الجمعة، 4 نوفمبر 2022

العمى الحقيقي

 

خاطرة الجمعة /368


الجمعة 4 نوفمبر 2022م

(العمى الحقيقي)

 

يقول صاحب القصة: لم أكن جاوزتُ الثلاثين من عُمري حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي، ما زلتُ أذكر تلك الليلة؛ بقيتُ إلى آخر الليل مع شّلة أصدقائي في إحدى الاستراحات، كانت سهرةً مليئةً بالكلام الفارغ والغيبة والنميمة والتعليقات المُحرمة، كنتُ أنا الذي أتولى في الغالب إضحاك الشلة، وأغتاب الناس، وأصدقائي يضحكون. أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً؛ كنتُ أمتلك موهبةً عجيبةً في التقليد، وكان بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تُصبح قريبةً من الشخص الذي أسخر منه، أجل؛ كنتُ أسخر من هذا وذاك، لم يسلم مني أحدٌ، حتى أصحابي، صار البعض منهم يتجنّبني كي يسلم من لساني. أذكر أني -في تلك الليلة- سخرتُ من رجلٍ أعمى رأيته يتسوّل في السّوق، والأدهى أنّي وضعتُ قدمي أمامه فتعثّر وسقط وأخذ يتلفت برأسه لا يدري ما يفعل، وانطلقت ضحكتي تُدوي في السّوق.

عدتُ إلى بيتي متأخراً -كالعادة- وجدتُ زوجتي في انتظاري، كانت في حالةٍ يُرثى لها، قالت بصوتٍ مُتهدجٍ: "«راشد»، أين كنتَ؟"، قلتُ ساخراً: "في المريخ، عند أصحابي بالطبع"، كان الإعياء ظاهراً عليها، قالت والعَبرة تخنقها: "«راشد»، أنا تعبةٌ جداً؛ يبدو أن موعد ولادتي صار وشيكاً"، وسقطت دمعةٌ صامتةٌ على خدها. أحسستُ أنّي أهملتُ زوجتي، كان المفروض أن أهتم بها، وأُقلّل من سهراتي، خاصةً أنّها في شهرها التاسع، حملتها إلى المُستشفى بسرعةٍ، فأدخلوها غُرفة الولادة، ظلت تُقاسي الآلام ساعاتٍ طوال. كنتُ أنتظر ولادتها بفارغ الصبر، تعسرت ولادتها، كنتُ قد انتظرتُ طويلاً حتى تعبتُ، فذهبتُ إلى البيت، وتركتُ رقم هاتفي لديهم في المُستشفى ليبشروني. بعد ساعةٍ اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم «سالم». ذهبتُ إلى المُستشفى فوراً، عندما رأوني أسأل عن غُرفة زوجتي طلبوا منّي مُراجعة الطبيبة التي أشرفت على الولادة، صرختُ بهم: "أيّة طبيبة؟! المُهم أن أرى ابني"، قالوا: "راجِع الطبيبة أولاً"، دخلتُ على الطبيبة، كلمتني عن المصائب والرضى بالأقدار، ثم قالت: "ولدك به تشوهٌ شديدٌ في عينيه، ويبدو أنه فاقد البصر!!"، خفضتُ رأسي وأنا أُدافع عَبراتي؛ تذكّرتُ ذاك المتسوّل الأعمى الذي أوقعته في السوق وأضحكتُ عليه الناس، سُبحان الله كما تدين تُدان! بقيتُ واجماً قليلاً لا أدري ماذا أقول، ثم تذكرتُ زوجتي وولدي؛ فشكرتُ الطبيبة على لُطفها ومضيتُ لأرى زوجتي. لم تحزن زوجتي؛ كانت مؤمنةً بقضاء الله، راضيةً، ولطالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس، كانت تُردد دائماً "لا تغتب الناس". خرجنا من المُستشفى ومعنا «سالم». في الحقيقة لم أكن أهتم به كثيراً، اعتبرته غير موجودٍ في المنزل، حين يشتد بُكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها، كانت زوجتي تهتم به كثيراً وتُحبّه كثيراً، أما أنا فلم أكن أكرهه، لكني لم أستطع أن أُحبّه! كبر «سالم» وبدأ يحبو، كانت حبوته غريبةً. قارب عُمره السنة فبدأ يُحاول المشي، فاكتشفنا أنّه أعرج، أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر، أنجبت زوجتي بعده «عُمر» و«خالد». مرّت السنوات وكبر «سالم» وكبر أخواه. كنتُ لا أحب الجلوس في البيت، دائماً مع أصحابي، في الحقيقة كنتُ كاللُعبة في أيديهم، لم تيأس زوجتي من إصلاحي؛ كانت تدعو لي دائماً بالهداية، لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة، لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي ل«سالم» واهتمامي بأخويه. كبُر «سالم» وكبُر معه همي، لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى المدارس الخاصة بالمُعاقين، لم أكن أُحس بمرور السنوات، أيّامي كلها مُتشابهةٌ؛ عملٌ ونومٌ وطعامٌ وسهر.

في يوم جمعةٍ -لا أنساه- استيقظتُ الساعة الحادية عشرة صباحاً، ما يزال الوقت مُبكراً بالنسبة لي، كنتُ مدعواً إلى وليمةٍ، لبستُ وتعطّرتُ وهممتُ بالخروج، مررتُ بصالة المنزل، استوقفني منظر «سالم»؛ كان يبكي بحُرقةٍ! إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى «سالم» يبكي منذ كان طفلاً، عشر سنواتٍ مضت، لم ألتفت إليه، حاولتُ أن أتجاهله فلم أحتمل، كنتُ أسمع صوته يُنادي أمه وأنا في الغُرفة، التفتُ ثم اقتربتُ منه، قلتُ: "«سالم»! لماذا تبكي؟!"، حين سمع صوتي توقّف عن البكاء، فلما شعر بقربي بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين، ما بِه يا ترى؟!

اكتشفتُ أنه يُحاول الابتعاد عني!! وكأنه يقول: "الآن أحسستَ بي، أين أنت منذ عشر سنوات؟!"، تبعته، كان قد دخل غُرفته، سألته عن سبب بكائه رفض أن يُخبرني في البداية، حاولتُ التلطف معه؛ فبدأ يُبين لي سبب بكائه، وأنا أستمع إليه وأنتفض؛ فقد كان السبب تأخّر أخيه «عُمر» -الذي اعتاد أن يُوصله إلى المسجد- ولأنها صلاة جُمعةٍ خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل، نادى «عُمر»، ونادى والدته، ولكن لا مُجيب؛ فبكى. أخذتُ أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين، لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه، وضعتُ يدي على فمه، وقلتُ: "ألذلك بكيتَ يا «سالم»؟!"، قال: "نعم". نسيتُ أصحابي ونسيتُ الوليمة وقلتُ: "«سالم» لا تحزن، هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟"، قال: "أكيد «عُمر»، لكنه يتأخر دائماً"، قلتُ: "لا، بل أنا سأذهب بك"، دُهش «سالم»، لم يُصدّق، ظنّ أنّي أسخر منه، استعبر ثم بكى، مسحتُ دموعه بيدي، وأمسكتُ يده، أردتُ أن أوصله بالسيّارة، رفض قائلاً: "المسجد قريبٌ، أريد أن أخطو إلى المسجد" إي والله قال لي ذلك. لا أذكر متى كانت آخر مرّةٍ دخلتُ فيها المسجد، لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والنّدم على ما فرّطتُ فيه طوال السنوات الماضية. كان المسجد مليئاً بالمُصلّين إلاّ أنّي وجدت ل«سالم» مكاناً في الصف الأوّل، استمعنا لخطبة الجُمعة معاً وصلى بجانبي، بل في الحقيقة أنا الذي صليتُ بجانبه، بعد انتهاء الصلاة طلب منّي «سالم» مُصحفاً، استغربت!! كيف سيقرأ وهو أعمى؟! كدتُ أتجاهل طلبه، لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره، ناولته المُصحف، طلب منّي أن أفتح المُصحف على سورة الكهف، أخذتُ أُقلب الصفحات تارةً، وأنظر في الفهرس تارةً، حتى وجدتها، أخذ مني المُصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة وعيناه مُغمضتان، يا الله!! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملةً!! خجلتُ من نفسي، أمسكتُ مُصحفاً؛ أحسستُ برعشةٍ في أوصالي، قرأتُ وقرأتُ، دعوتُ الله أن يغفر لي ويهديني، لم أستطع الاحتمال؛ فبدأتُ أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزالون في المسجد يُصلون السُّنة، خجلتُ منهم، فحاولتُ أن أكتم بكائي، تحول البكاء إلى نشيجٍ وشهيق، لم أشعر إلاّ بيدٍ صغيرةٍ تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي، إنه «سالم»!! ضممته إلى صدري، نظرتُ إليه وقلتُ في نفسي: "لستَ أنت الأعمى، بل أنا الأعمى حين انسقتُ وراء فُساقٍ يجرونني إلى النار، هذا هو (العمى الحقيقي)". عُدنا إلى المنزل، كانت زوجتي قلقةً كثيراً على «سالم»، لكن قلقها تحوّل إلى دموعٍ حين علمت أنّي صلّيتُ الجُمعة مع «سالم». من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعةٍ في المسجد، هجرتُ رُفقاء السُوء، وأصبحت لي رفقةٌ خيّرةٌ عرفتها في المسجد، ذقتُ طعم الإيمان معهم، عرفتُ منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا، لم أفوّت حلقة ذِكرٍ أو صلاة وترٍ، ختمتُ القرآن عدّة مرّاتٍ في شهر، رطّبتُ لساني بالذِكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسُخريتي من النّاس، أحسستُ أنّي أكثر قُرباً من أسرتي، اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تُطل من عيون زوجتي، الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني «سالم»، من يراه يظنّه ملَك الدنيا وما فيها، حمدتُ الله كثيراً على نعمه. ذات يومٍ قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى إحدى المناطق البعيدة للدعوة، تردّدتُ في الذهاب، استخرتُ الله، ثم استشرتُ زوجتي، توقعتُ أنها سترفض لكن حدث العكس! فرحت كثيراً، بل شجّعتني؛ فقد كانت تراني في السابق أُسافر دون استشارتها فسقاً وفُجوراً. توجهتُ إلى «سالم»، أخبرته أني مُسافرٌ، ضمني بذراعيه الصغيرتين مُوّدعاً. تغيّبتُ عن البيت ثلاثة أشهرٍ ونصف، كنتُ خلال تلك الفترة أتصل -كلّما سنحت لي الفرصة- بزوجتي وأحدّث أبنائي، اشتقتُ إليهم كثيراً، آآآه كم اشتقتُ إلى «سالم»!! تمنّيتُ سماع صوته، هو الوحيد الذي لم يُحدّثني منذ سافرت، إمّا أن يكون في المدرسة أو في المسجد ساعة اتصالي بهم، كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه كانت تضحك فرحاً وبِشراً إلاّ آخر مرّةٍ هاتفتها فيها لم أسمع ضحكتها المُعتادة، تغيّر صوتها، قلتُ لها: "أبلغي سلامي ل«سالم»" فقالت: "إن شاء الله" وسكتت. أخيراً عدتُ إلى المنزل، طرقتُ الباب، تمنّيتُ أن يفتح لي «سالم»، لكن فوجئتُ بابني «خالد» الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، حملته بين ذراعي وهو يصرخ: "بابا .. بابا"، لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلتُ البيت، استعذتُ بالله من الشيطان الرجيم، أقبلت إليّ زوجتي، كان وجهها مُتغيراً كأنها تتصنع الفرح، تأمّلتها جيداً ثم سألتها: "ما بكِ؟"، قالت: "لا شيء"، فجأة تذكّرت «سالم»؛ فقلتُ: "أين «سالم»؟، خفضت رأسها، لم تُجب، سقطت دمعاتٌ على خديها، صرختُ بها: "«سالم»، أين «سالم»؟"، لم أسمع حينها سوى صوت ابني «خالد» يقول بلثغته: "بابا .. ثالم لاح الجنّة عند الله"، لم تتحمل زوجتي الموقف، أُجهشت بالبُكاء، كادت أن تسقط على الأرض فخرجت من الغرفة. عرفتُ بعدها أن «سالم» أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين؛ فأخذته زوجتي إلى المُستشفى، فاشتدت عليه الحمى، ولم تفارقه حتى فارقت روحه جسده. مات «سالم» البصير، بعد أن علمني أن (العمى الحقيقي) هو البُعد عن الله والرفقة الطيبة.

