الجمعة، 30 سبتمبر 2022

إرادة التغيير

 

خاطرة الجمعة /363


الجمعة 30 سبتمبر 2022م

(إرادة التغيير)

 

"البط يشكو والنسور تحلق فوق الجميع" هذا عنوان قصةٍ باللغة الإنجليزية، تمت ترجمتها إلى اللغة العربية واختصارها؛ للتركيز على الفكرة الأصلية دون ذكر التفاصيل الجانبية.

يقول كاتب القصة: كنتُ في خط الانتظار لركوب سيارة أجرة من المطار إلى الفُندق، فكان من نصيبي سيارةٌ في غاية النظافة، يلبس سائقُها ملابسَ غايةً في الأناقة. نزل السائق من السيارة وفتح لي الباب الخلفي للجلوس، وقال: "اسمي «أحمد»، وأنا سائقك هذا الصباح. ريثما أضع حقائبك في صندوق السيارة تستطيع أن تقرأ مهامي المُدونة في هذه البطاقة"، سلمني بطاقةً فقرأتُ فيها ما يلي: «أسعد الله أوقاتك: مُهمتي أن أوصلك إلى هدفك: بأسرع طريقةٍ، وأكثرها أماناً، وأقلها كُلفةً، وبجوٍ وديٍ مُريح».

جلس «أحمد» خلف عجلة القيادة بهدوءٍ، وقبل أن يتحرك بالسيارة نظر إليّ في المرآة وسألني: "هل ترغب في فنجان قهوة؟ لدي ثيرموس لقهوةٍ عاديةٍ وآخر لقهوةٍ بدون كافيين"، فقلتُ مازحاً: "شكراً أنا أُفضّل المشروبات الباردة"، فقال: "مرحباً، لدي مياهٌ غازيةٌ عاديةٌ، وأخرى بدون سكرٍ، وعصير برتقال"، فقلتُ: "أُفضّل عصير البرتقال"؛ فناولني كأس العصير، ثم قال: "بسم الله"، وبدأ المسير، وبعد دقيقةٍ، ناولني بطاقةً عليها قائمة المحطات الإذاعية، وقال: "تستطيع أن تختار ما تريد أن تستمع إليه من هذه المحطات، أو الدردشة حول ما تراه في الطريق، أو عما يُمكنك أن تزوره في المدينة، أو أتركك مع أفكارك"، فاخترتُ الدردشة. بعد دقيقتين سألني عما إذا كانت درجة التبريد في السيارة مُناسبةً، ثم قال: "إن لدينا حوالي أربعين دقيقةً، فإن شئتَ القراءة فلدي جريدة هذا الصباح، ومجلتا هذا الأسبوع"، قلتُ له يا سيد «أحمد»: "هل تخدم جميع الزبائن بهذه الطريقة دائماً؟!"، فقال: "للأسف بدأت هذه الطريقة قبل سنتين فقط، وكنتُ قبلها مثل سائر السائقين لمدة خمس سنواتٍ، مُعظم السائقين سياراتهم غير نظيفةٍ، ومنظرهم غير أنيقٍ، ويصرفون كل وقتهم بالشكوى والتشاؤم وندب الحظ. وجاء التغيير الذي قمتُ به عندما سمعتُ عن فكرةٍ أعجبتني اسمها «قوة الاختيار» مُلخصها إنه بإمكانك أن تختار أن تكون بطةً أو نسراً: البطة تشكو بؤسها، والنسر يُرفرف مُبتهجاً، ويُحلق عالياً، فقررتُ أن أمارس التغيير شيئاً فشيئاً حتى وصلتُ إلى ما ترى. أشعر بالسعادة، وأنشر السعادة على الزبائن، وتضاعف دخلي في السنة الأولى، ويُبّشر دخلي هذا العام بأربعة أضعاف. والزبائن يتصلون بي لمواعيدهم، أو يتركون لي رسالةً على الهاتف، وأنا أستجيب".

يقول ناشر القصة: الدرس والعبرة من هذه القصة هو أن تتوقف عن أن تكون بطةً تندب حظها وتُكثر الشكوى، وابدأ مسيرك لتكون نسراً سعيداً تُحلق فوق الجميع، لن تُحقق ذلك مرةً واحدةً، ابدأ الخُطوة الأولى، ثم واصل المسير، خُطوةً خُطوةً، ولو خُطوةً واحدةً كل أسبوعٍ، وسترى ما يحدث لك من تغييرٍ إيجابي؛ فالتغيير يبدأ من عندك.

 

أحبتي في الله.. نعم التغيير يبدأ من الشخص نفسه، لابد وأن تكون له الرغبة في التميز، والعزيمة على التنفيذ، والقدرة على الاستمرارية؛ لابد أن يمتلك (إرادة التغيير).

 

إنّ قضية التغيير قد أصبحت من القضايا الأساسية في عالَم اليوم، عالَم التطورات السريعة، عالَمٍ لا تتوقف مسيرته، وتزداد فيه المنافسة، ويتأخر من لا تكون لديه (إرادة التغيير) فلا يكون على استعدادٍ لأن يُغيّر من نفسه إلى الأحسن دائماً.

فما هي الإرادة؟ يرى علماء النفس أن الإرادة هي “تصميمٌ واعٍ على أداء فعلٍ مُعينٍ، لتحقيق هدفٍ ما"، وأنّ التفكير الواعي يُحسِّن من أداء الإرادة ويُقويها، ويزيد من صلابتها وتماسكها واستمرارها، ولا يتم ذلك إلا بحوارٍ مُقنعٍ وواعٍ مع النفس، وليس قراراً عشوائياً سريعاً، أو نتيجة إكراه، مع التسليم بأنّ الافتقار إلى قوة الإرادة عائقٌ أمام التغيير.

 

أما علماء الشريعة فيقولون إن الشريعة الإسلامية لم تترك جانباً من جوانب الحياة إلا وغطته، ولم تَدَعْ أي سلوكٍ إنسانيٍ إلا وقننته وهذبته؛ لذلك اهتمت شريعتنا الغراء بمفهوم إدارة التغيير وتناولته من كافة جوانبه، فها هُم العلماء يرون أنَّ البداية الصحيحة للتغيير الفعَّال تكمن في (إرادة التغيير) التي تنبع من الشخص نفسه؛ لذا كانت الإرادة فريضةً واجبةً في العبادات لا تُقبل العبادة بغيرها، وهذه الإرادة هي النية؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]. ويُقال إنّ النية، التي هي الإرادة، هي "رأسُ الأمر وعمودُه وأساسه، وأصله الذي يُبنى عليه، فإنَّها روح العمل وقائده وسائقه، والعمل تابعٌ لها، يُبنى عليها، ويصح بصحتها، ويفسد بفسادها، وبها يُستجلب التوفيق".

