الجمعة، 21 أكتوبر 2022

إيجابية المسلم

 

خاطرة الجمعة /366


الجمعة 21 أكتوبر 2022م

(إيجابية المسلم)

 

 

في حِقبة الثلاثينات من القرن الماضي، أي قبل حوالي تسعين عاماً، التحق طالبٌ جديدٌ بكُلية الزراعة في إحدى الجامعات المصرية، وعندما حان وقت الصلاة بحث عن مكانٍ ليُصلي فيه؛ فأخبروه أنه لا يوجد مكانٌ مُخصصٌ في الكُلية للصلاة، إنما توجد غرفةٌ صغيرةٌ في القبو تحت الأرض يُصلي فيها من يريد! ذهب الطالب وهو في قمة الذهول والاستغراب من العاملين بالكُلية ومن طلابها لعدم اهتمامهم بموضوع الصلاة، وتساءل تُرى هل هُم يصلون أم لا؟! دخل الغرفة فوجدها صغيرةً ضيقةً غير مرتبةٍ ولا نظيفة، مفروشةً بحصيرٍ قديمٍ، ووجد فيها عاملاً يُصلي وحده، فسأله: "هل تُصلي هنا دائماً؟"، فأجاب العامل: "نعم، لا أحد غيري يُصلي، ولا يوجد مكانٌ للصلاة في الكُلية سوى هذه الغرفة"، فقال الطالب مُعترضاً: "أما أنا فلن أُصلي في هذا المكان تحت الأرض"، وخرج من القبو إلى الأعلى، وبحث عن أكثر مكانٍ واضحٍ في الكُلية ووقف وأذّن للصلاة بأعلى صوته!

تفاجأ الطلاب بما حدث؛ وأخذوا يضحكون على هذا الطالب الجديد ويُشيرون إليه بأيديهم، واتهمه بعضهم بالدروشة والجنون، غير أنه لم يبالِ بذلك، جلس قليلاً ثم نهض وأقام الصلاة وبدأ يُصلي وكأنه لا يوجد أحدٌ حوله، صلى وحده. استمر هذا الحال من ضحك الطلاب واستهزائهم عدة أيام.. بعدها قَلّ ضحكهم عليه وكأنهم اعتادوا على ما يفعله كل يوم، ثم اختفى صوت ضحكاتهم وتندرهم عليه، ثم حصل تغييرٌ صغيرٌ؛ إذ خرج العامل الذي كان يُصلي في القبو للصلاة معه جماعةً، ثم أصبحوا أربعةً، وبعد أسبوعٍ صلى معهم أحد أساتذة الكُلية!

انتشر الموضوع وكثر الكلام عنه في جميع أرجاء الكُلية؛ فاستدعاه عميدها وقال له: "لا يجوز أن يحدث هذا؛ أنتم تُصلون في وسط الكُلية! بدلاً من ذلك سنبني لكم مسجداً عبارة عن غرفةٍ نظيفةٍ مُرتبةٍ يُصلي فيها من يشاء في أوقات الصلاة"، وهكذا بُني أول مسجدٍ في كُليةٍ جامعيةٍ بمصر. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ أن طلاب باقي الكُليات أحسوا بالغيرة وقالوا: "لماذا لا يكون لدينا مسجدٌ مثل مسجد كُلية الزراعة؟"؛ فبُني مسجدٌ في كل كُليةٍ من كُليات الجامعة.

 

أحبتي في الله.. لا أحد يذكر الآن اسم ذلك الطالب، ولا أحد يعلم إن كان حياً أم ميتاً، لكن المؤكد أنه يأخذ كل يومٍ حسناتٍ، ويكسب ثواباً عن كل مسجدٍ بُني في جامعات مصر يُصلى فيه ويُذكر اسم الله، كما أنّ له أجراً مستمراً متزايداً عن كل من يُصلي في تلك المساجد من الطلاب والإداريين والعمال والأساتذة، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. لقد كان هذا الطالب مثالاً على (إيجابية المسلم)؛ فتصرفه بإيجابيةٍ في هذا الموقف كانت له نتيجةٌ أعظم بكثيرٍ مما كان يتوقع، لقد جعل بإيجابيته لنفسه أثراً باقياً خالداً إلى ما شاء الله، وأضاف للحياة معنىً مُتميزاً.

 

وليس بعيداً عن معنى هذه القصة ما يُروى عن ملكٍ في غابر الأزمان، أراد أن يختبر شعبه؛ فأمر جنوده بوضع صخرةٍ كبيرةٍ في إحدى الطُرق المُهمّة التي تمرّ منها قوافل التجّار ويرتادها الكثير من الناس، ثمّ توارى خلف بعض الأشجار في مكانٍ قريبٍ مُختبأً ليرى ما إن كان أحدٌ من الناس سيقوم بإزالة الصخرة. مرّ عددٌ كبيرٌ من الناس من الطريق، لم يُبعدوا الصخرة وفضلوا العبور من حولها، فيما أبدى بعضهم تذمّره وانزعاجه من ملك البلاد الذي لم يقم بمتابعة طُرق مملكته وإصلاحها، لكن ما من أحدٍ منهم كان إيجابياً وأخذ زمام المبادرة وحاول إزاحة الصخرة. بعد مرور عدة ساعاتٍ، ظهر فلاّحٌ بسيطٌ يحمل سلالاً من الخضار على ظهره، وما إن وصل إلى حيث الصخرة الكبيرة، حتى وضع حمولته جانباً، وراح يدفع الصخرة بأقصى قوّته محاولاً إبعادها؛ فنجح في ذلك بعد جهدٍ كبير. عاد الفلاح إلى سلاله ليحملها، لكنه فوجئ بوجود كيسٍ قُماشيٍ مُلقىً في المكان الذي كانت الصخرة فيه، فالتقطه بيده وفتحه؛ فإذا به يمتلأ بالدنانير الذهبية! اندهش وعيناه لا تكادان تُصدّقان ما يرى، ثم رأى مع الدنانير بداخل الكيس ورقةً صغيرةً مطويةً، فتحها وقرأ ما فيها: “هذا الكيس هديةٌ مني -أنا ملك البلاد- للشخص الذي يُبعد الصخرة عن الطريق”.

العبرة المُستفادة: كل عقبةٍ نواجهها في حياتنا هي فرصةٌ لنا لتحسين ظروفنا، وفي الوقت الذي يكتفي فيه الكُسالى بالتذمر والشكوى، لا يُفوت الأشخاص الإيجابيون هذه الفرصة جيّداً ليقوموا بمُساعدة الغير.

 

يقول العلماء إن المسلم إنسانٌ إيجابيٌ يكره السلبية، ويسعى إلى إصلاح الكون بكل ما يستطيع؛ لأنه يُدرك أن (إيجابية المسلم) هي الروح التي تدبُّ في الأفراد فتجعل لهم قيمةً في الحياة، وتدب في المُجتمع فتجعله مُجتمعاً نابضاً بالحياة، وهي جماع عدة فضائل: من أمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر، وبرٍّ ووفاءٍ وصدقِ عهدٍ مع الله سُبحانه وتعالى. أما الإيجابية فهي تعني الاستجابة والتلبية، والطاعة والمسارعة إلى الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. والإيجابية حالةٌ في النفس تجعل صاحبها مهموماً دائماً بأمرٍ ما، ويرى أنه مسئولٌ عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهداً في العمل له والسعي من أجله. والإيجابية تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء. والشخص الإيجابي هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه. إنه شخصٌ لا يهدأ له بال، ولا تَنطفِئ له جَذوة، ولا يكلُّ ولا يملُّ؛ حتى يُحقِّق هدفه الذي يَسعى إليه وغايتَه المنشودة.

لقد جاء القرآن الكريم ليغرس الفضائل في نفوس المؤمنين ويشحذ الهمم إلى معالي الأمور وينهى عن السلبية، ويحض على (إيجابية المسلم)؛ يقول تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

وفي السُنة المشرفة حثٌ على الإيجابية والمبادرة وعدم الركون للسلبية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لَأَنْ يَأْخُذَ أحَدُكُمْ حَبْلَه، فيَحْتَطِبَ علَى ظَهْرِه؛ خَيْرٌ له مِن أنْ يَأْتيَ رَجُلًا، فيَسْأَلَه، أعْطاهُ أوْ مَنَعَه].

 

طريق الإيجابية لا يبدأ إلا بالمبادرة؛ قال الشاعر:

بادرِ الفرصة َواحذر فوتَها

فَبُلُوغُ الْعِزِّ في نَيْلِ الْفُرَصْ

فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ

بادرَ الصيدَ معَ الفجرِ قنصْ

ولنا في النملة عبرةٌ؛ فقد كانت نموذجاً يُقتدى به في المُبادرة والإيجابية، فرغم أنها كائنٌ ضعيفٌ لا يأبه به الإنسان، إلا أن الله سُبحانه وتعالى سمى سورةً في القرآن الكريم باسمها، وأورد إلينا قصتها مع نبي الله سليمان عليه السلام، لنتعلم منها درساً عظيماً في المُبادرة والإيجابية؛ يقول تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ َ... ﴾. كما كان للهُدهد هو الآخر قصةٌ مع سليمان عليه السلام فيها درسٌ لنا جميعاً عن المبادرة والإيجابية.

 

لن يعود للمسلمين مجدهم، ولن تعود لهم عزتهم، إلا إذا تمسكوا بإيجابيتهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر -إذ أن هذا شرط خيريتهم- يقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، ولا يسكتون على مُنكرٍ يرونه؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ].

 

أحبتي.. إن (إيجابية المسلم) تبدأ بالمُبادرة إلى عمل الصواب، ولو بدا غريباً في نظر الآخرين، نسير في الطريق الصحيح ولو كُنا قِلةً، ونبتعد عن طريق الضلال ولو سار فيه مُعظم الناس؛ علينا أن نسلك طريق الحق ولا نأبه بقلة السالكين، ونتجنب طُرق الباطل ولا تغرنا كثرة الهالكين. ولنكن مؤثرين في أي مكانٍ نتواجد فيه؛ نعمل على تصحيح الأخطاء التي من حولنا، ونكون قدوةً إلى الخير والرشاد لغيرنا، ولا نستحي من قول الحق، لا نكتفي بالأماني، وإنما نُبادر بالعمل ونأخذ بالأسباب، نلتزم (إيجابية المسلم) فندعو الله سُبحانه وتعالى أن يوفقنا ويُسدد خطانا، ولا نُقصِّر في دعوة غيرنا إلى طريق الحق والرُشد والصواب، وهذا من الجهاد في سبيل الله. عسى أن نكون ممن وصفهم الله في كتابه الكريم بأنهم قومٌ ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾.

