الجمعة، 24 فبراير 2023

الخبيئة الصالحة

 

خاطرة الجمعة /384


الجمعة 24 فبراير 2023م

(الخبيئة الصالحة)

 

هذه القصة يرويها أحد كبار الأطباء؛ كتب يقول: منذ أكثر من عامٍ مضى، هاتفني والدي -رحمة الله عليه- ليوصيني بأحد أصدقائه القدامى، والذي سيزورني بالعيادة لعرض حالته عليّ، وأضاف والدي أن هذا الرجل واحدٌ من أفضل من عرفهم في حياته، وأنه رجلُ خيرٍ قضى جزءاً كبيراً من حياته في أعمال البر والدعوة، وله أيادٍ بيضاء على الكثير من الناس. جاءني الرجل، واحتفيتُ به إكراماً لوالدي، ولكن الأمر لسوء الحظ كان أكثر استفحالاً من أن يكون له علاجٌ عندي: سرطانٌ مُستشرٍ بالكبد، وجلطاتٌ سرطانيةٌ بالأوعية الدموية المُحيطة بالكبد، مع ارتفاعٍ صارخٍ بدلالات الأورام مصحوبٍ بانهيارٍ كاملٍ لوظائف الكبد. في واقع الأمر، في مثل هذه الحالات، لا نملك طبياً سوى ما يُسمى بالعلاج التحفظي، أو بطريقةٍ أكثر صراحةً، لا نعالج المرض وإنما نعالج الأعراض ونتعامل مع آلام المريض فقط. ما لفت انتباهي حينها هو التماسك الشديد للرجل، مع حقيقة معرفته بتفاصيل حالته، وإدراكه لطبيعة مرضه. ولكنني، وتلطيفاً للأمر، حاولتُ الحديث معه لطمأنته والتخفيف عنه، إلا أنه استشعر ذلك مني فقاطعني بقوله "يا دكتور لا تقلق عليّ، أنا أتيتُ لك فقط كي آخذ بالأسباب، لكن في النهاية المرض والشفاء، والحياة والموت، ليس بأيدينا، وإنما هو بيد المولى عزَّ وجلَّ". انصرف الرجل بعد أن أعطيته بعض الأدوية البسيطة والتعليمات الخاصة، وطلبتُ منه ألا يُمارس عملاً مُرهقاً بعد الآن، وأن يعود إليّ بعد شهرين للمتابعة. في مثل هذه الحالات، غالباً ما لا تتجاوز الفترة المُتوقعة للحياة ثلاثة أشهرٍ، وليتها تمر بدون معاناة، وإنما هي أيامٌ تمضي كالجحيم على المريض وأهله. تمر الأيام والشهور، ونسيتُ الرجل وسط انشغالات الحياة، حتى أتاني مرةً ثانيةً للمتابعة بعد مرور سبعة أشهر. اندهشت عندما علمتُ بقدومه وأنه لا يزال على قيد الحياة، وزاد استغرابي عندما دخل عليّ الغرفة موفور الصحة يمشي على قدميه سليماً مُعافى، طلبتُ منه الصعود إلى سرير الكشف لفحصه بالموجات فوق الصوتية. وكانت المفاجأة؛ أن ذلك المرض الخبيث لا وجود له، مع اختفاء كل ما كان ظاهراً من قبل من علاماتٍ لانتشاره. كَذّبتُ عينيّ، وطلبتُ من الرجل عمل فحصٍ جديدٍ بالأشعة المقطعية ليكون أكثر دقةً، على أن يُجريه في نفس مكان الفحص السابق، وكذلك إعادة عمل وظائف الكبد ودلالات الأورام. في صباح اليوم التالي، تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من أحد أساتذة الأشعة المشهود لهم بالكفاءة، ومن العاملين بالمركز الذي أحلتُ إليه المريض، سألني الأستاذ سؤالاً يبدو غريباً: "دكتور؛ هل أعطيتَ المريض علاجاً للأورام؟"، أجبته بأنني لم أُعطه شيئاً بسبب تأخر حالته وعدم وجود علاجٍ لمثل هذه الحالات، صمت الأستاذ قليلاً وكأنه غير مصدقٍ لما أقول، ثم سألني مرةً ثانيةً إن كنتُ قد أعطيته أحد الأدوية تحت البحث أو أدخلته في إحدى التجارب السريرية لواحدٍ من العقاقير الحديثة، ووعدني بأنه لن يُخبر أحداً عن الأمر، فأجبته مرةً ثانيةً بالنفي، وقلتُ له إنّ مثل هذه الأبحاث ما كانت لتتم بدون علم المريض وموافقته الكتابية المسبقة، صمت مرةً أخرى ثم باح لي بشكوكه: "أخبرني المريض بأنك أعطيته أدويةً من عندك!". تذكرتُ عندها وأخبرتُ الرجل بأنني أعطيتُ المريض بعضاً من العينات المجانية لمُنشطات للكبد ليس لها قيمةٌ حقيقيةٌ في حالته، زادت حيرة الرجل، ثم قال لي: "الحقيقة أنا لا أعرف ماذا أكتب في التقرير؟ لا أجد شيئاً في الأشعة الجديدة، ولولا أنّ الأشعة القديمة عملها المريض عندي، وكنتُ أنا الذي كتبتُ التقرير بنفسي، ما كنتُ صدقت هذا!". ترقبتُ مجيء المريض، والذي بدوره لم يبطئ عليّ وأتاني يحمل نتائج الأشعة والفحوصات. حقيقةً لم أُصدق عينيّ وأنا أرى كل الفحوصات سليمة؛ دلالات الأورام عادت لطبيعتها، ووظائف الكبد جيدةٌ. أخبرتُ الرجل وذويه بالأمر كله، وختمتُ حديثي معه بأنني لا أملك تفسيراً علمياً لما حدث، وأنني أنا من يطلب منه التفسير؛ لم يُبدِ الرجل أي أثرٍ للاندهاش كما توقعتُ، فقط ابتسم وقال لي جملةً واحدةً: "إنّ لي عند الله خبيئةً لم أُخبر أحداً بها؛ فدعوته بها فأكرمني"، ثم انصرف وتركني وأنا لا أستطيع كبح دموعي.

 

أحبتي في الله.. إنها (الخبيئة الصالحة) عبادة الأتقياء الأنقياء الأصفياء البعيدين عن النفاق.

ذكرتني هذه القصة بأخرى أغرب منها؛ كتب صاحبها يقول: أنا أعمل في أكثر من جمعيةٍ خيريةٍ لمُساعدة الفقراء. أسكن في بناءٍ من طابقين، وكل طابقٍ من شقتين؛ طابقٌ لصاحب البناء وابنه، وأنا في الطابق الأخير مع جارٍ آخر، والطابق الأرضي مقسمٌ إلى شققٍ صغيرةٍ يسكن فيها أناسٌ بُسطاء. يأتيني ابن صاحب البناء كل شهرٍ ويُعطيني مبلغاً من المال قائلاً لي: "أعطهم للمستأجرين لأجل أن يدفعوها لوالدي إيجار بيوتهم!". لكن الأغرب أن الأب بعد أن يستلم الأجرة منهم، يأتيني قائلاً خُذ هذه الأجرة واشترِ للمستأجرين مواد تموينيةً ووزعها عليهم. الأب وابنه يطلبا مني أن أقول إنها من الجمعيات الخيرية، لا الأب يعرف أن ابنه يُساعد الناس، ولا الابن يعرف أنّ أباه يُساعدهم، والاثنان يُقدمان هذا الخير في السر!

 

يقول تعالى: ﴿إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ]، كما قال صلى الله عليه وسلم: [الجاهرُ بالقرآنِ كالجاهرِ بالصَّدقةِ، والمسرُّ بالقرآنِ كالمسرِّ بالصَّدقَةِ]، تأكيداً على أن صدقة السِّر أفضل من صدقة العلانية. وجاء من السبعة الذين يُظلّهم الله تعالى يوم القيامة في ظلّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: [ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ]؛ قال العلماء إذا كانت الدمعة في الخفاء لأجل الله ترفع مقام العبد عند ربّه فكيف بغيرها من العبادات؟ كيف بمجاهدة النفس في الخلوات؟ كيف بالصبر عن محارم الله؟ إنها والله لأجورٌ عظيمةٌ من ربٍ كريم. وتظهر أهمية (الخبيئة الصالحة) في تفريج الكُربات وقبول الدعاء؛ ففي حديث أهل الغار الذين سَدّت عليهم الصخرة مخرجه وتقطعت بهم الأسباب، لم ينفعهم إلا التوسل إلى الله بخبايا أعمالٍ صالحةٍ لهم أُحيطت بسياجٍ من الإخلاص والعبودية لله عزَّ وجلَّ، فكانت سبباً لتفريج كُرَبهم وخروجهم من الغار.

