الجمعة، 26 فبراير 2021

العودة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /280


الجمعة 26 فبراير 2021م

(العودة إلى الله)

 

كتب قصته وأرسلها إلى صحيفةٍ يوميةٍ تنشر بريد القراء في عددها الأسبوعي الذي يصدر كل يوم جمعة، وأقدمها لكم مختصرة. يقول الكاتب:

جئتُ أنا وزوجتي إلى «لندن» في أوائل السبعينات، وتعاونا في بناء أسرتنا الصغيرة، وكافحنا كفاحاً شاقاً لتأمين مستقبل أسرتنا الصغيرة، إلى أن استقرت بنا الأحوال، وصار لدي مشروعٌ تجاريٌ خاصٌ بي، وشقةٌ صغيرةٌ جميلة. أنجبنا طفلتنا فأضافت إلى حياتنا لمساتٍ من البهجة، والتحقتْ بالمدرسة وأظهرتْ تفوقاً واضحاً، ثم أنجبنا طفلي الوحيد، واكتملت أسرتنا الصغيرة السعيدة واستقرت أوضاعنا المالية.

خلال ذلك واصلتْ ابنتي تقدمها في دراستها حتى دخلتْ المرحلة الثانوية، وبدأتْ تستعد لتحقيق حلمها الكبير في الشهادة الجامعية. لاحظتُ ذات يومٍ أن رقبتها منتفخةٌ بعض الشيء؛ فعرضتها على أطباء مستشفىً كبيرٍ، فلم يكشف الفحص الأول عن شيءٍ؛ فتم احتجازها في المستشفى لإجراء الفحوص والأشعات والتحاليل لكل جزءٍ في جسمها. لكننا فوجئنا بتدهورٍ سريعٍ وعجيبٍ في صحتها وقواها، وكانت تنتقل من سيءٍ إلى أسوأ؛ فبدأتْ تفقد سيطرتها على عملية الإخراج، ثم فقدتْ القدرة على تحريك ذراعيها وساقيها، ثم فقدتْ القدرة على الكلام والبلع وتناول الطعام أو الشراب، وبدأتْ تفقد بعد ذلك ذاكرتها؛ فلا تكاد تتعرف عليّ أو على أمها، ثم وصلتْ حالتها إلى الحضيض؛ فلازمتْ الفراش في العناية المركزة مفتوحة العينين لا تعي شيئاً ولا تُحس بشيءٍ من حولها؛ فقد راحت ضحيةً لمرضٍ نادرٍ غامضٍ اسمه "لوباس" أو اختلال جهاز المناعة في الجسم، وهو يؤدي إلى أن يُحارب جهاز المناعة الجسم ويُهاجم أعضاءه بدلاً من أن يُدافع عنه. قام الطبيب المعالج بتغيير البلازما الملوثة بڤيروس "لوباس" القاتل في دمها كله ببلازما جديدةٍ نظيفةٍ منه. وزاد من همي أن ابني الذي يبلغ من العمر تسع سنواتٍ قد انتابته هو الآخر حالةٌ غريبةٌ؛ فراح يأكل بلا وعي ويزداد وزنه بشكلٍ مخيفٍ، ويسألني أسئلةً تُعبر عن مخاوفه من المستقبل، وأصبح في حاجةٍ إلى علاجٍ نفسي. انفجرتُ في البكاء وأنا أحس بأن أسرتي تنهار أمامي. في هذه الفترة أكد لي كل مَن قابلتهم مِن الأطباء أنه لا أمل في نجاة ابنتي من المصير المحتوم.

في وسط هذه الأفكار السوداء ذهبتُ إلى المسجد الكبير الذي كنتُ أؤدي فيه من حينٍ لآخر صلاة الجمعة، فسمعتُ الخطيب يروي الحديث القدسي، عن الله سبحانه وتعالى، الذي منه: "وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"؛ فصرختُ في المسجد: "يا ربِ أتيتك هرولةً فاقبلني في عبادك التائبين، واعفُ عن ابنتي، أو فارحمها وعجل بنهايتها"، ولم أبالِ بنظرات المصلين. واظبتُ على الصلاة من يومها، وبدأتُ أستشعر سكينةً غريبةً وأنا ساجدٌ لربي أصلي، لم أكن أحس بمثلها من قبل، وازدادت سكينتي حين سألتُ الطبيب الكبير: "ألا من أملٍ في شفاء ابنتي ذات يوم"؟ فأجابني بصراحةٍ بأنه كان يتوقع لها الموت قبل ذلك لكنها لم تمت في الموعد الذي توقعه فتجدد الأمل لديه، ثم حدثت لها نكسةٌ أخرى وتوقع وفاتها في موعدٍ آخر فنجت منها أيضاً، وأضاف أن ذلك كله لا علاقة له بالطب، لكن ربما يكون لإرادتها القوية في الحياة أثرٌ في اجتيازها لهذه المحن المتتالية.

شعرتُ في هذه اللحظة فقط بأن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عن ابنتي، ولن يُسلمني لليأس من رحمته، وعند زيارتي للمستشفى فوجئتُ بزوجتي في حالةٍ معنويةٍ عاليةٍ؛ فما إن رأتني حتى صاحت في وجهي بأن ابنتنا قد تكلمتْ، نعم تكلمتْ في الليل ونطقتْ بضع كلماتٍ ثم عادت للصمت والذهول. الله أكبر؛ إذن فهناك أملٌ في أن تعود لحالتها الطبيعية ذات يومٍ بعد شهورٍ من الرقاد بلا حراك ولا كلام. ثم بدأتْ الأخبار السعيدة تتوالى من حينٍ لآخر، ومن أتفه الأشياء كنا نستشعر الأمل في الله؛ لقد تأوهتْ، لقد بدا على وجهها تعبيرٌ يوحي بأنها تعرف أمها، لقد بدتْ كما لو كانت تريد الكلام أو طلب شيء، لقد أدارت وجهها يميناً وشمالاً ترقب المكان! وشيئاً فشيئاً بدأتْ ابنتي – بعد أربعة شهورٍ قاسيةٍ – تستعيد وعيها وتتعرف علينا، ويوم تعرفتْ عليّ لأول مرةٍ سالت الدموع من عينيّ كالمطر، ويوم تحدثتْ إليّ كنتُ أرقص من الفرح. قال لي الطبيب بعدها إن علاج ابنتي بالأدوية قد انتهى عند هذا الحد، وإن الأمل في استعادتها لقدرتها على الحركة والمشي معقودٌ على العلاج الطبيعي الطويل، وإنه حتى إذا لم يتحقق ذلك فإن ما حدث يُعد معجزةً لا علاقة لها بالطب، ولا يستطيع هو نفسه أن يفسرها، خصوصاً فيما يتعلق بذاكرتها التي بدأتْ تستعيدها تدريجياً برغم إصابتها المتكررة في المخ.

سجدتُ لربي حامداً له وشاكراً وأنا لا أصدق نفسي، ونقلنا ابنتنا إلى مستشفى العلاج الطبيعي، وهناك توالت المعجزات الإلهية؛ فقد بدأتْ تستعيد قدرتها على تحريك ذراعيها، ثم ساقيها، ثم استعادت ذاكرتها بقوةٍ، وبعد ثلاثة شهورٍ أخرى غادرت المستشفى تمشي على قدميها، وقد استعاد جسمها وظائفه كلها، ما عدا أصابع يدها اليمنى التي لا تستطيع الانقباض والإمساك بالقلم من تأثير إصابات المخ.

أحسستُ بأن الله سبحانه وتعالى قد أخرجنا من ظلمات اليأس والخوف إلى النور من جديد. وسوف تبدأ ابنتي دراستها في سبتمبر القادم، بعد أن ضاع عليها عامٌ دراسيٌ، وستؤدي الامتحان بالكتابة على الكمبيوتر، وليس بالقلم بسبب حالة يدها اليمنى. كما مَنَّ علينا الله بفضله؛ إذ عاد ابني إلى ما كان عليه قبل مرض أخته، ولم يعد بحاجةٍ إلى العلاج النفسي. فماذا أقول بعد كل ذلك سوى: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر"؟

لقد أردتُ أن أروي قصتي للمهمومين، وللمرضى وأقول لهم: ﴿لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾، ولا تفقدوا الأمل فيه أبداً، مهما كانت شدة الظلام، عودوا إلى الله بإخلاصٍ، وأحسنوا الظن به؛ فليس بالطب وحده يشفى الإنسان.

 

أحبتي في الله .. يقولُ اللَّهُ تَعالَى في الحديث القدسي: {أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ].

إنها (العودة إلى الله)؛ وكما يقول أحد العلماء إن الله عزَّ وجلَّ، بحكمته البالغة، يبتلى عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، وبالنعم والنقم، ليمتحن صبرهم وشكرهم، فمن صبر عند البلاء، وشكر عند الرخاء، وضرع إلى الله سبحانه عند حصول المصائب، يشكو إليه ذنوبه وتقصيره ويسأله رحمته وعفوه، أفلح كل الفلاح وفاز بالعاقبة الحميدة؛ يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾، والمقصود بالفتنة في هذه الآية الاختبار والامتحان حتى يتبين الصادق من الكاذب، والصابر والشاكر. كما يقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، والمقصود بالخير وبالحسنات نعم الله من الخصب والرخاء والصحة والعزة، والنصر على الأعداء ونحو ذلك، أما الشر والسيئات فالمقصود بهما المصائب؛ كالأمراض وغيرها، وأنه سبحانه قدَّر الشر والخير، والحسنات والسيئات، ليرجع الناس إلى الحق، ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم، ويسارعوا إلى طاعة الله ورسوله، و(العودة إلى الله) لأن الكفر والمعاصي هما سبب كل بلاءٍ وشرٍ في الدنيا والآخرة. وقد بيَّنَ سبحانه أن الذنوب والمعاصي هي سبب المصائب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾، وأمر عباده بالتوبة، والضراعة إليه عند وقوع المصائب؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وفي هذا حثٌ من الله سبحانه لعباده وترغيبٌ لهم -إذا حلت بهم المصائب- في (العودة إلى الله)، وأن يتضرعوا إليه فيسألوه العون، ثم بيَّن سبحانه أن قسوة قلوبهم، وتزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة، كل ذلك بسبب صدهم عن التوبة والضراعة والاستغفار.