اللهم اجعلنا هداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضلين، وأعنّا على الثبات وتحمل أذى المُثبطين والُمشككين والغافلين والمُغيَبين.

https://bit.ly/3VMVaXT

الجمعة، 14 أكتوبر 2022

أفضل عبادة

 

خاطرة الجمعة /365


الجمعة 14 أكتوبر 2022م

(أفضل عبادة)

 

انتهت إجازته وركب الطائرة عائداً إلى بلده، كانت تجلس بجانبه امرأةٌ مُسنةٌ من الفلاحات. قاموا في الطائرة بتقديم وجبات الطعام ومع كل وجبةٍ قطعة حلوى بيضاء. المرأة المُسنة أمسكت بقطعة الحلوى وبدأت تأكلها بالخُبز ظناً منها أنها جبنةٍ بسبب لونها الأبيض، وعندما اكتشفت أنها حلوى شعرت بإحراجٍ شديدٍ ونظرت إلى الرجل الذي بجانبها، فتظاهر بأنه لم يرَ ما حصل.

ثوانٍ قليلةٍ ثم قام الرجل بفتح قطعة الحلوى من صحنه وقام بما قامت به المرأة المُسنة تماماً؛ فضحكتْ المرأة، فقال لها: "سيدتي لماذا لم تخبريني أنها حلوى وليست جبنة؟"، فقالت المرأة: "أنا كذلك كنتُ مثلك؛ ظننها جبنة"!

 

أحبتي في الله.. بالتأكيد كان الرجل يعرف أنها ليست جبنة، كما يعرف أنها رحلةٌ وتنتهي، ويعرف كذلك أنها مجرد امرأةٍ بسيطةٍ، لكنه كان يعرف أيضاً أن جبر الخواطر (أفضل عبادة) أراد ألا يحرم نفسه من ثوابها.

 

وهذا موقفٌ آخر من مواقف أداء هذه العبادة حدث حينما مرت امرأةٌ بجانب شابٍ مُعاقٍ ذهنياً بيده عودٌ يرسم به على الأرض؛ فأشفق قلبها عليه وسألته: "ماذا تفعل هنا؟"، قال: "أرسم الجنة وأقسمها إلى أجزاء"، فابتسمت وقالت له: "هل يمكن أن آخذ قطعة منها؟ وكم ثمنها؟"، نظر إليها وقال: "نعم القطعة بعشرين ريالاً"، أعطته المرأة عشرين ريالاً وذهبت. وفي ليلتها رأت في المنام أنها في الجنة. في الصباح قصت الرؤيا على زوجها وما جرى لها مع الشاب المُعاق؛ فقام الزوج وذهب إلى الشاب ليشتري قطعةً منه، وقال له: "أريد أن أشتري قطعةً من الجنة، كم ثمنها؟"، قال الشاب: "لا أبيع"، فتعجب الرجل وقال له: "بالأمس بعتَ قطعةً لزوجتي بعشرين ريالاً"، فقال الشاب المُعاق: "إن زوجتك لم تكن تطلب الجنة بالعشرين ريالاً، بل كانت تجبر بخاطري، أما أنت فتطلب الجنة وحسب، والجنة ليس لها ثمنٌ؛ فدخولها يمر عبر جبر الخواطر".

 

ومن الأقوال الشهيرة عن جبر الخواطر إنه "من سار بين الناس جابراً للخواطر، أنقذه الله من جوف المخاطر". وهذا موقفٌ يُبين كيف أن من يجبر الخاطر ينقذه الله بالفعل من مخاطر مؤكدة؛ فقد حدث أن شيخاً كان من أشهر الدعاة في مصر، رحمه الله، اتصل ذات يومٍ بطبيبٍ معروفٍ ليحجز للكشف عنده في العيادة، فقال له الطبيب: "لا والله يا مولانا، أنا سآتي إلى بيتك"، وبعد الكشف سأله الطبيب عن (أفضل عبادة) تُقرب المُسلم من الله، فقال له الشيخ: "فكِّر أنت"، فقال الطبيب: "الصلاة؟"، قال له الشيخ: "لا"، قال الطبيب: "الصيام؟"، قال له الشيخ: "لا"، قال الطبيب: "العُمرة؟"، قال الشيخ: "لا؛ (أفضل عبادة) هي جبر الخاطر"، تعجب الطبيب وسأل: "كيف يا مولانا؟ وما دليلك؟"، قال الشيخ: "مَن ألعن ممن يُكذِّب بالدين؟" رد الطبيب: "لا أحد"، قال الشيخ: "يقول الله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، ماذا يفعل؟ ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾، يعني: يكسر خاطر اليتيم، ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، يعني: يطرد المساكين، ولا يجبر خواطرهم، ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، فجعل أمر الصلاة الأمر الثالث بعد أمرين كان فيهما جبرٌ للخواطر. يقول الطبيب الذي يروي القصة أنه بعد ذلك بعدة أيام، وكان يوم إجازة، تلقى مكالمةً من جاره يقول له: "اجبر بخاطري يا دكتور؛ حاول الذهاب إلى حماتي عندك في المُستشفى مريضة، اطمن عليها وطمّنا"، يقول: "فتذكرتُ نصيحة الشيخ وحديثه عن جبر الخواطر حين جاءت كلمة جبر الخاطر على لسان جاري، فأحسستُ إنها إشارةٌ من الله، فقررتُ الذهاب إلى المُستشفى لأطمئن على حماته، وعندما كنتُ في المُستشفى، شعرتُ بألمٍ شديدٍ في صدري، لقد كانت جلطةً في الشُريان التاجي، فأعطاني الطبيب الدواء وأنقذني من الجلطة، فلو أن تلك الجلطة جاءتني ولم أكن وقتها في المُستشفى، لكنتُ ميتاً، فكأن الله يقول لي: {كما جبرتَ بخاطر جارك، جبرتُ أنا بخاطرك وأنقذتُ حياتك}".

 

وعن أساليب جبر الخواطر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ -يعني مسجدَ المدينةِ- شهرًا، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ].

 

ولعل من أجمل ما قرأتُ عن جبر الخواطر ما قاله أحد التابعين: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأُنصتُ له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعته قبل أن يولد".

 

أحبتي.. يقول أحد العابدين: "ما رأيتُ عبادةً أجّل ولا أعظم من جبر الخواطر. وما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم".

ويقول العلماء إن جبر الخواطر خُلُقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ، وعظمة قلبٍ، وسلامة صدرٍ، ورجاحة عقلٍ، يجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت، وقلوباً فُطرت، وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة، وما أعظم أثرها! إن إماطة الأذى عن مشاعر وقلوب الناس لا يقل درجةً عن إماطة الأذى عن طريقهم. ‏اجبروا الخواطر؛ فتلك (أفضل عبادة)، راعوا المشاعر، ‏وانتقوا كلماتكم، ‏وتلطفوا بأفعالكم، ‏ولا تؤلموا أحداً، وقولوا للناس حُسناً، ‏عيشوا أنقياء أصفياء؛ فنحن جميعاً سنرحل وتبقى آثارنا. وأعجبني قول أحدهم: جبر الخاطر - الذي هو (أفضل عبادة) - لا يحتاج إلى كثير جهدٍ ولا كبير طاقةٍ، فربما تكفي البعض كلمةٌ طيبةٌ أو دعاءٌ بإخلاصٍ أو توجيهٌ وإرشاد، وربما يحتاج البعض الآخر إلى مساعدةٍ أو مال أو قضاء حاجة، ويكتفي البعض بابتسامةٍ صافيةٍ حانيةٍ، فعلينا أن نجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ولا نبخل على أنفسنا، فالصدقة والخير نفعه يعود إلينا.

أحبتي.. اجبروا خواطر بعضكم بعضاً، واحتسبوا الأجر والثواب من الله سُبحانه وتعالى.

https://bit.ly/3D0iMRO

الجمعة، 7 أكتوبر 2022

العقوق القبيح

 

خاطرة الجمعة /364


الجمعة 7 أكتوبر 2022م

(العقوق القبيح)

 

تقول الشاكية إلى ربها ضَعف جانبها وقلة حيلتها، وهي تحكي إلى أحد الشيوخ:

تُوفي والده في مُقتبل عُمري فلم يهن عليَّ أن أتشاغل عنه بزواجٍ خشيةً عليه، فوقفتُ حياتي.. كلَّ حياتي: صباحها ومساءها، ليلها ونهارها لأجله، وتمضي الأيام، وأنا أعدُّها عداً أنتظر ذلك اليوم الذي أُراه فيه في مصاف الرجال، وقد كرستُ كل جُهدي لتربيته على معالي الأخلاق وأفاضلها، ووطنتُ نفسي أن أبذل كل ما أستطيع حتى يبلغ ذلك المقصد الجليل؛ فلم يزل يترقى في دراسته، حتى نال من الشهادات أعلاها، وها هو يوشك أن يتبوأ الوظيفة المرموقة والوجاهة بين الناس، فسعيتُ لتزويجه بامرأةٍ تُسعده وتُلاحظ خاطره بعد أن كللتُ وضعفتُ عن خدمته لكبر سني؛ إذ بدأ الشيب يُجهز على بقيةٍ باقيةٍ من شعراتٍ سُودٍ في رأسي.

وها هو أول أولاده ماثلٌ بين يدي؛ فرأيتُ فيه طفولة ابني وفلذة كبدي، وأعادني لذكرياتٍ تليدةٍ إبان تربيتي لأبيه. سألني حفيدي ذات يومٍ ببراءة الطفولة: "ما هذه الخطوط التي تحف وجهك من جانبيه يا جدتي؟"، وكأنه يقرأ آثار الأيام السالفة.

ولدى بلوغي هذه المرحلة من العمر إذا بأمورٍ تحدث في جنبات البيت، بدأ بعدها زلزالٌ هزَّ كل كياني ووجداني؛ حين فوجئت بزوجة ابني وقد قلبت لي ظهر المِجن، لأعود ضُحى أحد الأيام، فأجد سريري ومتاعي وثيابي عند عتبة الباب!! يا للعجب... لعل حريقاً قد حلَّ بالبيت أثناء غيبتي!! أم لعلهم أرادوا تجديد أثاث البيت؟! وبعد أن طرقتُ الباب، إذا بزوجة ابني، تُطلق رصاصاتٍ قاتلةً من بين ثنايا فمها فتقول: "قد تحملناكِ في السنين الماضية، فلتذهبي إلى إحدى أخواتك أو بعض أقاربك، فالبيت يضيق بك؛ وبتِّ شخصاً غير مرغوبٍ فيه عندي وعند زوجي الذي هو ابنك"، فانعقد لساني، ولم أحرِ جواباً، وبقيتُ عند الباب أنتظر حضور ابني فهو أملي بعد الله، ولن يرضى لأمه أن يُساء لها، ولا أن يُقال لها مثل هذا الكلام. ولما حضر ابني أخبرته الخبر، وأنا أحاول أن تكون ردة فعله مُتعقلةً غير مُتسرعةٍ خشية أن يُطلّق زوجته أو يضربها بسبب جرأتها؛ فكانت المفاجأة، المفاجأة التي شعرتُ معها كأن جمراً يتوقد بين أضلعي، إنه يؤكد ما أخبرتني به زوجته، ويقول: "ولكن بإمكانكِ لفترةٍ مؤقتةٍ أن تسكني في الغُرفة الخارجية المُلحقة بالسور، وأن تضعي متاعكِ في الغُرفة العُلوية على السطح إلى أن تجدي مكاناً تذهبين إليه"!!!