 

يقول أهل العلم إن الخبيئة عبادة السرّ والخفاء؛ يؤدّيها العبد في خلوته بينه وبين ربّه جلَّ وعلا، وهي زادٌ للإنسان في آخرته، ولا تكون إلّا من العبد الذي فاض حبّ الله في قلبه، حتى وصل إلى مرحلة إنكار نفسه وإخفاء عمله. ويبتغي العبد من (الخبيئة الصالحة) التجرّد إلى الله سبحانه؛ ليقبل عمله، وتُعدّ دليلاً على صدق العبد وإخلاصه ومحبته لله، ولها أثرٌ بالغٌ على الإيمان به؛ فليس شيءٌ أحبّ إلى الله من (الخبيئة الصالحة) يجعلها العبدُ بينه وبين ربّه، لا تطلعُ عليها الأعين لتمدحها، ولا تسمعها الأذن لتُثني عليها، تفعلها وليس في نيتك إلا الله، واثقاً أنه لا يضيع شيءٌ عنده. إنها (الخبيئة الصالحة) تجارةٌ رابحةٌ مع الله، مُشبعةٌ بالإخلاص، مجبولةٌ بالصدق، محصنةٌ بالكتمان، لا تشوبها شوائب طلب السُمعة والشُهرة، أو التعلّق بالمدح والثناء أو شائبة الرياء. هي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته. إنها كنزٌ من كنوز الحسنات، وعبادةٌ تُبقيها ذُخراً لنفسك يوم تُبلى السرائر.

هي -كما قال أحد الصالحين- صدقةٌ دائمةٌ لا يرصدها الناس، وركعاتٌ في الليل وأهل بيتكَ يحسبونكَ نائماً، ديونٌ تُسددها عن الغارمين، كفالة يتيمٍ لن يعرفَ من كفله إلا يوم القيامة، بئرٌ تحفره لله قد يكون جزاؤه شربةً من يد النبي صلى الله عليه وسلم، دار تحفيظٍ تُنفقُ عليها أنت الذي لم تُسعفكَ ذاكرتكَ لتحفظ يُسخّر الله لكَ من يحفظ فيه وتكتبُ الملائكة في صحيفتك أجرهم جميعاً، منشورٌ تكتبه أو كتابٌ تؤلفه حُباً للهِ ودفاعاً عن دينه يُسخِّرُ الله لكَ آلاف الناس ليحملوه عنكَ ويبلغوه يلفُّ الكرة الأرضية وأنتَ جالسٌ في بيتك، يجعله سُبحانه سبباً لعودة تائبٍ ومواساةً لمحزونٍ وجبراً لمكسورٍ وهدايةً لحيران.

من أعظم أعمال السر وأحبها إلى الله، وأنفعها لصاحبها: صلاة النافلة وخاصةً صلاة الليل، وقد امتدح الله أصحابها وأثابهم عليها من جنس عملهم؛ يقول تعالى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

كما أن الصيام من أعظم عبادات السر؛ لذا عظّم الله أجره؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له قال الله تعالى إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ].

(الخبيئة الصالحة) هي في الحقيقة صكُّ براءةٍ من النِّفاق والرِّياء، فلا يُمكن أن يُخالط الرِّياء وحبُّ الظُّهور العملَ الخفيَّ، كما لا يُمكن أن يتسلَّل النِّفاق إلى العمل الخالص لوجه الله.

 

ومن المُفارقات المُؤسفة أنه بدلاً من السعي لفعل (الخبيئة الصالحة) فإنّ الكثير من الناس لهم خبيئة سوءٍ؛ يفعلون في السر ما يُغضب الله سبحانه وتعالى، يبارزونه بالمعاصي والخطايا وفعل الذنوب والسيئات وارتكاب الموبقات، وهؤلاء يقول تعالى فيهم: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ وتنتهي الآية الكريمة بالتذكير: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾.

 

أحبتي.. صدق من قال عن (الخبيئة الصالحة) إنها زورقٌ مَن ركبه نجا، وعبادةٌ من اعتادها طَهُر قلبُه ورقّت نفسُه وتعودت الإخلاص، إنها العبادة في السر والطاعة في الخفاء، حيث لا يعرفك أحدٌ، ولا يعلم بك أحدٌ غير الله سبحانه، تُقدم العبادة له وحده، غير عابئٍ بنظر الناس إليك، وغير منتظرٍ لأجرٍ منهم أو شكرٍ أو مدحٍ أو استحسانٍ أو إعجابٍ. إن كثيراً من الذين أدهشهم عطاء‏ الله كانوا ممن يستغفرونه في الخفاء. فليكن كلٌ منا تقياً خفياً؛ وكما نصحني صديقٌ عزيزٌ قال: "ليكُن لكَ خَبيئة! فعلةُ خيرٍ لا يَعلمُها سِواك ومَنْ سَوَّاك، هذهِ الخَبيئة ستكُون لك -بإذن الله- حِرزاً من كلِّ ضررٍ وخَطرٍ، سَترفعُك إذا سَقطتَ، وتُقدِّمك إذا رَجعتَ، ستجدُ حلاوتَها في نفسِك، وبركَتها في أيَّامك، وإن لم تَنل ثمَرتَها في الدُّنيا، فترقَّبها في الآخرة، وما أحوجَك إليهَا حِينئذ".

اللهم يا من تعلم علانيتنا وسرنا، يا من ترى وتسمع ما نعمل وما نقول، وتعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك في السر والعلن.

 

https://bit.ly/3m2Mm2W

 

 

الجمعة، 17 فبراير 2023

حِب لأخيك ما تُحب لنفسك

 

خاطرة الجمعة /383


الجمعة 17 فبراير 2023م

(حِب لأخيك ما تُحب لنفسك)

 

تحكي امرأةٌ حكايتها فتقول: تزوجتُ من رجلٍ صالحٍ عشتُ معه حياةً سعيدةً، رزقتُ منه بثلاثة أطفالٍ، نسكن بمدينةٍ وأهل زوجي يسكنون بمدينةٍ أخرى. وفي يومٍ من اﻷيام وقع حادثٌ مؤلمٌ ﻷهل زوجي؛ توفي أبوه وإخوته، وبقيت أُمه وواحدةٌ من أخواته أُصيبت بإعاقة. كان الحزن يُخيّم على الجميع. مرت اﻷيام، وبدأ الحُزن يتلاشى كعادة البشر، ولكن الهم أصبح مُلازماً لزوجي، يشعر بمسؤوليته التامة عن أُمه وأخته، طلب مني أن تسكنا معنا وأن نراعي أخته المُعاقة ﻷن والدته أصبحت كبيرةً في السن، ضاقت بي الدنيا بما رحبت واعترضتُ؛ فقال: "سوف تُنهي أُختي علاجها، ربما بعد سنةٍ، ثم تسكن معنا؛ فليس لها بعد الله إلا أنا". عشنا أيام نكدٍ كلما أتذكر أنهما ستعيشان معي أتضايق وأفكر؛ كيف آخذ راحتي؟ كيف تكون لي خُصوصية؟ كيف يزورني أهلي؟ وكلما قرب الموعد زادت هواجسي وزاد النكد مني لزوجي، وبعد سنةٍ أراد الله أن يستمر علاج أخت زوجي سنةً أخرى؛ لم أشعر بالفرح ﻷنني سأظل أترقب وتزول كل سعادةٍ تلوح لي.

لكن حصل ما لم يكن بالحُسبان، حصل ما لم يخطر لي على بال؛ فقد تُوفي زوجي إثر حادثٍ أليمٍ؛ مما جعلني -مرغمةً- أحمل حقائبي وأولادي لأعيش مع أم زوجي وابنتها، وأقوم أنا وأولادي بخدمتهما، نادمةً على عدم حبي لهما ما كنتُ أحب لنفسي لو أني كنتُ مكانهما. كم من اﻷيام حرمتُ نفسي وزوجي السعادة خوفاً من أن تعيشا معي؟ فأصبحتُ أنا من أعيش معهما، كم يوماً تألم قلب زوجي من كلامي وعتابي؟ وها هو يرحل ويتركنا مع أُمه كبيرة السن، وأُخته التي كان قلقاً ومُشفقاً على مُستقبلها.

