الجمعة، 16 أبريل 2021

جبر الخواطر

 

خاطرة الجمعة /287


الجمعة 16 إبريل 2021م

(جبر الخواطر)

 

صاحبة هذه القصة امرأةٌ كتبت تقول: ﺃﻧﺎ ﻓﺘﺎﺓٌ ﻣﻠﺘﻣﺔٌ ﻣﺘﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻯ ﻋﺎلٍ ﻣ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﻭﺍﻟ،

ﻣﻀ ﺑﻲ ﺍلسنون ﻭﻟ ﻳﺘﻘﻡ ﺃﺣٌ ﻟﺨﺒﺘﻲ، ﻭﺃﻧﺎ أﺭﻯ ﺍﻟﻔﺘﻴﺎﺕ ﺍلأﺻﻐ ﻣﻨﻲ سناً تتزوجن وتنجبن ﺍﻷﻔﺎﻝ، إﻟﻰ أﻥ ﺑﻠﻐُ ﻣ ﺍﻟﻌﻤ 34 ﻋﺎﻣﺎً. ﻭﻓﻲ ﻳﻡٍ ﺗﻘﻡ ﻟﺨﺒﺘﻲ ﺷﺎﺏٌ ﻣ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻛﺒ ﻣﻨﻲ ﺑﻌﺎﻣﻴ، ﻭأﺧﻼﻗﻪ ﻻ ﻏﺒﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻃﺮﺕُ ﻣ ﺍﻟﻔﺡ ﻭﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ، ﻭﺑﺃﻧﺎ ﻧُﻌ لعقد ﺍﻟﻘﺍﻥ، ﻭ خطيبي ﻣﻨﻲ ﺻﺭﺓ بطاقتي ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺣﺘﻰ يجهز الأوراق المطلوبة للعقد، ﻓﺄﻋﻴﺘﻬﺎ ﻟﻪ. ﺑﻌﻫﺎ ﺑﻴﻣﻴ ﻭﺟﺕُ ﻭﺍﻟة خطيبي ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻲ ﻭﺗ ﻣﻨﻲ ﺃﻥ ﺃﻗﺎﺑﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﺃﺳﻉ ﻭﻗٍ.

ذﻫﺒُ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﺇﺫﺍ ﺑﻬﺎ ﺗُﺨﺝ ﺻﺭﺓ ﺑﺎﻗﺘﻲ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻭﺗﺴﺄﻟﻨﻲ: "ﻫﻞ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﻣﻴﻼﺩك ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﻗﺔ ﺻﺤﻴﺢ"؟ ﻓﻘﻠُ ﻟﻬﺎ: "ﻧﻌ"، قاﻟ: "ﺇﺫﺍً ﺃنتِ قاربتِ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺑﻌﻴ ﻋﻤﻙ"، ﻓﻘﻠُ ﻟﻬﺎ: "ﺃﻧﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺍﺑﻌﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼثين"، ﻗﺎﻟ: "ﺍﻷﻣ ﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ؛ ﻓﺄنتِ ﻗ تجاوزتِ ﺍﻟﺜﻼثين، ﻭﻗﻠْ ﻓﺹ ﺇﻧﺠﺎﺑ، ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺭﻳ ﺃﻥ ﺃﺭﻯ ﺃﺣﻔﺎﺩﻱ"! ﻭﻟ ﺗﻬﺃ ﺇﻻ ﻭﻗ ﻓﺴﺨ ﺍﻟﺨﺒﺔ ﺑﻴﻨﻲ ﻭﺑﻴ اﺑﻨﻬﺎ، وربما لم تحس أو تشعر بأنها قد كسرت خاطري!