يا تُرى من الذي أمامي؟ أهو ابني؟ أم أنه مُسخٌ له؟ هل؟! هل؟! لا يمكن... مُستحيل. لقد انعقد لساني، وجف دمعي، وخارت قواي، ولكن لا مجال لي إلا أن أرضى بما عرضوه عليّ؛ فلا حيلة لي ولا خيار.

ثم تتوالى الأيام حُبلى بما لا يُمكنني وصفه؛ فمسكني في غُرفةٍ مُلحقةٍ بسور المنزل، حيث لا أنيس ولا جليس، ودخول البيت والجلوس معهم مُحرمٌ عليَّ، ولقد حاولتُ فما كان جزائي إلا التبكيت والتعنيف من سيدة البيت.

أما طعامي فعليَّ أن أنتظر حتى تنتهي سيدة البيت وزوجها منه، ثم أجد ما فضل عنهم عند عتبة الباب بعد أن أخذ مني الجوع كل مأخذ. وأما زوجها فقد قرر أن هذا بيتها وهي سيدته، وأنها بنت الناس لا يملك أن يمنعها من حقها في إدارة بيتها!! فلها أن تمنع من شاءت، وأن تأذن لمن شاءت، وأن الحياة مراحل وفتراتٌ فلا ينبغي أن يأخذ أحدٌ من عمر أحد! ومع كل ذلك كان قلبي مُتعلقاً به، بل حتى برؤيته، بل حتى برائحته؛ فمع كل ما أُقاسيه كنتُ أتمنى رؤية ابني وأولاده ولو لدقائق معدودةٍ في الأسبوع، ولكن هيهات هيهات، فحظي منهم أن أرمقهم من فتحة بابي عند دخولهم أو خروجهم وهُم لا يشعرون. ولن أنسَ ما حييتُ ذلك اليوم الذي خرجتُ فيه من غُرفتي عندما سمعتُ بكاء حفيدي الصغير بجانب غُرفتي، فاحتضنته وتشممته؛ فتذكرتُ بريحه ريح ابني الوحيد، تذكرتُ طفولة ولدي يوم كنتُ أُرضعه وأُنظِّفه وأُلاعبه، فلم أتمالك نفسي ووجدتني أحمله وأضمه إلى صدري وأقبله، وأقبل يديه ورجليه، ولم يقطع عليَّ هذه اللحظات الرائعة إلا وكزةٌ على كتفي! لقد فوجئتُ بأمه من ورائي تدفعني، وتوبخني، وتنتزعه مني، وتنهرني: "ماذا تريدين أيتها العجوز من هذا الطفل الصغير؟ ألا تتأدبين وقد سمحتُ لك بالبقاء حتى تتجرئي وتمتد يدك إلى ولدي؟!!"، ثم غادرت الغرفة بحفيدي وكأنما اقتلعت معها جُزءاً من كبدي. وفي مساء نفس اليوم طرتُ فرحاً بحدثٍ غريبٍ؛ إنه ابني شاخصٌ فوق رأسي داخل غُرفتي ولأول مرةٍ، يا للفرحة، يا للسعادة، في الصباح حفيدي والآن ولدي! وبرغم عجزي وضعفي، إلا أن القوة تعود إلى بدني وها هي روحي تبتهج فقد نهضتُ فَرِحَةً بدخول ولدي إلى غُرفتي بعد أن لم يطأ عتبتها منذ أشهرٍ عديدةٍ، لكن سرعان ما تبدد هذا الفرح، لقد تبخر مع عبارات التوبيخ والتقبيح من ابني تجاهي! "لماذا؟ لماذا يا بني؟! أي خطأٍ مني؟ أية جريمةٍ اقترفتها حتى تُهددني وتوبخني وتُقبحني؟ لماذا يا حبيبي؟"، "يبدو أنكِ بدأتِ تُخرفين أو أنك تعاندين! ألم أمنعكِ من التدخل فيما لا يعنيكِ؟ ألم نمنعكِ من الدخول إلى البيت؟ ألا يكفي أنها سمحت لك بالسكن في هذه الغُرفة؟ كيف تجترئين لتأخذي الطفل إلى هذه الغُرفة؟ ألا تعلمين أنك بذلك قد تُسببين له المرض بسبب غرفتك المُلوثة؟ ألا تعلمين أنك ستُعدينه بصحتك المتدهورة؟"، يا أسفاه يا ولدي!! إذاً أنتَ تعلم أن الغُرفة غير صحيةٍ، وتعلم أنّ صحتي مُتدهورةٌ، وأني أُعاني من أمراضٍ مُزمنةٍ، لك الحق بأن تخاف على ولدكِ بسبب وجوده قُرب المرض للحظاتٍ، لكن ألا تخاف عليَّ والمرض يُساكنني في غُرفتي ويُلازمني في بدني؟! يا بُنيَّ والله ما قصَّرتُ معكَ منذ كنتَ في أحشائي وبعد ولادتي لك، يا بُني لقد كنتُ أشتري راحتك وصحتك وسعادتك بتعبي ومرضي وشقائي، يا بُني أنتَ أملي في الحياة؛ فلا تكن نهايته بألمي.... أرجوك يا بنيَّ... أرجوك...

تقول الشاكية للشيخ: "هذا أيها الشيخ فصلٌ من فصول حياتي... وما خفي أقسى وأفظع. ولقد دعتني بعض قريباتي ممن علمن بحالي لأن أنتقل عندهن وأفارق حياة العذاب تلك، ولكني أقول مع كل ذلك، إني سأتحمل ما بقيتُ في هذه الحياة تلك الحال حتى لا أُحرم رؤية ابني لثوانٍ معدودةٍ؛ عندما أسمع فتحه باب المنزل ويدلف إلى زوجته وأولاده، والله يتولَّى أمري".

 

أحبتي في الله.. يقول الشيخ: "كان ذلك وصفاً مُقتضباً وسرداً مُختصراً لموقفٍ تبكي من أجله المروءة وتأباه الشهامة فضلاً عن كونه من (العقوق القبيح)، إنها حال عددٍ من المخذولين الذين أغوتهم شياطين الجن والإنس فساموا أُمهاتهم سوء العذاب. إن هذه الحال لولا أنّ صاحبتها قَصّتها عليَّ لحسبتُها نسجاً من الخيال… إنها وإن كانت حالاتٍ محدودةً وقليلةً، إلا أن وقوع حادثةٍ واحدةٍ على غرارها لمما يُحزن النفس ويُكدّر الخاطر. ويا سبحان الله.. كيف ينسى ذلك العاق ضَعف طفولته وهو صغير؟ ألا يعلم أنه كان حَملاً في أحشائها تسعة أشهر، مشقةً بعد مشقةٍ؛ فلا يزيدها نموه إلا ثِقلاً وضعفاً، ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾؟ وكيف يتناسى إشرافها على الموت عند وضعها له؟ فإذا بها تُعلِّق آمالها عليه وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً.. لكنها رأت فيه بهجة الحياة وزينتها ما أنساها كل ما قاسته، وجعلها تزداد بالدنيا تعلقاً وحرصاً. وكيف يتناسى إشغالها نفسها بخدمته ليلها ونهارها، تُغذيه بصحتها، وتُريحه بتعبها، طعامه لبنها، وبيته حجرها، ومركبه يداها وصدرها، تجوع ليشبع، وتسهر لينام؟ وكيف يتناسى انجذابه في طفولته نحوها في كل أحواله وشئونه؟ فسبيله لدفع جوعته مناداة أمه... وسبيله لدفع عطشه مناداة أمه... وسبيله لدفع الأذى مناداة أمه... حتى بات في مخيلته أنَّ كل خيرٍ في كنفها... وأنَّ الشر لا يصله إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها... أفبعد كل ذلك يكون جزاؤها على هذه الشاكلة؟ قهرٌ وعقوقٌ... عصيانٌ وجحودٌ... قطيعةٌ وصدود!!! ألا يعلم من كان على هذه الطريق العوجاء من الأولاد أن الإحسان إلى الوالدين عظيمٌ، وأن فضلهما سابق؟ ألا يعلم أنه لو بذل لهما أموال الدنيا وشغل نفسه بهما ليلاً ونهاراً ما وفَّاهما حقهما؟ وخاصةً الأم التي قاست الصعاب والمكاره بسبب المشقة والتعب من وِحامٍ وغثيانٍ وثقلٍ وكربٍ وغير ذلك من شدائد الحمل والوضع؛ يقول تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾. فوالله إنّ لهذا الصنف من الجاحدين... أهل العقوق والجحود.. إنّ لهم من الله في هذه الدنيا يوماً يعضون فيه أصابع الندم، ويُلاقون سوء جحودهم ونكرانهم. لقد قضى الله ألا يوفِق عاقاً... وأن تُغلق في وجه العاق كل أبواب الخير. وأن يوافَى بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ، مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القيامةِ: العَاقُّ لوالديه، ومُدْمِنُ الخَمْرَ، والمنَّان]. فيا ويحَ من عقَّ أمَّه وأباه.. كم من الخير فاته؟! وكم من الرزق تخلى عنه؟!

 

يقول أهل العلم إن الشرع الحنيف حثّ على برّ الوالدين ورغّب فيه، وحرّم عقوقهما وعدّه من كبائر الذنوب. ومن (العقوق القبيح) سوء الأدب مع الوالدين، والتنكّر لمعروفهما، حتى إنّ كلمة أُفٍّ تُعتبر من العقوق؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾، فكيف بالتكبّر، والحرمان، والاعتداء، والإهانة، والهجران؟

ومن صور (العقوق القبيح) أن يلعن الرجل والديه بشكلٍ غير مباشرٍ؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إنَّ مِن أَكبَرِ الكبائِرِ أن يَلْعَنَ الرَّجُلُ والدَيهِ]، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وَكيفَ يَلعنُ الرَّجُلُ والديهِ؟ قالَ: [يَسبُّ الرَّجلُ أبا الرَّجلِ، فيسُبُّ أباهُ، ويسبُّ أمَّهُ فيَسبُّ أُمَّهُ].