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏

أحبتي في الله.. ذكّرتني هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها مع اختلاف التفاصيل؛ تقول القصة: في جلسةٍ عائليةٍ هادئةٍ قال الزوج لزوجته: "لقد اشتقتُ لأهلي وإخوتي وأولادهم؛ أرجو منك أن تُعدّي غداً طعام الغداء، وسأقوم بدعوتهم اليوم؛ منذ زمنٍ بعيدٍ لم نجتمع"، فقالت الزوجة بتأففٍ: "إن شاء الله يصير خير"، فقال الزوج: "سأقوم إذاً بدعوتهم". في صباح اليوم التالي ذهب الزوج إلى عمله، وفي الساعة الواحدة حضر إلى المنزل وسأل زوجته: "هل أعددتِ طعام الغداء؟ سيحضر أهلي بعد ساعة"، قالت الزوجة: "لا، لم أطبخ؛ لأنّ أهلك ليسوا غُرباء، ويأكلون من الموجود بالبيت"، قال الزوج: "الله يُسامحك، لماذا لم تقولي لي أمس أنك لن تطبخي؟ سيصلون بعد ساعةٍ، ماذا أفعل؟"، قالت الزوجة: "اتصل بهم واعتذر لهم، لا شيء في ذلك؛ هم ليسوا غُرباء، إنهم أهلك". خرج الزوج من المنزل غاضباً، وبعد عدة دقائق إذا بباب المنزل يُطرَق، قامت الزوجة وفتحت الباب، وتفاجأت بأن أهلها وإخوتها وأخواتها وأولادهم يدخلون البيت! سألها أبوها: "أين زوجك؟"، فقالت له: "خرج قبل قليل"، فقال أبوها: "لقد قام زوجك البارحة بدعوتنا إلى طعام الغداء اليوم عندكم، هل من المعقول أن يعزمنا ويغادر المنزل؟!". صُعقت الزوجة بالخبر، وصارت في حيرةٍ من أمرها؛ فإن الطعام الموجود في المنزل لا يليق بأهلها. اتصلت بزوجها وسألته: "لماذا لم تُخبرني بأنك عزمتَ أهلي على الغداء؟"، فقال لها: "أهلي وأهلك لا فرق بينهم"، فقالت له: "أرجوك أن تُحضر معك طعاماً جاهزاً؛ لا يوجد في البيت طعام"، فقال الزوج: "أنا الآن بعيدٌ عن البيت، وهؤلاء أهلك، ليسوا غرباء؛ قدمي لهم الطعام الموجود في البيت!".

 

الدرس المُستفاد من هاتين القصتين هو أن الزوجة في كلتا الحالتين لم تُفكر إلا في نفسها، ولم تلتزم بقاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك)؛ ولو كانت التزمت بها لكان خيراً لها؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

 

وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان قال: [أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ للِه، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللهِ] قيل: وماذا يا رسول الله؟ قال: [وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ].

وقال عليه الصلاة والسلام: [... فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ]. "وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ": أَي ليؤدِّ إِلَيْهِم، وَيفْعل بهم، مَا يُحب أَن يفعل بِهِ. وقال صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]. كما قال: [...وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا...]. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة: [أَتُحِبُّ الْجَنّةَ؟] قال: نعم، قال: [فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ].

يقول أهل العلم إنه مما يُستفاد من هذه الأحاديث: الحث على محبة الخير للغير، وتقوية الروابط بين الناس، وأنّ من خصال الإيمان أن يُحب الإنسان لأخيه ما يُحب لنفسه، بل إنّ الإيمان لا يكمل حتى يُحب المُسلم لأخيه ما يُحب لنفسه من الخير؛ لأن هذا مُقتضى الأُخوة الإيمانية. كما أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وفعل الخيرات، وينقص بالمعصية، وأنّ من الإيمان أن يُبغِض المُسلم لأخيه ما يُبغِض لنفسه من الشر.

إن هذه الأحاديث تقرر حقيقةً فطريةً؛ أنَّ الإنسان يحبُّ الخير لنفسه، وعليه أن يرتقي ويتسامى فيُضيف إلى جانب ذلك حبَّ الخير للآخرين، وهي تُرَغِّبُ فيه فتَعدَّه من كمال الإيمان، وتُقرر أصلاً من أصول رُقيّ المجتمع وسعادته: وهو قاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك) أي أن تُساعد غيرك في بحثه عن سعادته أثناء بحثك عن سعادتك، وبذلك سيجد كل فردٍ في المجتمع من يُساعده في بحثه عن سعادته.

قال العلماء إنّ الإسلام حرص بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى، حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت ذاته شرع لهم ما يُنظم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فردٍ من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط، متين الأساس.

 

قال الشاعر:

الناسُ بالناسِ مادام الحياءُ بهم

والسعدُ لا شكَ تاراتٌ وهباتُ

وأفضلُ الناسِ ما بين الورى رجلٌ

تُقضى على يده للناسِ حاجاتُ

لا تمنعنَ يدَ المعروفِ عن أحدٍ

ما دمتَ مُقتدراً والعيشُ جناتُ

قد ماتَ قومٌ وما ماتت مكارمهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

 

أحبتي.. لتكن قاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك) أساساً لمُعاملاتنا مع الناس؛ فلا نأتيهم إلا بما نُحب أن يؤتى إلينا؛ فنُعاملهم باللُطف واللين وحُسن الكلام، ولا نكذب عليهم، ولا نغشهم، ولا نخدعهم، ولا نُحب لهم الشر؛ فهذا الذي يُزحزِح عن النار ويُدخِل الجنة. ولنجعل هذه القاعدة نبراساً لنا عند تعاملنا مع مَن نعرف ومَن لا نعرف، مع المُسلم ومع غير المُسلم، مع الصغير ومع الكبير؛ فتعم السعادة الجميع وتغشى المحبة قلوب العباد.

اللهم اجعلنا ممن يُشيعون المحبة والسلام والسعادة بين الناس، وحبِّب إلينا حُب الخير للآخرين؛ فأنت سبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3lFS8au

الجمعة، 10 فبراير 2023

تقوى الله

 

خاطرة الجمعة /382


الجمعة 10 فبراير 2023م

(تقوى الله)

كتب يقول: ذهب الزملاء للسهر وبقيتُ في الفندق مع زميلي، قلتُ له: "ما رأيك في التجول في شوارع جنيف؟"، قال: "أنا رجلٌ كبيرٌ في السن ومريضٌ؛ أخشى من التعب"، قلتُ له: "عندما تُحس بالتعب نأخذ سيارة أجرة ونعود إلى الفندق". بعد تجوال ساعةٍ، والاستمتاع ببحيرة جنيف وليلها الناعش، أحسّ صاحبي بالتعب، أخذنا سيارة أجرةٍ لنعود إلى الفندق، وأعطينا السائق عنوانه. وفيما كنا نتحدث، التفت إلينا السائق، وكان وجهه يلمع من شدة سواده، وتكلم بكلمتين لم نفهمهما. "أقول لكما: السلام عليكم"، رددنا السلام، ثم سألناه عن حاله، فقال: "أنا مثلكم، مسلمٌ، من السنغال. هل تتكلمون الفرنسية أو الإنكليزية؟"، قلتُ: "نعم؛ نتكلم الفرنسية".

