الجمعة، 20 يناير 2023

إذا أحبك الله استعملك

                                                       خاطرة الجمعة /379


الجمعة 20 يناير 2023م

(إذا أحبك الله استعملك)

 

هذه القصة من «القاهرة» يرويها لنا صاحبها؛ كتب يقول:

قبل عدة أيامٍ قررتُ النزول إلى منطقة وسط البلد لشراء بعض اللوازم الكهربائية التي لا تتوفر إلا هناك. هذه هي المرة الأولى التي أقوم فيها بجولةٍ في وسط البلد منذ زمنٍ بعيد. كان صباح يوم جمعةٍ، الشوارع هادئةٌ، تركتُ سيارتي بعد منزل كوبري «رمسيس» على اليمين وقررتُ أن أتمشى إلى منطقة «باب اللوق» والشوارع المحيطة بها. بدأتُ أستعيد ذكرياتي القديمة مُروراً بشوارع وتقاطعات وسط البلد؛ وجدتُ بعض المحلات الجديدة والأسماء الجديدة، ولكن لا تزال هناك الكثير من الأماكن القديمة مُحتفظةً بعبق وسط البلد، والتي لها أجمل ذكرياتٍ في وجداني. لم أدرِ في أي اتجاهٍ أذهب؛ فتركتُ نفسي سائراً على غير هُدىً مُستمتعاً بالتمشية والفُرجة، وتيقنتُ أني تُهتُ تماماً في هذه الشوارع العتيقة.

فجأةً وجدتُ نفسي أمام محل أحذيةٍ قديمٍ جداً، وكان شبه مُظلمٍ من الداخل، وقفتُ مُتكاسلاً بلا هدفٍ مُعينٍ أمام الواجهة الزجاجية للمحل، وبدون سببٍ وجدتُ نفسي أدخل المحل لأجد رجلاً في نهاية السبعينات من عُمره، نهض مُتهللاً للترحيب بي وسألني عن طلبي، في حقيقة الأمر لم يكن هناك أي شيءٍ مُحددٍ في ذهني، ولم تكن عندي أية نيةٍ لشراء حذاءٍ، ولكني كنتُ مُستسلماً للأمور بشكلٍ عجيبٍ، طلبتُ منه على سبيل الاسترسال أن يُريني بعض الأحذية الجلد أو الشمواه من اللونين الأسود والبني، ولكن لم يكن في داخلي أية نيةٍ للشراء، لم أكن أعرف لماذا أفعل ذلك! بدأ الرجل في استعراض كل ما عنده من أحذيةٍ، ولم أجد في النهاية مقاسي ولا ألواني المفضًلة. وبدلاً من أن أشكر الرجل على تعبه وأُغادر المحل وجدتُ نفسي أقول للرجل: "سأشتري هذه الأحذية الثلاثة"، ووجدتُ نفسي أدفع للرجل كل ما طلبه من مالٍ دون مُساومةٍ، راضياً! كيف؟ ولماذا؟ لا أدري، لكن هذا ما فعلتُ! ربما بسبب نظرات الرجل اليائس من أن أشتري منه أي حذاءٍ، وربما لأنه كان يشكو لي أنه من أسابيع لم يبع حذاءً واحداً. تركتُ الرجل وهو يشكر الله على ما جاءه من رزقٍ من حيث لا يحتسب، وخرجتُ مُسرعاً وأنا لا أفهم ماذا فعلتُ، ولكن كانت بداخلي سعادةٌ لا توصف أنني كنتُ سبباً في جبر خاطر هذا الرجل البسيط، وإحساسٌ بأن الله سُبحانه وتعالى استعملني للخير ويسَّر لي أداءه. الغريب أنني لو سُئلتُ أين هذا المحل؟ وما هو اسمه؟ ستكون إجابتي "لا أعرف!"، ولو حاولتُ الذهاب إليه مرةً أخرى لن أعرف!

رجعتُ إلى سيارتي بعد جهدٍ جهيدٍ وأنا أحمل هذه الأحذية، والتي سوف تذهب لأصحاب نصيبها بإذن الله، وقدتُ سيارتي راجعاً وأنا أفكر في رحمة ربنا وترتيباته العجيبة -سُبحانه وتعالى- في أرزاق البشر، كنتُ ذاهباً لشراء لوازم كهربائية فساقتني الأقدار ليصل المال إلى هذا الرجل، وأكملتُ في نفسي مُبتسماً: "اليوم كان يوماً من ترتيب المولى عزَّ وجلَّ ساقني إلى عمل الخير سَوْقاً".

 

أحبتي في الله.. يقول تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، قال المُفسرون لهذه الآية الكريمة إن تسخير الله سبحانه للخلق بعضهم لبعضٍ آيةٌ من آيات الله، تحار فيها العقول ويقصر عنها الإدراك؛ تحتاج مساعدةً في أمرٍ ما فيُسخِّر لك ربك من يكفيك أمرك ويُعينك فوق ما كنتَ تأمل، لا تدري من أين جاء وكيف جاء، لا تدري كيف ساقه الله إليك.

هذا ما حدث مع الرجل كبير السن صاحب محل الأحذية، ساق الله له من يشتري منه بأكثر مما كان يتوقع. أما الرجل الذي اشترى من غير وجود نيةٍ للشراء، ولا معرفةٍ سابقةٍ بهذا المحل بالذات، فقد انطبق عليه قول القائل: (إذا أحبك الله استعملك)؛ اختاره المولى عزَّ وجلَّ ليكون سبباً في سعادة غيره وجبر خواطرهم وإغنائهم عن السؤال، سواءً في ذلك صاحب المحل، وهؤلاء الذين سيكون من نصيب كلٍ منهم حذاءٌ جديدٌ اشتراه لهم وحمله إليهم من لم يكن يُخطط لذلك أبداً!

 

إن الله سُبحانه وتعالى إذا أحب عبداً عسَّله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ]، قيل: وما عسَّله؟ قال: [يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ]. «عسَّله» أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

وفي روايةٍ: [إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ]، قيل: وما استعمله؟ قال: [يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ]. وفي معنى «استعمله» يقول أحد العُلماء: على ظهر هذه البسيطة التي نعيش عليها أكثر من سبعة آلاف مليون من البشر يعيشون، كُلهم ذوو اتجاهاتٍ شتى، وأهدافٍ مُختلفةٍ، واتجاهاتٍ مُتعددةٍ، فمن منهم موفقٌ في عمله يسعى لما ينبغي أن يسعى إليه من رضا الله؟ قليلٌ ما هُم! ماذا لو أحبك الله من بين هذه المليارات السبعة؟ (إذا أحبك الله استعملك)؛ فيربط همتك بمطمحٍ كبيرٍ تنشغل في تحصيله، فيصرفك عن فنون اللهو وأنواع الملذات الرخيصة؛ لتقوم بعملٍ أجلَّ وأعظم، إنه يستعملك لما فيه رضاه، وما فيه نفع نفسك وقضاء حوائجها، ثم نفع الآخرين من بعد. إنه يستعملك في عملٍ يوصلك إلى الدار الآخرة مُطمئناً آمناً من كل فزعٍ أو خوفٍ.

قال أحد التابعين: “وإذا أحب الله عبداً أكثر حوائج الخلق إليه"، وقال آخر: “إذا أحب الله عبداً اصطنعه لنفسه، واجتباه لمحبته، واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذِكره، وجوارحه بخدمته”. وقال ثالثٌ: "إذا أردتَ أن تعرف مقامك عند الله، فانظر فيمَ استعمَلكَ؟ فإذا أحبَّ الله عبداً استعمله في الخير، وجعل حوائج الناس إليه، وفتح على يديه باب الأعمال الصالحة، وجعله أداة خيرٍ للناس"؛ فأن يكون لك عَشرة إخوةٍ، وتختارك أمُّكَ أنتَ لتقضي لها حاجتها، فهذا من استعمال الله لك، وأن يقف بجوارك رجلٌ كبيرٌ على الرصيف لتأخذ بيده ليعبر إلى الجانب الآخر من الطريق، فهذا من استعمال الله لك. فربما يصطفيك من بين عباده، ويسوقك بلطفه الخفي العجيب إلى طاعةٍ أنت غافلٌ عنها، يختارك من بين خَلْقه -على كثرتهم- لتُغيث عبداً ملهوفاً ضاقت عليه الحيلة، فيرحمك كما رحمته، ويكون هذا المُحتاج رحمةً لك وبركةً عليك من حيث لا تدري.

 

إذا عسَّلك الله جلَّ جلاله أو استعملك لعمل خيرٍ، فما ذلك إلا ليدَّبر لمُحتاجٍ ما يحتاج إليه بكرامةٍ وعزة نفسٍ، كما أن في تدبيره -سُبحانه- حباً لك؛ إذ ساقك سَوْقاً إلى هذا المُحتاج، لتعمل عملاً صالحاً، تؤجر عليه في الدنيا بحُب الناس لك وذِكرك بالخير، وفي الآخرة بالثواب العظيم.

