الجمعة، 29 يناير 2021

الخيرة فيما اختاره الله

 

خاطرة الجمعة /276


الجمعة 29 يناير 2021م

(الخيرة فيما اختاره الله)

 

تعطلت إحدى السفن التجارية وهي في عرض البحر من كثرة الحمل الذي فيها فأصبحت مهددةً بالغرق، فاقترح ربانها أن يتم رمي بعض المتاع والبضاعة في البحر ليخفف الحمل على السفينة وتنجو؛ فأجمع التجار الذين يركبون السفينة على أن يتم رمي كامل بضاعة أحدهم لأنها كثيرة، فاعترض هذا التاجر على أن تُرمى بضاعته هو لوحده، واقترح أن يُرمى قسمٌ من بضاعة كل تاجرٍ بالتساوي حتى تتوزع الخسارة على الجميع، ولا تصيب شخصاً واحداً فقط، فثار عليه باقي التجار، ولأنه كان تاجراً جديداً ومستضعفاً تآمروا عليه ورموه في البحر هو وبضاعته وأكملوا طريق سفرهم. ‏أخذت الأمواج تتلاعب بهذا التاجر، وهو موقنٌ بالغرق وخائفٌ، حتى أُغمي عليه، وعندما أفاق وجد أن الأمواج ألقت به على شاطئ جزيرةٍ مجهولةٍ ومهجورة. ما كاد التاجر يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه حتى سقط على ركبتيه وطلب من الله المعونة والمساعدة، وسأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم.

مرت عدة أيام كان التاجر يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياهٍ قريب، وينام في كوخ ٍصغيرٍ بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار.

وفي ذات يومٍ، وبينما كان التاجر يطهو طعامه، هبت ريحٌ قويةٌ وحملت معها بعض أعواد الخشب المشتعلة وفي غفلةٍ منه اشتعل كوخه؛ فحاول إطفاء النار لكنه لم يستطع، فقد التهمت النار الكوخ كله بما فيه. هنا أخذ التاجر يصرخ لماذا يا رب؟ لقد رُميتُ في البحر ظلماً وخسرت بضاعتي، والآن حتى هذا الكوخ الذي يؤويني احترق ولم يتبقَ لي شيءٌ في هذه الدنيا، وأنا غريبٌ في هذا المكان. لماذا يا رب كل هذه المصائب تأتي عليّ؟ ونام التاجر ليلته وهو جائعٌ من شدة الحزن، لكن في الصباح كانت هناك مفاجأةٌ بانتظاره؛ إذ وجد سفينةً تقترب من الجزيرة، وتُنزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه، وعندما صعد التاجر على سطح السفينة لم يصدق نفسه من شدة الفرح، وسأل بحارة السفينة كيف وجدوه وكيف عرفوا مكانه؟ فأجابوه: لقد رأينا دخاناً فعرفنا أن شخصاً ما يطلب النجدة لإنقاذه؛ فجئنا لنرى. وعندما أخبرهم بقصته وكيف أنه رُمي هو وبضاعته من سفينة التجار ظلماً، أخبروه بأن سفينة التجار لم تصل إلى وجهتها وغرقت في البحر! فقد أغار عليها القراصنة وقتلوا كل من فيها وسلبوا بضاعتهم. فسجد التاجر يبكي ويقول: "الحمد لله يا رب، أمرك كله خير".

 

أحبتي في الله .. تذكرني قصة هذا التاجر بقصةٍ ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله، وهي تحكي عن مَلِكٍ كان له وزيرٌ صالحٌ يرضى دائمًا بقضاء الله، فما كان يحدث أمرٌ -خيراً كان أو شرًا- إلا وحمد الله ورضى بقضائه قائلًا: (الخيرة فيما اختاره الله). وذات مرةٍ كان الملك يأكل شيئاً من الفاكهة وجرح السكين إصبعه، فقال الوزير الصالح كلمته المعهودة: (الخيرة فيما اختاره الله)، فغضب الملك كثيرًا لهذا الأمر، وقال: أي خيرةٍ في مكروهٍ أصابني، فقد جرح السكين يدي وسال منها الدم الكثير. وأمر الملك بأن يُجَّرَد الوزير من منصبه ويُزج به في السجن عقابًا له على ما قال. بعد أيامٍ قليلةٍ خرج الملك في رحلة صيدٍ، وأنساه الصيد مرور الوقت فابتعد كثيرًا عن بلده، ودخل في قريةٍ يعبد أصحابها النار، فلما رآه أهل القرية أمسكوا به، وقرروا تقديمه كقربانٍ لألهتهم -وكانت هذه عادةً متبعةً عندهم- ولما جردوه من ملابسه حتى يقذفونه في النار، رأوا الجرح في إصبعه، فاستبعدوه وأخلوا سبيله، لأن من شروط القربان أن يكون سليمًا معافىً ليس به شائبة، واعتبروا الجرح في يده عيبًا ونقصًا فيه لذا تركوه، فعاد إلى بلده وتذكر كلام الوزير أن (الخيرة فيما اختاره الله)؛ فأمر بأن يؤتىَ بالوزير ويُعاد إلى منصبه، ولما رآه قال له: لقد عرفتُ الخيرة فيما حدث لي، وأن الله اختار لي ما يُنجيني من الموت، أما أنت فما هي الخيرة من دخولك السجن؟ فقال الوزير: لو لم أدخل السجن لكنتُ خرجتُ معك في رحلة الصيد، وكنتُ سأكون أنا بديلك في النار؛ فأنا صحيحٌ معافىً، كانوا سيتقربون بي لألهتهم، وأحمد الله أنى كنتُ في السجن حينها، فقد كان سجني خيرةً اختارها الله لحمايتي من الوقوع في مثل هذا الموقف.

 

كما تذكرني قصة ذلك التاجر بما رواه أحد الدعاة المشهورين عن رجلٍ قَدِم إلى المطار، وكان حريصاً على رحلته، ولأنه كان مجهداً فقد أخذته نومةٌ أفاق منها فإذا بالطائرة قد أقلعت، وفيها ركابٌ كثيرون يزيدون على ثلاثمائة راكب، وفاتته الرحلة فضاق صدره وندم ندماً شديداً، ولم تمضِ سوى دقائق على هذه الحال التي هو عليها حتى أُعلن عن سقوط الطائرة، ومقتل جميع من كانوا على متنها!

 

قال أحد الصالحين: "لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَدِ العَطاء مَعَ الإلْحاحِ في الدّعَاءِ مُوجبًَا ليأسِك؛ فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ، وفي الوقْتِ الذي يُريدُ، لا في الوقْت الذي تُريدُ". وعلق على هذا عالمٌ جليلٌ فقال: أي لا يكن تأخر وقت العطاء المطلوب مع المداومة في الدعاء موجبًا ليأسك من إجابة الدعاء ومدعاةً لانقطاع الدعاء؛ فهو سبحانه ضمن لك الإجابة بقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ فإذا دعوتَ الله، وسجدتَ له، واعترفتَ بفقرك وضعفك وحاجتك، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد استجاب لك، ولكن فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، فإنه أعلم منك بما يَصلُح لك، فربما طلبتَ شيئًا كان الأولى منعه عنك، فيكون المنع عين العطاء، فربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك، وكذلك ضمن لك الإجابة في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد؛ فما نحن إلا عبادٌ لله، نثق ونرضي ونصبر على قضائه وقدره.

 

يقول الشاعر:

وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ

فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ

وَكَمْ أمْرٍ تُساءُ بهِ صَباحًا

وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ

إذا ضاقتْ بكَ الأحْوالُ يَومًا

فَثِقْ بِالْواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

وَلاَ تَجْزَعْ إذا ما نابَ خَطْبٌ

فَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفيّ

 

سبحان الله الذي خلق الإنسان ظلوماً حتى لنفسه فقد يكره أمراً خشية أن يكون شراً له وهو في الواقع خيرٌ له، وخَلَقَه عجولاً؛ يستعجل الخير ويحب أمراً يظن أنّ الخير فيه ولا يدري أنّ فيه شراً له؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. وقد يكون الخير كامناً في الشر ونحن لا نعلم؛ يقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

علينا أن نُسلم بأن (الخيرة فيما اختاره الله)؛ فكم من مرةٍ أردنا شيئاً وبذلنا جهدنا للحصول عليه، ومنعه الله عنا فتملكنا الحزن والأسى وأصابنا هَمٌ وغمٌ وظننا أن في المنع ضرراً لنا، ثم تدور الأيام وتكشف لنا أن المنع كان لحكمةٍ ربانيةٍ لم نكن نعلمها، وأنه كان لمصلحتنا، ولو كان ما تمنيناه لأنفسنا تحقق لجلب لنا الأذى من حيث لم نكن نحتسب. كم من مرةٍ حدث هذا معنا فحمدنا الله على ما اختاره لنا، وعرفنا أن (الخيرة فيما اختاره الله) وليس فيما اخترناه لأنفسنا.