 

ويقول أهل العلم إنّ الإنسان لكي يُحقق أهدافه في الحياة، يجب أن يكون ذا إرادةٍ وتصميمٍ وعزيمةٍ لا تلين لمواجهة الصِّعاب وتَحَمُل الإخفاقات؛ فإن (إرادة التغيير) والعزم عليها هو الذي يُحدث التغيير المطلوب. وقد وصف الله سُبحانه إرادة المُصلحين والمُغيِّرين بالعزيمة؛ فوصف صفوة الأنبياء بأنّهم ﴿أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾، لأنّهم أصحاب إرادةٍ قويّةٍ لا تلين ولا تتراجع. كما خاطب المولى عزَّ وجلَّ سيد المُرسلين مُحمّداً صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾.

إنَّ (إرادة التغيير) لدى الإنسان هي بداية التغيير الحقيقي، وهذا ما أكَّد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

ولا يوجد تعارضٌ بين (إرادة التغيير) لدى الإنسان وبين قضاء الله وقدره؛ يوضح المفسرون ذلك بقولهم إن الله سُبحانه أعطى الناس عقولاً وأدواتٍ وأسباباً يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يُريدون؛ من جلب خيرٍ أو دفع شرٍ، وهُم بهذا لا يخرجون عن مشيئته؛ يقول تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾.

وقد سأل الصحابةُ النبيَ صلى الله عليه وسلم عن هذا؛ قالوا: يا رسول الله؛ إن كان ما نفعله قد كُتب علينا وفُرغ منه، ففيمَ العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: [اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ السَّعَادَةِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ السَّعَادَةِ، وأَمَّا مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّقَاءِ فيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾].

فأمرُ الله نافذٌ، لكنه جلّ وعلا يُغيّر ما بالناس إذا غيروا، فإذا كانوا على طاعةٍ واستقامةٍ ثم غيروا إلى المعاصي، غيَّر الله حالهم من الطُمأنينة والسعادة واليُسر والرخاء إلى عكس ذلك؛ فيأخذهم على غِرةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾، أو قد يُملي لهم ويتركهم على حالهم استدراجاً؛ يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾.

وهكذا العكس؛ إذا كانوا في معاصٍ وشرورٍ وانحرافٍ، ثم توجهوا إلى الحق، وتابوا إلى الله ورجعوا إليه واستقاموا على دينه، فإن الله يُغيّر ما بهم سُبحانه من خوفٍ وفقرٍ واختلافٍ وتشاحنٍ، إلى أمنٍ وعافيةٍ واستقامةٍ ورخاءٍ ومحبةٍ وتعاونٍ وتقاربٍ؛ فضلاً منه ونعمة.

فالعبد مع ما عنده من (إرادة التغيير)، وما يقوم به من عملٍ أخذاً بالأسباب، لن يخرج أبداً عن قدر الله ومشيئته.

 

أحبتي.. كلنا مُقصرون في حق الله سُبحانه وتعالى، وفي حق ديننا، مهما فعلنا نظل مُقصرين، حتى المجتهد منا لا ينفك يلوم نفسه ويتمنى المزيد من العمل والجد والاجتهاد؛ حتى يرفع درجته عند المولى عزَّ وجلَّ. كلنا يرجو لنفسه أن يكون من أصحاب الجنة، وأن يكون في الفردوس الأعلى منها، فإذا خاف ألا يوصله عمله إلى هذه المنزلة فليتذكر وصية نبينا الكريم ويعمل بها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ] {"مَنْ خاف أَدْلَجَ"، أي: مَنْ خاف ألَّا يَصِلَ إلى غايتِهِ سار أَثْناءَ الليلَ؛ ليَكونَ ذلك أَرْجى له في الوُصولِ إلى غايتِهِ، "ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ"، أي: ومَنْ سار بالليلِ وَصَلَ إلى غايتِهِ ونال مُبْتغاهُ، ويعني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا أَمْرَ الآخرةِ}؛ فالجنة لا تُنال بالأماني، وإنما بأخلص العمل؛ وهو ما يكون لله وحده بغير شركٍ ولا رياء، وبأصوب العمل؛ وهو ما يكون موافقاً لسُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام.

هنيئاً لمن امتلك (إرادة التغيير) فعمل بجدٍ واجتهادٍ، أما من ترك نفسه للهوى، واستسلم للراحة والكسل والدَعَة، وأجَّلَ وسوَّف، فإنه يعيش في حلم يقظةٍ يكاد لا يفيق منه؛ فإلى متى الغفلة؟ لماذا لا يأخذ بأسباب «قوة الاختيار» كما فعل السائق «أحمد»؟ اختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه، وحرص على إرضاء العباد، وأخذ بالأسباب فتضاعف دخله عدة مراتٍ، فما بالنا بمن يختار لنفسه ما ينفعه في دُنياه وأخراه، ويحرص على مرضاة رب العباد، كم يُضاعف الله له الجزاء ويجزل له في الثواب ويُدهشه بالكرم والعطاء؟

لجميع المُقصرين -وأنا أولهم- أقول: دعونا لا نبكي على اللبن المسكوب، ولنبادر فوراً، في سعينا إلى الجنة، إلى أن نكون نسوراً تُحلق فوق الجميع، ولا نكون بطاً يشكو بؤسه، ولنُشمِّر عن سواعد الجد، ونُعلي الهمة، ومع صدق النية ومُجاهدة النفس يهدينا ربنا سُبحانه وتعالى إلى السُبل التي تجعلنا من المُحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فيتحقق لنا أملنا وغاية رجائنا ومُنانا في أن يكون مثوانا الأخير -بإذن الله وبرحمته- الجنة، مع من أطاع الله والرسول ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾.