 

وعن (العودة إلى الله) يقول الشاعر:

قُلْ لِلَّذِي أَلِفَ الذُّنُوبَ وأَجْرَمَا

وغَدا على زلاتهِ مُتَنِدِمًا

لا تَيْأسَنْ واطلب كريمًا دائِمًا

يُوْلِي الجَميل تَفَضُلاً وتكرُّمًا

يا مَعْشرَ العاصينَ جُوْدٌ واسعٌ

عند الإلهِ لِمنْ يتوبُ ويَنْدَمَا

يا أيُّها العبدُ المُسيْء إلى متى

تُفْني زمانكَ في عسى ولَرُبَّمَا؟

بادِرْ إلى موْلاكَ يا مَن عُمْرُه

قد ضاعَ في عصيانهِ وتَصَرَّمَا

واسألهُ توفيقًا وعفوًا ثمَّ قلْ:

يا ربِّ بصّرْنِي وزلْ عَنِّيْ العَمَا

 

أحبتي .. أختم بما كتبه عالمٌ جليلٌ ناصحاً؛ كتب يقول: يا معشر المسلمين حاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم واستغفروه، وبادروا إلى طاعته، واحذروا معصيته، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وأعدوا العدة الصالحة قبل نزول الموت، وارحموا ضعفاءكم، وواسوا فقراءكم، وأكثروا من ذكر الله واستغفاره، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لعلكم تُرحمون، واعتبروا بما أصاب غيركم من المصائب بأسباب الذنوب والمعاصي، والله يتوب على التائبين، ويرحم المحسنين، ويُحسن العاقبة للمتقين؛ يقول سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

 

اللهم رُدنا إليك رداً جميلاً، واجعلنا من الصابرين ومن المتقين، وأحسن عاقبتنا، واجعلنا اللهم ممن يعتبرون بغيرهم، ويبادرون إلى (العودة إلى الله)، وثبتنا بعد العودة إليك حتى لا نكون ممن وصفتهم في كتابك الكريم: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا ربنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3bN7Msa

الجمعة، 19 فبراير 2021

تحصين الأموال


خاطرة الجمعة /279


الجمعة 19 فبراير 2021م

(تحصين الأموال)

 

حادثةٌ وقعت منذ زمنٍ بعيدٍ في سوريا عندما سلَّط الله تعالى الجراد على مزارع وزروع الناس، حتى لم يبقَ عود أخضر في البلاد؛ فلقد هجمت أسراب الجراد بأعداد كبيرةٍ جداً، ولكثافته كان يشكل سحابةً تحجب نور الشمس أثناء طيرانه وانتقاله من مكانٍ لآخر، فبدأ يأكل الأخضر واليابس حتى التهم لحاء الشجر، ونتيجة لذلك حدثت مجاعةٌ كبيرةٌ في البلاد بسبب فقدان المحاصيل والمواسم الزراعية. خلال هذه الفترة ذهب أحد المزارعين بقرية داريا قرب مدينة دمشق إلى ضابط الشرطة يشكو مزارعاً في بلدته أن بحوزته نوعاً من المبيدات القاضية على الجراد قضاءً مبرماً ولم يعطِ منه أحداً، أو يُعلم الدولة لتأمينه للمزارعين، ودليله على ذلك أن بستان ذلك المزارع أخضر وأشجاره مورقةٌ وارفة الظلال، لم يقربها الجراد، فهي ذات ثمارٍ متدليةٍ وفيرةٍ وأعنابٍ غايةً في الجودة وطيِّب المذاق؛ وهنا امتطى الضابط المسؤول حصانه، وتبعه عدد من شرطة الدرك للتحقيق في هذا الموضوع وللتأكُّد من صحة أقوال الشاكي، وانطلق الضابط مع الواشي إلى مكان البستان، وعند وصوله رأى الأشجار الخضراء والأثمار اليانعة، تماماً كما وُصفت له؛ فطلب صاحب البستان، وحين حضر ثار عليه والسوط في يده يبغي ضربه الضرب المبرح، قائلاً له: "لماذا تكتم هذا الدواء المبيد للحشرات عن المزارعين؟ ولماذا لم تُعلم الدولة كي تؤمِّنه للمزارعين؟ فقط يهمُّك أمر نفسك أيها الأناني! يا ويلك غداً بين يدي الله"، فأجابه صاحب البستان قائلاً: "سيدي؛ الدواء الذي أستعمله كلّهم يعرفونه ولا يستعملونه، بل يرفضونه بازدراء"، عندها خفض سوْطه وسأل صاحب البستان: "ما هو هذا الدواء"؟ فأجابه: "الزكاة سيدي؛ إني أتصدَّق بعشْر محصولي سنوياً طوال حياتي؛ فحفظه الله لي"، فقال له الضابط: "ماذا تقول"؟ فكرّر: "الزكاة، سيدي". وهنا سأل الضابط صاحب البستان مستنكراً: "وهل يفهم الجراد ويميِّز بين بستان مزكّى وآخر غير مزكّى"؟ فأجابه: "جرِّب، وألقِ الجراد على الزرع"، عندها قفز الضابط من على صهوة حصانه إلى الأرض بهمّةٍ ونشاط ٍوجمع بكلتا يديه عدداً كبيراً من الجراد من الأرض، وألقاه في البستان، وإذا بالجراد يرتطم بأرض البستان وزرعه قافزاً بجناحه مرتداً القهقرى خارجاً من البستان، ولم تبقَ جرادة واحدة في البستان، بل كان الجراد كله يرتطم ويعود إلى مكانه دون أن يقضم ورقةً واحدةً من البستان، وكرّر الضابط ذلك ثلاث مراتٍ، وفي كل مرةٍ يعود الجراد من حيث أتى وكأنه اصطدم بجدارٍ منيعٍ أو بنارٍ محرقةٍ قذفت به خارج البستان.

وهنا تأكد الضابط بنفسه بأن المال المزكى يحميه الله  من غوائل الأحداث، وأن في الزكاة (تحصين الأموال).

 

أحبتي في الله .. إنها الزكاة، الركن الثالث من أركان الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ].

ولأهمية الزكاة وعلو شأنها وعظيم قدرها جاءت مقرونةً بالصلاة في كثيرٍ من الآيات الكريمة في القرآن الكريم؛ في مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وقوله أيضاً: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.

وجاء اقتران الزكاة بالصلاة -التي هي أهم العبادات في الإسلام- في نحو ستة وعشرين موضعاً في كتاب الله، الأمر الذي يبين أهمية الزكاة.

والأحاديث النبوية الشريفة التي تُبين وجوب أداء الزكاة وفضلها وأنواعها ومقدار كل نوعٍ منها كثيرةٌ، منها قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ رَجُلٍ لا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ حَتَّى يَجْمَعَهُمَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَمَعَهُمَا فَلا تُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا]، وعن فضل الزكاة قال ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠ: [حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزكاةِ].

أما الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- فقد ظهر حرصهم على التزام المسلمين بأداء الزكاة مبكراً في قول سيدنا أبو بكر الصديق أول خليفة للمسلمين: "واللهِ لا أفرّق بين شيءٍ جمع الله بينه، واللهِ لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه".

ومن أقوال التابعين عن الزكاة: "إنّ الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلّف عنها هلك".

 

والزكاة في اللغة معناها: النَمَاء، وتأتي أيضاً بمعنى: التطهير، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾، وقد سُمِّيَت الزكاة بذلك الاسم لأنَّ في إخراجها نماءٌ للمال، ويَكْثُرُ بسببها الأجر، ولأنها تُطَهِر النفس من رذيلة البُخل.

 

يقول العلماء إن الإسلام جاء ليبني مجتمعاً إسلامياً متماسكاً ومتضامناً، يقف فيه القوي إلى جانب الضعيف، ويُعين فيه الغني الفقير؛ فكان أن فُرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة، وهي الركن الاقتصادي والاجتماعي لهذا الدين. وللزكاة فوائد عظيمةٌ على المجتمع الإسلامي؛ فهي من جانب أداةٌ لتربية المزكّين على مقاومة الشحّ والبخل وتدريبهم على البذل والعطاء، وهي من جانبٍ آخر تساعد على تطهير نفوس المنتفعين من الفقراء والمحتاجين من شوائب الحقد والحسد والكراهية تجاه الأغنياء والموسرين الذين ينفقون جزءاً من أموالهم استجابةً لأمر الله، مما يُسهم في تحسين معيشة الفقراء وسد احتياجاتهم الضرورية وحمايتهم من الخصاصة والبؤس، وبذلك يتحقق مجتمع التراحم والتضامن والإخاء الذي أوصى به الإسلام. إن الزكاة واجبةٌ وهي حق الفقراء في مال الأغنياء؛ لأن المال هو مال الله والإنسان مستخَلفٌ فيه يتصرف فيه بمقتضى تعاليم الدين؛ يقول تعالى: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾. والزكاة ليست منّةً من الغني على الفقير بل هي فريضةٌ يؤديها؛ يقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ فحقّ على المسلم أن يبذل ممّا أنعم الله تعالى عليه من وفرة المال وأن يتصدق بجزءٍ منه مساهمةً منه في دعم التكافل بين المسلمين في السرّاء والضرّاء، وفي (تحصين الأموال) والأرزاق من التلف والهلاك، وتطهيرها من الخبث والنجس؛ قال الرسول: [ما خَالَطَتِ الزكاة مالاً قطُّ، إلا أهلكتْه] وقال أيضا: [ما تَلِفَ مالٌ في بَرٍّ ولا بحر إلا بحبْس الزكاة]. فالزكاة تنمي المال ولا تنقصه وتزيد في الأرزاق ولا تمحقها قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

 

واشترط أهل العلم لوجوب الزكاة شروطاً منها: بلوغ النصاب، وحولان الحول بالتاريخ الهجري وليس بالتاريخ الميلادي، وحيث أن هناك فرقاً بين عدد أيام السنة الهجرية والميلادية قدره اثنا عشر يوماً تقريباً، فليسارع من كان أخرج زكاته عن سنواتٍ ميلاديةٍ إلى تحديد عدد تلك السنوات ويقوم بحساب فرق الأيام ويخرج ما فاته من زكاتها.