وفي ذلك قال الشاعر:

وَاشكُر فَضَائِلَ صُنعِ اللَّهِ إِذ جُعِلَت  إِلَيكَ، لَا لَكَ عِندَ النَّاسِ حَاجَاتُ

قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم   وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ

 

أحبتي.. لا شكَّ أن من علامات توفيق الله للعبد تيسيره للعمل الصالح؛ فإذا أراد بعبده خيراً، حبَّب إليه الخير وهيَّأ له أسبابه، مثل هذا العبد اختار مقعده في الجنة وهو ما زال في الدنيا.

اللهم اجعلنا ممن أحببتهم فاستعملتهم. اللهم استعمِلنا ولا تستبدلنا، ووفِّقنا للسعي إلى ما يُرضيك. اللهم افتح لنا أبواب الخير، واجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ووفقنا للعمل الصالح، واستعملنا في طاعتك، وأحسن لنا الختام، واقبضنا على أحبّ الأعمال والأحوال إليك.

 

                                                          https://bit.ly/3J2kbKM

الجمعة، 13 يناير 2023

فضيلة الرفق

 

خاطرة الجمعة /378


الجمعة 13 يناير 2023م

(فضيلة الرفق)

 

قصةٌ حقيقيةٌ حصلت في مدينة الباحة بالمملكة العربية السعودية. القصة هي لأبٍ كبيرٍ في السن، كانت وظيفته مُعلماً، من جيل الطيبين كما يُسمونه. بعد أن تقدم به العُمر، وتُوفيت زوجته، صار يسكن مع أولاده ليخدموه، وقد رزقه الله أربعة أولاد كُلهم وبفضل الله من البارين. كان هذا الأب معروفاً بقوته وهيبته ونفاذ كلمته، وكان إذا قيل اسمه يخافه جميع من في المدرسة، وكان كذلك في بيته ومع أبنائه؛ يضربهم دائماً ضرباً شديداً، ويُعلق لهم خيزرانةً عند الباب يُسميها "وسمة" لأنها تترك أثراً على الجلد مثل وسم الكي.

عندما شاخ هذا الأب وأدركه الضعف، شعر بأن أولاده يُدركون هذا الشيء ويتعاملون معه على أساس هذا المنطق.

يروي لنا القصة أحد أولاده فيقول: إن والدهم أرسل لهم رسالةً يقول فيها:

العادات غالباً تسوقنا للخطأ، عذراً أولادي على ما بدر مني في صغركم؛ كنتُ شديد القسوة عليكم ليس لأني لا أُحبكم، لا والله، بل أنتم أغلى من أنفاسي التي تشق صدري، ولكن في زماننا كان الأب القاسي هو الوحيد الذي يُربي أولاده، أما الحنون الذي ينتهج (فضيلة الرفق) فهو أبٌ فاشلٌ يسوق أبناءه إلى الفشل، فنهجت نهج القوة متوقعاً أن ذلك أنفع لكم وأفضل، ولم يكن العلم يؤثر في هذه العادات كثيراً. عندما أراكم تُقبِّلون أبناءكم وتترفقون بهم فوالله إن قلبي يتقطع من الوجع، وأود أن أصيح وأقول لكم وأنا أيضاً كنتُ أحبكم ولا أزال؛ فلماذا عندما يُقبّل أحدكم ولده ينظر إليّ نظرةً كالخنجر المسلول ليطعن بها قلبي، وكأنكم تقولون تعلّم الحب والحنان، وافهم كيف ينبغي أن يتعامل الآباء مع الأبناء.

أولادي هذا ليس زماننا، ولا يُمكن أن يرجع شيءٌ فات أوانه، فلا تُعلّموا شيخاً ما لم يعد ينفعه، وأنا أطلب منكم التماس العُذر وقبول السماح، وإلا أنا أمامكم الآن، وتلك عصاتي، وهذا جنبي، فاقتصّوا مني ولا تُعذبوني بنظراتكم تلك.

يقول أصغر أولاده الذي هو الآن أبٌ لولدين وبنت: كلنا تأثرنا برسالة والدي، وذهبنا نُقبل رأسه ويديه وقدميه، وأجمعنا كُلنا بأنه لولا الله ثم تربيته لنا لما كُنا رجالاً ناجحين.

ثم يقول الابن: عندما ذهبتُ إلى سريري لأنام ظلت كلمات والدي ترن في أذني وتؤلمني في قلبي، وحينها أُجهشت بالبكاء بُكاءً مراً فكتبتُ لأبي قائلاً: أبي الحبيب؛ قد تكون أدركتَ جُزءاً من نظراتنا لك حين نحتضن أولادنا، وهذا دليل فطنتك، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله، فوالله إني أنظر إليك وأقول ماذا لو قبّلني أبي الآن؟! فأنا وإن كنتُ كبرتُ وأصبحتُ أباً وخالط الشيب سواد شعري، فهذا لا يعني أني لا أحتاج لحضنك الدافئ وقبلاتك الحارة!! فهل لي بحضنٍ واحدٍ وقُبلة؟"، أرسلتها إلى هاتف أبي ونمتُ، وعند الفجر خرجتُ من غرفتي لأجل أن أُصلي فوجدتُ أبي واقفاً على عكازه عند الباب، ويقول لي باللغة العامية:

تعال يا بوي أضمك إلى صدري..

ما حسبت الضرب بيشب جمري..

إن كان أني أصبت فلله درّي..

وإن كان أني غلطت فلك عذري..

ما تدري عن غلاك لكن أنا أدري..

أنت الروح والكبد وحزام ظهري..

تعال يا بني أضمك وخذني لقبري..

وضمني إلى صدره وقبّلني وبكينا نحن الاثنان، وخرجت زوجتي وشاهدت هذا المنظر المؤثر فبكت بُكاءً شديداً، وما هي إلا دقائق حتى شهق الأب شهقةً طويلةً ووقع على الأرض وتُوفي، حاولنا أن نُسعفه لكن أجله كان قد حان. رحم الله والدنا العظيم.

 

أحبتي في الله.. علّق راوي القصة عليها بقوله: احرصوا يا أبناء على (فضيلة الرفق) بوالديكم؛ فقد يكون لديهم ما يقولون ولكن لا يستطيعون البوح به، كما فعل هذا الأب، فانسوا أي ماضٍ مؤلمٍ، وتذكروا أن لهم فضلاً؛ فهُم من قاموا على مصالحكم حتى أصبحتم رجالاً راشدين وأمهاتٍ صالحات.

 

يقول أهل العلم إن قسوة الأب لا تُسقط حقه في البِر؛ فلقد أمرنا الله بالإحسان إلى الوالدين، وجعل ذلك من أعظم الفرائض بعد الإيمان بالله؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾.

أما عن قسوة الأب فهي لا شك من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، لكن مهما كان من سوء خُلُقه وظُلمه لأبنائه، فإن ذلك لا يُسقط حقه في البِر وعدم جواز مُقاطعته أو الإساءة إليه، فإن الله قد أمر بالمصاحبة بالمعروف للوالد المُشرك الذي يأمر ولده بالشرك؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.

وإنما لك أن تنصحه بالرفق، أو تستعين بمن ينصحه ممن يقبل نصحه، وتُكثر له الدعاء بالهداية، ولا تيأس أبداً، فليست هدايته في هذه السن أمراً بعيداً على الله، واعلم أنك إذا قمتَ بما أمرك الله نحوه من البر والإحسان، فلا يضرك غضبه وعدم رضاه، ونُنبهك إلى أن حرصك على بر والدك والإحسان إليه، إذا كان خالصاً لله، فهو من أقرب الطُرق إلى الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه].

التربية الناجحة هي القائمة على التعليم والصبر عليه، والتوجيه والتقويم الرفيق، والحزم عند التجاوز بعد تفهيمٍ وتوضيحٍ، والثواب النافع، والعقاب الذي ينفع ولا يضر. إن أبناءنا لحومٌ رقيقةٌ ونفوسٌ هشةٌ، وعقولٌ تبدأ في البناء، وقلوبٌ لا تزال تتعرف على الحياة والكون من حولها، فلو أردنا تربيتها فلنعلم أن السبيل إلى ذلك هو العلم والرفق والفهم ومُتابعة منهاج القرآن الكريم وسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم. إن بناء القيم هو الطريق الأمثل لتوجيه السلوك، فالضغط لتوجيه السلوك عادةً ما يأتي بنتائج سلبيةٍ، إنما التربية تكون بالرفق؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَهُ].

 

وإلى كل أبٍ قاسٍ على أبنائه نقول -كما قال الأولون- هُم ثمار قُلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماءٌ ظليلةٌ، فإن طلبوا فأعطهم، وأن غضبوا فأرضهم، يمنحوك وُدهم، ويُحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويُحبوا وفاتك.