اللهم ها نحن المُذنبين المُقصرين قد عقدنا العزم على التوبة من الذنوب والسيئات، والعودة إلى ما فيه مرضاتك، فأعنّا ربنا، ويسِّر لنا سُبلنا، واكتبنا من عبادك الصالحين.

https://bit.ly/3CmOEj2

الجمعة، 23 سبتمبر 2022

الشكوى لغير الله

 


خاطرة الجمعة /362

الجمعة 23 سبتمبر 2022م

(الشكوى لغير الله)

 

يُحكى أنه كانت هناك فتاةٌ يتيمةٌ ليس لها أحدٌ في الدنيا -بعد الله سُبحانه وتعالى- سوى أمها. تزوجها ابن عمها وكان ظالماً لها، شديد الظُلم لها؛ فقد كان هو وأهله يُسيئون مُعاملتها، ويُعاملونها كخادمةٍ تعمل ليل نهار، ومع هذا لم تكن تسلم من الأذية والسب والشتم والضرب في كثيرٍ من الأحيان. وكانت كلما ضاقت بها الدنيا تلجأ لأدفأ مكانٍ وهو حُضن أمها؛ فتحتضنها وتشكو لها كل ما يحصل، ثم تبكيان سوياً، ثم تعود إلى زوجها. والأم ضعيفةٌ مُقعدةٌ، لا حول لها ولا قوة، تُشارك ابنتها ألمها بالبكاء معها. استمر هذا الأمر عشر سنواتٍ، وكل يومٍ يسوء الوضع ويزداد ظلم زوجها لها، حتى قَرُبَ انتهاء أجل الأم وحان وقت رحيلها إلي بارئها؛ فبكت البنت وانهارت -وأمها في سكرات الموت- وقالت لها: "أمي لمن أشكو بعد رحيلك؟ لمن أحكي مأساتي؟ أمي لا تتركيني وحيدة"، فقالت لها الأم: "ابنتي إنْ مِتُ وضاقت بك السُبل تعالي إلى هُنا، إلى بيت أمك، افرشي سجادتك واسجدي لله واحكِ له كل ما يُعكر صفوك، واشكِ له همك وبثي إليه حزنك".

ماتت الأم، ومر أسبوعٌ وضاقت الدنيا على البنت؛ فأخذت سجادتها وجرةً بها ماءٌ للوضوء، وذهبت إلى بيت أمها، وعملت بنصيحتها فأحست براحةٍ شديدةٍ. واستمر الأمر هكذا لمدة شهرٍ؛ كل أسبوعٍ تأخذ جرة الماء وتذهب إلى بيت أمها تمكث ساعاتٍ ثم تعود وهي مُبتسمةٌ؛ فلاحظ أهل زوجها هذا فأدخلوا الشيطان بينها وبين زوجها؛ وقالوا له: "من المؤكد أن زوجتك تخونك فهي تذهب كل أسبوعٍ إلى بيت أمها ومعها الماء وهي مُتكدرةٌ ثم تعود بعد ساعاتٍ والماء فارغٌ وهي مُبتسمة"، فقرر أن يُراقب زوجته، وذهب قبل الموعد إلى بيت أمها واختبأ في مكانٍ هو يراها وهي لا تراه، فذهبت الزوجة كالعادة، وكان قد مرّ على وفاة أمها شهرٌ، فتوضأت ثم صلّت وانفجرت باكيةً وهي ساجدةٌ، وبثت حزنها وشكت إلى ربها همومها وما يؤلم قلبها وبما يصدر عن أهل زوجها، وتدعو لزوجها بالهداية، وتتوسل إلى الله أن يُصلح لها زوجها لأنها تُحبه رغم كل شيءٍ، وظلت تبكي وتبكي، وهو يسمع ويبكي معها مُتأثراً بما يرى ويسمع، حتى أنهت صلاتها، وإذا بها ترى زوجها يبكي ويحتضنها ويعتذر لها ويعدها بأن يُعوضها عن كل ما سببه هو وأهله لها طوال السنوات الماضية. وبشّرها بأن الله استجاب لدعائها. في تلك الليلة لم يعودا إلى بيت أهله وناما في بيت أمها، وهي نائمةٌ رأت شخصاً في المنام يقول لها: "عشر سنواتٍ تشتكين لأقرب الناس إليكِ وما نفعك شيءٌ، وشهرٌ واحدٌ فقط اشتكيتِ لله؛ فغيّر الله حالك من حالٍ إلى حال". سبحانك ربنا ما أرحمك.

 

أحبتي في الله.. يقول أهل العلم إن الإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من مصائب؛ هذا مُبتلىً بفقد قريبٍ، وهذا مُبتلىً بموت حبيبٍ، وهذا مُبتلىً بذهاب مالٍ، وهذا مُبتلىً بمرضٍ، وهذا مُبتلىً في زوجته، أو أولاده، أو رزقه، وغير ذلك من أنواع الابتلاء. وعند الابتلاء تكثر الشكوى. إن الشكوى إلى الله والتضرع له وسؤاله إزالة ما أصاب العبد من حزنٍ وضُرٍ مشروعةٌ؛ ويدل على هذا ما حكى الله عن يعقوب عليه السلام أنه قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾، وأخبر عن أيوب عليه الصلاة والسلام أنه قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وقال تعالى في شأن خولة بنت ثعلبة ـرضي الله عنهاـ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾. ويُمنع التشكي الذي يدل على التضجر من قضاء الله والتسخط من قدره؛ فعدم الرضى بالقدر حرامٌ، وأما الدعاء بإزالة الضرر فلا حرج فيه.

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك].

ولقد اشتكى النبي عليه الصلاة والسلام إلى الله يوم بدرٍ إذ نظر إلى المُشركين وهم ألفٌ، وأصحابه ثلاثمائةٌ وبضعة عشر رجلاً، فاستقبل القبلة ومدّ يديه ودعا ربه: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ]، فما زال يشكو إلى ربه حتى أنزل الله الفرج: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾.

 

ويقع البعض في خطيئة (الشكوى لغير الله) إذا هُم ظنوا أن أحداً من البشر -حياً أو ميتاً- قادرٌ على أن ينفعهم أو يضرهم كما ينفع الله ويضر، أو إذا هُم يتسخطون من قضاء الله وقدره؛ فنجد الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛ فإنه لو عرف قدر ربه لما شكاه، ولو عرف ضعف الناس لما شكا إليهم. لقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجلٍ فاقته وحاجته فقال له: "يا هذا، والله ما زدتَ على أن شكوتَ مَن يرحمك إلى مَن لا يرحمك". أن تشكو الله إلى الناس فهذا قمة الجهل، لأن الله هو أرحم الراحمين، وبيده كل شيءٍ؛ فلماذا الشكوى لغيره سُبحانه وهو القائل: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها بالنَّاسِ لم تُسَدَّ فاقتُهُ. ومَن نزلَت بهِ فاقةٌ فأنزلَها باللَّهِ فيوشِكُ اللَّهُ لَه برزقٍ عاجلٍ أو آجلٍ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ].