 

أحبتي .. الله سبحانه وتعالى علاَّم الغيوب، ويعلم ما هو مقدرٌ لنا في المستقبل، أما نحن كبشرٍ فعاجزون عن معرفة ما يكون بعد طرفة عين، فهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾. ولا ندري فقد يجعل سبحانه من المحنة منحةً، وقد يقلب المَضَّرة لتصير في عاقبتها مَسَّرة. ليس علينا إلا أن نجتهد ونأخذ بالأسباب، ثم نتوكل على الله، ونُسَّلم أمورنا كلها له، ونُحسن الظن به، ونثق في أن اختياره لنا هو الأحسن وهو الأفضل وأن فيه الخير والصلاح والنفع لنا، إن لم يكن في حياتنا وأمور معاشنا ففي ديننا، وإن لم يكن في دنيانا ففي آخرتنا، ونُصدق قوله تعالى: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾؛ فما علينا إلا أن نشكر ونؤمن، ونعتقد اعتقاداً جازماً بأن (الخيرة فيما اختاره الله)، وأنه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أصابَك لم يكُنْ لِيُخْطِئَك، وما أخطَأَك لم يكُنْ لِيُصيبَك].

اللهم اجعلنا ممن يُحسنون الظن بك، واكتب اللهم لنا الخير حيثما كان وأينما كان، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه.

https://bit.ly/2NOHNrR

الجمعة، 22 يناير 2021

نعمة الرضا

 

خاطرة الجمعة /275


الجمعة 22 يناير 2021م

(نعمة الرضا)

 

‏قصتنا اليوم رواها الشيخ محمد متولي الشعراوي، رحمه الله؛ قال:

كنتُ عائداً إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يومٍ من أيّام رمضان فاستوقفني رجلٌ فقيرٌ من الذين يتردّدون على درسي في المسجد تردُّدَ الزائر، فسلّم عليّ بلهفةٍ أدمعت عينيَّ وقال لي: "أستحلفك بوجه الله أن تُفطر عندي اليوم"! يقول الشيخ: عقدتْ لساني لهفته، وطوّقت عنُقي رغبتُه، وأشرق في قلبي وجهٌ استحلفني به؛ فقلتُ له: "يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح"، يقول الشيخ: لكني وجدتُ نفسي أتبعه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظرفه في هذا الوقت الحرج من موعد الإفطار!‏

وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفةٌ ومطبخٌ وفناءٌ صغيرٌ مكشوفٌ على سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب لا يحتمل صعود شخصين، فخشباته تستغيثُ من وهَنٍ خلَّفَهُ بها الفقر والقِدَم. ‏كانت السعادة تملأ قلب الرجل، وعبارات الشكر والامتنان تتدفّق من شفتيه وهو يقول: "هذا البيت مِلكي، والمُلك لله، لا أحد في الدنيا له عندي قرش، انظر يا سيدي، الشمس تُشرق على غرفتي في الصباح، وتغرُب من الجهة الثانية، وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب، والله يا سيدي كأني أسكن في الجنّة". ‏يتابع الشيخ: كل هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذرٍ، وصلنا الغرفة وذهب الرجل إلى زوجته، وسمعتُه يقول لزوجته بصوتٍ خافتٍ: "جهزي الفطور؛ الشيخ سيفطر عندي اليوم"، وصوت زوجته تقول له: "والله، ما عندنا غير فول، ولم يبق على أذان المغرب إلاّ نصف ساعة، ولا شيء عندنا نطبخه". يقول الشيخ: سمعتُ هذا الحوار كله، فلما جاء صاحب الدار قلتُ له: "يا أخي، لي عندك شرطٌ، أنا أفطر مع أذان المغرب على ماءٍ ومعي التمر، ولا آكل إلاّ بعد نصف ساعةٍ من الأذان، بعد ما أهضم التمر والماء، وأصلّي وأُنهي وِرْدي اليومي، ولا آكل إلاّ الفول المدمّس والبطاطس". فقال الرجل: "أمرك". ‏يقول الشيخ: لقد اخترتُ البطاطس لأنها زادُ الفقراء، وأحسبها عندهم. وقد خرجتُ وكلّي سعادةٌ وبهجةٌ، وقد أحببتُ الدنيا من لسان هذا الرجل الذي ما نزلتْ من فمه إلا عباراتُ الثناء والحمد على نِعم الله وعلى هذا البيت الذي ملّكَهُ الله إيّاه، وهذه الحياة الجميلة التي يتغنّى بها. ‏

يقول الشيخ: ثم دُعيت بعد أيامٍ مع مجموعةٍ من الوجهاء على الإفطار عند أحد التجّار، وكان ممن أنعم الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب، وكانت الدعوة في مزرعةٍ فخمةٍ يملكها، فيها ما لذّ وطاب، يتوسّطها منزلٌ أقرب ما يكون للقصر، يُطلُّ على مسبحٍ ومرْبَط خيلٍ فيه نوادر الخيل الأصيلة. ‏أفطرنا عند الرجل وأثناء المغادرة، انفرد بي، وشكى لي من ضيق الحياة وهموم التجارة، وسوء طباع زوجته، وطمع من حوله، وكثرة المصاريف لإرضاء الجميع، وسأَمِه من هذه الحياة، ورغبته بالموت! يقول الشيخ: من باب المنزل، إلى باب سيارتي، سوَّد هذا الرجل الدنيا في عيوني، وأطبق عليَّ صدري وأنفاسي؛ فنظرتُ إلى السماء بعد أن ركبتُ بسيّارتي وأنا أقول في قلبي: الحمد لله على (نعمة الرضا)؛ فليست السعادةُ بكثيرٍ ندفع ثمنه، ولكن السعادةُ حُسنُ صِلَةٍ بالله ورضىً بما قسم لنا عزّ وجل. اللهم اجعلنا من أهل القناعة، وارزقنا إياها يا رب العالمين.

 

أحبتي في الله .. عن (نعمة الرضا) يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾.

 

قالوا عن (نعمة الرضا): "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به"، "الراضي مَن لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها"، "مَن رَضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومَن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ"، "من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له". وهذا أحد الصالحين يوصي ابنه قائلاً: "أوصيك بخصالٍ تُقرِّبك من الله، وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله لا تُشرك به شيئًا، وأن ترضى بقَدَر الله فيما أحببتَ وكرهتَ”. وهذا آخر يوصي غيره فيقول: "إن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبر"، "الرِّضَا آخِرُ التَّوَكُّلِ؛ فَمَنْ رَسَّخَ قَدَمَهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا". وأما عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقد قال: "ما ابتُليتُ ببليةٍ إلا كان لله عليَّ فيها أربعُ نِعم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم أُحرم الرضا، وإذ لم تكن أعظم منها، وإذ رجوتُ الثواب عليها".

 

قال العلماء إن الرّضا نوعان: أحدهما الرّضا بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات برضا وقناعة؛ ففعل الطاعات واجتناب المنهيات وسيلةٌ لنيل رضا الله عزَّ وجلَّ، فإذا أردتَ أن تعرف عند الله مقامك فانظر على أي شيءٍ أقامك؛ فلو أنت مقيمٌ على الرضا فالله راضٍ عنك، ولو أنت مقيمٌ على السخط فالله ساخطٌ عليك، إذا أردتَ أن يرضى الله عنك فارضَ أنت عنه أولاً بالطاعة والعبادة؛ إن فعلتَ ذلك فقد رضي الله عنك.

أما النوع الثّاني فهو الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذّلّ وغير ذلك من نوائب الدهر وصروفه؛ فلن يبلغ العبد مقام الرضا حتى يفرح بالنقمة فرحه بالنعمة.

وقال الشاعر:

تَقَنَّعُ بِما يَكْفيكَ والتَمِسْ الرِّضا

فإنَّكَ لا تَدْري أتُصْبِحُ أمْ تُمْسي

فليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ المالِ إنَّما

يكونُ الغِنَى والفَقْرُ مِنْ قِبَلِ الَّنَفْسِ

 

وعن الأسباب المُعينة على اكتساب الرضا يقول العارفون إن منها: الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق، والاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمةٍ يعلمها، وأن ينظر المرء إلى من هو دونه في أمور الدنيا، والعلم بأن الفقر والغنى ابتلاءٌ وامتحان، وتذكُّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوالٍ وأن متاعها إلى فناء، والاقتداء بأصحاب القناعة والرضا والاطلاع على أحوالهم، والدعاء أن يرزقك الله الرضا، وملازمة طريق الطاعة والبعد عن طريق المعصية.

ويقولون إن من ثمرات الرضا وفوائده في الدنيا والآخرة: تحقيق الغنى الكامل؛ فالغنى في الرضا والقناعة والفقر في السخط والطمع. تذوق حلاوة الإيمان؛ لقول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً]. الرضا سبيلٌ لمغفرة الذنوب؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ]. البشارة بالجنة؛ يقول تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. الفوز برضا الله في الآخرة؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهلَ الجنةِ فيقولونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا]. وتحقيق السعادة؛ فصاحب الرضا يعيش في سعادةٍ وعيشةٍ راضيةٍ يتقلب بين الصبر والشكر، والقوة واليقين، لسانه بين الذكر والحمد، أما الساخط فيكون حاله مُضطربًا، ووضعه مُحزنًا، يتقلَّب بين حُزنٍ وهمٍّ، وبين شقاءٍ وتعبٍ، وغمٍ ونَصَب.