انطلق لسانه يتحدث بالفرنسية في طلاقةٍ. وكان مما قال: "جيء بي إلى هنا من بلدي في السنغال وأنا صبيٌ صغيرٌ، وكنتُ أعرف شيئاً من اللغة العربية، لأنني مسلمٌ ولا تجوز الصلاة إلا باللغة العربية، وإلا فكيف نقرأ الفاتحة؟ كيف نقرأ القرآن؟ سألته: "هل تحفظ شيئاً من القرآن؟"، أجاب: أحفظ بعض السور، مثل: سورة الكهف، وسورة يوسف، وسورة الدخان، وسورة ياسين، وسورة الرحمن، وسورة الواقعة، وجزء تبارك، وجزء عم، وسورة السجدة، وسورة الإنسان". قلتُ: "ما شاء الله ما شاء الله". قال: "وأحفظ أربعين حديثاً نبوياً". كان يتحدث وهو مُلتفتٌ نحونا، وكأنه أحس أننا قلقان من التفاته؛ أوقف السيارة ثم قال: "ما رأيكما في الذهاب معي إلى البيت؟"، سألته: "هل تعيش وحدك؟"، أجاب: "بل أنا متزوجٌ من امرأةٍ سويسريةٍ، بيضاء، ولي منها أربعة أبناءٍ: محمد، وأبو بكر، وعمر، وعلي"، سألته: "لماذا لم تُسمِّ عثمان؟"، رد بسرعةٍ: "لأن اسمي عثمان"، قلتُ: "وامرأتك مسلمة؟"، قال: "طبعاً مسلمةٌ؛ لم أتزوجها إلا بعد أن أسلمت، وهي تُصلي، وتحفظ بعض السور، وتُعلم أبناءنا الصلاة، والقرآن، واللغة العربية، وهي مُحجبةٌ، وتتقيد بتعاليم الإسلام". سألته: "والآن تعمل سائقاً؟!"، أجاب: "أعمل كل عملٍ يدرُّ عليَّ رزقاً حلالاً"، ثم برقت عيناه، ورقصت السعادة في مُحياه، وهو يقول: "مهنة السياقة جرَّت عليَّ كلَّ الخير الذي أنا فيه"، سألته: "كيف؟"، ردّ قائلاً: "ذات مرةٍ صعدت فتاةٌ وأمها معي في السيارة، أوصلتهما إلى بيتهما، كانت آخر توصيلة لي في تلك الليلة؛ فعدتُ إلى بيتي. عندما نزلتُ من السيارة، لمحتُ شيئاً يلمع في المقعد الخلفي، كانت محفظةً نسائيةً، فتحتها لأعرف صاحبتها، وإذا فيها أسورةٌ ذهبيةٌ، وعقدٌ من اللؤلؤ، وبعض النقود، ولم يكن فيها ما يدل على صاحبتها"، سألته: "فماذا فعلتَ؟"، قال: "عدتُ إلى المكان الذي نزلتا فيه، ونمتُ في سيارتي أمام باب العمارة، وفي الساعة السابعة والنصف صباحاً خرجتْ الأم وابنتها من باب العمارة، وهما ملهوفتان، فأسرعتُ إليهما، وأعطيتهما المحفظة، واعتذرتُ عن تأخري في إعادتها، لأنني لم أجد في المحفظة شيئاً يدل على صاحبتها، وعمارتكم فيها عدة شُقق، ولم أُرد إزعاج أصحابها في ذلك الوقت المتأخر من الليل، وقد يُسببون لي أذىً، فأمثالي من السود مُتهمون دائماً بالقتل والاغتصاب والسرقة، فنمتُ في سيارتي أمام العمارة في انتظار خروجكما. قلتُ لهما ذلك، والأم تُفتش في المحفظة مخافة أن أكون سرقتُ شيئاً منها، ولمّا وجدتْ كل شيءٍ فيها، هجمتْ عليّ وقبّلتني، وأنا مُندهشٌ من تصرفها. شكرتني كثيراً، ثم دعتني لشرب شيءٍ عندهما، فاعتذرتُ، أخذتْ الأم اسمي ورقم هاتفي، وتركتُهما وانطلقتُ أسعى لكسب رزقي الحلال". سألته عن زواجه، وكيف تم؛ أخذ نفساً عميقاً، والسعادة ملء قسمات وجهه، قال: "بعد أيامٍ اتصلتْ بي تلك الفتاة، ودعتني باسمها واسم أمها إلى العشاء عندهما، ورجتني أن أُلبي الدعوة، فلبيتُ الدعوة. ونحن على العشاء، قالت الأم: "سألنا عنك، وعرفنا أن سيرتك سليمةٌ، ولستَ من أصحاب السوابق، ولم ترتكب أية مخالفةٍ تُخلّ بالقانون أو بالآداب العامة، وعرفنا أنك أعزبٌ لم تتزوج، وأنك عفيفٌ، وليس لك صلاتٌ بالنساء الساقطات". كانت الأم تتحدث وأنا مُستغربٌ من حديثها؛ فما لي ولهذا الكلام؟ ماذا تريدان مني حتى تسألا عني؟ ويبدو أنهما أدركتا ما يجول في نفسي؛ قالت الأم: "زوجي مات وتركني أنا وبنتي هذه، علمتها، وسوف تتخرج طبيبةً هذا العام، وأُريد أن أزوجها من شابٍ عفيفٍ شريفٍ أمينٍ، ونحن سألنا عنك، وأرغب أن أزوجك بُنيّتي هذه". أفقتُ من ذهولي، وقلتُ لها: "ماذا تقولين؟"، قالت: "تشاورنا أنا وجانيت –وأشارت إلى بنتها– وقلَّبنا الأمر على وجوهه، وقررنا أن نعرض عليك الزواج منها؛ عندنا بيتٌ، ولا تحتاج إلى شيءٍ، أنت تعمل بسيارتك، وأنا أصرف على بنتي حتى تُنهي دراستها"، سألته: "وماذا كان ردك؟"، أجاب: "قلتُ لهما: أنا مسلمٌ، وأريد أن تكون أم أولادي مسلمةً"، قالت الأم: "هناك مسلمون مُتزوجون من مسيحياتٍ؛ دينكم يسمح بذلك"، قلتُ: "هذا صحيحٌ، ولكني أريد أن تكون أم أولادي مسلمةً"، نظرتْ الأم إلى ابنتها جانيت وفهمتْ منها شيئاً ثم قالت: "لا بأس.. نحن متدينتان ولنا جيرانٌ مسلمون، وهم ناسٌ طيبون جداً، ومستقيمون، وعلمنا منهم أن دينكم يعترف بالسيد المسيح نبياً، ويعترف بأمه السيدة مريم، ويعترف بالدين المسيحي، وأن دينكم يأمركم بالاستقامة، وكانوا يُسمعوننا القرآن من مُسجلٍ لديهم، كان اسم القارئ عبد الباسط، وقد أحببناه وعندنا شريطٌ نسمعه دائماً أنا وبنتي، سوف نفكر في الأمر"، وتواعدنا أن نلتقي في يومٍ آخر.

في اليوم المُحدد جئتُ حسب الموعد، فقرأتُ الفرح في عيونهما، وأخبرتاني أنهما مُستعدتان للإسلام، قلتُ: "بقي شرطٌ أخير"، سألاني مندهشتين: "ما هو؟"، قلتُ: "أنا الذي يُنفق على فاطمة حتى تُنهي دراستها"، سألتْ جانيت في شيءٍ من الخوف: "مَن هي فاطمة؟"، قلتُ: "أنتِ منذ الآن فاطمة". نهضتْ فاطمة، وهجمتْ عليَّ تريد أن تفعل شيئاً.. أستغفر الله.. لا أدري ماذا كانت تريد.. فأوقفتها وأبعدتها عني. فقالت والدموع ملء عينيها الخضراوين: "أنا منذ الآن مسلمةٌ، واسمي فاطمةٌ، وأنت زوجي وأخي، وأبي، وكل شيءٍ في حياتي". كان عثمان يتحدث بانفعالٍ، وعندما رفع رأسه كانت دموعه تغسل خديه، ثم قال: "عندما تزوجتها كانت في السنة الأخيرة من كلية الطب، وتابعت دراستها وهي الآن طبيبةٌ. هذه هي حكاية زواجي.. أفلا تذهبان معي لتباركا لي هذا الزواج الذي عمره الآن اثنا عشر عاماً؟"، قلتُ: "بلى، ولكننا نريد أن نعود إلى الفندق لأن زميلي تعبانٌ ويُريد أن يستريح".

 

أحبتي في الله.. إنها (تقوى الله)، تجعل المسلم حريصاً دائماً على أن يكون أميناً صادقاً يُحسن معاملة الناس، يعتز بدينه ويفخر بانتمائه إليه، ويدعو له بسلوكه ومعاملاته وأخلاقه.

ومن اتقى الله بإخلاصٍ وأحسن العمل يفي الله سبحانه بوعده له بأن يجعل له من كل ضيقٍ مخرجاً ويوسع رزقه ويفتح عليه أبواب رزقٍ لم يكن يتوقعها؛ فهذا أحد الشباب من الذين ذهبوا للدراسة في أوروبا يحكي لنا عن رجلٍ من الأوروبيين أسلم وحسُن إسلامه وصار حريصاً على تطبيق شعائر الإسلام كلها، حريصاً على أن يُظهر إسلامه ويعتز به أمام الجميع دون خجلٍ أو حياءٍ أو ترددٍ، حتى ولو لم تكن هناك مناسبةٌ. يقول: أُعلن في إحدى المؤسسات عن فرصةٍ وظيفيةٍ فتقدم لها هذا المسلم الفخور بإسلامه، وكان لابد من المقابلة الشخصية، والتنافس قائمٌ على هذه الوظيفة، فلما بدأت المقابلة سألته اللجنة الخاصة بالمؤسسة عدة أسئلة كان منها: "هل تشرب الخمر؟" فأجاب قائلاً: "لا أشرب الخمر؛ لأني أسلمتُ وديني يمنعني من مُعاقرة الخمر وشُربها". ثم سُئل: "هل لك خليلاتٌ وصديقات؟" قال صاحبنا: "لا؛ لأن ديني الإسلام الذي انتسب إليه يُحرِّم عليّ ذلك، ويقصر علاقتي على زوجتي التي نكحتها بمقتضى شريعة الله عزَّ وجلَّ". خرج من المقابلة وهو يائسٍ من أن ينجح في هذه المسابقة، ولكن النتيجة أن جميع المتسابقين -وكان عددهم كبيراً- فشلوا ونجح هو وحده في هذه المسابقة؛ فذهب إلى مسئول اللجنة وسأله قائلاً: "كنتُ أنتظر أن تحرموني من هذه الوظيفة عقاباً لي على مُخالفتي لكم في دينكم وعلى اعتناق الإسلام، ولكني فوجئتُ بقبولي، فما سر ذلك؟"، قال المسئول: "إن المرشح لهذه الوظيفة يُشترط فيه أن يكون شخصاً مُنتبهاً في جميع الحالات، حاضر الذهن، والشخص الذي يتعاطى الخمر، وتشغله الخليلات لا يُمكن أن يكون كذلك؛ فكنا نترقب شخصاً من الذين لا يشربون الخمر ولا يشغلهم عن التركيز في العمل شاغلٌ، ونظراً لتوفر هذا فيك فقد وقع الاختيار عليك لهذه الوظيفة.