ويُعد عقوق الأبناء للوالدين ثاني أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للصحابة ذات يومٍ: [ألا أنبِّئُكم بأكبرِ الكبائرِ "ثلاثًا"؟] قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: [الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالدينِ] وجلَس وكان مُتكئًا، فقال: [ألا وقولُ الزُّورِ]. وممّا يدلّ على عظم جريمة العاقّ في حقّ والديه، أنّه ملعونٌ على لسان نبي الرحمة عليه الصّلاة والسّلام؛ حيث قال: [لعنَ اللهُ من عقَّ والديهِ]، كما بيّن النبي عليه الصّلاة والسّلام أنّ العاقّ محرومٌ من دخول الجنّة؛ فقال: [لا يدخلُ الجنَّةَ عاقٌّ، ولا منَّانٌ، ولا مُدمنُ خمرٍ، ولا مُكذِّبٌ بقدرٍ].

بالإضافة إلى أنّ العاق لوالديه يُعتبر قاطعاً للرّحم، بل قاطعاً لأعظم رحمٍ أمره الله تعالى بوصلها؛ حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [إنَّ اللَّهَ خلقَ الخلقَ حتَّى إذا فرغَ من خلقِهِ قالتِ الرَّحِمُ: هذا مقامُ العائذِ بكَ منَ القطيعةِ، قالَ: نعَم، أما ترضِينَ أن أصلَ من وصلَكِ وأقطعَ من قطعَكِ؟ قالت: بلى يا ربِّ، قالَ: فهوَ لكِ].

 

يجدر بمن عقّ والديه بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن يُسارع إلى التّوبة إلى الله عزّ وجلّ من هذا الذّنب العظيم، وتكون التّوبة من عقوق الوالدين بالإقلاع عن العقوق، والنّدم على هذا الذنب، والعزم على عدم الرّجوع إليه، ثمّ إتباع ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأنّ الأعمال الحسنة تُكفّر السيئات وتمحو الخطايا؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ﴾. والاكتفاء بالاستغفار في حال عقوق الوالدين ليس كافياً، وإنّما يجدر الحرص على التوبة، ثمّ الإحسان إلى الوالدين، وذلك بالاعتذار إليهما، والدعاء بالخير لهما، وتقبيل رأسيهما، واستعمال العبارات المُحبّبة إليهما عند الخطاب، والتواضع لهما، بالإضافة إلى إكرامهما مادياً قدر الاستطاعة. وحريٌّ بالمسلم أن يستحضر أنّ التوبة من عقوق الوالدين هي أوبةٌ إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن تكون إقبالاً وحُبّاً لوالديه؛ وذلك لأنّ الله عزّ وجلّ قرن طاعتهما بطاعته، وعقوقهما بمعصيته.

 

أحبتي.. أختم بما كتبه أحد العلماء عن (العقوق القبيح) مُذّكراً بأنّ باب التوبة مفتوحٌ مهما اقترف الإنسان من ذنوب، بما فيها عقوق الوالدين. ولا يقتصر الأمر على امتناع المرء عن عقوق والديه، وإنّما يشمل منعه زوجته، وأولاده، وأصدقاءه من عقوق والديه أيضاً، وعليه أن يستحضر أنّ عقوق الوالدين أمرٌ خطيرٌ للغاية؛ إذ لا تنفع المُسلم صلاةٌ، ولا زكاةٌ، ولا أيّة عبادةٍ إن كان عاقّاً لوالديه، ولربّما تسبّب عقوق الوالدين في حجب لسان المرء عن الشهادتين عند الموت.

اللهم اهدِ أبناءنا وشباب المسلمين، بناتٍ وبنين، واجعلهم اللهم من الصالحين المهتدين الذين يبرون والديهم، ويُحسنون إليهم.

https://bit.ly/3SNYMHm

الجمعة، 30 سبتمبر 2022

إرادة التغيير

 

خاطرة الجمعة /363


الجمعة 30 سبتمبر 2022م

(إرادة التغيير)

 

"البط يشكو والنسور تحلق فوق الجميع" هذا عنوان قصةٍ باللغة الإنجليزية، تمت ترجمتها إلى اللغة العربية واختصارها؛ للتركيز على الفكرة الأصلية دون ذكر التفاصيل الجانبية.

يقول كاتب القصة: كنتُ في خط الانتظار لركوب سيارة أجرة من المطار إلى الفُندق، فكان من نصيبي سيارةٌ في غاية النظافة، يلبس سائقُها ملابسَ غايةً في الأناقة. نزل السائق من السيارة وفتح لي الباب الخلفي للجلوس، وقال: "اسمي «أحمد»، وأنا سائقك هذا الصباح. ريثما أضع حقائبك في صندوق السيارة تستطيع أن تقرأ مهامي المُدونة في هذه البطاقة"، سلمني بطاقةً فقرأتُ فيها ما يلي: «أسعد الله أوقاتك: مُهمتي أن أوصلك إلى هدفك: بأسرع طريقةٍ، وأكثرها أماناً، وأقلها كُلفةً، وبجوٍ وديٍ مُريح».

جلس «أحمد» خلف عجلة القيادة بهدوءٍ، وقبل أن يتحرك بالسيارة نظر إليّ في المرآة وسألني: "هل ترغب في فنجان قهوة؟ لدي ثيرموس لقهوةٍ عاديةٍ وآخر لقهوةٍ بدون كافيين"، فقلتُ مازحاً: "شكراً أنا أُفضّل المشروبات الباردة"، فقال: "مرحباً، لدي مياهٌ غازيةٌ عاديةٌ، وأخرى بدون سكرٍ، وعصير برتقال"، فقلتُ: "أُفضّل عصير البرتقال"؛ فناولني كأس العصير، ثم قال: "بسم الله"، وبدأ المسير، وبعد دقيقةٍ، ناولني بطاقةً عليها قائمة المحطات الإذاعية، وقال: "تستطيع أن تختار ما تريد أن تستمع إليه من هذه المحطات، أو الدردشة حول ما تراه في الطريق، أو عما يُمكنك أن تزوره في المدينة، أو أتركك مع أفكارك"، فاخترتُ الدردشة. بعد دقيقتين سألني عما إذا كانت درجة التبريد في السيارة مُناسبةً، ثم قال: "إن لدينا حوالي أربعين دقيقةً، فإن شئتَ القراءة فلدي جريدة هذا الصباح، ومجلتا هذا الأسبوع"، قلتُ له يا سيد «أحمد»: "هل تخدم جميع الزبائن بهذه الطريقة دائماً؟!"، فقال: "للأسف بدأت هذه الطريقة قبل سنتين فقط، وكنتُ قبلها مثل سائر السائقين لمدة خمس سنواتٍ، مُعظم السائقين سياراتهم غير نظيفةٍ، ومنظرهم غير أنيقٍ، ويصرفون كل وقتهم بالشكوى والتشاؤم وندب الحظ. وجاء التغيير الذي قمتُ به عندما سمعتُ عن فكرةٍ أعجبتني اسمها «قوة الاختيار» مُلخصها إنه بإمكانك أن تختار أن تكون بطةً أو نسراً: البطة تشكو بؤسها، والنسر يُرفرف مُبتهجاً، ويُحلق عالياً، فقررتُ أن أمارس التغيير شيئاً فشيئاً حتى وصلتُ إلى ما ترى. أشعر بالسعادة، وأنشر السعادة على الزبائن، وتضاعف دخلي في السنة الأولى، ويُبّشر دخلي هذا العام بأربعة أضعاف. والزبائن يتصلون بي لمواعيدهم، أو يتركون لي رسالةً على الهاتف، وأنا أستجيب".

يقول ناشر القصة: الدرس والعبرة من هذه القصة هو أن تتوقف عن أن تكون بطةً تندب حظها وتُكثر الشكوى، وابدأ مسيرك لتكون نسراً سعيداً تُحلق فوق الجميع، لن تُحقق ذلك مرةً واحدةً، ابدأ الخُطوة الأولى، ثم واصل المسير، خُطوةً خُطوةً، ولو خُطوةً واحدةً كل أسبوعٍ، وسترى ما يحدث لك من تغييرٍ إيجابي؛ فالتغيير يبدأ من عندك.

 

أحبتي في الله.. نعم التغيير يبدأ من الشخص نفسه، لابد وأن تكون له الرغبة في التميز، والعزيمة على التنفيذ، والقدرة على الاستمرارية؛ لابد أن يمتلك (إرادة التغيير).

 

إنّ قضية التغيير قد أصبحت من القضايا الأساسية في عالَم اليوم، عالَم التطورات السريعة، عالَمٍ لا تتوقف مسيرته، وتزداد فيه المنافسة، ويتأخر من لا تكون لديه (إرادة التغيير) فلا يكون على استعدادٍ لأن يُغيّر من نفسه إلى الأحسن دائماً.

فما هي الإرادة؟ يرى علماء النفس أن الإرادة هي “تصميمٌ واعٍ على أداء فعلٍ مُعينٍ، لتحقيق هدفٍ ما"، وأنّ التفكير الواعي يُحسِّن من أداء الإرادة ويُقويها، ويزيد من صلابتها وتماسكها واستمرارها، ولا يتم ذلك إلا بحوارٍ مُقنعٍ وواعٍ مع النفس، وليس قراراً عشوائياً سريعاً، أو نتيجة إكراه، مع التسليم بأنّ الافتقار إلى قوة الإرادة عائقٌ أمام التغيير.

 

أما علماء الشريعة فيقولون إن الشريعة الإسلامية لم تترك جانباً من جوانب الحياة إلا وغطته، ولم تَدَعْ أي سلوكٍ إنسانيٍ إلا وقننته وهذبته؛ لذلك اهتمت شريعتنا الغراء بمفهوم إدارة التغيير وتناولته من كافة جوانبه، فها هُم العلماء يرون أنَّ البداية الصحيحة للتغيير الفعَّال تكمن في (إرادة التغيير) التي تنبع من الشخص نفسه؛ لذا كانت الإرادة فريضةً واجبةً في العبادات لا تُقبل العبادة بغيرها، وهذه الإرادة هي النية؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]. ويُقال إنّ النية، التي هي الإرادة، هي "رأسُ الأمر وعمودُه وأساسه، وأصله الذي يُبنى عليه، فإنَّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها، يُبنى عليها، ويصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يُستجلب التوفيق".

