الجمعة، 9 ديسمبر 2022

فضيلة الستر

 

خاطرة الجمعة /373


الجمعة 9 ديسمبر 2022م

(فضيلة الستر)

 

هذه القصة منقولةٌ عن مقالةٍ صحفيةٍ بعنوان "الفضيلة المنسية"، كتب صاحبها يقول:

في نهاية التسعينيات من القرن المُنقضي كنتُ أعمل لدى رجل أعمالٍ معروفٍ يمتلك مجموعةً من المطاعم الشهيرة، توطدت علاقتي به بعد فترةٍ وجيزةٍ من انضمامي للعمل حتى أصبح يثق بي تماماً، وسرعان ما تمت ترقيتي أكثر من مرةٍ حتى أصبحتُ أُدير مجموعة المطاعم إدارةً كاملةً بصلاحياتٍ واسعةٍ، حيث كان يعمل تحت إدارتي مئات العمال والموظفين، كل هذا وأنا لم أكن قد أتممتُ بعد عامي الخامس والعشرين. كان كل شيءٍ يسير على ما يُرام حتى ذلك اليوم؛ في نهاية الوردية المسائية كنتُ أتفقد المطعم كعادتي إلا أنني لاحظتُ وجود فتاةٍ من العاملات تقف مرتبكةً، وازدادت ارتباكاً عندما رأتني وهمت بالانصراف مُسرعةً، وبتفتيشها وجدتها تُخبئ في حقيبتها بعض المأكولات والعصائر؛ فما كان مني إلا أن أمرتُ بفصلها من العمل فوراً مع حرمانها من باقي مستحقاتها لأنها سرقت.

لم تُفلح توسلات الفتاة ولا دموعها، ولم تُجدِ وساطة العاملين نفعاً ولا مُبرراتهم بأنها فتاةٌ صغيرةٌ يتيمة الأب، تعمل كي تُنفق على والدتها المريضة على الرغم من أنها ما زالت تدرس بالمرحلة الثانوية، لم يحّن قلبي أبداً؛ حيث أنني مُستأمنٌ على ذلك المال. وظننتُ أنني فعلتُ الصواب، بل وأسرعتُ للاتصال بالسيد صاحب العمل لإخباره بما حدث، مُتوقعاً إشادةً واسعةً ومُكافأةً مُجزيةً، إلا أنني وجدتُ الرجل كما لم أره من قبل، كان ثائراً غاضباً يوبخني بشدةٍ، وقطع إجازته، وفي صبيحة اليوم التالي اجتمع بجميع العاملين والعاملات وحثهم على الأمانة والحفاظ على مصدر دخلهم، وأمر بزيادةٍ مُجزيةٍ جداً في راتب جميع العاملين، وأعاد الفتاة إلى عملها مع منحها وجبتي عَشاءٍ لها ولوالدتها يومياً عند الانصراف.

أشعرني تصرفه بكثيرٍ من الإحباط حتى أنني قدمتُ استقالةً مُسببةً؛ فما كان منه إلا أن مزّق طلب الاستقالة وقال لي: "يا بُني سأقص عليك قصة شابٍ كان يعمل على عربة كبدةٍ، واستأمنه صاحب العربة على ماله فصانه حتى ازداد المال واشتهرت العربة وتضاعف الإيراد أضعافاً مُضاعفةً بفضل الله ثم بكفاءة ذلك الشاب في العمل، إلا أنه -وعلى الرغم من ذلك- كان لا يملك إلا راتبه القليل فقط، بينما كل الأرباح تذهب لصاحب العربة. بدأ والد الشاب يمرض ويحتاج إلى مصاريف علاجٍ كثيرةٍ لم يقدر عليها وحده، وهنا دخل الشيطان مدخله ولعب برأس الشاب كي يقتطع جُزءاً من الربح اليومي دون إخبار صاحب العربة، وبعد مُقاومةٍ شرسةٍ نجح إبليس في مُخططه اللعين، وفعل الشاب ما فعل، لكن أراد الله له ألا يتمادى في طريق الباطل؛ فعلم صاحب المال بفعلته، كان من المُمكن أن يسجنه، أو على الأقل يطرده من العمل، إلا أنه -وفي تصرفٍ غير مُتوقعٍ- سأله عن صحة والده وأعطاه ما يكفي لعلاجه، ثم أمر أن يُصبح الشاب شريكاً له في العمل بمجهوده وبكفاءته وبحب الناس له. ثم نظر لي السيد طويلاً وقال: "هل تعرف من يكون ذلك الشاب؟ إنه أنا! يا بُني إن الله يستر العبد إن عصاه، ثم يستره إن عصاه ثانيةً، ثم يفضحه إن أصر على المعصية؛ فكُن ستّاراً يسترك الله ويُسخِّر لك من يسترك فكلنا عيوبٌ ونحتاج الستر". بعدها بعامٍ هاجر السيد إلى أُستراليا وعلمتُ بوفاته بعدها. أما الفتاة فالتقيتها بعد ثلاثة أعوامٍ صدفةً فى حفل عُرسٍ وأخبرتني أنها التحقت بكلية الطب البشري، وربما هي الآن طبيبةٌ عظيمةٌ وأمٌ لأسرةٍ جميلةٍ، وربما أيضاً تكون سبباً لإنقاذ حياتي يوماً ما.

إنها (فضيلة الستر)؛ تلك الفضيلة المنسية في زمنٍ سيطرت فيه مواقع التواصل الاجتماعي على حياة الناس، إلا من رحم ربك، فكفانا تعقباً لفضائح الناس، وكفانا قسوةً في أحكامنا على الآخرين.

 

أحبتي في الله.. الستر نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى، وهو فضيلةٌ يحرص عليها المتقون.

يروي أحد الأخوة موقفاً يُبين لنا معنى الستر ومفهومه الشامل، كتب يقول: كنتُ أشتري صباح كل يومٍ صحيفةً من بائع الصُحف، وقد علمني مرةً درساً مُهماً سيبقى في ذاكرتي طوال العمر؛ سألته مرةً: "كيف حالك اليوم يا عم؟"، فقال لي: "والله، في نعمة الستر!"، فاندهشتُ من إجابته، وسألته: "ولماذا الستر تحديداً؟"، فقال لي: "لأنني مستورٌ من كل شيء!"، قلتُ له مُداعباً: "عن أيّ سترٍ تتحدث، وقميصك مُرقّعٌ بألوانٍ شتى؟!"، فقال لي: "يا بُنيّ، الستر أنواعٌ: عندما تكون مريضاً، ولكنك قادرٌ على السير بقدمَيك، فهذا سترٌ من مذلّة المرض. عندما يكون في جيبك مبلغٌ بسيطٌ من المال يكفيك لتنام وأنت شبعانٌ، حتى لو أكلتَ خُبزاً، فهذا سترٌ من مذلّة الجوع. عندما يكون لديك ملابس، ولو كانت مُرقّعةً أو قديمةً، فهذا سترٌ من مذلّة البرد. عندما تكون قادراً على الضحك، وأنت حزينٌ لأيّ سببٍ، فهذا سترٌ من مذلّة الحُزن. عندما تكون قادراً على قراءة الصحيفة التي بين يديك، فهذا سترٌ من مذلّة الجهل. عندما تستطيع أن تتصل في أيّ وقتٍ بأهلك لتطمئن عليهم وتُطمئنهم عنك، فهذا سترٌ من مذلّة الوحدة. عندما يكون لديك وظيفةٌ أو مهنةٌ حتى لو بائع صحفٍ، تمنعك عن مد يدك إلى أيّ شخصٍ، فهذا سترٌ من مذلة السؤال. عندما يُبارك لك الله في أولادك وبناتك، في صحتهم وتعليمهم وزواجهم وبيوتهم، فهذا سترٌ من مذلة القهر. عندما يكون لديك زوجةٌ صالحةٌ، تحمل معك همّ الدنيا، فهذا سترٌ من مذلّة الانكسار. وتذكّر دائماً أنك تملك نِعَماً يتمناها ملايين‏ البشر؛ هذه هي نعمة الستر. الستر يا بُنيّ، ليس ستر فلوس، وإنما ستر نفوس".

 

عن (فضيلة الستر) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن اللهَ عزَّ وجلَّ حليمٌ حييٌّ، سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحياءَ، والسِتْرَ].

وعن ستر الغير قال عليه الصلاة والسلام: [... ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ]. وفي روايةٍ: [... ومن سترَ مسلمًا، ستره اللهُ في الدنيا والآخرةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يسترُ عبدٌ عبدًا في الدُّنيا، إلَّا ستره اللهُ يومَ القيامةِ].

أما عن ستر النفس -وهو أولى- فقال عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه]، ويقول العلماء عن ذلك: "للعبد سترٌ بينه وبين الله، وسترٌ بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله؛ هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس".