لم يمنع هذا المسلم من أن يكذب أو يُخفي أمره أو يتلاعب بالألفاظ إلا (تقوى الله)؛ فما كان من بركة الله للمُتقين أمثاله إلا التيسير والرزق من حيث لا يحتسبون؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

قال المفسرون لهذه الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ أي أن كل من اتقى الله تعالى، ولازم مرضاته في جميع أحواله، واتقاه في كل ما يأتي وما يذر، يجعل له الله مخرجاً من هموم الدنيا والآخرة، ومن المضايق والغموم، ويُفرِّج عنه ما يعتريه من الكروب، ويُثيبه في الدنيا والآخرة، ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجاً ومخرجاً من كل شدةٍ ومشقةٍ، ومن كل شيءٍ يضيق على الناس، ويجعل له من أمره يُسراً. أما ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ فمعناها أنه عزَّ وجلَّ يرزقه فرجاً ويُخلف عليه، ويُخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، يرزقه الثواب، ويسوق له الرزق من وجهٍ لا يحتسبه، ولا يشعر به، ولم يخطر بباله، ويُبارك له فيه.

 

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [إِنِّي لأَعْلَمُ آيَةً لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتْهُمْ] وقرأ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ﴾ وظل يقرؤها ويُعيدها. وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال: [مَخرجاً مِن شُبُهاتِ الدُّنْيا ومن غمراتِ الْموْتِ ومِن شدائدِ يوْمِ الْقِيامة]. وسُئِلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن أكثرِ ما يُدْخِلُ الناسَ الجنةَ؟ فقال: [تَقْوَى اللهِ وحُسْنُ الخُلُقِ].

 

يقول العلماء إنّ للتقوى في الإسلام منزلةً عظيمةً، فهي أساس الدين، ولا تقوم الحياة إلاّ بها، ولا صلاح للإنسان إلاّ بها، فهي كنزٌ عظيمٌ إن ظفر به الإنسان وجد فيه الخير الكثير، والفوز الكبير؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾، وبها وصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه رضي الله عنهم، والأمّة الإسلامية جميعها في حجّة الوداع فقال: [أُوصيكم بتقوى اللهِ]. و(تقوى الله) خشيته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وعبادته عن خوفٍ من عقابه، ورغبةٍ في ثوابه، وعن محبةٍ صادقةٍ له ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم.

 

قيل عن (تقوى الله) إنها "رأس كل شيء"، وهي "الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". وهي "أن يُطاع الله فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا ينسى"، وهي "أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وتترك المعاصي على نورٍ من الله، مخافة عقاب الله"، وهي "ما وقر في القلب، وصدقه القول والفعل"، وهي "اتخاذ وقايةٍ من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه"، و"ما زالت التقوى بالمتقين، حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام"، و"إن أتقيتَ الله كفاك الناس, وإن اتقيتَ الناس لم يُغنوا عنك من الله شيئاً"، و"لا زاد أفضل من التقوى"، و"المعونة من الله تنزل بحسب التقوى، فالزموا (تقوى الله) يُعنكُم وينصركم على عدوكم".

 

وعن (تقوى الله) قال الشاعر:

‏ تَزَوَّد مِنَ التَّقوَى فَإِنَّكَ لَا تَدرِي

إِذَا جَنَّ لَيلٌ هَل تَعِيشُ إِلَى الفَجرِ

فَكَمْ مِن فَتَىً أَمسَى وَأَصبَحَ ضَاحِكَاً

وَقَد نُسِجَت أَكفَانُهُ وَهُوَ لَا يَدرِي

وقال آخر:

وَلاَ يَصدُّ عن التقوى بصيرتَهُ

لأنها للمعالي أوضحُ السُّبُلِ

فمنْ تكنْ حُللُ التقوى ملابسَهُ

لمْ يخشَ في دهرهِ يوماً مِن العَطَلِ

وقال ثالثٌ:

إذا أنتَ لَمْ تَلبِسْ لِباساً مِن التُقى

تَقلبتَ عُرياناً وإنْ كنتَ كاسياً

 

وكما أن من يتقي الله، يجعل له فرجاً ومخرجاً، فمن لا يتقيه يقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعاتها؛ فمن لا يلزم التقوى يتخلى عنه الله سبحانه وتعالى فيكله إلى نفسه، فيصير هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.

 

أحبتي.. يقول تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ﴾ فلنتخذ التقوى لباساً لنا؛ ففيها كل خيرٍ لنا في الدنيا والآخرة، يكفينا من هذا الخير أوفره وأعمّه وأشمله وأفضله وهو معية الله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى في ثلاثة مواضع مُختلفة للتأكيد: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾؛ معهم بالعون والنصر والتأييد والتوفيق، ومَن كان الله معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوءٍ، ومن كان مع الله قضى الله سبحانه له حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرّغ قلبه لمحبته. إن معية الله موجبةٌ للسعادة في الدارين: الدنيا والآخرة. فلنتقي الله ونكون له كما يُريد يكن لنا فوق ما نُريد، وليكن هذا الوعد الرباني حاضراً في حِسّنا وأذهاننا دائماً: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُ مَخۡرَجٗا، وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِب، وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُه﴾.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها وأنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

https://bit.ly/3If07UM

 

 

الجمعة، 3 فبراير 2023

حُب الدنيا

 

خاطرة الجمعة /381


الجمعة 3 فبراير 2023م

(حُب الدنيا)

يُحكى أنّ فتىً قال لأبيه: "أريد الزواج من فتاةٍ رأيتها؛ وقد أعجبني جمالها وسحر عيونها"، فرد عليه وهو فَرِحٌ ومسرورٌ وقال: "أين هذه الفتاة حتى أخطبها لك يا بُنيّ؟"، فلما ذهبا ورأى الأب الفتاة أُعجب بها وقال لابنه: "اسمع يا بُنيّ؛ هذه الفتاة ليست لك، وأنت لا تصلح لها؛ هذه يستحقها رجلٌ مثلي له خبرةٌ في الحياة ويُعتمد عليه". اندهش الولد من كلام أبيه وقال له: "كلا؛ بل أنا الذي سيتزوجها يا أبي وليس أنت". تخاصما وذهبا إلى مركز الشرطة ليحل ضباطه لهما المشكلة؛ وعندما قصا للضابط قصتهما قال لهما: "احضرا الفتاة لكي نسألها من تُريد الابن أم الأب؟"؛ فلما رآها الضابط انبهر بحُسنها وفتنتها وقال لهما: "هذه لا تصلح لكما؛ بل تصلح لشخصٍ مرموقٍ في البلد مثلي". تخاصم الثلاثة وذهبوا إلى الوزير ليفصل بينهم؛ وعندما رآها الوزير قال: "هذه لا يتزوجها إلا الوزراء مثلي". ولم يكن لهم جميعاً إلا أن يتخاصموا إلى الأمير حاكم البلدة، وعندما حضروا وأخبروه بالأمر قال لهم: "أنا سأحل لكم هذه المشكلة؛ احضروا الفتاة"، فلما رآها الأمير قال: "هذه لا يتزوجها إلا أميرٌ مثلي، وأنا من سيتزوجها".

اختلفوا جميعاً وتجادلوا؛ فقالت الفتاة: "أنا عندي الحل! سوف أركض وأنتم تركضون خلفي، والذي يُمسكني أولاً أكون من نصيبه ويتزوجني".

وفعلاً ركضت وركض الجميع خلفها؛ الشاب والأب والضابط والوزير والأمير، وفجأةً وهُم يركضون سقط الخمسة في حُفرةٍ عميقةٍ؛ فنظرت إليهم الفتاة من أعلى وقالت: "هل عرفتم من أنا؟ أنا الدنيا! أنا التي يجري خلفي جميع الناس ويتسابقون للحصول عليّ،

ويلهون عن دينهم في اللحاق بي، حتى يقعوا في القبر، ولن يفوز بي أيٌ منهم، فهل من مُتعظ؟!".