 

وهذه نصيحة عالمٍ إلى كل أبٍ قاسٍ:

تذكر أن لك يوماً عند ربك ستُحاسب فيه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، واعلم أن من أعظم الأشياء أن تترك ولداً بعد موتك يدعو لك بالمغفرة والرضوان والسكنى في أعالي الجنان. تأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]؛ فما أجمل أن يكون لك بعد موتك ولدٌ أو فتاةٌ يدعوان لك بكل خيرٍ، لكن ماذا لو كنتَ قاسياً لوجدتَ من يدعو عليك لا لك، ولوجدتَ من يتمنى موتك ويبحث عن رحيلك.

 

ويرى الخبراء في التربية أنه إذا كانت الشدة الزائدة، والقسوة المفرطة، غير مقبولةٍ تربوياً وشرعياً، فإن الدلال الزائد مرفوضٌ تربوياً أيضاً، والخير في التوسط، وسلوك السبيل التربوي الصحيح، المبني على الترغيب والترهيب؛ فيتم تشجيع الأبناء وترغيبهم ومُكافأتهم على الأفعال الحسنة والتصرفات الجيدة، والتفوق في الدراسة، وإنجاز الأعمال المنوطة بهم، لكن إذا أساؤوا فينبغي تقويمهم، ومنعهم من الخطأ، بما يقتضيه المقام، وحجم الخطأ، وبالوسائل الشرعية والتربوية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

 

أحبتي.. ليكن منهجنا في تربيتنا لأبنائنا قائماً على التوجيه الإلهي لسيد الخلق؛ النبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول له رب العزة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فتمثلت رحمة الله للنبي -عليه الصلاة والسلام- في أن جعله الله -عزَّ وجلَّ- ليناً مع المؤمنين، مُهتماً بشئونهم، حريصاً عليهم، رؤوفاً رحيماً بهم، وهذا ما ينبغي علينا أن نتخذه قُدوةً لنا ومثالاً نحتذي به؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. ولا نعني بالرأفة والرحمة ترك الحزم بالكُلية، وإنما المقصود هو البُعد عن القسوة الشديدة غير المُبررة، والالتزام بنهج التوازن بين القسوة الزائدة والتدليل المُبالغ فيه؛ فالوسطية بينهما مع المُرونة والحكمة في الميل أحياناً لأيٍ منهما، وتغليب (فضيلة الرفق) والصفح والتسامح قدر الإمكان هو الطريق الأمثل للتربية؛ يقول الشاعر:

فَقَسا لِتَزدَجِروا وَمَن يَكُ حازِماً  فَليَقسُ أَحياناً وَحيناً يَرحَمُ

كما أن على الأبناء أن يُظهروا لآبائهم (فضيلة الرفق) على الدوام، وفاءً وعرفاناً منهم بالجميل تجاه من أفنوا أعمارهم لتربيتهم.

اللهم اغفر لنا، ولآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً.

 

https://bit.ly/3iByMSF

الجمعة، 6 يناير 2023

على قدر نياتكم تُرزقون

 

خاطرة الجمعة /377


الجمعة 6 يناير 2023م

(على قدر نياتكم تُرزقون)

 

يقول راوي القصة إن صاحب شركةٍ قرر أن يُقدِّم لجميع موظفيه من الرجال والنساء هدايا؛ فأتى بمجموعةٍ من الساعات الرجالية والنسائية الفخمة، ووضعها على طاولةٍ كبيرةٍ، وطلب من كل فردٍ من الموظفين أن يختار ساعته بنفسه، وأخبرهم أنه سيُعلن بعد قليلٍ عن موظفٍ واحدٍ ستتم ترقيته. أخذ كل رجلٍ من الموظفين ساعةً رجاليةً عدا موظفٍ واحدٍ فقط أخذ ساعةً نسائيةً؛ فتعجب صاحب الشركة وسأله لماذا أخذ ساعةً نسائيةً؟ فرّد الموظف: "هي لزوجتي"، طالعه الجميع وتهامس كل واحدٍ مع زميله في سُخريةٍ منه، وقال بعضهم أنه ضعيف الشخصية، بينما أكمل الموظف كلامه برصانةٍ شديدةٍ: "إنها عِشرة عُمْر؛ لي منها خمسة أولادٍ، وهي زوجةٌ مثاليةٌ، لكن للأسف ليس في مقدوري شراء هدايا قيمةٍ لها في المُناسبات؛ فأكتفي بأن أهديها بعض كلمات الشُكر، ومع ذلك أراها راضيةً كل الرضا، واليوم أعلم أنها ستفرح كثيراً بهذه الهدية؛ فهي أقل شيءٍ أقدمه لها".

بعد هذا الكلام الجميل تجاه زوجته حمل صاحب الشركة ساعةً أخرى رجاليةً وقدَّمها هديةً لهذا الموظف، وقرر أن يقوم بترقيته وقال له: "كنتُ في حيرةٍ شديدةٍ بينك وبين ثلاثة أشخاصٍ، لكن موقفك هذا يدل على أنك مُخلصٌ لزوجتك، وبالتالي ستكون مُخلصاً لعملك؛ لذا لا أرى سواك يستحق الترقية". شكره الموظف واتجه إلى بيته يحمل الهدية، ويحمل الفرحة لزوجته الحبيبة؛ استقبلته بمُنتهى الود والرضا، وقدَّم لها الساعة فضحكت بشدةٍ فسألها: "ألهذه الدرجة أسعدتك الهدية؟!"، فردت بعفويةٍ: "اليوم، وبينما أنا في السوق ارتطمت بي فتاةٌ صغيرةٌ تبيع الخضار؛ فأمسكتُ بيدها أربتُ عليها، فأعجبتها ساعتي، فأعطيتها إياها بمُنتهى اللُطف، رغم أنك تعلم جيداً كم أحب تلك الساعة، لكن سعادة الفتاة بها أنستني كل شيءٍ، وها أنت تُقدِّم لي ساعةً أثمن وأجمل كثيراً من ساعتي"، ابتسم الزوج وتذكر أنه هو الآخر حين حمل لها الساعة حصل على أخرى له، واستحق الترقية لسلامة قلبه ونيته الطيبة تجاه زوجته.

 

أحبتي في الله.. النية الطيبة دائماً تجلب الخير لصاحبها، وصدق من قال: (على قدر نياتكم تُرزقون)، كما صدق من قال: "على قدر النوايا تُجلب العطايا".

 

يقول أهل العلم إن النوايا الطيبة مفتاح الخير في هذه الحياة، وبوابة التوفيق والرزق، وهي من العبادات الخفية، فكلما كان داخل الإنسان نقياً ابتسمت له الدروب، ولانت له الخطوب، ومالت إليه القلوب؛ لأن صفاء النية ونقاء السريرة وحُسن الظن مفاتيح لكثيرٍ من كنوز الدنيا والآخرة. والنية سر العبودية وروحها؛ فهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد؛ لأنها من أعمال القلوب، وأعمال القلوب أنفع وأنجع الأعمال؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّما الأعمالُ بالنِّيات]، فهي مِلاك الأعمال، وعليها يكون القبول والرد، والثواب والعقاب. ويبلغ الإنسان بنيته ما لا يبلغ بعمله؛ فقد يعجز المرءُ عن عمل الخير الذي يصبو إليه لرقة حاله، أو ضعف صحته، أو قلةِ حيلته، لكن الله المُطّلع على خبايا النفوس يرفع أصحاب النوايا الصادقة إلى ما تمنوه، لأن طِيبَ مقصدهم أرجحُ لديه من عجز وسائلهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [منْ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ]؛ فكل من صَدَقَ الله صَدَّقَه الله جلَّ في علاه، و(على قدر نياتكم تُرزقون).

ولا يُغلَق بابٌ على العبد فيصدق في نيته ويُحسِن الظن بربه إلا ويفتح الله له أبواباً أوسع وأرحب يقول سبحانه: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾.

إن النية الصالحة تفتح أبواب الخير والتوفيق والمعونة؛ فمن أوجد نية الخير في قلبه أعانه الله على عمله، وفتح له من أبواب التوفيق والتيسير على قدر نيته، يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ﴾. والله لا يُضيِّع صدق النوايا ولو خفيت عن عباده؛ يقول تعالى: ﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾.

 

كتب أحد التابعين ناصحاً واحداً من حُكام المُسلمين: "فإن نويتَ الحقَّ وأردته أعانك الله عليه، وأتاحَ لك عُمَّالاً، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب، فإنَّ عونَ الله على قدر النية؛ فمن تمَّت نيتُه في الخير تمَّ عونُ الله له، ومن قَصُرَت نيتُه قصر من العون بقدر ما قصر منه".