وصَوَّرَ الشاعر حال من حُرم الرضا فقال:

صغيرٌ يطلبُ الكِبرا

وشيخٌ وَدَ لو صَغُرا

وخالٍ يشتهي عملا

وذو عملٍ به ضَجِرا

وربُ المالِ في تعبٍ

وفي تعبٍ مَن افتقرا

وذو الأولادِ مهمومٌ

وطالبهم قد انفطرا

 

وورد في الخبر "إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضى اصطفاه". و(نعمة الرضا) من أفضل نعم الله عزَّ وجلَّ على الإنسان؛ فالرضا -كما يقول أهل العلم- أساسٌ من أُسس كمال الإيمان لا يكتمل إسلام العبد ولا يتذوق طعم الإيمان حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. وقلة الرضا سببٌ لتعاسة الإنسان في هذه الحياة، وسببٌ لهجوم الهموم والغموم عليه. ولا نصل إلى الرضا إلا إذا اعتقدنا بكمال الله سبحانه وتعالى، وبإحسانه إلى عباده، وأن علينا أن نرضى بقضائه؛ لأن حكمه عدلٌ، لا يفعل إلا خيراً وعدلاً، ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له.

والوصول إلى الرضا يكون بمجاهدة النفس على زيادة الإيمان، وتسليم الأمر لله تعالى، حتى يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

 

أحبتي .. من عاش منا راضياً فقد أُوتي نعمةً عظيمةً من نِعَم الله، هي (نعمة الرضا)؛ فليحمد الله عليها، وليحرص على أن تكون ملازمةً له في كل أحواله، يُسره وعُسره، سعادته وشقائه. ومن أحس منا بأنه قليل الرضا، أو أنه يرضى في حالات اليسر والسعادة، ويسخط في حالات العسر والشقاء؛ فليراجع نفسه، فلن يكتمل إيمانه إلا بالتسليم الكامل لمشيئة الله سبحانه وتعالى، وعليه أن يدعو ربه أن يرزقه (نعمة الرضا) ويجاهد نفسه الأمارة بالسوء حتى ترضخ وتقبل وترضى بما قسمه الله له.

هدانا الله جميعاً لما فيه رضاه، فإذا رضي عزَّ وجلَّ أرضانا، وأدهشنا عطاؤه بعد الرضا.

 

https://bit.ly/3pcD7tB

الجمعة، 15 يناير 2021

دعوة المظلوم

 

خاطرة الجمعة /274


الجمعة 15 يناير 2021م

(دعوة المظلوم)

 

وقعت أحداث هذه القصة العجيبة في «العراق» قبل عدة قرون، ولولا أن راويها من المحدثين الثقاة ما كنتُ صدقتُ نهايتها، قال الراوي:

أردتُ أن أسافر من بلدي «الموصل» إلى بلد «سامراء» لشراء بعض البضاعة، وكانت هناك سفنٌ تسير في نهر «دجلة» بين البلدين تنقل الركاب والبضاعة بالأجرة، فركبتُ إحدى هذه السفن، وسرنا في النهر متجهين نحو «سامراء». وكان في السفينة بعض البضاعة ونفرٌ من الرجال لا يتجاوز الخمسة، وكان النهار صحوًا والجو جميلًا، والنهر هادئًا، والربان يحدو حداءً جميلًا، والسفينة تسير على صفحة الماء سيرًا هادئًا، حتى أخذتْ أكثرنا غفوةٌ من النوم، أما أنا فكنتُ أمتَّع ناظري بمناظر الشطآن الجميلة على جانبي النهر، وفجأةً رأيتُ سمكةً كبيرةً تقفز من النهر إلى داخل السفينة؛ فهجمتُ عليها وأمسكتُ بها قبل أن تعود إلى النهر مرةً أخرى. وانتبه الرجال من غفوتهم بسبب الضجة التي حصلت، وعندما رأوا السمكة قال أحدهم: "هذه السمكة أرسلها الله تعالى إلينا، لِمَ لا ننزل بها إلى الشاطئ، فنشويها ونأكلها، وهي كبيرةٌ تكفينا جميعًا"؟ فأعجبنا رأيه، ووافق الربان على ذلك، فمال بنا إلى الشاطئ ونزلنا واتجهنا إلى دَغَلٍ من الشجر لنجمع الحطب ونشوي السمكة. وما أن دخلنا الدَّغَل حتى فوجئنا بمنظرٍ اقشعرت منه جلودنا، فوجئنا برجلٍ مذبوحٍ وإلى جانبه سكينٌ حادةٌ على الأرض، وبرجلٍ آخر مكتوفٍ بحبلٍ قويٍ وحول فمه منديلٌ يمنعه من الكلام والصراخ، فاندهشنا من هذا المنظر؛ فمن قتل القتيل ما دام الرجل مكتوفًا؟ أسرعنا أولًا فحللنا الحبل ورفعنا المنديل من فم الرجل، وكان في أقصى درجات الخوف واليأس، وعندنا تكلم قال: "أرجوكم أن تعطوني قليلًا من الماء أشربه أولًا"، فسقيناه وبعد أن هدأ قليلًا، قال: "كنتُ أنا وهذا الرجل القتيل في القافلة التي تسير من «الموصل» إلى «بغداد»، والظاهر أن هذا القتيل لاحظ أن معي مالًا كثيرًا، فصار يتودد إليّ ويتقرب مني ولا يفارقني إلا قليلًا، حتى نزلتْ القافلة في هذا المكان لتستريح قليلًا، وفي آخر الليل استأنفت القافلة السير، وكنتُ نائمًا فلم أشعر بها، وبعد أن سارت القافلة، استغل هذا الرجل نومي وربطني بالحبل كما رأيتم ووضع حول فمي منديلًا لكي لا أصرخ، وسلب مالي الذي كان معي، ثم رماني إلى الأرض وجلس فوقي يريد أن يذبحني وهو يقول: إن تركتك حيًا فإنك ستلاحقني وتفضحني لذلك لابد من ذبحك. وكان معه سكينٌ حادةٌ يضعها في وسطه، وهي هذه السكين التي ترونها على الأرض، وأراد سحب السكين من وسطه ليذبحني، لكنها علقتْ بحزامه، فصار يعالجها ثم نترها بقوةٍ، وكان حدها إلى أعلى فخرجتْ بقوةٍ واصطدمت بعنقه وقطعت الجلد واللحم والشريان فتدفق الدم منه، وخارت قواه ثم سقط ميتًا، وحتى بعد موته كنت موقنًا بأني سأموت لأن هذا المكان منقطعٌ لا يأتيه أحدٌ إلا قليلًا، فمن يفكني؟ من ينقذني؟ وصرتُ أدعو الله سبحانه وتعالى أن يرسل لي مَن يُنقذني مما أنا فيه، فأنا مظلومٌ ودعاء المظلوم لا يُرد، وإذا بكم تأتون وتنقذونني مما أنا فيه، فما الذي جاء بكم في هذه الساعة إلى هذا المكان المنقطع"؟ فقالوا له: "الذي جاء بنا هو هذه السمكة"، وحكوا له كيف قفزتْ من الماء إلى السفينة، فأتوا بها إلى هذا المكان لكي يشووها ويأكلوها، فتعجب من ذلك وقال: "إن الله سبحانه وتعالى قد أرسل هذه السمكة إليكم لكي يجعلكم تأتون إلى هذا المكان وتخلصونني مما أنا فيه، والآن إنني تعبٌ جدًا، أرجوكم أن تأخذونني إلى أقرب بلدة". فصرفوا النظر عن شي السمكة وأكلها وأخذوا الرجل بعدما حمل معه المال الذي سلبه الرجل الآخر منه، وعادوا به إلى السفينة، وما أن وصلوا السفينة حتى قفزتْ السمكة إلى الماء وعادت إلى النهر مرةً أخرى، فكأنما قد أرسلها الله سبحانه وتعالى حقًا لتكون سببًا في إنقاذ الرجل المظلوم، وهكذا إذا أراد الله تعالى شيئًا هيَّأ أسبابه.

 

أحبتي في الله .. إنها (دعوة المظلوم)؛ يقول الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، قال المفسرون في معنى هذه الآية: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على مَن ظلمه مِن غير أن يعتدي ويتجاوز في الدعاء، وإن صبر فهو خيرٌ له.

وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ]، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ].

قال العلماء إن (دعوة المظلوم) معناها إنه إذا ظلمك أحدٌ فدعوتَ الله عليه استجاب الله دعاءك؛ لأن الله حكمٌ عدلٌ، والمظلوم لابد أن يُنصَف له من الظالم، فالمظلوم دعوته مستجابةٌ، إذا دعا على ظالمه بمثل ما ظلمه أو أقل، أما إن تجاوز فإنه يكون معتدياً فلا يُستجاب له. وقالوا إن أثر (دعوة المظلوم) في حق الظالم قد لا يظهر في الحال، لكون المجيب سبحانه وتعالى حكيماً. كما قالوا إن من عواقب الظلم أن لكل ظالمٍ وإن أجَّل الله عقابه في الحياة الدنيا جزاءٌ يوم الحساب، يأتي به ويأتي بالمظلوم ويُقتص من الظالم شر القصاص، وجزاؤه نار جهنم حيث لا ينفعه مالٌ ولا بنون، فلا يتهاون الإنسان في ظلمه، وإن كان بشيءٍ بسيطٍ لكنه هو عند الله ظلمٌ كبيرٌ للنفس وللغير. كما أن انتشار الظلم سببٌ لهلاك الأمم؛ إذ يصبح الكل مشغولاً بأمر الظالم والمظلوم، الظالم يتمادى ويتكبر، والمظلوم يُصبح مغلوباً على أمره همه الشاغل هو الخلاص مما هو فيه من ظلم، أما نهضة الأمة فتبقى معلّقةً إلى أن يشاء الله ويحكم في الأمر. و(دعوة المظلوم) تعهد الله سبحانه وتعالى بقبولها؛ لأن الله عدلٌ لا يرضى على نفسه الظلم ولا يحبه لعباده. ومن عواقب انتشار الظلم حلول المصائب والبلاء الشديد في الدنيا؛ فالظالم الطاغي المتكبر إن لم يَتُبْ إلى الله ويعترف بذنبه ويُقلع عنه ويرد الحقوق إلى أصحابها، فإن الله يبتليه في ماله وأولاده وصحته، وكل ما يُنعم به عليه، علّه يتعظ ويتوب إلى الله. ورغم كل عواقب الظلم فإن باب التوبة مفتوحٌ للجميع، ولكن على الإنسان أن يلتزم بشروط التوبة النصوح ليعفو الله عنه ويتقبل توبته.