 

أحبتي في الله.. هكذا كان «سالم» -رغم صغر سنه وعجزه- سبباً في هداية والده، كأن هذه كانت مهمته في الحياة أداها على أكمل وجهٍ ثم غادر الدُنيا في هدوء. لكنه -رحمه الله- علَّمنا قبل أنْ يُغادر أنّ (العمى الحقيقي) هو عمى القلوب وليس عمى العيون؛ فقد كان -وهو أعمى البصر- بصير القلب. ويُذكرني هذا بقول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.

يقول المُفسرون لهذه الآية: الأعمى ليس من لا يرى، وإنما هو الذي لا يشعر بالحق الذي يراه، ولا يتدبر الموعظة التي أمامه، فكم من بصيرٍ يرى بعينيه، ولكن قلبه لا يرى شيئاً، وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق دوماً ويتبعه؛ فإذا كان البصر من أكبر النِعم التي يُنعم الله عزَّ وجلَّ بها على الناس، فإن أكبر منها نعمة البصيرة، وهي التي تجعل الإنسان يرى الحق حقاً، والباطل باطلاً، وهي تقود إلى الحق، وتهدي إلى الرُشد.

 

يقول أهل العلم: مَنْ منا لم تزلّ به القدم؟ كلنا -كوالد «سالم»- تزل أقدامنا ونخطئ؛ فالزلل يقع في لحظةٍ يفقد الإنسان فيها بصيرته. والرجوع عن الخطأ والندم عليه وتصحيحه بدايةٌ لعودة النور وانقشاع الظلام، وإلا فقد يطول الظلام ولا ينجلي، فيعيش الإنسان حياته كلها في عمىً وهو مُبصرٌ؛ فلا يذوق لذة البصيرة، ولا يهتدي بنورها، فتنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾.

لذا فإن (العمى الحقيقي) عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.

 

قال الشاعر:

وَلَيْسَ العَمَىٰ أنْ تَفْقِدَ العَيْنُ نُورَها

وَلَكِّنَهُ نُورُ العُقُولِ إذَا اسْتَتَر

 

أحبتي.. مَن يمتلك البصيرة في حياته فقد امتلك أثمن كنوز الدنيا؛ لأن البصيرة هي التي تقود إلى الخير والرشد والصواب، وتُكسب صاحبها الحكمة والفهم العميق؛ فيصير صاحب درايةٍ ووعيٍ ومشورةٍ، يُفيد نفسه ويستفيد منه غيره.

اللهم كما أنعمتَ علينا بنعمة البصر، أتمم علينا فضلك ومتِّعْنا بنعمة البصيرة، واجعل اللهم قلوبنا مُبصرةً فنصبح من المُهتدين، وزِدْ علينا من نعمك وأفضالك لنكون لغيرنا هادين.

 

https://bit.ly/3NHOiHN

الجمعة، 28 أكتوبر 2022

إرشاد الضالين

 

خاطرة الجمعة /367


الجمعة 28 أكتوبر 2022م

(إرشاد الضالين)

 

هذه القصة من ألمانيا، نشرها مصريٌ مُقيمٌ هناك مُنذ فترةٍ طويلةٍ، كتب يقول: في محطة القطار في مدينة ميونخ الألمانية، والوقت متأخرٌ ليلاً، والطقس باردٌ، قطعتُ تذكرةً للسفر إلى مدينة فريدريشهافن حيث يُقام معرضٌ لآلات البلاستيك كنتُ أخطط لزيارته، وإذا بالموظف في الشباك الثاني لقطع التذاكر يسألني إن كنتُ أعرف لغة المسافر الذي يتحدث معه لأشرح له كيفية السفر إلى المكان المطلوب، المُسافر كان من مواطني إحدى دول الخليج العربي، وكان يُريد أن يُتابع سفره إلى مدينة فرانكفورت للعلاج -على ما أذكر- ولم يكن هناك في هذا الوقت المتأخر قطارٌ يذهب مباشرةً إلى فرانكفورت؛ فكان عليه أن يُبدّل القطار مرتين في محطتين مُختلفتين ليصل إلى هدفه، وكانت هذه أول مرةٍ يُسافر فيها إلى ألمانيا، وهو لا يتكلم أية لغةٍ أجنبية. حاولتُ أن أشرح له سريعاً كيفية الوصول، لكن تعابير وجهه لم تكن تدل على أنه استوعب ذلك؛ فأحضرتُ ورقةً وكتبتُ له باللغة العربية اسم البلدة الأولى ووقت الوصول وأنّ عليه النزول سريعاً إلى المحطة ليلحق بالقطار المطلوب، ثم يفعل ذلك مرةً ثانيةً في البلدة التالية حيث كتبتُ اسمها ووقت الوصول إليها وأخبرته بأن عليه النزول سريعاً ليلحق بالقطار الثاني المتجه إلى فرانكفورت، وكتبتُ الترجمة بالألمانية تحت كل جملةٍ ليُعلَم معناها ِويُرشَد من قِبَل من يقرأها إلى الوجهة المطلوبة، ثم رافقته إلى الرصيف الذي يركب منه القطار، وصعدتُ معه إلى القطار، وتابعته إلى أن جلس في مقعده، وتكلمتُ إلى جليسٍ ألمانيٍ بقُربه ووعدني أن يُرشده للوجهة الأولى، لوّحتُ له مودعاً وتمنيتُ له سلامة الوصول.

انتبهتُ لنفسي ونظرتُ إلى تذكرتي فوجدتُ نفسي على رصيفٍ غير الذي يجب أن أكون عليه لأركب قطاري، وقد مضت خمس دقائق على توقيت القطار المطلوب؛ فركضتُ مُسرعاً إلى الرصيف فإذا بالقطار كأنه ينتظرني وهو على أهبة السير، وقد كُتب على اللوحة الإلكترونية "تأخير خمس دقائق"، صعدتُ لاهثاً وانطلق القطار فور صعودي إليه! فحمدتُ الله كثيراً. وصلتُ إلى وجهتي مُنتصف الليل، وأخذتُ سيارة أُجرةٍ فسار بي سائقها قليلاً للخروج من محطة القطار، ثم سألني عن وجهتي، فأجبته: "إلى أي فُندقٍ في المدينة"، فتوقف فجأةً وقال: "أعتذر منك؛ فالفنادق كلها مشغولةٌ منذ الساعة العاشرة؛ بسبب وجود معرضٍ بالمدينة، ولا يوجد مكانٌ واحدٌ شاغرٌ فتفضل بالنزول"، قلتُ: "إلى أين أذهب في هذه الساعة وفي هذا الطقس البارد؟"، فرّق لحالي ثم اتصل عبر جهازه اللاسلكي بمكتب سيارات الأُجرة الذي يوجهه وقال للموظفة التي ردت عليه: "معي راكبٌ يُريد فندقاً"، فأجابت بعصبيةٍ: "ألم أقل لك مِراراً إنه لا توجد شواغر في الفنادق كلها!"، في هذه الثانية سمعنا صوت رنين الهاتف الداخلي بمكتبها فأجابت عليه، ثم قالت للسائق انطلق إلى فندق "الدولاب الذهبي"، فإن نزيلاً اعتذر عن الحضور وحجزتُ للراكب الذي معك المكان؛ أعطني اسمه"، وإذا بالسائق يقول مُتعجباً: "انغلوبليش انغلوبليش" بمعنى لا أصدق! لا أصدق! فقد كان مُندهشاً لهذا التوقيت العجيب ولا يجد له تفسيراً! وصلتُ الفندق فحيّاني موظف الاستقبال وقد كُتبت على لوحةٍ أمامه عبارة: "لا توجد أماكن شاغرة"، وقال لي: "أنت محظوظٌ؛ العشرات ينتظرون مكاناً شاغراً". استلمتُ الغُرفة ونظرتُ من شُرفتها التي تُطل على البُحيرة ومناظرها الخلابة وأضوائها الهادئة، وسُكونها المُريح فانحدرت دمعاتٌ رقيقةٌ من عينيّ وحدثتُ نفسي: "قطارٌ بمئات الركاب يتأخر لأجل راكب! وغُرفةٌ مُميزةٌ في فندقٍ مُميزٍ تُحجز في توقيتٍ مُعجزٍ في الدقة لفردٍ مُعينٍ دون العشرات! كل هذا الكرم يا رب مِن أجل الوقوف على رصيف محطةٍ لمُساعدة إنسانٍ تائه؟! ما أكرمك ربي، اللهم لك الحمد والشكر".

 

أحبتي في الله.. إنها بركة عملٍ من أعمال الخير لا يُكلف الإنسان مالاً ولا كثير جُهدٍ، ألا وهو (إرشاد الضالين). لم يتأخر الثواب عن فاعل الخير؛ وإنما أتى فور انتهاء عمل الخير؛ ألم يقل سُبحانه وتعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾؟ وأليس هو -عزّ وجلّ- القائل: ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾؟ لقد نال فاعل الخير أجره في الدنيا، أما أجر الآخرة فمدخرٌ له إلى يوم الحساب.