 

وكما أن النية الصالحة تزيد صاحبها خيراً، فإن النية السيئة تزيد صاحبها سوءاً؛ يقول تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾؛ فكما أن النية الطيبة قد تُبَلِّغ الإنسان منازلَ المُتصدقين، فإن النيةَ السيئةَ قد تُبَلِّغه منازلَ الخاسرين؛ قال صلى الله عليه وسلم: [...وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ].

ولنا عبرةٌ في قصة أصحاب الجنة الذين أضمروا النيةَ بحرمان المساكين فعاقبهم الله، فتحولت بَساتينُهم إلى سوادٍ وجناتُهم إلى رمادٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾.

 

أحبتي.. ما أصدق عبارة (على قدر نياتكم تُرزقون)؛ فلنُصلح نوايانا حتى ننال ما وعدنا الله سُبحانه وتعالى به من عطايا الدنيا وحُسن ثواب الآخرة؛ فالنية الطيبة مفتاح الرزق الحسن في الدارين، ونظافة القلب، وسلامة الصدر، وصفاء النية، هي مفاتيح التيسير.

ولنَحذر من سوء النية؛ فإنها تجلب لصاحبها غضب الله وسخطه، وتزيد صاحبها في الدنيا هماً وغماً وشقاءً، والجزاء من جنس العمل؛ يقول تعالى: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.

اللهم أصلح نوايانا، وأعنّا على كل عملٍ صالحٍ يُرضيك عنا، وأكرم عطايانا، واجعلنا من عبادك المُحسنين.

 

https://bit.ly/3ioaATB

الجمعة، 30 ديسمبر 2022

اليأس من رحمة الله

 

خاطرة الجمعة /376


الجمعة 30 ديسمبر 2022م

(اليأس من رحمة الله)

 

هذه قصةٌ مُختصرةٌ لتوبة شابٍ ملحدٍ، يقول كاتبها: عشتُ في ظلال سورة النمل مع قصة سبأ وملكتهم عابدة الشمس من دون الله هي وقومها. ورغم عُمر ملكتهم الطويل في الكُفر إلا أن آيات قصتها انتهت بقوله تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، هزتني خاتمة القصة؛ فرغم كُفر المرأة طوال عمرها، وإعانتها قومها على الكُفر إلا أن الله تعالى اكتفى منها بالاعتذار، وإبداء الندم على ما فات: ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ﴾. اختصارٌ بديعٌ من ربٍ رحيمٍ، ليُسر الهداية، وحُبه سُبحانه للتوبة وأصحابها، بدليل قبوله سُبحانه الاعتذار اليسير رغم الذنب الكبير، كأن الرسالة التي تكمن خلف هذه القصة: "حتى وإن كنتَ بكُفر ملكة سبأ يكفينا منك الاعتراف والاعتذار مع الإسلام!!". أبكتني والله الخاتمة؛ فربٌّ يقبل الاعتذار مع عظيم الجُرم وقبيحه، ما أكرمه!!

قلتُ ذلك لشابٍ ولغ في الإجرام حتى الإلحاد، وكان يعيش في بلاد الكُفر، أغرته الفواحش حتى انسلخ من الدين بُغية التحلل من قيود الحلال والحرام، ولما آنستُ من نفسه لحظة سكون بعد طول اضطرابٍ، قال لي فيها مقولة العاصي السابق للنبي صلى الله عليه وسلم: "وغَدَراتي وفَجَراتي؟!"، قلتُ: "يغفرها الله إن تبتَ"، قال: "لو علمتَ قبيح ما صنعتُ؟!"، قلتُ: "لو لم يُرد بك خيراً ما أبقاك حتى هداك!!". ولا زلتُ من يومها أتذكر هزيز صدره وأزيزه وهو يحتضنني بعد هذه الكلمات.

 

أحبتي في الله.. يقول الكاتب: الشباب الوالغ الآن في المعاصي يحتاج إلى مد حبال الأمل في الله أكثر من ذي قبل، سيما وقد بدأت تخرج من أفواههم مقولةٌ ألقاها الشيطان على قلوبهم وألسنتهم، تُكَرِّس (اليأس من رحمة الله): "ما حصل قد حصل، ولن أنجو أبداً من النار!!" وما درى المساكين أن رحمة الله أوسع من ذنوبهم مهما بلغت؛ انظر إلى رحمته وهي تتدارك أنطوني جيرارد فلو صاحب الثلاثين مؤلفاً في الإلحاد، وفيلسوف بريطانيا الأول في فلسفة الأديان، والذي ألحد بسببه خلقٌ كثيرٌ، ثم إذا برحمة الله تُدركه حين تاب، وقد بلغ التسعين من عمره. وهذا قيسٌ بن عاصم التميمي، أول من وأد البنات في الجاهلية، حتى وصل عدد من وأدهن من بناته ثماني بناتٍ، غير أن الله مدّ في عُمره حتى قدم على النبي مُسلماً مُبايعاً رضوان الله عليه. والمواقف في ذلك أكثر من أن تُحصى. تفكرتُ في سبب هداية أمثال هؤلاء بعد طول المسافة مع الكُفر أو المعصية فوجدتُ أنها بُقعة النور أو الخير المرتكزة في القلب، والتي ربما تُغطيها تلال الحواجز، لكنها فور انكشافها تحدث الهدايات.

 

وهل من هدايةٍ وتوبةٍ من الله الحليم الرحيم الغفور التواب أكثر من هداية رجلٍ تَمَلَّكَه (اليأس من رحمة الله) بعد أن قتل مائة نفسٍ؟ قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: [كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ، فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ، ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ].

 

وعن النهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾. ويقول سُبحانه: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾. ويقول على لسان نبيه يعقوب عليه السلام وهو يُخاطب أبناءه: ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.

 

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يُبين لنا كرم المولى سُبحانه وتعالى مع من يُكرر الذنب ويُكرر التوبة؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ، قَالَ: [أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً. فَقَالَ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذَ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ. فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً. فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ]. ويوضح عليه الصلاة والسلام أن الله عزَّ وجلَّ يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به؛ فيَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَل، قال: [قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً]. ويُبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم فرحة الله سُبحانه وتعالى بتوبة العاصي: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ]. وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أهمية الاستغفار: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ].

 

ويرى العلماء أن (اليأس من رحمة الله) كبيرةٌ من الكبائر، وأنه صفةٌ من صفات الكُفار، ولا يلزم من الاتصاف بصفةٍ من صفات الكفار أن يكون المرء كافراً بما في الكلمة من معنى، بل هو فاسقٌ، وإن أدى به الحال إلى إنكار سعة رحمة الله كان كافراً والعياذ بالله. ومع عِظم الذنب إلا أن الله تعالى قد فتح باب التوبة لمن رغب بالرجوع عن ذنبه، وأراد أن يتوب ويستغفر، ولا ينبغي له أن يستبعد عفو الله تعالى ومغفرته، وودَّ الشيطان لو ظفر بهذا من العاصي. يجب على العاصي -مهما بلغت ذنوبه- أن يندم وأن يؤرقه ذنبه، لكن لا ينبغي أن يجعل بينه وبين الله تعالى حائلاً يمنعه من التوبة والاستغفار؛ فإن الله تعالى لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، فرحمته وسعت كل شيءٍ؛ ومن أجل ذلك فالإنابة إلى الله تعالى مطلوبةٌ، وباب التوبة إليه من الذنوب جميعاً مفتوحٌ للعبد ما لم يُغرغِر {أي: ما لم تبلُغْ رُوحُه حُلْقومَه، وهو يُشرف على الموت}. فلا ينبغي للمُسلم مهما بلغت ذنوبه أن ييأس ويقنط ويسيء الظن بالله ويتخيل أن الله لن يغفر له؛ فالله -سُبحانه وتعالى- ﴿يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾، وما خلقنا ليعذبنا، بل إنه ﴿رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ غفارٌ للذنوب، والمُسلم الواعي هو من يتخذ السقوط في المعصية بدايةَ علاقةٍ جديدةٍ، وقُرباً من الله قبل أن يتحكم فيه اليأس والقنوط من رحمة الله، فلا ييأس من رحمته ولا يقنط من روحه فإنه سُبحانه ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وهو سُبحانه بَرٌ بعباده لطيفٌ بهم. أما القنوط فهو من وسوسة الشيطان يُزين هذا المُنكر العظيم ويوهم العاصي أنه من أهل النار ولا بد، وليس الأمر كذلك إن شاء الله، بل الواجب على المؤمن فعله إن هو عصى الله أن يُجدد التوبة، ويُتبع ذلك بحسناتٍ كثيرةٍ حتى تُذهب أثر هذه المعاصي؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. ويقول صلى الله عليه وسلم: [وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا].

