الجمعة، 31 مارس 2023

الإنفاق مما نُحب

 خاطرة الجمعة /389

الجمعة 31 مارس 2023م

(الإنفاق مما نُحب)

قصةٌ حقيقيةٌ رواها أحد الأطباء؛ قال إنه وقبل عدة أعوامٍ، وفي حارته القديمة، كان له جارٌ مُتحدثٌ لبقٌ، مُستمعٌ جيدٌ، ومُحاورٌ هادئٌ، وكان إنساناً اجتماعياً ومحبوباً. يقول: في أحد الأيام التقيتُ به وهو يُجهز سيارته ليذهب إلى مكانٍ ما، ومما أثار استغرابي عُلب شوكولا فاخرةٍ، أكثر من عشرين عُلبةً موجودةً بالمقعد الخلفي للسيارة! فألقيتُ عليه السلام وسألته: "إلى أين أنت ذاهبٌ يا جاري؟"، فرد عليّ السلام وابتسم ابتسامةً جميلةً لم أفهم معناها وقال: "ما رأيك أن ترافقني؟"، قلتُ: "لا مشكلة أرافقك، ولكن أتمنى ألا يكون المكان بعيداً"، قال: "إن شاء الله لن نتأخر".

توجهنا إلى حيٍ فقيرٍ جداً يبعد عن حارتنا قرابة ساعةٍ بالسيارة، ثم أوقف السيارة ونزلنا منها، وحمل مجموعةً من عُلب الشوكولاتة وتوجه إلى عددٍ من البيوت! دق على الباب الأول ففتح الباب أولادٌ صغارٌ، وعندما رأوه قفزوا فَرَحاً ونادوا أُمهم: "صاحب الشوكولاتة جاء يا أُمي، صاحب الشوكولاتة جاء يا أمي"؛ فأعطاهم علبة الشوكولاتة وتكلم مع الأطفال قليلاً، ثم استأذن! ثم دق الباب على البيت الثاني، ففتحت امرأةٌ كبيرةٌ بالعمر وعندما رأته دعت له كثيراً: "الله يفتحها عليك يا ابني، الله يرضى عليك، الله يطعمك من ثمار الجنة، والله يا ابني إنك تجبر خاطرنا، الله يُجبر خاطرك!"، ثم أعطاها عُلبة الشوكولاتة واستأذن. وهكذا مع بقية البيوت، وكل بيتٍ كان قصةً بحد ذاته، وفي كل بيتٍ سيمفونيةٌ جميلةٌ ورائعةٌ من المشاعر والأحاسيس والدُعاء. انتهينا من توزيع عُلب الشوكولاتة ورجعنا إلى السيارة وتوجهنا إلى البيت؛ قلتُ له: "جزاك الله خيراً، والله يعطيك العافية يا جار، شيءٌ جميلٌ ما صنعته، ولكن لدي سؤال ونصيحة لك"، قال: "تفضل"، قلتُ: "لماذا لا تُعطيهم مالاً؟ أليس أفضل لهم ويستطيعون شراء ما يحتاجون بأنفسهم؟!"، ضحك جاري ضحكةً قويةً وكأن سؤالي أعجبه!! ثم التفت إلى مقعد السيارة الخلفي وتناول عُلبة شوكولاتة وقدمها لي، وقال: "افتحها يا دكتور"، فتحتُ العُلبة وأنا مترقبٌ وكلي شوقٌ لرؤية ما تحتويه، فوجدتُ فيها -بالإضافة للشوكولاتة- مُغلفٌ فيه مبلغٌ ماليٌ جيد! فزادت حيرتي أكثر!! قلتُ له: "لماذا لا تُعطيهم المال مُباشرةً يا جار؟ لماذا بداخل عُلبة الشوكولاتة؟"، فنظر إليَّ وابتسم كعادته وقال: "يا دكتور، أنا شخصٌ أُحب الشوكولاتة كثيراً، وهي أكثر شيءٍ أُحبه في حياتي، وآكل منها يومياً، والله عزَّ وجلَّ قال: ﴿لَن تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنفِقوا مِمّا تُحِبّونَ﴾ وأنا أُنفق مع الصدقة ما أُحب في هذه الحياة. ثم قال لي: "يا دكتور، الصدقة فنٌ، والفقير يشتهي كما نشتهي".

 

أحبتي في الله.. تُبين هذه القصة أهمية الصدقات، وتوضح كيف يُتقن البعض تقديم صدقاته، وكيف يُبدع في تقديمها للمُحتاجين بطريقةٍ غير مألوفةٍ يُراعي فيها مشاعرهم ويحفظ بها كرامتهم بما يُمكن أن نسميه "فن الصدقة".

لكن أكثر ما استوقفي وشدّ انتباهي في هذه القصة هو التزام المُتصدق بمبدأ (الإنفاق مما نُحب)، وحرصه على تطبيقه، وهذا دليلٌ على مُنتهى الكرم بلا شك.

في المقابل هناك من وصفهم أحد الأفاضل بقوله: إنْ تصدق بدرهمٍ واحدٍ ظنّ أنه وصل إلى الجنة من أوسع أبوابها، وظلّ يُذكر نفسه بهذا الدرهم! بل الأدهى أنه قد يفعل ذنوباً بعدها على حساب الدرهم سالف الذكر! لا يتصدق إلا بأبخس الأشياء، وديدنه ومبدأه في ذلك أنّ ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، فلا يُخرج لله إلا ما لا يرضى هو نفسه أن يستعمله، ولا يدري المسكين أن الأيام دولٌ، وقد يأتي عليه يومٌ ينتظر أن يجود عليه غيره بما يحتاج، فهل يقبل أن تمتد له يدٌ بمثل ما كان يتصدق به من قبل؟ وهذا بغير شكٍ دليلٌ على مُنتهى البخل؛ يقول تعالى: ﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾.

 

وقد ذكرني أمر (الإنفاق مما نُحب) بالقصة المشهورة للصحابي الجليل أبي طلحة؛ إذ كان أكثر أنصاريٍ بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء «يُقال أن الأصل في الاسم بئر حاء»، وكانت مستقبلةً المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، فلما نزلت هذه الآية: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقةٌ لله، أرجو بِرها وذُخرها عند الله؛ فضعها يا رسول الله حيث شئتَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، قد سمعتُ ما قلتَ فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين]; فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

 

يقول المفسرون للآية الكريمة ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ إنّ فيها حثاً من الله لنا على (الإنفاق مما نُحب) في طرق الخيرات، فقال: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ﴾ أي: تُدركوا وتبلغوا البِر، الذي هو كل خيرٍ من أنواع الطاعات وأنواع المثوبات، الموصل لصاحبه إلى الجنة، ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي: من أموالكم النفيسة التي تُحبها نفوسكم، فإنكم إذا قدمتم محبة الله على محبة الأموال فبذلتموها في مرضاته، دلّ ذلك على إيمانكم الصادق وبِر قلوبكم ويقين تقواكم، فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الأموال، والإنفاق في حال حاجة المُنفق إلى ما أنفقه، والإنفاق في حال الصحة.

ودلت الآية على أن العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بِره، وأنه ينقص من بِره بحسب ما نقص من ذلك. ولما كان الإنفاق على أي وجهٍ كان مُثاباً عليه العبد، سواءً كان قليلاً أو كثيراً، محبوباً للنفس أم لا، وكان قوله ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافعٍ، احترز تعالى عن هذا الوهم بقوله ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؛ فلا يُضيّق عليكم، بل يُثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.

يقول أهل العلم إنه ينبغي للمؤمن أن يُنافس في الخيرات، وأن يُخرج من طيب كسبه وماله، يرجو ما عند الله؛ لأنَّ التقرب إلى الله يكون بما يُناسبه سبحانه، ويكون ذلك من الطيب، لا من الخبيث؛ يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾. وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]؛ فجديرٌ بالمؤمن أن يُنافس في الخيرات، وأن يُسارع في النفقات الطيبة.