ﺕ عليّ ﺳﺘﺔ ﺃﺷﻬٍ ﻋﺼﻴﺒﺔٌ؛ ﻛﺄﻧﻲ ﻛﻨُ أحلق ﺑﺎﻟﺴﻤﺎء ثم ﻭﻗﻌُ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ! ﻗﺭ ﻭﺍﻟﻱ ﺃﻥ ﻳﺳﻠﻨﻲ لأداء ﻋُﻤﺓٍ ﻷﻏﺴﻞ ﺣﻧﻲ ﻭﻫﻤﻲ ﻓﻲ ﺑﻴ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺤﺍﻡ؛ ﻓﺴﺎﻓﺕُ ﻭﺟﻠﺴُ ﺑﺎﻟﺤﻡ وصليتُ وﺩﻋتُ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﻳُﻬﻲﺀ ﻟﻲ ﻣ ﺃﻣﻱ ﺭﺷﺍً، ﻭﺑﻌ ﺃﻥ ﺍﻧﺘﻬﻴُ ﻣ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺟﺕُ بالقرب مني ﺇﻣﺃﺓً ﺗﻘﺃ ﺍﻟﻘﺁﻥ ﺑﺼﺕٍ ﺟﻤﻴﻞٍ ﻭﺳﻤﻌﺘﻬﺎ ﺗﺩﺩ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﻳﻤﺔ ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾، فإذا بدﻣﻋﻲ ﺗﺴﻴﻞ ﺭﻏﻤﺎً ﻋﻨﻲ ﺑﻐﺍﺭﺓٍ، ﻓﺠﺑﺘﻨﻲ ﻫه ﺍﻟﺴﻴﺓ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﺿﻤﺘﻨﻲ ﻭﺃﺧﺕْ ﺗﺩﺩ ﻋﻠﻲّ ﻗﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، ﻭﺍﻟﻠﻪِ ﻛﺄﻧﻲ ﺃسمع هذه الآية ﻷﻭﻝ ﻣﺓٍ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻓﻬأت ﻧﻔﺴﻲ. ﺍﻧﺘﻬﺍﺳ ﺍﻟﻌﻤﺓ، ﻭعدتُ إﻟﻰ ﺑﻠﻱ، ﻭﺻﻠْ ﺍﻟﺎﺋﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺎﺭ ﻭﻧُ ﻣﻨﻬﺎ ﻷﺟﻳﻘﺘﻲ ﻭﺯﻭﺟﻬﺎ ﻓﻲ ﺻﺎﻟﺔ ﺍلاﻧﺘﺎﺭ، ﻛﺎﻧﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮﺍﻥ ﺻ ﺯﻭﺟﻬﺎ، ﻭﻟ ﺗﻤِ ﻟﺤﺎﺕٌ ﺇﻻ ﻭﺟﺎﺀ ﺍﻟﺼ ﻓﺴﻠﻤُ ﻋﻠﻴﻬ ﻏﺎﺩﺭﺕُ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﺑﺼﺤﺒﺔ ﻭﺍﻟﻱ. ﻣﺎ إﻥ ﻭﺻﻠُ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻴ ﻭﺑُ ﻣﻼﺑﺴﻲ ﻭﺍﺳﺘُ ﺑﻌ ﺍﻟ ﺣﺘﻰ ﻭﺟﺕُ ﺻﻳﻘﺘﻲ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻲ ﻭﺗﻘﻝ ﻟﻲ ﺃﻥ ﺻ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻣﻌﺠٌ ﺑﻲ ﺑﺸﺓٍ، ﻭﻳ ﻓﻲ ﺧﺒﺘﻲ، ﺧﻔ ﻗﻠﺒﻲ ﻟﻬه ﺍﻟﻤﻔﺎﺟﺄﺓ ﻏﻴ ﺍﻟﻤﺘﻗﻌﺔ. ؤﻟ ﺗﻤِ عدة ﺃﻳﺎﻡٍ ﺣﺘﻰ ﻛﺎﻥ ﻗ ﺗﻘﻡ ﻟﻲ، وبعد ﺷﻬٍ ﻭﻧﺼﻒ ﺍﻟﺸﻬ ﻛﻨﺎ ﻗﻭﺟﻨﺎ، ﻭﻗﻠﺒﻲ ﻳﺨﻔ ﺑﺎﻷﻣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ. ﻭﺑﺃﺕُ ﺣﻴﺎﺗﻲ ﺍﻟﻭﺟﻴﺔ ﻣﺘﻔﺎﺋﻠﺔً ﻭﺳﻌﻴﺓً، وﻭﺟﺕُ ﻓﻲ ﺯﻭﺟﻲ ﻛﻞ ﻣﺎﺗﻤﻨﻴﺘﻪ ﻟﻨﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺟﻞ ﺍﻟﻱ ﺃﺳﻜ ﺇﻟﻴﻪ ﻣٍ ﻭﺣﻨﺎﻥٍ ﻭﻛﻡٍ ﻭﺑٍِ ﺑﺄﻫﻠﻪ ﻭﺃﻫﻠﻲ. ﻏﻴ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻬﺭ ﻣﻀ ﻭﻟ ﻋﻠﻲّ ﺃﻳﺔ علامةٍ من ﻋﻼﻣﺎﺕ ﺍﻟﺤﻤﻞ، ﻭﺷﻌﺕُ ﺑﺎﻟﻘﻠ ﺧﺎﺻﺔً ﺃﻧﻲ ﻛﻨُ ﻗ ﺗﺠﺎﻭﺯﺕُ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺛﻴ، ﻭﻠﺒُ ﻣ ﺯﻭﺟﻲ ﺃﻥ ﺃُﺟﻱ ﺑﻌ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻴﻞ ﻭﺍﻟﻔﺤﺹ ﺧﻓﺎً ﻣ ﺃﻻ ﺃﺳﺘﻴﻊ ﺍﻹﻧﺠﺎﺏ؛ ﻭﺫﻫﺒﻨﺎ ﺇلى ﺒﻴﺒﺔٍ مشهورةٍ ﻷﻣﺍﺽ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻠﺒ ﻣﻨﻲ ﺇﺟﺍﺀ ﺑﻌ ﺍﻟﺘﺤﺎﻟﻴﻞ، ﻭﺟﺎﺀ ﻣ ﺗﺴﻠ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺃﻭﻝ ﺗﺤﻠﻴﻞٍ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺟﺌُ ﺑﻬﺎ ﺗﻘﻝ ﻟﻲ ﺇﻧﻪ ﻻ ﺩﺍﻋﻲ ﻹﺟﺍﺀ بقية التحاليل؛ "ﻣﺒﻭﻙ ﻳﺎﻣﺍﻡ، ﺃنتِ ﺣﺎﻣﻞ"!