 

أحبتي.. يظن البعض أن لا توبة لمن يُكرر الذنب، وهذا من تزيين الشيطان؛ ليزيد من يأس وقنوط الإنسان، فيبدأ -كما يقول أحد العارفين- بالانسحاب من تأدية الفرائض، وبالتالي يتخاذل عن أعمال الخير، ظناً منه أنه لا توبة له، وأنَّه مطرودٌ من رحمة الله. والصحيح أن كل عاصٍ عليه المُسارعة إلى التوبة، والندم على ما فعل، والإكثار من الأعمال الصالحة، والحرص على أن يكون حاله بعد التوبة خيراً من حاله قبل ارتكاب المعاصي، والله تعالى يتوب على من تاب؛ فباب التوبة مفتوحٌ ما دامت الروح في الجسد، فإن عاد العاصي وفعل المعصية فليكرر التوبة، فلا يزال الله يغفر له ما دام يُذنب ويتوب، مهما تكرر ذلك منه.

أما الدُعاة والوعاظ والمربون فمُطالَبون بتوسم الخير، ومظنة وجود النية الصادقة المُخلصة لتوبةٍ نصوحٍ في نفوس العاصين، فيدعونهم برفقٍ ولينٍ وسعة صدرٍ، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وتأسياً بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: [إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ].

اللهم اجعلنا من المهتدين، ومن الهادين المبشرين غير المنفرين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.

 

https://bit.ly/3GtjRD4

الجمعة، 23 ديسمبر 2022

الصلاة خيرٌ من النوم

 

خاطرة الجمعة /375


الجمعة 23 ديسمبر 2022م

(الصلاة خيرٌ من النوم)

 

ما ندمتُ في حياتي كلها قدر ندمي على أمرين: عدم حفظي للقرآن الكريم كاملاً في صغري، وعدم التزامي بأداء الصلوات الخمس المفروضة بالمسجد مع جماعة المُسلمين وخاصةً صلاة الفجر. ولأن صلاة الفجر بالذات في المسجد لها حلاوةٌ خاصةٌ وطعمٌ مُميزٌ عن غيرها من الصلوات؛ رأيتُ أن أُخصص هذه الخاطرة للحديث عنها.

أبدأ بهذه القصة العجيبة:

جلس الداعية أمام الشيخ يحكي له تجربته الدعوية، ومن حوله مجموعةٌ من جُنود الكتيبة الصينية المُشاركة في حرب الخليج عام 1991م. أطرق الشيخ برأسه إلى الأرض ليُصغي باهتمامٍ والداعية يُحدثه قائلاً: "لقد قَدِم هؤلاء للمشاركة في عمليات المساندة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، كانوا مُتواجدين في شمال المملكة العربية السعودية، وكان لزاماً علينا -نحن الدُعاة إلى الله- أن ندعوهم إلى الإسلام، ونُخرجهم من ظُلمات الشرك والظلام، ومن عبادة بوذا وكونفوشيوس وغيرهما من الأصنام إلى عبادة الله الواحد الأحد لا شريك له، وقد وفقنا الله سُبحانه وتعالى في مُهمتنا؛ فأسلم عددٌ لا بأس به من هؤلاء، وصرنا نُعلمهم أركان الإسلام ونُدرِّسهم واجباته، وبدأوا في أداء الصلوات في أوقاتها بعيداً عن قادتهم وكُبرائهم. لكن المشكلة واجهتهم في صلاة الفجر؛ فعندما علم قادتهم بتجمعهم في خيمةٍ واحدةٍ ليتناوبوا السهر كي لا تفوتهم صلاة الفجر فرقوهم بين الخيام، فأخذ كلٌ منهم ساعته المُنبهة معه، لكنها صودرت منه، وكلما وجدوا طريقةً للاستيقاظ قُبيل الفجر لأداء الصلاة في وقتها حاربهم هؤلاء القادة وسدوا عليهم المنافذ والأبواب، وفجأةً توصلوا لطريقةٍ مُبتكرةٍ للاستيقاظ!"

وإذا بالشيخ ينظر باهتمامٍ أكبر إلى الداعية المُتحدث، وإلى الجُنود المُحيطين به الذين ينظرون إليه بإكبارٍ وإجلالٍ، وواصل الداعية كلامه قائلاً: "لقد قرر كل واحدٍ من هؤلاء شُرب كمياتٍ كبيرةٍ من الماء قُبيل النوم لكي يستيقظ للذهاب للخلاء ومن ثَمّ ينظر إلى ساعته ويعلم كم بقي من الزمن لصلاة الفجر، فإن قارب الوقت انتظر وصلى وإلا شرب كميةً أخرى من الماء. ومع تكرار التجربة مِراراً قدَّرَ هؤلاء الكميات المُناسبة التي تجعلهم يستيقظون في وقتٍ يكاد يقترب من وقت الفجر، وصار كلٌ منهم يؤدي صلاة الفجر في وقتها!". عندها نظر الداعية إلى وجه الشيخ فإذا عيناه تذرفان بالدمع.

 

أحبتي في الله.. هؤلاء جنودٌ صينيون حديثو عهدٍ بالإسلام، بلغ حبه في قلوبهم هذه الدرجة؛ لأنهم عرفوا ما كانوا عليه من جاهليةٍ وفسادٍ، ثم عندما شرح الله قلوبهم للإسلام ذاقوا طعم السعادة وحلاوة الإيمان وطُمأنينة القلب فتمسكوا به، فأين نحن من هؤلاء؟! إنهم يذكرونني بأهل الكهف الذين وصفهم الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

 

يقول أهل العلم إن الله تعالى اختص صلاة الفجر بمكانةٍ عظيمةٍ من بين الصلوات، فجعل لها زيادةَ أجرٍ، وكبيرَ فضلٍ، وعظيمَ مثوبةٍ فاقت فيها بقية الصلوات؛ ذلك لمشقتها على النفوس؛ فهي تأتي في ظُلمة الليل، وفي وقت الراحة والنوم، فكان هجر الفراش، خصوصاً في ليالي برد الشتاء القارس، وترك النوم، خصوصاً مع التعب، والاستجابة لداعي الفلاح (الصلاة خيرٌ من النوم) ما يجعلها سببَ التمايز بين العباد، والامتحان الصعب الذي يُختبر به الإيمان، مَن نجح في هذا الامتحان حاز على الجوائز العظيمة في الدنيا والآخرة، والتي منها:

- النور التام يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [بشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلمِ إلى المساجدِ بالنُّورِ التَّامِّ يومَ القيامةِ].

- حِفظ الله له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ] يعني في حفظه وحمايته وعهده.

- شهادة الملائكة له عند الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ].

- شهود قرآن الفجر المشهود؛ يقول تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، أي أن ما يُقرأ به من قرآنٍ في صلاة الفجر تشهده الملائكة.

- سبيلٌ لدخول الجنة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ]، والبردان الصبح والعصر. وقال: [لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا]. والمُراد بهذا صلاة الفجر وصلاة العصر.

- من أسباب النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا علَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَسَبِّحْ بحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ﴾].

- حصول الثواب الكبير؛ ففي الحديث: [رَكْعتا الفجْرِ خيْرٌ مِنَ الدُّنيا ومَا فِيها]، قال بعض العلماء: هما سُنّة الفجر؛ فإذا كان هذا أجر السُنّة فكيف بأجر الفريضة وهي أحب إلى الله؟ كما في الحديث القدسي: {وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه}.

- أجر قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ].

- براءةٌ من النفاق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا].

- أداء صلاة الفجر في وقتها يزيد النشاط ويُريح النفس، ويُبعد عن الإنسان الضيق والاكتئاب والكسل؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ].

 

ويقول العارفون:

- أهل الفجر فئةٌ موفقةٌ، وجوههم مُسفرةٌ، وجباههم مُشرقةٌ، ونُفوسهم طيبةٌ، وأعمالهم زاكيةٌ، وأوقاتهم مُباركةٌ.

- ما أجمل الفجر؛ فريضته تجعلك في ذمة الله، وسُنته خيرٌ من الدنيا وما فيها، وقرآنه مشهود.

- صلاة الفجر هي أول امتحانٍ يخوضه كلٌ منا صباح كل يومٍ، لينجح فيه من وثب من فراشه صافاً قدميه بين المُصلين.

- إذا دخلتَ لصلاة الفجر ورأيتَ قلة المُصلين فاعلم أن الله اصطفاك من بين عباده؛ فهنيئاً لك.

- هنيئاً لمن حافظ علي صلاة الفجر، لم توقظه مدرسةٌ أو جامعةٌ أو عملٌ، إنما هو حب ملك الملوك أنار قلبه فحرّك جوارحه.

- هنيئاً لمن لبّى نداء ربه واستجاب لحي على الصلاة، حي على الفلاح، و(الصلاة خيرٌ من النوم).

- لا تسألوا من لا يُصلي الفجر عن معنى السعادة؛ فلا يستوي من قام للمولى ومن عشق الوسادة.