 

أحبتي.. غاية ما يُحب كلٌ منا لنفسه أن يشمله الله سبحانه وتعالى برحمته فيُدخله الجنة؛ فلنعمل من أجل هذا، ونجتهد ما استطعنا للحصول على هذه السلعة الغالية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ]، إنها أغلى سلعةٍ ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على الحصول عليها. ولا يكون ذلك إلا بالاستجابة لأوامر الله سبحانه وتعالى وتجنب نواهيه، والالتزام بسُنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الإكثار من الصدقات؛ فلنتصدق بما استطعنا ولو بشق تمرةٍ؛ فنُثاب على ذلك، ولنعلم أن الثواب يزداد ويعظم كلما كان التصدق و(الإنفاق مما نُحب) بل ومن أفضل ما نُحب. ولنتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم [ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ]. إن ما نُنفقه اليوم في الدُنيا يسبقنا إلى الآخرة ويوم الحساب، وينفعنا في موقفٍ نكون أحوج ما نكون فيه إلى هذا الذي تصدقنا به. ولا ننسى أبداً أن المال مال الله، وأننا مستخلفون فيه، وأنّ الصدقة تقع في يد الرب قبل أن تقع في يد الفقير أو المسكين أو المُحتاج.

اللهم قنا شُح أنفسنا، وحبِّب إلينا الكرم والسخاء في الإنفاق في سبيلك، وتقبّل منا أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

https://bit.ly/40R3nfv

 

الجمعة، 24 مارس 2023

بركات رمضان

 خاطرة الجمعة /388

الجمعة 24 مارس 2023م

(بركات رمضان)

عنوان هذه الخاطرة ليس -كما يبدو لأول وهلةٍ- اسماً لشخص! وإنما هو صفةٌ لشهر رمضان المبارك الذي تتجلى بركاته على المسلمين في كل عامٍ فتُغيّر أحوالهم من حالٍ إلى حالٍ أفضل؛ فهذا شابٌ كان قد دخل عليه شهر رمضان وهو مقيمٌ على كثيرٍ من الذنوب والآثام؛ نظرٌ للمحارم، أكلٌ للحرام، تضييعٌ للصلوات، تفريطٌ للطاعات، وغفلةٌ عن عبادة ربه ومولاه. استقبل شهر رمضان وفي قلبه قسوةٌ، وفي نفسه وحشةٌ، يعيش في ضيقٍ وهمومٍ مما يُخالطه من المعاصي والآثام، لكن (بركات رمضان) كانت في انتظاره! فقد أدركته رحمة ربه فسمع أنّ لله في كل ليلةٍ من ليالي رمضان عتقاء من النار؛ فتحركت مشاعر التوبة في نفسه، وعلم أنّ ربه يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويُقيل العثرات، ويمحو السيئات، و[أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا]، وأنه [إذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سَماءِ الدُنيا فيقولُ هل مِنْ سائلٍ فأُعطيَه؟ هل مِنْ داعٍ فأستجيبَ له؟ هل مِنْ تائبٍ فأتوبَ عليه؟ هل مِنْ مستغفِرٍ فأغفرَ له؟ حتى يَطْلُعَ الفجرَ].

أعلنها الشاب العاصي توبةً نصوحاً لله، بكى بين يدي ربه ومولاه، أقلع عن ذنبه، واستغفر ربه وناجاه فقال: "ربِ إنْ عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأنّ جودك أعظمُ، وإنْ كان لا يرجوك إلا مُحسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المذنب؟ ومَن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان بابك عن فقيرٍ يوصد؟ حاشى لجودك أن تُقنط عاصياً، الجود أجزلُ والمواهب أوسع"; فإذا به يجد راحةً وانشراحاً ولذةً، يبكي لقراءة القرآن، يتلذذ بالقيام، يسعد بالصيام سعادةً ما عهدها من قبل، همومٌ زالت عنه وحلّ محلها رجاءٌ في رحمة الله وعفوه ومغفرته.

 

وهذا رجلٌ طاعنٌ في السن قد احدودب ظهره، وشاب شعر رأسه ولحيته، وبلغ من الكبَر عِتياً، كان من أهل المسجد، بل وكان من أهل الصف الأول، مكانه في الصف الأول معلومٌ، كان له مُصحفٌ خاصٌ به يقرأ فيه. كان إذا دخل شهر رمضان يذهب إلى مسجد حيه ويجلس في مكانه في الصف الأول ثم ينشر مُصحفه بين يديه، يُرتل القرآن من بعد صلاة الظهر وحتى يؤذن المؤذن لصلاة المغرب، كم من ختمةٍ ختمها في ذلك المسجد؟ كم من آياتٍ رتّلها بشفتيه ولسانه؟ عاش مع القرآن في شهر رمضان لأنه يعلم أن شهر رمضان هو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، وهو يعلم أن [الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِي فيه، يقولُ القرآنُ ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ] فيدخل الجنة. كان من أهل القرآن الذين يعلمون أن رسولهم صلى الله عليه وسلم كان يختم القرآن مع جبريل، ويعلمون أنه [يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وفي رمضان المُنصرم، وبعد مُرور عشرين يوماً من أيامه، ذهب ذلك الرجل إلى مسجده لصلاة الظهر، ولما صلى الظهر مع المُصلين أخبر مؤذن المسجد بأنه سيُسافر بعد صلاة العصر إلى «مكة المكرمة» ليقضي ليالي العشر الأواخر بالبيت الحرام، وأن ابنه سيُقابله في الحرم. وجلس يُرتل القرآن إلى وقت صلاة العصر، وما إن أذّن المؤذن لصلاة العصر إلا وخرج ذلك الشيخ ليُجدد الوضوء، لكنه أبطأ عن المُصلين، أُقيمت الصلاة ثم انتهت والرجل لم يعد لمكانه، خرج المؤذن ومعه حارس المسجد ليتفقدوا الرجل ويبحثوا عنه فوجدوه قد مات وهو يستعد للوضوء للصلاة. فما أحسنها من ميتةٍ؛ كانت بلا شك من (بركات رمضان).

 

أحبتي في الله.. إنّ رمضان شهرٌ مبارك؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: [أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مِرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ]. وفي روايةٍ: [إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ].

يقول أهل العلم إنّ من أهم (بركات رمضان) أنْ اختصه الله -جلَّ جلاله- وأعلى منزلته بين الشهور بأن فرض صيامه؛ يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه﴾. وصومه ركنٌ من أركان الإسلام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ]. كما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بشّر من يصومه بمغفرة الذنوب؛ فقال: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ]. ومن أعظم بركات هذا الشهر أنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾. ومن (بركات رمضان) أنه شهرٌ تتجلى فيه عبادةٌ عظيمةٌ هي تفطير الصائمين؛ قال صلى الله عليه وسلم مُبشراً أمته: [مَن فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ، غيرَ أنَّهُ لا ينقُصُ من أجرِ الصَّائمِ شيئًا]. ومن بركاته أيضاً تناول السحور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً]. ومن بركاته كذلك أنّ أيامه ولياليه كلها مباركةٌ، وأفضل أيامه ولياليه العشر الأواخر منه، وأعظم تلك الليالي بركةً الليلة التي أُنزل فيها القرآن، وهي ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، إنها ليلة القدر؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾.

إنّ رمضان فرصةٌ سنويةٌ لتذكير الناس بما يجب أن يكونوا عليه؛ فهو نموذجٌ ربانيٌ يُعلمنا قيم التوافق والتسامح وتحمل المسؤولية الاجتماعية وصلة الأرحام والمبادرة إلى الخير، وعلى الناس -إذا أرادوا أنْ ينصلح حالهم وحال أمتهم- أن يلتزموا هذه القيم باقي شهور العام.

 

أحبتي.. أنعم الله علينا أن بلّغنا رمضان، فلنصمه إيماناً واحتساباً حتى تشملنا (بركات رمضان)؛ فتغشانا رحمة الله، ويمُّن علينا بعفوه ومغفرته ورضاه.