 

أحبتي في الله.. هذه قصةٌ رمزيةٌ تُبين لنا كيف يُسيطر (حُب الدنيا) على نفوس البشر، رغم أنّ الله سبحانه وتعالى أوضح لنا أن متاع الدنيا زائلٌ وأن الآخرة هي مرجعنا جميعاً؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾. وأكّد على أن كل ما في الأرض زينةٌ مصيرها إلى انتهاءٍ، وأن الدار الآخرة هي الباقية؛ يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. قال المفسرون إن ذِكر الدُّنيا جاء في القرآن الكريم في أكثر من مائة موضعٍ، وليس من بين هذه المواضع ما تُمدح فيه الدنيا؛ وإنما هو التحذير منها، وإظهار حقيقتها بقلة شأنِها؛ فعن ذم (حُب الدنيا) وتفضيلها على الآخرة يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾. ووصف المولى عزَّ وجلَّ الذين انشغلوا بالحياة الدنيا عن الآخرة بالغفلة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، ووصفهم بالكُفر؛ يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وحثنا سبحانه على حُسن العمل؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وعرّفنا أن الموت هو مصير كل إنسانٍ ثم يكون الحساب، والأجر -على أعمالنا في الدنيا- إما الجنة أو النار؛ يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. كما بيّن لنا أن الخير في الدار الآخرة يكون للمتقين؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾، وأكّد على نفس المعنى بقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾. وليس معنى ذلك الانصراف عن الدنيا بالكُلية؛ يقول تعالى: ﴿وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاك ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ ۖ،وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن كانتْ نيتُه طلبَ الآخِرَةِ؛ جعل الله غِناه في قلبِه، وجَمَع له شملَه، وأتَتْه الدنيا وهي راغِمةٌ، ومَنْ كانت نيتُه طَلَبَ الدنيا؛ جعل اللهُ الفقرَ بين عينيه، وشَتَّتَ عليه أمرَه، ولا يأتِيه مِنها إلا ما كُتِبَ له].

وقال عليه الصلاة والسلام: [... فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ].

ووصف صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علاقته بالدنيا وصفاً مُعبراً حين نام على حصيرٍ فقام وقد أثَّرَ في جنبه فقال له صحابته: يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً، فقالَ: [ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها].

 

يقول أهل العلم إنّ الله سبحانه وتعالى قد زهَّد في الدنيا، وبيَّن أن الرضا بها والركون إليها ليس سبيل الموفَقين. والدنيا لا تُذم بإطلاقٍ، وإنما تُذم لما قد تجر إليه من معصية الله تعالى، وإلا فهي قنطرة الآخرة، والسبيل لتحصيل السعادة الأبدية فيها؛ فمن لم يبلغ (حُب الدنيا) في قلبه أن يوقعه في الكُفر، بل أوقعه في المعصية، فعليه إثم ما ارتكبه؛ فإن تاب تاب الله عليه. فالمُعتبَر هو نوع الحُب وما يؤدي إليه؛ فمن أحب الدنيا لكونه يعبد الله فيها، ويُعمِّرها بطاعته، فهو على خيرٍ. ومن أحبها وتمتع بما فيها من المُباحات، فلم يخرج عن واجبٍ، ولم يقع في مُحرمٍ؛ فهذا لا له، ولا عليه. ومن أوقعه ذلك الحُب في مخالفةٍ؛ فحكمه بحسب ما وقع فيه من تلك المخالفة. والواجب على المسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه، وغاية قصده، وأن يعلم أنه لم يُخلق لهذه الدنيا، بل هي مجرد مرحلةٍ سيتجاوزها ثم ينتقل إلى ما وراءها؛ فالحياة الدنيا بمثابة محطة عبورٍ للآخرة، ومن الناس من ينشغل بالدنيا ولهوها، وينسى دار المعاد وما أعدّه الله تعالى من جنات النعيم لأهل الطاعة والإحسان، مع أن نعيم الجنة خيرٌ من نعيم الدنيا بأضعاف كثيرةٍ؛ لذلك فإن علاج (حُب الدنيا) والانغماس في شهواتها أن يتذكّر الإنسان الجنة وما فيها من النعيم، فيتّخذ من الدنيا زاداً له لآخرته.

 

وقال الشاعر عن الدنيا:

النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت

إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها

لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها

إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها

فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها

وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها

 

أحبتي.. الاعتدال في كل شيءٍ مطلوب، والقاعدة أنه لا إفراط ولا تفريط؛ لذا فإن الصحيح أن يُراجع كلٌ منا نفسه ويتدارك أمره؛ فلا تكون الحياة الدنيا بزينتها وزخارفها هي مُنتهى أمله فيتفرغ لها ويتلهى بها عن دينه وينسى أنه مخلوقٌ لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا أن يترك دنياه التي أُمر أن يُعمِّرها ويتفرغ بالكامل للعبادة ويعزل نفسه عن العالم كله برهبانيةٍ لم يأمر بها المولى عزَّ وجلَّ ولا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وإنما علينا أن نلتزم بنهج المؤمنين الصالحين الذين قالوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾؛ ولا نكون ممن قال فيهم سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾. وكما ورد في القول المأثور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" بمعنى المُبادرة والمُسارعة في إنجاز أعمال الآخرة ، والتباطؤ في إنجاز أمور الدنيا؛ فلنعمل ونجتهد في عبادة ربنا وإعمار الأرض بغير انغماسٍ في ملذات الدنيا وشهواتها، دون أن يغيب عن ذهننا -ولا للحظة- أننا نبني لأنفسنا منازلنا وقصورنا في جنة الخُلد التي هي حياتنا الحقيقية؛ مصداقاً لقول الخبير العليم: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ فلنتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة، نُكثر فيها من الزرع الطيب ليكون الحصاد بإذن الله ورحمته حصاد الفائزين المُفلحين.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، وأعنّا على أنفسنا، واهدنا سواء السبيل.

https://bit.ly/3XXIkqy

الجمعة، 27 يناير 2023

مفاتيح للخير مغاليق للشر

 

خاطرة الجمعة /380


الجمعة 27 يناير 2023م

(مفاتيح للخير مغاليق للشر)

 

وجوهٌ شاحبةٌ تلتف حوله.. ضحكاتٌ ساخرةٌ تهزأ به.. "تمتع بالحياة يا رجل.. تعال معنا وستعرف معنى السعادة.. سهرةٌ واحدةٌ ستُنسيك كل همك.. دع حياة الانعزال هذه.. إنك تُضيِّع عمرك بلا فائدة.. لو تعرف كم نحن سعداء بما نحن فيه؟!".. ويُغريه الشيطان مع هؤلاء وسمعتهم السيئة في كل مكان.. "إذا كنتَ تريد بعض المال سنُعطيك.. خُذ هذا المبلغ لتعرف مدى حُبنا لك".. ويجد نفسه تنساق وراء إغرائهم وتزيينهم.. وتنزلق قدمه في مستنقعات رفاق السوء.. ويمضي قُدماً في مهاوي الردى.. وتتكرر السهرات الآثمة.. ويتمادى في الظُلمات، ويشعر بقلبه ينسلخ عنه الإيمان.. وتمر الأيام وهو يمضي إلى الهاوية.. ويرى أصحابه ينزلقون أكثر فأكثر.. وكلما وقعوا في مُصيبةٍ جروه إليها.. بدأ يضيق ذرعاً بهذه الحال.. جعل يبتعد عنهم شيئاً فشيئاً.. ولكن إلى أين؟!! الناس تعرف أنه منهم.. سمعته غدت في الطين.. شعر بقلبه يتفطر على ما آل إليه من الضياع.. مشى تائهاً في الطُرقات..