يقول الشاعر:

لا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا

فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَمِ

تَنَامُ عَيْنُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ

يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ

 

وعن تأخر إجابة (دعوة المظلوم) وغيرها مما يدعو به المسلم يقول أحد العلماء: على كل مسلمٍ إذا تأخرت إجابة دعائه أن يعلم أن الله عزَّ وجلَّ حكيمٌ عليمٌ؛ قد يؤخر الإجابة ليكثر دعاؤك، وليكثر إبداء حاجتك إلى ربك، ولتتضرع إليه، وتخشع بين يديه، فيحصل لك بهذا من الخير العظيم والفوائد الكثيرة وصلاح قلبك ورقة قلبك ما هو خيرٌ لك. وقد يؤجل الإجابة، فإذا تأجلت فلا تلم ربك ولا تقل: لماذا يا رب؟! ارجع إلى نفسك وانظر فلعل عندك شيئاً من الذنوب والمعاصي كانت هي السبب في تأخير الإجابة، عليك أن تنظر في أعمالك وسيرتك حتى تُصلح من شأنك؛ فتستقيم على أمر ربك، وتعبده على بصيرةٍ، وتمتثل أوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتقف عند حدوده. ثم اعلم أنه سبحانه قد يؤخر الإجابة لمدةٍ طويلةٍ كما أخر إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف عليه، وهو نبيٌ عليه السلام. وقد يؤخر سبحانه الإجابة ويدخرها لك إلى يوم الحساب، أو يصرف عنك من الشر مثلها؛ كما جاء في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قالوا: يا رسول الله، إذاً نُكثر، قال: [اللَّهُ أَكْثَرُ]، فعليك بحسن الظن بالله، وعليك أن تستمر في الدعاء وتُلح فيه. وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قِيلَ: يَا رسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]، فلا ينبغي لك أن تستحسر، ولا ينبغي لك أن تَدَعْ الدعاء، بل الزم الدعاء واستكثر منه وألح على ربك وتضرع إليه، وحاسب نفسك، واحذر أسباب المنع من المعاصي والسيئات، وتحر أوقات الإجابة كآخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وفي السجود، كل هذه من أسباب الإجابة.

 

أحبتي .. الأصل أن يبتعد كلٌ منا عن الظُلم أياً كان كثيراً أو قليلاً، فلا يَظلِم؛ فإن عاقبة الظلم وخيمة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾، ويقول: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم فيقول: [إيَّاكم والظُّلمَ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ].

فإذا كان أحدنا ظالماً فليبادر إلى التوبة، ويتوقف عن الظلم فوراً، ويرد المظالم إلى أهلها؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ]، وليتقِ الظالم (دعوة المظلوم). كما أن على كلٍ منا ألا يرضى الظلم لغيره، وألا يسكت على ظلمٍ يراه؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم آمراً كل مسلم: [انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلومًا]، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: [تَحْجِزُه، أو تَمْنَعُه مِنَ الظُلْمِ فَإنَّ ذَلِكَ نَصْرُه]، من يعلم؟ قد تكون أنت بنصرك لمظلومٍ كما كانت السمكة لذلك الرجل الذي ذكرناه في قصتنا!

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، وأعِّنا على التوقف عن كل ظلمٍ اقترفناه، ويسِّر لنا أن نمنع الظلم عن أنفسنا وعن غيرنا، وألا نقبل بأن ينتشر بيننا.

اللهم اهدِ الظالمين منا ليتوبوا توبةً نصوحاً ويردوا المظالم إلى أهلها ﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وإن لم يتوبوا وظلوا سادرين في غِيهم فاستجب اللهم لدعوات المظلومين، وأرنا في الظالمين عجائب قدرتك.

https://bit.ly/3oZNPUp

الجمعة، 8 يناير 2021

قصة «بلقيس»

 

خاطرة الجمعة /273


الجمعة 8 يناير 2021م

(قصة «بلقيس»)

 

«بلقيس» شابّةٌ نصرانيةٌ إفريقيةٌ، قدمت من بلادها «النيجر» إلى مدينة «جدة» مع عصابة لتهريب المخدرات تتكون من ثلاثة رجال وامرأتين. تم القبض – ولله الحمد – على هذه العصابة، وصدر الحكم القضائي بالقصاص للرجال الثلاثة، أما المرأتان بلقيس وزميلتها فقد صدر الحكم عليهما بالسجن لمدة عشرين سنة، والتفريق بينهما؛ أُودعت زميلتها في سجن «جدة» أما «بلقيس» فقد أُودعت في سجن «الرياض» لأمرٍ قد قُدِر! في سجن النساء كانت بلقيس تتصف بالعدوانية وسلاطة اللسان، الكل يتحاشاها، فعاشت منبوذةً من الجميع. كانت إدارة السجن تنقلها من مكانٍ إلى آخر عندما تتشاجر مع النزيلات حتى استقر بها المقام في قسم السيريلانكيات إذ أن هذه الجنسية تميل إلى الوداعة والهدوء والحِلم. ومن فضل الله سبحانه أن إدارة التوعية الإسلامية بالسجن قد وفرت كتب التعريف بالإسلام للسجينات بجميع اللغات تقريبًا. وفي يومٍ ما طلبت إحدى السجينات السيريلانكيات النصرانيات من المسؤولة الدينية في السجن كتبًا عن الإسلام بلغتها، وكالعادة تبقى الكتب الدينية مع السجينة يومين أو ثلاثة ثم تُعطى لأخرى وهكذا، لكن هذه السجينة رفضت إعادة الكتب، وبقيت عندها أسبوعًا كاملاً، وهي تقرأ وتعيد وكأن كنوز الأرض بين يديها، جاءت المسؤولة الدينية وطلبت تسليم الكتب، فرفضت للمرة الثانية؛ فما كان من المسؤولة إلا أن أخذت الكتب منها بالقوة. طوال الليل، وبكاء السجينة لا ينقطع، و«بلقيس» تُراقب الحدث، وقد عجبت من بكائها وإصرارها على بقاء الكتب عندها، وجال في خاطرها أنه لابد أن وراء هذه الكتب سرًا! ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾.

في الصباح طلبت «"بلقيس» من المسؤولة الدينية كتبًا عن الإسلام بلغتها؛ قرأت وقرأت وأحست بشعورٍ غريبٍ من الراحة والسعادة، والرغبة القوية في اعتناق الإسلام، تلك النفس الهائجة وجدت سكنًا لحيرتها، وريًّا لروحها المقفرة؛ فكانت المفاجأة!

أعلنت «بلقيس» إسلامها، وغيّرت اسمها القديم إلى هذا الاسم، فرح الجميع لها فرحًا عارمًا. سبحانه إذا أراد أمرًا هيأ له أسبابه! إنه تدبير العليم الحكيم؛ لقد قاد بكاء تلك السجينة السيريلانكية إلى قراءة «بلقيس» لكتب التعريف بالإسلام ثم اعتناقه!

وكَمْ للهِ منْ تدبيرِ أمرٍ

طَوَتْهُ عن المُشاهدةِ الغيوبُ

حدثٌ لا يستطيع القلم أن يسطّره، ولا اللسان أن يصفه. رحلةٌ من ظُلمة الكفر إلى نور الإسلام، من تيهٍ إلى أمان، من موتٍ إلى حياةٍ حقيقيةٍ وجنةٍ عاجلةٍ، تغيّرت طباع «بلقيس» وتحولت من امرأةٍ عدوانيةٍ إلى امرأةٍ مسالمةٍ هادئةٍ؛ فكما قال صلى الله عليه وسلم: [الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ].

التحقت «بلقيس» بمدرسة القرآن الكريم، وحفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم، وحرصت على تعلّم أحكام الدين، ذاقت طعم الحياة الحقيقية، ذاقت طعم السعادة، وصدق الله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وما أجمل ما قال ابن تيمية: المحبوس مَنْ حَبِسَ قلبه عن ربّه، والمأسور من أسره هواه. وقال صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]. لما أنقذ الله سبحانه «بلقيس» من ظلمات الكفر، وقد تجرّعت غصّته، وخاضت وَحْلَه؛ أشفقتْ على غير المسلمات في السجن، فبذلت جهدها في عرض صورة الإسلام وسماحته وعدله ورحمته عليهن، إضافةً إلى أنها تملكُ أُسلوبًا قويًا مؤثرًا جذّابًا؛ فأسلم على يديها الكثير.