ﻣﻀ ﺑﻘﻴﺔ ﺷﻬﺭ ﺍﻟﺤﻤﻞ ﻓﻲ ﺳﻼﻡٍ، ﻭﺇﻥ ﻛﻨُ ﻗ ﻋﺎﻧﻴ ﻣﻌﺎﻧﺎﺓً ﺯﺍﺋﺓً ﺑﺴ ﻛﺒ ﺳﻨﻲ، ﻭﺣُ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺤﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻻ ﺃﻋﻑ ﻧﻉ ﺍﻟﺠﻨﻴ ﻷﻥ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻴﻨﻲ ﺑﻪ ﺭﺑﻲ ﺧﻴٌ ﻭﻓﻀﻞٌ ﻣﻨﻪ. ﻭﻛﻨُ أﺣ ﺑﻜﺒ ﺣﺠﻨﻲ ﻋ ﺍﻟﻤﻌﺘﺎﺩ، وﻓﺴتُ ذلك ﺑﺄﻧﻪ ﻳﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺗﺄﺧﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻤﻞ ﺇﻟﻰ ﺳ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺛﻴ. ﻭﺗﻤ ﺍﻟﻻﺩﺓ، ﻭﻟﻤﺎ ﺃﻓﻘُ ﻣ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻭﺟﺕُ ﺃﻫﻠﻲ ﻭﺃﻫﻞ ﺯﻭﺟﻲ ﺣﻟﻲ ﺟﺎﻟﺴﻴ ﻳﻀﺤﻜ

ﻓﺴﺄﻟﺘﻬ: "ﻣﺎﺫﺍ ﺃﻧﺠﺒ"؟ ﺭﺩﻭا ﺑﺼﺕٍ ﻭﺍﺣٍ: "ﺑﻨٌ ﻭﺻﺒﻲ"، ﻫﻤﺴُ في نفسي: "ﺗﺃﻡ؟! جبرتَ بخاطري يا رب، ما أكرمك"، ﻭﺑﺃﺕ ﺩﻣﻉ ﺍﻟﻔﺡ ﺗﻐﺴﻞ ﻭﺟﻬﻲ، ﻭﺗﺕُ ﺍﻟﻤﺃﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻡ الشريف بمكة وهي تتلو الآية الكريمة: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، وتذكرتُ قول ﺍﻟﺤ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ﻭَﺍﺻْﺒِْ ﻟِﺤُﻜِْ ﺭَﺑَِّ ﻓَﺈِﻧََّ ﺑِﺄَﻋْﻴُﻨِﻨَﺎ﴾.

 

أحبتي في الله .. تقول صاحبة القصة: عندما يُشيع الميت إلى مثواه الأخير يُسأل أهله عما إذا كان عليه دَيْنٌ حتى يسددوه عنه، لكن هناك ديوناً معنويةً من يا تُرى سوف يسددها عنه؟ فمن سوف يسدد ديون من يكسر خاطر أحدٍ في هذه الدنيا؟ لكن الله لطيفٌ بعباده، رؤوفٌ بهم، وهو سبحانه وتعالى الذي يهيئ لهم الخير ويجبر خاطرهم.

 

والجبر كلمةٌ مأخوذةٌ من «الجبار» وهو من أسماء الله الحسني، معناه: "الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ".

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، عن هذه الآية يقول المفسرون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أحب مكة التي وُلد فيها ونشأ أُخرج منها ظلماً، فاحتاج في هذا الموقف الصعب وهذا الفراق الأليم إلى شيءٍ من المواساة والصبر، فأنزل الله تعالى له قرآناً مؤكداً بقسمٍ؛ أن الذي فرض عليك القرآن وأرسلك رسولاً، وأمرك بتبليغ شرعه، سيردك إلى موطنك مكة عزيزاً منتصراً، وهذا ما حصل، والآية بهذا المعنى فيها جبرٌ لخاطر النبي عليه الصلاة والسلام.

وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، فسر العلماء هذه الآية بقولهم إنها رسالةٌ إلى كل مهمومٍ ومغمومٍ، وتسليةٌ لصاحب الحاجة، وفرجٌ لكل من وقع ببلاءٍ وفتنة؛ أن الله يجبر كل قلبٍ لجأ إليه بصدق. ومثلها في ذلك قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾، ففيه كما يقول العلماء أجمل تطييبٍ للخاطر، وأرقى صورةٍ للتعامل؛ فكما كنتَ يتيماً يا محمد -عليك أفضل الصلاة وأزكى السلام-، فآواك الله، فلا تقهر اليتيم، ولا تُذله، بل: طيِّب خاطره، وأحسن إليه، وتلطف به.

 

وكان من دعاء النبي صلي الله عليه وسلم بين السجدتين: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي].

 

يقول أهل العلم إن (جبر الخواطر) من العبادات الخفية، ربما لزهد الناس بها وغفلتهم عنها، ومع ذلك فأجرها يفوق الكثير من العبادات والطاعات، حتى أن أحد العلماء قال عنها: “ما رأيت عبادةً يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.