وهذا العمل حقٌ من حقوق الطريق، قال عليه الصلاة والسلام حين سُئل عن حق الطريق: [حَقُّ الطَّرِيقِ: أَنْ تَرُدَّ السَّلامَ، وَتَغُضَّ الْبَصَرَ، وَتَكُفَّ الأَذَى، وَتَهْدِيَ الضَّالَّ، وَتُعِينَ الْمَلْهُوفَ]. كما قال: [إِيَّاكُمْ والجُلوسَ في الصُّعُدَاءِ، وفي روايةٍ: الطُرقِ، فإنْ كنتُمْ لابُدَ فَاعِلِينَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حقَّهُ] قيل: وما حَقُّهُ؟ قال: [غَضُّ البَصَرِ، ورَدُّ السلامِ، وإِرْشَادُ الضَّالِّ].

ورغم أن إرشاد وتوجيه الغير إلى مكانٍ يودون الوصول إليه يبدو عملاً بسيطاً، إلا أن ثوابه عند الله سُبحانه وتعالى عظيم؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرقٍ، أَوْ مَنِيحَةَ لَبَنٍ، أَوْ هَدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ كَعِدْلِ رَقَبَةٍ]. وَقَالَ مَرَّةً: [كَعِتْقِ رَقَبَةٍ]. "مَنْ مَنَحَ"، أي: أعطى. "مَنِيحَةَ وَرِقٍ": أي قرضٍ مِن فِضَّةٍ. "مَنِيحَةَ لَبَنٍ": أي ناقةً أو شاةً تُدِرُّ لبَنًا فيُنتفَعُ به، ثمَّ يردها إلى صاحبِها بعد ذلك، "أو هَدَى زُقَاقًا": أي أرشَدَ الضَّالَّ أو الأعمى إلى الطَّريقِ. "الزُقَاق": هو الطريق. وهداية التائه والغريب والضال إلى الطريق، ومُساعدة الكفيف على عبوره تُعد من الصدقات؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وهِدايتُكَ الطريقَ صَدَقةٌ]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [وهدايتُكَ الرَّجُلَ في أرضِ الضَّالَّةِ صدَقةٌ].

 

إن كان هذا هو أجر وثواب (إرشاد الضالين) ومُساعدة شخصٍ لا يعرف طريقه، أو لا يستدل على مكانٍ يود الذهاب إليه، أو الأخذ بيد كفيفٍ لا يُبصر، فما بالنا بالأجر والثواب الذي يناله من يُرشد غيره إلى طريقٍ أهم؛ طريق الخير وسبيل الرشاد المُوَصِّل إلى مرضاة الله والفوز بجنته برحمته سُبحانه وتعالى؟

قال أهل العلم إن مِن أعظم الأعمال أجراً وثواباً الدعوة إلى طريق ربِّ العالَمين، و(إرشاد الضالين) وهداية الحائرين؛ لأجل هذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: [فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. {المقصود بحُمْرُ النَّعَمِ هي: أجود الإبل وأحسنها، وهي الإبل الحمراء وكانت أعجب وأنفس الأموال وأحبها إلى العرب}.

 إنها لتجارةٌ رابحةٌ أن تأخذَ أجراً لأنك كنتَ سبباً في هداية غيرك؛ فكلُّ ما يعملونه مِن خيرٍ يُكتَب لك أجره، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ويستمر ذلك الأجر لك باستمرار أعمالهم وأعمال من يُرشدونهم إلى يوم القيامة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا. ومن سنَّ سُنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده، لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن دَلَّ علَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]؛ فدعوة الغير إلى طريق الحق لها ثوابٌ عظيمٌ يغفل عنه الكثير مِنا. لقد قصَّرنا في دعوةِ غير المُسلمين للإسلام، وفي دعوة بعضنا بعضاً إلى الخير، و(إرشاد الضالين)، وظنَّ البعض أن الدعوة إلى الله ونشرَ سُنة النبي صلى الله عليه وسلم واجبٌ على الدعاة فقط، وغفلوا عن أن تبليغ دعوةِ الإسلام واجبٌ على كلِ مُسلمٍ، كلٌّ حسَبَ قدرته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً]، ومن أفضل أساليب الدعوة وأكثرها تأثيراً الدعوة بالقدوة؛ بأن يكون المُسلم بأخلاقه وأقواله وسلوكه ومعاملاته مثالاً يقتدي به غيره.

ومُخطِئٌ مَن يتوهَّم أنه يجبُ عليه ألا يَدُلَّ الناس على خيرٍ لا يفعله، بل العاقل اللبيب هو الذي يجتهد قدرَ استطاعته في فعل الطاعات والواجبات والمُستحبَّات، ويدعو غيرَه إلى ذلك، حتى وإن قصَّر هو في العملِ أحياناً، فعليه ألا يُقصّر في الدعوة.

 

أحبتي.. يقول تعالى حاثاً الناس على المُسارعة إلى عمل الخير والتسابق فيه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾؛ فلنحرص دائماً على (إرشاد الضالين) ودلالة الآخرين على المكان الذي يُريدون الوصول له لنحصل على الأجر والثواب في الدُنيا والآخرة، ولو استطعنا أن نوصلهم إلى ذلك المكان بأنفسنا لكان أفضل.

والأهم من ذلك هو دعوة غير المُسلمين للدخول في الإسلام، و(إرشاد الضالين) من المُسلمين للعودة إلى الطريق المُستقيم وتصويب مسارهم لنلتقي كلنا جميعاً في جنات الفردوس ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

 

https://bit.ly/3NdHq4M

 

الجمعة، 21 أكتوبر 2022

إيجابية المسلم

 

خاطرة الجمعة /366


الجمعة 21 أكتوبر 2022م

(إيجابية المسلم)

 

 

في حِقبة الثلاثينات من القرن الماضي، أي قبل حوالي تسعين عاماً، التحق طالبٌ جديدٌ بكُلية الزراعة في إحدى الجامعات المصرية، وعندما حان وقت الصلاة بحث عن مكانٍ ليُصلي فيه؛ فأخبروه أنه لا يوجد مكانٌ مُخصصٌ في الكُلية للصلاة، إنما توجد غرفةٌ صغيرةٌ في القبو تحت الأرض يُصلي فيها من يريد! ذهب الطالب وهو في قمة الذهول والاستغراب من العاملين بالكُلية ومن طلابها لعدم اهتمامهم بموضوع الصلاة، وتساءل تُرى هل هُم يصلون أم لا؟! دخل الغرفة فوجدها صغيرةً ضيقةً غير مرتبةٍ ولا نظيفة، مفروشةً بحصيرٍ قديمٍ، ووجد فيها عاملاً يُصلي وحده، فسأله: "هل تُصلي هنا دائماً؟"، فأجاب العامل: "نعم، لا أحد غيري يُصلي، ولا يوجد مكانٌ للصلاة في الكُلية سوى هذه الغرفة"، فقال الطالب مُعترضاً: "أما أنا فلن أُصلي في هذا المكان تحت الأرض"، وخرج من القبو إلى الأعلى، وبحث عن أكثر مكانٍ واضحٍ في الكُلية ووقف وأذّن للصلاة بأعلى صوته!

تفاجأ الطلاب بما حدث؛ وأخذوا يضحكون على هذا الطالب الجديد ويُشيرون إليه بأيديهم، واتهمه بعضهم بالدروشة والجنون، غير أنه لم يبالِ بذلك، جلس قليلاً ثم نهض وأقام الصلاة وبدأ يُصلي وكأنه لا يوجد أحدٌ حوله، صلى وحده. استمر هذا الحال من ضحك الطلاب واستهزائهم عدة أيام.. بعدها قَلّ ضحكهم عليه وكأنهم اعتادوا على ما يفعله كل يوم، ثم اختفى صوت ضحكاتهم وتندرهم عليه، ثم حصل تغييرٌ صغيرٌ؛ إذ خرج العامل الذي كان يُصلي في القبو للصلاة معه جماعةً، ثم أصبحوا أربعةً، وبعد أسبوعٍ صلى معهم أحد أساتذة الكُلية!

انتشر الموضوع وكثر الكلام عنه في جميع أرجاء الكُلية؛ فاستدعاه عميدها وقال له: "لا يجوز أن يحدث هذا؛ أنتم تُصلون في وسط الكُلية! بدلاً من ذلك سنبني لكم مسجداً عبارة عن غرفةٍ نظيفةٍ مُرتبةٍ يُصلي فيها من يشاء في أوقات الصلاة"، وهكذا بُني أول مسجدٍ في كُليةٍ جامعيةٍ بمصر. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ أن طلاب باقي الكُليات أحسوا بالغيرة وقالوا: "لماذا لا يكون لدينا مسجدٌ مثل مسجد كُلية الزراعة؟"؛ فبُني مسجدٌ في كل كُليةٍ من كُليات الجامعة.

 

أحبتي في الله.. لا أحد يذكر الآن اسم ذلك الطالب، ولا أحد يعلم إن كان حياً أم ميتاً، لكن المؤكد أنه يأخذ كل يومٍ حسناتٍ، ويكسب ثواباً عن كل مسجدٍ بُني في جامعات مصر يُصلى فيه ويُذكر اسم الله، كما أنّ له أجراً مستمراً متزايداً عن كل من يُصلي في تلك المساجد من الطلاب والإداريين والعمال والأساتذة، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. لقد كان هذا الطالب مثالاً على (إيجابية المسلم)؛ فتصرفه بإيجابيةٍ في هذا الموقف كانت له نتيجةٌ أعظم بكثيرٍ مما كان يتوقع، لقد جعل بإيجابيته لنفسه أثراً باقياً خالداً إلى ما شاء الله، وأضاف للحياة معنىً مُتميزاً.