اللهم إنا نسألك أن تُعيننا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك، خاصةً في شهر رمضان الفضيل، وأن تتقبل طاعاتنا قبولاً حسناً وتجزينا خير الجزاء.

https://bit.ly/42GeOZl

 

الجمعة، 17 مارس 2023

خطوة واحدة

 خاطرة الجمعة /387

الجمعة 17 مارس 2023م

(خطوة واحدة)

يقول أحد الإخوة الكرام: قررتُ بالأمس أن أُجرب عملاً لا يُداوم عليه إلا أصحاب النفوس الكبار، ومن عادتي التقصير، أسأل الله أن يعفو عني، قررتُ أن أُجرب أن لا يؤذن المؤذن إلا وأنا في المسجد، وفعلتُ ذلك، فبكَّرتُ في الحضور وصليتُ تحية المسجد، ثم دخل المؤذن وأذّن للصلاة، ولا تتخيل تلك المشاعر التي غمرتني وأنا أُجيبه وأنا جالسٌ خلفه، وبعد أن أجبته ودعوتُ الدعاء المأثور فتحتُ المصحف وبدأتُ أقرأ القرآن. مرت عشرون دقيقةً بين الأذان والإقامة، فلم أصدق عيني أنني قرأتُ جُزءاً كاملاً، تملكني ذُهولٌ عظيمٌ من سهولة هذا الإنجاز، وعِظم تقصيري فيه. كبّر الإمام فلا تسلْ عن لذة الخشوع والحضور مع قراءته، وترددتْ في ذهني عبارة أحد المشايخ "البكور حرمُ الصلاة، فمن سَلِمَ حرمُه سلمت صلاته". قضيتُ الصلاة، وجلستُ في حديثٍ وحسابٍ مع نفسي، ولا أعلم كيف تجلجلتْ في مسامعي تلك الآية: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ). تخيلتُ نفسي وأنا أداوم على هذا الفعل في كل فريضةٍ، ما الذي سأنجزه في المسجد؟ وما الذي سأخسره خارج المسجد؟ لو ضمنتُ البكور للصلاة فرضاً واحداً كالعشاء أو العصر أو الفجر، لضمنتُ ختمةً للقرآن في كل شهرٍ دون عناءٍ ومُكابدة، فكيف لو بكرتُ فريضةً أو فريضتين أو خمساً؟ زال تعجبي حينها ممن أسمع أنهم يختمون القرآن في كل شهرٍ مرتين وثلاثاً وأربعاً طيلة أيام العام.

وتواردتْ في ذهني تلك الفضائل العظيمة؛ المشي إلى المسجد، إجابة المؤذن، وقت إجابة الدعاء بين الأذان والإقامة، وفي الصلاة وبعدها، الصف الأول، السُنّة الراتبة، إدراك تكبيرة الإحرام، حضور القلب في الصلاة، دُعاء الملائكة للمُصلين في المسجد، الأذكار والدعوات بعد الصلاة، سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يوم القيامة منهم رجلٌ قلبه مُعلقٌ في المساجد، وغيرها كثير. لقد اكتشفتُ أنه كان بيني وبين كل هذا الثواب العظيم (خطوة واحدة) فقط!

 

أحبتي في الله.. يرى أهل العلم أن كثيراً من المُسلمين شغلتهم الدنيا بهُمومها وملذاتها ومباهجها الزائلة عن بيوت الله، فأصبح مُعظم وقتهم مصروفاً على فيسبوك وواتس آب ومواقع الإنترنت وأمام شاشات الفضائيات، فإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى مُتثاقلين مُتعجلين، وهم لا يُدركون أنهم بهذا السلوك يحرمون أنفسهم من بركة الجلوس في بيوت الله، وهي لحظاتٌ تجلب لهم السَكينة والراحة النفسية والهدوء الذي يفتقدونه خارجها. ورغم أن بينهم وبين ذلك (خطوة واحدة) إلا أنهم يحرمون أنفسهم منه ومن ثواب أكبر؛ حيث أنّ المُبكر إلى الصلاة بالمسجد:

لا يزال في صلاةٍ ما انتظرها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا يَزالُ أحَدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَتِ الصَّلاةُ تَحْبِسُهُ، لا يَمْنَعُهُ أنْ يَنْقَلِبَ إلى أهْلِهِ إلَّا الصَّلاةُ].

وتُصلّي عليه الملائكة وتدعو له بالمغفرة والرحمة ما دام في مصلاه ما لم يُحدث أو يؤذِ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [المَلَائِكَةُ تُصَلِّي علَى أحَدِكُمْ ما دَامَ في مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فِيهِ، ما لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ له، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، وفي روايةٍ: [ما لم يُحدِثْ فيهِ ما لم يؤذِ فيهِ].

وتُمحى ذنوبه وتُغسل خطاياه، وتُرفع درجاته، وهو من الرِباط؛ قال عليه الصلاة والسلام: [ألا أدلُّكُم على ما يَمحو اللَّهُ بهِ الذُّنوبَ ويرفعُ الدَّرجاتِ؟] قالوا بلى يا رسولَ اللَّهِ قال: [إِسباغُ الوضوءِ على المَكارِه، وَكثرةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ؛ فذلِكَ الرِّباطُ]، وفي روايةٍ: [إسباغُ الوضوءِ في المكارِه، وإعمالُ الأقدامِ إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ؛ يغسلُ الخطايا غسلًا].

ويضمن إدراك صلاة الجماعة التي تفضل صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً].

ويُدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ صلَّى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ، يُدْرِكُ التَّكْبيرَةَ الأُولَى، كُتِبَتْ لهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النارِ، وبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ].

ويلحق بالصف الأول فينال ثوابه بإذن الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ والصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أنْ يَسْتَهِمُوا لَاسْتَهَمُوا عليه]. يَسْتَهَمُوا أي يضربوا قرعة. وقال عليه الصلاة والسلام: [خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجالِ أوَّلُها، وشَرُّها آخِرُها]. وقال أيضاً: [إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ يصلُّونَ على الصَّفِّ الأوَّلِ]. وكان صلى الله عليه وسلم يستغفِرُ للصَّفِّ المُقدَّمِ ثلاثًا وللثَّاني مرَّةً.

ويُدرك ميمنة الصفّ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَىَ مَيامِن الصُّفوف].

ويتمكن من الإتيان بالنوافل المشروعة بين الأذان والإقامة، والسُنن الرواتب القبلية.

وقلبه متعلّقٌ في المساجد؛ قال عليه الصلاة والسلام: [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ] وذكر منهم: [ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ]، وفي روايةٍ: [ورجلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمسجدِ إذا خرجَ مِنْهُ حتى يَعُودَ إليهِ].

وينتظر الصلاة فيكون انتظاره سبباً في حضور القلب في الصلاة، وإقبال المرء على صلاته وخشوعه فيها. ويتمكن من الدعاء بين الأذان والإقامة فكُل دُعاءٍ بينهما مُستجابٌ، كما يتمكن من الإتيان بأذكار الصباح والمساء في وقت الفجر ووقت المغرب.

ويحضر بسَكينةٍ ووقارٍ، فيكون مُمتثلاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ فلا تأتوها وأنتم تَسعَونَ، ولكن ائتوها وأنتم تَمشُونَ وعليكم السَّكينةُ، فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتكم فأتمُّوا] بخلاف المتأخر فإنه غالباً يأتي مُسرعاً مُستعجلاً.

إنّ اقتران الحضور المُبكر للصلاة والسجود بالمسجد يُذكرني بالتوجيه الإلهي لنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ يطلب من حبيبه ومُصطفاه وسيد البشر أجمعين أنْ يقترب، فما أحوجنا نحن -بتقصيرنا وخطايانا- إلى الاقتراب من الله، ليس بخطوةٍ واحدةٍ وإنما بالكثير من الخطوات.

 

أحبتي.. كل واحدٍ منا على بُعد (خطوة واحدة) من نيل ثوابٍ عظيم؛ من لا يُصلي لا يحتاج إلا إلى اتخاذ قرارٍ واحدٍ ليكون من المُصلين، يكفيه أن يتذكر الحديث الشريف: [إنَّ بيْنَ الرَّجُلِ وبيْنَ الشِّرْكِ والْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاةِ]، ويكفيه أن يعلم أن (خطوة واحدة) في هذا الاتجاه يُعينه عليها الله سبحانه وتعالى؛ ففي الحديث القُدسي: {ومن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقربْتُ منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ إليّ ذراعًا تقربتُ منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً}.

ومن يُصلي بغير انتظامٍ، ليكن قراره من هذه اللحظة الانتظام في الصلاة والمُحافظة عليها وتقديمها على ما عداها من أمور ومشاغل دُنيوية.

والذي يُصلي بانتظامٍ في بيته أو مكان عمله ليس بينه وبين الصلاة في المسجد إلا (خطوة واحدة).

والمواظبون على الصلاة في المسجد عليهم أن يحرصوا على التبكير في الذهاب إليه في كل الصلوات، فإن لم يستطيعوا فليكن تبكيرهم في مُعظم الصلوات مع النية الجادة والعزم الأكيد على إتمام الصلاة للفروض الخمسة في المسجد مع جماعة المسلمين.