تلفت يميناً ويساراً.. لمح مئذنة مسجدٍ تُعانق السماء.. سمع جلجلة التكبير.. أحس بدقات قلبه تتسارع.. شعر بشيءٍ يدفعه إلى المسجد دفعاً.. لابد أن الحل هناك.. يجب أن أذهب.. ولكن.. ماذا سيقول الناس إذا رأوني هناك؟ هل يقبل الله توبتي؟ دخل المسجد ورجلاه ترتجفان.. توجه إلى مكان الوضوء.. شعر ببرد الرحمة مع المياه على جسده.. صلى مع الناس.. جلس يستمع لدرس الإمام.. أنصت لكلماته وأطرق.. ماذا أسمع؟ يا إلهي.. كان موضوع الدرس عن جريمة اللواط ورفاق السوء.. استمع إلى تلك الموعظة.. واهتز قلبه وارتجف.. انزوى جانباً وجعل يبكي.. شعر بألم الذنب والمعصية.. مرّ به رجلٌ من الصالحين.. رقّ لحاله.. "ماذا أصابك.. ما لك تبكي؟".. التفت إليه.. شعر براحةٍ وهو يتأمل قسمات وجهه الوضيء.. "حدثني عن شأنك لعلي أستطيع المساعدة".. ويبث الشاب له ما في قلبه.. ويتألم الرجل لحاله.. ويعزم على مساعدته وانتشاله من المُستنقع الذي وقع فيه.. يُرشده الشاب إلى المكان الذي يجتمع فيه أصحابه.. ينطلقا سوياً لرؤية أولئك التائهين.. يجتمع بهم الرجل ويُخبرهم بأنه لا يُريد سوى مصلحتهم ونفعهم.. ويجلس معهم ويبدأ الحديث.. تنساب كلماته لتخترق القلوب الميتة فتبعث فيها الحياة بإذن الله.. وتنشرح الصدور لكلمات الرجل.. ويشعر كلٌ منهم بأن باب التوبة مفتوحٌ.. وتنهمر الدموع على الوجنات.. وينتحب الأصدقاء لتكون فاتحة الخير للجميع!!

أحبتي في الله.. ما أثار انتباهي أكثر من توبة الشاب هو موقف ذلك الرجل الصالح الذي رآه على تلك الحال فلم يتركه وشأنه، بل اهتم بأمره وبادر إلى سؤاله عما يُبكيه، ثم لم يكتفِ بذلك بل وتألم لحاله وقام بمساعدته، ولم يقف عند ذلك الحد وإنما تحمل مسئولية إصلاح أحوال أصدقائه، فأي صنفٍ من الرجال هو؟ وأية روحٍ إيجابيةٍ يتمتع بها في زمنٍ ينأى فيه الكثيرون عن الإقدام على مثل ما أقدم عليه؟ لو لم يهتم لحال الشاب ومضى في حال سبيله لما لامه أحدٌ، لكنه آثر أن يسلك الطريق الصعب، قاصداً وجه الله سبحانه وتعالى، مُخلصاً له، ساعياً في الخير، فذاك من الذين هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)، ونحسبه من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ]. وفي روايةٍ: [عندَ اللهِ خزائنُ الخيرِ والشرِّ، مفاتيحُها الرجالُ، فطوبَى لمنْ جعلهُ اللهُ مِفْتَاحًا للخيرِ، مِغْلَاقًا للشرِّ، وويلٌ لمنْ جعلَهُ اللهُ مِفتاحًا للشرِّ مغلاقًا للخيرِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ألا أخبركم بخيرِكم من شرِّكم؟] فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ].

يقول شُراح الأحاديث إن النبي صلى الله عليه وسلم يُخبرنا بأن من الناس من يكون كالعافية لغيرهم، فإن حضر أفاد وأحسن، وإن تكلم نفع وأرشد، وإن وَجّه أخلص وصدق‏، سبّاقٌ للعمل الذي يُرضي الله جلَّ وعلا، وخصوصاً في زمنٍ كثر فيه أهل الشر والباطل وتسلطوا على أهل الخير والفضيلة، فهو مفتاحُ خيرٍ، ودلّالُ معروفٍ، وسفيرُ هِدايةٍ، ورسولُ صلاحٍ، مغلاقُ شرٍّ، ودافعُ بلاءٍ، ومانعُ نِقمةٍ، وصمامُ أمانٍ من غضب الرحمن. وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعاً يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه؛ ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاحٌ للخير، ومغلاقٌ للشر.

 

يقول العلماء إنّ أعمال الخير التي يُمكن للمسلم أن يكون بها ممن هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر) لا تقتصر على تقديم المُساعدات المادية المُباشرة بالمال، لكن هناك وسائل أخرى وأشكالاً غير ماديةٍ عديدةً ومُتنوعةً، تكون في بعض الأحيان أبلغ أثراً وأعمق تأثيراً من الماديات؛ كمساعدة الناس على الحصول على وظيفةٍ أو عملٍ أو فرصةٍ للعلاج، ورفع معنوياتهم، وإسعادهم، ونُصحهم، وهدايتهم، وتسخير جهده ووقته وإمكانياته وعلاقاته لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة وقضاء مصالحهم.

كما أنَّ من أهمِّ مفاتيح الخير تعليمَ العلوم النَّافعة وبثَّها في النَّاس، ونشرَ العلم، والدعوةَ إلى الله، وتعليمَ الناس التوحيد، والأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وإحياء السُنن المتروكة، وسنَ السُّنن الحسنة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، وقال أيضاً: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا]، وقال كذلك: [فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

 

إن طريق الخير هو طريق العز؛ وفي ذلك قال الشاعر:

طريق العزِّ مفتوحٌ       لكل الناسِ والخَلقِ

هي الأيامُ تخبرُنا        بأنَّ المجدَ كالرزقِ

فلا تُغلقهُ في وجهٍ      طموحٍ طيِّبِ العرقِ

وكُن للخيرِ مفتاحاً     ولا تعجلْ إلى الغَلقِ

 

أحبتي.. مَن منا لا يتمنى أن يكون من خير الناس الذين هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)؟ كلنا نتمنى أن نكون كذلك؛ إذاً علينا بالعمل؛ يقول تعالى: ﴿وقُلِ اعْملُوا فسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمُؤمنونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ ولاَ أَمانِيِّ أَهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا ولاَ نَصيرًا ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يدخُلونَ الجَنّة ولا يُظْلَمُونَ نَقيرًا﴾. وورد في الأثر عن بعض التابعين قوله: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل".

ابدأ ولو بأبسط الأمور؛ منها: حفَّظ غيرك سورةً، فهمه آيةً، اشرح له مسألةً شرعيةً، أسمعه حديثاً دينياً، اصحبه معك إلى درسٍ مُفيدٍ، لخِّص له مُحاضرةً استفدتَ منها، اهده شريطاً عليه مادةٌ قيمةٌ، أعره كتاباً مميزاً، قدِّم له نصيحةً يحتاجها. ومنها كذلك: أغث ملهوفاً، اهدِ ضالاً، ارشد حائراً، ادعم تائباً، ساعد فقيراً، أعن محتاجاً. ومنها أيضاً: أن تكتب مقالاً، أو تُلقي محاضرةً، أو تُصمم موقعاً على شبكة الإنترنت لنشر الحق والتعريف بالإسلام، أو تُرسل للمضافين لديك على مواقع التواصل الاجتماعي مواد دينيةً مُفيدةً، أو تُصحح أخطاء اطلعتَ عليها مما يُرسل إليك من منشوراتٍ بواسطة برامج وتطبيقات الهاتف. كما أنّ منها: أن تتصدق بمالٍ، أن تقاوم بدعةً، أن تُنكر مُنكراً، أن تُطعم مسكيناً، أن تتبع جنازةً، أن تكسو عارياً، أن تعود مريضاً، أن تبني مسجداً، أن تُصلح طريقاً، أن تنصر مظلوماً، أن تُنفذ مشروعاً للخير. خلاصة القول: لا تكتفِ بأن تكون صالحاً، أدخل نفسك في دائرة المُصلحين تكن من المُفلحين الفائزين. واعلم أنك كلما أغلقتَ باباً من أبواب الشر كلما زاد رصيدك من أعمال الخير، واعلم أن [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ] كما أخبرنا الحبيب المُصطفى.

جعلنا الله وإياكم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)، وجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم بغير رياءٍ ولا كِبرٍ ولا سعيٍ إلى شُهرةٍ وسُمعة.

 

https://bit.ly/3HBR0x6

الجمعة، 20 يناير 2023

إذا أحبك الله استعملك

                                                       خاطرة الجمعة /379


الجمعة 20 يناير 2023م

(إذا أحبك الله استعملك)

 

هذه القصة من «القاهرة» يرويها لنا صاحبها؛ كتب يقول:

قبل عدة أيامٍ قررتُ النزول إلى منطقة وسط البلد لشراء بعض اللوازم الكهربائية التي لا تتوفر إلا هناك. هذه هي المرة الأولى التي أقوم فيها بجولةٍ في وسط البلد منذ زمنٍ بعيد. كان صباح يوم جمعةٍ، الشوارع هادئةٌ، تركتُ سيارتي بعد منزل كوبري «رمسيس» على اليمين وقررتُ أن أتمشى إلى منطقة «باب اللوق» والشوارع المحيطة بها. بدأتُ أستعيد ذكرياتي القديمة مُروراً بشوارع وتقاطعات وسط البلد؛ وجدتُ بعض المحلات الجديدة والأسماء الجديدة، ولكن لا تزال هناك الكثير من الأماكن القديمة مُحتفظةً بعبق وسط البلد، والتي لها أجمل ذكرياتٍ في وجداني. لم أدرِ في أي اتجاهٍ أذهب؛ فتركتُ نفسي سائراً على غير هُدىً مُستمتعاً بالتمشية والفُرجة، وتيقنتُ أني تُهتُ تماماً في هذه الشوارع العتيقة.