 

قال بعض السلف: من شكا من مُصيبةٍ نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوةً لطاعة الله، كل من علّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر مسألته. والشكاية إلى الله تُحقق العبودية؛ لأن الله سُبحانه وتعالى يُريد العبد خالصاً له، سائلاً له مُلّحاً عليه، لاجئاً إليه مُعتمداً عليه، مُنيباً إليه، مُتضرعاً، تائباً، ذاكراً، داعياً، ولا يمكن أن يكون العبد هكذا حتى يظهر عليه من حاله، أو من لسانه التضرع إلى بارئه، ولا يزال العبد يتضرع إلى الله ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء الذي شكا منه، وهذا سرٌ عظيمٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ، طوبى لمن بلغها، لا يزال المُبتلى يتضرع إلى الله، ويشكو إليه حتى يشعر بلذةٍ تُنسيه ألم البلاء. وأحب ما إلى الله انكسار قلب عبده بين يديه، وتذلله له، وإظهار ضعفه، وعجزه، مع التضرع والتمسكن وإبداء الفاقة، فرحمة الله أقرب إلى هذا القلب، والله يبتلي عبده ليسمع تضرعه؛ فالله يحب صوت المُلّحين في الدعاء، ويُحب أنين المشتكين إليه.

 

إن (الشكوى لغير الله) مذلةٌ وجهلٌ وعجزٌ؛ قال الشاعر:

إن الوقوفَ على الأبوابِ حرمانُ

والعجزُ أنْ يرجو الإنسانَ إنسانُ

متى تؤمل مَخلوقاً وتقصدهُ

إن كانَ عندكَ بالرحمنِ إيمانُ

ثِقْ بالذي هو يُعطي ذا ويمنعُ ذا

في كلِ يومٍ له في خَلقهِ شانُ

وقال آخر:

وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا

تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ

وقال ثالثٌ:

مَنْ يَسألُ الناسَ يَحْرِموهُ

وَسائِلُ الله لا يَخيبُ

 

إن سائل الله -عزَّ وجلَّ- عزيزٌ مُجابٌ، أما سائل الناس فمطرودٌ ذليل؛ فلو شكوتَ إلى مؤمنٍ أشفق عليك، لكنه ضعيفٌ ولا يملك لا لنفسه ولا لك شيئاً، ولو شكوتَ إلى كافرٍ شمت بك، وفرح لما أنت فيه من هَمٍ وغمٍ وضيق؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ].

 

يقول العلماء إن هناك فرقاً دقيقاً بين الإخبار بالحال، وبين (الشكوى لغير الله) إلى المخلوق؛ فالإخبار بالحال هو أن يسأل المُبتلى شخصاً قادراً على فعل شيءٍ له؛ كالطبيب يصف له دواءً، والمدير يرفع عنه غُبناً. أما الشكوى إلى الله سُبحانه وتعالى، فهي محمودةٌ بل إن المرء يُثاب عليها؛ ففيها استعطافٌ وتملقٌ واسترحامٌ لرب العزة.

إن سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله شركٌ، أما إذا كان الإخبار عن الحال لمن يُمكن له أن يُساعد في إزالة ضررٍ، أو حل مُشكلةٍ على نحوٍ ليس فيه تسخطٌ على القدر، ولا جزعٌ من المكتوب، فلا بأس به.

 

 أحبتي.. يقول أحد العارفين: على الإنسان عند وقوع البلاء ألا يشكو إلا إلى الله؛ يُناجيه، يُخاطبه، يعتذر، يستغفر، يُعلن توبته، "اللهم اقبل توبتي، اللهم آمن روعتي، اللهم أقِلّ عثرتي، اللهم اغفر زلتي". عليه أن يكون في مُناجاةٍ مع الله؛ يسأله، يعتذر له، يطلب السماح منه، يُعبّر عن ضعفه أمامه، يُظهر محبته له، يُحاور الله ولا يُحاور أحداً من الناس، وبقدر ما يتذلل لله بقدر ما يكون عزيزاً على الناس، إن فعل ذلك وجد الله -عزَّ وجلَّ- ينتظره ليسعده، ليكرمه، ليرحمه. فعلينا جميعاً أن نتجنب (الشكوى لغير الله)؛ إلا فيما هو من مقدور البشر، ومع الاعتقاد الجازم واليقين الكامل بأن الله هو وحده ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وهو ﴿اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ وهو ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ وهو ﴿رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ وهو -دون غيره- الذي يُسبب الأسباب، بيده مقادير كل شيءٍ، وهو ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. إنه -سُبحانه وتعالى ينتظرنا لنشتكي له وندعوه فيستجيب دعاءنا، ويُعطينا سؤلنا، بل ويُدهشنا بعطائه؛ أوليس هو سُبحانه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾؟ بلى، ورزقه لا يقتصر على المال فقط بل يمتد ليشمل كل خيرٍ نتمناه لأنفسنا.

اللهم اجعلنا ممن يعرفك في الرخاء قبل الشدة، ومن الذين لا يدعون إلاك، ولا يطلبون إلا منك، ولا يخضعون إلا لك.