 

وليس بعيداً عن معنى هذه القصة ما يُروى عن ملكٍ في غابر الأزمان، أراد أن يختبر شعبه؛ فأمر جنوده بوضع صخرةٍ كبيرةٍ في إحدى الطُرق المُهمّة التي تمرّ منها قوافل التجّار ويرتادها الكثير من الناس، ثمّ توارى خلف بعض الأشجار في مكانٍ قريبٍ مُختبأً ليرى ما إن كان أحدٌ من الناس سيقوم بإزالة الصخرة. مرّ عددٌ كبيرٌ من الناس من الطريق، لم يُبعدوا الصخرة وفضلوا العبور من حولها، فيما أبدى بعضهم تذمّره وانزعاجه من ملك البلاد الذي لم يقم بمتابعة طُرق مملكته وإصلاحها، لكن ما من أحدٍ منهم كان إيجابياً وأخذ زمام المبادرة وحاول إزاحة الصخرة. بعد مرور عدة ساعاتٍ، ظهر فلاّحٌ بسيطٌ يحمل سلالاً من الخضار على ظهره، وما إن وصل إلى حيث الصخرة الكبيرة، حتى وضع حمولته جانباً، وراح يدفع الصخرة بأقصى قوّته محاولاً إبعادها؛ فنجح في ذلك بعد جهدٍ كبير. عاد الفلاح إلى سلاله ليحملها، لكنه فوجئ بوجود كيسٍ قُماشيٍ مُلقىً في المكان الذي كانت الصخرة فيه، فالتقطه بيده وفتحه؛ فإذا به يمتلأ بالدنانير الذهبية! اندهش وعيناه لا تكادان تُصدّقان ما يرى، ثم رأى مع الدنانير بداخل الكيس ورقةً صغيرةً مطويةً، فتحها وقرأ ما فيها: “هذا الكيس هديةٌ مني -أنا ملك البلاد- للشخص الذي يُبعد الصخرة عن الطريق”.

العبرة المُستفادة: كل عقبةٍ نواجهها في حياتنا هي فرصةٌ لنا لتحسين ظروفنا، وفي الوقت الذي يكتفي فيه الكُسالى بالتذمر والشكوى، لا يُفوت الأشخاص الإيجابيون هذه الفرصة جيّداً ليقوموا بمُساعدة الغير.

 

يقول العلماء إن المسلم إنسانٌ إيجابيٌ يكره السلبية، ويسعى إلى إصلاح الكون بكل ما يستطيع؛ لأنه يُدرك أن (إيجابية المسلم) هي الروح التي تدبُّ في الأفراد فتجعل لهم قيمةً في الحياة، وتدب في المُجتمع فتجعله مُجتمعاً نابضاً بالحياة، وهي جماع عدة فضائل: من أمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر، وبرٍّ ووفاءٍ وصدقِ عهدٍ مع الله سُبحانه وتعالى. أما الإيجابية فهي تعني الاستجابة والتلبية، والطاعة والمسارعة إلى الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. والإيجابية حالةٌ في النفس تجعل صاحبها مهموماً دائماً بأمرٍ ما، ويرى أنه مسئولٌ عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهداً في العمل له والسعي من أجله. والإيجابية تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء. والشخص الإيجابي هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه. إنه شخصٌ لا يهدأ له بال، ولا تَنطفِئ له جَذوة، ولا يكلُّ ولا يملُّ؛ حتى يُحقِّق هدفه الذي يَسعى إليه وغايتَه المنشودة.

لقد جاء القرآن الكريم ليغرس الفضائل في نفوس المؤمنين ويشحذ الهمم إلى معالي الأمور وينهى عن السلبية، ويحض على (إيجابية المسلم)؛ يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

وفي السُنة المشرفة حثٌ على الإيجابية والمبادرة وعدم الركون للسلبية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه].

 

طريق الإيجابية لا يبدأ إلا بالمبادرة؛ قال الشاعر:

بادرِ الفرصة َواحذر فوتَها

فَبُلُوغُ الْعِزِّ في نَيْلِ الْفُرَصْ

فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ

بادرَ الصيدَ معَ الفجرِ قنصْ

ولنا في النملة عبرةٌ؛ فقد كانت نموذجاً يُقتدى به في المُبادرة والإيجابية، فرغم أنها كائنٌ ضعيفٌ لا يأبه به الإنسان، إلا أن الله سُبحانه وتعالى سمى سورةً في القرآن الكريم باسمها، وأورد إلينا قصتها مع نبي الله سليمان عليه السلام، لنتعلم منها درساً عظيماً في المُبادرة والإيجابية؛ يقول تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ َ... ﴾. كما كان للهُدهد هو الآخر قصةٌ مع سليمان عليه السلام فيها درسٌ لنا جميعاً عن المبادرة والإيجابية.

 

لن يعود للمسلمين مجدهم، ولن تعود لهم عزتهم، إلا إذا تمسكوا بإيجابيتهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر -إذ أن هذا شرط خيريتهم- يقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، ولا يسكتون على مُنكرٍ يرونه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ].

 

أحبتي.. إن (إيجابية المسلم) تبدأ بالمُبادرة إلى عمل الصواب، ولو بدا غريباً في نظر الآخرين، نسير في الطريق الصحيح ولو كُنا قِلةً، ونبتعد عن طريق الضلال ولو سار فيه مُعظم الناس؛ علينا أن نسلك طريق الحق ولا نأبه بقلة السالكين، ونتجنب طُرق الباطل ولا تغرنا كثرة الهالكين. ولنكن مؤثرين في أي مكانٍ نتواجد فيه؛ نعمل على تصحيح الأخطاء التي من حولنا، ونكون قدوةً إلى الخير والرشاد لغيرنا، ولا نستحي من قول الحق، لا نكتفي بالأماني، وإنما نُبادر بالعمل ونأخذ بالأسباب، نلتزم (إيجابية المسلم) فندعو الله سُبحانه وتعالى أن يوفقنا ويُسدد خطانا، ولا نُقصِّر في دعوة غيرنا إلى طريق الحق والرُشد والصواب، وهذا من الجهاد في سبيل الله. عسى أن نكون ممن وصفهم الله في كتابه الكريم بأنهم قومٌ ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾.

اللهم اجعلنا هداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، وأعنّا على الثبات وتحمل أذى المُثبطين والُمشككين والغافلين والمُغيَبين.

https://bit.ly/3VMVaXT

الجمعة، 14 أكتوبر 2022

أفضل عبادة

 

خاطرة الجمعة /365


الجمعة 14 أكتوبر 2022م

(أفضل عبادة)

 

انتهت إجازته وركب الطائرة عائداً إلى بلده، كانت تجلس بجانبه امرأةٌ مُسنةٌ من الفلاحات. قاموا في الطائرة بتقديم وجبات الطعام ومع كل وجبةٍ قطعة حلوى بيضاء. المرأة المُسنة أمسكت بقطعة الحلوى وبدأت تأكلها بالخُبز ظناً منها أنها جبنةٍ بسبب لونها الأبيض، وعندما اكتشفت أنها حلوى شعرت بإحراجٍ شديدٍ ونظرت إلى الرجل الذي بجانبها، فتظاهر بأنه لم يرَ ما حصل.

ثوانٍ قليلةٍ ثم قام الرجل بفتح قطعة الحلوى من صحنه وقام بما قامت به المرأة المُسنة تماماً؛ فضحكتْ المرأة، فقال لها: "سيدتي لماذا لم تخبريني أنها حلوى وليست جبنة؟"، فقالت المرأة: "أنا كذلك كنتُ مثلك؛ ظننها جبنة"!

 

أحبتي في الله.. بالتأكيد كان الرجل يعرف أنها ليست جبنة، كما يعرف أنها رحلةٌ وتنتهي، ويعرف كذلك أنها مجرد امرأةٍ بسيطةٍ، لكنه كان يعرف أيضاً أن جبر الخواطر (أفضل عبادة) أراد ألا يحرم نفسه من ثوابها.

 

وهذا موقفٌ آخر من مواقف أداء هذه العبادة حدث حينما مرت امرأةٌ بجانب شابٍ مُعاقٍ ذهنياً بيده عودٌ يرسم به على الأرض؛ فأشفق قلبها عليه وسألته: "ماذا تفعل هنا؟"، قال: "أرسم الجنة وأقسمها إلى أجزاء"، فابتسمت وقالت له: "هل يمكن أن آخذ قطعة منها؟ وكم ثمنها؟"، نظر إليها وقال: "نعم القطعة بعشرين ريالاً"، أعطته المرأة عشرين ريالاً وذهبت. وفي ليلتها رأت في المنام أنها في الجنة. في الصباح قصت الرؤيا على زوجها وما جرى لها مع الشاب المُعاق؛ فقام الزوج وذهب إلى الشاب ليشتري قطعةً منه، وقال له: "أريد أن أشتري قطعةً من الجنة، كم ثمنها؟"، قال الشاب: "لا أبيع"، فتعجب الرجل وقال له: "بالأمس بعتَ قطعةً لزوجتي بعشرين ريالاً"، فقال الشاب المُعاق: "إن زوجتك لم تكن تطلب الجنة بالعشرين ريالاً، بل كانت تجبر بخاطري، أما أنت فتطلب الجنة وحسب، والجنة ليس لها ثمنٌ؛ فدخولها يمر عبر جبر الخواطر".

 

ومن الأقوال الشهيرة عن جبر الخواطر إنه "من سار بين الناس جابراً للخواطر، أنقذه الله من جوف المخاطر". وهذا موقفٌ يُبين كيف أن من يجبر الخاطر ينقذه الله بالفعل من مخاطر مؤكدة؛ فقد حدث أن شيخاً كان من أشهر الدعاة في مصر، رحمه الله، اتصل ذات يومٍ بطبيبٍ معروفٍ ليحجز للكشف عنده في العيادة، فقال له الطبيب: "لا والله يا مولانا، أنا سآتي إلى بيتك"، وبعد الكشف سأله الطبيب عن (أفضل عبادة) تُقرب المُسلم من الله، فقال له الشيخ: "فكِّر أنت"، فقال الطبيب: "الصلاة؟"، قال له الشيخ: "لا"، قال الطبيب: "الصيام؟"، قال له الشيخ: "لا"، قال الطبيب: "العُمرة؟"، قال الشيخ: "لا؛ (أفضل عبادة) هي جبر الخاطر"، تعجب الطبيب وسأل: "كيف يا مولانا؟ وما دليلك؟"، قال الشيخ: "مَن ألعن ممن يُكذِّب بالدين؟" رد الطبيب: "لا أحد"، قال الشيخ: "يقول الله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، ماذا يفعل؟ ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾، يعني: يكسر خاطر اليتيم، ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، يعني: يطرد المساكين، ولا يجبر خواطرهم، ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، فجعل أمر الصلاة الأمر الثالث بعد أمرين كان فيهما جبرٌ للخواطر. يقول الطبيب الذي يروي القصة أنه بعد ذلك بعدة أيام، وكان يوم إجازة، تلقى مكالمةً من جاره يقول له: "اجبر بخاطري يا دكتور؛ حاول الذهاب إلى حماتي عندك في المُستشفى مريضة، اطمن عليها وطمّنا"، يقول: "فتذكرتُ نصيحة الشيخ وحديثه عن جبر الخواطر حين جاءت كلمة جبر الخاطر على لسان جاري، فأحسستُ إنها إشارةٌ من الله، فقررتُ الذهاب إلى المُستشفى لأطمئن على حماته، وعندما كنتُ في المُستشفى، شعرتُ بألمٍ شديدٍ في صدري، لقد كانت جلطةً في الشُريان التاجي، فأعطاني الطبيب الدواء وأنقذني من الجلطة، فلو أن تلك الجلطة جاءتني ولم أكن وقتها في المُستشفى، لكنتُ ميتاً، فكأن الله يقول لي: {كما جبرتَ بخاطر جارك، جبرتُ أنا بخاطرك وأنقذتُ حياتك}".