و(جبر الخواطر) لا يحتاج إلى كثير جهدٍ ولا كبير طاقةٍ؛ ربما يحتاج البعض لمساعدةٍ ماليةٍ، وربما ينتظر البعض قضاء حاجةٍ، لكنهم جميعاً في حاجةٍ إلى المعاملة الحسنة والبشاشة والكلمة الطيبة والابتسامة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ]،

فعلينا أن نجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ونجبر خواطرهم، ولا نبخل على أنفسنا بأعمال بسيطةٍ لها أجرٌ كبيرٌ بإذن الله.

 

أحبتي .. إياكم وكسر الخواطر؛ فإنها ليست عظاماً تُجبر، بل أرواحٌ تُقهر. يقول أحدهم عن (جبر الخواطر): ما أجمل أن نتقصد الشراء من بائعٍ متجولٍ في حر الشمس يُضطر للسير على قدميه باحثاً عن رزقه مساعدةً له وجبراً لخاطره. وما أروع أن نقبل اعتذار المخطئ بحقنا وخصوصاً عندما نعلم أن خطأه غير مقصودٍ وأن تاريخ صحبتنا معه طيبٌ نقيٌ، فالصفح عنه ومسامحته تُطَيِّبُ نَفسه وتَجبرُ خاطره. وتبادل الهدايا بين الأقارب والأصدقاء والأحباب من أجمل ما يُدخل الفرحة للقلب والهناء للنفس وهي سبيل الحب، وبساط الود، وطريق الألفة، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: [تَهادَوْا تَحابُّوا]. كما لا ننسى صاحب الحاجة والمسكين الذي انكسر قلبه وذلت نفسه وضاق صدره، ما أجمل أن نجعل له من مالنا نصيباً، ولو كان قليلاً، بذلك نجبر كسره ونُطيِّب قلبه ولا نُشعره بالنقص.

اللهم اجبرنا يا جبار، واجعلنا ممن يجبرون بخواطر الناس، واجعل ذلك في موازين حسناتنا، وضاعفه لنا وأنت أكرم الأكرمين.

 

https://bit.ly/3e9q1sF

الجمعة، 9 أبريل 2021

ابتغاء وجه الله

 

 

خاطرة الجمعة /286


الجمعة 9 إبريل 2021م

(ابتغاء وجه الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ يرويها شيخٌ كبيرٌ من قبيلة مطير ب«المملكة العربية السعودية»؛ يقول:

كنا في حدود عام 1370هـ رعاة إبلٍ نجوب الصحراء، وصادف ذات يومٍ أن قاربت مؤنتنا على النفاد، ونحن آنئذٍ بالقرب من مدينة «عنيزة». ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏كنا مجموعة رعاةٍ ولم يكن مع أحدٍ منا ريالٌ واحدٌ، وأيضاً – لسوء الحظ – لم يكن معنا ما نقايض به؛ كأن نشتري تمراً أو إقطاً بسمن. اتفق الجميع على أن أنزل وحدي إلى «عنيزة»، وأن أتلمس واحداً من تجارها يُقرضنا إلى حين ميسرة. نزلتُ إلى سوق «عنيزة»، وبدأتُ أتفرس وجوه الرجال أصحاب الدكاكين، بحثاً عن تاجرٍ أتوسم فيه المروءة في ذلك الزمن الشحيح! هفت نفسي إلى رجلٍ منهم، توسمتُ فيه الخير والمروءة، فسلّمتُ عليه، ثم قصصتُ عليه خبري وخبر جماعتي. قال التاجر: "لو كنتَ وحدك لأعطيتك ما يكفيك، ولكنكم جماعةٌ تحتاجون إلى ما لا يقل عن 40 ريالاً، وهذا يضر بتجارتي، فضلًا عن أني لا أعرفك". احترتُ فيما أقول له؛ فحجته قويةٌ، ولا يُرضيني أن أضُّر بِه، وأنا بدويٌ تقذفني الصحراء من فجٍ إلى فجٍ، ولا أدري متى سأعود إليه، عندئذٍ ألهمني الله أن أتذكر محزم الرصاص الذي كنتُ ألبسه؛ فقلتُ: "خُذ هذا المحزم، فيه 10 أمشطة، تساوي 40 ريالًا، هي لك، بعها إن لم أعد بعد شهرٍ إليك". ارتاحت نفس التاجر؛ فقال: "اتفقنا، خذ بقيمة 40 ريالاً ما شئتَ من التمر، وموعدنا بعد شهرٍ: إن عدتَ، وإلا بعتُ هذا المحزم، واستوفيتُ ثمني منه". أخذتُ التمر، وعدتُ إلى رفاقي، ثم -كما هي العادة– دفعتنا الصحراء إلى بطنها؛ فمضى الأجل الذي بيني وبين التاجر، وقلتُ في نفسي: "الرجل أخذ حقه، فلتطب نفسي".