 

https://bit.ly/3f2wzgT

الجمعة، 16 سبتمبر 2022

رجال صدقوا

                                                      خاطرة الجمعة /361


الجمعة 16 سبتمبر 2022م

(رجال صدقوا)

 

يقول الداعية الكويتي الدكتور/ عبد الرحمن السميط، رحمه الله: كنتُ أقف ذات يومٍ فسمعتُ بكاء سيدةٍ إفريقيةٍ ونحيبها وتوسلاتها لأحد الأطباء القائمين على مساعدة الأطفال الصغار وعلاجهم في بعثتنا في إفريقيا؛ وللحق تأثرتُ لشدة إصرارها وتمسكها بتحقيق مطلبها، فتحدثتُ مع الطبيب، فقال لي: "إن ابنها الرضيع في حُكم الميت ولن يعيش، وهي تُريدني أن أضمه إلى الأطفال الذين سنرعاهم، والمال الذي سننفقه على طفلها لا فائدة منه؛ إنه طفلٌ لن يعيش إلا أياماً معدوداتٍ، والمال أولى به غيره"، قال السميط: "نظرتْ إليّ الأمُ بنظرات توسلٍ واستعطافٍ -والطبيب يحكي لي؛ فقلتُ للمترجم: اسألها كم تحتاج من المال كل يومٍ؟"، فأخبرته بالمبلغ، ووجدتُه قليلاً جداً، يُساوي ثمن مشروبٍ غازيٍ في بلدي!! فقلتُ: "لا مشكلة؛ سأدفعه من مالي الخاص"، وطمأنتها فأرادت المرأة تقبيل يدي، فمنعتها وقلتُ لها: "خذي هذه نفقة عامٍ كاملٍ لابنك، وعندما تنفد النقود -أشرتُ إلى أحد مُساعديَّ - سيعطيك ما تحتاجينه"، ووقعتُ لها صكاً لتصرف به المبلغ المتفق عليه. وللحق أنا اعتبرته فعلاً طفلاً ميتاً، وما فعلته كان فقط لكي أُهدئ الأم المسكينة، وأجبر خاطرها، لاسيما أنها حديثة عهدٍ بالإسلام.

تمر الشهور والسنوات، وقد نسيتُ الموضوع برمته، وبعد أكثر من اثني عشرة عاماً كنتُ في المركز، وحضر لي أحد الموظفين، وقال لي: "هناك سيدةٌ إفريقيةٌ تُصر على لقائك، وقد أتت عدة مراتٍ"، فقلتُ له: "أحضرها"، فدخلت سيدةٌ لا أعرفها، ومعها طفلٌ هادئٌ جميلُ الوجهِ وقالت لي: "هذا ابني عبد الرحمن، وقد أتم حفظ القرآن، والكثير من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتمنى أن يُصبح داعيةً للإسلام معكم"، تعجبتُ وسألتها: "ولماذا تُصرين على هذا الطلب مني؟!!"، رد عليّ طفلها، فوجدته يتحدث اللغة العربية بهدوء، وقال لي: "لولا الإسلام ورحمته ما كنتُ أعيش وأقف بين يديك الآن، فقد حكت لي أمي قصتك معها، وإنفاقك عليّ طوال مُدة طفولتي، وأريد أن أكون تحت رعايتك، وأنا أجيد اللغة الإفريقية وأعرفها تماماً، وأحب أن أعمل معكم كداعيةٍ للإسلام، ولا أحتاج سوى الطعام فقط، وأحب أن أُسمعك تلاوتي للقرآن"، وأخذ يتلو آياتٍ من سورة البقرة بصوتٍ شجيٍ، وعيناه الجميلتان تنظران لي متوسلةً أن أوافق، وهنا تذكرتُ وسألتُ الأم: "هل هذا هو ذلك الطفل الذي رفضوا ضمه إلى الرعاية؟"، فقالت: "نعم نعم!"، وعقَّب هو: "لذلك سمتني أُمي باسمك عبد الرحمن، وأصرت أن تُقدمني إليك".

يقول د. السميط: "لم تحملاني قدماي، خررتُ على الأرض وأنا شبه مشلولٍ من هول الفرحة والمفاجأة، وسجدتُ لله شكراً وأنا أبكي وأقول: ثمن مشروبٍ غازيٍ يُحيي نفساً، ويرزقنا بداعيةٍ نحتاجه!". أصبح هذا الطفل من أكثر دعاة إفريقيا وبين قبائلها شهرةً وقُبولاً لدى الناس.

 

أحبتي في الله.. الدكتور/ عبد الرحمن السميط -رحمه الله- كان واحداً من (رجال صدقوا) الله فأعانهم، كان طبيباً، أسس جمعية العون المباشر وترأس مجلس إدارتها، قضى مُعظم عُمره ينشر الإسلام في القارة السمراء، وأسلم على يديه أكثر من أحد عشر مليون شخصٍ في إفريقيا. كتبتُ عن إنجازاته خاطرة الجمعة رقم 5، ونشرتها على فيس بوك بتاريخ الجمعة 6 نوفمبر 2015م، تحت عنوان: "رجلٌ بأمةٍ"، وهذا هو رابطها: https://goo.gl/xmE7qe

 

أما خاطرة اليوم فأخصصها لعرض بعض مواقف حدثت له، هو وزوجته، وهما يعملان معاً لنشر الإسلام في قارة أفريقيا؛ ومن ذلك:

-يقول الدكتور السميط كانت البداية عام1980م حينما ذهبتُ مع اثنين من الإخوة إلى ملاوي وجلسنا هناك مدةً. كُنا نعرف أنّ هناك فقراً وجهلاً وأمراضاً في ملاوي، وفي إفريقيا بصفةٍ عامة، لكن لم نكن نتصور أن يكون الفقر والجهل والمرض منتشراً بهذه الدرجة! ما رأيناه بأعيننا كان صفعةً لنا أيقظتنا؛ فبدأتْ رحلتنا التي استمرت لأكثر من رُبع قرنٍ، وشملت إلى جانب ملاوي كلاً من موزامبيق وكينيا ومدغشقر وزيمبابوي وجيبوتي والسودان والصومال وإثيوبيا وغيرها من بلاد إفريقيا المملوءة بالمجاعات والأمراض.

-ويقول: إنه كان هو وزوجته أم صهيب جالسين في ليلةٍ خارج أحد الأكواخ بإحدى قُرى أفريقيا، سألته زوجته: "هل إذا -بإذن الله ورحمته- دخلنا الجنة هل سنكون سُعداء مثل هذه السعادة؟"؛ لأننا كنا نخرج إلى القُرى ونُكلم الناس عن الإسلام، وكانت أسعد اللحظات إذا جاء رجلٌ أو امرأةٌ وأخذوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

-ويقول: في إحدى زياراتنا لأفريقيا نزلنا في فندقٍ حُكوميٍ، وكان نظيفاً نسبياً، غير أنه من الناحية الأخلاقية غير نظيفٍ تماماً، وأصرّت زوجتي علي ألا نقيم لحظةً في هذا الفندق، ولأننا كنا مُتعبين من جراء السفر؛ حيث قطعنا طريقاً يمتد لأكثر من 1500 كيلومتر في طرقٍ وعرةٍ وصعبةٍ، قلتُ لها: "البديل هو أن ننام في الغابات"؛ فقالت: "هذا أفضل من فندقٍ من هذا النوع"، وفعلاً ونزولاً على رغبتها تركنا الفندق، وفي طريقنا وجدنا مسجداً قديماً ومُهدماً ومهجوراً، قضينا الليل فيه، وكنا ضيوفاً على البعوض الذي كان موجوداً بكمياتٍ هائلةٍ جداً، وأذكر أننا حينما استيقظنا وجدنا وجه ابننا الرضيع عبد الله متورماً جراء لسعات البعوض، أُصيب على أثرها بالملاريا.