قامت إدارة السجن بتكريم للمسلمات الجدُد اللاتي أسلمن على يد «بلقيس»، وداعيةٍ أخرى، عجبتُ من هذه المرأة المسلمة الوديعة كيف كانت عدوانيةً قبل إسلامها كما ذُكر لي، وكيف أصبحتْ الآن بفضل الله ثم بدخولها في هذا الدين العظيم. عجبتُ من سمتها وهديها وبهاء وجهها. ولا غرو؛ فنور الإيمان يُبدّد ظلمات الكفر، ويجلب الفلاح في الدين والدنيا.

وجاء العفو، كان الحكم القضائي على «بلقيس» عشرين عامًا، كانت أوائل سنوات سجنِها جحيمًا لا يُطاق: كفرٌ وضلالٌ، وعدوانيةٌ وظلمٌ ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾. جاء العفو الملكي وشمل «بلقيس» مع بعض السجينات، فقد أُعطيتْ نصف المحكومية عشر سنوات لحسن إسلامها وحفظها ستة أجزاء من القرآن وحُسن خلقها.

عادت «بلقيس» إلى بلادها (النيجر) داعيةً إلى الله، وافتتحت هناك مدرسةً لتحفيظ القرآن الكريم، سبحان مقلّب القلوب، ومُصرّف الأحوال، مدبّر الأمور، يهدي من يشاء بحكمته؛ لبثت في السجن بضع سنين؛ أسلمت وأسلم على يديها الكثير، وحفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم، وتعلمت الكثير من أحكام الدين. يقول تعالى: ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾؛ لقد خرجت «بلقيس» من بلدها نصرانيةً مجرمةً بجريمة تهريب المخدرات، وعادت إلى بلادها مسلمةً وداعيةً إلى الله!

كانت هذه (قصة «بلقيس») نقلتها مختصرةً من كتاب "صالحات عرفتهن" للكاتبة السعودية/ شيخة القاسم.

 

أحبتي في الله .. كفاني التعليق على هذه القصة المؤثرة، ما كتبه أحد العلماء عن أربعة أسباب لاعتناق غير المسلمين للإسلام، كتب يقول: ننظر أحيانًا لكثيرٍ من النعم التي رزقنا الله إياها على كونها أمورًا مسلَّمًا بها، وربما يكون على رأسها إسلامنا، ثم لا يلبث يتذكر بعضنا هذه النعمة ويشكرها حين يسمع قصة أحد المسلمين الجدد، ويحمد الله عليها، فالواقع أننا ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾. بيد أنه من المثير للرثاء من جهةٍ أخرى، أن نجد مسلمين يتغافلون عن تطبيق بعض أحكام الدين، بل وأحيانًا يقومون بشن الهجوم على الأمور التي أدت إلى إسلام الملايين من غير المسلمين حول العالم! إن البحث عن النفس من أكثر الأسباب شيوعًا لإسلام غير المسلمين؛ ويبدو ذلك في رغبة معظمهم معرفة الهدف وراء الحياة، فأسلوب حياتهم المادي في الغرب، والغرق في ملذات الدنيا يبعث في نفوسهم ــ مع الوقت ـ شعورًا بالتعاسة والحيرة، والرغبة في عيش حياةٍ لها معنىً وهدفٌ ورسالة. ومع بحثٍ دؤوبٍ ومستمرٍ، يجد معظمهم هذا في الإسلام. وفي المقابل، نجد كثيرًا من المسلمين، بلا هويةٍ ولا هدفٍ، وحين يلجأ بعضهم للبحث، نراهم يلجأون لفلسفات ومراجع الغرب في النفس والحياة، والتي دحضها الإسلام بدليلٍ مقنعٍ، وجاء بخيرٍ منها. سببٌ آخر هو الطمأنينة عند سماع القرآن؛ ويحدث هذا الأمر مع غير المسلمين بشكلٍ ملحوظٍ سواءً صدفةً أو عمدًا. فبعضهم يقرأ في القرآن خصيصًا ليهاجم به المسلمين، ولكن سرعان ما ينقلب السحر على الساحر، وتكون النتيجة أن يعتنق هذا الشخص الإسلام. والمؤسف في المقابل أن نجد العديد من المسلمين، الذين يحرصون على سماع الأغاني والألحان بصورةٍ يوميةٍ ولوقتٍ طويلٍ، من باب إراحة النفس والبال وتجديد النشاط والفكر! سببٌ ثالثٌ، الصلاة؛ تجد فتاةً أسلمت حين رأت مسلمةً تُصلي، مبررةً ذلك بأنها رغبت هي الأخرى في الصلاة، لتتمكن من الحديث مع الله جلَّ وعلا بصورةٍ مباشرة! كما تجد أحد المسلمين الجدد وقد علق على صلاة الجماعة، بكونها أمرًا خارقًا؛ فما إن يكبر الإمام للصلاة حتى يصبح جميع المصلين مصطفين جنبًا إلى جنبٍ بصورةٍ تلقائيةٍ شديدة التنظيم، وكل هذا في ثوانٍ معدودة! وهنا يتيقن ذك الرجل غير المسلم أنّ هذا الدين الذي يجمع الناس من كافة الطبقات الاجتماعية، ومن مختلف الأجناس والأعراق والألوان، لا ريب أنه دينٌ مميزٌ ورائع! فكان أن أعلن إسلامه. والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه هو: تُرى كم عدد المسلمين الذين ما عادوا يحرصون على أن يكونوا جزءًا من ذلك الصف المُعْجِز؟! أما السبب الرابع فهو حجاب المرأة وإنصاف الإسلام لها؛ إذ أثبتت الكثير من الدراسات والإحصائيات أن العدد الأكبر من معتنقي الإسلام خاصةً في الولايات المتحدة وبريطانيا هم من النساء، وأن الحجاب يُعتبر من الأسباب الرئيسية وراء إسلام الكثير منهن في الغرب؛ حيث يرجع هذا الأمر للاستغلال الذي تتعرض له المرأة، نتيجة العُري والتبرج. وتكمن المشكلة حقيقةً في الكم الهائل من النساء والرجال المسلمين، الذين يُعدون في أحيانٍ كثيرةٍ من الطبقة المثقفة، فيتشدقون بحرية المرأة في الغرب، والكبت الذي تعاني منه المرأة في ظل الدين الإسلامي! حتى إن أحدنا ليجد نفسه عاجزًا عن الرد، لا جهلًا بالجواب، ولكن استخفافًا بعقلية المتكلَّم الرجعية غير العالمة بما تهذي! ونُصدم بحال كثيرٍ من المسلمات في عالمنا العربي اللاتي يهاجمن الحجاب ويصمونه بالرجعية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة النساء والفتيات اللاتي يخلعن الحجاب بعد سنين من ارتدائه دون أية أسباب وجيهة، في الوقت الذي تعاني فيه المسلمات الجدد الأمرَّين في مجتمعاتهن وأوساط عملهن بسبب ارتدائهن للحجاب، ومع ذلك يأبين خلعه!

 

من المؤكد أن (قصة «بلقيس») لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة بإذن الله، فالإسلام ينتشر بين كثيرٍ من الغربيين؛ يقول أحد المختصين إنه ضمن حوالي مائة ألف أوروبي اعتنق الإسلام، نجد مجموعةً من المثقفين، بما يُفيد أن الإسلام لم يعد مقتصراً على الدوائر الضيقة من بعض الفئات الاجتماعية العادية، بل صار يتغلغل داخل أوساط النخبة الغربية المثقفة. فخلال العقود الثلاثة المنصرمة دخل الإسلام العديد من المفكرين والمثقفين من أدباء وفنانين وفلاسفة ومفكرين وأساتذة جامعات وسياسيين، منهم على سبيل المثال: الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، العالم والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، الكاتب النمساوي محمد أسد، الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان، المغني الإنكليزي السابق كات ستيفن «يوسف إسلام»، الداعية الإسكتلندي عبد القادر الصوفي، الكاتبة الأمريكية مريم جميلة، الدبلوماسي الإنكليزي غي إيتون، المستشرق الإنكليزي مارتن لنغز، الباحث البلجيكي عمر فان دنبروك، المحامي الكاتب أحمد ثومسون، الباحثة الإنجليزية هدى خطاب، الكاتبة الإنجليزية عايشة بويلي، الكاتبة الأسترالية جميلة جونز، الأنثروبولوجي الألماني أحمد فون دينفر، أستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ، الكاتبة الأمريكية بربارا براون، الإنكليزية سوزان حنيف، الباحثة الإنكليزية رقية وارث مقصود، الباحث الهولندي هندريك خيل، الكاتبة الهولندية ساجدة عبد الستار، الإعلامي والكاتب الهولندي عبد الواحد فان بومل، وآخرون كثيرون ينتشرون على امتداد القارة الأوروبية. ويُلاحظ أن مجمل هؤلاء يساهمون في تطوير الفكر الإسلامي عموماً من خلال كتاباتهم ومقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم التي يقيمونها ويتحدثون فيها بلغاتهم الأوروبية إلى جمهور أوروبي أو مسلم. ويناقشون ويكتبون في مختلف القضايا والعلوم الإسلامية كالسيرة والحديث والتفسير والسنة والفقه الإسلامي. واللافت أن بعض هؤلاء يعترضون على عبارة “اعتناق” ويفضلون بدلها لفظة العودة إلى الإسلام؛ لأنهم يعتقدون أنهم رجعوا إلى الحالة الإنسانية الأصلية أي الفطرة السليمة؛ فالإنسان يولد على الفطرة السليمة أي الإسلام ولكن البيئة والتربية تجعله يؤمن بدين والديه ومجتمعه.