تقلّبت بي الحياة ظهراً لبطن، فتركتُ البداوة، وعملتُ سائقاً في «أرامكو»، ثم صرتُ سائقاً يقوم بتوصيل السيارات الجديدة من الميناء إلى وكالاتها. بعد قرابة 20 سنةً ذهبتُ بحملة سياراتٍ من الميناء إلى «القصيم» لإيصال السيارات إلى وكالة «المشيقح»، كانت السيارات في ذلك الزمن تحتاج إلى التبريد؛ وهو أن تُوقف السيارة فترةً مع رفع غطاء ماكينتها حتى تبرد. توقفنا في أطراف «عنيزة» لتبريد سياراتنا، ونزلتُ أتريض في بعض بساتينها، لقد تغيّرت «عنيزة»، ولك أن تتخيل ماذا فعلت الطفرة بالمدن السعودية. فيما أنا في تلك المزرعة إذ بصاحبها يقترب مني ويُسلم عليّ، فسلمتُ عليه، وأخبرته أننا مجموعةٌ من السائقين نبرّد سياراتنا، وأني دخلتُ أتريض هنا، فقال صاحب المزرعة: "قل لأصحابك ألا يطبخوا شيئاً للغداء، وأخبرهم بأنّ غداءهم عندي هنا في المزرعة". اعتذرتُ قليلاً فألحّ كثيراً. وفيما أنا أتريض معه في المزرعة تذكرتُ قصة محزم الرصاص وذلك التاجر، فقلتُ لصاحب المزرعة: "يا عم؛ لم أزر «عنيزة» منذ 20 سنةً، ولي فيها قصةٌ" ورويتُ له قصتي مع التاجر، سألني الشيخ صاحب المزرعة: "هل تذكر شكل التاجر"؟، قلتُ: "لا"، فقال: "هل تذكر أمارةً فارقةً تُذكرك به"؟، فقلتُ: "بجوار دكانه نخلة"، فقال الشيخ: "وصلتَ، أنا هو ذلك التاجر، وأتى الله بك، فقد كنتُ أنتظرك، وكتبتُ أمرك في وصيتي؛ ذاك أني بعتُ محزم الرصاص بـ 50 ريالاً، وهذا هو ثمنه الحقيقي، فأدخلتُ العشرة ريالات لك في تجارتي، وقد نما لك منها شيء"، ثم سحبني من يدي‏، وأخذني إلى فضاءٍ واسعٍ في المزرعة مليءٍ بالأغنام وقال: "هذه الأغنام كلها لك يا بني، من عشرة ريالاتٍ قبل 20 سنة". اعترتني دهشةٌ من أمانته، فقلتُ: "لا آخذ شيئاً"، فقال: "واللهِ لا أتركك"، فقلتُ: "النصيفة بيننا لترضى"، فقال: "كما تريد، فقد أزاح مجيئك عني هماً طويلاً".

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

أحبتي في الله .. العجب من الاثنين؛ من التاجر لأمانته، ومن صاحب المحزم لسخائه. أما التاجر فقد اتقى الله سبحانه وتعالى، واحتفظ لرجلٍ -لا يعرفه- بحقه، بل ونمَّى له هذا الحق على مدار عشرين عاماً، وقاوم ما يُزينه له الشيطان بوساوسه ونزغه، ولم يكتفِ بذلك؛ بل وإبراءً لذمته كتب هذا الحق وما صار إليه بعد نمائه في وصيته التي تركها لأبنائه! لم يقصد من ذلك إلا (ابتغاء وجه الله)، وجاهد نفسه، وتغلب على شيطانه، أبدله الله خيراً؛ بما أهداه إياه البدوي صاحب المال عن سلامة صدرٍ ورضا نفسٍ وطيب خاطر، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ].

يقول أهل العلم إن هذا الحديث قد اشتمل على ثلاث جُمَل؛ الأولى قوله: [لَنْ تَدَعَ شَيْئًا]، وهذا لفظٌ عامٌ يشمل كل شيءٍ يتركه الإنسان ابتغاءَ وجه الله تعالى. الثانية: قوله: [للهِ -عزَّ وجلَّ-]، هذه الجملة بَيَّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن التَرك لابد أن يكون ابتغاءَ مرضاة الله، لا خوفاً من سُلْطانٍ، أو حَيَاءً من إنسانٍ، أو عدم القدرة على التمكن منه، أو غير ذلك. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: [أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]، وهذه الجملة فيها بيانٌ للجزاء الذي يناله من قام بذلك الشرط، وهو تعويض الله للتارك خيراً بأفضل مما ترك. والعوض من الله قد يكون من جنس المتروك، أو من غير جنسه، ومنه الأنس بالله عزَّ وجلَّ ومحبته وطُمأنينة القلب وانشراح الصدر. ولا يكون الجزاء في الدنيا فقط بل وفي الآخرة أيضاً؛ قال صلى الله عليه وسلم، فيما يَرْوِيه عن ربه: [يقول الله: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أنْ يَعْمَلَ سَيئَةً فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوا لَهُ حَسَنَة، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعُمَائَة].