 

أحبتي .. لنتواصى جميعاً بالمبادرة إلى إخراج زكواتنا ولا نؤخرها؛ ففيها مرضاة الرب وحق الفقير ومصلحة المجتمع، كما أنها سببٌ في (تحصين الأموال). وما أقسى ما ينتظر مانع الزكاة من عذابٍ؛ يقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِن صاحِبِ كَنزٍ لا يُؤدي زكاتَه إلا أُحْمِي عَليه في نارِ جَهَنم، فيُجْعل صَفائح، فيُكْوَى بها جَنباه وجَبِينه، حتى يَحكمَ اللهُ بين عبادِه في يومٍ كان مِقْدَارُه خَمسين ألف سنة].

اللهم اجعلنا ممن يلتزمون بأداء الزكاة بمقدارها وأوقاتها وفي مصارفها. اللهم اقبلها منا خالصةً لوجهك الكريم بغير مَنٍ ولا رياء.

 

https://bit.ly/3qNJ7tP


الجمعة، 12 فبراير 2021

الإخلاص في الدعاء

 خاطرة الجمعة /278


الجمعة 12 فبراير 2021م

(الإخلاص في الدعاء)

 

تقول امرأة: مرضت ابنتي في إحدى الليالي مرضاً شديداً، وتمنيتُ لو أُحضر لها الطبيب أو أنقلها للمشفى، ولكن لم أكن أملك من المال حتى أجرة الطريق، فنحن عائلةٌ فقيرةٌ بالكاد نملك قوت يومنا، ونحن لا نمد أيدينا للناس، وإنما نطلب من رب الناس، ففي تلك الليلة أُغلقت في وجهي كل الأبواب، وبدأت حالة ابنتي الصحية تتدهور، فما وجدتُ أمامي إلا باب الله فطرقته، وأخلصتُ في هذه الساعة الدعاء، وطلبتُ منه سبحانه وتعالى أن يجعل لي من أمري هذا مخرجاً. واللهِ ما إن أنهيتُ صلاتي إلا وسمعتُ باب البيت يُطرق، فاستغربت!! من سيأتي لعندنا في هذه الساعة المتأخرة، فقلتُ: "من"؟! قال: "أنا الطبيب؛ افتحي"، فتحتُ الباب وأنا مستغربة، قال لي: "أين الفتاة المريضة"؟ فأجبته: "بالداخل تفضل"، وكنتُ مستغربةً كيف عرف أن ابنتي مريضة!! فحصها وأعطاها حقنةً وكتب لها وصفةً طبيةً، وقال: "احضروا لها هذا الدواء"، شكرته، ولكنه ظل واقفاً، قال لي: "أجرة الكشف لو سمحتِ"، أجبته: "أنا لا أملك مالاً"؛ فغضب وقال: "بما أنك لا تملكين المال فلِمَ أيقظتيني وجعلتيني آتي لعلاج ابنتك"؟! فأجبته بسرعةٍ: "أنا لم أتصل بك، ونحن لا يوجد عندنا هاتفٌ في بيتنا"، فقال الطبيب: "أليس هذا بيت أبو فلان"!؟ فأجبته: "لا، هم البيت الذي يلي بيتنا"، فاستعجب الطبيب للذي حصل وقال لي: "الله هو الذي أحضرني لعلاج ابنتك"، وأخذ مني الوصفة، وقال لي أنه سيعود بعد قليل، تركنا لدقائق وعاد وقد أحضر الدواء لابنتي، وقبل أن يُغادر أعطاني مبلغاً من المال وقال: "سآتي صباحاً لأطمئن على صحة الصغيرة"، وذهب، هنا استشعرتُ عظمة الله سبحانه وتعالى، وكم هو سريع الإجابة والعطاء والرحمة.

 

أحبتي في الله .. كان هذا من أجل إخلاص تلك المرأة في دعائها لله عزَّ وجل.

يقول أهل العلم إن الدُعاء هو عبادةٌ وصِلةٌ بين العبد ورب العالمين، كما أنّه وسيلةٌ لقضاء حاجات الإنسان في الدنيا، والتضرّع لله تعالى ليغفر له في الآخرة ويجعله من أهل الجنة؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: [إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ] ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.

أما الإخلاص فهو خلوص العمل من الشوائب.

ومعنى (الإخلاص في الدعاء) خلوص الدعاء من الشوائب؛ بعدم التفات القلب أثناء الدعاء إلى غير المدعوّ وهو الله تعالى، فإذا ما توفر الإخلاص وطهر الدعاء من الشوائب فسوف يكون مشمولاً بقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

وقد ورد عن سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "وخير الدعاء ما صَدَرَ عن صَدْرٍ نقيٍ وقلبٍ تقيٍ، وفي المناجاة سبب النجاة، وبالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع". والإخلاص وليد الحبّ، فلا إخلاص لمن لا حُبَّ له، فمن عرف الله تعالى أحبّ اللهَ، ومن أحبَّهُ أخلص له.

والإخلاص ليس أمراً مُكِّملا للدعاء، وإنّما هو شرطٌ أساسيٌ في صحّتِهِ وقبوله، بل لا يُتصّورُ الدعاءُ بدون إخلاصٍ، لأنّ حقيقةَ الدعاءِ تكمنُ في النيّةِ، وحقيقةَ النيّة تكمنُ في الإخلاص؛ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: [أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلًا فِيهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ رِيَاءٍ].

وإذا كان الدعاءُ كما ورد في الأثر هو "مُخّ العبادةِ" فإنَّ الإخلاص هو مُخُّ الدعاء.

والدعاء عبادةٌ يُقصَد فيها المعبودُ وحده لا غير حتى يكون العبد مُستحقّاً للأجر، أمّا من قصد بدعائه غير الله سبحانه وتعالى فإنّه لا يكون مُستحقّاً للثواب والأجر، بل ويكون مُستحقّاً للعقوبة، لأنه يكون قد وقع في براثن الشرك الأكبر، والعياذ بالله.

 

إن (الإخلاص في الدعاء)، هو مفتاح الفرج لكل من ضاقت به الحال، واشتد كربه؛ فهذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -وقد تعرض لأذىً شديدٍ من المشركين بالطائف- يدعو ربه بإخلاص ويقول: [اللَّهمَّ إليك أشكو ضَعْف قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهواني على النَّاس، يا أرحم الرَّاحمين، أنتَ ربُّ المستضعفين وأنت ربِّي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الَّذي أشرقَتْ له الظُّلمات، وصلحَ عليه أمر الدُّنيا والآخرة مِن أن تُنْزِل بي غضبك، أو يحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتْبَى حتَّى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك].

ولَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا؛ فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ]، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾. وفي روايةٍ أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: [اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْش قَدْ أَتَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرهَا، تُجَادِل وَتُكَذِّب رَسُولك، اللَّهُمَّ فَنَصْرك الَّذِي وَعَدَّتْنِي].

وهذا سيدنا يونس عليه السلام عندما ابتلعه الحوت ونزل به في ظلمات البحر؛ دعا الله بإخلاص فقال: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فاستجاب الله له؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾، لقد كانت الاستجابة سريعةً وفوريةً عقب الدعاء مباشرةً؛ فحرف الفاء في كلمة ﴿فَاسْتَجَبْنَا﴾ يُشير في اللغة إلى الترتيب والتعقيب.

يقول أحد العلماء إن الإخلاص في العبادة لا بدّ أن يؤدي إلى (الإخلاص في الدعاء)، وهذا ما أمرنا الله به في قوله: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾؛ فنحن عندما ندعو الله يجب أن يكون دعاؤنا له هو فقط.

وهناك مِن الناس مَن يدعون الله بإخلاصٍ في المواقف الصعبة؛ فيستجيب لهم برحمته ويُنجيهم، ثم إذا بعضهم مقتصدٌ وبعضهم جاحدٌ يكفر بنعمة الله؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾، وهكذا يفعل -للأسف- كثيرٌ من الطلاب وقت الامتحانات، وكثيرٌ من الناس وقت المرض أو الشدة أو الابتلاء، يدعون الله سبحانه وتعالى بإخلاص، يواظبون على الصلاة في المساجد، وتراهم في الصفوف الأولى، ثم بعد أن يستجيب الله لدعائهم إذا هم يعودون إلى ما كانوا عليه بُعداً عن المولى عزَّ وجلَّ وعن بيوته.

 

والله يُحب أن يُسأل، لأن السائل يعرف أن لا رب سوى الله، وأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يسمعه حين يدعو ويستجيب له، وهو وحده القادر على نفعه وضره. وهو سبحانه يحب التضرع إليه وسؤاله والدعاء له؛ يقول أحد الصالحين: "وأَحَبُ خلق الله إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً، وهو يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال، أحبه وقربه وأعطاه".