 

ويقول أهل العلم إنّ الإنسان لكي يُحقق أهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادةٍ وتصميمٍ وعزيمةٍ لا تلين لمواجهة الصِّعاب وتَحَمُل الإخفاقات؛ فإن (إرادة التغيير) والعزم عليها هو الذي يُحدث التغيير المطلوب. وقد وصف الله سُبحانه إرادة المُصلحين والمُغيِّرين بالعزيمة؛ فوصف صفوة الأنبياء بأنّهم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، لأنّهم أصحاب إرادةٍ قويّةٍ لا تلين ولا تتراجع. كما خاطب المولى عزَّ وجلَّ سيد المُرسلين مُحمّداً صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾.

إنَّ (إرادة التغيير) لدى الإنسان هي بداية التغيير الحقيقي، وهذا ما أكَّد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

ولا يوجد تعارضٌ بين (إرادة التغيير) لدى الإنسان وبين قضاء الله وقدره؛ يوضح المفسرون ذلك بقولهم إن الله سُبحانه أعطى الناس عقولاً وأدواتٍ وأسباباً يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يُريدون؛ من جلب خيرٍ أو دفع شرٍ، وهُم بهذا لا يخرجون عن مشيئته؛ يقول تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

وقد سأل الصحابةُ النبيَ صلى الله عليه وسلم عن هذا؛ قالوا: يا رسول الله؛ إن كان ما نفعله قد كُتب علينا وفُرغ منه، ففيمَ العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: [اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾].

فأمرُ الله نافذٌ، لكنه جلّ وعلا يُغيّر ما بالناس إذا غيروا، فإذا كانوا على طاعةٍ واستقامةٍ ثم غيروا إلى المعاصي، غيَّر الله حالهم من الطُمأنينة والسعادة واليُسر والرخاء إلى عكس ذلك؛ فيأخذهم على غِرةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾، أو قد يُملي لهم ويتركهم على حالهم استدراجاً؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾.

وهكذا العكس؛ إذا كانوا في معاصٍ وشرورٍ وانحرافٍ، ثم توجهوا إلى الحق، وتابوا إلى الله ورجعوا إليه واستقاموا على دينه، فإن الله يُغيّر ما بهم سُبحانه من خوفٍ وفقرٍ واختلافٍ وتشاحنٍ، إلى أمنٍ وعافيةٍ واستقامةٍ ورخاءٍ ومحبةٍ وتعاونٍ وتقاربٍ؛ فضلاً منه ونعمة.

فالعبد مع ما عنده من (إرادة التغيير)، وما يقوم به من عملٍ أخذاً بالأسباب، لن يخرج أبداً عن قدر الله ومشيئته.

 

أحبتي.. كلنا مُقصرون في حق الله سُبحانه وتعالى، وفي حق ديننا، مهما فعلنا نظل مُقصرين، حتى المجتهد منا لا ينفك يلوم نفسه ويتمنى المزيد من العمل والجد والاجتهاد؛ حتى يرفع درجته عند المولى عزَّ وجلَّ. كلنا يرجو لنفسه أن يكون من أصحاب الجنة، وأن يكون في الفردوس الأعلى منها، فإذا خاف ألا يوصله عمله إلى هذه المنزلة فليتذكر وصية نبينا الكريم ويعمل بها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ] {"مَنْ خاف أَدْلَجَ"، أي: مَنْ خاف ألَّا يَصِلَ إلى غايتِهِ سار أَثْناءَ الليلَ؛ ليَكونَ ذلك أَرْجى له في الوُصولِ إلى غايتِهِ، "ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ"، أي: ومَنْ سار بالليلِ وَصَلَ إلى غايتِهِ ونال مُبْتغاهُ، ويعني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا أَمْرَ الآخرةِ}؛ فالجنة لا تُنال بالأماني، وإنما بأخلص العمل؛ وهو ما يكون لله وحده بغير شركٍ ولا رياء، وبأصوب العمل؛ وهو ما يكون موافقاً لسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام.

هنيئاً لمن امتلك (إرادة التغيير) فعمل بجدٍ واجتهادٍ، أما من ترك نفسه للهوى، واستسلم للراحة والكسل والدَعَة، وأجَّلَ وسوَّف، فإنه يعيش في حلم يقظةٍ يكاد لا يفيق منه؛ فإلى متى الغفلة؟ لماذا لا يأخذ بأسباب «قوة الاختيار» كما فعل السائق «أحمد»؟ اختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه، وحرص على إرضاء العباد، وأخذ بالأسباب فتضاعف دخله عدة مراتٍ، فما بالنا بمن يختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه وأخراه، ويحرص على مرضاة رب العباد، كم يُضاعف الله له الجزاء ويجزل له في الثواب ويُدهشه بالكرم والعطاء؟

لجميع المُقصرين -وأنا أولهم- أقول: دعونا لا نبكي على اللبن المسكوب، ولنبادر فوراً، في سعينا إلى الجنة، إلى أن نكون نسوراً تُحلق فوق الجميع، ولا نكون بطاً يشكو بؤسه، ولنُشمِّر عن سواعد الجد، ونُعلي الهمة، ومع صدق النية ومُجاهدة النفس يهدينا ربنا سُبحانه وتعالى إلى السُبل التي تجعلنا من المُحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيتحقق لنا أملنا وغاية رجائنا ومُنانا في أن يكون مثوانا الأخير -بإذن الله وبرحمته- الجنة، مع من أطاع الله والرسول ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

اللهم ها نحن المُذنبين المُقصرين قد عقدنا العزم على التوبة من الذنوب والسيئات، والعودة إلى ما فيه مرضاتك، فأعنّا ربنا، ويسِّر لنا سُبلنا، واكتبنا من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/3CmOEj2

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

الشكوى لغير الله

 


خاطرة الجمعة /362

الجمعة 23 سبتمبر 2022م

(الشكوى لغير الله)

 

يُحكى أنه كانت هناك فتاةٌ يتيمةٌ ليس لها أحدٌ في الدنيا -بعد الله سُبحانه وتعالى- سوى أمها. تزوجها ابن عمها وكان ظالماً لها، شديد الظُلم لها؛ فقد كان هو وأهله يُسيئون مُعاملتها، ويُعاملونها كخادمةٍ تعمل ليل نهار، ومع هذا لم تكن تسلم من الأذية والسب والشتم والضرب في كثيرٍ من الأحيان. وكانت كلما ضاقت بها الدنيا تلجأ لأدفأ مكانٍ وهو حُضن أمها؛ فتحتضنها وتشكو لها كل ما يحصل، ثم تبكيان سوياً، ثم تعود إلى زوجها. والأم ضعيفةٌ مُقعدةٌ، لا حول لها ولا قوة، تُشارك ابنتها ألمها بالبكاء معها. استمر هذا الأمر عشر سنواتٍ، وكل يومٍ يسوء الوضع ويزداد ظلم زوجها لها، حتى قَرُبَ انتهاء أجل الأم وحان وقت رحيلها إلي بارئها؛ فبكت البنت وانهارت -وأمها في سكرات الموت- وقالت لها: "أمي لمن أشكو بعد رحيلك؟ لمن أحكي مأساتي؟ أمي لا تتركيني وحيدة"، فقالت لها الأم: "ابنتي إنْ مِتُ وضاقت بك السُبل تعالي إلى هُنا، إلى بيت أمك، افرشي سجادتك واسجدي لله واحكِ له كل ما يُعكر صفوك، واشكِ له همك وبثي إليه حزنك".

ماتت الأم، ومر أسبوعٌ وضاقت الدنيا على البنت؛ فأخذت سجادتها وجرةً بها ماءٌ للوضوء، وذهبت إلى بيت أمها، وعملت بنصيحتها فأحست براحةٍ شديدةٍ. واستمر الأمر هكذا لمدة شهرٍ؛ كل أسبوعٍ تأخذ جرة الماء وتذهب إلى بيت أمها تمكث ساعاتٍ ثم تعود وهي مُبتسمةٌ؛ فلاحظ أهل زوجها هذا فأدخلوا الشيطان بينها وبين زوجها؛ وقالوا له: "من المؤكد أن زوجتك تخونك فهي تذهب كل أسبوعٍ إلى بيت أمها ومعها الماء وهي مُتكدرةٌ ثم تعود بعد ساعاتٍ والماء فارغٌ وهي مُبتسمة"، فقرر أن يُراقب زوجته، وذهب قبل الموعد إلى بيت أمها واختبأ في مكانٍ هو يراها وهي لا تراه، فذهبت الزوجة كالعادة، وكان قد مرّ على وفاة أمها شهرٌ، فتوضأت ثم صلّت وانفجرت باكيةً وهي ساجدةٌ، وبثت حزنها وشكت إلى ربها همومها وما يؤلم قلبها وبما يصدر عن أهل زوجها، وتدعو لزوجها بالهداية، وتتوسل إلى الله أن يُصلح لها زوجها لأنها تُحبه رغم كل شيءٍ، وظلت تبكي وتبكي، وهو يسمع ويبكي معها مُتأثراً بما يرى ويسمع، حتى أنهت صلاتها، وإذا بها ترى زوجها يبكي ويحتضنها ويعتذر لها ويعدها بأن يُعوضها عن كل ما سببه هو وأهله لها طوال السنوات الماضية. وبشّرها بأن الله استجاب لدعائها. في تلك الليلة لم يعودا إلى بيت أهله وناما في بيت أمها، وهي نائمةٌ رأت شخصاً في المنام يقول لها: "عشر سنواتٍ تشتكين لأقرب الناس إليكِ وما نفعك شيءٌ، وشهرٌ واحدٌ فقط اشتكيتِ لله؛ فغيّر الله حالك من حالٍ إلى حال". سبحانك ربنا ما أرحمك.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من مصائب؛ هذا مُبتلىً بفقد قريبٍ، وهذا مُبتلىً بموت حبيبٍ، وهذا مُبتلىً بذهاب مالٍ، وهذا مُبتلىً بمرضٍ، وهذا مُبتلىً في زوجته، أو أولاده، أو رزقه، وغير ذلك من أنواع الابتلاء. وعند الابتلاء تكثر الشكوى. إن الشكوى إلى الله والتضرع له وسؤاله إزالة ما أصاب العبد من حزنٍ وضُرٍ مشروعةٌ؛ ويدل على هذا ما حكى الله عن يعقوب عليه السلام أنه قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، وأخبر عن أيوب عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وقال تعالى في شأن خولة بنت ثعلبة ـرضي الله عنهاـ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾. ويُمنع التشكي الذي يدل على التضجر من قضاء الله والتسخط من قدره؛ فعدم الرضى بالقدر حرامٌ، وأما الدعاء بإزالة الضرر فلا حرج فيه.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك].