 

يقول العلماء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما هاجروا تركوا ديارهم وأموالهم (ابتغاء وجه الله) تعالى، فعوَّضهم الله بأن جعلهم قادة الدنيا، وحُكَّام الأرض وفتح عليهم خزائن كِسْرَى وقيصر، مع ما يُرجى لهم من نعيم الآخرة. ومن الصحابة من نزل فيه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

ونبي الله سليمان عليه السلام، من حبه للجهاد في سبيل الله، كانت عنده خيلٌ كثيرةٌ، وكان يحبها حباً شديداً، فاشتغل بها يوماً حتى فاتته صلاة العصر، فغربت الشمس قبل أن يُصلي، فأمر بها فرُدَّتْ عليه، فضرب أعناقها وعراقبيها بالسيوف؛ إيثاراً لمحبة الله عزَّ وجلَّ، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم، فعَوَّضه الله خيراً منها الريح التي تجري بأمره رخاءً حيث أصاب؛ يقول تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾.

ونبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، عُرِضَتْ عليه المغريات في أتم صورها، فاستعصم؛ فعصمه الله، وترك ذلك (ابتغاء وجه الله) عزَّ وجلَّ وفضَّل السجن على ما يدعونه إليه، وصبر واختار ما عند الله فعوضه الله تعالى أحسن العوض؛ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

 

المؤكد إذن أن من ترك شيئاً (ابتغاء وجه الله) عزَّ وجلَّ أثابه الله، إلا أن الثواب قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، وثواب الآخرة مهما قَلَّ، أعظم من الدنيا وما فيها؛ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ: دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا] ومعنى قوله: [حُلَلِ الإِيمَانِ]: يَعْنِى مَا يُعْطَى أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ. وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ].

 

يقول العالمون إن الله عزّ وجلّ خلق الخلق، وفطر عباده من البشر على الطاعة، ولكنّ حكمته البالغة شاءت أن يبتلي ثبات عباده، ويختبرهم في طريق الاستقامة، فوضع لهم الهوى، ونزوح النفس الأمّارة بالسوء للمعصية؛ فتدعو صاحبها إلى الانحراف عن الدين، ووسوسة الشياطين التي تُزيّن للإنسان المعصية وتجمّلها في قلبه؛ فيرتكبها. ويبتليه بمُغرَيات الدنيا وملذّاتها التي تُعظِّم زينة الدنيا في قلب الإنسان، ومن هنا كان العبد في طريق الثبات على الطريق المستقيم أمام أعداء كُثرٍ، ويحتاج في هذا الطريق إلى إيمانٍ عميقٍ بأنّ ما يتركه من عملٍ أو قولٍ (ابتغاء وجه الله) تعالى، يُبدله الله خيراً منه، ويُعوّضه بما يُفرح قلبه.

وإن أهل التقوى والبصيرة لا يأبهون بالعوِض الذي ينالونه في الدنيا، وإنما كل همّهم ومنتهى آمالهم أن ينالوا العوض في الآخرة، بل إنهم إذا أدركوا من ذلك شيئاً في الدنيا، فإنهم يداخلهم الخوف والوجل، يخشون أن يكونوا ممن عُجلت لهم طيباتهم في الدنيا. فما دام العبد قد ترك شيئاً مما نهاه الله عنه، لا يتركه إلا لوجه الله عزَّ وجلَّ فالعوض له محققٌ، وهذا وعدٌ من الله، ولن يُخلف الله وعده. حتى أن أحد الصالحين قال:

"لا يقدر رجلٌ على حرامٍ ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله عزَّ وجلَّ، إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة"، وقيل: "لو اتقى اللهَ السارقُ، وترك سرقة المال المعصوم، لم يفعل ذلك إلا لوجه الله؛ لآتاه الله مثله، بل وخيراً منه، حلالاً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾".

 

أحبتي .. فلينظر كلٌ منا إلى حاله، ماذا يمكن أن يترك من المعاصي (ابتغاء وجه الله)، وليجعل ذلك خبيئةً بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فيثيبه الله في الدارين: الدنيا والآخرة.

يقول واعظٌ: "طهر قلبك من الحسد والغل والحقد والكراهية والبغض وقطيعة الرحم. اترك الكبر والتعالي وغمط الناس حقوقهم. اترك النظر إلى الصور والمقاطع والشاشات المحرمة. اترك السجائر والمخدرات والمسكرات. تُب عن الغيبة والنميمة والكذب. غُض بصرك واتقِ الله في الخلوات. افعل ما استطعت من ذلك، واترك ما استطعت من الخطايا، رجاء ما عند الله تعالى من الأجر والثواب، يوسع صدرك، ويُيسر أمرك، ويزيد رزقك، ويُسعدك في الدنيا والآخرة".

أحبتي .. فلنفر من المعاصي والخطايا كما يفر المرء من عدوٍ يلاحقه، ولنبتعد ونُقلع عنها (ابتغاء وجه الله)، ولنتذكر أنه لا يمنعنا عن تركها والبُعد عنها إلا الكبر أو العند أو تزيين الشيطان.

جعلنا الله ممن يتقونه ويخشونه، ويرجون رضاه ومغفرته، ويطمعون في رحمته ويأملون ثوابه.