يقولون إن طريق الألف ميلٍ يبدأ بخطوةٍ واحدةٍ، وأقول إن (الخطوة الواحدة) تُقرِّب المُسلم إلى ربه ومولاه، وتُكسبه عفوه ورضاه، وتكون سبباً في حُسن الجزاء في الدنيا والآخرة.

أعاننا الله سُبحانه وتعالى على أنفسنا، وأعاننا على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته على الوجه الذي يُرضيه عنا.

https://bit.ly/40dihMW

الجمعة، 10 مارس 2023

فضيلة التغافل

 

خاطرة الجمعة /386


الجمعة 10 مارس 2023م

(فضيلة التغافل)

 

يقول رجلٌ: ركبتُ سيارة أجرة ذات يومٍ متجهاً إلى المطار، وبينما كان سائق السيارة مُلتزماً بمساره الصحيح، قفزت سيارةٌ من موقف السيارات بشكلٍ مُفاجئٍ أمامنا؛ ضغط السائق بقوةٍ على المكابح، لتنزلق السيارة وتتوقف قبل لحظاتٍ من الاصطدام. أدار سائق السيارة الأخرى رأسه نحونا وانطلق بالصُراخ تجاهنا، لكن سائق سيارة الأجرة ابتسم ولوّح له بود. استغربتُ جداً مما فعله وسألته: "لماذا فعلتَ ذلك؟ هذا الرجل كاد يُرسلنا للمستشفى برعونته"، هنا لقنني السائق درساً، أصبحتُ أُسميه فيما بعد «قاعدة شاحنة النفايات»، قال: "كثيرٌ من الناس مثل شاحنة النفايات، تدور في الأنحاء محملةً بأكوام النفايات؛ الإحباط، الغضب، وخيبة الأمل، وعندما تتراكم هذه النفايات داخلهم يحتاجون إلى إفراغها في مكانٍ ما، في بعض الأحيان يحدث أن يُفرغوها عليك، لا تأخذ الأمر بشكلٍ شخصيٍ، فقد تَصادف أنك كنتَ تمر لحظة إفراغها، فقط ابتسم، لوّح لهم، وتمنَ أن يُصبحوا بخير، ثم انطلِق في طريقك، احذر أن تأخذ نفاياتهم تلك وتُلقيها على أشخاصٍ آخرين في العمل، في البيت أو في الطريق!".

صدق هذا السائق؛ ففي النهاية، الأشخاص الناجحون لا يدعون شاحنات النفايات تستهلك يومهم، فالحياة أقصر من أن نُضيعها في الشعور بالأسف على أفعالٍ ارتكبناها في لحظة غضبٍ؛ لذلك، أُشكر من يعاملونك بلطفٍ، وادعُ لمن يُسيئون إليك، وتذكر دائماً: حياتك محكومةٌ 10% بما تفعله، و90% بكيفية تقبلك لما يجري حولك.

(فضيلة التغافل) أدبٌ عظيمٌ، وخُلُقٌ شريفٌ تأدب به الحُكماء، ونوَّهَ بفضله العُلماء، فيجب على صاحب المروءة أن يتغافل ويتجاوز عن أهله وأصحابه وموظفيه إن هُم قصروا بشيءٍ ما، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيُبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها، ولا يُذكّرهم بحقوقه الواجبة عليهم تجاهه عند كل زلةٍ، وإنما يتغافل عن اليسير وهو يعلمه.

 

أحبتي في الله.. يحكي القرآن الكريم عن قمة الرُقي في التغافل، فيقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ إنها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، دعته للتغافل عن بعض الأمور، كرماً منه صلى الله عليه وسلم، وحلماً، ودرساً لنا للتعامل في مثل هذه المواقف. وفي درسٍ آخر منه عليه الصلاة والسلام؛ كان كفار قريشٍ يشتمونه وينادونه مُذمماً، فما كان منه إلا أنه قال: [أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟! يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ].

أما عن يوسف عليه السلام فيصور القرآن الكريم تغافله؛ يقول تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾؛ فهو يتغافل عن اتهامه بالسرقة لأنه يُريد حب إخوته وكسب قلوبهم، مع قدرته على الرد، فالتغافل قوةٌ وليس ضعفاً، وأصحاب النفوس الراقية والهمم العالية يتغافلون لأن التغافل من شيم الكرام.

 

وحيث أن (فضيلة التغافل) مهمةٌ ومفيدةٌ، فإن عدم التغافل قد يكون ثمنه كبيراً؛ يقول أحد الموظفين: عندما ترقيتُ إلى منصب مُدير كان من ضمن الموظفين عندي شابٌ نشيطٌ جداً، وناجحٌ في عمله، وكان يقوم بكل ما يُطلبُ منه بذكاءٍ وسُرعةٍ ودقةٍ، كما أنه يُحقق نسبةَ إنجازٍ عاليةً، لكنه كان لعوباً إلى حدٍ ما؛ فقد كان يُغادرُ مقرَّ عملهِ كثيراً بدون إذن، حتى أن إجازاتُه وأذوناتُه كانت أكثر من المُعتاد. ذاتَ مرةٍ تقدّم بطلب إجازةٍ ليُسافر مع أصدقائهِ في رحلةٍ لكنني رفضتها؛ فما كان منه إلا أن تقدَّم بإجازةٍ مرضيةٍ، واتصل مُدعياً المرض مُعتذراً عن الحضور. ولأنني أعرف أنه ليس مريضاً ذهبتُ صباحاً وانتظرتُه باكراً أمام منزله، ثم قابلته وهو يحمل عدّة الرحلات، كاد الموظف يذوبُ خجلاً، ووجههُ يتقلّب بين الخجلِ والحرج للأسف، بينتُ له أنه لا يستطيع خِداعي، وأنني لستُ بتلك السذاجة التي يظنُّها، وبرهنتُ له أنه كاذبٌ، وخصمتُ عنه أجرَ ذلك اليوم مُضاعفاً. لكن حصل بعد ذلك بعدة أيامٍ أن تقدَّم الشابُّ باستقالته. من جهتي خسرتُ جُهده ونسبةَ الإنجاز العالية التي كان يُحققها، ولم يعُد بالإمكان أن أرفع لإدارتي العليا نسبَ الإنجاز السابقة، وصرتُ بحاجةٍ للبحث عن شابٍ يُمكنه أن يُحقِّق ذات الإنجاز، وهُم قليلون. لقد كان غباءً منقطعَ النظير مني، فما الذي استفدتُه من ذلك؟ يومها اكتشفت أنَّ بعض ما نخسره في حياتنا يكون بسبب التضييق على الآخر، وإغلاق منافذ الهروب أمامه ما يجعله أمام خيارين: إما أن يهربَ مِنك وتَخسره، أو يتخذك عدواً فيكيد لك ويدعو عليك ويتراجع نشاطه كنوعٍ من الدفاع عن النفس، وفي كلتا الحالتين ستكونُ خاسراً، لذلك فمن الأفضل أن تسمحَ لخصمك -ببعض التغافل- أن يتراجَع، وتفتحَ له طريقاً يخرجُ منه كريماً فيحترمُك، بدل أن تُحرجه فيُعادِيك. لابد أن تكسب الجميع بنوعٍ من التغافل الذكي والتجاوز، وذلك ليس غباءً، بل هو مُنتهى الذكاء والفطنة.

 

قال أهل العلم إنّ (فضيلة التغافل) عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإن الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلةٍ وخطيئةٍ تعب وأتعب غيره، والعاقل الذكي من لا يُدقق في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ مع أهله وأحبابه وأصحابه وجيرانه؛ ولهذا قيل: "تسعة أعشار حُسن الخُلُق في التغافل". وقيل: "الكيس العاقل هو الفطن المتغافل". وقيل: "التغافل فنٌ من فنون التعامل مع الناس لا يُحسنه إلا الكرام الأفاضل ذوو المروءة، ولا يتقنه إلا كل حليم". وقيل: "التدقيق في أتفه التصرفات قد يهوي بك إلى الجنون، لذا تغافل مرةً وتغابى مرّتين!". وقيل أيضاً: "من المروءة التغافل عن عثرات الناس وإشعارهم أنك لا تعلم لأحدٍ منهم عثرة". وقيل كذلك: "لا تكن كمن يُفتش عن أخطاء الآخرين وكأنه يبحث عن كنز؛ فالتغافل عن أخطاء الآخرين أرقى شيم المكارم".