- الفَجر والفَرَج توأمان؛ فالفجر: انتقالٌ من ظلامٍ إلى نور، والفرج: انتقالٌ من ضيقٍ إلى سعة.

- عندما تُعطي صلاة الفجر المكانة الأولى في بداية يومك ثق تماماً أن كل الأمور الباقية تأخذ أماكنها الصحيحة تلقائياً.

- صلاة الفجر سِرُ بَركةِ يومك، ومفتَاحُ سَعادتك، وحَياةٌ لِرُوحك.

‏- تنفرد صلاة الفجر بأذانٍ مُختلفٍ عن بقية الصلوات فيه: (الصلاة خيرٌ من النوم) إنه اختبار الصدق مع الله.

- ما أجمَل الفجر؛ ملائكةٌ تهبط، ونسماتُ إيمانٍ، وقلوبٌ تَتمنى الخير لبعضها، لا يَستيقظ لها إلا المُحب الصادق، فيها أنوارٌ تسطع، وجباهٌ تركع، وحسناتٌ تُرفع، وأَرزاقٌ تُوزع، فيها يُنقي الله عباده من الذُنوب والخَطايا.

- يظن من ينام عن صلاة الفجر أنه أخذ قسطاً من الراحة، ولا يدري المسكين أن الراحة كل الراحة هي الوقوف بين يدي الله.

 

قال الشاعر:

صلاةُ الفجرِ في الظُلَمْ

مَنْجاةٌ مِن النِقمْ

فكمْ داوتْ مَن عانى مِن سِقَمْ

وشرحتْ صَدْراً كانَ به حِممْ

فَقوموا لَها بِصِدقٍ وهِمَمْ

وَأبْشِروا بِنورٍ في جَنَّة النِعَمْ

 

ومن المُعينات على صلاة الفجر: صدق الرغبة، وعقد النية، والدعاء لله بالإعانة، وترك السهر، وهجر الذنوب، ومُصاحبة الأتقياء، والأخذ بالأسباب المُساعدة: كالنوم على وضوء، وكثرة الاستغفار، وضبط المؤقت والمنبه ولو كان منبه شُرب الماء، ووصية بعض الأهل أو الجيران أو الأصدقاء للإيقاظ.

 

أحبتي.. قصة الجنود الصينيين فيها عبرةٌ لمن لا يواظبون على صلاة الفجر في المسجد مع جماعة المُسلمين -بغير عذرٍ- فيحرمون أنفسهم من خيرٍ كثيرٍ، يُقدِّمون النوم على الصلاة، وهُم يسمعون المؤذن يُعلنها واضحةً صريحةً لا لبس فيها (الصلاة خيرٌ من النوم). إلى هؤلاء أقول، وبصراحة:

ألا تخجل من سهرك تُشاهد فيلماً أو مسلسلاً أو مباراةً لكرة القدم حتى قُبيل موعد أذان الفجر بقليلٍ فتقوم للنوم؟!

ألا تخاف الله، وأنت تقوم من نومك مُسرعاً لتكون على رأس عملك في موعدٍ مُحددٍ -صباح كل يومٍ- يأمرك به مديرك، وعندما يكون الموعد صلاة الفجر، ويكون الآمر بها الله سبحانه وتعالى، تتكاسل وتنام؟!

ألا تستحي من انتظامك في صلاة الفجر بالمسجد وقت الامتحانات فقط أو في مواسم مُعينةٍ كشهر رمضان مثلاً ثم تنقطع عن ذلك بعد انتهاء الامتحانات أو بعد شهر رمضان؟!

لكن، ولأن الله رؤوفٌ رحيمٌ، ولأنك ما تزال حياً فإنّ أمامك فرصةً -لا تُضيِّعها- لتدارك الأمر والإحسان إلى نفسك؛ بالالتحاق بمن يُصلون الفجر في جماعةٍ، ويحرصون على هذه الصلاة المُباركة، ويواظبون عليها، ويحذرون من إضاعتها والنوم عنها؛ فإن الله قد توعد من يُضيّع الصلاة بقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾، قال العُلماء ليس معنى أضاعوها: تركوها، ولكن أخروها عن أوقاتها، فما بالك بمن ضيّعها؟

أما المواظبون على صلاة الفجر في جماعةٍ بالمسجد، فأقول لهم: احمدوا الله على فضله، واستمروا واثبتوا، أثابكم الله ثواباً عظيماً وحفظكم من كل سوء.

هدانا الله جميعاً إلى طريق الصواب والرشاد.

https://bit.ly/3HVniDV

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

العطاء المُدهش

 

خاطرة الجمعة /374


الجمعة 16 ديسمبر 2022م

(العطاء المُدهش)

كتبت تقول: كنتُ كلما مررتُ بذاك الشارع المجاور للجامعة -أثناء تحضير رسالة الماجستير- وجدتُ نفس الفتاة تجلس وقد وضعتْ أمامها بعض أكياس المناديل، بينما انشغلت هي بالكتابة في أوراقٍ بيدها، لم أهتم في البداية، ومرةً بعد مرةٍ زادني الأمر فضولًا تُرى ماذا تكتب؟! وقفتُ لأشتري منها مناديل وسألتها: "ماذا تفعلين؟"، أجابت دون أن تنظر إليّ: "أحاول إنهاء الواجب المدرسي قبل عودة أمي"، سألتها: "وأين أمك!؟"، قالت: "في أحد البيوت المُجاورة تمسح السلالم"، سألتها: "هل تذهبين الى المدرسة!؟"، أجابت: "نعم؛ فبعد وفاة أبي أصرّت أمي على أن ندرس"، سألتها: "هل لديكِ أخوات!؟"، قالت: "نعم؛ ثلاثٌ من الإناث، واثنان من الذكور"، سألتها: "أين هم!؟"، أجابت: "أُختي الكُبرى تجلس مع الصغار وتُعد أعمال المنزل ريثما نعود في آخر النهار، بينما يعمل أخي سالم في إحدى ورش السيارات، ويعمل إبراهيم في مسح السيارات". استكملتُ الحديث معها، وحاولتُ أن أعطيها المزيد من النقود لكنها لم تقبل أبداً، لكن عرفتُ من حديثها أنها تدرس في مدرسة الحي في الصف الثالث الابتدائي.

في اليوم التالي ذهبتُ إلى المدرسة، وسألتُ عنها، رأيتها تجلس وحدها ليس لديها أي أصدقاء؛ إذ ينفر الجميع منها؛ فملابسها تبدو قديمةً، ولا تملك أي مصروفٍ شخصيٍ كزميلاتها، على الرغم من كونها متميزةً جداً وذكيةً في دراستها. أحزنني ذلك كثيراً؛ فقدمتُ إلى مديرة المدرسة بعض المال وطلبتُ منها أن تُكرِّم هذه الفتاة في اليوم التالي باعتبارها طالبةً مثاليةً، وتُقدم لها هديةً تشمل بعض الدفاتر والأقلام وما ينقصها في دراستها مع ثوبٍ جديدٍ، وذلك لعفة نفسها وعدم تقبلها الصدقة من أي شخص. لم تُمانع المديرة في ذلك، كما أنها أمدتني أيضاً بعنوان الفتاة كما طلبتُ منها.

عدتُ يومها إلى منزلي وبداخلي إحساسٌ كبيرٌ بالراحة لشعوري أن الفتاة ستفرح كثيراً بذلك. وبينما نتناول العشاء، لم يكن زوجي على ما يُرام، حاولتُ أن أعرف ماذا يُحزنه، لكنه لم يتحدث، توقعتُ أن يكون واحداً من أهله حدَّثه بشأن الإنجاب -الذي تأخر أربعة أعوام - ولا يُريد أن يُخبرني كيلا أحزن. في اليوم التالي، وقبل ذهابي إلى الجامعة ذهبتُ إلى منزل الفتاة، وأخبرتُ والدتها بأني سأُقدم لها في كل شهرٍ مبلغاً من المال لأجل دراسة ابنتها، مع تأكيدي لها أن هذه جائزةٌ من المدرسة لكونها طالبةً مثاليةً، فرحتْ الأم كثيراً بهذه المنحة، وظللتُ أنا على وعدي طوال سنواتٍ عديدةٍ.

عشنا -أنا وزوجي- تلك السنوات في سعادةٍ كبيرةٍ نتمتع بكثيرٍ من (العطاء المُدهش) يأتي إلينا الخير من كل بابٍ نقصده؛ أنجبتُ اثنين من الإناث ومثلهما من الذُكور، حصلتُ على الماجستير وتبعته بالدكتوراه، ترقى زوجي في عمله مراتٍ مُتكررةٍ، تبدلت حياتنا كثيراً، ولم يكن زوجي يعلم السبب في ذلك، بينما كنتُ أنا أعلم أن سبب ذلك هو الصدقة التي كنتُ أقدمها إلى هذه الفتاة، وكنتُ كلما تحسنت أوضاعنا قدمتُ إليها المزيد، إنه عطاءٌ من الله سُبحانه وتعالى، إنه (العطاء المُدهش) الذي لم أكن أنا وزوجي نتوقعه.