-ويقول: منذ سنواتٍ قادني حبّ الاستطلاع لزيارة قريةٍ نائيةٍ في أفريقيا اسمها "مكة”. ثم بدأتُ بحثاً علمياً مُوسعاً عن قبيلة الأنتيمور ذات الأصول العربية الحجازية، وهي نموذجٌ من العرب والمُسلمين الضائعين في أفريقيا، مثلهم مثل قبيلة الغبراء في شمال كينيا، والبورانا في جنوب إثيوبيا، وبعض السكلافا في غرب مدغشقر، والفارمبا في جنوب زيمبابوي، وملايين غيرهم قد يشتكون الله علينا أننا لم نفعل شيئاً لإنقاذهم من الضلال والشِرك وأغلبهم ذوو أصولٍ إسلامية؛ فمَن يُنقذنا من الحساب يوم يشكونا الناس في إفريقيا بأننا لم نسعَ إلى هدايتهم؟

-ويقول: أثناء المجاعة التي صارت عام1983م رأيتُ في إحدى قُرى إثيوبيا عائلةً جاءت تطلب معونةً من مُنظمةٍ مسيحيةٍ من شمال أميركا، وكان الشخص الذي يوزع المعونات شاباً أميركياً مُتحمساً، عرف أن هذه أسرة إمام المسجد فقال له: "غيِّر دينك وأُعطيك طعاماً"، رفض الإمام، فقال له: "فما رأيك لو أنك قلتَ أمام الناس -بالكذب فقط- إنك تخليتَ عن الإسلام وقبلتَ المسيحية؟"، رفض الإمام؛ فقال له الشاب: "إذاً أنا آسف، لن أُعطيك أي طعام". علماً بأن هذا الطعام كانت توزعه مُنظمة الغذاء العالمية التي تتبرع لها الحكومات في جميع الدول العربية! بعد ثلاثة أشهرٍ ذهبتُ إلى هذه القرية -وكان أهلها قد هاجروا منها- توجهتُ إلى بيت الإمام وفتحتُ الباب فوجدتُ الهياكل العظمية للإمام وزوجته وأولاده، كانوا قد ماتوا من عدة أشهر!

-ويقول: من الطريف أن أحد القساوسة أتى إلينا يوماً غاضباً يقول إن الكنيسة لاحظت انتشار الإسلام في منطقته، وطلبت منه، الكتابة ضد الإسلام، وتحذير الناس من هذا الدين؛ وطلب منا أن نُمده بكُتيبات عن الإسلام كي يتمكن من مهاجمته! فقلنا له: "أهلاً وسهلاً"، وشرحنا له تعاليم الإسلام، وقدمنا له كُتيبين عن الإسلام، فذهب وعاد بعد يومين ليُشهر إسلامه رغم إنه قسيس!

-ويقول: خلال سنوات عملي في إفريقيا كان أكثر ما يُدخل السرور إلى قلبي، أن أرى شخصاً يرفع السبابة إلى أعلى ويُعلن شهادة التوحيد، وكان أكثر ما يؤثر فيّ إلى حد البكاء حينما أذهب إلى منطقةٍ ويدخل بعض أبنائها في الإسلام ثم يصرخون ويبكون على آبائهم وأُمهاتهم الذين ماتوا على غير الإسلام، ويسألون: "أين أنتم يا مُسلمين؟ ولماذا تأخرتم عنا كل هذه السنين؟". كانت هذه الكلمات تجعلني أبكي بمرارةٍ، وأشعر بجزءٍ من المسئولية تجاه هؤلاء الذين ماتوا على الكُفر.

-ويقول: سألتُ يوماً أحد زعماء القرى في مدغشقر لماذا أسلم؟ فقال: "منذ وصولكم لقريتنا لم تتكلموا كثيراً عن دينكم، بل حدثتمونا عن مكارم الأخلاق التي كان يتمتع بها أجدادنا، فشعرتُ أنه لا يُمكن أن تقطعوا كل هذه المسافات وتتعبوا أنفسكم لمجرد الحديث عن أجدادنا، لولا أن ما يؤمن به أجدادنا هو دينكم. إنكم لم تُهاجموا المسيحيين، كما يفعل المسيحيون عندما يزوروننا ويُهاجمون الإسلام، ولم تنتقصوا من الآخرين الذين يخالفونكم، ولم تضغطوا علينا حتى نُسلم، فكيف لا تتوقع بعد هذا أن أُسلم؟".

 