كما قيل: (فضيلة التغافل) هي أن تغض الطرف عن الهفوات، وألا تُحصي السيئات، وأن تترفع عن الصغائر، ولا تُركِّز على اصطياد السلبيات، فالتغافل فنٌ راقٍ لا يتقنه إلا محترفو السعادة.

التغافل إذاً أساس السعادة؛ فهو الذي يُقلل الرغبة في الصدامات والمشاحنات، أو التفكير في الانتقام، أو الانشغال بالردود على هذا وذاك. ويوفر صحةً جيدةً، وعلاقاتٍ هادئةً، بعيدةً عن الاستفزازات والمُهاترات، ويجعل الناس قلوبهم بيضاء، ونياتهم صافية، يعرفون معنى الحب والعفو والصفح والتسامح، ويُقدِّرون حقوق القرابة والصداقة والجيرة ويُحافظون عليها.

 

قال الشاعر:

لَيْسَ اَلْغَافِلُ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ

لكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَافِلُ

وقال آخر:

وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ

وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ

وَمَنْ يَتَطَلّـَبْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ

يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ

وقال ثالث:

أُحبُ من الإخوانِ كلَ مواتي

وكلَ غضيضِ الطرفِ عن هفواتي

 

أحبتي.. (فضيلة التغافل) من فضائل المؤمنين، ومن شيم الأذكياء، ومن أخلاق كبار النفوس؛ يتجاهلون أخطاء وزلات غيرهم وهم يعلمون، بل ويُظهرون أنهم لا يعلمون! والتغافل في مواقف كثيرةٍ يكون هو العقل ومنتهى الحكمة والمروءة؛ فلنتغافل ونغض الطرف عن الهفوات والأخطاء في كل معاملاتنا، وفي أغلب مواقف حياتنا. وأحق الناس بالتغافل وغض الطرف عن أخطائهم الصغيرة وزلاتهم غير المقصودة أقرب الناس إلينا وأكثرهم احتكاكاً بنا، ويكفي أن من ثمرات التغافل دوام المودة والعشرة والصلات الطيبة سواءً بين الأزواج أو بين الوالدين والأبناء أو الأقارب أو الأصدقاء، وسلامة الصدر من الأحقاد.

اللهم اغفر لنا ولكل من تغافل عن أخطائنا وللمؤمنين والمؤمنات. اللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

 

https://bit.ly/3mC7zRv

الجمعة، 3 مارس 2023

صدق اليقين

 

خاطرة الجمعة /385


الجمعة 3 مارس 2023م

(صدق اليقين)

 

تروي إحدى الأخوات قصتها تحت عنوان "عندما عادت إليَّ نفسي" فتقول: كل ما أملكه لم يكن يتجاوز عقلاً شارداً يتخبط بي، وهَمًّا يؤرقني، وأنيناً في صدري يهز أضلاعي، ووجدتُ نفسي وحيدةً على كثرة مَن حولي، ووجدتني ضعيفةً جداً، وما أعظمها من حقيقةٍ تعلمتُها من تجربتي، حقيقة أنني ضعيفةٌ لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضَراً! حقيقةٌ نؤمن بها نظرياً، لكن شتان بين النظرية وبين أن نذوقها ونعيشها، حينها تتبدل المقاييس والمعايير في ذواتنا، ونُعيد البناء على أساسٍ متينٍ، على أساس ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. لجأتُ للقرآن الكريم حينها، وكيف لجأت؟! كانت البداية بعد آيةٍ ترددتْ في ذهني كثيراً ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وأخذتُ أضع بنفسي لنفسي وِرداً أقرؤه ليطمئن قلبي المكلوم، فهدأتْ نفسي لمجرد القراءة، ولكن مازلتُ أشعر أني في طريقي لخيرٍ أعظم.

وفعلاً جاءتني مكالمةٌ من أختٍ في الله ذكرتني بالله وبِعِظَمِ أجرِ الابتلاء والصبر عليه، وقالت: "لقد أراد الله بك خيراً؛ فلربما أرادَ أن يزيدكِ من فضله بعد أن رأى منكِ نفعَ الناسِ بما تُقدمينه لهم من خيرٍ، ثُمَّ قرأَتْ آيةً، وانتهت المكالمة. لم تكن تعلمُ ما فعلَتْ بي هذه الآية، لقد غيَّرت مجرى تفكيري حينها بشكلٍ غير عاديٍ، ووجدتُ في روحي انتعاشاً غاب عني شهوراً، إنها قول الله تعالي: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾، يا الله! أبالصبر واليقين أنال هذا الشرف؟ حينها قلتُ بكل عزمٍ وحزمٍ: "يا أقدامَ الصبر تحملي ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وكوني على يقينٍ بكل ما يعدك ربك في كتابه"، وقررتُ حينها أن أصبر وأصبر، وأن يكون عندي يقينٌ أكثر بفرج الله سبحانه ووعده حيث يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾، ويقول: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، ويقول جلَّ وعلا: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ويقول تعالي: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾. وحينما كانت الضغوط تُحيط بي، ويتعالى حديث الناس من حولي بأنني سأفقد الكثير، كانت تأتيني آيةٌ تنزل على قلبي نزول المطر على الأرض الجدباء القاحلة؛ فيُزهر ربيع قلبي، يقول الله تعالي: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾. لقد كانت كل آيةٍ تأتيني ذكرى من الله، فَلَكَم يفتح التدبر للنفس من آفاقٍ نحو السعادة والاستقرار النفسي، والله إنها لحياةٌ جديدةٌ لقلبي؛ فخرجتُ من المحنة بمنحةٍ عظيمةٍ وربحٍ كبيرٍ مع رحلة التدبر، يكفيني أني قد ربحتُ ذاتي التي وجدتْ أخيراً طريقها في (صدق اليقين) بوعد الله!

 

أحبتي في الله.. وتروي أختٌ أخرى قصتها فتقول: انفصل عني زوجي وتركني وحدي مع أربعة أطفال. وذات مساءٍ مرض ابني الصغير بالحُمى، ووقعتُ في حيرةٍ من أمري؛ ليست لي حيلةٌ، ولا صلةٌ لي وثيقة بالجيران؛ فاستعنتُ بالله أدعوه وأُلح في الدعاء، وكلي يقينٌ بأن يُنقذني ويرحم ضعفي وقلة حيلتي. لم تمضِ ساعةٌ حتى طُرق باب الشقة ففتحتُ فإذا الذي أمامي طبيبٌ جاء يسأل عن المريض! وبعد أن أتم الكشف وقدَّم بعض الدواء الذي يكون معه عادةً، نزل ولم يطلب أتعاباً بعد أن أدرك حالة الأسرة وظروفها. ورغم شدة يقيني بالله سبحانه وتعالى إلا أنني كنتُ مُتعجبةً مما حصل، إلى أن علمتُ -بالصدفة- أنّ الطبيب كان يقصد الشقة المقابلة لنا في نفس المنزل؛ هُم الذين اتصلوا به هاتفياً واستدعوه ليُعاين مريضاً لديهم فإذا به يطرق باب شقتنا بالخطأ. ختمت أختنا قصتها بقولها: "فسبحان من له الكون كله، يُسيره حيث يشاء؛ فاعتبروا يا أولي الألباب".

 

ومن يتدبر آيات القرآن الكريم يجد أن (صدق اليقين) يأتي دائماً في مقام المدح؛ في مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. كما ورد في وصف المؤمنين مرةً، وفي وصف المُحسنين مرةً أخرى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾. إنه اليقين الثابت الذي لا يتزعزع.

 

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [...إنّ الله بِحكْمَتِهِ وجَلالِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ والفَرَجَ في الرِّضا واليَقِينِ، وجَعَلَ الهَمَّ والحُزْنَ في الشَّكِّ والسُّخْطِ]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [..وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا..]، و[اللهم إني أعوذُ بكَ من الشكِ بعد اليقين]. وهو القائل: [سلوا اللَّهَ العفوَ والعافيةَ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ]. والقائل: [صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل].

 

يقول أهل العلم إنّ اليقين عملٌ من أعمال القلوب التي تحيا به الروح وتسكن به النفس وينشرح به الصدر، وهو سبيل الاهتداء إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ، وهو دليل الانتهاء عما حرَّم الله، فالله تعالى يقول عن المتقين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ . أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾.