ولقد اشتكى النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله يوم بدرٍ إذ نظر إلى المُشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٌ وبضعة عشر رجلاً، فاستقبل القبلة ومدّ يديه ودعا ربه: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ]، فما زال يشكو إلى ربه حتى أنزل الله الفرج: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.

 

ويقع البعض في خطيئة (الشكوى لغير الله) إذا هُم ظنوا أن أحداً من البشر -حياً أو ميتاً- قادرٌ على أن ينفعهم أو يضرهم كما ينفع الله ويضر، أو إذا هُم يتسخطون من قضاء الله وقدره؛ فنجد الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛ فإنه لو عرف قدر ربه لما شكاه، ولو عرف ضعف الناس لما شكا إليهم. لقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجلٍ فاقته وحاجته فقال له: "يا هذا، والله ما زدتَ على أن شكوتَ مَن يرحمك إلى مَن لا يرحمك". أن تشكو الله إلى الناس فهذا قمة الجهل، لأن الله هو أرحم الراحمين، وبيده كل شيءٍ؛ فلماذا الشكوى لغيره سُبحانه وهو القائل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها بالنَّاسِ لم تُسَدَّ فاقتُهُ. ومَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها باللَّهِ فيوشِكُ اللَّهُ لَه برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ].

 

قال بعض السلف: من شكا من مُصيبةٍ نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوةً لطاعة الله، كل من علّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر مسألته. والشكاية إلى الله تُحقق العبودية؛ لأن الله سُبحانه وتعالى يُريد العبد خالصاً له، سائلاً له مُلّحاً عليه، لاجئاً إليه مُعتمداً عليه، مُنيباً إليه، مُتضرعاً، تائباً، ذاكراً، داعياً، ولا يمكن أن يكون العبد هكذا حتى يظهر عليه من حاله، أو من لسانه التضرع إلى بارئه، ولا يزال العبد يتضرع إلى الله ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء الذي شكا منه، وهذا سرٌ عظيمٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ، طوبى لمن بلغها، لا يزال المُبتلى يتضرع إلى الله، ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء. وأحب ما إلى الله انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له، وإظهار ضعفه، وعجزه، مع التضرع والتمسكن وإبداء الفاقة، فرحمة الله أقرب إلى هذا القلب، والله يبتلي عبده ليسمع تضرعه؛ فالله يحب صوت المُلّحين في الدعاء، ويُحب أنين المشتكين إليه.

 

إن (الشكوى لغير الله) مذلةٌ وجهلٌ وعجزٌ؛ قال الشاعر:

إن الوقوفَ على الأبوابِ حرمانُ

والعجزُ أنْ يرجو الإنسانَ إنسانُ

متى تؤمل مَخلوقاً وتقصدهُ

إن كانَ عندكَ بالرحمنِ إيمانُ

ثِقْ بالذي هو يُعطي ذا ويمنعُ ذا

في كلِ يومٍ له في خَلقهِ شانُ

وقال آخر:

وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا

تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ

وقال ثالثٌ:

مَنْ يَسألُ الناسَ يَحْرِموهُ

وَسائِلُ الله لا يَخيبُ

 

إن سائل الله -عزَّ وجلَّ- عزيزٌ مُجابٌ، أما سائل الناس فمطرودٌ ذليل؛ فلو شكوتَ إلى مؤمنٍ أشفق عليك، لكنه ضعيفٌ ولا يملك لا لنفسه ولا لك شيئاً، ولو شكوتَ إلى كافرٍ شمت بك، وفرح لما أنت فيه من هَمٍ وغمٍ وضيق؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ].

 

يقول العلماء إن هناك فرقاً دقيقاً بين الإخبار بالحال، وبين (الشكوى لغير الله) إلى المخلوق؛ فالإخبار بالحال هو أن يسأل المُبتلى شخصاً قادراً على فعل شيءٍ له؛ كالطبيب يصف له دواءً، والمدير يرفع عنه غُبناً. أما الشكوى إلى الله سُبحانه وتعالى، فهي محمودةٌ بل إن المرء يُثاب عليها؛ ففيها استعطافٌ وتملقٌ واسترحامٌ لرب العزة.

إن سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله شركٌ، أما إذا كان الإخبار عن الحال لمن يُمكن له أن يُساعد في إزالة ضررٍ، أو حل مُشكلةٍ على نحوٍ ليس فيه تسخطٌ على القدر، ولا جزعٌ من المكتوب، فلا بأس به.

 

 أحبتي.. يقول أحد العارفين: على الإنسان عند وقوع البلاء ألا يشكو إلا إلى الله؛ يُناجيه، يُخاطبه، يعتذر، يستغفر، يُعلن توبته، "اللهم اقبل توبتي، اللهم آمن روعتي، اللهم أقِلّ عثرتي، اللهم اغفر زلتي". عليه أن يكون في مُناجاةٍ مع الله؛ يسأله، يعتذر له، يطلب السماح منه، يُعبّر عن ضعفه أمامه، يُظهر محبته له، يُحاور الله ولا يُحاور أحداً من الناس، وبقدر ما يتذلل لله بقدر ما يكون عزيزاً على الناس، إن فعل ذلك وجد الله -عزَّ وجلَّ- ينتظره ليسعده، ليكرمه، ليرحمه. فعلينا جميعاً أن نتجنب (الشكوى لغير الله)؛ إلا فيما هو من مقدور البشر، ومع الاعتقاد الجازم واليقين الكامل بأن الله هو وحده ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وهو ﴿اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهو ﴿رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ وهو -دون غيره- الذي يُسبب الأسباب، بيده مقادير كل شيءٍ، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. إنه -سُبحانه وتعالى ينتظرنا لنشتكي له وندعوه فيستجيب دعاءنا، ويُعطينا سؤلنا، بل ويُدهشنا بعطائه؛ أوليس هو سُبحانه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾؟ بلى، ورزقه لا يقتصر على المال فقط بل يمتد ليشمل كل خيرٍ نتمناه لأنفسنا.

اللهم اجعلنا ممن يعرفك في الرخاء قبل الشدة، ومن الذين لا يدعون إلاك، ولا يطلبون إلا منك، ولا يخضعون إلا لك.

 

https://bit.ly/3f2wzgT

الجمعة، 16 سبتمبر 2022

رجال صدقوا

                                                      خاطرة الجمعة /361


الجمعة 16 سبتمبر 2022م

(رجال صدقوا)

 

يقول الداعية الكويتي الدكتور/ عبد الرحمن السميط، رحمه الله: كنتُ أقف ذات يومٍ فسمعتُ بكاء سيدةٍ إفريقيةٍ ونحيبها وتوسلاتها لأحد الأطباء القائمين على مساعدة الأطفال الصغار وعلاجهم في بعثتنا في إفريقيا؛ وللحق تأثرتُ لشدة إصرارها وتمسكها بتحقيق مطلبها، فتحدثتُ مع الطبيب، فقال لي: "إن ابنها الرضيع في حُكم الميت ولن يعيش، وهي تُريدني أن أضمه إلى الأطفال الذين سنرعاهم، والمال الذي سننفقه على طفلها لا فائدة منه؛ إنه طفلٌ لن يعيش إلا أياماً معدوداتٍ، والمال أولى به غيره"، قال السميط: "نظرتْ إليّ الأمُ بنظرات توسلٍ واستعطافٍ -والطبيب يحكي لي؛ فقلتُ للمترجم: اسألها كم تحتاج من المال كل يومٍ؟"، فأخبرته بالمبلغ، ووجدتُه قليلاً جداً، يُساوي ثمن مشروبٍ غازيٍ في بلدي!! فقلتُ: "لا مشكلة؛ سأدفعه من مالي الخاص"، وطمأنتها فأرادت المرأة تقبيل يدي، فمنعتها وقلتُ لها: "خذي هذه نفقة عامٍ كاملٍ لابنك، وعندما تنفد النقود -أشرتُ إلى أحد مُساعديَّ - سيعطيك ما تحتاجينه"، ووقعتُ لها صكاً لتصرف به المبلغ المتفق عليه. وللحق أنا اعتبرته فعلاً طفلاً ميتاً، وما فعلته كان فقط لكي أُهدئ الأم المسكينة، وأجبر خاطرها، لاسيما أنها حديثة عهدٍ بالإسلام.

تمر الشهور والسنوات، وقد نسيتُ الموضوع برمته، وبعد أكثر من اثني عشرة عاماً كنتُ في المركز، وحضر لي أحد الموظفين، وقال لي: "هناك سيدةٌ إفريقيةٌ تُصر على لقائك، وقد أتت عدة مراتٍ"، فقلتُ له: "أحضرها"، فدخلت سيدةٌ لا أعرفها، ومعها طفلٌ هادئٌ جميلُ الوجهِ وقالت لي: "هذا ابني عبد الرحمن، وقد أتم حفظ القرآن، والكثير من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتمنى أن يُصبح داعيةً للإسلام معكم"، تعجبتُ وسألتها: "ولماذا تُصرين على هذا الطلب مني؟!!"، رد عليّ طفلها، فوجدته يتحدث اللغة العربية بهدوء، وقال لي: "لولا الإسلام ورحمته ما كنتُ أعيش وأقف بين يديك الآن، فقد حكت لي أمي قصتك معها، وإنفاقك عليّ طوال مُدة طفولتي، وأريد أن أكون تحت رعايتك، وأنا أجيد اللغة الإفريقية وأعرفها تماماً، وأحب أن أعمل معكم كداعيةٍ للإسلام، ولا أحتاج سوى الطعام فقط، وأحب أن أُسمعك تلاوتي للقرآن"، وأخذ يتلو آياتٍ من سورة البقرة بصوتٍ شجيٍ، وعيناه الجميلتان تنظران لي متوسلةً أن أوافق، وهنا تذكرتُ وسألتُ الأم: "هل هذا هو ذلك الطفل الذي رفضوا ضمه إلى الرعاية؟"، فقالت: "نعم نعم!"، وعقَّب هو: "لذلك سمتني أُمي باسمك عبد الرحمن، وأصرت أن تُقدمني إليك".

يقول د. السميط: "لم تحملاني قدماي، خررتُ على الأرض وأنا شبه مشلولٍ من هول الفرحة والمفاجأة، وسجدتُ لله شكراً وأنا أبكي وأقول: ثمن مشروبٍ غازيٍ يُحيي نفساً، ويرزقنا بداعيةٍ نحتاجه!". أصبح هذا الطفل من أكثر دعاة إفريقيا وبين قبائلها شهرةً وقُبولاً لدى الناس.

