الجمعة، 3 فبراير 2023

حُب الدنيا

 

خاطرة الجمعة /381


الجمعة 3 فبراير 2023م

(حُب الدنيا)

يُحكى أنّ فتىً قال لأبيه: "أريد الزواج من فتاةٍ رأيتها؛ وقد أعجبني جمالها وسحر عيونها"، فرد عليه وهو فَرِحٌ ومسرورٌ وقال: "أين هذه الفتاة حتى أخطبها لك يا بُنيّ؟"، فلما ذهبا ورأى الأب الفتاة أُعجب بها وقال لابنه: "اسمع يا بُنيّ؛ هذه الفتاة ليست لك، وأنت لا تصلح لها؛ هذه يستحقها رجلٌ مثلي له خبرةٌ في الحياة ويُعتمد عليه". اندهش الولد من كلام أبيه وقال له: "كلا؛ بل أنا الذي سيتزوجها يا أبي وليس أنت". تخاصما وذهبا إلى مركز الشرطة ليحل ضباطه لهما المشكلة؛ وعندما قصا للضابط قصتهما قال لهما: "احضرا الفتاة لكي نسألها من تُريد الابن أم الأب؟"؛ فلما رآها الضابط انبهر بحُسنها وفتنتها وقال لهما: "هذه لا تصلح لكما؛ بل تصلح لشخصٍ مرموقٍ في البلد مثلي". تخاصم الثلاثة وذهبوا إلى الوزير ليفصل بينهم؛ وعندما رآها الوزير قال: "هذه لا يتزوجها إلا الوزراء مثلي". ولم يكن لهم جميعاً إلا أن يتخاصموا إلى الأمير حاكم البلدة، وعندما حضروا وأخبروه بالأمر قال لهم: "أنا سأحل لكم هذه المشكلة؛ احضروا الفتاة"، فلما رآها الأمير قال: "هذه لا يتزوجها إلا أميرٌ مثلي، وأنا من سيتزوجها".

اختلفوا جميعاً وتجادلوا؛ فقالت الفتاة: "أنا عندي الحل! سوف أركض وأنتم تركضون خلفي، والذي يُمسكني أولاً أكون من نصيبه ويتزوجني".

وفعلاً ركضت وركض الجميع خلفها؛ الشاب والأب والضابط والوزير والأمير، وفجأةً وهُم يركضون سقط الخمسة في حُفرةٍ عميقةٍ؛ فنظرت إليهم الفتاة من أعلى وقالت: "هل عرفتم من أنا؟ أنا الدنيا! أنا التي يجري خلفي جميع الناس ويتسابقون للحصول عليّ،

ويلهون عن دينهم في اللحاق بي، حتى يقعوا في القبر، ولن يفوز بي أيٌ منهم، فهل من مُتعظ؟!".

 

أحبتي في الله.. هذه قصةٌ رمزيةٌ تُبين لنا كيف يُسيطر (حُب الدنيا) على نفوس البشر، رغم أنّ الله سبحانه وتعالى أوضح لنا أن متاع الدنيا زائلٌ وأن الآخرة هي مرجعنا جميعاً؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾. وأكّد على أن كل ما في الأرض زينةٌ مصيرها إلى انتهاءٍ، وأن الدار الآخرة هي الباقية؛ يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. قال المفسرون إن ذِكر الدُّنيا جاء في القرآن الكريم في أكثر من مائة موضعٍ، وليس من بين هذه المواضع ما تُمدح فيه الدنيا؛ وإنما هو التحذير منها، وإظهار حقيقتها بقلة شأنِها؛ فعن ذم (حُب الدنيا) وتفضيلها على الآخرة يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾. ووصف المولى عزَّ وجلَّ الذين انشغلوا بالحياة الدنيا عن الآخرة بالغفلة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، ووصفهم بالكُفر؛ يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. وحثنا سبحانه على حُسن العمل؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وعرّفنا أن الموت هو مصير كل إنسانٍ ثم يكون الحساب، والأجر -على أعمالنا في الدنيا- إما الجنة أو النار؛ يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. كما بيّن لنا أن الخير في الدار الآخرة يكون للمتقين؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى﴾، وأكّد على نفس المعنى بقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾. وليس معنى ذلك الانصراف عن الدنيا بالكُلية؛ يقول تعالى: ﴿وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاك ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ ۖ،وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن كانتْ نيتُه طلبَ الآخِرَةِ؛ جعل الله غِناه في قلبِه، وجَمَع له شملَه، وأتَتْه الدنيا وهي راغِمةٌ، ومَنْ كانت نيتُه طَلَبَ الدنيا؛ جعل اللهُ الفقرَ بين عينيه، وشَتَّتَ عليه أمرَه، ولا يأتِيه مِنها إلا ما كُتِبَ له].

وقال عليه الصلاة والسلام: [... فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ].

ووصف صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ علاقته بالدنيا وصفاً مُعبراً حين نام على حصيرٍ فقام وقد أثَّرَ في جنبه فقال له صحابته: يا رسولَ اللَّهِ لوِ اتَّخَذنا لَكَ وطاءً، فقالَ: [ما لي وما للدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها].

 

يقول أهل العلم إنّ الله سبحانه وتعالى قد زهَّد في الدنيا، وبيَّن أن الرضا بها والركون إليها ليس سبيل الموفَقين. والدنيا لا تُذم بإطلاقٍ، وإنما تُذم لما قد تجر إليه من معصية الله تعالى، وإلا فهي قنطرة الآخرة، والسبيل لتحصيل السعادة الأبدية فيها؛ فمن لم يبلغ (حُب الدنيا) في قلبه أن يوقعه في الكُفر، بل أوقعه في المعصية، فعليه إثم ما ارتكبه؛ فإن تاب تاب الله عليه. فالمُعتبَر هو نوع الحُب وما يؤدي إليه؛ فمن أحب الدنيا لكونه يعبد الله فيها، ويُعمِّرها بطاعته، فهو على خيرٍ. ومن أحبها وتمتع بما فيها من المُباحات، فلم يخرج عن واجبٍ، ولم يقع في مُحرمٍ؛ فهذا لا له، ولا عليه. ومن أوقعه ذلك الحُب في مخالفةٍ؛ فحكمه بحسب ما وقع فيه من تلك المخالفة. والواجب على المسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه، وغاية قصده، وأن يعلم أنه لم يُخلق لهذه الدنيا، بل هي مجرد مرحلةٍ سيتجاوزها ثم ينتقل إلى ما وراءها؛ فالحياة الدنيا بمثابة محطة عبورٍ للآخرة، ومن الناس من ينشغل بالدنيا ولهوها، وينسى دار المعاد وما أعدّه الله تعالى من جنات النعيم لأهل الطاعة والإحسان، مع أن نعيم الجنة خيرٌ من نعيم الدنيا بأضعاف كثيرةٍ؛ لذلك فإن علاج (حُب الدنيا) والانغماس في شهواتها أن يتذكّر الإنسان الجنة وما فيها من النعيم، فيتّخذ من الدنيا زاداً له لآخرته.