 

والذي يمتلك (صدق اليقين) يُصدِّق ما قاله الرسول صلى الله عليه سلم: [يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ] فيُدرك أن كل ما يُصيبه في هذه الحياة الدنيا هو بتقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ، ويُدرك أن الإنسان مبتلىً في هذه الحياة، وأن الحياة زائلةٌ، وأن المصاعب التي نواجهها هي خيرٌ لنا؛ لأننا لا نعلم الغيب, فكم من الأمور كنا نعتقد أنها شرٌّ لنا وقت حدوثها، ثم بعد مرور الوقت اكتشفنا أنها لصالحنا.

إنّ الصلة بالله -سبحانه وتعالى- تعلقاً به، ويقيناً بموعوده، وأملاً في نصره، ورضاءً بقضائه، ومحبةً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، وتوكلاً على قوته، ذلك هو المعوّل عليه في كل خطبٍ، وهو الموثوق به في كل كربٍ. وكل شيءٍ يُستنَد فيه إلى غير الله فإنه إلى هزيمةٍ وانهيار، وكل اعتمادٍ وتوكلٍ على غير الله فإنه إلى ضياعٍ وانحدار.

وعن اليقين قال الشاعر:

ولبستُ ثوبَ الصبرِ أسترُ حاجتي

فوجدتُ ثوبَ الصابرين رحيبا

ورجوتُ ربي أن يُفرج كُربتي

فوجدتُه في النائباتِ قريبا

لما رضيتُ بأمرِ ربي موقناً

رأيتُ لُطفاً من لَدنه عَجيبا

 

أحبتي.. اصدقوا اليقين بالله، فإن كل من وصل إلى (صدق اليقين) بحقٍ جنى ثمرته كما قال أحد الصالحين: "بعد الفقرِ غنىً، وبعد المرضِ عافيةٌ، وبعد الحزنِ سرورٌ، وبعد الضيقِ سَعَةٌ، وبعد الحبسِ انطلاقٌ، وبعد الجوعِ شبعٌ، فسوف تُبدَل الأحوال، وتهدأُ النفوسُ، وتنشرحُ الصدور، وتسهل الأمورُ، وتُحَل العُقدُ، وتنفرجُ الأزمات".

اللهم ثبِّت يقيننا، وقوِ عزيمتنا، واجعل الرشد سبيلنا والثقة بك منهجنا، والرضا بقضائك وقدرك اختيارنا ومرجعنا.

 

https://bit.ly/3mmQ0F0

 

الجمعة، 24 فبراير 2023

الخبيئة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /384


الجمعة 24 فبراير 2023م

(الخبيئة الصالحة)

 

هذه القصة يرويها أحد كبار الأطباء؛ كتب يقول: منذ أكثر من عامٍ مضى، هاتفني والدي -رحمة الله عليه- ليوصيني بأحد أصدقائه القدامى، والذي سيزورني بالعيادة لعرض حالته عليّ، وأضاف والدي أن هذا الرجل واحدٌ من أفضل من عرفهم في حياته، وأنه رجلُ خيرٍ قضى جزءاً كبيراً من حياته في أعمال البر والدعوة، وله أيادٍ بيضاء على الكثير من الناس. جاءني الرجل، واحتفيتُ به إكراماً لوالدي، ولكن الأمر لسوء الحظ كان أكثر استفحالاً من أن يكون له علاجٌ عندي: سرطانٌ مُستشرٍ بالكبد، وجلطاتٌ سرطانيةٌ بالأوعية الدموية المُحيطة بالكبد، مع ارتفاعٍ صارخٍ بدلالات الأورام مصحوبٍ بانهيارٍ كاملٍ لوظائف الكبد. في واقع الأمر، في مثل هذه الحالات، لا نملك طبياً سوى ما يُسمى بالعلاج التحفظي، أو بطريقةٍ أكثر صراحةً، لا نعالج المرض وإنما نعالج الأعراض ونتعامل مع آلام المريض فقط. ما لفت انتباهي حينها هو التماسك الشديد للرجل، مع حقيقة معرفته بتفاصيل حالته، وإدراكه لطبيعة مرضه. ولكنني، وتلطيفاً للأمر، حاولتُ الحديث معه لطمأنته والتخفيف عنه، إلا أنه استشعر ذلك مني فقاطعني بقوله "يا دكتور لا تقلق عليّ، أنا أتيتُ لك فقط كي آخذ بالأسباب، لكن في النهاية المرض والشفاء، والحياة والموت، ليس بأيدينا، وإنما هو بيد المولى عزَّ وجلَّ". انصرف الرجل بعد أن أعطيته بعض الأدوية البسيطة والتعليمات الخاصة، وطلبتُ منه ألا يُمارس عملاً مُرهقاً بعد الآن، وأن يعود إليّ بعد شهرين للمتابعة. في مثل هذه الحالات، غالباً ما لا تتجاوز الفترة المُتوقعة للحياة ثلاثة أشهرٍ، وليتها تمر بدون معاناة، وإنما هي أيامٌ تمضي كالجحيم على المريض وأهله. تمر الأيام والشهور، ونسيتُ الرجل وسط انشغالات الحياة، حتى أتاني مرةً ثانيةً للمتابعة بعد مرور سبعة أشهر. اندهشت عندما علمتُ بقدومه وأنه لا يزال على قيد الحياة، وزاد استغرابي عندما دخل عليّ الغرفة موفور الصحة يمشي على قدميه سليماً مُعافى، طلبتُ منه الصعود إلى سرير الكشف لفحصه بالموجات فوق الصوتية. وكانت المفاجأة؛ أن ذلك المرض الخبيث لا وجود له، مع اختفاء كل ما كان ظاهراً من قبل من علاماتٍ لانتشاره. كَذّبتُ عينيّ، وطلبتُ من الرجل عمل فحصٍ جديدٍ بالأشعة المقطعية ليكون أكثر دقةً، على أن يُجريه في نفس مكان الفحص السابق، وكذلك إعادة عمل وظائف الكبد ودلالات الأورام. في صباح اليوم التالي، تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من أحد أساتذة الأشعة المشهود لهم بالكفاءة، ومن العاملين بالمركز الذي أحلتُ إليه المريض، سألني الأستاذ سؤالاً يبدو غريباً: "دكتور؛ هل أعطيتَ المريض علاجاً للأورام؟"، أجبته بأنني لم أُعطه شيئاً بسبب تأخر حالته وعدم وجود علاجٍ لمثل هذه الحالات، صمت الأستاذ قليلاً وكأنه غير مصدقٍ لما أقول، ثم سألني مرةً ثانيةً إن كنتُ قد أعطيته أحد الأدوية تحت البحث أو أدخلته في إحدى التجارب السريرية لواحدٍ من العقاقير الحديثة، ووعدني بأنه لن يُخبر أحداً عن الأمر، فأجبته مرةً ثانيةً بالنفي، وقلتُ له إنّ مثل هذه الأبحاث ما كانت لتتم بدون علم المريض وموافقته الكتابية المسبقة، صمت مرةً أخرى ثم باح لي بشكوكه: "أخبرني المريض بأنك أعطيته أدويةً من عندك!". تذكرتُ عندها وأخبرتُ الرجل بأنني أعطيتُ المريض بعضاً من العينات المجانية لمُنشطات للكبد ليس لها قيمةٌ حقيقيةٌ في حالته، زادت حيرة الرجل، ثم قال لي: "الحقيقة أنا لا أعرف ماذا أكتب في التقرير؟ لا أجد شيئاً في الأشعة الجديدة، ولولا أنّ الأشعة القديمة عملها المريض عندي، وكنتُ أنا الذي كتبتُ التقرير بنفسي، ما كنتُ صدقت هذا!". ترقبتُ مجيء المريض، والذي بدوره لم يبطئ عليّ وأتاني يحمل نتائج الأشعة والفحوصات. حقيقةً لم أُصدق عينيّ وأنا أرى كل الفحوصات سليمة؛ دلالات الأورام عادت لطبيعتها، ووظائف الكبد جيدةٌ. أخبرتُ الرجل وذويه بالأمر كله، وختمتُ حديثي معه بأنني لا أملك تفسيراً علمياً لما حدث، وأنني أنا من يطلب منه التفسير؛ لم يُبدِ الرجل أي أثرٍ للاندهاش كما توقعتُ، فقط ابتسم وقال لي جملةً واحدةً: "إنّ لي عند الله خبيئةً لم أُخبر أحداً بها؛ فدعوته بها فأكرمني"، ثم انصرف وتركني وأنا لا أستطيع كبح دموعي.