 

أحبتي في الله.. الدكتور/ عبد الرحمن السميط -رحمه الله- كان واحداً من (رجال صدقوا) الله فأعانهم، كان طبيباً، أسس جمعية العون المباشر وترأس مجلس إدارتها، قضى مُعظم عُمره ينشر الإسلام في القارة السمراء، وأسلم على يديه أكثر من أحد عشر مليون شخصٍ في إفريقيا. كتبتُ عن إنجازاته خاطرة الجمعة رقم 5، ونشرتها على فيس بوك بتاريخ الجمعة 6 نوفمبر 2015م، تحت عنوان: "رجلٌ بأمةٍ"، وهذا هو رابطها: https://goo.gl/xmE7qe

 

أما خاطرة اليوم فأخصصها لعرض بعض مواقف حدثت له، هو وزوجته، وهما يعملان معاً لنشر الإسلام في قارة أفريقيا؛ ومن ذلك:

-يقول الدكتور السميط كانت البداية عام1980م حينما ذهبتُ مع اثنين من الإخوة إلى ملاوي وجلسنا هناك مدةً. كُنا نعرف أنّ هناك فقراً وجهلاً وأمراضاً في ملاوي، وفي إفريقيا بصفةٍ عامة، لكن لم نكن نتصور أن يكون الفقر والجهل والمرض منتشراً بهذه الدرجة! ما رأيناه بأعيننا كان صفعةً لنا أيقظتنا؛ فبدأتْ رحلتنا التي استمرت لأكثر من رُبع قرنٍ، وشملت إلى جانب ملاوي كلاً من موزامبيق وكينيا ومدغشقر وزيمبابوي وجيبوتي والسودان والصومال وإثيوبيا وغيرها من بلاد إفريقيا المملوءة بالمجاعات والأمراض.

-ويقول: إنه كان هو وزوجته أم صهيب جالسين في ليلةٍ خارج أحد الأكواخ بإحدى قُرى أفريقيا، سألته زوجته: "هل إذا -بإذن الله ورحمته- دخلنا الجنة هل سنكون سُعداء مثل هذه السعادة؟"؛ لأننا كنا نخرج إلى القُرى ونُكلم الناس عن الإسلام، وكانت أسعد اللحظات إذا جاء رجلٌ أو امرأةٌ وأخذوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

-ويقول: في إحدى زياراتنا لأفريقيا نزلنا في فندقٍ حُكوميٍ، وكان نظيفاً نسبياً، غير أنه من الناحية الأخلاقية غير نظيفٍ تماماً، وأصرّت زوجتي علي ألا نقيم لحظةً في هذا الفندق، ولأننا كنا مُتعبين من جراء السفر؛ حيث قطعنا طريقاً يمتد لأكثر من 1500 كيلومتر في طرقٍ وعرةٍ وصعبةٍ، قلتُ لها: "البديل هو أن ننام في الغابات"؛ فقالت: "هذا أفضل من فندقٍ من هذا النوع"، وفعلاً ونزولاً على رغبتها تركنا الفندق، وفي طريقنا وجدنا مسجداً قديماً ومُهدماً ومهجوراً، قضينا الليل فيه، وكنا ضيوفاً على البعوض الذي كان موجوداً بكمياتٍ هائلةٍ جداً، وأذكر أننا حينما استيقظنا وجدنا وجه ابننا الرضيع عبد الله متورماً جراء لسعات البعوض، أُصيب على أثرها بالملاريا.

-ويقول: منذ سنواتٍ قادني حبّ الاستطلاع لزيارة قريةٍ نائيةٍ في أفريقيا اسمها "مكة”. ثم بدأتُ بحثاً علمياً مُوسعاً عن قبيلة الأنتيمور ذات الأصول العربية الحجازية، وهي نموذجٌ من العرب والمُسلمين الضائعين في أفريقيا، مثلهم مثل قبيلة الغبراء في شمال كينيا، والبورانا في جنوب إثيوبيا، وبعض السكلافا في غرب مدغشقر، والفارمبا في جنوب زيمبابوي، وملايين غيرهم قد يشتكون الله علينا أننا لم نفعل شيئاً لإنقاذهم من الضلال والشِرك وأغلبهم ذوو أصولٍ إسلامية؛ فمَن يُنقذنا من الحساب يوم يشكونا الناس في إفريقيا بأننا لم نسعَ إلى هدايتهم؟

-ويقول: أثناء المجاعة التي صارت عام1983م رأيتُ في إحدى قُرى إثيوبيا عائلةً جاءت تطلب معونةً من مُنظمةٍ مسيحيةٍ من شمال أميركا، وكان الشخص الذي يوزع المعونات شاباً أميركياً مُتحمساً، عرف أن هذه أسرة إمام المسجد فقال له: "غيِّر دينك وأُعطيك طعاماً"، رفض الإمام، فقال له: "فما رأيك لو أنك قلتَ أمام الناس -بالكذب فقط- إنك تخليتَ عن الإسلام وقبلتَ المسيحية؟"، رفض الإمام؛ فقال له الشاب: "إذاً أنا آسف، لن أُعطيك أي طعام". علماً بأن هذا الطعام كانت توزعه مُنظمة الغذاء العالمية التي تتبرع لها الحكومات في جميع الدول العربية! بعد ثلاثة أشهرٍ ذهبتُ إلى هذه القرية -وكان أهلها قد هاجروا منها- توجهتُ إلى بيت الإمام وفتحتُ الباب فوجدتُ الهياكل العظمية للإمام وزوجته وأولاده، كانوا قد ماتوا من عدة أشهر!

-ويقول: من الطريف أن أحد القساوسة أتى إلينا يوماً غاضباً يقول إن الكنيسة لاحظت انتشار الإسلام في منطقته، وطلبت منه، الكتابة ضد الإسلام، وتحذير الناس من هذا الدين؛ وطلب منا أن نُمده بكُتيبات عن الإسلام كي يتمكن من مهاجمته! فقلنا له: "أهلاً وسهلاً"، وشرحنا له تعاليم الإسلام، وقدمنا له كُتيبين عن الإسلام، فذهب وعاد بعد يومين ليُشهر إسلامه رغم إنه قسيس!

-ويقول: خلال سنوات عملي في إفريقيا كان أكثر ما يُدخل السرور إلى قلبي، أن أرى شخصاً يرفع السبابة إلى أعلى ويُعلن شهادة التوحيد، وكان أكثر ما يؤثر فيّ إلى حد البكاء حينما أذهب إلى منطقةٍ ويدخل بعض أبنائها في الإسلام ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأُمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، ويسألون: "أين أنتم يا مُسلمين؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟". كانت هذه الكلمات تجعلني أبكي بمرارةٍ، وأشعر بجزءٍ من المسئولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكُفر.

-ويقول: سألتُ يوماً أحد زعماء القرى في مدغشقر لماذا أسلم؟ فقال: "منذ وصولكم لقريتنا لم تتكلموا كثيراً عن دينكم، بل حدثتمونا عن مكارم الأخلاق التي كان يتمتع بها أجدادنا، فشعرتُ أنه لا يُمكن أن تقطعوا كل هذه المسافات وتتعبوا أنفسكم لمجرد الحديث عن أجدادنا، لولا أن ما يؤمن به أجدادنا هو دينكم. إنكم لم تُهاجموا المسيحيين، كما يفعل المسيحيون عندما يزوروننا ويُهاجمون الإسلام، ولم تنتقصوا من الآخرين الذين يخالفونكم، ولم تضغطوا علينا حتى نُسلم، فكيف لا تتوقع بعد هذا أن أُسلم؟".

 

وأختم بهذا الموقف المُشرف لأمير الكويت الأسبق الشيخ/ جابر الأحمد الصبّاح، مع الدكتور/ عبد الرحمن السميط. تبدأ أحداث هذا الموقف حين حدد الديوان الأميري بالكويت ربع ساعةٍ فقط لمقابلة صاحب السمو أمير البلاد للدكتور عبد الرحمن السميط؛ حتى يشرح له دور وأعمال جمعية العون المُباشر في أفريقيا، لكن المقابلة امتدت لنحو ساعةٍ ونصف. سأل الأمير الدكتور السميط عن الدافع وراء كل هذه الجهود والتي كثيراً ما عرضته هو ومن معه للمخاطر؛ فكان جوابه أن لذة القيام بهذه الأمور أكثر بكثيرٍ من التعب وعواقبه، وتكفي روعة الإحساس برؤية الأطفال المُشردين والمرضى والمُعدمين بعد تقديم يد العون لهم، وقد انقلب حالهم، وأصبحوا أطباء ومهندسين ورجال أعمال. فلمساعدة المُحتاجين لذةٌ خاصةٌ لا يشعر بها إلا من يقوم بها، لذلك نتحمل من أجل الحصول على هذه اللذة أية عوائق أو مخاطر. في نهاية اللقاء سأل الأمير الدكتور عن موعد مُغادرته إلى أفريقيا، فأجابه: "بعد أسبوعٍ"، وحين اقترب موعد السفر اتصل موظفٌ بالديوان الأميري وطلب من الدكتور تذاكر السفر الخاصة به، وأخبره أن يحضر إلى المطار مُبكراً لترتيب سفره، وعندما حضر وجد طائرةً ملكيةً بانتظاره، فصعد السُلم واتجه نحو مقاعد الجلوس فوجد ستة أشخاصٍ مُتواجدين بالطائرة، وعندما حاول الجلوس معهم، أخبروه بأن مقعده بالأمام فتقدم ليجد الأمير جابر الأحمد الصباح بانتظاره، يرتدي ثوباً كويتياً عادياً، كذلك لم يكن هناك أي مُرافقٍ من الصحافة والإعلام، وسافر الأمير مع الدكتور عبد الرحمن إلى أفريقيا باسمٍ مُستعارٍ لا يُعرف منه شخصيته الحقيقية. قام الأمير -ولمدة يومٍ كاملٍ دون توقفٍ- بالتجوال مع الدكتور عبد الرحمن السميط من أجل الاطلاع على جميع الأعمال الخيرية بأفريقيا، ثم غادر في المساء عائداً إلى الكويت. قام بعدها بالتبرع لجمعية العون المباشر بمبلغ وقدره 23 مليون دينارٍ كويتيٍ.