 

وعن أساليب جبر الخواطر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ -يعني مسجدَ المدينةِ- شهرًا، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ].

 

ولعل من أجمل ما قرأتُ عن جبر الخواطر ما قاله أحد التابعين: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأُنصتُ له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعته قبل أن يولد".

 

أحبتي.. يقول أحد العابدين: "ما رأيتُ عبادةً أجّل ولا أعظم من جبر الخواطر. وما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم".

ويقول العلماء إن جبر الخواطر خُلُقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ، وعظمة قلبٍ، وسلامة صدرٍ، ورجاحة عقلٍ، يجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت، وقلوباً فُطرت، وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة، وما أعظم أثرها! إن إماطة الأذى عن مشاعر وقلوب الناس لا يقل درجةً عن إماطة الأذى عن طريقهم. ‏اجبروا الخواطر؛ فتلك (أفضل عبادة)، راعوا المشاعر، ‏وانتقوا كلماتكم، ‏وتلطفوا بأفعالكم، ‏ولا تؤلموا أحداً، وقولوا للناس حُسناً، ‏عيشوا أنقياء أصفياء؛ فنحن جميعاً سنرحل وتبقى آثارنا. وأعجبني قول أحدهم: جبر الخاطر - الذي هو (أفضل عبادة) - لا يحتاج إلى كثير جهدٍ ولا كبير طاقةٍ، فربما تكفي البعض كلمةٌ طيبةٌ أو دعاءٌ بإخلاصٍ أو توجيهٌ وإرشاد، وربما يحتاج البعض الآخر إلى مساعدةٍ أو مال أو قضاء حاجة، ويكتفي البعض بابتسامةٍ صافيةٍ حانيةٍ، فعلينا أن نجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ولا نبخل على أنفسنا، فالصدقة والخير نفعه يعود إلينا.

أحبتي.. اجبروا خواطر بعضكم بعضاً، واحتسبوا الأجر والثواب من الله سُبحانه وتعالى.

https://bit.ly/3D0iMRO

الجمعة، 7 أكتوبر 2022

العقوق القبيح

 

خاطرة الجمعة /364


الجمعة 7 أكتوبر 2022م

(العقوق القبيح)

 

تقول الشاكية إلى ربها ضَعف جانبها وقلة حيلتها، وهي تحكي إلى أحد الشيوخ:

تُوفي والده في مُقتبل عُمري فلم يهن عليَّ أن أتشاغل عنه بزواجٍ خشيةً عليه، فوقفتُ حياتي.. كلَّ حياتي: صباحها ومساءها، ليلها ونهارها لأجله، وتمضي الأيام، وأنا أعدُّها عداً أنتظر ذلك اليوم الذي أُراه فيه في مصاف الرجال، وقد كرستُ كل جُهدي لتربيته على معالي الأخلاق وأفاضلها، ووطنتُ نفسي أن أبذل كل ما أستطيع حتى يبلغ ذلك المقصد الجليل؛ فلم يزل يترقى في دراسته، حتى نال من الشهادات أعلاها، وها هو يوشك أن يتبوأ الوظيفة المرموقة والوجاهة بين الناس، فسعيتُ لتزويجه بامرأةٍ تُسعده وتُلاحظ خاطره بعد أن كللتُ وضعفتُ عن خدمته لكبر سني؛ إذ بدأ الشيب يُجهز على بقيةٍ باقيةٍ من شعراتٍ سُودٍ في رأسي.

وها هو أول أولاده ماثلٌ بين يدي؛ فرأيتُ فيه طفولة ابني وفلذة كبدي، وأعادني لذكرياتٍ تليدةٍ إبان تربيتي لأبيه. سألني حفيدي ذات يومٍ ببراءة الطفولة: "ما هذه الخطوط التي تحف وجهك من جانبيه يا جدتي؟"، وكأنه يقرأ آثار الأيام السالفة.

ولدى بلوغي هذه المرحلة من العمر إذا بأمورٍ تحدث في جنبات البيت، بدأ بعدها زلزالٌ هزَّ كل كياني ووجداني؛ حين فوجئت بزوجة ابني وقد قلبت لي ظهر المِجن، لأعود ضُحى أحد الأيام، فأجد سريري ومتاعي وثيابي عند عتبة الباب!! يا للعجب... لعل حريقاً قد حلَّ بالبيت أثناء غيبتي!! أم لعلهم أرادوا تجديد أثاث البيت؟! وبعد أن طرقتُ الباب، إذا بزوجة ابني، تُطلق رصاصاتٍ قاتلةً من بين ثنايا فمها فتقول: "قد تحملناكِ في السنين الماضية، فلتذهبي إلى إحدى أخواتك أو بعض أقاربك، فالبيت يضيق بك؛ وبتِّ شخصاً غير مرغوبٍ فيه عندي وعند زوجي الذي هو ابنك"، فانعقد لساني، ولم أحرِ جواباً، وبقيتُ عند الباب أنتظر حضور ابني فهو أملي بعد الله، ولن يرضى لأمه أن يُساء لها، ولا أن يُقال لها مثل هذا الكلام. ولما حضر ابني أخبرته الخبر، وأنا أحاول أن تكون ردة فعله مُتعقلةً غير مُتسرعةٍ خشية أن يُطلّق زوجته أو يضربها بسبب جرأتها؛ فكانت المفاجأة، المفاجأة التي شعرتُ معها كأن جمراً يتوقد بين أضلعي، إنه يؤكد ما أخبرتني به زوجته، ويقول: "ولكن بإمكانكِ لفترةٍ مؤقتةٍ أن تسكني في الغُرفة الخارجية المُلحقة بالسور، وأن تضعي متاعكِ في الغُرفة العُلوية على السطح إلى أن تجدي مكاناً تذهبين إليه"!!!

يا تُرى من الذي أمامي؟ أهو ابني؟ أم أنه مُسخٌ له؟ هل؟! هل؟! لا يمكن... مُستحيل. لقد انعقد لساني، وجف دمعي، وخارت قواي، ولكن لا مجال لي إلا أن أرضى بما عرضوه عليّ؛ فلا حيلة لي ولا خيار.

ثم تتوالى الأيام حُبلى بما لا يُمكنني وصفه؛ فمسكني في غُرفةٍ مُلحقةٍ بسور المنزل، حيث لا أنيس ولا جليس، ودخول البيت والجلوس معهم مُحرمٌ عليَّ، ولقد حاولتُ فما كان جزائي إلا التبكيت والتعنيف من سيدة البيت.

أما طعامي فعليَّ أن أنتظر حتى تنتهي سيدة البيت وزوجها منه، ثم أجد ما فضل عنهم عند عتبة الباب بعد أن أخذ مني الجوع كل مأخذ. وأما زوجها فقد قرر أن هذا بيتها وهي سيدته، وأنها بنت الناس لا يملك أن يمنعها من حقها في إدارة بيتها!! فلها أن تمنع من شاءت، وأن تأذن لمن شاءت، وأن الحياة مراحل وفتراتٌ فلا ينبغي أن يأخذ أحدٌ من عمر أحد! ومع كل ذلك كان قلبي مُتعلقاً به، بل حتى برؤيته، بل حتى برائحته؛ فمع كل ما أُقاسيه كنتُ أتمنى رؤية ابني وأولاده ولو لدقائق معدودةٍ في الأسبوع، ولكن هيهات هيهات، فحظي منهم أن أرمقهم من فتحة بابي عند دخولهم أو خروجهم وهُم لا يشعرون. ولن أنسَ ما حييتُ ذلك اليوم الذي خرجتُ فيه من غُرفتي عندما سمعتُ بكاء حفيدي الصغير بجانب غُرفتي، فاحتضنته وتشممته؛ فتذكرتُ بريحه ريح ابني الوحيد، تذكرتُ طفولة ولدي يوم كنتُ أُرضعه وأُنظِّفه وأُلاعبه، فلم أتمالك نفسي ووجدتني أحمله وأضمه إلى صدري وأقبله، وأقبل يديه ورجليه، ولم يقطع عليَّ هذه اللحظات الرائعة إلا وكزةٌ على كتفي! لقد فوجئتُ بأمه من ورائي تدفعني، وتوبخني، وتنتزعه مني، وتنهرني: "ماذا تريدين أيتها العجوز من هذا الطفل الصغير؟ ألا تتأدبين وقد سمحتُ لك بالبقاء حتى تتجرئي وتمتد يدك إلى ولدي؟!!"، ثم غادرت الغرفة بحفيدي وكأنما اقتلعت معها جُزءاً من كبدي. وفي مساء نفس اليوم طرتُ فرحاً بحدثٍ غريبٍ؛ إنه ابني شاخصٌ فوق رأسي داخل غُرفتي ولأول مرةٍ، يا للفرحة، يا للسعادة، في الصباح حفيدي والآن ولدي! وبرغم عجزي وضعفي، إلا أن القوة تعود إلى بدني وها هي روحي تبتهج فقد نهضتُ فَرِحَةً بدخول ولدي إلى غُرفتي بعد أن لم يطأ عتبتها منذ أشهرٍ عديدةٍ، لكن سرعان ما تبدد هذا الفرح، لقد تبخر مع عبارات التوبيخ والتقبيح من ابني تجاهي! "لماذا؟ لماذا يا بني؟! أي خطأٍ مني؟ أية جريمةٍ اقترفتها حتى تُهددني وتوبخني وتُقبحني؟ لماذا يا حبيبي؟"، "يبدو أنكِ بدأتِ تُخرفين أو أنك تعاندين! ألم أمنعكِ من التدخل فيما لا يعنيكِ؟ ألم نمنعكِ من الدخول إلى البيت؟ ألا يكفي أنها سمحت لك بالسكن في هذه الغُرفة؟ كيف تجترئين لتأخذي الطفل إلى هذه الغُرفة؟ ألا تعلمين أنك بذلك قد تُسببين له المرض بسبب غرفتك المُلوثة؟ ألا تعلمين أنك ستُعدينه بصحتك المتدهورة؟"، يا أسفاه يا ولدي!! إذاً أنتَ تعلم أن الغُرفة غير صحيةٍ، وتعلم أنّ صحتي مُتدهورةٌ، وأني أُعاني من أمراضٍ مُزمنةٍ، لك الحق بأن تخاف على ولدكِ بسبب وجوده قُرب المرض للحظاتٍ، لكن ألا تخاف عليَّ والمرض يُساكنني في غُرفتي ويُلازمني في بدني؟! يا بُنيَّ والله ما قصَّرتُ معكَ منذ كنتَ في أحشائي وبعد ولادتي لك، يا بُني لقد كنتُ أشتري راحتك وصحتك وسعادتك بتعبي ومرضي وشقائي، يا بُني أنتَ أملي في الحياة؛ فلا تكن نهايته بألمي.... أرجوك يا بنيَّ... أرجوك...