 

أحبتي في الله.. إنها (الخبيئة الصالحة) عبادة الأتقياء الأنقياء الأصفياء البعيدين عن النفاق.

ذكرتني هذه القصة بأخرى أغرب منها؛ كتب صاحبها يقول: أنا أعمل في أكثر من جمعيةٍ خيريةٍ لمُساعدة الفقراء. أسكن في بناءٍ من طابقين، وكل طابقٍ من شقتين؛ طابقٌ لصاحب البناء وابنه، وأنا في الطابق الأخير مع جارٍ آخر، والطابق الأرضي مقسمٌ إلى شققٍ صغيرةٍ يسكن فيها أناسٌ بُسطاء. يأتيني ابن صاحب البناء كل شهرٍ ويُعطيني مبلغاً من المال قائلاً لي: "أعطهم للمستأجرين لأجل أن يدفعوها لوالدي إيجار بيوتهم!". لكن الأغرب أن الأب بعد أن يستلم الأجرة منهم، يأتيني قائلاً خُذ هذه الأجرة واشترِ للمستأجرين مواد تموينيةً ووزعها عليهم. الأب وابنه يطلبا مني أن أقول إنها من الجمعيات الخيرية، لا الأب يعرف أن ابنه يُساعد الناس، ولا الابن يعرف أنّ أباه يُساعدهم، والاثنان يُقدمان هذا الخير في السر!

 

يقول تعالى: ﴿إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ]، كما قال صلى الله عليه وسلم: [الجاهرُ بالقرآنِ كالجاهرِ بالصَّدقةِ، والمسرُّ بالقرآنِ كالمسرِّ بالصَّدقَةِ]، تأكيداً على أن صدقة السِّر أفضل من صدقة العلانية. وجاء من السبعة الذين يُظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: [ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ]؛ قال العلماء إذا كانت الدمعة في الخفاء لأجل الله ترفع مقام العبد عند ربّه فكيف بغيرها من العبادات؟ كيف بمجاهدة النفس في الخلوات؟ كيف بالصبر عن محارم الله؟ إنها والله لأجورٌ عظيمةٌ من ربٍ كريم. وتظهر أهمية (الخبيئة الصالحة) في تفريج الكُربات وقبول الدعاء؛ ففي حديث أهل الغار الذين سَدّت عليهم الصخرة مخرجه وتقطعت بهم الأسباب، لم ينفعهم إلا التوسل إلى الله بخبايا أعمالٍ صالحةٍ لهم أُحيطت بسياجٍ من الإخلاص والعبودية لله عزَّ وجلَّ، فكانت سبباً لتفريج كُرَبهم وخروجهم من الغار.

 

يقول أهل العلم إن الخبيئة عبادة السرّ والخفاء؛ يؤدّيها العبد في خلوته بينه وبين ربّه جلَّ وعلا، وهي زادٌ للإنسان في آخرته، ولا تكون إلّا من العبد الذي فاض حبّ الله في قلبه، حتى وصل إلى مرحلة إنكار نفسه وإخفاء عمله. ويبتغي العبد من (الخبيئة الصالحة) التجرّد إلى الله سبحانه؛ ليقبل عمله، وتُعدّ دليلاً على صدق العبد وإخلاصه ومحبته لله، ولها أثرٌ بالغٌ على الإيمان به؛ فليس شيءٌ أحبّ إلى الله من (الخبيئة الصالحة) يجعلها العبدُ بينه وبين ربّه، لا تطلعُ عليها الأعين لتمدحها، ولا تسمعها الأذن لتُثني عليها، تفعلها وليس في نيتك إلا الله، واثقاً أنه لا يضيع شيءٌ عنده. إنها (الخبيئة الصالحة) تجارةٌ رابحةٌ مع الله، مُشبعةٌ بالإخلاص، مجبولةٌ بالصدق، محصنةٌ بالكتمان، لا تشوبها شوائب طلب السُمعة والشُهرة، أو التعلّق بالمدح والثناء أو شائبة الرياء. هي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته. إنها كنزٌ من كنوز الحسنات، وعبادةٌ تُبقيها ذُخراً لنفسك يوم تُبلى السرائر.

هي -كما قال أحد الصالحين- صدقةٌ دائمةٌ لا يرصدها الناس، وركعاتٌ في الليل وأهل بيتكَ يحسبونكَ نائماً، ديونٌ تُسددها عن الغارمين، كفالة يتيمٍ لن يعرفَ من كفله إلا يوم القيامة، بئرٌ تحفره لله قد يكون جزاؤه شربةً من يد النبي صلى الله عليه وسلم، دار تحفيظٍ تُنفقُ عليها أنت الذي لم تُسعفكَ ذاكرتكَ لتحفظ يُسخّر الله لكَ من يحفظ فيه وتكتبُ الملائكة في صحيفتك أجرهم جميعاً، منشورٌ تكتبه أو كتابٌ تؤلفه حُباً للهِ ودفاعاً عن دينه يُسخِّرُ الله لكَ آلاف الناس ليحملوه عنكَ ويبلغوه يلفُّ الكرة الأرضية وأنتَ جالسٌ في بيتك، يجعله سُبحانه سبباً لعودة تائبٍ ومواساةً لمحزونٍ وجبراً لمكسورٍ وهدايةً لحيران.

من أعظم أعمال السر وأحبها إلى الله، وأنفعها لصاحبها: صلاة النافلة وخاصةً صلاة الليل، وقد امتدح الله أصحابها وأثابهم عليها من جنس عملهم؛ يقول تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

كما أن الصيام من أعظم عبادات السر؛ لذا عظّم الله أجره؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له قال الله تعالى إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ].

(الخبيئة الصالحة) هي في الحقيقة صكُّ براءةٍ من النِّفاق والرِّياء، فلا يُمكن أن يُخالط الرِّياء وحبُّ الظُّهور العملَ الخفيَّ، كما لا يُمكن أن يتسلَّل النِّفاق إلى العمل الخالص لوجه الله.

 

ومن المُفارقات المُؤسفة أنه بدلاً من السعي لفعل (الخبيئة الصالحة) فإنّ الكثير من الناس لهم خبيئة سوءٍ؛ يفعلون في السر ما يُغضب الله سبحانه وتعالى، يبارزونه بالمعاصي والخطايا وفعل الذنوب والسيئات وارتكاب الموبقات، وهؤلاء يقول تعالى فيهم: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ وتنتهي الآية الكريمة بالتذكير: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.

 

أحبتي.. صدق من قال عن (الخبيئة الصالحة) إنها زورقٌ مَن ركبه نجا، وعبادةٌ من اعتادها طَهُر قلبُه ورقّت نفسُه وتعودت الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحدٌ، ولا يعلم بك أحدٌ غير الله سبحانه، تُقدم العبادة له وحده، غير عابئٍ بنظر الناس إليك، وغير منتظرٍ لأجرٍ منهم أو شكرٍ أو مدحٍ أو استحسانٍ أو إعجابٍ. إن كثيراً من الذين أدهشهم عطاء‏ الله كانوا ممن يستغفرونه في الخفاء. فليكن كلٌ منا تقياً خفياً؛ وكما نصحني صديقٌ عزيزٌ قال: "ليكُن لكَ خَبيئة! فعلةُ خيرٍ لا يَعلمُها سِواك ومَنْ سَوَّاك، هذهِ الخَبيئة ستكُون لك -بإذن الله- حِرزاً من كلِّ ضررٍ وخَطرٍ، سَترفعُك إذا سَقطتَ، وتُقدِّمك إذا رَجعتَ، ستجدُ حلاوتَها في نفسِك، وبركَتها في أيَّامك، وإن لم تَنل ثمَرتَها في الدُّنيا، فترقَّبها في الآخرة، وما أحوجَك إليهَا حِينئذ".

اللهم يا من تعلم علانيتنا وسرنا، يا من ترى وتسمع ما نعمل وما نقول، وتعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك في السر والعلن.