 

https://bit.ly/3wH5DaO

الجمعة، 2 أبريل 2021

يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق

 

خاطرة الجمعة /285


الجمعة 2 إبريل 2021م

(يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)

 

سيدةٌ تعمل لدي شركةٍ لتنسيق وتجميل الحفلات في «المملكة العربية السعودية»، تقول إنها ذات يومٍ كان لديها طلب تجهيز صينيتين شوكولاتة من محل راقٍ جداً بمناسبة عقد قران عروس، وكان سعر الصينية الواحدة 800 ريال، في الساعة الثانية ظهراً تسلمت الصينيتين من المحل، وفي الساعة الرابعة عصراً أرسلتهما مع السائق لبيت العروس. تقول السيدة: انتهت المهمة بنجاحٍ، وعند الساعة السادسة مساءً اتصلت أم العروس وسألتني عن الصينيتين، أخبرتها بأني أرسلتهما قبل ساعتين، قالت أم العروس إنه لم يصلهم شيءٌ، والضيوف على وصول! تقول السيدة: جزعتُ واتصلتُ بالسائق وطلبتُ منه الحضور فوراً، ولما حضر ذهبتُ معه إلى البيت الذي وصَّل إليه الصينيتين. عندما وصلنا إلى البيت فإذا هو لعائلةٍ فقيرةٍ جداً عندهم 9 أطفال، اعتدتُ أن أرسل لهم بواقي البوفيهات. تقول السيدة: خرجتُ من السيارة وبابهم مفتوحٌ على مصراعيه، وأمامه الأطفال يلعبون حفاةً في الشارع، ودخلتُ منزلهم فإذا الصينيتين مفتوحتين وفارغتين تماماً وملقتين في حوش البيت، والأطفال أفواههم وثيابهم كلها ملطخة بالشوكولاتة، استعنتُ بالله ولم أنطق ببنت شفة، فهذا رزقهم ساقه الله إليهم، خرجتُ مسرعةً واشتريتُ صينيتي شوكولاتة وجملتهما بالورد الطبيعي وأوصلتهما بنفسي إلى بيت أهل العروس، وأعدتُ لأم العروس باقي الثمن؛ حيث أن الصينيتين الجديدتين لم تكونا بنفس ما طلبت؛ فطلبها يحتاج إلى حجزٍ مسبقٍ ولا يتوفر بديلٌ له. في اليوم التالي اتصلتُ بأم العروس لأعتذر عما حدث، وأحكي لها قصة البيت الذي وصلت إليه الصينيتان بالخطأ؛ فأصرت أن تزور البيت بنفسها وتشتري لهم مؤونةً، ولازالت تتذكرهم بالصدقات حتى اليوم.

فسبحان الله الرازق، (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق) ويُسَخِّرُ الناس بعضهم لبعض، ويرزق بغير حساب.

 

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ مشابهةٍ نقلتها وكالات الأنباء العالمية منذ عدة شهور، وكانت عن مواطنٍ بسيطٍ في دولة «غانا»، يعيش في المناطق الفقيرة، سقطت بجواره طائرة الدرون التابعة لقناة أخبار «ناشونال جيوجرافيك»، بحث أفراد الفريق الصحفي عنها ليتفاجأوا أنها بيده. سلمها لهم وهو يضحك ويقول بكل براءةٍ: "هل لديكم حجمٌ أكبرٌ منها تستطيع أن تأخذني إلى مكة لأحج"؟! قالها ضاحكًا ثم سلمها لهم، ومضوا في حال سبيلهم. قام صّحفيٌ من أعضاء الفريق بالتغريد بالصورة ومعها القصة؛ فوصل الخبر إلى الحكومة السعودية فقررت على الفور تلبية رغبة هذا المواطن البسيط وتحقيق أمنيته، وتواصلت معه السفارة السعودية، ورتبت له جميع الأمور حتى وصل إلى «مكة المكرمة» وأدى فريضة الحج على نفقة المملكة.

فالرزق ليس دوماً مالاً، الرزق أوسع من ذلك كثيراً؛ فسبحان من (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)، وسبحانه ﴿يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