اليوم أرى هذه الفتاة تجلس بين طلابي في كلية الطب، تُعد أكثرهم تفوقاً وتميزاً، لا تعلم أني معها منذ طفولتها، ولا تعلم أنها سر كل ما أنعم علينا به المولى عزَّ وجلَّ.

 

أحبتي في الله.. عن (العطاء المُدهش) حدث هذا الموقف الغريب؛ ففي برنامجٍ تلفزيونيٍ عرض المُذيع حالة مريضٍ يحتاج إلى جراحةٍ مستعجلةٍ تكلف 150 ألف دولار، وبدأ الناس في التجاوب بالاتصال والتبرع، وكان منهم شخصٌ أعلن تبرعه بدولارين! سأله المُذيع لماذا دولاران؟ أجابه: "هي نصف ما أملك؛ فأنا عاطلٌ عن العمل، وعملاً بما يُمليه عليّ ديني؛ الجود بالقليل أفضل من عدمه، والصدقة تُطفئ غضب الرب". كانت المُفاجأة أن أعلن المُتصل التالي تبرعه ب 8 آلاف دولار؛ منها 4 آلاف للمريض، و4 آلاف للمُتبرع بدولارين. واندفع بعده المتصلون؛ فاتصل آخر وتبرع ب 10 آلاف دولار منها 5 آلاف للمريض، و5 آلاف للشاب المُتبرع بدولارين. وهكذا كل من اتصل تبرع للاثنين معاً، وفي نهاية الحلقة اكتمل المبلغ للمريض، وجُمع مبلغٌ ضخمٌ للشاب. وفي حلقةٍ أخرى استضاف المُذيع هذا الشاب المُتبرع بدولارين، وسلمه المال، وجعله يحكي عن عدم حصوله على عملٍ رغم مؤهلاته، وفي الحلقة ذاتها جاءته عشرات الاتصالات من شركاتٍ تعرض عليه العمل ليختار أفضلها.

 

يقول تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. يقول المفسرون لهذه الآية إنه في قوله تعالى: ﴿مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ قد جاء ب "مِنْ" الدالة على التبعيض، ولم يقل "أنفقوا ما رزقناكم"، للدلالة على أن الإنفاق إنما يكون في قسمٍ من المال ولا يشمل المالَ كله، فتستسهلُ النفوسُ التخلي عن قسمٍ من المال، استجابةً لأمر ربها. وأسند الرزق إلى نفسه فقال: ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾ للدلالة على أن هذا المال إنما هو من رزق الله سُبحانه، مَلّكه عبادَهُ، فتطيب النفوس لإخراج بعض ما رزقهم الله، استجابةً لأمرِ الله الرازق، وهذا التعبير اللطيف مَدعاةٌ إلى الخروج عن الشُح والاستجابة لأمر الله. وقال تعالى: ﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنِي﴾، ولم يقل: "لو أخرتني" لأن "لولا" أَشَدُّ في الطلب من "لو"، وقائلها أكثر إلحاحاً من قائل "لو"؛ فإن "لو" تكون للطلب برفقٍ، وأما لولا فتكون للطلب بشدةٍ وحَثٍّ. ثم إنه طلب مُهلةً قصيرةً لإصلاح حاله، مع أنه كان يتقلب في الأرض من دون أدنى تفكيرٍ أو اهتمامٍ بمآله في الآخرة، أو بالأوقات التي يُضيعها هدراً من دون اكتراثٍ، فقال: ﴿إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾، ولم يقل: "إلى أجل" فيحتمل القريب والبعيد، فطلبَ مُهلةً قصيرةً وأجلاً قريباً لتداركِ ما فات. ثم قال: ﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ وبها تضعيفان: أحدهما في الصاد والآخر في الدال، ويدل هذا على المُبالغة والتكثير، فدلّ بذلك أنه أراد أجلاً قريباً ليُكثر من الصدقة ويُبالغ فيها. أما لماذا يختار الميت "الصدقة" لو رُجع للدنيا؛ فيقول أهل العلم: ما ذكر الميت الصدقة إلا لعظيم ما رأى من أثرها بعد موته.

 

ومن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة؛ فيما يروي عن ربه، تبارك وتعالى: [أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ]، كما قالَ: [يَدُ اللَّهِ مَلْأَى، لا تَغِيضُها نَفَقَةٌ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]. والحديث دليلٌ على أنه ينقطع أجر كل عملٍ بعد الموت، إلا هذه الثلاثة فإنه يجري ثوابها بعد الموت لدوام نفعها؛ الأولى: الصدقة الجارية، كالوقف ونحوه. الثانية: علمٌ يُنتفع به كالتعليم والتصنيف {أي ما صُنِّف وأُلِّف من الكُتب}. الثالثة: دعاء الولد الصالح. وقال صلى الله عليه وسلم قال: [الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ، وعلى ذي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صدقةٌ وصِلَةٌ]. وقال أيضاً: [صَدَقةُ السِّرِّ تُطفِئُ غضبَ الرَّبِّ]. وقال كذلك: [اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. وعن منزلة المُتصدقين؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ عبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا وعلمًا فَهوَ يتَّقي ربَّهُ فيهِ ويصلُ فيهِ رحمَهُ ويعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا، فَهذا بأفضلِ المنازلِ].

أحبتي.. الصدقة تأتي من القلب قبل أن تخرج من اليد، وهي سببٌ في (العطاء المُدهش) من الله عزَّ وجلَّ؛ نِعمٌ كثيرةٌ في الدنيا، وثوابٌ عظيمٌ في الآخرة، لمجرد أننا ننفق من أموالٍ ليست أموالنا، بل هي أموالٌ رزقنا الله بها، ومع ذلك إذا أنفقناها في زكواتٍ وصدقاتٍ أثابنا وأعلى منزلتنا، إنه حقاً ربٌ كريمٌ، بل هو أكرم الأكرمين؛ فلنُكثر من الصدقة التي نستظل بها يوم القيامة؛ كما قال الحبيب المصطفى: [كلُّ امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِه حتى يُقْضَى بين الناسِ]. وليجعَلْ كلُّ واحدٍ منا بينه وبين النَّار حاجزاً، ولو أن يتصدَّقَ بأقل القليل، وهل أقل من نصف تمرة؟!

لن ينسى الله خيراً قدمته، وهماً فرّجته، ومساكين أسعدتهم. أرخِ يدك بالصدقة تُرخَ حبال الغم والهُموم من على عاتقك، وتكُن من أحب الناس إلى الله سُبحانه وتعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا]، واعلم أن حاجتك إلى الصدقة أشد من حاجة من تتصدق عليه. واعلم أنّ للصدقة في أيام الحاجة شأناً كبيراً؛ فإنها كلما كانت أنفع للخلق وأخلص للرب كانت أفضل وأعظم أجراً.

اللهم اجعلنا من المُتصدقين.

https://bit.ly/3PvmSG6

الجمعة، 9 ديسمبر 2022

فضيلة الستر

 

خاطرة الجمعة /373


الجمعة 9 ديسمبر 2022م

(فضيلة الستر)

 

هذه القصة منقولةٌ عن مقالةٍ صحفيةٍ بعنوان "الفضيلة المنسية"، كتب صاحبها يقول:

في نهاية التسعينيات من القرن المُنقضي كنتُ أعمل لدى رجل أعمالٍ معروفٍ يمتلك مجموعةً من المطاعم الشهيرة، توطدت علاقتي به بعد فترةٍ وجيزةٍ من انضمامي للعمل حتى أصبح يثق بي تماماً، وسرعان ما تمت ترقيتي أكثر من مرةٍ حتى أصبحتُ أُدير مجموعة المطاعم إدارةً كاملةً بصلاحياتٍ واسعةٍ، حيث كان يعمل تحت إدارتي مئات العمال والموظفين، كل هذا وأنا لم أكن قد أتممتُ بعد عامي الخامس والعشرين. كان كل شيءٍ يسير على ما يُرام حتى ذلك اليوم؛ في نهاية الوردية المسائية كنتُ أتفقد المطعم كعادتي إلا أنني لاحظتُ وجود فتاةٍ من العاملات تقف مرتبكةً، وازدادت ارتباكاً عندما رأتني وهمت بالانصراف مُسرعةً، وبتفتيشها وجدتها تُخبئ في حقيبتها بعض المأكولات والعصائر؛ فما كان مني إلا أن أمرتُ بفصلها من العمل فوراً مع حرمانها من باقي مستحقاتها لأنها سرقت.