 

وعن (فضيلة الستر) قال أحدهم: "كلنا مُثقلون بالعيوب، ولولا رداءٌ من الله اسمه الستر لكُسِرت أعناقنا من شدة الخجل؛ فإذا وصلتك فضيحةٌ لأحدٍ فاجعلها تقف عندك ولا تتعداك، فإن وقفتْ عندك أخذتَ أجر الستر، وسترك الله في الدنيا والآخرة".

 

أما الشاعر فقال:

لِسانُكَ لا تذكرْ بهِ عَورةَ امرئٍ

فَكُلُكَ عَوراتٌ وللناسِ ألسُنُ

وَعيناكَ إنْ أبدتْ إليكَ مَعايباً

فَدَعْها وَقُلْ يا عَيْنُ للناسِ أعينُ

وعاشِرْ بمَعْروفٍ وَسامِحْ مَنْ اعْتَدى

وَدافِعْ ولَكِنْ بالتي هي أَحْسَنُ

وقال آخر:

لا تهتكنَ من مساوي الناسِ ما سُترا

فيهتكُ الله سِـتراً عن مَساويكَ

واذكرْ مَحاسـنَ ما فـيهم إذا ذُكِـروا

ولا تَعبْ أحداً مِنهم بمـا فيـكَ

 

أحبتي.. (فضيلة الستر) ما أحسنها من فضيلةٍ؛ فلنبدأ بأنفسنا نسترها فلا نُجاهر بسوءٍ فعلناه، ستره الله علينا، بل نستغفر ونتوب. ثم إن علينا أن نستر غيرنا؛ فيُنعم الله علينا بستره الجميل في الدنيا والآخرة، ومَنْ أنعَمَ الله عليه بالستر في الدنيا سَلِمَ من أذى الناس، وعاش بينهم عزيزاً كريماً، أما في الآخرة فعسى أن يجعل الله سمعنا وأبصارنا وجلودنا شهوداً لنا لا علينا يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾.

اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك.

 

https://bit.ly/3VKUwKg

الجمعة، 2 ديسمبر 2022

وفاء نادر

 

خاطرة الجمعة /372


الجمعة 2 ديسمبر 2022م

(وفاء نادر)

 

هذه قصةٌ من أحسن قصص الحب والوفاء لشريكة الحياة التي طالما وقفت إلى جانب زوجها في أحلك الظروف وأصعب الأوقات؛ فقد ترك رجلٌ زوجته وأولاده من أجل الدفاع عن وطنه قاصداً أرض معركةٍ تدور رحاها على أطراف البلاد التي غزاها جيشٌ أجنبيٌ يريد احتلالها ونهب خيراتها والسيطرة على مواردها. وبعد انتهاء الحرب، وفي طريق عودة الرجل إلى منزله تم إبلاغه أن زوجته أُصيبت بعد غيابه بمرض الجُدري فتشوه وجهها كثيراً وبقية جسمها جراء ذلك المرض الفتاك. تلقى الرجل الخبر بألمٍ وحُزنٍ عميقين شديدين لكنه لم يقل شيئاً.

في اليوم التالي شاهده رفاقه مُغمض العينين؛ فرثوا لحاله، وأيقنوا حينها أنه فقد بصره نتيجةً لصدمته في اليوم السابق بسماع الخبر الصاعق الذي تلقاه عما أصاب زوجته. وحين وصل الرجل إلى قريته رافقه عددٌ من رفاقه وهم يقودونه من يده حتى أوصلوه إلى منزله، وحينما رأته زوجته وأولاده على هذه الحال ظنوا أنه فقد بصره أثناء المعارك في الحرب التي عاد منها للتو. أكمل الرجل بعد ذلك حياته مع زوجته وأولاده بشكلٍ اعتياديٍ؛ هو تكيّف على وضعه الجديد، وهُم كذلك اعتادوا عليه. بعد ما يُقارب خمسة عشر عاماً توفيت زوجة الرجل، حينها تفاجأ كل من حوله بأنه عاد مُبصراً بشكلٍ طبيعيٍ، ثم علموا فيما بعد أنه أغمض عينيه بإرادته طيلة تلك السنوات كي لا يجرح مشاعر زوجته عند رؤيته لها وقد ترك الجُدري آثاره على وجهها وجسدها.

كانت تلك لفتةً إنسانيةً كريمةً من هذا الزوج من أجل المُحافظة على مشاعر زوجته وإشعارها أنه لا يزال يراها في مُخيلته جميلةً كما كانت قبل ذهابه للحرب، واختار أن يتظاهر بالعمى خمسة عشر عاماً من أجل الوفاء لها، إنه بلا شك (وفاء نادر).

 

أحبتي في الله.. لا أدري من هو الأكثر وفاءً لزوجته؛ هذا الرجل الذي ظل قرابة خمسة عشر عاماً يعيش حياة كفيف البصر كي لا يجرح مشاعر زوجته، أم ذلك الرجل الإيطالي المُسن؟ دعونا نتعرف على قصته يرويها لنا شاهد عَيان، كتب يقول:

كنتُ ذات صباحٍ في قاعة الانتظار بالمستشفى الجامعي القريب من سكني في روما، أنتظر دوري لأراجع الطبيب لبعض حُروقٍ ظهرت على أطرافي، وكان أمامي في القائمة شيخٌ إيطاليٌ يُناهز الثمانين، باديةٌ عليه علامات القلق، ينتظر الطبيب لتغيير ضمّادةٍ حول معصمه وإعادة تطبيب يده من جديد، وكان قد أخبر المُمرضة أنه في عجلةٍ من أمره. ظل يطرق باب غرفة الطبيب بين الفينة والأخرى، يسأل المُمرضة عن موعد دخوله، وهي تُخبره في كل مرةٍ أن دوره لم يأتِ بعد، وأن هناك أشخاصاً في حالاتٍ حرجةٍ لهم الأولوية. كنتُ مُتعجباً من عجلته رغم أنه في الغالب مُتقاعدٌ ولا مشاغل كبيرةً لديه. لم يهدأ بال ذلك الرجل المُسن، وظل يمشي ذهاباً وإياباً، قلقاً يتذمر من التأخير الذي طرأ على برنامج يومه، ومع طرقةٍ من طرقاته على باب غرفة الطبيب خرجت عليه المُمرضة تُعاتبه، قالت له: "ما كُل هذه العجلة وأنت لا شغل لديك ولا مواعيد مُهمةً أمامك؟"، وطلبت منه الجلوس في أي مقعدٍ من مقاعد قاعة الانتظار وستقوم هي بتطبيبه إذا كان لا يرغب في الانتظار؛ فوافق. ذهبت المُمرضة وأحضرت كل المُستلزمات، ثم وقفت أمامه وهي تتحدث معه، بعد أن أزالت الضمادة واهتمت بجُرحه، سألته: "هل لديك موعدٌ هذا الصباح مع طبيبٍ آخر ولذلك أنت في عجلةٍ من أمرك؟"، أجاب: "لا.. لكني ذاهبٌ إلى دار رعاية المُسنين لتناول إفطار الصباح مع زوجتي كما أفعل كل يوم"، فسألته المُمرضة: "ما سبب دخول زوجتك لدار الرعاية؟"، فأجابها: "إنها هناك منذ فترةٍ لأنها مُصابةٌ بمرض الزهايمر وفقدان الذاكرة"، في تلك اللحظة كانت المُمرضة قد انتهت من تغيير الضمادة بعد أن طبّبته، وسألته: "وهل ستقلق زوجتك لو تأخرتَ عن الميعاد قليلاً؟"،

فأجاب: "أنها لم تعد تعرف من أنا؛ إنها لا تستطيع التعرف عليّ منذ أربع سنواتٍ مضت"، قالت المُمرضة مُندهشةً: "ولا زلتَ تُلازمها وتتناول الإفطار معها كل صباحٍ على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟"، ابتسم الرجل العجوز وهو يربت على يديها وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكنني أعرف من هي"، وانصرف مُسرعاً. مسحت المُمرضة دمعتين فرّتا من عينيها، وقالت وهي تخنقها الشهقة: "هذا هو نوع الحب الذي أريده في حياتي".

 

هذان مثالان من حالات (وفاء نادر) قلَّ أن نجد لهما مثيلاً، وقلَّ أن نجد قدوةً يُحتذى به في هذا الشأن، لكننا إن أمعنا النظر، وعُدنا إلى مرجعيتنا التي لا نضل أبداً إذا تمسكنا بها، لوجدنا الآية الكريمة التي تُخبرنا بوضوحٍ عن قدوتنا ومثلنا الأعلى نحن المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ إذن فرسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة، وهو القدوة، وهو المثال الذي علينا أن نحتذي به في كل شيءٍ؛ فهل في سيرته عليه الصلاة والسلام ما يُبين لنا وفاءه لزوجته؟ نعم كان عليه الصلاة والسلام ذا (وفاء نادر) تجاه زوجته أم المؤمنين السيدة/ خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، حتى بعد وفاتها؛ فعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ [إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ]. وعَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ: [مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ].