 

وقال الشاعر عن الدنيا:

النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت

إِنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها

لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها

إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها

فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها

وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها

 

أحبتي.. الاعتدال في كل شيءٍ مطلوب، والقاعدة أنه لا إفراط ولا تفريط؛ لذا فإن الصحيح أن يُراجع كلٌ منا نفسه ويتدارك أمره؛ فلا تكون الحياة الدنيا بزينتها وزخارفها هي مُنتهى أمله فيتفرغ لها ويتلهى بها عن دينه وينسى أنه مخلوقٌ لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا أن يترك دنياه التي أُمر أن يُعمِّرها ويتفرغ بالكامل للعبادة ويعزل نفسه عن العالم كله برهبانيةٍ لم يأمر بها المولى عزَّ وجلَّ ولا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وإنما علينا أن نلتزم بنهج المؤمنين الصالحين الذين قالوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾؛ ولا نكون ممن قال فيهم سبحانه وتعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾. وكما ورد في القول المأثور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" بمعنى المُبادرة والمُسارعة في إنجاز أعمال الآخرة ، والتباطؤ في إنجاز أمور الدنيا؛ فلنعمل ونجتهد في عبادة ربنا وإعمار الأرض بغير انغماسٍ في ملذات الدنيا وشهواتها، دون أن يغيب عن ذهننا -ولا للحظة- أننا نبني لأنفسنا منازلنا وقصورنا في جنة الخُلد التي هي حياتنا الحقيقية؛ مصداقاً لقول الخبير العليم: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾؛ فلنتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة، نُكثر فيها من الزرع الطيب ليكون الحصاد بإذن الله ورحمته حصاد الفائزين المُفلحين.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، وأعنّا على أنفسنا، واهدنا سواء السبيل.

https://bit.ly/3XXIkqy

الجمعة، 27 يناير 2023

مفاتيح للخير مغاليق للشر

 

خاطرة الجمعة /380


الجمعة 27 يناير 2023م

(مفاتيح للخير مغاليق للشر)

 

وجوهٌ شاحبةٌ تلتف حوله.. ضحكاتٌ ساخرةٌ تهزأ به.. "تمتع بالحياة يا رجل.. تعال معنا وستعرف معنى السعادة.. سهرةٌ واحدةٌ ستُنسيك كل همك.. دع حياة الانعزال هذه.. إنك تُضيِّع عمرك بلا فائدة.. لو تعرف كم نحن سعداء بما نحن فيه؟!".. ويُغريه الشيطان مع هؤلاء وسمعتهم السيئة في كل مكان.. "إذا كنتَ تريد بعض المال سنُعطيك.. خُذ هذا المبلغ لتعرف مدى حُبنا لك".. ويجد نفسه تنساق وراء إغرائهم وتزيينهم.. وتنزلق قدمه في مستنقعات رفاق السوء.. ويمضي قُدماً في مهاوي الردى.. وتتكرر السهرات الآثمة.. ويتمادى في الظُلمات، ويشعر بقلبه ينسلخ عنه الإيمان.. وتمر الأيام وهو يمضي إلى الهاوية.. ويرى أصحابه ينزلقون أكثر فأكثر.. وكلما وقعوا في مُصيبةٍ جروه إليها.. بدأ يضيق ذرعاً بهذه الحال.. جعل يبتعد عنهم شيئاً فشيئاً.. ولكن إلى أين؟!! الناس تعرف أنه منهم.. سمعته غدت في الطين.. شعر بقلبه يتفطر على ما آل إليه من الضياع.. مشى تائهاً في الطُرقات..

تلفت يميناً ويساراً.. لمح مئذنة مسجدٍ تُعانق السماء.. سمع جلجلة التكبير.. أحس بدقات قلبه تتسارع.. شعر بشيءٍ يدفعه إلى المسجد دفعاً.. لابد أن الحل هناك.. يجب أن أذهب.. ولكن.. ماذا سيقول الناس إذا رأوني هناك؟ هل يقبل الله توبتي؟ دخل المسجد ورجلاه ترتجفان.. توجه إلى مكان الوضوء.. شعر ببرد الرحمة مع المياه على جسده.. صلى مع الناس.. جلس يستمع لدرس الإمام.. أنصت لكلماته وأطرق.. ماذا أسمع؟ يا إلهي.. كان موضوع الدرس عن جريمة اللواط ورفاق السوء.. استمع إلى تلك الموعظة.. واهتز قلبه وارتجف.. انزوى جانباً وجعل يبكي.. شعر بألم الذنب والمعصية.. مرّ به رجلٌ من الصالحين.. رقّ لحاله.. "ماذا أصابك.. ما لك تبكي؟".. التفت إليه.. شعر براحةٍ وهو يتأمل قسمات وجهه الوضيء.. "حدثني عن شأنك لعلي أستطيع المساعدة".. ويبث الشاب له ما في قلبه.. ويتألم الرجل لحاله.. ويعزم على مساعدته وانتشاله من المُستنقع الذي وقع فيه.. يُرشده الشاب إلى المكان الذي يجتمع فيه أصحابه.. ينطلقا سوياً لرؤية أولئك التائهين.. يجتمع بهم الرجل ويُخبرهم بأنه لا يُريد سوى مصلحتهم ونفعهم.. ويجلس معهم ويبدأ الحديث.. تنساب كلماته لتخترق القلوب الميتة فتبعث فيها الحياة بإذن الله.. وتنشرح الصدور لكلمات الرجل.. ويشعر كلٌ منهم بأن باب التوبة مفتوحٌ.. وتنهمر الدموع على الوجنات.. وينتحب الأصدقاء لتكون فاتحة الخير للجميع!!

أحبتي في الله.. ما أثار انتباهي أكثر من توبة الشاب هو موقف ذلك الرجل الصالح الذي رآه على تلك الحال فلم يتركه وشأنه، بل اهتم بأمره وبادر إلى سؤاله عما يُبكيه، ثم لم يكتفِ بذلك بل وتألم لحاله وقام بمساعدته، ولم يقف عند ذلك الحد وإنما تحمل مسئولية إصلاح أحوال أصدقائه، فأي صنفٍ من الرجال هو؟ وأية روحٍ إيجابيةٍ يتمتع بها في زمنٍ ينأى فيه الكثيرون عن الإقدام على مثل ما أقدم عليه؟ لو لم يهتم لحال الشاب ومضى في حال سبيله لما لامه أحدٌ، لكنه آثر أن يسلك الطريق الصعب، قاصداً وجه الله سبحانه وتعالى، مُخلصاً له، ساعياً في الخير، فذاك من الذين هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)، ونحسبه من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ]. وفي روايةٍ: [عندَ اللهِ خزائنُ الخيرِ والشرِّ، مفاتيحُها الرجالُ، فطوبَى لمنْ جعلهُ اللهُ مِفْتَاحًا للخيرِ، مِغْلَاقًا للشرِّ، وويلٌ لمنْ جعلَهُ اللهُ مِفتاحًا للشرِّ مغلاقًا للخيرِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ألا أخبركم بخيرِكم من شرِّكم؟] فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ].