وأختم بهذا الموقف المُشرف لأمير الكويت الأسبق الشيخ/ جابر الأحمد الصبّاح، مع الدكتور/ عبد الرحمن السميط. تبدأ أحداث هذا الموقف حين حدد الديوان الأميري بالكويت ربع ساعةٍ فقط لمقابلة صاحب السمو أمير البلاد للدكتور عبد الرحمن السميط؛ حتى يشرح له دور وأعمال جمعية العون المُباشر في أفريقيا، لكن المقابلة امتدت لنحو ساعةٍ ونصف. سأل الأمير الدكتور السميط عن الدافع وراء كل هذه الجهود والتي كثيراً ما عرضته هو ومن معه للمخاطر؛ فكان جوابه أن لذة القيام بهذه الأمور أكثر بكثيرٍ من التعب وعواقبه، وتكفي روعة الإحساس برؤية الأطفال المُشردين والمرضى والمُعدمين بعد تقديم يد العون لهم، وقد انقلب حالهم، وأصبحوا أطباء ومهندسين ورجال أعمال. فلمساعدة المُحتاجين لذةٌ خاصةٌ لا يشعر بها إلا من يقوم بها، لذلك نتحمل من أجل الحصول على هذه اللذة أية عوائق أو مخاطر. في نهاية اللقاء سأل الأمير الدكتور عن موعد مُغادرته إلى أفريقيا، فأجابه: "بعد أسبوعٍ"، وحين اقترب موعد السفر اتصل موظفٌ بالديوان الأميري وطلب من الدكتور تذاكر السفر الخاصة به، وأخبره أن يحضر إلى المطار مُبكراً لترتيب سفره، وعندما حضر وجد طائرةً ملكيةً بانتظاره، فصعد السُلم واتجه نحو مقاعد الجلوس فوجد ستة أشخاصٍ مُتواجدين بالطائرة، وعندما حاول الجلوس معهم، أخبروه بأن مقعده بالأمام فتقدم ليجد الأمير جابر الأحمد الصباح بانتظاره، يرتدي ثوباً كويتياً عادياً، كذلك لم يكن هناك أي مُرافقٍ من الصحافة والإعلام، وسافر الأمير مع الدكتور عبد الرحمن إلى أفريقيا باسمٍ مُستعارٍ لا يُعرف منه شخصيته الحقيقية. قام الأمير -ولمدة يومٍ كاملٍ دون توقفٍ- بالتجوال مع الدكتور عبد الرحمن السميط من أجل الاطلاع على جميع الأعمال الخيرية بأفريقيا، ثم غادر في المساء عائداً إلى الكويت. قام بعدها بالتبرع لجمعية العون المباشر بمبلغ وقدره 23 مليون دينارٍ كويتيٍ.

 

أحبتي.. أعتذر لكم عن الإطالة، وأعتذر للدكتور السميط عن التقصير، ولا أجد ما أقوله سوى أن الدكتور عبد الرحمن السميط -رحمه الله- وأمثاله (رجال صدقوا) تنطبق عليهم الآية الكريمة: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾. رجالٌ سعوا للوصول إلى رضا الله تعالى، فهل يستطيع أيٌ منا أن يكون مثلهم ويكون سبباً لنُصرة الإسلام؟ سؤالٌ أطرحه، أما الإجابة فستكون عهداً بين كلٍ منا وبين الله سُبحانه وتعالى؛ أن نتقرب إلى الله وننصر دينه بكل ما نستطيع من جُهدٍ، بإخلاصٍ وتفانٍ ودون رياء، ونبذل في سبيل ذلك كل رخيصٍ وغالٍ. وتكون البداية لحظة صدقٍ مع النفس؛ عسى الله أن يُعيننا وينفع بنا غيرنا، ونكون سبباً في نُصرة دين الله. والله ولي التوفيق.

https://bit.ly/3Sb9lU2

الجمعة، 9 سبتمبر 2022

الدعوة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /360


الجمعة 9 سبتمبر 2022م

(الدعوة إلى الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ عن شخصيةٍ غير عاديةٍ، قصة داعيةٍ إسلاميٍ استثنائيٍ بكل ما تحمله كلمة استثنائيٌ من معانٍ؛ عُرضت عليه الملايين ليميل إلى الدُنيا ويجني الأموال، لكنه ترك ذلك كله وراء ظهره، ومنذ أربعين عاماً وهو يؤسس للإسلام في دولةٍ كانت بلا إسلام!

هذا الداعية تمسكت به السعودية ليعمل بها أستاذاً تقديراً لعلمه، وطلبته الكويت ليعمل لديها في الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية، وعينته باكستان نائباً لرئيس الجامعة وعميداً لكلية الدراسات العليا ورئيساً لقسم الفقه والحديث.

تبدأ قصته تحديداً عام 1982م؛ فأثناء زيارته ضمن وفدٍ إلى وزارة الأوقاف الكويتية، قال وزير الأوقاف الكويتي لأعضاء الوفد إن وزيراً من كوريا الجنوبية زار الكويت وقال للوزراء الكويتيين: "الناس في كوريا يموتون على الكُفر، لماذا لا تأتون وتنشرون الإسلام؟"، وسأل الوزير أعضاء الوفد: "من منكم يريد تحمل هذه المسئولية؟"، قال هذا الداعية الاستثنائي بدون تردد: "أنا أذهب إلى هناك، أنا لها".

إنه الإمام الشيخ الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق، سافر إلى كوريا الجنوبية، وترك الوظيفة القيمة والمنصب المرموق في الكويت، واتجه إلى دولةٍ لم يكن يعرفها، ولا يعرف أي شيءٍ عنها ولا أي شيءٍ فيها، بل كان يعتقد في أول الأمر أنها دولةٌ إفريقيةٌ! دخلها حاملاً رسالة الإسلام بنية (الدعوة إلى الله) ونشر الإسلام. تعلم لغة الكوريين ودرس ثقافتهم وفهم عقولهم ودرس مُعتقداتهم، ووجد أغلبهم يعتقدون أن للكون سبعة آلهةٍ، ووجد منهم ملايين من النصارى وملايين من المُلحدين واللادينيين. على يديه اعتنق الآلاف من الكوريين الإسلام، وفي مراكزه الإسلامية التي ساهم وساعد وجاهد في إنشائها، والمنتشرة في مدنٍ كوريةٍ كثيرةٍ، يتهافت الناس للتعرف على الإسلام، وفي المساجد الكبيرة التي عمل على بنائها وتوزيعها وفقاً لأعداد المسلمين في المدن، يُمكنك أن ترى حقيقة انتشار الإسلام في كوريا.

كتب الشيخ/ عبد الوهاب زاهد الحق، للكوريين بلغتهم عشرات الكُتب حتى أصبح التعرف على الإسلام ظاهرةً لافتةً، والإقبال على التحول إلى الإسلام يحدث بشكلٍ يوميٍ، والأعداد في ازدياد.

للشيخ أكثر من خمسةٍ وخمسين كتاباً إسلامياً بعدة لغاتٍ؛ جميعها تُبسّط الإسلام وتوصل رسالته وتوضح معانيه للناس في دولةٍ ينهشها الإلحاد، وينتشر فيها الانتحار والكُفر، ويأبى الله إلا أن يسطع فيها نور الإسلام.