 

إنه الوفاء في أبهى صوره، يقول العلماء عنه إنه من مكارم الأخلاق، وإنه صِفةٌ من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، به تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات. وهو خُلقٌ إنسانيٌ رفيعٌ، وسُلوكٌ حضاريٌ راقٍ، ينبغي أن تُبنى عليه العلاقات الأسرية، فهو من أهم دعائم استقرار البيوت وسعادتها. وهو خُلقٌ لا يتصف به إِلا عزيز النفس طيِّب الأصل كريم الخصال. وهو ثمرة عِشرةٍ طيبةٍ بين الزوج والزوجة أساسها الحب والاحترام والتفاهم والمودة والرحمة والثقة. فمن مروءة الرجل أن يكون وفياً لزوجته التي صبرت معه وساندته ودعمته بكل ما تستطيع في تجاوز المحن.

 

وعن الوفاء قال الشاعر:

فإذا ظفرتَ بذي الوفاء

فحط رحلَك في رحابهِ

فأخوك مَن إن غابَ عنك

رعى ودادكَ في غيابهِ

وإذا أصابك ما يسوءُ

رأى مصابَك مِن مصابهِ

وتراه يتوجعُ إن شكوتَ

كأن ما بكَ بعضَ ما بهِ

 

وقال آخر:

الناسُ للناسِ ما دامَ الوفاءُ بِهُِم

والعُسرُ واليُسرُ أوقاتٌ وساعاتُ

فماتَ قومٌ وما ماتت فَضائلُهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

 

أحبتي.. وفاء الزوج لزوجته دليلٌ على أصالته ونُبله وطيب معدنه؛ فليبادر كل من له زوجةٌ إلى الوفاء بحقها، إن كانت حيةً؛ بالود وحُسن المعاملة وطيب الحديث وإسعادها وإعطائها حقها وتقدير جهودها والحفاظ على مشاعرها، وإن كانت ميتةً؛ فبذِكر محاسنها والدُعاء لها وإكرام أهلها والحديث عنها بحُبٍ واحترام.

ولننتبه إلى أن أبناءنا يتعلمون منا ومن أقوالنا وأفعالنا، ويتخذون منا قدوةً لهم، فلنكن لهم نموذجاً في تعاملنا مع زوجاتنا عسى أن يسيروا على نهجنا، فنسعد ويسعدوا في الدنيا، ونُثاب ويثابوا في الآخرة. وليكن وفاؤنا لزوجاتنا بنية التأسي بنبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، فننال ثواباً آخر هو ثواب اتباع السُنة. أخيراً، هذه همسةٌ في أذن كل زوجة "ارتقِ بأخلاقك وأقوالك وأفعالك إلى المستوى الذي يجعلك أهلاً لمحبة زوجك ووفائه لكِ".

جعلنا الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

https://bit.ly/3FnSdHq

الجمعة، 25 نوفمبر 2022

خير متاع الدنيا

 

خاطرة الجمعة /371


الجمعة 25 نوفمبر 2022م

(خير متاع الدنيا)

 

كتب أحدهم -وهو من أهل مكة المكرمة- يقول:

انفصلت أُمي عن أبي وسافرت إلى أهلها مسافة ١٢٠٠ كم، وكان عمري آنذاك أربع سنوات، عشتُ الضياع مُتنقلاً بين بيوت أعمامي، إلى أن وصلتُ سن ١٦ سنة، وفُصلتُ من المدرسة بسبب سلوكي الإجرامي، وبعدها حصلتُ على لقب "الداشر" {"داشر" وصفٌ للشخص الهائم على وجهه ليس له مُستقرٌ أو منزل، أو الابن الضال الذي يروغ ويزوغ ويترك مسؤوليات البيت والأسرة وما يُطلب منه من عمل، الشخص المُستهتر، غير المبالي. ويُقال عنه أيضاً: صايع أو هامل}.

أتعبتُ والدتي كثيراً بالمشاكل. تقدّمتُ لدورة عسكريةٍ وتخرّجتُ برتبة جندي فقط. بدأ وضعي يتحسّن قليلاً. خطب لي والدي بنت عمي، دون أن يستشيرني، وهي مُعلمة تربيةٍ إسلاميةٍ، طبعاً وافقتُ لأني لا زلتُ أحمل لقب "الداشر"؛ ومن يُزوّج ابنته لصاحب هذا اللقب؟ لم أكن أصدق أن أحداً يرضى أن يزوجني ابنته، ولا أُخفيكم سراً كنتُ طامعاً في راتبها. المهم تم الزواج وكان هذا عام ١٤٢٨هـ، ودخّلوني علي زوجتي قبل الفجر بساعتين تقريباً، سلّمت عليّ وسألتني عن حالي، وهذه أول مرةٍ يسألني أحدٌ عن حالي! بدّلت هي ملابس الزفة وتوضَّأت وطلبت مني أن أتوضأ، توضّأتُ وذهبنا إلى المجلس، طلبت مني أن أُصلي بها إماماً تلعثمتُ؛ فآخر صلاةٍ صليتها كانت قبل سبعة أشهرٍ في رمضان، أعانني الله وصلّيتُ بها ركعتين، قالت لي: "باقي ساعةٌ ونصف على الفجر؛ ما رأيك نُصلي الفجر في الحرم وبعدها نأخذ فطوراً ونُفطر ثم ننام؟"، طبعاً وافقتُ، ولو تطلب أي شيءٍ سأوافق؛ فمن تتزوج "داشراً" وعندها راتب؟

يسّرها الله وصلّينا الفجر، وهذه الصلاة كانت هي التي قلبت حياتي ١٨٠ درجةً، صلّى بنا الشيخ الشريم -أنا لا أعرفه، هي قالت لي اسمه- قرأ في الركعة الأولى ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ رحتُ في عالَمٍ آخر وقلتُ في نفسي: "والله إنني أنا المقصود". انتهينا من الصلاة، وعُدنا إلى المنزل، تناولنا الفطور ثم نمنا.

بعد أسبوعين قالت لي: "ما رأيك أُراجع معك القرآن؟"، قلتُ لها: "أي قرآنٍ يا بنت الحلال؟ كل ما أحفظه أربع سور؛ الفاتحة والإخلاص والمعوذتين". حفّظتني -جزاها الله خيراً- عدداً من قصار السور. ثم علمت بعد ذلك أنه توجد حلقة تحفيظٍ في الحرم بين المغرب والعشاء؛ فطلبت مني أن أسجل فيها، وافقتُ على الفور، ولو تطلب مني أي شيءٍ سأوافق دون تردد؛ فهي نعم الزوجة، إنها زوجةٌ مثاليةٌ في كل شيء. كنتُ أقول في نفسي: "هذه حرامٌ أن يتزوجها واحدٌ "داشر" مثلي؛ فكل ما يبحث الرجل عنه موجودٌ فيها؛ عقلٌ، دينٌ، جمالٌ، أصلٌ، وراتب".

صرنا نذهب كل يومٍ إلى الحرم، نُصلي المغرب، ثم أتوجه أنا إلى حلقة التحفيظ، وتتوجه هي إلى قسم النساء. استمرّينا على هذه الحال حتى حفظتُ ١٣ جزءاً، كنتُ سريع الحفظ وصوتي جميل. تمت ترقيتي ونُقلت للعمل في مدينةٍ أخرى بعيدةٍ عن مكة، كنتُ أتحيّن فرصة غياب إمام مسجدنا وأُصلي بدلاً عنه إماماً للمصلين.

ثم ألحّت عليّ زوجتي أن أُكمل دراستي؛ فحصلتُ على الثانوية العامة بنظام الدراسة المسائية، ثم ألحّت عليّ لألتحق بالجامعة فانتسبتُ في كلية الشريعة وحصلتُ على الشهادة الجامعية. قرأتُ في أحد الأيام إعلاناً عن وظيفة إمام وخطيب جامع؛ فقدمتُ للوظيفة، وتم بحمد الله تعييني إماماً وخطيباً في مسجدٍ صغيرٍ، كان هذا عام ١٤٣٣هـ. أصبحت زوجتي هي كل الدنيا بالنسبة لي، لو تطلب عيوني أُعطيها لها؛ فقد حولتني من "داشرٍ" مُشرّدٍ في الشوارع إلى خريج كلية شريعة، وإمام وخطيب! من يُصدق هذا؟!

الصدمة التي لا أنساها حدثت عام ١٤٣٨هـ حين بدأت تشكو من صداعٍ شديدٍ، تبيّن بعد ذلك أنه ورمٌ خبيثٌ في الدماغ، لم تُكمِل سنةً وانتقلت إلى رحمة الله. تُوفيت ولي منها ثلاث بناتٍ هن نسخةٌ مصغرةٌ عن أمهم.

بعد ذلك بسنةٍ طلب أخواتي مني أن أُوافق على أن يبحثوا لي عن زوجةٍ، رفضتُ رفضاً قاطعاً، وقفلتُ هذا الباب وإلى الأبد، وقلتُ لهن: "رحلت زوجتي وعوّضني الله بثلاث". باختصار؛ زوجتي أحيتني ثم ماتت؛ حوّلتني من "داشر" إلى رب أسرةٍ جامعيٍ ومحل تقدير كل من حولي في عملي.