 

أحبتي .. في الختام، دعونا نشارك أهل العلم الرأي في أنه من الواجب علينا كمسلمين، حين نسمع إحدى قصص المسلمين الجدد، مثل (قصة «بلقيس») أن نضيف إلى شعورنا بالغبطة، ورغبتنا في الشكر والدعاء والحمد على نعمة الإسلام، مرحلة التطبيق العملي؛ من خلال الأمر بالمعروف قولًا، وتطبيق الفرائض فعلًا، كيلا نغدو [غُثَاء كَغُثَاءِ اَلْسَيْل] كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ينتهي معظمنا إلى أن نكون مسلمين بالاسم فحسب!

وعلينا - كما تقول كاتبة (قصة «بلقيس») - ألّا نيأس من هداية أحد، ولا نقنط من روح الله، فالقلوب بيد الله وحده، قال صلى الله عليه وسلم [إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ].

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/38qjgB9

 

الجمعة، 1 يناير 2021

الاشتغال بالدنيا

 

خاطرة الجمعة /272


الجمعة 1 يناير 2021م

(الاشتغال بالدنيا)

 

هذه قصةٌ من أعجب القصص التي سمعتُها في حياتي .. حقيقةً، هذه قصةٌ غريبةٌ ولولا صدق راويها لظننتُ أنها محض خيالٍ، لكنها ظريفةٌ ممتعةٌ، لهذا حكيتها لكم.

هكذا كتب ناشر القصة، واستطرد يقول: يخبرنا الشيخ علي الطنطاوي بأن في هذه القصة من الطرافة أكثر من المنفعة منها، وهي واقعةٌ يعرف أشخاصها وظروفها؛ فقال رحمه الله تعالى:

هي قصة شابٍ فيه تقىً وفيه غفلةٌ، في آنٍ واحد؛ طلبَ العلم، حتى أصاب منه حظاً، قال الشيخ له ولرفاقه: لا تكونوا عالةً على الناس، فإن العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ، فليذهب كل واحدٍ منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتق الله فيها. ذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك ذهب إلى رحمة الله، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ اذهب وتعلم أية صنعةٍ ودعك من صنعة أبيك. فألح عليها وهي تتملَّص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام أخبرته وهي كارهةٌ إن أباه كان لصاً. فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها. قالت الأم بحسرة: ويحك! وهل في السرقة تقوى؟ وكان في الولد ـ كما قلتُ - غفلةٌ، فقال لها: هكذا قال الشيخ. ثم ذهب فسأل وسأل وتابع السؤال ودرس وراقب والتقط الأخبار حتى عرف الطرق والوسائل التي يسرق بها اللصوص، فأعد عدة السرقة، وصلى العشاء، وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ. فبدأ بدار جاره، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطى هذه الدار. ومر بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، واللهُ حذَّر من أكل مال اليتيم. ومازال يمشي حتى وصل إلى دار تاجرٍ غنيٍ ليس له إلا بنتٌ واحدةٌ، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته. فقال: ها هنا، وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل، فوجد داراً واسعةً وغرفاً كثيرةً، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهَّم بأخذه، ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤدِ زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً. وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح يراجع الدفاتر ويحسب ـوكان ماهراً في الحساب خبيراً بإمساك الدفاترـ فأحصى الأموال وحسب زكاتها فأزاح مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعاتٌ، فنظر فإذا هو الفجر، فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولاً وخرج إلى صحن الدار، فتوضَّأ من البِركة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت، فنظر فرأى عجباً، فانوساً مضيئاً، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال والله لا أدري! ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضأْ ثم تقدمْ فصلِّ بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار!! فخاف صاحب الدار أن يكون مع اللص سلاحٌ ففعل ما أمره به، والله أعلم كيف صلى!! فلما قُضيت الصلاة قال له التاجر: أخبرني من أنت وما شأنك؟ قال: لص. قال: وما تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تُخرجها من ست سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصاريفها. فكاد الرجل يُجَنُّ من العجب، وقال له: ويلك، ما خبرك؟ هل أنت مجنون؟ فأخبره خبره كله. فلما سمعه التاجر ورأى جمال صورته وضبط حسابه، ذهب إلى امرأته فكلمها، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوجتك ابنتي وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأمك في داري، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبلُ. وأصبح الصباح فدُعي بالمأذون وبالشهود وعُقد العقد!

يقول الشيخ: وهذه قصةٌ واقعيةٌ ليت للكثير فقه هذا اللص دون غفلته، فالمشكلة أن للكثيرين الغفلة من غير تقوى، والله مصيبة!

 

أحبتي في الله .. إلى جانب ما في هذه القصة من طرافةٍ، فإن بها معنىً جميلاً لخصته عبارة الشيخ حينما قال: "العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ"؛ ذلك أن همه صار الانشغال و(الاشتغال بالدنيا) والركون إليها كما لو كانت هي الحياة، والله سبحانه وتعالى ينبهنا في غير موضعٍ إلى عكس ذلك تماماً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، وفي وقت الندم يوم الحساب يقول المقصر: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ فالآخرة هي الحياة الأزلية الدائمة ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

و"العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ" لأنه اعتمد في أمر معيشته على أبناء الدنيا، يدور في فلكهم، ويواكب هواهم، فيفقد استقلاليته وينتقص من كرامته، ويصبح من الصعب عليه أن يقول قولة حقٍ. يصير خوفه من انقطاع رزقه من أبناء الدنيا أكبر من خوفه من انقطاع صلته برب الدنيا وما فيها! يسعى لتأمين رزقه، وينسى -أو يتناسى- أن يؤمن نفسه مع الرزاق ذو القوة المتين! يهتم برضا الناس في كل لحظةٍ أما رب الناس فهو غفورٌ رحيم! ولو أن العالِم التقي الورع اعتمد في كسب معاشه على نفسه لصار نزيهاً لا تحركه المصالح ولا الأهواء، ولتغير حال أمتنا؛ فبصلاح العلماء يكون صلاح الأمة كلها.

 

بالطبع؛ ليس كل عالِم يعمل في وظيفة يتقاضى عنها أجراً هو من هذا النوع الذي أشرنا إليه، لكن البعض -وإن كانوا قلةً- يسعى لدنيا يصيبها؛ فيفقد استقلاليته وحريته وقدرته على التعبير والتغيير، وقد يكون سبباً في فساد الكثيرين من العامة. بعض هؤلاء العلماء يتم شراؤه بمنصب، وبعضهم بمرتبٍ عالٍ وبدلات وعلاوات، وبعضهم كل أمله أن يحصل على رضا المسئولين ونظرة عطفٍ منهم، وربما أصبح غاية مناه أن يسمع ممن يعمل لديهم أو لحسابهم مجرد كلمة ثناءٍ عليه. هذا النوع من العلماء مد يده إلى أبناء الدنيا، باع كرامته وفقد مصداقيته حين صارت الدنيا هي شغله الشاغل وربط مصلحته الدنيوية بمصالح غيره من البشر على حساب الأنفة وعزة النفس التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء حتى يستطيعوا أن يقولوا كلمة الحق لا يمنعهم عنها سلطانٌ جائرٌ ولا يخافون في الله لومة لائم.

العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ؛ لأنه الأكثر علماً والأفضل فهماً والأعلى مقاماً من غيره؛ يسمع العامة لكلامه ويتبعونه، ويتلمسون أفعاله وتصرفاته لتكون قدوةً لهم، من هنا كانت مسئوليته أشد وحسابه أدق.

 

وماذا عنا نحن، المسلمون العاديون ونحن لسنا علماء، هل يتوجب علينا ترك الدنيا بالكلية؟ هل ينبغي علينا عدم (الاشتغال بالدنيا)؟ قرأتُ تعليقاً كتبه أحد الأفاضل فيه إجابةٌ عن هذا السؤال جاء فيه: (الاشتغال بالدنيا) من أسباب مرض القلوب، عندما يكون هذا الاشتغال مقدماً على الدين؛ فنحن لا نقول الدنيا حرام، ولا نقول للناس لا تبنوا بيوتاً ولا تشتروا سياراتٍ ولا تتزوجوا، هذا لا يقوله أحدٌ من العلماء، وإنما نقول: يا أيها المسلمون أعدوا العدة للقاء الله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾. أترضى أخي المسلم أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زادٍ؟ فما هو زادك عند الله عزَّ وجلَّ؟ إن غلبة الانصراف إلى الدنيا، وإعطاؤها كل الاهتمام والساعات الطويلة ليل نهار، وجعل دقائق معدودةً للدين، هذا من أسباب مرض القلوب -والعياذ بالله- وحين يُصبح القلب مريضاً، تجد صاحبه لا يرتاح للذكر في المجالس، يريد أن تحدثه عن العقار، عن البيع والشراء، عن الشركات السياحية، عن الصرافة، عن الأسعار، عن الأشجار، وعن الأخبار، لكن الدين لا يريدك أن تحدثه عنه، وهذا من غفلة القلب ومن الإقفال عليه ومن إعراضه عن مولاه سبحانه وتعالى؛ يقول تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.

يقول أهل العلم إن طريق الدنيا والآخرة طريقٌ واحد، وأن طريق العبد المؤمن في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة، فلا تعارض بين الدنيا والآخرة؛ إن مسألة الكسب وتحصيل المال لإنفاقه على النفس وسد الحاجة مطلبٌ شرعيٌ، وليست قضيةً دنيويةً مجردةً، إذ يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة أجرٌ وثوابٌ في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.

مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ] وفي الحديث فضل الغرس، والزرع، والحض على عمارة الأرض.

لقد قدم لنا الصحابة رضي الله عنهم نموذجاً عملياً للجمع بين الدنيا والآخرة، كانوا في قمة الدِين، وكانوا يُحصِّلون الدنيا في ذات الوقت.

والنية أمرٌ في منتهى الأهمية هنا؛ فلو أن تاجراً يقصد بتجارته وجه الله، لا الأشر ولا البطر، ولا التفاخر، ولا التكاثر، ويقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والإنفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله، يكون قد أصاب خيري الدنيا والآخرة. بل إن الإنسان إذا لم ينوِ بعمله الدنيوي وجه الله، فإنه يفقد أجراً عظيماً كان يمكنه تحصيله لو أنه احتسب الأجر على أعمال الدنيا وأراد بطعامه ونومه وإتيانه اللذات المباحة التقَوّي على أعمال الآخرة.

الفارق في الموضوع هو النية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ].

والآيات التالية تلخص هذا الأمر بوضوح؛ يقول تعالى: ﴿.. فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

 

أحبتي .. (الاشتغال بالدنيا) ليس خطأً في حد ذاته، إنما الخطأ أن تشغلنا الدنيا عن الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. إنه الفهم الصحيح للحياة، والموازنة الدقيقة بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة، وعقد النية بإخلاصٍ على أن تكون أعمالنا للدنيا سبيلاً إلى رضا الله سبحانه وتعالى، واعتبار الدنيا مزرعةً للآخرة.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا وقرارنا. اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.

 

https://bit.ly/3mYL0kw

الجمعة، 25 ديسمبر 2020

إِلْف النعم

 

خاطرة الجمعة /271


الجمعة 25 ديسمبر 2020م

(إِلْف النعم)

 

حكى لي أحد أقاربي -وكان يشغل منصباً عسكرياً كبيراً- فقال: كنتُ أتردد على موسكو زمن الاتحاد السوڤييتي للتدريب وكنتُ أجيد اللغة الروسية، وكان امتلاك مصحفٍ في ذلك الزمن جُرماً يُعاقَب عليه المسلم بالإعدام، كما كان يُمنع دخول المصحف مع المسافرين القادمين من الخارج إلا إذا كان للاستعمال الشخصي، ويُسجَل على جواز السفر لضمان أن يرجع مع صاحبه، لكني بحكم منصبي العسكري كنتُ آخذ معي عدة مصاحف أغلفها بورقٍ على أنها قواميس لغةٍ وأموهها.

في أحد الأيام دخلتُ إلى أحد الأسواق بموسكو فرأيتُ رجلاً، يبدو من شكله أنه قوقازيٌ بلحيته الخفيفة الطويلة، وواضحٌ أنه فلاحٌ بسيطٌ يبيع الملفوف "الكرمب"، فشعرتُ بانجذابٍ كبيرٍ للحديث معه! ولما جلستُ قبالته قلتُ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فتلفتْ الرجل يميناً وشمالاً ثم رد السلام بخوفٍ وحذرٍ ممزوجان بفرحٍ وسعادةٍ ما رأيتها في وجه غيره! سألني: هل أنت مسلم؟ قلتُ: نعم، وسألته: هل عندك قرآن؟ فتعوَّذ وبسمَّل ثم قرأ بخشوعٍ سورة الإخلاص والمعوذتين! قلتُ له: أقصد هل لديك مصحف؟ قال: لا، ثم سألني: هل عندك أنت؟ قلتُ: نعم، حجم وسط، وأخرجتُ المصحف من جيبي؛ فأشار إليّ أن خبئه! ثم مد يده إلى إحدى ثمرات الملفوف الكبيرة وضربها بأصابع يده بحركةٍ تشبه حركات الكاراتيه ففتح فيها حفرةً عميقةً ثم حسَّنها بالسكين، وأخذ المصحف وأدخله فيها ثم سد الفتحة بأوراقها وغطاها بثيابه! قلتُ: عندي عدد كذا، قال: موعدنا غداً بإذن الله! في اليوم التالي أحضرتُ المصاحف، ووجدتُ بجانب الرجل -بعدد المصاحف- رجالٌ أمام كل واحدٍ منهم ملفوفةٌ منقورةٌ؛ فأخذوا مني المصاحف وخبأوها في الملفوف وهم يشكرونني، ولا يعلم إلا الله عزَّ وجلَّ مدى سعادتهم.

بكيتُ كثيراً وحمدتُ الله ورجوته أن يبارك لي في أجرها، ثم صرتُ أحضر له مصاحف من الحجم الكبير في كل مرةٍ أحضر فيها. اللهم لك الحمد على كل نعمك وآلائك.

 

أحبتي في الله .. هل استشعرتم النعمة التي تعيشون فيها؟ معكم مصاحفكم تحملونها في كل مكانٍ دون خوف، وتقرأون فيها علانيةً في وسائل النقل العام بغير وَجَل!

للأسف؛ لأننا ألفنا وجود المصحف معنا دون أية مشاكل، فقدنا الإحساس بأن مجرد وجوده معنا نعمةٌ كبيرةٌ تستوجب الشكر لله سبحانه وتعالى، على الأقل في كل مرةٍ نخرج فيها مصحفنا من جيبنا أو حقيبتنا ونحن آمنون من أي عقابٍ؛ لا نخاف حكماً بالإعدام!

لماذا لا نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة؟ لأننا -ببساطة- ألفناها وتعودنا عليها، حتى صارت أمراً اعتيادياً مألوفاً، وهكذا الحال مع كثيرٍ من نعم المولى عزَّ وجلَّ؛ توالي الليل والنهار على سبيل المثال، يكاد كثيرٌ من الناس لا يُحسون بأن ذلك نعمةٌ من الله تستوجب الشكر، مع مطلع الشمس كل يومٍ ومع غروبها، لا لسببٍ إلا (إلف النعم) والتعود عليها؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.

وكذلك الحال مع العديد من النعم الربانية؛ كتغير الفصول، وهطول المطر، وزراعة الأرض، وهبوب الريح، ووجود السماء والهواء والبحار والأنهار والأنعام المسخرة للإنسان، وغير ذلك كثيرٌ وكثيرٌ وكثيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. ألفنا وجود هذه النعم لاستمرارها وتكرارها وانتظامها، حتى كدنا لا نستشعر أنها نعمٌ تستوجب الشكر حتى تدوم، فبالشكر تدوم النعم.

 

يقول العلماء إن (إِلْف النعم) آفةٌ خطيرةٌ تصيب الناس؛ فالإنسان قد يألف النعمة التي أنعمها الله تعالى عليه بحيث لا يعود يشعر بها ولا يؤدي حقها وهو شكر الله تعالى وحمده على نعمه. كما فعل كفّار قريش الذين ألفوا رحلتا الشتاء والصيف وغاب عنهم أن الله هو الذي سهّل لهم هاتين الرحلتين ومهّد الطريق ووفّر التجارة وأنعم عليهم بنعمة الأمن وعدم الجوع والفقر؛ يقول تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾.

 

إن (إِلْف النعم) وتعوّدها مرضٌ خفيٌ إذا أصابنا أفقدنا بركة القليل وزيادة الكثير، والضمان والكفيل لحفظ هذه النعم وزيادتها إنما هو شكرها؛ يقول تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، والشكر يتجاوز النطق باللسان فكم من شاكرٍ لسانه ومنطق قلبه وحاله في نكرانٍ وجحود، بل يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ المرء مرحلة من العتو والبطر والجحود ألا يستشعر أساساً بالنعم التي أمده الله بها ابتداءً، وما ذلك إلا لأنها صارت جزءاً روتينياً في حياته اعتادها ومن شدة اعتيادها فَقَدَ الشعور بوجودها.

أعجبني قول أحدهم: إن اعتيادنا على النعم وملازمتها لنا بشكلٍ دائمٍ أوقعنا في إشكالين؛ الأول: أننا ألفنا هذه النعم وصارت جزءاً أصيلاً من حياتنا لشدة اعتيادنا عليها وملازمتها لنا ملازمة جلودنا لأجسامنا وأنفاسنا لصدورنا وكأننا أوتينا ميثاقاً غليظاً على دوامها، فما تألفه وتعتاد عليه عادةً يؤدي إلى الغفلة عن عظيم الفضل علينا، فلا نتذكره إلا بفقدانه ومكابدة الحياة بغيابه، وقتها ندرك الهوة والفرق بين وجوده وعدمه. الإشكال الثاني: أننا بتنا نشعر باستحقاقنا لهذه النعم وكأنه حقٌ لنا نكتسبه من الله سبحانه وتعالى لا تفضلاً ومَنّاً منه تعالى علينا ابتداءً، وهذا يؤدي إلى البطر وعدم الشكر والنكران والجحود، بل وعدم استخدام هذه النعم في الوجهة الصحيحة وفق مراد الله تعالى.

ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؛ فها هو يداوم على حمد الله على نعمةٍ تتجدد كل يومٍ فيقول وقت الاستيقاظ من النوم: [الحَمْدُ لله الذِي أحْيَانا بَعْدَمَا أمَاتَنَا، وإلَيْهِ النَشُور]، ويقول: [الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ].