ويقول الشاعر:

لا تَسْأَلَنَّ بَنِي آَدَمَ حَاجَةً

وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لا تُغْلَقُ

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ

وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

 

أحبتي .. كم منا مَن هو قليل الدعاء؟ وإذا دعا الله سبحانه وتعالى فهو يدعو بلسانه فقط وقلبه مشغولٌ بغير الدعاء؟ وكم منا مَن يدعو الله بكلماتٍ محفوظةٍ يرددها وهو لا يفهم معنى بعضها؟ وكم منا مَن يُكثر الدعاء في أوقات الشدة ثم يكون قليل الدعاء وقت الرخاء؟

كلنا -إلا مَن رحم ربي- ينشغل بالدنيا فتأخذه بعيداً عن مناجاة ربه والتوجه إليه بالدعاء بخشوعٍ وتذللٍ وإلحاحٍ وإخلاص.

اللهم ارزقنا (الإخلاص في الدعاء) واستجب لدعائنا، بما فيه مصلحةٌ لنا؛ في ديننا ومعاشنا، في عاجل أمرنا وآجله، واقدر لنا الخير، أينما كان، وحيثما كان، ويسره لنا، ثم رضنا به، وبارك لنا فيه.

https://bit.ly/3adQPY8

الجمعة، 5 فبراير 2021

عمل الخير يطيل العمر

 

خاطرة الجمعة /277


الجمعة 5 فبراير 2021م

(عمل الخير يطيل العمر)

 

في الأيام الخوالي في مدينة دمشق، أصيب أحد كبار التجار آنئذٍ بسرطانٍ قاتلٍ، ولم يكن له علاجٌ في تلك الآونة في سوريا كما هو اليوم. وسرعان ما عقد الرحيل إلى أمريكا. وبعدما أنهى جميع التحاليل والصور الطبية أخبره طبيبه المعالج هناك أنه لا نتيجة ولا فائدة مرجوة من العلاج؛ فقد استشرى السرطان بجسده ولم تعد هناك بارقة أملٍ تُذكر، وقال الطبيب للتاجر بصراحةٍ مطلقة: "لم يعد أمامك من العمر إلا أياماً معدودة لا تتجاوز شهراً واحداً فارجع إلى بلدك لتموت فيها، واغتنم ما تبقى لك من هذه الأيام القليلة فيما تُحب وتشتهي واستمتع"!

عاد التاجر إلى دمشق وقد مضى من شهره المتبقي ثلثاه؛ وبدأ ينتظر موعد حتفه ورحيله، وبينما هو كذلك ذات يومٍ ماطرٍ شعر بضيقٍ يأكل قلبه ويكتم أنفاسه؛ فترك البيت وذهب يمشي هائماً على وجهه، حتى شعر ببعض التعب فتوقف على رصيفٍ يسترد أنفاسه، شاهد على الرصيف امرأةً شابةً تحاور شاباً وسيماً يمضغ العلكة متمايلاً ويبدو على محياه علائم السعة والقوة، لم يكترث الشاب الغني للتاجر المريض وتابع حديثه مع الصبية الفقيرة وهو يساومها على جسدها، هكذا فهم التاجر من حديثها وصوتها الخفيض، وهي تشرح للشاب حاجتها لبعض المال وقليلٍ من الخبز؛ فقد رمى بها صاحب البيت الذي استأجرته مع أطفالها في الشارع ولم يكترث لحالها ولم يُعرها أي اهتمامٍ فهو يراها خدعته ولم تدفع قرشاً من أجرة ذلك البيت العتيق! غير أن الشاب الغني لم يتفق معها على ما طلبت، وهي تساومه على جسدها النحيل، فقد كان يريدها بثمنٍ بخس! لِمَ لا وهو الصياد الذكي، وتركها ومضى!! اقترب التاجر المريض من المرأة ورأى دموعاً من الأسى تفيض مرارةً؛ فقال لها: "اعذريني يا ابنتي فقد سمعتُ حواركما فما قصتك وما الذي دعاك لهذا العمل المشين"؟ التفتت إليه المرأة وقالت: "أولادي في الشارع، رمانا صاحب البيت خارجاً، وزوجي سجينٌ لا أعلم عنه شيئاً وليس لي أهل! وأقسم بالذي رفع السماوات بلا عمدٍ أنني أول مرةٍ أساوم فيها على جسدي، وقد فعلتُ ذلك بعد أن أُغلقت كل الابواب في وجهي وحتى هذا الباب لم يُفتح"، قال التاجر المريض: "اسمعي يا بنيتي؛ ماذا تقدمين لي إذا كفيتك حاجتك وأعطيتك كل العمر مؤونتك ومنعتُ الفقر عنك"؟!قالت: "اطلب ما تريد"، فقال لها: "أريد شيئاً واحداً أن تعاهديني على ألا تبيعي جسدك للحرام طول عمرك وأنا أتكفل بك مع أولادك"! قالت الصبية: "وافقت"، قال التاجر: "وما هو الضمان لتنفيذ ذلك"؟ قالت الصبية: أتقبل أن يكون الله ضامناً لي؟! أُشهد الله الذي لا يسمعنا غيره أن أفي بوعدي لك كل عمري وحياتي، وأحمد الله الذي أرسلك لي الآن"!! قال التاجر: "اتفقنا والشاهد علينا الله، أعطني عنوان بيتك وعودي وسأرجع إليك بعد قليل"! وسرعان ما عاد التاجر إلى مكتبه وسجل وصيته على ورقةٍ ووضعها في صندوق المال وكتب فيها: «أبنائي؛ وصيتي أن ترسلوا راتباً شهرياً يكفي خمسة أشخاص إلى العنوان المذكور في الأسفل طوال عمركم فنفذوا وصيتي من بعدي»! وعاد التاجر إلى بيت المرأة يحمل بسيارةٍ كبيرةٍ مؤونة بيتٍ متنوعةٍ، وقدم لصاحب البيت الإيجار عن الأشهر السابقة كلها، وإيجار ثلاث سنواتٍ قادمةٍ، وهكذا فعل مع اللحام والسمان وغيرهم. عاد التاجر إلى بيته وفي قلبه فرحٌ غامرٌ رغم أساه منتظراً حتفه في نهاية شهره المتبقي. وانتهى الشهر وانقضت مدة البقاء في هذه الدنيا غير أن الموت لم يقترب منه، وذهب أول الشهر إلى المرأة وناولها راتبها وقفل راجعاً.

وتوالت الأيام ولم يمت، وتوالت الأسابيع والشهور والسنون ولم يمت، وبقيت الوصية في خزنة النقود. بعد أكثر من عشرين عاماً نهض تاجرنا لصلاة الصبح وسجد خاشعاً وفي قلبه يقينٌ ونورٌ وإيمانٌ وطمأنينةٌ غير أنه لم ينهض وأسلم روحه لبارئها وهو ساجدٌ.

بعد انقضاء مدة العزاء فتح أولاده صندوق المال فوجدوا الوصية المكتوبة، قال كبيرهم: "تأخرنا سبعة أيام عن الراتب للمرأة الفقيرة"! ذهب بالراتب مسرعاً إلى العنوان المذكور، طرق الباب، وخرجت المرأة التي لم تعد صبيةً، قال لها: "تفضلي الراتب ونعتذر عن التأخير"، قالت له وفي عينيها دموعٌ سخيةٌ: "أشكركم من قلبي، قل لوالدك أن يبحث عن محتاجٍ غيرنا؛ لقد قبض ابني أول راتبٍ منذ سبعة أيام، ولم نعد بحاجة للمال! سلم لي على أبيك وقل له: سأبقى أدعو له ما حييت"، نظر ابن التاجر إليها وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وقال لها: "لقد تُوفي والدي منذ سبعة أيام"!

 

أحبتي في الله .. آيات القرآن الكريم التي تحض على عمل الخير كثيرةٌ، وجميعها توضح أنه من أعظم القربات لنيل رضا المولى عزَّ وجلَّ، وهو في ذات الوقت من الأعمال التي يعود نفعها على فاعلها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ تأمل وعده سبحانه ﴿يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، انظر إلى دقة التعبير القرآني حين يصف عمل الخير بأننا نقدمه لأنفسنا، لم يقل وما تقدموا لغيركم، بل قال: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم﴾، تأكيداً على أن فاعل الخير يستفيد منه بأكثر مما يستفيد من يُقَدَم عمل الخير له، فعمل الخير يعود علينا بخيرٍ نجده عند الله، ويعود علينا بالأجر العظيم. وعمل الخير يُثاب عليه الإنسان ولو كان قليلاً بموازيننا نحن البشر، لكنه لا يضيع في ميزان الله؛ يقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾.

وفي قصتنا رأينا كيف أمدّ المولى سبحانه وتعالى في عمر هذا التاجر إلى اليوم الذي بدأت الأسرة التي كان يساعدها في الاكتفاء، أطال في عمره حتى مات في اليوم الذي تسلم فيه ابن المرأة أول راتبٍ له!

فهل (عمل الخير يطيل العمر)؟

 

من الناحية الشرعية؛ رد عالمٌ جليلٌ على هذا السؤال بقوله: نعم؛ جاء في الأحاديث الشريفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن البر من أسباب الفسح في الأجل، يقول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ]، وليس معنى هذا أن القدر المحتوم يتغير، فما قدره الله سابقًا هو على ما قدره لا يتغير، لكنه سبحانه يُعلق أشياء بأشياء، فهذا يبر والديه ففسح الله له في الأجل بسبب بره والديه مثلاً. وقد سبق هذا في القدر السابق أنه يبر والديه وأن يقع له كذا وكذا، وأن يُؤخَر إلى كذا وكذا، وهذا يصل أرحامه؛ فيُؤخَر أجله، وهذا يتصدق كثيراً، ونحو ذلك. فالحاصل أن هذا يتعلق بالأقدار المعلقة على أسبابها، متى وُجدت أسبابها تحقق ما عُلق بها، وهذا كله من قدر الله تعالى؛ فالقدر قدران: قدرٌ محتومٌ لا حيلة فيه كالموت والهرم ونحو ذلك، وقدرٌ معلقٌ على أسبابٍ يوجَد بالأسباب التي عُلق بها، فيوجد الفسح في الأجل بسبب البر والصلة؛ لأنه عُلق على ذلك إلى الأجل الذي قدره الله سبحانه وسبق في علمه تعالى. وطول العمر نعمةٌ إذا اُستخدم في عمل الخير؛ سُئل النبي عليه الصلاة والسلام: من خير الناس؟ وفي روايةٍ: أي الناس أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ طَالَ عُمُرُه، وَحَسُنَ عَمَلُه].