 

أحبتي.. أعتذر لكم عن الإطالة، وأعتذر للدكتور السميط عن التقصير، ولا أجد ما أقوله سوى أن الدكتور عبد الرحمن السميط -رحمه الله- وأمثاله (رجال صدقوا) تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. رجالٌ سعوا للوصول إلى رضا الله تعالى، فهل يستطيع أيٌ منا أن يكون مثلهم ويكون سبباً لنُصرة الإسلام؟ سؤالٌ أطرحه، أما الإجابة فستكون عهداً بين كلٍ منا وبين الله سُبحانه وتعالى؛ أن نتقرب إلى الله وننصر دينه بكل ما نستطيع من جُهدٍ، بإخلاصٍ وتفانٍ ودون رياء، ونبذل في سبيل ذلك كل رخيصٍ وغالٍ. وتكون البداية لحظة صدقٍ مع النفس؛ عسى الله أن يُعيننا وينفع بنا غيرنا، ونكون سبباً في نُصرة دين الله. والله ولي التوفيق.

https://bit.ly/3Sb9lU2

الجمعة، 9 سبتمبر 2022

الدعوة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /360


الجمعة 9 سبتمبر 2022م

(الدعوة إلى الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ عن شخصيةٍ غير عاديةٍ، قصة داعيةٍ إسلاميٍ استثنائيٍ بكل ما تحمله كلمة استثنائيٌ من معانٍ؛ عُرضت عليه الملايين ليميل إلى الدُنيا ويجني الأموال، لكنه ترك ذلك كله وراء ظهره، ومنذ أربعين عاماً وهو يؤسس للإسلام في دولةٍ كانت بلا إسلام!

هذا الداعية تمسكت به السعودية ليعمل بها أستاذاً تقديراً لعلمه، وطلبته الكويت ليعمل لديها في الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية، وعينته باكستان نائباً لرئيس الجامعة وعميداً لكلية الدراسات العليا ورئيساً لقسم الفقه والحديث.

تبدأ قصته تحديداً عام 1982م؛ فأثناء زيارته ضمن وفدٍ إلى وزارة الأوقاف الكويتية، قال وزير الأوقاف الكويتي لأعضاء الوفد إن وزيراً من كوريا الجنوبية زار الكويت وقال للوزراء الكويتيين: "الناس في كوريا يموتون على الكُفر، لماذا لا تأتون وتنشرون الإسلام؟"، وسأل الوزير أعضاء الوفد: "من منكم يريد تحمل هذه المسئولية؟"، قال هذا الداعية الاستثنائي بدون تردد: "أنا أذهب إلى هناك، أنا لها".

إنه الإمام الشيخ الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق، سافر إلى كوريا الجنوبية، وترك الوظيفة القيمة والمنصب المرموق في الكويت، واتجه إلى دولةٍ لم يكن يعرفها، ولا يعرف أي شيءٍ عنها ولا أي شيءٍ فيها، بل كان يعتقد في أول الأمر أنها دولةٌ إفريقيةٌ! دخلها حاملاً رسالة الإسلام بنية (الدعوة إلى الله) ونشر الإسلام. تعلم لغة الكوريين ودرس ثقافتهم وفهم عقولهم ودرس مُعتقداتهم، ووجد أغلبهم يعتقدون أن للكون سبعة آلهةٍ، ووجد منهم ملايين من النصارى وملايين من المُلحدين واللادينيين. على يديه اعتنق الآلاف من الكوريين الإسلام، وفي مراكزه الإسلامية التي ساهم وساعد وجاهد في إنشائها، والمنتشرة في مدنٍ كوريةٍ كثيرةٍ، يتهافت الناس للتعرف على الإسلام، وفي المساجد الكبيرة التي عمل على بنائها وتوزيعها وفقاً لأعداد المسلمين في المدن، يُمكنك أن ترى حقيقة انتشار الإسلام في كوريا.

كتب الشيخ/ عبد الوهاب زاهد الحق، للكوريين بلغتهم عشرات الكُتب حتى أصبح التعرف على الإسلام ظاهرةً لافتةً، والإقبال على التحول إلى الإسلام يحدث بشكلٍ يوميٍ، والأعداد في ازدياد.

للشيخ أكثر من خمسةٍ وخمسين كتاباً إسلامياً بعدة لغاتٍ؛ جميعها تُبسّط الإسلام وتوصل رسالته وتوضح معانيه للناس في دولةٍ ينهشها الإلحاد، وينتشر فيها الانتحار والكُفر، ويأبى الله إلا أن يسطع فيها نور الإسلام.

عرض أحد رجال الأعمال المصريين على الشيخ/ عبد الوهاب أن يكون شريكه في مشاريعه في كوريا بنسبة 50% دون مقدمٍ مع عربونٍ بمليون دولار، قال له الشيخ/ عبد الوهاب: "لقد تركتُ بلاد العرب وأنا عميد كلية دراساتٍ وأنا كذا وأنا كذا وأنا كذا، ليس من أجل المال، الحمد لله رب العالمين، لستُ بحاجةٍ إلى مالٍ، أنا هنا لأدعو إلى الإسلام، أنا هُنا لأُنقذ شخصاً كورياً من النار"، فرح رجل الأعمال المصري برفض الشيخ/ عبد الوهاب وسأله: "ماذا تريد؟"، قال له: "أريد مسجدين لمدينتين في كوريا"، أرسل له الرجل تكلفة مسجدٍ وهو مسجد أبو بكر الصديق؛ أحد أكبر وأهم مساجد كوريا، ونجح الشيخ/ عبد الوهاب في بناء المسجد الثاني في مدينةٍ ثانيةٍ، وسُمي مسجد عمر بن الخطاب، ومن عددٍ لا يُذكر من المساجد، انطلقت رسالة الإسلام، ليصل عدد المساجد الآن إلى أكثر من سبعين مسجداً، عدا عن المُصليات غير الرسمية، وعشرات المراكز الإسلامية، ومئات الآلاف من المسلمين، عشرات الآلاف منهم يعيشون في العاصمة سيول.

نجح الشيخ فيما جاء من أجله، خاطب عقول الكوريين وكسب قلوبهم؛ يقول الشيخ عبد الوهاب: "أنا افتخر بالمسلمين الجُدد في كوريا، سيكونون أمامي يوم القيامة، كتبتُ لهم ثلاثةً وعشرين كتاباً باللغة الكورية؛ في العقيدة الإسلامية والإيمان، والصراع بين الخير والشر، وفلسفة الشرك منذ عصر نوحٍ عليه السلام، كتبتُ لهم كتاباً عن أنبياء الله آدم ونوح وإبراهيم -عليهم السلام-، وكتبتُ لهم عن حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وكتبتُ عن حياته في مكة، وحياته في المدينة، بأسلوبٍ مُبسطٍ لتُقرأ دون مُعاناةٍ ولا مللٍ، تركتُ لهم الإسلام مُترجماً".

الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق الحلبي، من مواليد مدينة حلب في سورية عام 1941م، في الأربعينات من عُمره كان حاصلاً على بكالوريوس في علوم التفسير والحديث من جامعة الأزهر الشريف في مصر، وماجستير في الحديث الشريف ودكتوراه في الفقه المقارن.

تفرغ لنشر الإسلام في كوريا منذ عام 1984م وحتى اليوم، وهو مفتي المسلمين في كوريا، وإمام وخطيب مركز ومسجد أبي بكر الصديق، له زوجةٌ واحدةٌ، وسبعة أبناءٍ، وخمسة وثلاثون حفيداً. يقول إن والده -رحمه الله- رأى له في المنام مائةً وعشرين حفيداً. اللهم بارك لنا في عُمره، وفي عِلمه، ووفقه إلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين.

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل وأمثاله -وهم قليلون- هم رجال الحق و(الدعوة إلى الله) سُبحانه وتعالى.

والدَّعوة لغةً مصدر دَعا يدعو دَعوَةً، وجمعها دَعْوات ودَعَوات. والدعوة تأتي بمعنى الدُعاء، والدعوة الإسلاميّة هي الدعوة إلى الإسلام، وشهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله.

أما الدَّعوة اصطلاحاً فتأتي بمعنى نشر رسالة الإسلام وتبليغها للناس، وهي -كما يقول أهل العلم- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به رُسله عليهم السلام؛ بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمّن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشرّه، ودعوة العبد إلى عبادة الله -تعالى- كأنّه يراه. وقيل في تعريف الدعوة إنها نشر الإسلام بين الناس وتعليمهم إياه؛ بحيث يطبقونه في واقع حياتهم.

 

يقول العلماء إن الآية الكريمة: ﴿...رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ تُبين أن مُهمة الرُسل هي (الدعوة إلى الله) تعالى تبشيراً بالخير وتحذيراً من الشر. وقد خاطب سُبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام بالقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾؛ موضحاً أن (الدعوة إلى الله) هي الهدف من رسالته، ثم أمره أن يُبين لأمته أن هذه هي مهمته ومهمة أتباعه؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾؛ فالرسل وأتباعهم مأمورون بدعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، وإنذارهم عن الشرك به ومعصيته، وهذا مقامٌ شريفٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ لمن وفقه الله تعالى للقيام بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. ولما عرف الصالحون شرف هذه المُهمة حرصوا عليها، ولم يسيروا إليها مشياً بل سعوا لها سعياً، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.

 

وعن (الدعوة إلى الله) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. هذا هو الفضل العظيم؛ فإن الداعي إلى الله يجري له ثواب من اهتدى بدعوته، وهو نائمٌ في فراشه، أو مشتغلٌ في مصلحته؛ بل إن ذلك يجري له بعد موته، لا ينتهي ذلك إلى يوم القيامة.

 

والأمة كلها -كما يُخبرنا العلماء- يقع عليها عبء (الدعوة إلى الله)؛ فلا ينبغي أن يتخلف أحدٌ من المُسلمين عن هذا الميدان، ولا ينبغي أن يزدري المرء نفسه ويظن أنه أقل من أن يدعو إلى الله. إن (الدعوة إلى الله) واجبةٌ على كل مؤمن؛ يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، وهي ليست قاصرةً على من يعتلي المنابر ويُلقي الدروس والمُحاضرات، وإنما هي واجبٌ على كل مُسلمٍ يُحب الخير للآخرين كما يُحبه لنفسه، ويتطلع إلى أن يكون من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

 

أحبتي.. فلنتعاهد جميعاً أمام الله سُبحانه تعالى بألا يمر يومٌ إلا وقد تقربنا إلى الله عزَّ وجلَّ بعملٍ من أعمال (الدعوة إلى الله)؛ سواءً بهداية الآخرين من غير المُسلمين، أو بتصحيح مفاهيم خاطئة عند بعض المُسلمين، أو -على الأقل- بالعزم الأكيد والنية الصادقة ومُكابدة هوى النفس حتى يُصبح كلٌ منا نموذجاً وقدوةً يتمثلها الآخرون؛ بالالتزام بالعبادات، والصدق والإخلاص في المُعاملات، وحُسن الخُلُق. على كلٍ واحدٍ منا أن ينوي (الدعوة إلى الله) حسب طاقته وقدرته؛ ويقول كما قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.

اللهم أعنّا، ويسّر لنا أمورنا وأحوالنا، واهدنا للنهوض بواجب الدعوة إليك، وإلى شريعتك السمحاء، شريعة الإسلام.

https://bit.ly/3D9whyL