لم تُفلح توسلات الفتاة ولا دموعها، ولم تُجدِ وساطة العاملين نفعاً ولا مُبرراتهم بأنها فتاةٌ صغيرةٌ يتيمة الأب، تعمل كي تُنفق على والدتها المريضة على الرغم من أنها ما زالت تدرس بالمرحلة الثانوية، لم يحّن قلبي أبداً؛ حيث أنني مُستأمنٌ على ذلك المال. وظننتُ أنني فعلتُ الصواب، بل وأسرعتُ للاتصال بالسيد صاحب العمل لإخباره بما حدث، مُتوقعاً إشادةً واسعةً ومُكافأةً مُجزيةً، إلا أنني وجدتُ الرجل كما لم أره من قبل، كان ثائراً غاضباً يوبخني بشدةٍ، وقطع إجازته، وفي صبيحة اليوم التالي اجتمع بجميع العاملين والعاملات وحثهم على الأمانة والحفاظ على مصدر دخلهم، وأمر بزيادةٍ مُجزيةٍ جداً في راتب جميع العاملين، وأعاد الفتاة إلى عملها مع منحها وجبتي عَشاءٍ لها ولوالدتها يومياً عند الانصراف.

أشعرني تصرفه بكثيرٍ من الإحباط حتى أنني قدمتُ استقالةً مُسببةً؛ فما كان منه إلا أن مزّق طلب الاستقالة وقال لي: "يا بُني سأقص عليك قصة شابٍ كان يعمل على عربة كبدةٍ، واستأمنه صاحب العربة على ماله فصانه حتى ازداد المال واشتهرت العربة وتضاعف الإيراد أضعافاً مُضاعفةً بفضل الله ثم بكفاءة ذلك الشاب في العمل، إلا أنه -وعلى الرغم من ذلك- كان لا يملك إلا راتبه القليل فقط، بينما كل الأرباح تذهب لصاحب العربة. بدأ والد الشاب يمرض ويحتاج إلى مصاريف علاجٍ كثيرةٍ لم يقدر عليها وحده، وهنا دخل الشيطان مدخله ولعب برأس الشاب كي يقتطع جُزءاً من الربح اليومي دون إخبار صاحب العربة، وبعد مُقاومةٍ شرسةٍ نجح إبليس في مُخططه اللعين، وفعل الشاب ما فعل، لكن أراد الله له ألا يتمادى في طريق الباطل؛ فعلم صاحب المال بفعلته، كان من المُمكن أن يسجنه، أو على الأقل يطرده من العمل، إلا أنه -وفي تصرفٍ غير مُتوقعٍ- سأله عن صحة والده وأعطاه ما يكفي لعلاجه، ثم أمر أن يُصبح الشاب شريكاً له في العمل بمجهوده وبكفاءته وبحب الناس له. ثم نظر لي السيد طويلاً وقال: "هل تعرف من يكون ذلك الشاب؟ إنه أنا! يا بُني إن الله يستر العبد إن عصاه، ثم يستره إن عصاه ثانيةً، ثم يفضحه إن أصر على المعصية؛ فكُن ستّاراً يسترك الله ويُسخِّر لك من يسترك فكلنا عيوبٌ ونحتاج الستر". بعدها بعامٍ هاجر السيد إلى أُستراليا وعلمتُ بوفاته بعدها. أما الفتاة فالتقيتها بعد ثلاثة أعوامٍ صدفةً فى حفل عُرسٍ وأخبرتني أنها التحقت بكلية الطب البشري، وربما هي الآن طبيبةٌ عظيمةٌ وأمٌ لأسرةٍ جميلةٍ، وربما أيضاً تكون سبباً لإنقاذ حياتي يوماً ما.

إنها (فضيلة الستر)؛ تلك الفضيلة المنسية في زمنٍ سيطرت فيه مواقع التواصل الاجتماعي على حياة الناس، إلا من رحم ربك، فكفانا تعقباً لفضائح الناس، وكفانا قسوةً في أحكامنا على الآخرين.

 

أحبتي في الله.. الستر نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، وهو فضيلةٌ يحرص عليها المتقون.

يروي أحد الأخوة موقفاً يُبين لنا معنى الستر ومفهومه الشامل، كتب يقول: كنتُ أشتري صباح كل يومٍ صحيفةً من بائع الصُحف، وقد علمني مرةً درساً مُهماً سيبقى في ذاكرتي طوال العمر؛ سألته مرةً: "كيف حالك اليوم يا عم؟"، فقال لي: "والله، في نعمة الستر!"، فاندهشتُ من إجابته، وسألته: "ولماذا الستر تحديداً؟"، فقال لي: "لأنني مستورٌ من كل شيء!"، قلتُ له مُداعباً: "عن أيّ سترٍ تتحدث، وقميصك مُرقّعٌ بألوانٍ شتى؟!"، فقال لي: "يا بُنيّ، الستر أنواعٌ: عندما تكون مريضاً، ولكنك قادرٌ على السير بقدمَيك، فهذا سترٌ من مذلّة المرض. عندما يكون في جيبك مبلغٌ بسيطٌ من المال يكفيك لتنام وأنت شبعانٌ، حتى لو أكلتَ خُبزاً، فهذا سترٌ من مذلّة الجوع. عندما يكون لديك ملابس، ولو كانت مُرقّعةً أو قديمةً، فهذا سترٌ من مذلّة البرد. عندما تكون قادراً على الضحك، وأنت حزينٌ لأيّ سببٍ، فهذا سترٌ من مذلّة الحُزن. عندما تكون قادراً على قراءة الصحيفة التي بين يديك، فهذا سترٌ من مذلّة الجهل. عندما تستطيع أن تتصل في أيّ وقتٍ بأهلك لتطمئن عليهم وتُطمئنهم عنك، فهذا سترٌ من مذلّة الوحدة. عندما يكون لديك وظيفةٌ أو مهنةٌ حتى لو بائع صحفٍ، تمنعك عن مد يدك إلى أيّ شخصٍ، فهذا سترٌ من مذلة السؤال. عندما يُبارك لك الله في أولادك وبناتك، في صحتهم وتعليمهم وزواجهم وبيوتهم، فهذا سترٌ من مذلة القهر. عندما يكون لديك زوجةٌ صالحةٌ، تحمل معك همّ الدنيا، فهذا سترٌ من مذلّة الانكسار. وتذكّر دائماً أنك تملك نِعَماً يتمناها ملايين‏ البشر؛ هذه هي نعمة الستر. الستر يا بُنيّ، ليس ستر فلوس، وإنما ستر نفوس".

 

عن (فضيلة الستر) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن اللهَ عزَّ وجلَّ حليمٌ حييٌّ، سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحياءَ، والسِتْرَ].

وعن ستر الغير قال عليه الصلاة والسلام: [... ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وفي روايةٍ: [... ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يسترُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا، إلَّا ستره اللهُ يومَ القيامةِ].

أما عن ستر النفس -وهو أولى- فقال عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه]، ويقول العلماء عن ذلك: "للعبد سترٌ بينه وبين الله، وسترٌ بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله؛ هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس".

 

وعن (فضيلة الستر) قال أحدهم: "كلنا مُثقلون بالعيوب، ولولا رداءٌ من الله اسمه الستر لكُسِرت أعناقنا من شدة الخجل؛ فإذا وصلتك فضيحةٌ لأحدٍ فاجعلها تقف عندك ولا تتعداك، فإن وقفتْ عندك أخذتَ أجر الستر، وسترك الله في الدنيا والآخرة".

 

أما الشاعر فقال:

لِسانُكَ لا تذكرْ بهِ عَورةَ امرئٍ

فَكُلُكَ عَوراتٌ وللناسِ ألسُنُ

وَعيناكَ إنْ أبدتْ إليكَ مَعايباً

فَدَعْها وَقُلْ يا عَيْنُ للناسِ أعينُ

وعاشِرْ بمَعْروفٍ وَسامِحْ مَنْ اعْتَدى

وَدافِعْ ولَكِنْ بالتي هي أَحْسَنُ

وقال آخر:

لا تهتكنَ من مساوي الناسِ ما سُترا

فيهتكُ الله سِـتراً عن مَساويكَ

واذكرْ مَحاسـنَ ما فـيهم إذا ذُكِـروا

ولا تَعبْ أحداً مِنهم بمـا فيـكَ

 

أحبتي.. (فضيلة الستر) ما أحسنها من فضيلةٍ؛ فلنبدأ بأنفسنا نسترها فلا نُجاهر بسوءٍ فعلناه، ستره الله علينا، بل نستغفر ونتوب. ثم إن علينا أن نستر غيرنا؛ فيُنعم الله علينا بستره الجميل في الدنيا والآخرة، ومَنْ أنعَمَ الله عليه بالستر في الدنيا سَلِمَ من أذى الناس، وعاش بينهم عزيزاً كريماً، أما في الآخرة فعسى أن يجعل الله سمعنا وأبصارنا وجلودنا شهوداً لنا لا علينا يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك.

 

https://bit.ly/3VKUwKg