 

أحبتي في الله.. صدق رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، وفي روايةٍ: [إنَّما الدُّنيا متاعٌ ولَيسَ مِن متاعِ الدُّنيا شَيءٌ أفضلَ منَ المرأةِ الصَّالِحةِ].

إنها المرأة الصالحة (خير متاع الدنيا) يقول العُلماء عنها: هي قُرة عينٍ لزوجها، يغض بها بصره؛ فيجد نوراً في قلبه يُبصر به ما لا تراه عيناه، ويجد لذةً في إيمانه لا تُعادلها لذةٌ، وتُحصِّن له فرجه، فيقفل أبواب الشر ويفتح أبواب الخير، يقفل أبواب الحرام ويفتح أبواب الحلال، ويترك الوزر ويكسب الأجر، يقول تعالى عن عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ. وأربعٌ من الشَّقاءِ: الجارُ السوءُ، والمرأةُ السوءُ، والمركبُ السوءُ، والمسكنُ الضَّيِّقُ].

والمرأة الصالحة حسنة الدنيا، يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. وحسنة الدنيا هي المرأة الصالحة؛ أحسن الله بها لزوجها؛ فهي سبب حسنات النهار له؛ إذ تُذكره بالله تعالى؛ ليكون ذاكراً، وتحثه على الصلاة في المسجد جماعةً؛ ليكون مُصلياً، وتحثه على الصدقة؛ ليكون مُتصدقاً، وتحثه على الصيام وتوقظه في الليل؛ ليكون مُتهجداً فإن أبى نضحت في وجهه الماء.

والمرأة الصالحة خير مالٍ يُتخذ؛ فعندما نزل قول الله سبحانه وتعالى في الذهب والفضة: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، سأل الصحابة: فأيُّ مالٍ نتخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لِيَتَّخِذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكِرًا، وزوجةً مؤمنةً تُعِينُهُ علَى أمرِ الآخرَةِ].

والمرأة الصالحة سكَنٌ لزوجها ومودةٌ ورحمةٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

والمرأة الصالحة هي التي لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه؛ لأنها تعلم أن وظيفتها ومسئوليتها في بيتها؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [...والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم].

والمرأة الصالحة هي الودود التي تتودد لزوجها، وتلين له في الكلام، وتخفض له الجناح، وتتجنب ما يُبغضه، وتسعى لما يُرضيه؛ فهي -كما وصفها بعضهم- ألين من الزُبد وأحلى من العسل.

والمرأة الصالحة هي الولود التي تُكثر الإنجاب؛ لتكثير الأُمَّة طلباً للأجر وسعياً للإصلاح، ورغبةً في دوام الثواب؛ إذ لا ينقطع العمل بوجود الولد الصالح الذي يدعو لوالديه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: [تزوَّجوا الوَدودَ الولودَ فإنِّي مُكاثرٌ بِكُمُ الأُممَ].

والمرأة الصالحة التي هي (خير متاع الدنيا) هي التي إذا غضب زوجها كانت حريصةً على رضاه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [...نِساؤُكُمْ من أهلِ الجنةِ الوَدُودُ الوَلودُ العؤودُ على زوجِها، التي إذا غَضِبَ جاءتْ حتى تَضَعَ يَدَها في يَدِ زَوْجِها، وتقولُ: لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى]. {"العَؤُودُ على زَوْجِها" أي: التي تَعُودُ على زَوْجِها بِالنَّفْعِ. "لا أَذُوقُ غَمْضًا حتى تَرْضَى" أي: لا أَذوقُ نَوْمًا حَزَنًا وقَلَقًا على غَضَبِكَ علَيَّ حتى تَرْضى عنِّي}.

والمرأة الصالحة سعادةٌ لزوجها في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

 

وعن المرأة الصالحة التي هي (خير متاع الدنيا) قال النبي عليه الصلاة والسلام: [خيرُ النِّساءِ امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتكَ، وإذا أمرتَها أطاعتْكَ، وإذا غِبتَ عنها حفِظتْكَ في نفسِها ومالِكَ]. يقول شارحو هذا الحديث إن المرأة الصالحة هي التي إذا نظر إليها زوجها سرته؛ فلا ينظر إلى سواها، وهي سُروره الذي يُخفف آلامه وهُمومه وغُمومه ويُزيل أحزانه؛ إذ تُدخل السرور عليه، وتُذهب الهموم.

والمرأة الصالحة هي التي إذا أمرها زوجها أطاعته؛ لأن القوامة له عليها؛ يقول تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، ولأن له عليها درجة؛ يقول تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾. وطاعة المرأة لزوجها من مُوجبات الجنة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إذا صلَّتِ المرأةُ خَمْسَها، وصامَت شهرَها، وحصَّنَتْ فرجَها، وأطاعَت زوجَها، قيلَ لها: ادخُلي الجنَّةَ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شِئتِ].

والمرأة الصالحة هي التي إذا غاب عنها زوجها حفظته في نفسها، فلا تنظر إلى الرجال الأجانب؛ لأن الله أمرها بغضِّ بصرها؛ فقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾.

والمرأة الصالحة هي التي تحفظ زوجها في ماله؛ فلا تُبذر بماله؛ لأنها تعلم ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾، ولا تُسرف فيه، لأنها تعلم أن ربها نهى عن الإسراف، وأنه لا يحب المسرفين؛ إذ يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾.

 

قال الشاعر:

أفضل ما نال الفتى    بعد الهُدى والعافية

قرينةٌ مُسلمةٌ                عفيفةٌ مواتية

 

أحبتي.. إن كانت هذه هي أهم صفات المرأة الصالحة، التي هي (خير متاع الدنيا) فأول درسٍ نتعلمه هو أن على كل امرأةٍ من نساء المسلمين أن تسعى إلى إكمال هذه الصفات في نفسها، فلا يوجد إنسانٌ كامل. ولتهتم نساؤنا بتربية بناتهن تربيةً إسلاميةً صحيحةً لتنشأن مُتمسكاتٍ بهذه الصفات، التي هي صفات الكمال. ولينظر كل رجلٍ: أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً في صفات الرجل الصالح، ويتمثلها في سلوكه وعلاقاته ليكون مُستحقاً للفوز بالمرأة الصالحة ابنةً أو أختاً أو أُماً أو زوجةً؛ فالجزاء من جنس العمل.

درسٌ آخر علينا أن نتعلمه؛ هو أن كل إنسانٍ قابلٍ للتغيير إذا ما وجد من يُساعده بإخلاص، فلنُخلص نوايانا نحو كل "داشرٍ"، وندعو له بالهداية ونأخذ بيديه بمحبةٍ وودٍ ورغبةٍ صادقةٍ في الإصلاح فيكون التوفيق من الله؛ يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾. ودرسٌ ثالثٌ مهمٌ هو أن العبرة بالخواتيم، فلا نتسرع ونتعجل ونُصدر أحكاماً قاسيةً على الآخرين؛ فربما اهتدوا وتغيروا بعد حينٍ وصاروا مثالاً ونموذجاً يُحتذى به.

اللهم اهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

 

https://bit.ly/3VnESDW

الجمعة، 18 نوفمبر 2022

المرابطون

 

خاطرة الجمعة /370


الجمعة 18 نوفمبر 2022م

(المرابطون)

 

تقول سيدةٌ مُسلمةٌ تعيش هي وأسرتها في الولايات المتحدة الأمريكية:

غداً عيد «الهلوين» عند غير المُسلمين، ومن طقوسه أن يطرق أطفالهم أبواب المنازل لطلب الحلوى؛ إذن سيطرقون بابنا! فهل أعطيهم الحلوى؟ وماذا أقول لأطفالي عن هذا العيد وطقوسه الغريبة؟ أنا في حيرةٍ من أمري! استخرتُ الله ثم قررتُ أن أخرج بعائلتي خارج البيت في ذلك المساء. في الحقيقةً العيش في الخارج مُتعبٌ؛ ينبغي أن تكون حذِراً وفطِناً، ومن لديه أطفالٌ مسؤوليته أكبر! إننا (المرابطون) قابضون على دِيننا كالقابضين على الجمر.