تقول الشاكية للشيخ: "هذا أيها الشيخ فصلٌ من فصول حياتي... وما خفي أقسى وأفظع. ولقد دعتني بعض قريباتي ممن علمن بحالي لأن أنتقل عندهن وأفارق حياة العذاب تلك، ولكني أقول مع كل ذلك، إني سأتحمل ما بقيتُ في هذه الحياة تلك الحال حتى لا أُحرم رؤية ابني لثوانٍ معدودةٍ؛ عندما أسمع فتحه باب المنزل ويدلف إلى زوجته وأولاده، والله يتولَّى أمري".

 

أحبتي في الله.. يقول الشيخ: "كان ذلك وصفاً مُقتضباً وسرداً مُختصراً لموقفٍ تبكي من أجله المروءة وتأباه الشهامة فضلاً عن كونه من (العقوق القبيح)، إنها حال عددٍ من المخذولين الذين أغوتهم شياطين الجن والإنس فساموا أُمهاتهم سوء العذاب. إن هذه الحال لولا أنّ صاحبتها قَصّتها عليَّ لحسبتُها نسجاً من الخيال… إنها وإن كانت حالاتٍ محدودةً وقليلةً، إلا أن وقوع حادثةٍ واحدةٍ على غرارها لمما يُحزن النفس ويُكدّر الخاطر. ويا سبحان الله.. كيف ينسى ذلك العاق ضَعف طفولته وهو صغير؟ ألا يعلم أنه كان حَملاً في أحشائها تسعة أشهر، مشقةً بعد مشقةٍ؛ فلا يزيدها نموه إلا ثِقلاً وضعفاً، ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾؟ وكيف يتناسى إشرافها على الموت عند وضعها له؟ فإذا بها تُعلِّق آمالها عليه وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً.. لكنها رأت فيه بهجة الحياة وزينتها ما أنساها كل ما قاسته، وجعلها تزداد بالدنيا تعلقاً وحرصاً. وكيف يتناسى إشغالها نفسها بخدمته ليلها ونهارها، تُغذيه بصحتها، وتُريحه بتعبها، طعامه لبنها، وبيته حجرها، ومركبه يداها وصدرها، تجوع ليشبع، وتسهر لينام؟ وكيف يتناسى انجذابه في طفولته نحوها في كل أحواله وشئونه؟ فسبيله لدفع جوعته مناداة أمه... وسبيله لدفع عطشه مناداة أمه... وسبيله لدفع الأذى مناداة أمه... حتى بات في مخيلته أنَّ كل خيرٍ في كنفها... وأنَّ الشر لا يصله إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها... أفبعد كل ذلك يكون جزاؤها على هذه الشاكلة؟ قهرٌ وعقوقٌ... عصيانٌ وجحودٌ... قطيعةٌ وصدود!!! ألا يعلم من كان على هذه الطريق العوجاء من الأولاد أن الإحسان إلى الوالدين عظيمٌ، وأن فضلهما سابق؟ ألا يعلم أنه لو بذل لهما أموال الدنيا وشغل نفسه بهما ليلاً ونهاراً ما وفَّاهما حقهما؟ وخاصةً الأم التي قاست الصعاب والمكاره بسبب المشقة والتعب من وِحامٍ وغثيانٍ وثقلٍ وكربٍ وغير ذلك من شدائد الحمل والوضع؛ يقول تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾. فوالله إنّ لهذا الصنف من الجاحدين... أهل العقوق والجحود.. إنّ لهم من الله في هذه الدنيا يوماً يعضون فيه أصابع الندم، ويُلاقون سوء جحودهم ونكرانهم. لقد قضى الله ألا يوفِق عاقاً... وأن تُغلق في وجه العاق كل أبواب الخير. وأن يوافَى بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ، مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القيامةِ: العَاقُّ لوالديه، ومُدْمِنُ الخَمْرَ، والمنَّان]. فيا ويحَ من عقَّ أمَّه وأباه.. كم من الخير فاته؟! وكم من الرزق تخلى عنه؟!

 

يقول أهل العلم إن الشرع الحنيف حثّ على برّ الوالدين ورغّب فيه، وحرّم عقوقهما وعدّه من كبائر الذنوب. ومن (العقوق القبيح) سوء الأدب مع الوالدين، والتنكّر لمعروفهما، حتى إنّ كلمة أُفٍّ تُعتبر من العقوق؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾، فكيف بالتكبّر، والحرمان، والاعتداء، والإهانة، والهجران؟

ومن صور (العقوق القبيح) أن يلعن الرجل والديه بشكلٍ غير مباشرٍ؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إنَّ مِن أَكبَرِ الكبائِرِ أن يَلْعَنَ الرَّجُلُ والدَيهِ]، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وَكيفَ يَلعنُ الرَّجُلُ والديهِ؟ قالَ: [يَسبُّ الرَّجلُ أبا الرَّجلِ، فيسُبُّ أباهُ، ويسبُّ أمَّهُ فيَسبُّ أُمَّهُ].

ويُعد عقوق الأبناء للوالدين ثاني أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للصحابة ذات يومٍ: [ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائرِ "ثلاثًا"؟] قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: [الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ] وجلَس وكان مُتكئًا، فقال: [ألا وقولُ الزُّورِ]. وممّا يدلّ على عظم جريمة العاقّ في حقّ والديه، أنّه ملعونٌ على لسان نبي الرحمة عليه الصّلاة والسّلام؛ حيث قال: [لعنَ اللهُ من عقَّ والديهِ]، كما بيّن النبي عليه الصّلاة والسّلام أنّ العاقّ محرومٌ من دخول الجنّة؛ فقال: [لا يدخلُ الجنَّةَ عاقٌّ، ولا منَّانٌ، ولا مُدمنُ خمرٍ، ولا مُكذِّبٌ بقدرٍ].

بالإضافة إلى أنّ العاق لوالديه يُعتبر قاطعاً للرّحم، بل قاطعاً لأعظم رحمٍ أمره الله تعالى بوصلها؛ حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ حتَّى إذا فرغَ من خلقِهِ قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذِ بكَ منَ القطيعةِ، قالَ: نعَم، أما ترضِينَ أن أصلَ من وصلَكِ وأقطعَ من قطعَكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ، قالَ: فهوَ لكِ].

 

يجدر بمن عقّ والديه بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن يُسارع إلى التّوبة إلى الله عزّ وجلّ من هذا الذّنب العظيم، وتكون التّوبة من عقوق الوالدين بالإقلاع عن العقوق، والنّدم على هذا الذنب، والعزم على عدم الرّجوع إليه، ثمّ إتباع ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأنّ الأعمال الحسنة تُكفّر السيئات وتمحو الخطايا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ﴾. والاكتفاء بالاستغفار في حال عقوق الوالدين ليس كافياً، وإنّما يجدر الحرص على التوبة، ثمّ الإحسان إلى الوالدين، وذلك بالاعتذار إليهما، والدعاء بالخير لهما، وتقبيل رأسيهما، واستعمال العبارات المُحبّبة إليهما عند الخطاب، والتواضع لهما، بالإضافة إلى إكرامهما مادياً قدر الاستطاعة. وحريٌّ بالمسلم أن يستحضر أنّ التوبة من عقوق الوالدين هي أوبةٌ إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن تكون إقبالاً وحُبّاً لوالديه؛ وذلك لأنّ الله عزّ وجلّ قرن طاعتهما بطاعته، وعقوقهما بمعصيته.

 

أحبتي.. أختم بما كتبه أحد العلماء عن (العقوق القبيح) مُذّكراً بأنّ باب التوبة مفتوحٌ مهما اقترف الإنسان من ذنوب، بما فيها عقوق الوالدين. ولا يقتصر الأمر على امتناع المرء عن عقوق والديه، وإنّما يشمل منعه زوجته، وأولاده، وأصدقاءه من عقوق والديه أيضاً، وعليه أن يستحضر أنّ عقوق الوالدين أمرٌ خطيرٌ للغاية؛ إذ لا تنفع المُسلم صلاةٌ، ولا زكاةٌ، ولا أيّة عبادةٍ إن كان عاقّاً لوالديه، ولربّما تسبّب عقوق الوالدين في حجب لسان المرء عن الشهادتين عند الموت.

اللهم اهدِ أبناءنا وشباب المسلمين، بناتٍ وبنين، واجعلهم اللهم من الصالحين المهتدين الذين يبرون والديهم، ويُحسنون إليهم.

https://bit.ly/3SNYMHm

الجمعة، 30 سبتمبر 2022

إرادة التغيير

 

خاطرة الجمعة /363


الجمعة 30 سبتمبر 2022م

(إرادة التغيير)

 

"البط يشكو والنسور تحلق فوق الجميع" هذا عنوان قصةٍ باللغة الإنجليزية، تمت ترجمتها إلى اللغة العربية واختصارها؛ للتركيز على الفكرة الأصلية دون ذكر التفاصيل الجانبية.

يقول كاتب القصة: كنتُ في خط الانتظار لركوب سيارة أجرة من المطار إلى الفُندق، فكان من نصيبي سيارةٌ في غاية النظافة، يلبس سائقُها ملابسَ غايةً في الأناقة. نزل السائق من السيارة وفتح لي الباب الخلفي للجلوس، وقال: "اسمي «أحمد»، وأنا سائقك هذا الصباح. ريثما أضع حقائبك في صندوق السيارة تستطيع أن تقرأ مهامي المُدونة في هذه البطاقة"، سلمني بطاقةً فقرأتُ فيها ما يلي: «أسعد الله أوقاتك: مُهمتي أن أوصلك إلى هدفك: بأسرع طريقةٍ، وأكثرها أماناً، وأقلها كُلفةً، وبجوٍ وديٍ مُريح».