يقول شُراح الأحاديث إن النبي صلى الله عليه وسلم يُخبرنا بأن من الناس من يكون كالعافية لغيرهم، فإن حضر أفاد وأحسن، وإن تكلم نفع وأرشد، وإن وَجّه أخلص وصدق‏، سبّاقٌ للعمل الذي يُرضي الله جلَّ وعلا، وخصوصاً في زمنٍ كثر فيه أهل الشر والباطل وتسلطوا على أهل الخير والفضيلة، فهو مفتاحُ خيرٍ، ودلّالُ معروفٍ، وسفيرُ هِدايةٍ، ورسولُ صلاحٍ، مغلاقُ شرٍّ، ودافعُ بلاءٍ، ومانعُ نِقمةٍ، وصمامُ أمانٍ من غضب الرحمن. وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعاً يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه؛ ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاحٌ للخير، ومغلاقٌ للشر.

 

يقول العلماء إنّ أعمال الخير التي يُمكن للمسلم أن يكون بها ممن هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر) لا تقتصر على تقديم المُساعدات المادية المُباشرة بالمال، لكن هناك وسائل أخرى وأشكالاً غير ماديةٍ عديدةً ومُتنوعةً، تكون في بعض الأحيان أبلغ أثراً وأعمق تأثيراً من الماديات؛ كمساعدة الناس على الحصول على وظيفةٍ أو عملٍ أو فرصةٍ للعلاج، ورفع معنوياتهم، وإسعادهم، ونُصحهم، وهدايتهم، وتسخير جهده ووقته وإمكانياته وعلاقاته لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة وقضاء مصالحهم.

كما أنَّ من أهمِّ مفاتيح الخير تعليمَ العلوم النَّافعة وبثَّها في النَّاس، ونشرَ العلم، والدعوةَ إلى الله، وتعليمَ الناس التوحيد، والأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وإحياء السُنن المتروكة، وسنَ السُّنن الحسنة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، وقال أيضاً: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا]، وقال كذلك: [فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ].

 

إن طريق الخير هو طريق العز؛ وفي ذلك قال الشاعر:

طريق العزِّ مفتوحٌ       لكل الناسِ والخَلقِ

هي الأيامُ تخبرُنا        بأنَّ المجدَ كالرزقِ

فلا تُغلقهُ في وجهٍ      طموحٍ طيِّبِ العرقِ

وكُن للخيرِ مفتاحاً     ولا تعجلْ إلى الغَلقِ

 

أحبتي.. مَن منا لا يتمنى أن يكون من خير الناس الذين هُم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)؟ كلنا نتمنى أن نكون كذلك؛ إذاً علينا بالعمل؛ يقول تعالى: ﴿وقُلِ اعْملُوا فسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والمُؤمنونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ ولاَ أَمانِيِّ أَهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ولاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا ولاَ نَصيرًا ومَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يدخُلونَ الجَنّة ولا يُظْلَمُونَ نَقيرًا﴾. وورد في الأثر عن بعض التابعين قوله: "ليس الإيمان بالتمنِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدُّنيا ولا عمل لهم، وقالوا: نحن نحسن الظَّنَّ بالله وكَذَبُوا، لو أحسنوا الظَّنّ لأحسنوا العمل".

ابدأ ولو بأبسط الأمور؛ منها: حفَّظ غيرك سورةً، فهمه آيةً، اشرح له مسألةً شرعيةً، أسمعه حديثاً دينياً، اصحبه معك إلى درسٍ مُفيدٍ، لخِّص له مُحاضرةً استفدتَ منها، اهده شريطاً عليه مادةٌ قيمةٌ، أعره كتاباً مميزاً، قدِّم له نصيحةً يحتاجها. ومنها كذلك: أغث ملهوفاً، اهدِ ضالاً، ارشد حائراً، ادعم تائباً، ساعد فقيراً، أعن محتاجاً. ومنها أيضاً: أن تكتب مقالاً، أو تُلقي محاضرةً، أو تُصمم موقعاً على شبكة الإنترنت لنشر الحق والتعريف بالإسلام، أو تُرسل للمضافين لديك على مواقع التواصل الاجتماعي مواد دينيةً مُفيدةً، أو تُصحح أخطاء اطلعتَ عليها مما يُرسل إليك من منشوراتٍ بواسطة برامج وتطبيقات الهاتف. كما أنّ منها: أن تتصدق بمالٍ، أن تقاوم بدعةً، أن تُنكر مُنكراً، أن تُطعم مسكيناً، أن تتبع جنازةً، أن تكسو عارياً، أن تعود مريضاً، أن تبني مسجداً، أن تُصلح طريقاً، أن تنصر مظلوماً، أن تُنفذ مشروعاً للخير. خلاصة القول: لا تكتفِ بأن تكون صالحاً، أدخل نفسك في دائرة المُصلحين تكن من المُفلحين الفائزين. واعلم أنك كلما أغلقتَ باباً من أبواب الشر كلما زاد رصيدك من أعمال الخير، واعلم أن [أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ] كما أخبرنا الحبيب المُصطفى.

جعلنا الله وإياكم (مفاتيح للخير مغاليق للشر)، وجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم بغير رياءٍ ولا كِبرٍ ولا سعيٍ إلى شُهرةٍ وسُمعة.

 

https://bit.ly/3HBR0x6

الجمعة، 20 يناير 2023

إذا أحبك الله استعملك

                                                       خاطرة الجمعة /379


الجمعة 20 يناير 2023م

(إذا أحبك الله استعملك)

 

هذه القصة من «القاهرة» يرويها لنا صاحبها؛ كتب يقول:

قبل عدة أيامٍ قررتُ النزول إلى منطقة وسط البلد لشراء بعض اللوازم الكهربائية التي لا تتوفر إلا هناك. هذه هي المرة الأولى التي أقوم فيها بجولةٍ في وسط البلد منذ زمنٍ بعيد. كان صباح يوم جمعةٍ، الشوارع هادئةٌ، تركتُ سيارتي بعد منزل كوبري «رمسيس» على اليمين وقررتُ أن أتمشى إلى منطقة «باب اللوق» والشوارع المحيطة بها. بدأتُ أستعيد ذكرياتي القديمة مُروراً بشوارع وتقاطعات وسط البلد؛ وجدتُ بعض المحلات الجديدة والأسماء الجديدة، ولكن لا تزال هناك الكثير من الأماكن القديمة مُحتفظةً بعبق وسط البلد، والتي لها أجمل ذكرياتٍ في وجداني. لم أدرِ في أي اتجاهٍ أذهب؛ فتركتُ نفسي سائراً على غير هُدىً مُستمتعاً بالتمشية والفُرجة، وتيقنتُ أني تُهتُ تماماً في هذه الشوارع العتيقة.