قررتُ مع ابنة عمتي أن نذهب نحن وأطفالنا قبل غروب الشمس -وهو وقت بدء احتفالهم- إلى المسجد لنُصلي المغرب ونمكث حتى صلاة العشاء هناك، فما أجمل الرباط وقت الفتنة. كانت فكرة المسجد فكرةً رائعةً، ولم نكن نظن أنه سيسبقنا إليها أحدٌ، لكن ما الذي حدث؟

بمجرد وصولنا إلى المسجد تفاجأنا بأعدادٍ غفيرةٍ من المُسلمين بصُحبة أطفالهم هناك! وتفاجأنا بوجود الكثير من الألعاب مُعدةً ومُجهزةً للأطفال، والحلويات والقهوة والشاي، وجوٍ عائليٍ رائعٍ في الساحة! يا الله! لقد دمعت عيناي حين خطر لي أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلينا، وكيف أننا فرّرنا بديننا وسط الظلام كأهل الكهف؛ فكنتُ أدعو مثلهم ﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾.. قلتُ في نفسي: يا ربِ ها هُم المُسلمون في أمريكا من مُختلف الجنسيات يفرون إليك يا الله، ومعهم أطفالهم الصغار -كما فرّ أصحاب الكهف حينما هربوا من قومهم إلى الكهف ليأويهم، لم يمنعهم أنه قد حلّ الظلام، أو أنها ليلةٌ دراسيةٌ وينبغي لأطفالهم أن يناموا في ذلك الوقت، ورغم أن الجو كان بارداً إلا أننا -آباء وأُمهات- كنا نخشى على عقيدة أبنائنا أكثر من أي شيءٍ آخر!

دقائق ثم نادى إمام المسجد على الأطفال، وأجلسهم حوله وبدأ حديثه معهم بقصةٍ قصيرةٍ تدرج منها إلى «الهلوين»، وبعباراتٍ بسيطةٍ قليلةٍ شرح للأطفال خطأ مُعتقدات الذين يحتفلون بهذا العيد، ثم أطلق الأطفال ليستكملوا اللعب في ساحة المسجد.

لقد كانت تلك لحظاتٍ ماتعةً مُفعمةً بمعنى الفرار إلى الله واللجوء الكامل إليه. في صلاة المغرب قرأ علينا الإمام قراءةً مُبكيةً هزّتنا وأبكتنا، فقد قرأ بصوتٍ رخيمٍ: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ﴾ شعرنا أن هذه الآيات كأنها تُقرأ علينا لأول مرةٍ! وفي صلاة العشاء ودَّعنا الإمام بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ يااااه.. هذا والله نداءٌ لنا نحن، وأمرٌ بالصبر والمُصابرة والرباط! الحمد لله أن هدانا للإسلام.

الذين يحتفلون بعيد «الهلوين» قضوا ليلتهم البارحة بين الوحوش والجماجم ظناً منهم أن ذلك سيجلب لهم السكينة! ونحن قضينا والحمد لله ليلتنا بذِكرٍ تطمئن له القلوب وتسكن؛ فانقلبنا ﴿بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ لم يمسسنا سوءٌ واتبعنا ﴿رِضْوَانَ اللَّهِ﴾. أسأل الله أن يُثبت قلوبنا، وأن يهديهم كما هدانا إلى الإسلام.

 

أحبتي في الله.. عن الهجرة إلى بلادٍ غير إسلاميةٍ، والاغتراب يقول العلماء: لا شك أن الإقامة في البلاد غير الإسلامية فيها خطرٌ عظيمٌ على دِين المُسلم وأخلاقه، فينبغي الحذر من ذلك. والسفر إلى هذه البلاد لا يجوز إلا بثلاثة شروطٍ: أن يكون عند الإنسان علمٌ يدفع به الشُبهات ويدعو لدينه، وأن يكون عنده دِينٌ يمنعه من اتباع الهوى والجري وراء الشهوات، وأن يكون مُحتاجاً إلى ذلك، فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى تلك البلاد؛ لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة. أما بالنسبة لأولئك الذين يُهاجرون إلى تلك البلاد فإنهم يقعون في إثمٍ عظيمٍ وقد ينتكسون على أعقابهم، وقد يتأثرون بالفكر الغربي؛ فيكفرون بالله عزَّ وجلَّ، غير ما يصل إلى أبنائهم من عاداتٍ وتقاليد تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية السمحة؛ فالواجب على المُسلمين الحذر من السفر إلى البلاد غير الإسلامية إلا إذا كان المُسافر ذا علمٍ وبصيرةٍ، ويُريد الدعوة إلى الله؛ فهذا أمرٌ مُستثنى، وهذا فيه خيرٌ عظيمٌ لأنه يدعو غير المُسلمين إلى توحيد الله ويُعلمهم شريعته، فهو مُحسنٌ وبعيدٌ عن الخطر لما عنده من العلم والبصيرة. ولا يخفى أن الخطر الذي يلحق بالأبناء غير مقتصرٍ على مُشاركتهم لهم في أعيادهم، بل إنه حاصلٌ بمجرد المُخالطة والتعايش معهم.

وعلى المقيمين ببلادٍ غير إسلاميةٍ لضرورةٍ أقول لهم -للأمانة- إن الضرورة التي تُجيز السفر والإقامة في البلاد غير الإسلامية قال العلماء عنها إنها الحالة التي يخشى فيها المُسلم وهو في مكانٍ مُعينٍ على دِينه من الضياع والفتنة، وعلى نفسه من الهلاك، وعلى ماله من الزوال، وعلى عِرضه من الانتهاك؛ ينبغي عليه وقتها، بل يجب -بحسب الحاجة والحالة- ترك هذا المكان والانتقال لمكانٍ آخر يحفظ فيه دِينه ونفسه وعِرضه وماله، وعليه أن يختار المكان الأقل ضرراً على دِينه أولاً ثم بقية الضروريات، ولا يستعجل ويختار المكان المُريح مادياً ونفسياً على حساب الضرر في الدين. كل مُسلمٍ اضطر للإقامة في بلاد الغُربة، أعرَف بنفسه من غيره لحجم الضرورة، ونسبة حاجته لذلك ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فلابد من تقوى الله عزَّ وجلَّ، ومراقبته في السِر والعلن، واختيار القرار المناسب في الوقت المناسب، ووضع الأشياء في نصابها، لأن الله سُبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾، و{لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾، و﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

قال عليه الصلاة والسلام: [يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ]. قال أهل العلم: لكثرة الفساد والفتن والمُغريات، وقلة الأعوان على الطاعة، ولمشقة التمسك بالدِين واتباع السُنة، يكون المُلتزم بدِينه كالقابض على الجمر. إنهم (المرابطون) الذين تقع على عاتق كلٍ منهم مسئوليةٌ عظيمةٌ؛ إذ ورد في الأثر: [أنتَ على ثَغْرَةٍ من ثُغَرِ الإسلامِ، فلا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلِكَ]، والثَغرة موطن الضعف من الحُدود، أو الثلمة في الشيء، أو الفتحة في الثوب. يقول العُلماء في شرح هذا الأثر: أنت يا أخي على ثَغرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يؤتين من قِبَلك؛ فإياك أن تكون سبباً في الإساءة إلى الإسلام والمُسلمين، طبِّق الإسلام في حياتك اليومية، واجعله مُجسداً في سلوكك؛ فالناس يتعلمون بعيونهم، والإسلام انتشر في جنوبي آسيا وشرقها، وفي غرب أفريقيا وشمالها، عن طريق المُعاملة الحسنة والسلوك القويم؛ فالتجار المُسلمون ضربوا لهذه الشعوب مثلاً أعلى في النزاهة والاستقامة والأمانة وحُسن الخُلق.

والناس لا يُنفرهم من الإسلام شيءٌ مثلُ أن يروا مُسلماً يُكثر من الصلاة والصيام، والأدعية والأوراد، ويُسيء إلى الناس في مُعاملاته، وبيعه، وشرائه، ودَيْنه، وقضائه. والمُسلم الذي يُسيء إلى الناس، يُسيء بلا شكٍ إلى الإسلام والمُسلمين.

 

أحبتي.. أيها (المرابطون)، أعيدوا النظر في حساباتكم ووضعكم في بلاد الغُربة، إن كنتم ذهبتم هناك لمصلحةٍ قُضيت فالعودة إلى ديار الإسلام بغير تأجيلٍ أو تسويفٍ واجبةٌ شرعاً، وإذا كنتم مُضطرين للبقاء حيث أنتم لضرورةٍ -وأنتم أدرى من غيركم بتقدير مداها- فلتبذلوا جُهداً مُضاعفاً لتَعَلُّم دِينكم والتفقه فيه لتنفقوا من وقتكم ما يتيسر لكم لتكونوا دعاةً لدِين الله، مُبشرين به، واحرصوا على أن تكون معاملاتكم وأخلاقكم وجميع تصرفاتكم نموذجاً للمُسلم التقي النقي الذي يرعى حقوق غيره من الجيران والزملاء وغيرهم، ويسعى إلى الخير دوماً. حينئذٍ لا تكون إقامتكم في بلاد الغُربة شرعيةً فحسب، بل تكون ضروريةً تُثابون عليها، والأعمال بالنيات؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]؛ فأخلِصوا النية لله تعالى، وأحسنوا العمل مُهتدين بسُنة النبي عليه الصلاة والسلام.