وحين سأل أحدهم: هل الدعاء بطول العمر يُغير الأقدار، أم أنّ كل شيءٍ كُتب في اللوح المحفوظ ولا يمكن أن يتغير؟ رد أهل العلم بأن الدعاء بطول العمر لا بُد أن يُقيد بالعمل الصالح، فتقول اللهم أطل عمري بالعمل الصالح، والدعاء بطول العمر ليس محموداً، والأَوْلى بالإنسان أن يدعو الله أن يُبارك له في عمره وعمله، ولا يدعو بطول العمر، والدعاء بطول العمر لا يُغير ما كُتب للإنسان في اللوح المحفوظ، فإن ما كتب فيه لا يُغير أبداً، وإذا تغير عمره وطال فإنه مكتوبٌ في اللوح المحفوظ إنه سيَسأل الله طول العمر، وأن الله يُجيب دعاؤه ثم يُطيل عمره؛ يقول تعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ والمعنى: يمحو الله تعالى ما يشاء محوه، ويُثبت ما يُريد إثباته من الخير أو الشر، ومن السعادة أو الشقاوة، ومن الصحة أو المرض، ومن الغنى أو الفقر، أو طول العمر، ومن غير ذلك مما يتعلق بأحوال خلقه.

 

أما من الناحية العلمية؛ فيقول العلماء المختصون من جامعة هارفارد الأميركية، وهم بين الأكثر دقةً وجديةً، إن فعل الخير ومساعدة الآخرين "تُبعد الإنسان عن الموت المبكر" وتطيل الأعمار، لذلك اقترحوا "جرعةً" اعتبروها مثاليةً: الانخراط في أنشطة "لا أنانية" ولو لساعتين بالأسبوع فقط. ووجدوا، وفق بحثهم أن من يتطوعون بانتظامٍ لمساعدة الآخرين "هم أقل عرضةً للوفاة المبكرة والأكثر حظاً لاكتساب نظرةٍ إيجابيةٍ عن الحياة ممن يمتنعون عن الشيء نفسه" شارحين أن البشر "مخلوقاتٌ اجتماعيةٌ بطبيعتها، وربما هذا هو سبب مكافأة عقولنا وأجسادنا عندما نخدم الآخرين". وتوصلت الدراسة التي شملت تحليل وتتبع بيانات 13 ألف شخص، معدل عمر الواحد منهم 67 سنة، إلى أن التطوع لمساعدة كبار السن مثلاً "لا يُقوّي المجتمعات فقط، بل يغني حياتنا عبر تعزيز روابطنا مع الآخرين، ويساعدنا على التمتع بأفضل رضا، ويحمينا من مشاعر اليأس والوحدة والاكتئاب". وورد في الدراسة أن من تطوعوا لمساعدة الآخرين مدة 100 ساعة على الأقل في العام، أو ساعتين بالأسبوع تقريباً "كان لديهم مستوياتٍ أعلى من النشاط البدني، وشعورٌ أفضل بالصحة العقلية مقارنةً مع من امتنعوا" وفق ما استنتج البحث الذي استمر 4 سنوات، واكتشف العلماء أن هؤلاء المتطوعين انخفض لديهم خطر الموت بنسبة 44% وأصبحوا بنسبة 17% أقل احتمالاً للإصابة بحالاتٍ تُعيقهم جسدياً، ويميلون أكثر إلى مشاعر التفاؤل، مع أعراض اكتئابيةٍ أقل. وفي دراسةٍ أخرى أكد باحثون في جامعة بافالو الأمريكية، على وجود ترابطٍ واضحٍ بين الإعطاء بسخاءٍ، وتراجع فرص الوفاة؛ حيث تبين أن الدعم والمساندة الذي يمكن تقديمه للغرباء أو حتى للأهل والأقارب، يؤثر بشدةٍ على الطرفين إلى الدرجة التي تتراجع معها فرص الإصابة بأمراض مزمنةٍ تؤدي للوفاة. كما أكدت دراسةٌ طبيةٌ أجريت عام 2013م أن التطوع في الأعمال الخيرية له تأثيراتٌ ملموسةٌ على ضغط الدم؛ حيث أشارت الدراسة إلى أن كبار السن بالتحديد، والذين قاموا بأعمال تطوعيةٍ لأربع ساعاتٍ أسبوعياً فقط، تراجعت لديهم فرص الإصابة بارتفاع ضغط الدم على مدار أربع سنوات، بنحو 40%، مقارنةً بهؤلاء ممن لم يمارسوا أي أعمال خيرية في تلك الفترة الزمنية. وتوصلت إحدى الدراسات الأمريكية، والتي أخذت في الاعتبار ما يزيد عن 40 دراسة علمية أخرى، إلى أن القيام بالأعمال الخيرية لا يسعد صاحبه ويشعره بالإشباع النفسي وحسب، بل يقيه من مخاطر التعرض لأي كبواتٍ صحيةٍ في المستقبل القريب، يعد أبرزها الإصابة بالاكتئاب، حيث تقل فرص الإصابة به تماماً مع الاستمرار في تقديم المساندة للآخرين. وإضافةً إلى أن (عمل الخير يطيل العمر) فإنه يؤدي كذلك إلى الشعور بالسعادة؛ فقد أوضحت كافة الدراسات العلمية أن القيام بالأفعال الجيدة يُساعد بقوة على إفراز هرمون الإندورفين الذي يشعر صاحبه بالسعادة والإقبال على الحياة، مما يجعله يقوم بتلك الأفعال مراراً وتكرارا. كما أثبتت دراسةٌ خاصةٌ بجامعة ويسكونسن أنّ من يتطوعون دائماً لمساعدة الزملاء في العمل، هم أكثر الناس الذين يشعرون بالرضا والراحة في أعمالهم مقارنةً بالآخرين.

 

أحبتي .. تبين لنا شرعياً وعلمياً أن (عمل الخير يطيل العمر) بإذن الله، وحينما يطول عمر الإنسان ويحسن عمله يكون، كما أخبرنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، من خير الناس. فهيا بنا نتسابق في عمل الخير، بكل أنواعه وأشكاله، وفي مجالاته كافةً، وفي ذهننا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [أَحَبَُ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ]. ومن أمثلة ذلك: صدقةٌ لمحتاج، إطعام مسكين، كسوة فقير، سد دَيْنٍ عن غارم، شراء دواءٍ لمريضٍ فقير، إماطة الأذى عن الطريق، سعيٌ في مصلحةٍ لأرملةٍ أو مطلقةٍ أو شخصٍ غير قادر، تفقد جار والسؤال عنه، زيارة مريض، بر والدين، صلة رحم، وغير ذلك كثيرٌ وكثير. أهم ما نحرص عليه: إخلاص النية، ومداومة العمل والاستمرار عليه، وإخفاؤه قدر الإمكان؛ ليكون خبيئةً لنا ولنُبعد أنفسنا عن شبهة المُرَاءاة.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/3rqy3m5

الجمعة، 29 يناير 2021

الخيرة فيما اختاره الله

 

خاطرة الجمعة /276


الجمعة 29 يناير 2021م

(الخيرة فيما اختاره الله)

 

تعطلت إحدى السفن التجارية وهي في عرض البحر من كثرة الحمل الذي فيها فأصبحت مهددةً بالغرق، فاقترح ربانها أن يتم رمي بعض المتاع والبضاعة في البحر ليخفف الحمل على السفينة وتنجو؛ فأجمع التجار الذين يركبون السفينة على أن يتم رمي كامل بضاعة أحدهم لأنها كثيرة، فاعترض هذا التاجر على أن تُرمى بضاعته هو لوحده، واقترح أن يُرمى قسمٌ من بضاعة كل تاجرٍ بالتساوي حتى تتوزع الخسارة على الجميع، ولا تصيب شخصاً واحداً فقط، فثار عليه باقي التجار، ولأنه كان تاجراً جديداً ومستضعفاً تآمروا عليه ورموه في البحر هو وبضاعته وأكملوا طريق سفرهم. ‏أخذت الأمواج تتلاعب بهذا التاجر، وهو موقنٌ بالغرق وخائفٌ، حتى أُغمي عليه، وعندما أفاق وجد أن الأمواج ألقت به على شاطئ جزيرةٍ مجهولةٍ ومهجورة. ما كاد التاجر يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه حتى سقط على ركبتيه وطلب من الله المعونة والمساعدة، وسأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم.

مرت عدة أيام كان التاجر يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياهٍ قريب، وينام في كوخ ٍصغيرٍ بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار.

وفي ذات يومٍ، وبينما كان التاجر يطهو طعامه، هبت ريحٌ قويةٌ وحملت معها بعض أعواد الخشب المشتعلة وفي غفلةٍ منه اشتعل كوخه؛ فحاول إطفاء النار لكنه لم يستطع، فقد التهمت النار الكوخ كله بما فيه. هنا أخذ التاجر يصرخ لماذا يا رب؟ لقد رُميتُ في البحر ظلماً وخسرت بضاعتي، والآن حتى هذا الكوخ الذي يؤويني احترق ولم يتبقَ لي شيءٌ في هذه الدنيا، وأنا غريبٌ في هذا المكان. لماذا يا رب كل هذه المصائب تأتي عليّ؟ ونام التاجر ليلته وهو جائعٌ من شدة الحزن، لكن في الصباح كانت هناك مفاجأةٌ بانتظاره؛ إذ وجد سفينةً تقترب من الجزيرة، وتُنزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه، وعندما صعد التاجر على سطح السفينة لم يصدق نفسه من شدة الفرح، وسأل بحارة السفينة كيف وجدوه وكيف عرفوا مكانه؟ فأجابوه: لقد رأينا دخاناً فعرفنا أن شخصاً ما يطلب النجدة لإنقاذه؛ فجئنا لنرى. وعندما أخبرهم بقصته وكيف أنه رُمي هو وبضاعته من سفينة التجار ظلماً، أخبروه بأن سفينة التجار لم تصل إلى وجهتها وغرقت في البحر! فقد أغار عليها القراصنة وقتلوا كل من فيها وسلبوا بضاعتهم. فسجد التاجر يبكي ويقول: "الحمد لله يا رب، أمرك كله خير".