ويُحكى أنه في يومٍ من الأيام كان هنالك شيخٌ عالمٌ وطالبه يمشيان بين الحقول عندما شاهدا حذاءً قديماً؛ فاعتقدا أنه لرجلٍ فقيرٍ يعمل في أحد الحقول المجاورة، وسينهي عمله بعد قليل. التفت الطالب إلى شيخه وقال: "هيا بنا نمازح هذا العامل بأن نقوم بتخبئة حذائه، ونختبئ نحن وراء الشجيرات، وعندما يأتي ليلبسه لا يجده؛ فنرى دهشته وحيرته"، فأجابه العالم الجليل: "يا بُني يجب ألا نسلي أنفسنا على حساب الفقراء، وأنت غنيٌ يمكن أن تجلب لنفسك مزيداً من السعادة بأن تقوم بوضع قطعٍ نقديةٍ بداخل حذائه، ونختبئ نحن ونشاهد مدى تأثير ذلك عليه"، أُعجب الطالب بالاقتراح، وقام بالفعل بوضع عدة قطعٍ نقديةٍ في حذاء ذلك العامل، ثم اختبأ هو وشيخه خلف الشجيرات ليريا ردة فعل ذلك العامل الفقير. بعد دقائق معدودةٍ جاء عاملٌ فقيرٌ رث الثياب بعد أن أنهى عمله في تلك المزرعة ليأخذ حذاءه؛ فتفاجأ عندما وضع رجله اليمنى في الحذاء بأن هنالك شيئاً بداخله، وعندما أراد إخراج ذلك الشيء وجده نقوداً، ووجد نفس الشيء عندما وضع رجله اليسرى في الحذاء، نظر ملياً إلى النقود، وكرر النظر ليتأكد من أنه لا يحلم، بعدها نظر حوله بكل الاتجاهات عله يجد أحداً حوله، وضع النقود في جيبه، وخرَّ على ركبتيه ونظر إلى السماء باكياً، ثم قال بصوت عالٍ يخاطب ربه: "أشكرك يا رب، علمتَ أن زوجتي مريضةٌ، وأولادي جياعٌ لا يجدون الخبز، لقد أنقذتني وزوجتي وأولادي من الهلاك"، واستمر يبكي طويلاً ناظراً الى السماء، شاكراً لهذه المنحة من الله. إنه رزق الله ساقاه له؛ فسبحان من (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)، وسبحان من ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾.

 

ويُحكى أيضاً أنه كان هناك رجلان ذهب بصرهما، جلسا ذات يومٍ على طريق «أم جعفر، زبيدة العباسية» لأنهما يعلمان بكرمها وحرصها على مساعدة الفقراء والمحتاجين، فكان أحد الرجلين يدعو الله عزَّ وجلَّ قائلاً: "اللهم ارزقني من فضلك"، بينما كان الآخر يدعو قائلاً: "اللهم ارزقني من فضل أم جعفر". وكانت «أم جعفر» تعلم بدعاء الرجلين وتسمعهما؛ فكانت ترسل لمن يطلب الفضل والنعمة من الله عزَّ وجلَّ درهمين، بينما ترسل لمن يطلب الفضل منها دجاجةً مشويةً في جوفها عشرة دنانير، فكان في كل يومٍ يبيع صاحب الدجاجة دجاجته لصاحب الدرهمين مقابل درهمين فقط، دون أن يدري أن في جوف الدجاجة عشرة دنانير. واستمر الرجلان على هذا الحال لعدة أيامٍ متتاليةٍ، ثم أقبلت «أم جعفر» عليهما وقالت للرجل الذي يطلب الفضل منها: "أما أغناك فضلنا"؟ فقال الرجل: "وما هو"؟ فقالت: "مائة دينارٍ في عشرة أيام"، فأجابها الرجل متعجباً: "لا، بل دجاجةٌ كنتُ أبيعها لصاحبي بدرهمين"، فقالت «أم جعفر»: "هذا طلب من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من فضل الله فأعطاه الله وأغناه".

إنه هو الله الرزاق (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق)، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.

 

سبحانه وتعالى إذا أراد لك خيراً سخّر لك الدنيا كلها جنوداً لتنفيذ ما كتبه الله لك ولتحقيق أمنياتك. هو الله يرزق النّملة السّوداء على الصّخرة الصّماء في اللَّيْلَة الظلماء، ويرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾.

والرزق ليس كما يتصور البعض؛ مالٌ فحسب، بل الإيمان رزق، والزوجة الصالحة رزق، والذرية البارة رزق، والعلم رزق، ومحبة الناس رزق، والصحة رزق، وكثيرٌ غير ذلك هي من نعم الله سبحانه وتعالى وهي أرزاقٌ للبشر؛ يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

 

صدق الشاعر حين قال:

لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ

في البَحْر رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَوَاحِيهَا

رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ

حَتَّى تُؤدِّي إِلَيْهِ كُلَّ مَا فِيهَا

أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا

لَسَهَّلَ اللهُ في المَرْقَى مَرَاقِيهَا

حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ

فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلاّ سَوْفَ يَأْتِيهَا

 

أحبتي .. كونوا مع الله، وأخلصوا النية له، وألحوا عليه في الدعاء. تعرفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة. حذارِ أن يكون من بيننا من يظن أن الرزق بيد فلانٍ أو علان، أو أن جهده وسعيه هو فقط سبب رزقه، فالرزاق هو الله ذو القوة المتين؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ وهو سبحانه الذي ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾.

ولنتذكر قول رسولنا الكريم ﷺ: [... ولا يحْمِلَنَّكم اسْتِبْطاءُ الرِّزقِ أن تَأخذُوهُ بِمعصيةِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عِندَه إلا بِطاعتِه]. فلنطع المولى عزَّ وجلَّ، ونسعى في طلب الرزق بالحلال، موقنين بأن الرزق هو من عند الله وحده؛ يقول تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ﴾، عسى الله أن يفتح علينا أبواب الرزق فينهمر علينا مدراراً؛ فهو وحده الذي (يُدَبِّر الأمر ويُوزِّع الأرزاق).

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.

 

https://bit.ly/3fCHso6