ولا تنسوا أبناءكم، فلذات أكبادكم؛ فلتبذلوا وُسعكم أن تجعلوا من بيوتكم بيئةً إسلاميةً حاضنةً لهم، تُعَلِّمهم دِينهم وتُحسن تربيتهم، لينشأ كلٌ منهم وهو واعٍ لدوره كمُسلمٍ في بلادٍ ليست مُسلمة، فيكون ثوابكم وثوابهم مُضاعفاً بإذن الله. كونوا فطنين، مُدركين للأخطار التي تُحيط بأبنائكم، قائمين على وقايتهم من أن يتلوثوا بأفكار غير المُسلمين ويتأثروا بها، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾. أبناؤكم أمانةٌ في أعناقكم ستُسألون عنها؛ فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: [كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ].

ولتعلموا أن الإقامة الضرورية والعيش في البلاد غير الإسلامية يجب أن تكون مؤقتةً وليست دائمة، واستثنائيةً وليست أصلية، وطارئةً وليست مُستمرة، وينبغي على كل مسلمٍ بذل قُصارى جهده للتخلص من حالة الضرورة، والانتقال ولو تدريجياً إلى بيئاتٍ أقل ضرراً وأنفع لدِينه وذريته، ولو على حساب بعض الامتيازات المادية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ إِلَّا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.

 

أيها (المرابطون) قلوبنا معكم، ودعواتنا لكم. إن عُدتم إلينا في بلاد الإسلام فأهلاً بكم، نستقبلكم بالحُب والترحاب، وإن استمر وجودكم بعيداً عنا، داعين إلى الله، مُتحملين الكثير من الأذى، مُحافظين على أنفسكم وأبنائكم من الذوبان في بحر الشرك وغياهب الكُفر، فدعاؤنا لكم بتوفيق الله وإعانته لا ينقطع. ثبَّتكم الله ونجَّح مسعاكم، وحفظكم وبارك لكم في أبنائكم وأموالكم، وأثابكم من واسع رحمته ثواباً عظيماً.

https://bit.ly/3OjE2G2

الجمعة، 11 نوفمبر 2022

الكلمة الطيبة

 

خاطرة الجمعة /369


الجمعة 11 نوفمبر 2022م

(الكلمة الطيبة)

قام أستاذ مادة علم الاجتماع في جامعةٍ ماليزيةٍ بتكليف طلابه بمشروعٍ من مُتطلبات المادة، وهو إسعاد إنسانٍ واحدٍ طوال أربعة أشهرٍ هي مدة الفصل الدراسي، للحصول على الدرجة الكاملة في مادته. وفرض الأستاذ الماليزي على طلبته أن يكون هذا الإنسان خارج مُحيط أسرته، وأن يُقدم الطالب عرضاً مرئياً عما قام به في نهاية الفصل أمام زملائه. لم يكتفِ الأستاذ بذلك، بل اتفق مع شركةٍ ماليزيةٍ خاصةٍ لرعاية المُبادرة عبر تكريم أفضل عشر مُبادراتٍ بما يُعادل ألف دولارٍ أميركي.

في نهاية الفصل الدراسي نجح الطلاب بالحصول على الدرجة الكاملة، وقاموا -عن طريق التصويت- باختيار أفضل عشر مبادراتٍ بعد أن قدم جميع الطلاب عروضهم على مسرح الجامعة، وحضرها آباء وأمهات الطلبة الموجودين في كوالالمبور. نشرت هذه المُبادرات الإنسانية أجواء مُفعمةً بالمفاجآت والسعادة في ماليزيا وقتها، فالجميع كان يُحاول أن يُقدم عملاً إنسانياً مُختلفاً يرسم فيه السعادة على حياة غيره.

من بين الفائزين العشرة طالبٌ ماليزيٌ كان يقوم بوضع هديةٍ صغيرةٍ يومياً أمام باب شقة زميله في سكن الجامعة، وهو هنديٌ مُسلمٌ ابتعثه والده لدراسة الطب في ماليزيا. اختار الطالب هذا الطالب تحديداً لأنه شعر بأنه لا يمتلك أصدقاء أو ابتسامةً طوال مُجاورته له لنحو عامٍ، كان الطالب الهندي لا يتحدث مع أحدٍ، ولا أحد يتحدث معه، يبدو حزيناً وبائساً مما جعل زميله الطالب الماليزي يرى أنه الشخص المُناسب للعمل على إسعاده. أول هديةٍ كانت رسالةً صغيرةً وضعها تحت باب شقته كتبها على جهاز الكمبيوتر في الجامعة دون توقيع: "كنت أتطلع صغيراً إلى أن أُصبح طبيباً مثلك، لكني ضعيفٌ في مواد العلوم، إن الله رزقك ذكاءً ستُسهم عبره بإسعاد البشرية". في اليوم التالي اشترى الطالب الماليزي قُبعةً تقليديةً ماليزيةً ووضعها خلف الباب ومعها رسالة: "أتمنى أن تنال قبولك هذه القُبعة". في المساء شاهد الطالب الماليزي زميله الهندي يعتمر القُبعة، ويرتدي ابتسامةً لم يتصفحها في وجهه من قبل، ليس هذا فحسب بل وشاهد في حسابه في الفيس بوك صورةً ضوئيةً للرسالة الأولى التي كتبها له، وأخرى للقُبعة، التي وضعها أمام باب منزله، وأجمل ما رأى هو تعليق والد طالب الطب الهندي في الفيس بوك على صورة رسالته، والذي قال فيه: "حتى زملاؤك في الجامعة يرونك طبيباً حاذقاً، لا تخذلهم واستمر". دفع هذا التعليق الطالب الماليزي على الاستمرار في الكتابة وتقديم الهدايا العينية الصغيرة إلى زميله يومياً دون أن يكشف عن هويته! كانت ابتسامة الطالب الهندي تكبر كل يومٍ، وصفحته في الفيس بوك وتويتر تزدحم بالأصدقاء والأسئلة: "على ماذا ستحصل اليوم؟"، "لا تتأخر... نريد أن نعرف ما هي الهدية الجديدة؟".

تغيرت حياة الطالب الهندي تماماً، تحول من انطوائيٍ وحزينٍ إلى مُبتسمٍ واجتماعيٍ بفضل زميله الماليزي! بعد شهرين من الهدايا والرسائل أصبح الطالب الهندي حديث الجامعة، التي طلبت منه أن يروي تجربته مع هذه الهدايا في لقاءٍ جماعيٍ مع الطلبة، تحدث الطالب الهندي أمام زملائه عن هذه الهدية، وكانت المُفاجأة عندما أخبر الحضور بأن الرسالة الأولى، التي تلقاها جعلته يعدل عن قراره في الانصراف عن دراسة الطب، ويتجاوز الصعوبات والتحديات الأكاديمية والثقافية التي كان يتعرض لها.

لعب الطالب الماليزي دوراً محورياً في حياة هذا الطالب بفضل عملٍ صغيرٍ قام به. سيصبح الطالب الهندي طبيباً يوماً ما وسيُنقذ بإذن الله حياة العشرات، والفضل بعد الله لمن ربت على كتفه برسالةٍ حانية.

اجتاز الطالب الماليزي مادة علم الاجتماع، لكنه ما زال مُرتبطاً بإسعاد شخصٍ في كل فصلٍ دراسي، بعد أن لمس الأثر الذي تركه، اعتاد قبل أن يخلد إلى الفراش أن يكتب رسالةً أو يُغلِّف هديةً، بل واتفق مع شركة أجهزةٍ إلكترونيةٍ لتحويل مشروعه اليومي إلى عملٍ مؤسسيٍ يُسهم في استدامة المشروع واستقطاب مُتطوعين يرسمون السعادة في أرجاء ماليزيا.

 

أحبتي في الله.. إنها (الكلمة الطيبة) لها وقع السحر في النفوس؛ يقول أحدهم: «في زيارتي لعمتي ببيتها العامر، تذوقتُ الشاي فأعجبني؛ فقلت لها: "طعم الشاي جميل جداً"، فارتسمت الابتسامة على شفتيها، وبدا السرور يُضيء كالنور في وجهها».

ويقول آخر: «أذكر ذات مرةٍ أني ذهبتُ لإنجاز مُعاملةٍ، كان الموظف كئيباً وكأنه يحمل الدنيا كلها فوق رأسه، وقفتُ أمامه وهو يتعامل مع الأوراق بجفاءٍ شديد، كأن أحدهم سلب الابتسامة منه! قلتُ له: "قميصك جميل"، ابتسم تلقائياً وقال: "والله؟"، قلتُ: "والجاكيت أجمل"، تهلل وجهه ضاحكاً مُستبشراً، ثم بدأ الحديث معي والأخذ والرد، وكأن ذلك الشخص العابس قد رحل وجاء غيره وحلَّ مكانه!».

ويقول ثالث: «ذات مرةٍ كنتُ في المسجد، وحضر شابٌ وصلى بالناس إماماً، شدني صوته الحسن والجميل، انتظرتُ خروجه من المسجد ثم خرجتُ اتبعه وسلمتُ عليه بحرارةٍ، وقلتُ له: "ما شاء الله.. صوتك جميل جداً وتلاوتك رائعة لا يُشبع منها"، رسمت كلماتي البسيطة على وجهه ابتسامةً حلوةً عريضةً واسعةً».