فجأةً وجدتُ نفسي أمام محل أحذيةٍ قديمٍ جداً، وكان شبه مُظلمٍ من الداخل، وقفتُ مُتكاسلاً بلا هدفٍ مُعينٍ أمام الواجهة الزجاجية للمحل، وبدون سببٍ وجدتُ نفسي أدخل المحل لأجد رجلاً في نهاية السبعينات من عُمره، نهض مُتهللاً للترحيب بي وسألني عن طلبي، في حقيقة الأمر لم يكن هناك أي شيءٍ مُحددٍ في ذهني، ولم تكن عندي أية نيةٍ لشراء حذاءٍ، ولكني كنتُ مُستسلماً للأمور بشكلٍ عجيبٍ، طلبتُ منه على سبيل الاسترسال أن يُريني بعض الأحذية الجلد أو الشمواه من اللونين الأسود والبني، ولكن لم يكن في داخلي أية نيةٍ للشراء، لم أكن أعرف لماذا أفعل ذلك! بدأ الرجل في استعراض كل ما عنده من أحذيةٍ، ولم أجد في النهاية مقاسي ولا ألواني المفضًلة. وبدلاً من أن أشكر الرجل على تعبه وأُغادر المحل وجدتُ نفسي أقول للرجل: "سأشتري هذه الأحذية الثلاثة"، ووجدتُ نفسي أدفع للرجل كل ما طلبه من مالٍ دون مُساومةٍ، راضياً! كيف؟ ولماذا؟ لا أدري، لكن هذا ما فعلتُ! ربما بسبب نظرات الرجل اليائس من أن أشتري منه أي حذاءٍ، وربما لأنه كان يشكو لي أنه من أسابيع لم يبع حذاءً واحداً. تركتُ الرجل وهو يشكر الله على ما جاءه من رزقٍ من حيث لا يحتسب، وخرجتُ مُسرعاً وأنا لا أفهم ماذا فعلتُ، ولكن كانت بداخلي سعادةٌ لا توصف أنني كنتُ سبباً في جبر خاطر هذا الرجل البسيط، وإحساسٌ بأن الله سُبحانه وتعالى استعملني للخير ويسَّر لي أداءه. الغريب أنني لو سُئلتُ أين هذا المحل؟ وما هو اسمه؟ ستكون إجابتي "لا أعرف!"، ولو حاولتُ الذهاب إليه مرةً أخرى لن أعرف!

رجعتُ إلى سيارتي بعد جهدٍ جهيدٍ وأنا أحمل هذه الأحذية، والتي سوف تذهب لأصحاب نصيبها بإذن الله، وقدتُ سيارتي راجعاً وأنا أفكر في رحمة ربنا وترتيباته العجيبة -سُبحانه وتعالى- في أرزاق البشر، كنتُ ذاهباً لشراء لوازم كهربائية فساقتني الأقدار ليصل المال إلى هذا الرجل، وأكملتُ في نفسي مُبتسماً: "اليوم كان يوماً من ترتيب المولى عزَّ وجلَّ ساقني إلى عمل الخير سَوْقاً".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، قال المُفسرون لهذه الآية الكريمة إن تسخير الله سبحانه للخلق بعضهم لبعضٍ آيةٌ من آيات الله، تحار فيها العقول ويقصر عنها الإدراك؛ تحتاج مساعدةً في أمرٍ ما فيُسخِّر لك ربك من يكفيك أمرك ويُعينك فوق ما كنتَ تأمل، لا تدري من أين جاء وكيف جاء، لا تدري كيف ساقه الله إليك.

هذا ما حدث مع الرجل كبير السن صاحب محل الأحذية، ساق الله له من يشتري منه بأكثر مما كان يتوقع. أما الرجل الذي اشترى من غير وجود نيةٍ للشراء، ولا معرفةٍ سابقةٍ بهذا المحل بالذات، فقد انطبق عليه قول القائل: (إذا أحبك الله استعملك)؛ اختاره المولى عزَّ وجلَّ ليكون سبباً في سعادة غيره وجبر خواطرهم وإغنائهم عن السؤال، سواءً في ذلك صاحب المحل، وهؤلاء الذين سيكون من نصيب كلٍ منهم حذاءٌ جديدٌ اشتراه لهم وحمله إليهم من لم يكن يُخطط لذلك أبداً!

 

إن الله سُبحانه وتعالى إذا أحب عبداً عسَّله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ]، قيل: وما عسَّله؟ قال: [يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ]. «عسَّله» أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

وفي روايةٍ: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، قيل: وما استعمله؟ قال: [يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ]. وفي معنى «استعمله» يقول أحد العُلماء: على ظهر هذه البسيطة التي نعيش عليها أكثر من سبعة آلاف مليون من البشر يعيشون، كُلهم ذوو اتجاهاتٍ شتى، وأهدافٍ مُختلفةٍ، واتجاهاتٍ مُتعددةٍ، فمن منهم موفقٌ في عمله يسعى لما ينبغي أن يسعى إليه من رضا الله؟ قليلٌ ما هُم! ماذا لو أحبك الله من بين هذه المليارات السبعة؟ (إذا أحبك الله استعملك)؛ فيربط همتك بمطمحٍ كبيرٍ تنشغل في تحصيله، فيصرفك عن فنون اللهو وأنواع الملذات الرخيصة؛ لتقوم بعملٍ أجلَّ وأعظم، إنه يستعملك لما فيه رضاه، وما فيه نفع نفسك وقضاء حوائجها، ثم نفع الآخرين من بعد. إنه يستعملك في عملٍ يوصلك إلى الدار الآخرة مُطمئناً آمناً من كل فزعٍ أو خوفٍ.

قال أحد التابعين: “وإذا أحب الله عبداً أكثر حوائج الخلق إليه"، وقال آخر: “إذا أحب الله عبداً اصطنعه لنفسه، واجتباه لمحبته، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذِكره، وجوارحه بخدمته”. وقال ثالثٌ: "إذا أردتَ أن تعرف مقامك عند الله، فانظر فيمَ استعمَلكَ؟ فإذا أحبَّ الله عبداً استعمله في الخير، وجعل حوائج الناس إليه، وفتح على يديه باب الأعمال الصالحة، وجعله أداة خيرٍ للناس"؛ فأن يكون لك عَشرة إخوةٍ، وتختارك أمُّكَ أنتَ لتقضي لها حاجتها، فهذا من استعمال الله لك، وأن يقف بجوارك رجلٌ كبيرٌ على الرصيف لتأخذ بيده ليعبر إلى الجانب الآخر من الطريق، فهذا من استعمال الله لك. فربما يصطفيك من بين عباده، ويسوقك بلطفه الخفي العجيب إلى طاعةٍ أنت غافلٌ عنها، يختارك من بين خَلْقه -على كثرتهم- لتُغيث عبداً ملهوفاً ضاقت عليه الحيلة، فيرحمك كما رحمته، ويكون هذا المُحتاج رحمةً لك وبركةً عليك من حيث لا تدري.