جلس «أحمد» خلف عجلة القيادة بهدوءٍ، وقبل أن يتحرك بالسيارة نظر إليّ في المرآة وسألني: "هل ترغب في فنجان قهوة؟ لدي ثيرموس لقهوةٍ عاديةٍ وآخر لقهوةٍ بدون كافيين"، فقلتُ مازحاً: "شكراً أنا أُفضّل المشروبات الباردة"، فقال: "مرحباً، لدي مياهٌ غازيةٌ عاديةٌ، وأخرى بدون سكرٍ، وعصير برتقال"، فقلتُ: "أُفضّل عصير البرتقال"؛ فناولني كأس العصير، ثم قال: "بسم الله"، وبدأ المسير، وبعد دقيقةٍ، ناولني بطاقةً عليها قائمة المحطات الإذاعية، وقال: "تستطيع أن تختار ما تريد أن تستمع إليه من هذه المحطات، أو الدردشة حول ما تراه في الطريق، أو عما يُمكنك أن تزوره في المدينة، أو أتركك مع أفكارك"، فاخترتُ الدردشة. بعد دقيقتين سألني عما إذا كانت درجة التبريد في السيارة مُناسبةً، ثم قال: "إن لدينا حوالي أربعين دقيقةً، فإن شئتَ القراءة فلدي جريدة هذا الصباح، ومجلتا هذا الأسبوع"، قلتُ له يا سيد «أحمد»: "هل تخدم جميع الزبائن بهذه الطريقة دائماً؟!"، فقال: "للأسف بدأت هذه الطريقة قبل سنتين فقط، وكنتُ قبلها مثل سائر السائقين لمدة خمس سنواتٍ، مُعظم السائقين سياراتهم غير نظيفةٍ، ومنظرهم غير أنيقٍ، ويصرفون كل وقتهم بالشكوى والتشاؤم وندب الحظ. وجاء التغيير الذي قمتُ به عندما سمعتُ عن فكرةٍ أعجبتني اسمها «قوة الاختيار» مُلخصها إنه بإمكانك أن تختار أن تكون بطةً أو نسراً: البطة تشكو بؤسها، والنسر يُرفرف مُبتهجاً، ويُحلق عالياً، فقررتُ أن أمارس التغيير شيئاً فشيئاً حتى وصلتُ إلى ما ترى. أشعر بالسعادة، وأنشر السعادة على الزبائن، وتضاعف دخلي في السنة الأولى، ويُبّشر دخلي هذا العام بأربعة أضعاف. والزبائن يتصلون بي لمواعيدهم، أو يتركون لي رسالةً على الهاتف، وأنا أستجيب".

يقول ناشر القصة: الدرس والعبرة من هذه القصة هو أن تتوقف عن أن تكون بطةً تندب حظها وتُكثر الشكوى، وابدأ مسيرك لتكون نسراً سعيداً تُحلق فوق الجميع، لن تُحقق ذلك مرةً واحدةً، ابدأ الخُطوة الأولى، ثم واصل المسير، خُطوةً خُطوةً، ولو خُطوةً واحدةً كل أسبوعٍ، وسترى ما يحدث لك من تغييرٍ إيجابي؛ فالتغيير يبدأ من عندك.

 

أحبتي في الله.. نعم التغيير يبدأ من الشخص نفسه، لابد وأن تكون له الرغبة في التميز، والعزيمة على التنفيذ، والقدرة على الاستمرارية؛ لابد أن يمتلك (إرادة التغيير).

 

إنّ قضية التغيير قد أصبحت من القضايا الأساسية في عالَم اليوم، عالَم التطورات السريعة، عالَمٍ لا تتوقف مسيرته، وتزداد فيه المنافسة، ويتأخر من لا تكون لديه (إرادة التغيير) فلا يكون على استعدادٍ لأن يُغيّر من نفسه إلى الأحسن دائماً.

فما هي الإرادة؟ يرى علماء النفس أن الإرادة هي “تصميمٌ واعٍ على أداء فعلٍ مُعينٍ، لتحقيق هدفٍ ما"، وأنّ التفكير الواعي يُحسِّن من أداء الإرادة ويُقويها، ويزيد من صلابتها وتماسكها واستمرارها، ولا يتم ذلك إلا بحوارٍ مُقنعٍ وواعٍ مع النفس، وليس قراراً عشوائياً سريعاً، أو نتيجة إكراه، مع التسليم بأنّ الافتقار إلى قوة الإرادة عائقٌ أمام التغيير.

 

أما علماء الشريعة فيقولون إن الشريعة الإسلامية لم تترك جانباً من جوانب الحياة إلا وغطته، ولم تَدَعْ أي سلوكٍ إنسانيٍ إلا وقننته وهذبته؛ لذلك اهتمت شريعتنا الغراء بمفهوم إدارة التغيير وتناولته من كافة جوانبه، فها هُم العلماء يرون أنَّ البداية الصحيحة للتغيير الفعَّال تكمن في (إرادة التغيير) التي تنبع من الشخص نفسه؛ لذا كانت الإرادة فريضةً واجبةً في العبادات لا تُقبل العبادة بغيرها، وهذه الإرادة هي النية؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]. ويُقال إنّ النية، التي هي الإرادة، هي "رأسُ الأمر وعمودُه وأساسه، وأصله الذي يُبنى عليه، فإنَّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها، يُبنى عليها، ويصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يُستجلب التوفيق".

 

ويقول أهل العلم إنّ الإنسان لكي يُحقق أهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادةٍ وتصميمٍ وعزيمةٍ لا تلين لمواجهة الصِّعاب وتَحَمُل الإخفاقات؛ فإن (إرادة التغيير) والعزم عليها هو الذي يُحدث التغيير المطلوب. وقد وصف الله سُبحانه إرادة المُصلحين والمُغيِّرين بالعزيمة؛ فوصف صفوة الأنبياء بأنّهم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، لأنّهم أصحاب إرادةٍ قويّةٍ لا تلين ولا تتراجع. كما خاطب المولى عزَّ وجلَّ سيد المُرسلين مُحمّداً صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾.

إنَّ (إرادة التغيير) لدى الإنسان هي بداية التغيير الحقيقي، وهذا ما أكَّد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

ولا يوجد تعارضٌ بين (إرادة التغيير) لدى الإنسان وبين قضاء الله وقدره؛ يوضح المفسرون ذلك بقولهم إن الله سُبحانه أعطى الناس عقولاً وأدواتٍ وأسباباً يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يُريدون؛ من جلب خيرٍ أو دفع شرٍ، وهُم بهذا لا يخرجون عن مشيئته؛ يقول تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

وقد سأل الصحابةُ النبيَ صلى الله عليه وسلم عن هذا؛ قالوا: يا رسول الله؛ إن كان ما نفعله قد كُتب علينا وفُرغ منه، ففيمَ العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: [اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾].

فأمرُ الله نافذٌ، لكنه جلّ وعلا يُغيّر ما بالناس إذا غيروا، فإذا كانوا على طاعةٍ واستقامةٍ ثم غيروا إلى المعاصي، غيَّر الله حالهم من الطُمأنينة والسعادة واليُسر والرخاء إلى عكس ذلك؛ فيأخذهم على غِرةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾، أو قد يُملي لهم ويتركهم على حالهم استدراجاً؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾.

وهكذا العكس؛ إذا كانوا في معاصٍ وشرورٍ وانحرافٍ، ثم توجهوا إلى الحق، وتابوا إلى الله ورجعوا إليه واستقاموا على دينه، فإن الله يُغيّر ما بهم سُبحانه من خوفٍ وفقرٍ واختلافٍ وتشاحنٍ، إلى أمنٍ وعافيةٍ واستقامةٍ ورخاءٍ ومحبةٍ وتعاونٍ وتقاربٍ؛ فضلاً منه ونعمة.

فالعبد مع ما عنده من (إرادة التغيير)، وما يقوم به من عملٍ أخذاً بالأسباب، لن يخرج أبداً عن قدر الله ومشيئته.

 

أحبتي.. كلنا مُقصرون في حق الله سُبحانه وتعالى، وفي حق ديننا، مهما فعلنا نظل مُقصرين، حتى المجتهد منا لا ينفك يلوم نفسه ويتمنى المزيد من العمل والجد والاجتهاد؛ حتى يرفع درجته عند المولى عزَّ وجلَّ. كلنا يرجو لنفسه أن يكون من أصحاب الجنة، وأن يكون في الفردوس الأعلى منها، فإذا خاف ألا يوصله عمله إلى هذه المنزلة فليتذكر وصية نبينا الكريم ويعمل بها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ] {"مَنْ خاف أَدْلَجَ"، أي: مَنْ خاف ألَّا يَصِلَ إلى غايتِهِ سار أَثْناءَ الليلَ؛ ليَكونَ ذلك أَرْجى له في الوُصولِ إلى غايتِهِ، "ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ"، أي: ومَنْ سار بالليلِ وَصَلَ إلى غايتِهِ ونال مُبْتغاهُ، ويعني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا أَمْرَ الآخرةِ}؛ فالجنة لا تُنال بالأماني، وإنما بأخلص العمل؛ وهو ما يكون لله وحده بغير شركٍ ولا رياء، وبأصوب العمل؛ وهو ما يكون موافقاً لسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام.

هنيئاً لمن امتلك (إرادة التغيير) فعمل بجدٍ واجتهادٍ، أما من ترك نفسه للهوى، واستسلم للراحة والكسل والدَعَة، وأجَّلَ وسوَّف، فإنه يعيش في حلم يقظةٍ يكاد لا يفيق منه؛ فإلى متى الغفلة؟ لماذا لا يأخذ بأسباب «قوة الاختيار» كما فعل السائق «أحمد»؟ اختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه، وحرص على إرضاء العباد، وأخذ بالأسباب فتضاعف دخله عدة مراتٍ، فما بالنا بمن يختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه وأخراه، ويحرص على مرضاة رب العباد، كم يُضاعف الله له الجزاء ويجزل له في الثواب ويُدهشه بالكرم والعطاء؟

لجميع المُقصرين -وأنا أولهم- أقول: دعونا لا نبكي على اللبن المسكوب، ولنبادر فوراً، في سعينا إلى الجنة، إلى أن نكون نسوراً تُحلق فوق الجميع، ولا نكون بطاً يشكو بؤسه، ولنُشمِّر عن سواعد الجد، ونُعلي الهمة، ومع صدق النية ومُجاهدة النفس يهدينا ربنا سُبحانه وتعالى إلى السُبل التي تجعلنا من المُحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيتحقق لنا أملنا وغاية رجائنا ومُنانا في أن يكون مثوانا الأخير -بإذن الله وبرحمته- الجنة، مع من أطاع الله والرسول ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

اللهم ها نحن المُذنبين المُقصرين قد عقدنا العزم على التوبة من الذنوب والسيئات، والعودة إلى ما فيه مرضاتك، فأعنّا ربنا، ويسِّر لنا سُبلنا، واكتبنا من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/3CmOEj2

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

الشكوى لغير الله

 


خاطرة الجمعة /362

الجمعة 23 سبتمبر 2022م

(الشكوى لغير الله)

 

يُحكى أنه كانت هناك فتاةٌ يتيمةٌ ليس لها أحدٌ في الدنيا -بعد الله سُبحانه وتعالى- سوى أمها. تزوجها ابن عمها وكان ظالماً لها، شديد الظُلم لها؛ فقد كان هو وأهله يُسيئون مُعاملتها، ويُعاملونها كخادمةٍ تعمل ليل نهار، ومع هذا لم تكن تسلم من الأذية والسب والشتم والضرب في كثيرٍ من الأحيان. وكانت كلما ضاقت بها الدنيا تلجأ لأدفأ مكانٍ وهو حُضن أمها؛ فتحتضنها وتشكو لها كل ما يحصل، ثم تبكيان سوياً، ثم تعود إلى زوجها. والأم ضعيفةٌ مُقعدةٌ، لا حول لها ولا قوة، تُشارك ابنتها ألمها بالبكاء معها. استمر هذا الأمر عشر سنواتٍ، وكل يومٍ يسوء الوضع ويزداد ظلم زوجها لها، حتى قَرُبَ انتهاء أجل الأم وحان وقت رحيلها إلي بارئها؛ فبكت البنت وانهارت -وأمها في سكرات الموت- وقالت لها: "أمي لمن أشكو بعد رحيلك؟ لمن أحكي مأساتي؟ أمي لا تتركيني وحيدة"، فقالت لها الأم: "ابنتي إنْ مِتُ وضاقت بك السُبل تعالي إلى هُنا، إلى بيت أمك، افرشي سجادتك واسجدي لله واحكِ له كل ما يُعكر صفوك، واشكِ له همك وبثي إليه حزنك".