 

السؤال: "ما الذي يمنعنا من أن نفعل ذلك مع كل الناس؟"، "لماذا غالبية الناس شحيحةٌ كل الشُح بالكلمة الحسنة، بخيلةٌ جداً في قولها، وهُم في المقابل سريعو الهجوم إذا ما وجدوا فرصةً سانحةً للانتقاص والنقد والتجريح؟!".

 

عن (الكلمة الطيبة) يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾. ويقول سبحانه: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

و(الكلمة الطيبة) هي القول الحسن؛ يقول تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وهي القول المعروف؛

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾. وهي القول الميسور؛ يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾. وهي القول الكريم؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾. وهي القول اللين؛ يقول تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. فيحق لنا أن نقول إن (الكلمة الطيبة) هي: "كل قولٍ حسنٍ معروفٍ ميسورٍ كريمٍ ولين".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [...والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ...].

كما قال: [إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ]. وقال أيضاً: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]. وقال كذلك: [إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظَاهِرِها] قيل: لمن هي يا رسول الله؟ قال: [لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِمًا والناسُ نِيامٌ]. وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يُحب البشارة ويُكثر من قول "أبشر" -وهي من الكلام الطيب- وفي الحديث الشريف: [بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا].

 

وقال العلماء (الكلمة الطيبة) إنّ الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين: طيبةٌ بذاتها، وطيبةٌ بغاياتها. أما الطيبة بذاتها كالذكر؛ لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الذكر قراءة القرآن. وأما الكلمة الطيبة في غايتاها فهي الكلمة المُباحة؛ كالتحدث مع الناس إذا قصدتَ بهذا إيناسهم وإدخال السرور عليهم، مما يُقربك إلى الله عزَّ وجلَّ، إنها الكلمة التي تسر السامعين، وتؤلف القلوب، وتُحدث أثراً طيباً في نفوس الآخرين، وتفتح أبواب الخير، وتُغلِق أبواب الشر، وهي التي تُثمر عملاً صالحاً و﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾.

 

أحبتي.. (الكلمة الطيبة) مفتاحٌ للقلوب؛ فلا تحبسوا الكلام الطيب في قلوبكم أبداً؛ امدحوا واشكروا وادعو الله لمن تُحبون، وقولوا خيراً للجميع؛ فالكلام الطيب عبادةٌ وهداية.

اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، واجعل اللهم الكلام الطيب والقول الحسن سبيلنا إلى لَمّ الشمل ورأب الصدع وكسب الود وتأليف القلوب وتعزيز أواصر المحبة والمودة بين الناس، خاصةً المسلمين المأمورين بأن ﴿يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وأن يدخلوا السرور على نفوس الناس.

https://bit.ly/3hywm6C

الجمعة، 4 نوفمبر 2022

العمى الحقيقي

 

خاطرة الجمعة /368


الجمعة 4 نوفمبر 2022م

(العمى الحقيقي)

 

يقول صاحب القصة: لم أكن جاوزتُ الثلاثين من عُمري حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي، ما زلتُ أذكر تلك الليلة؛ بقيتُ إلى آخر الليل مع شّلة أصدقائي في إحدى الاستراحات، كانت سهرةً مليئةً بالكلام الفارغ والغيبة والنميمة والتعليقات المُحرمة، كنتُ أنا الذي أتولى في الغالب إضحاك الشلة، وأغتاب الناس، وأصدقائي يضحكون. أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً؛ كنتُ أمتلك موهبةً عجيبةً في التقليد، وكان بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تُصبح قريبةً من الشخص الذي أسخر منه، أجل؛ كنتُ أسخر من هذا وذاك، لم يسلم مني أحدٌ، حتى أصحابي، صار البعض منهم يتجنّبني كي يسلم من لساني. أذكر أني -في تلك الليلة- سخرتُ من رجلٍ أعمى رأيته يتسوّل في السّوق، والأدهى أنّي وضعتُ قدمي أمامه فتعثّر وسقط وأخذ يتلفت برأسه لا يدري ما يفعل، وانطلقت ضحكتي تُدوي في السّوق.

عدتُ إلى بيتي متأخراً -كالعادة- وجدتُ زوجتي في انتظاري، كانت في حالةٍ يُرثى لها، قالت بصوتٍ مُتهدجٍ: "«راشد»، أين كنتَ؟"، قلتُ ساخراً: "في المريخ، عند أصحابي بالطبع"، كان الإعياء ظاهراً عليها، قالت والعَبرة تخنقها: "«راشد»، أنا تعبةٌ جداً؛ يبدو أن موعد ولادتي صار وشيكاً"، وسقطت دمعةٌ صامتةٌ على خدها. أحسستُ أنّي أهملتُ زوجتي، كان المفروض أن أهتم بها، وأُقلّل من سهراتي، خاصةً أنّها في شهرها التاسع، حملتها إلى المُستشفى بسرعةٍ، فأدخلوها غُرفة الولادة، ظلت تُقاسي الآلام ساعاتٍ طوال. كنتُ أنتظر ولادتها بفارغ الصبر، تعسرت ولادتها، كنتُ قد انتظرتُ طويلاً حتى تعبتُ، فذهبتُ إلى البيت، وتركتُ رقم هاتفي لديهم في المُستشفى ليبشروني. بعد ساعةٍ اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم «سالم». ذهبتُ إلى المُستشفى فوراً، عندما رأوني أسأل عن غُرفة زوجتي طلبوا منّي مُراجعة الطبيبة التي أشرفت على الولادة، صرختُ بهم: "أيّة طبيبة؟! المُهم أن أرى ابني"، قالوا: "راجِع الطبيبة أولاً"، دخلتُ على الطبيبة، كلمتني عن المصائب والرضى بالأقدار، ثم قالت: "ولدك به تشوهٌ شديدٌ في عينيه، ويبدو أنه فاقد البصر!!"، خفضتُ رأسي وأنا أُدافع عَبراتي؛ تذكّرتُ ذاك المتسوّل الأعمى الذي أوقعته في السوق وأضحكتُ عليه الناس، سُبحان الله كما تدين تُدان! بقيتُ واجماً قليلاً لا أدري ماذا أقول، ثم تذكرتُ زوجتي وولدي؛ فشكرتُ الطبيبة على لُطفها ومضيتُ لأرى زوجتي. لم تحزن زوجتي؛ كانت مؤمنةً بقضاء الله، راضيةً، ولطالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس، كانت تُردد دائماً "لا تغتب الناس". خرجنا من المُستشفى ومعنا «سالم». في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيراً، اعتبرته غير موجودٍ في المنزل، حين يشتد بُكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها، كانت زوجتي تهتم به كثيراً وتُحبّه كثيراً، أما أنا فلم أكن أكرهه، لكني لم أستطع أن أُحبّه! كبر «سالم» وبدأ يحبو، كانت حبوته غريبةً. قارب عُمره السنة فبدأ يُحاول المشي، فاكتشفنا أنّه أعرج، أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر، أنجبت زوجتي بعده «عُمر» و«خالد». مرّت السنوات وكبر «سالم» وكبر أخواه. كنتُ لا أحب الجلوس في البيت، دائماً مع أصحابي، في الحقيقة كنتُ كاللُعبة في أيديهم، لم تيأس زوجتي من إصلاحي؛ كانت تدعو لي دائماً بالهداية، لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي ل«سالم» واهتمامي بأخويه. كبُر «سالم» وكبُر معه همي، لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى المدارس الخاصة بالمُعاقين، لم أكن أُحس بمرور السنوات، أيّامي كلها مُتشابهةٌ؛ عملٌ ونومٌ وطعامٌ وسهر.

في يوم جمعةٍ -لا أنساه- استيقظتُ الساعة الحادية عشرة صباحاً، ما يزال الوقت مُبكراً بالنسبة لي، كنتُ مدعواً إلى وليمةٍ، لبستُ وتعطّرتُ وهممتُ بالخروج، مررتُ بصالة المنزل، استوقفني منظر «سالم»؛ كان يبكي بحُرقةٍ! إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى «سالم» يبكي منذ كان طفلاً، عشر سنواتٍ مضت، لم ألتفت إليه، حاولتُ أن أتجاهله فلم أحتمل، كنتُ أسمع صوته يُنادي أمه وأنا في الغُرفة، التفتُ ثم اقتربتُ منه، قلتُ: "«سالم»! لماذا تبكي؟!"، حين سمع صوتي توقّف عن البكاء، فلما شعر بقربي بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين، ما بِه يا ترى؟!