فجأةً وجدتُ نفسي أمام محل أحذيةٍ قديمٍ جداً، وكان شبه مُظلمٍ من الداخل، وقفتُ مُتكاسلاً بلا هدفٍ مُعينٍ أمام الواجهة الزجاجية للمحل، وبدون سببٍ وجدتُ نفسي أدخل المحل لأجد رجلاً في نهاية السبعينات من عُمره، نهض مُتهللاً للترحيب بي وسألني عن طلبي، في حقيقة الأمر لم يكن هناك أي شيءٍ مُحددٍ في ذهني، ولم تكن عندي أية نيةٍ لشراء حذاءٍ، ولكني كنتُ مُستسلماً للأمور بشكلٍ عجيبٍ، طلبتُ منه على سبيل الاسترسال أن يُريني بعض الأحذية الجلد أو الشمواه من اللونين الأسود والبني، ولكن لم يكن في داخلي أية نيةٍ للشراء، لم أكن أعرف لماذا أفعل ذلك! بدأ الرجل في استعراض كل ما عنده من أحذيةٍ، ولم أجد في النهاية مقاسي ولا ألواني المفضًلة. وبدلاً من أن أشكر الرجل على تعبه وأُغادر المحل وجدتُ نفسي أقول للرجل: "سأشتري هذه الأحذية الثلاثة"، ووجدتُ نفسي أدفع للرجل كل ما طلبه من مالٍ دون مُساومةٍ، راضياً! كيف؟ ولماذا؟ لا أدري، لكن هذا ما فعلتُ! ربما بسبب نظرات الرجل اليائس من أن أشتري منه أي حذاءٍ، وربما لأنه كان يشكو لي أنه من أسابيع لم يبع حذاءً واحداً. تركتُ الرجل وهو يشكر الله على ما جاءه من رزقٍ من حيث لا يحتسب، وخرجتُ مُسرعاً وأنا لا أفهم ماذا فعلتُ، ولكن كانت بداخلي سعادةٌ لا توصف أنني كنتُ سبباً في جبر خاطر هذا الرجل البسيط، وإحساسٌ بأن الله سُبحانه وتعالى استعملني للخير ويسَّر لي أداءه. الغريب أنني لو سُئلتُ أين هذا المحل؟ وما هو اسمه؟ ستكون إجابتي "لا أعرف!"، ولو حاولتُ الذهاب إليه مرةً أخرى لن أعرف!

رجعتُ إلى سيارتي بعد جهدٍ جهيدٍ وأنا أحمل هذه الأحذية، والتي سوف تذهب لأصحاب نصيبها بإذن الله، وقدتُ سيارتي راجعاً وأنا أفكر في رحمة ربنا وترتيباته العجيبة -سُبحانه وتعالى- في أرزاق البشر، كنتُ ذاهباً لشراء لوازم كهربائية فساقتني الأقدار ليصل المال إلى هذا الرجل، وأكملتُ في نفسي مُبتسماً: "اليوم كان يوماً من ترتيب المولى عزَّ وجلَّ ساقني إلى عمل الخير سَوْقاً".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، قال المُفسرون لهذه الآية الكريمة إن تسخير الله سبحانه للخلق بعضهم لبعضٍ آيةٌ من آيات الله، تحار فيها العقول ويقصر عنها الإدراك؛ تحتاج مساعدةً في أمرٍ ما فيُسخِّر لك ربك من يكفيك أمرك ويُعينك فوق ما كنتَ تأمل، لا تدري من أين جاء وكيف جاء، لا تدري كيف ساقه الله إليك.

هذا ما حدث مع الرجل كبير السن صاحب محل الأحذية، ساق الله له من يشتري منه بأكثر مما كان يتوقع. أما الرجل الذي اشترى من غير وجود نيةٍ للشراء، ولا معرفةٍ سابقةٍ بهذا المحل بالذات، فقد انطبق عليه قول القائل: (إذا أحبك الله استعملك)؛ اختاره المولى عزَّ وجلَّ ليكون سبباً في سعادة غيره وجبر خواطرهم وإغنائهم عن السؤال، سواءً في ذلك صاحب المحل، وهؤلاء الذين سيكون من نصيب كلٍ منهم حذاءٌ جديدٌ اشتراه لهم وحمله إليهم من لم يكن يُخطط لذلك أبداً!

 

إن الله سُبحانه وتعالى إذا أحب عبداً عسَّله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ]، قيل: وما عسَّله؟ قال: [يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ]. «عسَّله» أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

وفي روايةٍ: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، قيل: وما استعمله؟ قال: [يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ]. وفي معنى «استعمله» يقول أحد العُلماء: على ظهر هذه البسيطة التي نعيش عليها أكثر من سبعة آلاف مليون من البشر يعيشون، كُلهم ذوو اتجاهاتٍ شتى، وأهدافٍ مُختلفةٍ، واتجاهاتٍ مُتعددةٍ، فمن منهم موفقٌ في عمله يسعى لما ينبغي أن يسعى إليه من رضا الله؟ قليلٌ ما هُم! ماذا لو أحبك الله من بين هذه المليارات السبعة؟ (إذا أحبك الله استعملك)؛ فيربط همتك بمطمحٍ كبيرٍ تنشغل في تحصيله، فيصرفك عن فنون اللهو وأنواع الملذات الرخيصة؛ لتقوم بعملٍ أجلَّ وأعظم، إنه يستعملك لما فيه رضاه، وما فيه نفع نفسك وقضاء حوائجها، ثم نفع الآخرين من بعد. إنه يستعملك في عملٍ يوصلك إلى الدار الآخرة مُطمئناً آمناً من كل فزعٍ أو خوفٍ.

قال أحد التابعين: “وإذا أحب الله عبداً أكثر حوائج الخلق إليه"، وقال آخر: “إذا أحب الله عبداً اصطنعه لنفسه، واجتباه لمحبته، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذِكره، وجوارحه بخدمته”. وقال ثالثٌ: "إذا أردتَ أن تعرف مقامك عند الله، فانظر فيمَ استعمَلكَ؟ فإذا أحبَّ الله عبداً استعمله في الخير، وجعل حوائج الناس إليه، وفتح على يديه باب الأعمال الصالحة، وجعله أداة خيرٍ للناس"؛ فأن يكون لك عَشرة إخوةٍ، وتختارك أمُّكَ أنتَ لتقضي لها حاجتها، فهذا من استعمال الله لك، وأن يقف بجوارك رجلٌ كبيرٌ على الرصيف لتأخذ بيده ليعبر إلى الجانب الآخر من الطريق، فهذا من استعمال الله لك. فربما يصطفيك من بين عباده، ويسوقك بلطفه الخفي العجيب إلى طاعةٍ أنت غافلٌ عنها، يختارك من بين خَلْقه -على كثرتهم- لتُغيث عبداً ملهوفاً ضاقت عليه الحيلة، فيرحمك كما رحمته، ويكون هذا المُحتاج رحمةً لك وبركةً عليك من حيث لا تدري.

 

إذا عسَّلك الله جلَّ جلاله أو استعملك لعمل خيرٍ، فما ذلك إلا ليدَّبر لمُحتاجٍ ما يحتاج إليه بكرامةٍ وعزة نفسٍ، كما أن في تدبيره -سُبحانه- حباً لك؛ إذ ساقك سَوْقاً إلى هذا المُحتاج، لتعمل عملاً صالحاً، تؤجر عليه في الدنيا بحُب الناس لك وذِكرك بالخير، وفي الآخرة بالثواب العظيم.

وفي ذلك قال الشاعر:

وَاشكُر فَضَائِلَ صُنعِ اللَّهِ إِذ جُعِلَت  إِلَيكَ، لَا لَكَ عِندَ النَّاسِ حَاجَاتُ

قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم   وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ

 

أحبتي.. لا شكَّ أن من علامات توفيق الله للعبد تيسيره للعمل الصالح؛ فإذا أراد بعبده خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه، مثل هذا العبد اختار مقعده في الجنة وهو ما زال في الدنيا.

اللهم اجعلنا ممن أحببتهم فاستعملتهم. اللهم استعمِلنا ولا تستبدلنا، ووفِّقنا للسعي إلى ما يُرضيك. اللهم افتح لنا أبواب الخير، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ووفقنا للعمل الصالح، واستعملنا في طاعتك، وأحسن لنا الختام، واقبضنا على أحبّ الأعمال والأحوال إليك.

 

                                                          https://bit.ly/3J2kbKM