 

https://bit.ly/3m2Mm2W

 

 

الجمعة، 17 فبراير 2023

حِب لأخيك ما تُحب لنفسك

 

خاطرة الجمعة /383


الجمعة 17 فبراير 2023م

(حِب لأخيك ما تُحب لنفسك)

 

تحكي امرأةٌ حكايتها فتقول: تزوجتُ من رجلٍ صالحٍ عشتُ معه حياةً سعيدةً، رزقتُ منه بثلاثة أطفالٍ، نسكن بمدينةٍ وأهل زوجي يسكنون بمدينةٍ أخرى. وفي يومٍ من اﻷيام وقع حادثٌ مؤلمٌ ﻷهل زوجي؛ توفي أبوه وإخوته، وبقيت أُمه وواحدةٌ من أخواته أُصيبت بإعاقة. كان الحزن يُخيّم على الجميع. مرت اﻷيام، وبدأ الحُزن يتلاشى كعادة البشر، ولكن الهم أصبح مُلازماً لزوجي، يشعر بمسؤوليته التامة عن أُمه وأخته، طلب مني أن تسكنا معنا وأن نراعي أخته المُعاقة ﻷن والدته أصبحت كبيرةً في السن، ضاقت بي الدنيا بما رحبت واعترضتُ؛ فقال: "سوف تُنهي أُختي علاجها، ربما بعد سنةٍ، ثم تسكن معنا؛ فليس لها بعد الله إلا أنا". عشنا أيام نكدٍ كلما أتذكر أنهما ستعيشان معي أتضايق وأفكر؛ كيف آخذ راحتي؟ كيف تكون لي خُصوصية؟ كيف يزورني أهلي؟ وكلما قرب الموعد زادت هواجسي وزاد النكد مني لزوجي، وبعد سنةٍ أراد الله أن يستمر علاج أخت زوجي سنةً أخرى؛ لم أشعر بالفرح ﻷنني سأظل أترقب وتزول كل سعادةٍ تلوح لي.

لكن حصل ما لم يكن بالحُسبان، حصل ما لم يخطر لي على بال؛ فقد تُوفي زوجي إثر حادثٍ أليمٍ؛ مما جعلني -مرغمةً- أحمل حقائبي وأولادي لأعيش مع أم زوجي وابنتها، وأقوم أنا وأولادي بخدمتهما، نادمةً على عدم حبي لهما ما كنتُ أحب لنفسي لو أني كنتُ مكانهما. كم من اﻷيام حرمتُ نفسي وزوجي السعادة خوفاً من أن تعيشا معي؟ فأصبحتُ أنا من أعيش معهما، كم يوماً تألم قلب زوجي من كلامي وعتابي؟ وها هو يرحل ويتركنا مع أُمه كبيرة السن، وأُخته التي كان قلقاً ومُشفقاً على مُستقبلها.

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏

أحبتي في الله.. ذكّرتني هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها مع اختلاف التفاصيل؛ تقول القصة: في جلسةٍ عائليةٍ هادئةٍ قال الزوج لزوجته: "لقد اشتقتُ لأهلي وإخوتي وأولادهم؛ أرجو منك أن تُعدّي غداً طعام الغداء، وسأقوم بدعوتهم اليوم؛ منذ زمنٍ بعيدٍ لم نجتمع"، فقالت الزوجة بتأففٍ: "إن شاء الله يصير خير"، فقال الزوج: "سأقوم إذاً بدعوتهم". في صباح اليوم التالي ذهب الزوج إلى عمله، وفي الساعة الواحدة حضر إلى المنزل وسأل زوجته: "هل أعددتِ طعام الغداء؟ سيحضر أهلي بعد ساعة"، قالت الزوجة: "لا، لم أطبخ؛ لأنّ أهلك ليسوا غُرباء، ويأكلون من الموجود بالبيت"، قال الزوج: "الله يُسامحك، لماذا لم تقولي لي أمس أنك لن تطبخي؟ سيصلون بعد ساعةٍ، ماذا أفعل؟"، قالت الزوجة: "اتصل بهم واعتذر لهم، لا شيء في ذلك؛ هم ليسوا غُرباء، إنهم أهلك". خرج الزوج من المنزل غاضباً، وبعد عدة دقائق إذا بباب المنزل يُطرَق، قامت الزوجة وفتحت الباب، وتفاجأت بأن أهلها وإخوتها وأخواتها وأولادهم يدخلون البيت! سألها أبوها: "أين زوجك؟"، فقالت له: "خرج قبل قليل"، فقال أبوها: "لقد قام زوجك البارحة بدعوتنا إلى طعام الغداء اليوم عندكم، هل من المعقول أن يعزمنا ويغادر المنزل؟!". صُعقت الزوجة بالخبر، وصارت في حيرةٍ من أمرها؛ فإن الطعام الموجود في المنزل لا يليق بأهلها. اتصلت بزوجها وسألته: "لماذا لم تُخبرني بأنك عزمتَ أهلي على الغداء؟"، فقال لها: "أهلي وأهلك لا فرق بينهم"، فقالت له: "أرجوك أن تُحضر معك طعاماً جاهزاً؛ لا يوجد في البيت طعام"، فقال الزوج: "أنا الآن بعيدٌ عن البيت، وهؤلاء أهلك، ليسوا غرباء؛ قدمي لهم الطعام الموجود في البيت!".

 

الدرس المُستفاد من هاتين القصتين هو أن الزوجة في كلتا الحالتين لم تُفكر إلا في نفسها، ولم تلتزم بقاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك)؛ ولو كانت التزمت بها لكان خيراً لها؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

 

وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان قال: [أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ للِه، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللهِ] قيل: وماذا يا رسول الله؟ قال: [وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ].

وقال عليه الصلاة والسلام: [... فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ]. "وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ": أَي ليؤدِّ إِلَيْهِم، وَيفْعل بهم، مَا يُحب أَن يفعل بِهِ. وقال صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]. كما قال: [...وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا...]. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة: [أَتُحِبُّ الْجَنّةَ؟] قال: نعم، قال: [فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ].

يقول أهل العلم إنه مما يُستفاد من هذه الأحاديث: الحث على محبة الخير للغير، وتقوية الروابط بين الناس، وأنّ من خصال الإيمان أن يُحب الإنسان لأخيه ما يُحب لنفسه، بل إنّ الإيمان لا يكمل حتى يُحب المُسلم لأخيه ما يُحب لنفسه من الخير؛ لأن هذا مُقتضى الأُخوة الإيمانية. كما أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وفعل الخيرات، وينقص بالمعصية، وأنّ من الإيمان أن يُبغِض المُسلم لأخيه ما يُبغِض لنفسه من الشر.

إن هذه الأحاديث تقرر حقيقةً فطريةً؛ أنَّ الإنسان يحبُّ الخير لنفسه، وعليه أن يرتقي ويتسامى فيُضيف إلى جانب ذلك حبَّ الخير للآخرين، وهي تُرَغِّبُ فيه فتَعدَّه من كمال الإيمان، وتُقرر أصلاً من أصول رُقيّ المجتمع وسعادته: وهو قاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك) أي أن تُساعد غيرك في بحثه عن سعادته أثناء بحثك عن سعادتك، وبذلك سيجد كل فردٍ في المجتمع من يُساعده في بحثه عن سعادته.

قال العلماء إنّ الإسلام حرص بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى، حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت ذاته شرع لهم ما يُنظم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فردٍ من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط، متين الأساس.

 

قال الشاعر:

الناسُ بالناسِ مادام الحياءُ بهم

والسعدُ لا شكَ تاراتٌ وهباتُ

وأفضلُ الناسِ ما بين الورى رجلٌ

تُقضى على يده للناسِ حاجاتُ

لا تمنعنَ يدَ المعروفِ عن أحدٍ

ما دمتَ مُقتدراً والعيشُ جناتُ

قد ماتَ قومٌ وما ماتت مكارمهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

 

أحبتي.. لتكن قاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك) أساساً لمُعاملاتنا مع الناس؛ فلا نأتيهم إلا بما نُحب أن يؤتى إلينا؛ فنُعاملهم باللُطف واللين وحُسن الكلام، ولا نكذب عليهم، ولا نغشهم، ولا نخدعهم، ولا نُحب لهم الشر؛ فهذا الذي يُزحزِح عن النار ويُدخِل الجنة. ولنجعل هذه القاعدة نبراساً لنا عند تعاملنا مع مَن نعرف ومَن لا نعرف، مع المُسلم ومع غير المُسلم، مع الصغير ومع الكبير؛ فتعم السعادة الجميع وتغشى المحبة قلوب العباد.

اللهم اجعلنا ممن يُشيعون المحبة والسلام والسعادة بين الناس، وحبِّب إلينا حُب الخير للآخرين؛ فأنت سبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3lFS8au