 

يقول الشاعر:

أأَقْدِرُ شُكْرَ ربِّي أن اُكِنَّهْ

وشُكْرُ العَبْدِ من مولاهُ مِنَّهْ؟!

فإمَّا يهْدِني لِلشُّكْرِ ربِّي

فإنِّي ما حييتُ لأشْكُرَنَّهْ

فكيفَ أضِنُّ عنهُ وقال رَبِّي:

لئِنْ شكرَ العُبَيْدُ لأُعْطِيَنَّهْ!

 

أحبتي .. كم من نعمٍ كنا نتقلب بها آناء الليل وأطراف النهار، ما أدركنا عِظَمها إلا عندما فقدناها. نعمٌ كالصحة، والعمل، ووجود الأم والأب، والزوجة الصالحة، والأبناء البررة، والسكن المريح، والأمن، وغيرها نعمٌ تستوجب أن نحمد الله ليل نهار على وجودها؛ سواءً في ذلك ما يستجد منها، أو المتجدد مهما تكرر وانتظم وأصبح مألوفاً لنا، إن لم نستشعر هذه النعم، ونشكر المولى عزَّ وجلَّ عليها، فقد تضيع منا، أما إذا وفقنا الله إلى شكره فقد هدانا إلى طريق صيانة النعم والحفاظ عليها وزيادتها وطرح البركة فيها؛ ألا يستحق الله الخالق المنعم الشكر منا ليل نهار؟

اللهم ألهمنا رشدنا، واجعلنا ممن لا يغفلون عن خطورة (إِلْف النعم) بأن نكون من الشاكرين الحامدين، لكل نعمةٍ وكل فضلٍ، وتقبل اللهم الشكر والحمد منا قبولاً حسناً.

 

https://bit.ly/2WMKOu1

 

الجمعة، 18 ديسمبر 2020

بركة اتباع السُنة

 

خاطرة الجمعة /270


الجمعة 18 ديسمبر 2020م

(بركة اتباع السُنة)

 

كتب يقول: قبل أن أشتري سيارة كان يقابلني أحد جيراني في المنطقة بسيارته فيوصلني بالرغم من عدم وجود علاقةٍ بيننا، وفي كل مرةٍ يقول لي: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ، فَلْيعُدْ بِهِ عَلَى منْ لا ظَهر لَهُ، ومَنْ كانَ لَهُ فَضلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا زَادَ لَهُ]». وفي مرةٍ سألته: «هل تفعل ذلك دائماً؟»، فقال: «منذ سمعتُ هذا الحديث قلتُ سأجعله باباً لي من أبواب الخير»، ثم قال: «وسأخبرك ببركة هذا الأمر؛ نجاني الله من حوادث موتٍ محققٍ، وأنا أعتقد أن ذلك بفضل العمل بهذا الحديث. وفي مرةٍ مررتُ بأزمةٍ شديدةٍ كادت تدمر حياتي، لم تقدر كل علاقاتي على مساعدتي فيها. مرت عليّ الأيام لا آكل ولا أنام ولا أتحدث إلى أهل بيتي، وفي يومٍ كنتُ عائداً من المزرعة، وكنت دائماً وأنا راجعٌ أوصل امرأةً عجوزاً تبيع الجبن على الطريق، في وقت خروجي تكون قد انتهت وتتأهب للعودة إلى منزلها، فآخذ منها الطبق الذي تبيع فيه وأضعه في شنطة السيارة، وأوصلها إلى مبتغاها. في ذلك اليوم لاحظتْ العجوز أنني كئيبٌ على غير العادة، ودار هذا الحوار:

-مالك يا ابني؟

-عندي كربٌ شديدٌ يا أمي، ما لم ينتهِ اليوم سأضيع.

فتحركتْ العجوز إلى الأمام، ونظرتْ من زجاج السيارة الأمامي إلى السماء وقالت: "يارب تفكله كربه اليوم .. واللهِ لتفكله كربه"! هزني الموقف، وكدتُ أقول لها: "كيف تتكلمين مع الله هكذا؟!"، ثم تذكرتُ سريعاً حديث [رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ]، من ساعتها انشرح صدري وكأن شيئاً لم يكن؛ عدتُ إلى البيت أضحك وأمزح وأكلتُ مع أسرتي فسألتني زوجتي: "هل من جديد؟"، فقلتُ: "لا، لكني متأكدٌ من أن الله لن يضيعني"، وبعد منتصف الليل اتصل بي أحد الأصدقاء الذين كانوا يسعون في حل المشكلة بلا فائدة، وأخبرني أنه قضى لي حاجتي وحُلت المشكلة».

 

 

‏ أحبتي في الله .. هذه (بركة اتباع السُنة) المشرفة؛ رجلٌ تَعلَّم حديثاً واحداً، وعَمِل به بإخلاصٍ فلم يتأخر ثوابه، فيالها من بركةٍ، ويا له من ثوابٍ في الدنيا، ثم الأجر في الآخرة بإذن الله. وما زال بعض المسلمين -للأسف- بعيدين عن سُنن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، رغم أن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، كما يقول: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  [لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ لاَ نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام:[أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبعَان عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيكُم بِهَذَا القُرآنِ، فَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلاَّ مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ، أَلاَ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ؛ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ ..]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ .. فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ..].

 

يقول أهل العلم إن السُنة هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وهي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم. وتأتي السنة موافقةً لما في القرآن، وتأتي مُقيدةً لمطلقه، ومُخصصةً لعمومه، ومُفسرةً لمجمله، وناسخةً لحكمه، ومُنشئةً لحكمٍ جديد؛ ومن ذلك بيان المجمل في الكتاب العزيز، كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر الأحكام، وزيادة حكمٍ على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله تعالى، يقتضي تصديقه في كل ما يُخبر به، وطاعته في كل ما يأمر به. ولا بد من التنبه إلى أن الفرق بين الأحاديث الشريفة وبين آيات القرآن الكريم يكمن في أن القرآن كلام الله تعالى، نزل بلفظه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأحاديث الشريفة فقد لا تكون من كلام الله تعالى، بل من وحيه فقط، ثم لا يلزم أن تأتي بلفظها، بل بالمعنى والمضمون. إن التمسك بالسنة النبوية أمرٌ حثنا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأمرنا بالتمسك به وعدم التفريط فيه؛ فهو سفينة النجاة وبر الأمان، وحين يكثر الشر والفساد، وتظهر البدع والفتن، يكون أجر التمسك بالسنة أعظم، ومنزلة أصحاب السُنة أعلى وأكرم، وتعمنا جميعاً وتشملنا (بركة اتباع السُنة).

وبعض السنن من الواجبات، وبعضها من المستحبات، وقد تكون من الآداب والأخلاق، فعلى المسلم أن يعمل بكل سُنةٍ يستطيعها؛ احتساباً للأجر وطلباً للثواب، وكلما سمع حديثاً فإنه يسارع إلى تطبيقه، ويحرص على العمل به، ويحرص أن يكون في جميع أعماله وعباداته متبعاً السُنة حتى تكون أعماله مقبولةً عند الله تعالى.

 

أحبتي .. ليبدأ كل واحدٍ منا، ولو بحديثٍ شريفٍ واحدٍ من أحاديث المعاملات؛ فيتبسم في وجه أخيه، أو يُفشي السلام على من يعرف ومن لا يعرف، أو يُميط الأذى عن الطريق، أو يصل رحمه ولو قطعوه، أو يربت على رأس يتيم، أو يتصدق على فقير، أو يمشي في حاجة غيره، أو غير ذلك من الأمور، ينوي بذلك التمسك بسُنة النبي عليه الصلاة والسلام، مع الحرص على عدم المراءاة أو التفاخر أو المن أو العُجب بالنفس. إذا فعل كل واحدٍ منا ذلك، واستمر على الالتزام بما ورد في حديثٍ شريفٍ واحدٍ سهل عليه أن يزيد من مساحة التزامه بتطبيق حديثٍ آخر ثم حديثٍ آخر وهكذا حتى يصل إلى أقصى حدود استطاعته؛ فيُثاب ثواباً عظيماً، ويُضاعَف له أجره، ويحظى برضا الله سبحانه وتعالى، وينال (بركة اتباع السُنة).

تخيلوا معي أحبتي لو أن كل مسلمٍ طبق حديثاً نبوياً واحداً، ماذا سيكون حال أمتنا الإسلامية؟ ولو طبق أكثر من حديث ألن نكون أفضل؟ وماذا لو طبقنا جميعاً أحاديث رسولنا الكريم كلها؟ ثم ماذا لو أن كلاً منا طبق آيةً قرآنيةً أو عدة آيات؟ كيف سيكون وضع المسلمين لو التزموا جميعاً بتطبيق الشريعة والأحكام والتوجيهات الواردة بالقرآن والسُنة؟ سيعود المسلمون مرةً أخرى إلى مراكز الصدارة، وتعود حضارتهم التي بُنيت على التمسك بالشريعة السمحاء وتطبيق أحكامها، والتي جعلتهم خير أمةٍ أُخرجت للناس، لن تنالنا فقط (بركة اتباع السُنة) بل بركاتٍ لا تنتهي من الله سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾.

فليكن القرآن الكريم هادينا ومرشدنا، والسُنة الشريفة منهجنا، ورسولنا المصطفى قدوتنا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون أعمالنا مقبولةً عنده، إنه سميعٌ مجيب.

 

https://bit.ly/2IZOy83