 

إذا عسَّلك الله جلَّ جلاله أو استعملك لعمل خيرٍ، فما ذلك إلا ليدَّبر لمُحتاجٍ ما يحتاج إليه بكرامةٍ وعزة نفسٍ، كما أن في تدبيره -سُبحانه- حباً لك؛ إذ ساقك سَوْقاً إلى هذا المُحتاج، لتعمل عملاً صالحاً، تؤجر عليه في الدنيا بحُب الناس لك وذِكرك بالخير، وفي الآخرة بالثواب العظيم.

وفي ذلك قال الشاعر:

وَاشكُر فَضَائِلَ صُنعِ اللَّهِ إِذ جُعِلَت  إِلَيكَ، لَا لَكَ عِندَ النَّاسِ حَاجَاتُ

قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم   وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ

 

أحبتي.. لا شكَّ أن من علامات توفيق الله للعبد تيسيره للعمل الصالح؛ فإذا أراد بعبده خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه، مثل هذا العبد اختار مقعده في الجنة وهو ما زال في الدنيا.

اللهم اجعلنا ممن أحببتهم فاستعملتهم. اللهم استعمِلنا ولا تستبدلنا، ووفِّقنا للسعي إلى ما يُرضيك. اللهم افتح لنا أبواب الخير، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ووفقنا للعمل الصالح، واستعملنا في طاعتك، وأحسن لنا الختام، واقبضنا على أحبّ الأعمال والأحوال إليك.

 

                                                          https://bit.ly/3J2kbKM

الجمعة، 13 يناير 2023

فضيلة الرفق

 

خاطرة الجمعة /378


الجمعة 13 يناير 2023م

(فضيلة الرفق)

 

قصةٌ حقيقيةٌ حصلت في مدينة الباحة بالمملكة العربية السعودية. القصة هي لأبٍ كبيرٍ في السن، كانت وظيفته مُعلماً، من جيل الطيبين كما يُسمونه. بعد أن تقدم به العُمر، وتُوفيت زوجته، صار يسكن مع أولاده ليخدموه، وقد رزقه الله أربعة أولاد كُلهم وبفضل الله من البارين. كان هذا الأب معروفاً بقوته وهيبته ونفاذ كلمته، وكان إذا قيل اسمه يخافه جميع من في المدرسة، وكان كذلك في بيته ومع أبنائه؛ يضربهم دائماً ضرباً شديداً، ويُعلق لهم خيزرانةً عند الباب يُسميها "وسمة" لأنها تترك أثراً على الجلد مثل وسم الكي.

عندما شاخ هذا الأب وأدركه الضعف، شعر بأن أولاده يُدركون هذا الشيء ويتعاملون معه على أساس هذا المنطق.

يروي لنا القصة أحد أولاده فيقول: إن والدهم أرسل لهم رسالةً يقول فيها:

العادات غالباً تسوقنا للخطأ، عذراً أولادي على ما بدر مني في صغركم؛ كنتُ شديد القسوة عليكم ليس لأني لا أُحبكم، لا والله، بل أنتم أغلى من أنفاسي التي تشق صدري، ولكن في زماننا كان الأب القاسي هو الوحيد الذي يُربي أولاده، أما الحنون الذي ينتهج (فضيلة الرفق) فهو أبٌ فاشلٌ يسوق أبناءه إلى الفشل، فنهجت نهج القوة متوقعاً أن ذلك أنفع لكم وأفضل، ولم يكن العلم يؤثر في هذه العادات كثيراً. عندما أراكم تُقبِّلون أبناءكم وتترفقون بهم فوالله إن قلبي يتقطع من الوجع، وأود أن أصيح وأقول لكم وأنا أيضاً كنتُ أحبكم ولا أزال؛ فلماذا عندما يُقبّل أحدكم ولده ينظر إليّ نظرةً كالخنجر المسلول ليطعن بها قلبي، وكأنكم تقولون تعلّم الحب والحنان، وافهم كيف ينبغي أن يتعامل الآباء مع الأبناء.

أولادي هذا ليس زماننا، ولا يُمكن أن يرجع شيءٌ فات أوانه، فلا تُعلّموا شيخاً ما لم يعد ينفعه، وأنا أطلب منكم التماس العُذر وقبول السماح، وإلا أنا أمامكم الآن، وتلك عصاتي، وهذا جنبي، فاقتصّوا مني ولا تُعذبوني بنظراتكم تلك.

يقول أصغر أولاده الذي هو الآن أبٌ لولدين وبنت: كلنا تأثرنا برسالة والدي، وذهبنا نُقبل رأسه ويديه وقدميه، وأجمعنا كُلنا بأنه لولا الله ثم تربيته لنا لما كُنا رجالاً ناجحين.

ثم يقول الابن: عندما ذهبتُ إلى سريري لأنام ظلت كلمات والدي ترن في أذني وتؤلمني في قلبي، وحينها أُجهشت بالبكاء بُكاءً مراً فكتبتُ لأبي قائلاً: أبي الحبيب؛ قد تكون أدركتَ جُزءاً من نظراتنا لك حين نحتضن أولادنا، وهذا دليل فطنتك، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله، فوالله إني أنظر إليك وأقول ماذا لو قبّلني أبي الآن؟! فأنا وإن كنتُ كبرتُ وأصبحتُ أباً وخالط الشيب سواد شعري، فهذا لا يعني أني لا أحتاج لحضنك الدافئ وقبلاتك الحارة!! فهل لي بحضنٍ واحدٍ وقُبلة؟"، أرسلتها إلى هاتف أبي ونمتُ، وعند الفجر خرجتُ من غرفتي لأجل أن أُصلي فوجدتُ أبي واقفاً على عكازه عند الباب، ويقول لي باللغة العامية:

تعال يا بوي أضمك إلى صدري..

ما حسبت الضرب بيشب جمري..

إن كان أني أصبت فلله درّي..

وإن كان أني غلطت فلك عذري..

ما تدري عن غلاك لكن أنا أدري..

أنت الروح والكبد وحزام ظهري..

تعال يا بني أضمك وخذني لقبري..

وضمني إلى صدره وقبّلني وبكينا نحن الاثنان، وخرجت زوجتي وشاهدت هذا المنظر المؤثر فبكت بُكاءً شديداً، وما هي إلا دقائق حتى شهق الأب شهقةً طويلةً ووقع على الأرض وتُوفي، حاولنا أن نُسعفه لكن أجله كان قد حان. رحم الله والدنا العظيم.

 

أحبتي في الله.. علّق راوي القصة عليها بقوله: احرصوا يا أبناء على (فضيلة الرفق) بوالديكم؛ فقد يكون لديهم ما يقولون ولكن لا يستطيعون البوح به، كما فعل هذا الأب، فانسوا أي ماضٍ مؤلمٍ، وتذكروا أن لهم فضلاً؛ فهُم من قاموا على مصالحكم حتى أصبحتم رجالاً راشدين وأمهاتٍ صالحات.

