم من حق الأب لما تحملته من مشاق الحمل والولادة والإرضاع والتربية. ومن أعظم الأدلة على مكانة الأم في الإسلام الحديث النبوي الشريف الذي يروي قصَّة رجلٍ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: من أحق الناس بصحابتي يا رسول الله؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أمك]، قال: ثم من؟ قال: [أبوك]. ويُروى أن رجلًا كان بالطواف حاملًا أمه يطوف بها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: [لا، ولا بزفرةٍ واحدة]، أي زفرةٌ من زفرات الطلق والوضع ونحوها. ومن رعاية الإسلام للأمومة وحقها وعواطفها أنه جعل الأم المطلقة أحق بحضانة أولادها، وأولى بهم من الأب، حيث قالت امرأةٌ: "يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني"، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: [أنتِ أحقُ به ما لم تَنكِحي]. والأم التي عُني بها الإسلام كل هذه العناية، وقرر لها كل هذه الحقوق، واجبٌ عليها أن تُحسن تربية أبنائها، فتغرس فيهم الفضائل، وتُبغِّضهم في الرذائل، وتُعوِّدهم على طاعة الله.

لقد جعل الله سبحانه وتعالى الأم مسؤولةً عن تربية أولادها، فهي راعيةٌ ومسؤولةٌ عن رعيتها؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ﴾، وقال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، ...].

 

يقول المتخصصون في علم النفس إنه يتوجب على الأم أن تدرك أثر كلّ عَملٍ تفعله على سلوك طفلها في المستقبل، متجنبةً إظهار الغضب والسخط والقسوة والترهيب والتهديد، ومبتعدةً أيضاً عن الصمت أو إبداء مشاعر القبول والرضا عند قيام الطفل بتصرفٍ خاطئٍ حتى لا يفهم الطفل من ذلك أنه تشجيعٌ له للاستمرار في الخطأ. والحب في قلب الأم غير كافٍ وحده لبناء سلوكٍ قويمٍ وشخصيةٍ سويةٍ للطفل، ما لم يكن مصحوباً بالعلم والمعارف العامة الأساسية التي تحتاجها كل أمٍ لتقوم بدورها التربوي على أكمل وجه؛ لذا فإنه من الأهمية إعداد الفتيات المُقبلات على الزواج إعداداً يُمكّنهن من تحقيق النجاح في تربية أطفالهن.

 

تخلص إحدى الناشطات الاجتماعيات إلى نتيجة مؤداها إن عملية التربية المناط بالأم القيام بها ليست بالأمر السهل أو الهين، وهي ليست مقتصرة على مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ، فهذا لا يليق إلا بتربية جروٍ أو قطةٍ أو أي كائنٍ آخر، لكن هنا الأمر يختلف فهو يتعلق بتربية إنسانٍ له عقلٌ وكيانٌ، و(الأم مَدرسة)، عليها أن تعي ذلك جيداً وتُعد نفسها لهذا الدور؛ فصلاح الأمم يبدأ بصلاح الأم.

 

وصدق الشاعر حين وصف الأم فقال:

(الأُمُّ مَدْرَسَةٌ) إِذا أَعدَدتَها

أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا

بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى

شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

 

أحبتي .. (الأم مَدرسة) إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق، فليكن إعدادنا لبناتنا وفتياتنا الهدف منه تنشئة أطفال المستقبل على الفضيلة والقيم والأخلاق النبيلة، حتى يشبوا على ما تعلموه في صغرهم فيكونوا نواةً لشعبٍ مسلمٍ طيب الأعراق يجمع بين معايشة عصره والتفاعل معه واستيعاب علومه والتفوق فيها، وبين الحفاظ على دينه والفخر للانتماء له ودعوة الآخرين له من خلال السلوك العملي والمعاملات الطيبة والقدوة الحسنة. وليكن المرجع في تربية أطفال المستقبل هو الشريعة الإسلامية الغراء التي عندما تربى عليها سلفنا الصالح سادوا العالم، وكان لهم السبق في جميع العلوم؛ علوم الدين وعلوم الدنيا، وبنوا حضارةً استمرت لقرون عديدةٍ شهد لها القاصي والداني. صدق من قال: "علِّمُوا أولادكم القُرآن، والقُرآن سيُعلِّمهُم كُلَّ شَيء"، ولا تنسوا أنه سيكون من أهم ما سيتعلمونه البر بكم!

 

وفقنا الله لما يحب ويرضى، والله من وراء القصد.

 

https://bit.ly/3eKkp9S