 

أحبتي في الله .. تذكرني قصة هذا التاجر بقصةٍ ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله، وهي تحكي عن مَلِكٍ كان له وزيرٌ صالحٌ يرضى دائمًا بقضاء الله، فما كان يحدث أمرٌ -خيراً كان أو شرًا- إلا وحمد الله ورضى بقضائه قائلًا: (الخيرة فيما اختاره الله). وذات مرةٍ كان الملك يأكل شيئاً من الفاكهة وجرح السكين إصبعه، فقال الوزير الصالح كلمته المعهودة: (الخيرة فيما اختاره الله)، فغضب الملك كثيرًا لهذا الأمر، وقال: أي خيرةٍ في مكروهٍ أصابني، فقد جرح السكين يدي وسال منها الدم الكثير. وأمر الملك بأن يُجَّرَد الوزير من منصبه ويُزج به في السجن عقابًا له على ما قال. بعد أيامٍ قليلةٍ خرج الملك في رحلة صيدٍ، وأنساه الصيد مرور الوقت فابتعد كثيرًا عن بلده، ودخل في قريةٍ يعبد أصحابها النار، فلما رآه أهل القرية أمسكوا به، وقرروا تقديمه كقربانٍ لألهتهم -وكانت هذه عادةً متبعةً عندهم- ولما جردوه من ملابسه حتى يقذفونه في النار، رأوا الجرح في إصبعه، فاستبعدوه وأخلوا سبيله، لأن من شروط القربان أن يكون سليمًا معافىً ليس به شائبة، واعتبروا الجرح في يده عيبًا ونقصًا فيه لذا تركوه، فعاد إلى بلده وتذكر كلام الوزير أن (الخيرة فيما اختاره الله)؛ فأمر بأن يؤتىَ بالوزير ويُعاد إلى منصبه، ولما رآه قال له: لقد عرفتُ الخيرة فيما حدث لي، وأن الله اختار لي ما يُنجيني من الموت، أما أنت فما هي الخيرة من دخولك السجن؟ فقال الوزير: لو لم أدخل السجن لكنتُ خرجتُ معك في رحلة الصيد، وكنتُ سأكون أنا بديلك في النار؛ فأنا صحيحٌ معافىً، كانوا سيتقربون بي لألهتهم، وأحمد الله أنى كنتُ في السجن حينها، فقد كان سجني خيرةً اختارها الله لحمايتي من الوقوع في مثل هذا الموقف.

 

كما تذكرني قصة ذلك التاجر بما رواه أحد الدعاة المشهورين عن رجلٍ قَدِم إلى المطار، وكان حريصاً على رحلته، ولأنه كان مجهداً فقد أخذته نومةٌ أفاق منها فإذا بالطائرة قد أقلعت، وفيها ركابٌ كثيرون يزيدون على ثلاثمائة راكب، وفاتته الرحلة فضاق صدره وندم ندماً شديداً، ولم تمضِ سوى دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أُعلن عن سقوط الطائرة، ومقتل جميع من كانوا على متنها!

 

قال أحد الصالحين: "لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَدِ العَطاء مَعَ الإلْحاحِ في الدّعَاءِ مُوجبًَا ليأسِك؛ فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ، وفي الوقْتِ الذي يُريدُ، لا في الوقْت الذي تُريدُ". وعلق على هذا عالمٌ جليلٌ فقال: أي لا يكن تأخر وقت العطاء المطلوب مع المداومة في الدعاء موجبًا ليأسك من إجابة الدعاء ومدعاةً لانقطاع الدعاء؛ فهو سبحانه ضمن لك الإجابة بقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فإذا دعوتَ الله، وسجدتَ له، واعترفتَ بفقرك وضعفك وحاجتك، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد استجاب لك، ولكن فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، فإنه أعلم منك بما يَصلُح لك، فربما طلبتَ شيئًا كان الأولى منعه عنك، فيكون المنع عين العطاء، فربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك، وكذلك ضمن لك الإجابة في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد؛ فما نحن إلا عبادٌ لله، نثق ونرضي ونصبر على قضائه وقدره.

 

يقول الشاعر:

وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وَكَمْ أمْرٍ تُساءُ بهِ صَباحًا

وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقتْ بكَ الأحْوالُ يَومًا

فَثِقْ بِالْواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

وَلاَ تَجْزَعْ إذا ما نابَ خَطْبٌ

فَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفيّ

 

سبحان الله الذي خلق الإنسان ظلوماً حتى لنفسه فقد يكره أمراً خشية أن يكون شراً له وهو في الواقع خيرٌ له، وخَلَقَه عجولاً؛ يستعجل الخير ويحب أمراً يظن أنّ الخير فيه ولا يدري أنّ فيه شراً له؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وقد يكون الخير كامناً في الشر ونحن لا نعلم؛ يقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

علينا أن نُسلم بأن (الخيرة فيما اختاره الله)؛ فكم من مرةٍ أردنا شيئاً وبذلنا جهدنا للحصول عليه، ومنعه الله عنا فتملكنا الحزن والأسى وأصابنا هَمٌ وغمٌ وظننا أن في المنع ضرراً لنا، ثم تدور الأيام وتكشف لنا أن المنع كان لحكمةٍ ربانيةٍ لم نكن نعلمها، وأنه كان لمصلحتنا، ولو كان ما تمنيناه لأنفسنا تحقق لجلب لنا الأذى من حيث لم نكن نحتسب. كم من مرةٍ حدث هذا معنا فحمدنا الله على ما اختاره لنا، وعرفنا أن (الخيرة فيما اختاره الله) وليس فيما اخترناه لأنفسنا.

 

أحبتي .. الله سبحانه وتعالى علاَّم الغيوب، ويعلم ما هو مقدرٌ لنا في المستقبل، أما نحن كبشرٍ فعاجزون عن معرفة ما يكون بعد طرفة عين، فهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾. ولا ندري فقد يجعل سبحانه من المحنة منحةً، وقد يقلب المَضَّرة لتصير في عاقبتها مَسَّرة. ليس علينا إلا أن نجتهد ونأخذ بالأسباب، ثم نتوكل على الله، ونُسَّلم أمورنا كلها له، ونُحسن الظن به، ونثق في أن اختياره لنا هو الأحسن وهو الأفضل وأن فيه الخير والصلاح والنفع لنا، إن لم يكن في حياتنا وأمور معاشنا ففي ديننا، وإن لم يكن في دنيانا ففي آخرتنا، ونُصدق قوله تعالى: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾؛ فما علينا إلا أن نشكر ونؤمن، ونعتقد اعتقاداً جازماً بأن (الخيرة فيما اختاره الله)، وأنه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أصابَك لم يكُنْ لِيُخْطِئَك، وما أخطَأَك لم يكُنْ لِيُصيبَك].

اللهم اجعلنا ممن يُحسنون الظن بك، واكتب اللهم لنا الخير حيثما كان وأينما كان، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه.

https://bit.ly/2NOHNrR

الجمعة، 22 يناير 2021

نعمة الرضا

 

خاطرة الجمعة /275


الجمعة 22 يناير 2021م

(نعمة الرضا)

 

‏قصتنا اليوم رواها الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله؛ قال:

كنتُ عائداً إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يومٍ من أيّام رمضان فاستوقفني رجلٌ فقيرٌ من الذين يتردّدون على درسي في المسجد تردُّدَ الزائر، فسلّم عليّ بلهفةٍ أدمعت عينيَّ وقال لي: "أستحلفك بوجه الله أن تُفطر عندي اليوم"! يقول الشيخ: عقدتْ لساني لهفته، وطوّقت عنُقي رغبتُه، وأشرق في قلبي وجهٌ استحلفني به؛ فقلتُ له: "يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح"، يقول الشيخ: لكني وجدتُ نفسي أتبعه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظرفه في هذا الوقت الحرج من موعد الإفطار!‏

وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفةٌ ومطبخٌ وفناءٌ صغيرٌ مكشوفٌ على سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب لا يحتمل صعود شخصين، فخشباته تستغيثُ من وهَنٍ خلَّفَهُ بها الفقر والقِدَم. ‏كانت السعادة تملأ قلب الرجل، وعبارات الشكر والامتنان تتدفّق من شفتيه وهو يقول: "هذا البيت مِلكي، والمُلك لله، لا أحد في الدنيا له عندي قرش، انظر يا سيدي، الشمس تُشرق على غرفتي في الصباح، وتغرُب من الجهة الثانية، وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب، والله يا سيدي كأني أسكن في الجنّة". ‏يتابع الشيخ: كل هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذرٍ، وصلنا الغرفة وذهب الرجل إلى زوجته، وسمعتُه يقول لزوجته بصوتٍ خافتٍ: "جهزي الفطور؛ الشيخ سيفطر عندي اليوم"، وصوت زوجته تقول له: "والله، ما عندنا غير فول، ولم يبق على أذان المغرب إلاّ نصف ساعة، ولا شيء عندنا نطبخه". يقول الشيخ: سمعتُ هذا الحوار كله، فلما جاء صاحب الدار قلتُ له: "يا أخي، لي عندك شرطٌ، أنا أفطر مع أذان المغرب على ماءٍ ومعي التمر، ولا آكل إلاّ بعد نصف ساعةٍ من الأذان، بعد ما أهضم التمر والماء، وأصلّي وأُنهي وِرْدي اليومي، ولا آكل إلاّ الفول المدمّس والبطاطس". فقال الرجل: "أمرك". ‏يقول الشيخ: لقد اخترتُ البطاطس لأنها زادُ الفقراء، وأحسبها عندهم. وقد خرجتُ وكلّي سعادةٌ وبهجةٌ، وقد أحببتُ الدنيا من لسان هذا الرجل الذي ما نزلتْ من فمه إلا عباراتُ الثناء والحمد على نِعم الله وعلى هذا البيت الذي ملّكَهُ الله إيّاه، وهذه الحياة الجميلة التي يتغنّى بها. ‏