اكتشفتُ أنه يُحاول الابتعاد عني!! وكأنه يقول: "الآن أحسستَ بي، أين أنت منذ عشر سنوات؟!"، تبعته، كان قد دخل غُرفته، سألته عن سبب بكائه رفض أن يُخبرني في البداية، حاولتُ التلطف معه؛ فبدأ يُبين لي سبب بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض؛ فقد كان السبب تأخّر أخيه «عُمر» -الذي اعتاد أن يُوصله إلى المسجد- ولأنها صلاة جُمعةٍ خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل، نادى «عُمر»، ونادى والدته، ولكن لا مُجيب؛ فبكى. أخذتُ أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين، لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه، وضعتُ يدي على فمه، وقلتُ: "ألذلك بكيتَ يا «سالم»؟!"، قال: "نعم". نسيتُ أصحابي ونسيتُ الوليمة وقلتُ: "«سالم» لا تحزن، هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟"، قال: "أكيد «عُمر»، لكنه يتأخر دائماً"، قلتُ: "لا، بل أنا سأذهب بك"، دُهش «سالم»، لم يُصدّق، ظنّ أنّي أسخر منه، استعبر ثم بكى، مسحتُ دموعه بيدي، وأمسكتُ يده، أردتُ أن أوصله بالسيّارة، رفض قائلاً: "المسجد قريبٌ، أريد أن أخطو إلى المسجد" إي والله قال لي ذلك. لا أذكر متى كانت آخر مرّةٍ دخلتُ فيها المسجد، لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على ما فرّطتُ فيه طوال السنوات الماضية. كان المسجد مليئاً بالمُصلّين إلاّ أنّي وجدت ل«سالم» مكاناً في الصف الأوّل، استمعنا لخطبة الجُمعة معاً وصلى بجانبي، بل في الحقيقة أنا الذي صليتُ بجانبه، بعد انتهاء الصلاة طلب منّي «سالم» مُصحفاً، استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟! كدتُ أتجاهل طلبه، لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره، ناولته المُصحف، طلب منّي أن أفتح المُصحف على سورة الكهف، أخذتُ أُقلب الصفحات تارةً، وأنظر في الفهرس تارةً، حتى وجدتها، أخذ مني المُصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة وعيناه مُغمضتان، يا الله!! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملةً!! خجلتُ من نفسي، أمسكتُ مُصحفاً؛ أحسستُ برعشةٍ في أوصالي، قرأتُ وقرأتُ، دعوتُ الله أن يغفر لي ويهديني، لم أستطع الاحتمال؛ فبدأتُ أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزالون في المسجد يُصلون السُّنة، خجلتُ منهم، فحاولتُ أن أكتم بكائي، تحول البكاء إلى نشيجٍ وشهيق، لم أشعر إلاّ بيدٍ صغيرةٍ تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي، إنه «سالم»!! ضممته إلى صدري، نظرتُ إليه وقلتُ في نفسي: "لستَ أنت الأعمى، بل أنا الأعمى حين انسقتُ وراء فُساقٍ يجرونني إلى النار، هذا هو (العمى الحقيقي)". عُدنا إلى المنزل، كانت زوجتي قلقةً كثيراً على «سالم»، لكن قلقها تحوّل إلى دموعٍ حين علمت أنّي صلّيتُ الجُمعة مع «سالم». من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعةٍ في المسجد، هجرتُ رُفقاء السُوء، وأصبحت لي رفقةٌ خيّرةٌ عرفتها في المسجد، ذقتُ طعم الإيمان معهم، عرفتُ منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا، لم أفوّت حلقة ذِكرٍ أو صلاة وترٍ، ختمتُ القرآن عدّة مرّاتٍ في شهر، رطّبتُ لساني بالذِكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسُخريتي من النّاس، أحسستُ أنّي أكثر قُرباً من أسرتي، اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تُطل من عيون زوجتي، الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني «سالم»، من يراه يظنّه ملَك الدنيا وما فيها، حمدتُ الله كثيراً على نعمه. ذات يومٍ قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة، تردّدتُ في الذهاب، استخرتُ الله، ثم استشرتُ زوجتي، توقعتُ أنها سترفض لكن حدث العكس! فرحت كثيراً، بل شجّعتني؛ فقد كانت تراني في السابق أُسافر دون استشارتها فسقاً وفُجوراً. توجهتُ إلى «سالم»، أخبرته أني مُسافرٌ، ضمني بذراعيه الصغيرتين مُوّدعاً. تغيّبتُ عن البيت ثلاثة أشهرٍ ونصف، كنتُ خلال تلك الفترة أتصل -كلّما سنحت لي الفرصة- بزوجتي وأحدّث أبنائي، اشتقتُ إليهم كثيراً، آآآه كم اشتقتُ إلى «سالم»!! تمنّيتُ سماع صوته، هو الوحيد الذي لم يُحدّثني منذ سافرت، إمّا أن يكون في المدرسة أو في المسجد ساعة اتصالي بهم، كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه كانت تضحك فرحاً وبِشراً إلاّ آخر مرّةٍ هاتفتها فيها لم أسمع ضحكتها المُعتادة، تغيّر صوتها، قلتُ لها: "أبلغي سلامي ل«سالم»" فقالت: "إن شاء الله" وسكتت. أخيراً عدتُ إلى المنزل، طرقتُ الباب، تمنّيتُ أن يفتح لي «سالم»، لكن فوجئتُ بابني «خالد» الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، حملته بين ذراعي وهو يصرخ: "بابا .. بابا"، لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلتُ البيت، استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، أقبلت إليّ زوجتي، كان وجهها مُتغيراً كأنها تتصنع الفرح، تأمّلتها جيداً ثم سألتها: "ما بكِ؟"، قالت: "لا شيء"، فجأة تذكّرت «سالم»؛ فقلتُ: "أين «سالم»؟، خفضت رأسها، لم تُجب، سقطت دمعاتٌ على خديها، صرختُ بها: "«سالم»، أين «سالم»؟"، لم أسمع حينها سوى صوت ابني «خالد» يقول بلثغته: "بابا .. ثالم لاح الجنّة عند الله"، لم تتحمل زوجتي الموقف، أُجهشت بالبُكاء، كادت أن تسقط على الأرض فخرجت من الغرفة. عرفتُ بعدها أن «سالم» أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين؛ فأخذته زوجتي إلى المُستشفى، فاشتدت عليه الحمى، ولم تفارقه حتى فارقت روحه جسده. مات «سالم» البصير، بعد أن علمني أن (العمى الحقيقي) هو البُعد عن الله والرفقة الطيبة.

 

أحبتي في الله.. هكذا كان «سالم» -رغم صغر سنه وعجزه- سبباً في هداية والده، كأن هذه كانت مهمته في الحياة أداها على أكمل وجهٍ ثم غادر الدُنيا في هدوء. لكنه -رحمه الله- علَّمنا قبل أنْ يُغادر أنّ (العمى الحقيقي) هو عمى القلوب وليس عمى العيون؛ فقد كان -وهو أعمى البصر- بصير القلب. ويُذكرني هذا بقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

يقول المُفسرون لهذه الآية: الأعمى ليس من لا يرى، وإنما هو الذي لا يشعر بالحق الذي يراه، ولا يتدبر الموعظة التي أمامه، فكم من بصيرٍ يرى بعينيه، ولكن قلبه لا يرى شيئاً، وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق دوماً ويتبعه؛ فإذا كان البصر من أكبر النِعم التي يُنعم الله عزَّ وجلَّ بها على الناس، فإن أكبر منها نعمة البصيرة، وهي التي تجعل الإنسان يرى الحق حقاً، والباطل باطلاً، وهي تقود إلى الحق، وتهدي إلى الرُشد.

 

يقول أهل العلم: مَنْ منا لم تزلّ به القدم؟ كلنا -كوالد «سالم»- تزل أقدامنا ونخطئ؛ فالزلل يقع في لحظةٍ يفقد الإنسان فيها بصيرته. والرجوع عن الخطأ والندم عليه وتصحيحه بدايةٌ لعودة النور وانقشاع الظلام، وإلا فقد يطول الظلام ولا ينجلي، فيعيش الإنسان حياته كلها في عمىً وهو مُبصرٌ؛ فلا يذوق لذة البصيرة، ولا يهتدي بنورها، فتنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

لذا فإن (العمى الحقيقي) عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.

 

قال الشاعر:

وَلَيْسَ العَمَىٰ أنْ تَفْقِدَ العَيْنُ نُورَها

وَلَكِّنَهُ نُورُ العُقُولِ إذَا اسْتَتَر

 

أحبتي.. مَن يمتلك البصيرة في حياته فقد امتلك أثمن كنوز الدنيا؛ لأن البصيرة هي التي تقود إلى الخير والرشد والصواب، وتُكسب صاحبها الحكمة والفهم العميق؛ فيصير صاحب درايةٍ ووعيٍ ومشورةٍ، يُفيد نفسه ويستفيد منه غيره.

اللهم كما أنعمتَ علينا بنعمة البصر، أتمم علينا فضلك ومتِّعْنا بنعمة البصيرة، واجعل اللهم قلوبنا مُبصرةً فنصبح من المُهتدين، وزِدْ علينا من نعمك وأفضالك لنكون لغيرنا هادين.

 

https://bit.ly/3NHOiHN