 

يقول أهل العلم إن قسوة الأب لا تُسقط حقه في البِر؛ فلقد أمرنا الله بالإحسان إلى الوالدين، وجعل ذلك من أعظم الفرائض بعد الإيمان بالله؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾.

أما عن قسوة الأب فهي لا شك من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، لكن مهما كان من سوء خُلُقه وظُلمه لأبنائه، فإن ذلك لا يُسقط حقه في البِر وعدم جواز مُقاطعته أو الإساءة إليه، فإن الله قد أمر بالمصاحبة بالمعروف للوالد المُشرك الذي يأمر ولده بالشرك؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.

وإنما لك أن تنصحه بالرفق، أو تستعين بمن ينصحه ممن يقبل نصحه، وتُكثر له الدعاء بالهداية، ولا تيأس أبداً، فليست هدايته في هذه السن أمراً بعيداً على الله، واعلم أنك إذا قمتَ بما أمرك الله نحوه من البر والإحسان، فلا يضرك غضبه وعدم رضاه، ونُنبهك إلى أن حرصك على بر والدك والإحسان إليه، إذا كان خالصاً لله، فهو من أقرب الطُرق إلى الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه].

التربية الناجحة هي القائمة على التعليم والصبر عليه، والتوجيه والتقويم الرفيق، والحزم عند التجاوز بعد تفهيمٍ وتوضيحٍ، والثواب النافع، والعقاب الذي ينفع ولا يضر. إن أبناءنا لحومٌ رقيقةٌ ونفوسٌ هشةٌ، وعقولٌ تبدأ في البناء، وقلوبٌ لا تزال تتعرف على الحياة والكون من حولها، فلو أردنا تربيتها فلنعلم أن السبيل إلى ذلك هو العلم والرفق والفهم ومُتابعة منهاج القرآن الكريم وسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم. إن بناء القيم هو الطريق الأمثل لتوجيه السلوك، فالضغط لتوجيه السلوك عادةً ما يأتي بنتائج سلبيةٍ، إنما التربية تكون بالرفق؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَهُ].

 

وإلى كل أبٍ قاسٍ على أبنائه نقول -كما قال الأولون- هُم ثمار قُلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماءٌ ظليلةٌ، فإن طلبوا فأعطهم، وأن غضبوا فأرضهم، يمنحوك وُدهم، ويُحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويُحبوا وفاتك.

 

وهذه نصيحة عالمٍ إلى كل أبٍ قاسٍ:

تذكر أن لك يوماً عند ربك ستُحاسب فيه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، واعلم أن من أعظم الأشياء أن تترك ولداً بعد موتك يدعو لك بالمغفرة والرضوان والسكنى في أعالي الجنان. تأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]؛ فما أجمل أن يكون لك بعد موتك ولدٌ أو فتاةٌ يدعوان لك بكل خيرٍ، لكن ماذا لو كنتَ قاسياً لوجدتَ من يدعو عليك لا لك، ولوجدتَ من يتمنى موتك ويبحث عن رحيلك.

 

ويرى الخبراء في التربية أنه إذا كانت الشدة الزائدة، والقسوة المفرطة، غير مقبولةٍ تربوياً وشرعياً، فإن الدلال الزائد مرفوضٌ تربوياً أيضاً، والخير في التوسط، وسلوك السبيل التربوي الصحيح، المبني على الترغيب والترهيب؛ فيتم تشجيع الأبناء وترغيبهم ومُكافأتهم على الأفعال الحسنة والتصرفات الجيدة، والتفوق في الدراسة، وإنجاز الأعمال المنوطة بهم، لكن إذا أساؤوا فينبغي تقويمهم، ومنعهم من الخطأ، بما يقتضيه المقام، وحجم الخطأ، وبالوسائل الشرعية والتربوية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

 

أحبتي.. ليكن منهجنا في تربيتنا لأبنائنا قائماً على التوجيه الإلهي لسيد الخلق؛ النبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول له رب العزة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فتمثلت رحمة الله للنبي -عليه الصلاة والسلام- في أن جعله الله -عزَّ وجلَّ- ليناً مع المؤمنين، مُهتماً بشئونهم، حريصاً عليهم، رؤوفاً رحيماً بهم، وهذا ما ينبغي علينا أن نتخذه قُدوةً لنا ومثالاً نحتذي به؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. ولا نعني بالرأفة والرحمة ترك الحزم بالكُلية، وإنما المقصود هو البُعد عن القسوة الشديدة غير المُبررة، والالتزام بنهج التوازن بين القسوة الزائدة والتدليل المُبالغ فيه؛ فالوسطية بينهما مع المُرونة والحكمة في الميل أحياناً لأيٍ منهما، وتغليب (فضيلة الرفق) والصفح والتسامح قدر الإمكان هو الطريق الأمثل للتربية؛ يقول الشاعر:

فَقَسا لِتَزدَجِروا وَمَن يَكُ حازِماً  فَليَقسُ أَحياناً وَحيناً يَرحَمُ

كما أن على الأبناء أن يُظهروا لآبائهم (فضيلة الرفق) على الدوام، وفاءً وعرفاناً منهم بالجميل تجاه من أفنوا أعمارهم لتربيتهم.

اللهم اغفر لنا، ولآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً.

 

https://bit.ly/3iByMSF

الجمعة، 6 يناير 2023

على قدر نياتكم تُرزقون

 

خاطرة الجمعة /377


الجمعة 6 يناير 2023م

(على قدر نياتكم تُرزقون)

 

يقول راوي القصة إن صاحب شركةٍ قرر أن يُقدِّم لجميع موظفيه من الرجال والنساء هدايا؛ فأتى بمجموعةٍ من الساعات الرجالية والنسائية الفخمة، ووضعها على طاولةٍ كبيرةٍ، وطلب من كل فردٍ من الموظفين أن يختار ساعته بنفسه، وأخبرهم أنه سيُعلن بعد قليلٍ عن موظفٍ واحدٍ ستتم ترقيته. أخذ كل رجلٍ من الموظفين ساعةً رجاليةً عدا موظفٍ واحدٍ فقط أخذ ساعةً نسائيةً؛ فتعجب صاحب الشركة وسأله لماذا أخذ ساعةً نسائيةً؟ فرّد الموظف: "هي لزوجتي"، طالعه الجميع وتهامس كل واحدٍ مع زميله في سُخريةٍ منه، وقال بعضهم أنه ضعيف الشخصية، بينما أكمل الموظف كلامه برصانةٍ شديدةٍ: "إنها عِشرة عُمْر؛ لي منها خمسة أولادٍ، وهي زوجةٌ مثاليةٌ، لكن للأسف ليس في مقدوري شراء هدايا قيمةٍ لها في المُناسبات؛ فأكتفي بأن أهديها بعض كلمات الشُكر، ومع ذلك أراها راضيةً كل الرضا، واليوم أعلم أنها ستفرح كثيراً بهذه الهدية؛ فهي أقل شيءٍ أقدمه لها".