ماتت الأم، ومر أسبوعٌ وضاقت الدنيا على البنت؛ فأخذت سجادتها وجرةً بها ماءٌ للوضوء، وذهبت إلى بيت أمها، وعملت بنصيحتها فأحست براحةٍ شديدةٍ. واستمر الأمر هكذا لمدة شهرٍ؛ كل أسبوعٍ تأخذ جرة الماء وتذهب إلى بيت أمها تمكث ساعاتٍ ثم تعود وهي مُبتسمةٌ؛ فلاحظ أهل زوجها هذا فأدخلوا الشيطان بينها وبين زوجها؛ وقالوا له: "من المؤكد أن زوجتك تخونك فهي تذهب كل أسبوعٍ إلى بيت أمها ومعها الماء وهي مُتكدرةٌ ثم تعود بعد ساعاتٍ والماء فارغٌ وهي مُبتسمة"، فقرر أن يُراقب زوجته، وذهب قبل الموعد إلى بيت أمها واختبأ في مكانٍ هو يراها وهي لا تراه، فذهبت الزوجة كالعادة، وكان قد مرّ على وفاة أمها شهرٌ، فتوضأت ثم صلّت وانفجرت باكيةً وهي ساجدةٌ، وبثت حزنها وشكت إلى ربها همومها وما يؤلم قلبها وبما يصدر عن أهل زوجها، وتدعو لزوجها بالهداية، وتتوسل إلى الله أن يُصلح لها زوجها لأنها تُحبه رغم كل شيءٍ، وظلت تبكي وتبكي، وهو يسمع ويبكي معها مُتأثراً بما يرى ويسمع، حتى أنهت صلاتها، وإذا بها ترى زوجها يبكي ويحتضنها ويعتذر لها ويعدها بأن يُعوضها عن كل ما سببه هو وأهله لها طوال السنوات الماضية. وبشّرها بأن الله استجاب لدعائها. في تلك الليلة لم يعودا إلى بيت أهله وناما في بيت أمها، وهي نائمةٌ رأت شخصاً في المنام يقول لها: "عشر سنواتٍ تشتكين لأقرب الناس إليكِ وما نفعك شيءٌ، وشهرٌ واحدٌ فقط اشتكيتِ لله؛ فغيّر الله حالك من حالٍ إلى حال". سبحانك ربنا ما أرحمك.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من مصائب؛ هذا مُبتلىً بفقد قريبٍ، وهذا مُبتلىً بموت حبيبٍ، وهذا مُبتلىً بذهاب مالٍ، وهذا مُبتلىً بمرضٍ، وهذا مُبتلىً في زوجته، أو أولاده، أو رزقه، وغير ذلك من أنواع الابتلاء. وعند الابتلاء تكثر الشكوى. إن الشكوى إلى الله والتضرع له وسؤاله إزالة ما أصاب العبد من حزنٍ وضُرٍ مشروعةٌ؛ ويدل على هذا ما حكى الله عن يعقوب عليه السلام أنه قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، وأخبر عن أيوب عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وقال تعالى في شأن خولة بنت ثعلبة ـرضي الله عنهاـ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾. ويُمنع التشكي الذي يدل على التضجر من قضاء الله والتسخط من قدره؛ فعدم الرضى بالقدر حرامٌ، وأما الدعاء بإزالة الضرر فلا حرج فيه.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك].

ولقد اشتكى النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله يوم بدرٍ إذ نظر إلى المُشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٌ وبضعة عشر رجلاً، فاستقبل القبلة ومدّ يديه ودعا ربه: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ]، فما زال يشكو إلى ربه حتى أنزل الله الفرج: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.

 

ويقع البعض في خطيئة (الشكوى لغير الله) إذا هُم ظنوا أن أحداً من البشر -حياً أو ميتاً- قادرٌ على أن ينفعهم أو يضرهم كما ينفع الله ويضر، أو إذا هُم يتسخطون من قضاء الله وقدره؛ فنجد الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛ فإنه لو عرف قدر ربه لما شكاه، ولو عرف ضعف الناس لما شكا إليهم. لقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجلٍ فاقته وحاجته فقال له: "يا هذا، والله ما زدتَ على أن شكوتَ مَن يرحمك إلى مَن لا يرحمك". أن تشكو الله إلى الناس فهذا قمة الجهل، لأن الله هو أرحم الراحمين، وبيده كل شيءٍ؛ فلماذا الشكوى لغيره سُبحانه وهو القائل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها بالنَّاسِ لم تُسَدَّ فاقتُهُ. ومَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها باللَّهِ فيوشِكُ اللَّهُ لَه برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ].

 

قال بعض السلف: من شكا من مُصيبةٍ نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوةً لطاعة الله، كل من علّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر مسألته. والشكاية إلى الله تُحقق العبودية؛ لأن الله سُبحانه وتعالى يُريد العبد خالصاً له، سائلاً له مُلّحاً عليه، لاجئاً إليه مُعتمداً عليه، مُنيباً إليه، مُتضرعاً، تائباً، ذاكراً، داعياً، ولا يمكن أن يكون العبد هكذا حتى يظهر عليه من حاله، أو من لسانه التضرع إلى بارئه، ولا يزال العبد يتضرع إلى الله ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء الذي شكا منه، وهذا سرٌ عظيمٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ، طوبى لمن بلغها، لا يزال المُبتلى يتضرع إلى الله، ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء. وأحب ما إلى الله انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له، وإظهار ضعفه، وعجزه، مع التضرع والتمسكن وإبداء الفاقة، فرحمة الله أقرب إلى هذا القلب، والله يبتلي عبده ليسمع تضرعه؛ فالله يحب صوت المُلّحين في الدعاء، ويُحب أنين المشتكين إليه.

 

إن (الشكوى لغير الله) مذلةٌ وجهلٌ وعجزٌ؛ قال الشاعر:

إن الوقوفَ على الأبوابِ حرمانُ

والعجزُ أنْ يرجو الإنسانَ إنسانُ

متى تؤمل مَخلوقاً وتقصدهُ

إن كانَ عندكَ بالرحمنِ إيمانُ

ثِقْ بالذي هو يُعطي ذا ويمنعُ ذا

في كلِ يومٍ له في خَلقهِ شانُ

وقال آخر:

وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا

تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ

وقال ثالثٌ:

مَنْ يَسألُ الناسَ يَحْرِموهُ

وَسائِلُ الله لا يَخيبُ

 

إن سائل الله -عزَّ وجلَّ- عزيزٌ مُجابٌ، أما سائل الناس فمطرودٌ ذليل؛ فلو شكوتَ إلى مؤمنٍ أشفق عليك، لكنه ضعيفٌ ولا يملك لا لنفسه ولا لك شيئاً، ولو شكوتَ إلى كافرٍ شمت بك، وفرح لما أنت فيه من هَمٍ وغمٍ وضيق؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ].

 

يقول العلماء إن هناك فرقاً دقيقاً بين الإخبار بالحال، وبين (الشكوى لغير الله) إلى المخلوق؛ فالإخبار بالحال هو أن يسأل المُبتلى شخصاً قادراً على فعل شيءٍ له؛ كالطبيب يصف له دواءً، والمدير يرفع عنه غُبناً. أما الشكوى إلى الله سُبحانه وتعالى، فهي محمودةٌ بل إن المرء يُثاب عليها؛ ففيها استعطافٌ وتملقٌ واسترحامٌ لرب العزة.

إن سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله شركٌ، أما إذا كان الإخبار عن الحال لمن يُمكن له أن يُساعد في إزالة ضررٍ، أو حل مُشكلةٍ على نحوٍ ليس فيه تسخطٌ على القدر، ولا جزعٌ من المكتوب، فلا بأس به.

 

 أحبتي.. يقول أحد العارفين: على الإنسان عند وقوع البلاء ألا يشكو إلا إلى الله؛ يُناجيه، يُخاطبه، يعتذر، يستغفر، يُعلن توبته، "اللهم اقبل توبتي، اللهم آمن روعتي، اللهم أقِلّ عثرتي، اللهم اغفر زلتي". عليه أن يكون في مُناجاةٍ مع الله؛ يسأله، يعتذر له، يطلب السماح منه، يُعبّر عن ضعفه أمامه، يُظهر محبته له، يُحاور الله ولا يُحاور أحداً من الناس، وبقدر ما يتذلل لله بقدر ما يكون عزيزاً على الناس، إن فعل ذلك وجد الله -عزَّ وجلَّ- ينتظره ليسعده، ليكرمه، ليرحمه. فعلينا جميعاً أن نتجنب (الشكوى لغير الله)؛ إلا فيما هو من مقدور البشر، ومع الاعتقاد الجازم واليقين الكامل بأن الله هو وحده ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وهو ﴿اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهو ﴿رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ وهو -دون غيره- الذي يُسبب الأسباب، بيده مقادير كل شيءٍ، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. إنه -سُبحانه وتعالى ينتظرنا لنشتكي له وندعوه فيستجيب دعاءنا، ويُعطينا سؤلنا، بل ويُدهشنا بعطائه؛ أوليس هو سُبحانه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾؟ بلى، ورزقه لا يقتصر على المال فقط بل يمتد ليشمل كل خيرٍ نتمناه لأنفسنا.

اللهم اجعلنا ممن يعرفك في الرخاء قبل الشدة، ومن الذين لا يدعون إلاك، ولا يطلبون إلا منك، ولا يخضعون إلا لك.

 

https://bit.ly/3f2wzgT