يقول الشيخ: ثم دُعيت بعد أيامٍ مع مجموعةٍ من الوجهاء على الإفطار عند أحد التجّار، وكان ممن أنعم الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب، وكانت الدعوة في مزرعةٍ فخمةٍ يملكها، فيها ما لذّ وطاب، يتوسّطها منزلٌ أقرب ما يكون للقصر، يُطلُّ على مسبحٍ ومرْبَط خيلٍ فيه نوادر الخيل الأصيلة. ‏أفطرنا عند الرجل وأثناء المغادرة، انفرد بي، وشكى لي من ضيق الحياة وهموم التجارة، وسوء طباع زوجته، وطمع من حوله، وكثرة المصاريف لإرضاء الجميع، وسأَمِه من هذه الحياة، ورغبته بالموت! يقول الشيخ: من باب المنزل، إلى باب سيارتي، سوَّد هذا الرجل الدنيا في عيوني، وأطبق عليَّ صدري وأنفاسي؛ فنظرتُ إلى السماء بعد أن ركبتُ بسيّارتي وأنا أقول في قلبي: الحمد لله على (نعمة الرضا)؛ فليست السعادةُ بكثيرٍ ندفع ثمنه، ولكن السعادةُ حُسنُ صِلَةٍ بالله ورضىً بما قسم لنا عزّ وجل. اللهم اجعلنا من أهل القناعة، وارزقنا إياها يا رب العالمين.

 

أحبتي في الله .. عن (نعمة الرضا) يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾.

 

قالوا عن (نعمة الرضا): "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به"، "الراضي مَن لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها"، "مَن رَضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومَن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ"، "من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له". وهذا أحد الصالحين يوصي ابنه قائلاً: "أوصيك بخصالٍ تُقرِّبك من الله، وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تُشرك به شيئًا، وأن ترضى بقَدَر الله فيما أحببتَ وكرهتَ”. وهذا آخر يوصي غيره فيقول: "إن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبر"، "الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ؛ فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا". وأما عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقد قال: "ما ابتُليتُ ببليةٍ إلا كان لله عليَّ فيها أربعُ نِعم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم أُحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم منها، وإذ رجوتُ الثواب عليها".

 

قال العلماء إن الرّضا نوعان: أحدهما الرّضا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات برضا وقناعة؛ ففعل الطاعات واجتناب المنهيات وسيلةٌ لنيل رضا الله عزَّ وجلَّ، فإذا أردتَ أن تعرف عند الله مقامك فانظر على أي شيءٍ أقامك؛ فلو أنت مقيمٌ على الرضا فالله راضٍ عنك، ولو أنت مقيمٌ على السخط فالله ساخطٌ عليك، إذا أردتَ أن يرضى الله عنك فارضَ أنت عنه أولاً بالطاعة والعبادة؛ إن فعلتَ ذلك فقد رضي الله عنك.

أما النوع الثّاني فهو الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذّلّ وغير ذلك من نوائب الدهر وصروفه؛ فلن يبلغ العبد مقام الرضا حتى يفرح بالنقمة فرحه بالنعمة.

وقال الشاعر:

تَقَنَّعُ بِما يَكْفيكَ والتَمِسْ الرِّضا

فإنَّكَ لا تَدْري أتُصْبِحُ أمْ تُمْسي

فليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ المالِ إنَّما

يكونُ الغِنَى والفَقْرُ مِنْ قِبَلِ الَّنَفْسِ

 

وعن الأسباب المُعينة على اكتساب الرضا يقول العارفون إن منها: الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق، والاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمةٍ يعلمها، وأن ينظر المرء إلى من هو دونه في أمور الدنيا، والعلم بأن الفقر والغنى ابتلاءٌ وامتحان، وتذكُّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوالٍ وأن متاعها إلى فناء، والاقتداء بأصحاب القناعة والرضا والاطلاع على أحوالهم، والدعاء أن يرزقك الله الرضا، وملازمة طريق الطاعة والبعد عن طريق المعصية.

ويقولون إن من ثمرات الرضا وفوائده في الدنيا والآخرة: تحقيق الغنى الكامل؛ فالغنى في الرضا والقناعة والفقر في السخط والطمع. تذوق حلاوة الإيمان؛ لقول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]. الرضا سبيلٌ لمغفرة الذنوب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ]. البشارة بالجنة؛ يقول تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. الفوز برضا الله في الآخرة؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهلَ الجنةِ فيقولونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا]. وتحقيق السعادة؛ فصاحب الرضا يعيش في سعادةٍ وعيشةٍ راضيةٍ يتقلب بين الصبر والشكر، والقوة واليقين، لسانه بين الذكر والحمد، أما الساخط فيكون حاله مُضطربًا، ووضعه مُحزنًا، يتقلَّب بين حُزنٍ وهمٍّ، وبين شقاءٍ وتعبٍ، وغمٍ ونَصَب.

وصَوَّرَ الشاعر حال من حُرم الرضا فقال:

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا

وشيخٌ وَدَ لو صَغُرا

وخالٍ يشتهي عملا

وذو عملٍ به ضَجِرا

وربُ المالِ في تعبٍ

وفي تعبٍ مَن افتقرا

وذو الأولادِ مهمومٌ

وطالبهم قد انفطرا

 

وورد في الخبر "إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضى اصطفاه". و(نعمة الرضا) من أفضل نعم الله عزَّ وجلَّ على الإنسان؛ فالرضا -كما يقول أهل العلم- أساسٌ من أُسس كمال الإيمان لا يكتمل إسلام العبد ولا يتذوق طعم الإيمان حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. وقلة الرضا سببٌ لتعاسة الإنسان في هذه الحياة، وسببٌ لهجوم الهموم والغموم عليه. ولا نصل إلى الرضا إلا إذا اعتقدنا بكمال الله سبحانه وتعالى، وبإحسانه إلى عباده، وأن علينا أن نرضى بقضائه؛ لأن حكمه عدلٌ، لا يفعل إلا خيراً وعدلاً، ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له.

والوصول إلى الرضا يكون بمجاهدة النفس على زيادة الإيمان، وتسليم الأمر لله تعالى، حتى يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

 

أحبتي .. من عاش منا راضياً فقد أُوتي نعمةً عظيمةً من نِعَم الله، هي (نعمة الرضا)؛ فليحمد الله عليها، وليحرص على أن تكون ملازمةً له في كل أحواله، يُسره وعُسره، سعادته وشقائه. ومن أحس منا بأنه قليل الرضا، أو أنه يرضى في حالات اليسر والسعادة، ويسخط في حالات العسر والشقاء؛ فليراجع نفسه، فلن يكتمل إيمانه إلا بالتسليم الكامل لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وعليه أن يدعو ربه أن يرزقه (نعمة الرضا) ويجاهد نفسه الأمارة بالسوء حتى ترضخ وتقبل وترضى بما قسمه الله له.

هدانا الله جميعاً لما فيه رضاه، فإذا رضي عزَّ وجلَّ أرضانا، وأدهشنا عطاؤه بعد الرضا.

 

https://bit.ly/3pcD7tB

الجمعة، 15 يناير 2021

دعوة المظلوم

 

خاطرة الجمعة /274


الجمعة 15 يناير 2021م

(دعوة المظلوم)

 

وقعت أحداث هذه القصة العجيبة في «العراق» قبل عدة قرون، ولولا أن راويها من المحدثين الثقاة ما كنتُ صدقتُ نهايتها، قال الراوي:

أردتُ أن أسافر من بلدي «الموصل» إلى بلد «سامراء» لشراء بعض البضاعة، وكانت هناك سفنٌ تسير في نهر «دجلة» بين البلدين تنقل الركاب والبضاعة بالأجرة، فركبتُ إحدى هذه السفن، وسرنا في النهر متجهين نحو «سامراء». وكان في السفينة بعض البضاعة ونفرٌ من الرجال لا يتجاوز الخمسة، وكان النهار صحوًا والجو جميلًا، والنهر هادئًا، والربان يحدو حداءً جميلًا، والسفينة تسير على صفحة الماء سيرًا هادئًا، حتى أخذتْ أكثرنا غفوةٌ من النوم، أما أنا فكنتُ أمتَّع ناظري بمناظر الشطآن الجميلة على جانبي النهر، وفجأةً رأيتُ سمكةً كبيرةً تقفز من النهر إلى داخل السفينة؛ فهجمتُ عليها وأمسكتُ بها قبل أن تعود إلى النهر مرةً أخرى. وانتبه الرجال من غفوتهم بسبب الضجة التي حصلت، وعندما رأوا السمكة قال أحدهم: "هذه السمكة أرسلها الله تعالى إلينا، لِمَ لا ننزل بها إلى الشاطئ، فنشويها ونأكلها، وهي كبيرةٌ تكفينا جميعًا"؟ فأعجبنا رأيه، ووافق الربان على ذلك، فمال بنا إلى الشاطئ ونزلنا واتجهنا إلى دَغَلٍ من الشجر لنجمع الحطب ونشوي السمكة. وما أن دخلنا الدَّغَل حتى فوجئنا بمنظرٍ اقشعرت منه جلودنا، فوجئنا برجلٍ مذبوحٍ وإلى جانبه سكينٌ حادةٌ على الأرض، وبرجلٍ آخر مكتوفٍ بحبلٍ قويٍ وحول فمه منديلٌ يمنعه من الكلام والصراخ، فاندهشنا من هذا المنظر؛ فمن قتل القتيل ما دام الرجل مكتوفًا؟ أسرعنا أولًا فحللنا الحبل ورفعنا المنديل من فم الرجل، وكان في أقصى درجات الخوف واليأس، وعندنا تكلم قال: "أرجوكم أن تعطوني قليلًا من الماء أشربه أولًا"، فسقيناه وبعد أن هدأ قليلًا، قال: "كنتُ أنا وهذا الرجل القتيل في القافلة التي تسير من «الموصل» إلى «بغداد»، والظاهر أن هذا القتيل لاحظ أن معي مالًا كثيرًا، فصار يتودد إليّ ويتقرب مني ولا يفارقني إلا قليلًا، حتى نزلتْ القافلة في هذا المكان لتستريح قليلًا، وفي آخر الليل استأنفت القافلة السير، وكنتُ نائمًا فلم أشعر بها، وبعد أن سارت القافلة، استغل هذا الرجل نومي وربطني بالحبل كما رأيتم ووضع حول فمي منديلًا لكي لا أصرخ، وسلب مالي الذي كان معي، ثم رماني إلى الأرض وجلس فوقي يريد أن يذبحني وهو يقول: إن تركتك حيًا فإنك ستلاحقني وتفضحني لذلك لابد من ذبحك. وكان معه سكينٌ حادةٌ يضعها في وسطه، وهي هذه السكين التي ترونها على الأرض، وأراد سحب السكين من وسطه ليذبحني، لكنها علقتْ بحزامه، فصار يعالجها ثم نترها بقوةٍ، وكان حدها إلى أعلى فخرجتْ بقوةٍ واصطدمت بعنقه وقطعت الجلد واللحم والشريان فتدفق الدم منه، وخارت قواه ثم سقط ميتًا، وحتى بعد موته كنت موقنًا بأني سأموت لأن هذا المكان منقطعٌ لا يأتيه أحدٌ إلا قليلًا، فمن يفكني؟ من ينقذني؟ وصرتُ أدعو الله سبحانه وتعالى أن يرسل لي مَن يُنقذني مما أنا فيه، فأنا مظلومٌ ودعاء المظلوم لا يُرد، وإذا بكم تأتون وتنقذونني مما أنا فيه، فما الذي جاء بكم في هذه الساعة إلى هذا المكان المنقطع"؟ فقالوا له: "الذي جاء بنا هو هذه السمكة"، وحكوا له كيف قفزتْ من الماء إلى السفينة، فأتوا بها إلى هذا المكان لكي يشووها ويأكلوها، فتعجب من ذلك وقال: "إن الله سبحانه وتعالى قد أرسل هذه السمكة إليكم لكي يجعلكم تأتون إلى هذا المكان وتخلصونني مما أنا فيه، والآن إنني تعبٌ جدًا، أرجوكم أن تأخذونني إلى أقرب بلدة". فصرفوا النظر عن شي السمكة وأكلها وأخذوا الرجل بعدما حمل معه المال الذي سلبه الرجل الآخر منه، وعادوا به إلى السفينة، وما أن وصلوا السفينة حتى قفزتْ السمكة إلى الماء وعادت إلى النهر مرةً أخرى، فكأنما قد أرسلها الله سبحانه وتعالى حقًا لتكون سببًا في إنقاذ الرجل المظلوم، وهكذا إذا أراد الله تعالى شيئًا هيَّأ أسبابه.

 

أحبتي في الله .. إنها (دعوة المظلوم)؛ يقول الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، قال المفسرون في معنى هذه الآية: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على مَن ظلمه مِن غير أن يعتدي ويتجاوز في الدعاء، وإن صبر فهو خيرٌ له.

وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ]، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ].

قال العلماء إن (دعوة المظلوم) معناها إنه إذا ظلمك أحدٌ فدعوتَ الله عليه استجاب الله دعاءك؛ لأن الله حكمٌ عدلٌ، والمظلوم لابد أن يُنصَف له من الظالم، فالمظلوم دعوته مستجابةٌ، إذا دعا على ظالمه بمثل ما ظلمه أو أقل، أما إن تجاوز فإنه يكون معتدياً فلا يُستجاب له. وقالوا إن أثر (دعوة المظلوم) في حق الظالم قد لا يظهر في الحال، لكون المجيب سبحانه وتعالى حكيماً. كما قالوا إن من عواقب الظلم أن لكل ظالمٍ وإن أجَّل الله عقابه في الحياة الدنيا جزاءٌ يوم الحساب، يأتي به ويأتي بالمظلوم ويُقتص من الظالم شر القصاص، وجزاؤه نار جهنم حيث لا ينفعه مالٌ ولا بنون، فلا يتهاون الإنسان في ظلمه، وإن كان بشيءٍ بسيطٍ لكنه هو عند الله ظلمٌ كبيرٌ للنفس وللغير. كما أن انتشار الظلم سببٌ لهلاك الأمم؛ إذ يصبح الكل مشغولاً بأمر الظالم والمظلوم، الظالم يتمادى ويتكبر، والمظلوم يُصبح مغلوباً على أمره همه الشاغل هو الخلاص مما هو فيه من ظلم، أما نهضة الأمة فتبقى معلّقةً إلى أن يشاء الله ويحكم في الأمر. و(دعوة المظلوم) تعهد الله سبحانه وتعالى بقبولها؛ لأن الله عدلٌ لا يرضى على نفسه الظلم ولا يحبه لعباده. ومن عواقب انتشار الظلم حلول المصائب والبلاء الشديد في الدنيا؛ فالظالم الطاغي المتكبر إن لم يَتُبْ إلى الله ويعترف بذنبه ويُقلع عنه ويرد الحقوق إلى أصحابها، فإن الله يبتليه في ماله وأولاده وصحته، وكل ما يُنعم به عليه، علّه يتعظ ويتوب إلى الله. ورغم كل عواقب الظلم فإن باب التوبة مفتوحٌ للجميع، ولكن على الإنسان أن يلتزم بشروط التوبة النصوح ليعفو الله عنه ويتقبل توبته.

يقول الشاعر:

لا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا

فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَمِ

تَنَامُ عَيْنُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ

يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ

 

وعن تأخر إجابة (دعوة المظلوم) وغيرها مما يدعو به المسلم يقول أحد العلماء: على كل مسلمٍ إذا تأخرت إجابة دعائه أن يعلم أن الله عزَّ وجلَّ حكيمٌ عليمٌ؛ قد يؤخر الإجابة ليكثر دعاؤك، وليكثر إبداء حاجتك إلى ربك، ولتتضرع إليه، وتخشع بين يديه، فيحصل لك بهذا من الخير العظيم والفوائد الكثيرة وصلاح قلبك ورقة قلبك ما هو خيرٌ لك. وقد يؤجل الإجابة، فإذا تأجلت فلا تلم ربك ولا تقل: لماذا يا رب؟! ارجع إلى نفسك وانظر فلعل عندك شيئاً من الذنوب والمعاصي كانت هي السبب في تأخير الإجابة، عليك أن تنظر في أعمالك وسيرتك حتى تُصلح من شأنك؛ فتستقيم على أمر ربك، وتعبده على بصيرةٍ، وتمتثل أوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتقف عند حدوده. ثم اعلم أنه سبحانه قد يؤخر الإجابة لمدةٍ طويلةٍ كما أخر إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف عليه، وهو نبيٌ عليه السلام. وقد يؤخر سبحانه الإجابة ويدخرها لك إلى يوم الحساب، أو يصرف عنك من الشر مثلها؛ كما جاء في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قالوا: يا رسول الله، إذاً نُكثر، قال: [اللَّهُ أَكْثَرُ]، فعليك بحسن الظن بالله، وعليك أن تستمر في الدعاء وتُلح فيه. وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قِيلَ: يَا رسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]، فلا ينبغي لك أن تستحسر، ولا ينبغي لك أن تَدَعْ الدعاء، بل الزم الدعاء واستكثر منه وألح على ربك وتضرع إليه، وحاسب نفسك، واحذر أسباب المنع من المعاصي والسيئات، وتحر أوقات الإجابة كآخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وفي السجود، كل هذه من أسباب الإجابة.

 

أحبتي .. الأصل أن يبتعد كلٌ منا عن الظُلم أياً كان كثيراً أو قليلاً، فلا يَظلِم؛ فإن عاقبة الظلم وخيمة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾، ويقول: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم فيقول: [إيَّاكم والظُّلمَ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ].

فإذا كان أحدنا ظالماً فليبادر إلى التوبة، ويتوقف عن الظلم فوراً، ويرد المظالم إلى أهلها؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ]، وليتقِ الظالم (دعوة المظلوم). كما أن على كلٍ منا ألا يرضى الظلم لغيره، وألا يسكت على ظلمٍ يراه؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم آمراً كل مسلم: [انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلومًا]، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: [تَحْجِزُه، أو تَمْنَعُه مِنَ الظُلْمِ فَإنَّ ذَلِكَ نَصْرُه]، من يعلم؟ قد تكون أنت بنصرك لمظلومٍ كما كانت السمكة لذلك الرجل الذي ذكرناه في قصتنا!

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، وأعِّنا على التوقف عن كل ظلمٍ اقترفناه، ويسِّر لنا أن نمنع الظلم عن أنفسنا وعن غيرنا، وألا نقبل بأن ينتشر بيننا.

اللهم اهدِ الظالمين منا ليتوبوا توبةً نصوحاً ويردوا المظالم إلى أهلها ﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وإن لم يتوبوا وظلوا سادرين في غِيهم فاستجب اللهم لدعوات المظلومين، وأرنا في الظالمين عجائب قدرتك.

https://bit.ly/3oZNPUp