بعد هذا الكلام الجميل تجاه زوجته حمل صاحب الشركة ساعةً أخرى رجاليةً وقدَّمها هديةً لهذا الموظف، وقرر أن يقوم بترقيته وقال له: "كنتُ في حيرةٍ شديدةٍ بينك وبين ثلاثة أشخاصٍ، لكن موقفك هذا يدل على أنك مُخلصٌ لزوجتك، وبالتالي ستكون مُخلصاً لعملك؛ لذا لا أرى سواك يستحق الترقية". شكره الموظف واتجه إلى بيته يحمل الهدية، ويحمل الفرحة لزوجته الحبيبة؛ استقبلته بمُنتهى الود والرضا، وقدَّم لها الساعة فضحكت بشدةٍ فسألها: "ألهذه الدرجة أسعدتك الهدية؟!"، فردت بعفويةٍ: "اليوم، وبينما أنا في السوق ارتطمت بي فتاةٌ صغيرةٌ تبيع الخضار؛ فأمسكتُ بيدها أربتُ عليها، فأعجبتها ساعتي، فأعطيتها إياها بمُنتهى اللُطف، رغم أنك تعلم جيداً كم أحب تلك الساعة، لكن سعادة الفتاة بها أنستني كل شيءٍ، وها أنت تُقدِّم لي ساعةً أثمن وأجمل كثيراً من ساعتي"، ابتسم الزوج وتذكر أنه هو الآخر حين حمل لها الساعة حصل على أخرى له، واستحق الترقية لسلامة قلبه ونيته الطيبة تجاه زوجته.

 

أحبتي في الله.. النية الطيبة دائماً تجلب الخير لصاحبها، وصدق من قال: (على قدر نياتكم تُرزقون)، كما صدق من قال: "على قدر النوايا تُجلب العطايا".

 

يقول أهل العلم إن النوايا الطيبة مفتاح الخير في هذه الحياة، وبوابة التوفيق والرزق، وهي من العبادات الخفية، فكلما كان داخل الإنسان نقياً ابتسمت له الدروب، ولانت له الخطوب، ومالت إليه القلوب؛ لأن صفاء النية ونقاء السريرة وحُسن الظن مفاتيح لكثيرٍ من كنوز الدنيا والآخرة. والنية سر العبودية وروحها؛ فهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد؛ لأنها من أعمال القلوب، وأعمال القلوب أنفع وأنجع الأعمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّما الأعمالُ بالنِّيات]، فهي مِلاك الأعمال، وعليها يكون القبول والرد، والثواب والعقاب. ويبلغ الإنسان بنيته ما لا يبلغ بعمله؛ فقد يعجز المرءُ عن عمل الخير الذي يصبو إليه لرقة حاله، أو ضعف صحته، أو قلةِ حيلته، لكن الله المُطّلع على خبايا النفوس يرفع أصحاب النوايا الصادقة إلى ما تمنوه، لأن طِيبَ مقصدهم أرجحُ لديه من عجز وسائلهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [منْ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ]؛ فكل من صَدَقَ الله صَدَّقَه الله جلَّ في علاه، و(على قدر نياتكم تُرزقون).

ولا يُغلَق بابٌ على العبد فيصدق في نيته ويُحسِن الظن بربه إلا ويفتح الله له أبواباً أوسع وأرحب يقول سبحانه: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾.

إن النية الصالحة تفتح أبواب الخير والتوفيق والمعونة؛ فمن أوجد نية الخير في قلبه أعانه الله على عمله، وفتح له من أبواب التوفيق والتيسير على قدر نيته، يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ﴾. والله لا يُضيِّع صدق النوايا ولو خفيت عن عباده؛ يقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾.

 

كتب أحد التابعين ناصحاً واحداً من حُكام المُسلمين: "فإن نويتَ الحقَّ وأردته أعانك الله عليه، وأتاحَ لك عُمَّالاً، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب، فإنَّ عونَ الله على قدر النية؛ فمن تمَّت نيتُه في الخير تمَّ عونُ الله له، ومن قَصُرَت نيتُه قصر من العون بقدر ما قصر منه".

 

وكما أن النية الصالحة تزيد صاحبها خيراً، فإن النية السيئة تزيد صاحبها سوءاً؛ يقول تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾؛ فكما أن النية الطيبة قد تُبَلِّغ الإنسان منازلَ المُتصدقين، فإن النيةَ السيئةَ قد تُبَلِّغه منازلَ الخاسرين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [...وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

ولنا عبرةٌ في قصة أصحاب الجنة الذين أضمروا النيةَ بحرمان المساكين فعاقبهم الله، فتحولت بَساتينُهم إلى سوادٍ وجناتُهم إلى رمادٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾.

 

أحبتي.. ما أصدق عبارة (على قدر نياتكم تُرزقون)؛ فلنُصلح نوايانا حتى ننال ما وعدنا الله سُبحانه وتعالى به من عطايا الدنيا وحُسن ثواب الآخرة؛ فالنية الطيبة مفتاح الرزق الحسن في الدارين، ونظافة القلب، وسلامة الصدر، وصفاء النية، هي مفاتيح التيسير.

ولنَحذر من سوء النية؛ فإنها تجلب لصاحبها غضب الله وسخطه، وتزيد صاحبها في الدنيا هماً وغماً وشقاءً، والجزاء من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

اللهم أصلح نوايانا، وأعنّا على كل عملٍ صالحٍ يُرضيك عنا، وأكرم عطايانا، واجعلنا من عبادك المُحسنين.

 

https://bit.ly/3ioaATB

الجمعة، 30 ديسمبر 2022

اليأس من رحمة الله

 

خاطرة الجمعة /376


الجمعة 30 ديسمبر 2022م

(اليأس من رحمة الله)

 

هذه قصةٌ مُختصرةٌ لتوبة شابٍ ملحدٍ، يقول كاتبها: عشتُ في ظلال سورة النمل مع قصة سبأ وملكتهم عابدة الشمس من دون الله هي وقومها. ورغم عُمر ملكتهم الطويل في الكُفر إلا أن آيات قصتها انتهت بقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، هزتني خاتمة القصة؛ فرغم كُفر المرأة طوال عمرها، وإعانتها قومها على الكُفر إلا أن الله تعالى اكتفى منها بالاعتذار، وإبداء الندم على ما فات: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ﴾. اختصارٌ بديعٌ من ربٍ رحيمٍ، ليُسر الهداية، وحُبه سُبحانه للتوبة وأصحابها، بدليل قبوله سُبحانه الاعتذار اليسير رغم الذنب الكبير، كأن الرسالة التي تكمن خلف هذه القصة: "حتى وإن كنتَ بكُفر ملكة سبأ يكفينا منك الاعتراف والاعتذار مع الإسلام!!". أبكتني والله الخاتمة؛ فربٌّ يقبل الاعتذار مع عظيم الجُرم وقبيحه، ما أكرمه!!

قلتُ ذلك لشابٍ ولغ في الإجرام حتى الإلحاد، وكان يعيش في بلاد الكُفر، أغرته الفواحش حتى انسلخ من الدين بُغية التحلل من قيود الحلال والحرام، ولما آنستُ من نفسه لحظة سكون بعد طول اضطرابٍ، قال لي فيها مقولة العاصي السابق للنبي صلى الله عليه وسلم: "وغَدَراتي وفَجَراتي؟!"، قلتُ: "يغفرها الله إن تبتَ"، قال: "لو علمتَ قبيح ما صنعتُ؟!"، قلتُ: "لو لم يُرد بك خيراً ما أبقاك حتى هداك!!". ولا زلتُ من يومها أتذكر هزيز صدره وأزيزه وهو يحتضنني بعد هذه الكلمات.

 

أحبتي في الله.. يقول الكاتب: الشباب الوالغ الآن في المعاصي يحتاج إلى مد حبال الأمل في الله أكثر من ذي قبل، سيما وقد بدأت تخرج من أفواههم مقولةٌ ألقاها الشيطان على قلوبهم وألسنتهم، تُكَرِّس (اليأس من رحمة الله): "ما حصل قد حصل، ولن أنجو أبداً من النار!!" وما درى المساكين أن رحمة الله أوسع من ذنوبهم مهما بلغت؛ انظر إلى رحمته وهي تتدارك أنطوني جيرارد فلو صاحب الثلاثين مؤلفاً في الإلحاد، وفيلسوف بريطانيا الأول في فلسفة الأديان، والذي ألحد بسببه خلقٌ كثيرٌ، ثم إذا برحمة الله تُدركه حين تاب، وقد بلغ التسعين من عمره. وهذا قيسٌ بن عاصم التميمي، أول من وأد البنات في الجاهلية، حتى وصل عدد من وأدهن من بناته ثماني بناتٍ، غير أن الله مدّ في عُمره حتى قدم على النبي مُسلماً مُبايعاً رضوان الله عليه. والمواقف في ذلك أكثر من أن تُحصى. تفكرتُ في سبب هداية أمثال هؤلاء بعد طول المسافة مع الكُفر أو المعصية فوجدتُ أنها بُقعة النور أو الخير المرتكزة في القلب، والتي ربما تُغطيها تلال الحواجز، لكنها فور انكشافها تحدث الهدايات.

 

وهل من هدايةٍ وتوبةٍ من الله الحليم الرحيم الغفور التواب أكثر من هداية رجلٍ تَمَلَّكَه (اليأس من رحمة الله) بعد أن قتل مائة نفسٍ؟ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: [كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ].

 

وعن النهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾. ويقول على لسان نبيه يعقوب عليه السلام وهو يُخاطب أبناءه: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

 

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يُبين لنا كرم المولى سُبحانه وتعالى مع من يُكرر الذنب ويُكرر التوبة؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ، قَالَ: [أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً. فَقَالَ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذَ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ. فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً. فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ]. ويوضح عليه الصلاة والسلام أن الله عزَّ وجلَّ يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَل، قال: [قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً]. ويُبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم فرحة الله سُبحانه وتعالى بتوبة العاصي: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ]. وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أهمية الاستغفار: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ].

 

ويرى العلماء أن (اليأس من رحمة الله) كبيرةٌ من الكبائر، وأنه صفةٌ من صفات الكُفار، ولا يلزم من الاتصاف بصفةٍ من صفات الكفار أن يكون المرء كافراً بما في الكلمة من معنى، بل هو فاسقٌ، وإن أدى به الحال إلى إنكار سعة رحمة الله كان كافراً والعياذ بالله. ومع عِظم الذنب إلا أن الله تعالى قد فتح باب التوبة لمن رغب بالرجوع عن ذنبه، وأراد أن يتوب ويستغفر، ولا ينبغي له أن يستبعد عفو الله تعالى ومغفرته، وودَّ الشيطان لو ظفر بهذا من العاصي. يجب على العاصي -مهما بلغت ذنوبه- أن يندم وأن يؤرقه ذنبه، لكن لا ينبغي أن يجعل بينه وبين الله تعالى حائلاً يمنعه من التوبة والاستغفار؛ فإن الله تعالى لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، فرحمته وسعت كل شيءٍ؛ ومن أجل ذلك فالإنابة إلى الله تعالى مطلوبةٌ، وباب التوبة إليه من الذنوب جميعاً مفتوحٌ للعبد ما لم يُغرغِر {أي: ما لم تبلُغْ رُوحُه حُلْقومَه، وهو يُشرف على الموت}. فلا ينبغي للمُسلم مهما بلغت ذنوبه أن ييأس ويقنط ويسيء الظن بالله ويتخيل أن الله لن يغفر له؛ فالله -سُبحانه وتعالى- ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وما خلقنا ليعذبنا، بل إنه ﴿رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ غفارٌ للذنوب، والمُسلم الواعي هو من يتخذ السقوط في المعصية بدايةَ علاقةٍ جديدةٍ، وقُرباً من الله قبل أن يتحكم فيه اليأس والقنوط من رحمة الله، فلا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه فإنه سُبحانه ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وهو سُبحانه بَرٌ بعباده لطيفٌ بهم. أما القنوط فهو من وسوسة الشيطان يُزين هذا المُنكر العظيم ويوهم العاصي أنه من أهل النار ولا بد، وليس الأمر كذلك إن شاء الله، بل الواجب على المؤمن فعله إن هو عصى الله أن يُجدد التوبة، ويُتبع ذلك بحسناتٍ كثيرةٍ حتى تُذهب أثر هذه المعاصي؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. ويقول صلى الله عليه وسلم: [وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا].

 

أحبتي.. يظن البعض أن لا توبة لمن يُكرر الذنب، وهذا من تزيين الشيطان؛ ليزيد من يأس وقنوط الإنسان، فيبدأ -كما يقول أحد العارفين- بالانسحاب من تأدية الفرائض، وبالتالي يتخاذل عن أعمال الخير، ظناً منه أنه لا توبة له، وأنَّه مطرودٌ من رحمة الله. والصحيح أن كل عاصٍ عليه المُسارعة إلى التوبة، والندم على ما فعل، والإكثار من الأعمال الصالحة، والحرص على أن يكون حاله بعد التوبة خيراً من حاله قبل ارتكاب المعاصي، والله تعالى يتوب على من تاب؛ فباب التوبة مفتوحٌ ما دامت الروح في الجسد، فإن عاد العاصي وفعل المعصية فليكرر التوبة، فلا يزال الله يغفر له ما دام يُذنب ويتوب، مهما تكرر ذلك منه.

أما الدُعاة والوعاظ والمربون فمُطالَبون بتوسم الخير، ومظنة وجود النية الصادقة المُخلصة لتوبةٍ نصوحٍ في نفوس العاصين، فيدعونهم برفقٍ ولينٍ وسعة صدرٍ، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وتأسياً بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: [إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ].

اللهم اجعلنا من المهتدين، ومن الهادين المبشرين غير المنفرين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.

 

https://bit.ly/3GtjRD4