عرض أحد رجال الأعمال المصريين على الشيخ/ عبد الوهاب أن يكون شريكه في مشاريعه في كوريا بنسبة 50% دون مقدمٍ مع عربونٍ بمليون دولار، قال له الشيخ/ عبد الوهاب: "لقد تركتُ بلاد العرب وأنا عميد كلية دراساتٍ وأنا كذا وأنا كذا وأنا كذا، ليس من أجل المال، الحمد لله رب العالمين، لستُ بحاجةٍ إلى مالٍ، أنا هنا لأدعو إلى الإسلام، أنا هُنا لأُنقذ شخصاً كورياً من النار"، فرح رجل الأعمال المصري برفض الشيخ/ عبد الوهاب وسأله: "ماذا تريد؟"، قال له: "أريد مسجدين لمدينتين في كوريا"، أرسل له الرجل تكلفة مسجدٍ وهو مسجد أبو بكر الصديق؛ أحد أكبر وأهم مساجد كوريا، ونجح الشيخ/ عبد الوهاب في بناء المسجد الثاني في مدينةٍ ثانيةٍ، وسُمي مسجد عمر بن الخطاب، ومن عددٍ لا يُذكر من المساجد، انطلقت رسالة الإسلام، ليصل عدد المساجد الآن إلى أكثر من سبعين مسجداً، عدا عن المُصليات غير الرسمية، وعشرات المراكز الإسلامية، ومئات الآلاف من المسلمين، عشرات الآلاف منهم يعيشون في العاصمة سيول.

نجح الشيخ فيما جاء من أجله، خاطب عقول الكوريين وكسب قلوبهم؛ يقول الشيخ عبد الوهاب: "أنا افتخر بالمسلمين الجُدد في كوريا، سيكونون أمامي يوم القيامة، كتبتُ لهم ثلاثةً وعشرين كتاباً باللغة الكورية؛ في العقيدة الإسلامية والإيمان، والصراع بين الخير والشر، وفلسفة الشرك منذ عصر نوحٍ عليه السلام، كتبتُ لهم كتاباً عن أنبياء الله آدم ونوح وإبراهيم -عليهم السلام-، وكتبتُ لهم عن حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وكتبتُ عن حياته في مكة، وحياته في المدينة، بأسلوبٍ مُبسطٍ لتُقرأ دون مُعاناةٍ ولا مللٍ، تركتُ لهم الإسلام مُترجماً".

الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق الحلبي، من مواليد مدينة حلب في سورية عام 1941م، في الأربعينات من عُمره كان حاصلاً على بكالوريوس في علوم التفسير والحديث من جامعة الأزهر الشريف في مصر، وماجستير في الحديث الشريف ودكتوراه في الفقه المقارن.

تفرغ لنشر الإسلام في كوريا منذ عام 1984م وحتى اليوم، وهو مفتي المسلمين في كوريا، وإمام وخطيب مركز ومسجد أبي بكر الصديق، له زوجةٌ واحدةٌ، وسبعة أبناءٍ، وخمسة وثلاثون حفيداً. يقول إن والده -رحمه الله- رأى له في المنام مائةً وعشرين حفيداً. اللهم بارك لنا في عُمره، وفي عِلمه، ووفقه إلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين.

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل وأمثاله -وهم قليلون- هم رجال الحق و(الدعوة إلى الله) سُبحانه وتعالى.

والدَّعوة لغةً مصدر دَعا يدعو دَعوَةً، وجمعها دَعْوات ودَعَوات. والدعوة تأتي بمعنى الدُعاء، والدعوة الإسلاميّة هي الدعوة إلى الإسلام، وشهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله.

أما الدَّعوة اصطلاحاً فتأتي بمعنى نشر رسالة الإسلام وتبليغها للناس، وهي -كما يقول أهل العلم- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به رُسله عليهم السلام؛ بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمّن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشرّه، ودعوة العبد إلى عبادة الله -تعالى- كأنّه يراه. وقيل في تعريف الدعوة إنها نشر الإسلام بين الناس وتعليمهم إياه؛ بحيث يطبقونه في واقع حياتهم.

 

يقول العلماء إن الآية الكريمة: ﴿...رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ تُبين أن مُهمة الرُسل هي (الدعوة إلى الله) تعالى تبشيراً بالخير وتحذيراً من الشر. وقد خاطب سُبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام بالقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾؛ موضحاً أن (الدعوة إلى الله) هي الهدف من رسالته، ثم أمره أن يُبين لأمته أن هذه هي مهمته ومهمة أتباعه؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾؛ فالرسل وأتباعهم مأمورون بدعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، وإنذارهم عن الشرك به ومعصيته، وهذا مقامٌ شريفٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ لمن وفقه الله تعالى للقيام بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. ولما عرف الصالحون شرف هذه المُهمة حرصوا عليها، ولم يسيروا إليها مشياً بل سعوا لها سعياً، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.

 

وعن (الدعوة إلى الله) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. هذا هو الفضل العظيم؛ فإن الداعي إلى الله يجري له ثواب من اهتدى بدعوته، وهو نائمٌ في فراشه، أو مشتغلٌ في مصلحته؛ بل إن ذلك يجري له بعد موته، لا ينتهي ذلك إلى يوم القيامة.

 

والأمة كلها -كما يُخبرنا العلماء- يقع عليها عبء (الدعوة إلى الله)؛ فلا ينبغي أن يتخلف أحدٌ من المُسلمين عن هذا الميدان، ولا ينبغي أن يزدري المرء نفسه ويظن أنه أقل من أن يدعو إلى الله. إن (الدعوة إلى الله) واجبةٌ على كل مؤمن؛ يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، وهي ليست قاصرةً على من يعتلي المنابر ويُلقي الدروس والمُحاضرات، وإنما هي واجبٌ على كل مُسلمٍ يُحب الخير للآخرين كما يُحبه لنفسه، ويتطلع إلى أن يكون من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

 

أحبتي.. فلنتعاهد جميعاً أمام الله سُبحانه تعالى بألا يمر يومٌ إلا وقد تقربنا إلى الله عزَّ وجلَّ بعملٍ من أعمال (الدعوة إلى الله)؛ سواءً بهداية الآخرين من غير المُسلمين، أو بتصحيح مفاهيم خاطئة عند بعض المُسلمين، أو -على الأقل- بالعزم الأكيد والنية الصادقة ومُكابدة هوى النفس حتى يُصبح كلٌ منا نموذجاً وقدوةً يتمثلها الآخرون؛ بالالتزام بالعبادات، والصدق والإخلاص في المُعاملات، وحُسن الخُلُق. على كلٍ واحدٍ منا أن ينوي (الدعوة إلى الله) حسب طاقته وقدرته؛ ويقول كما قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.

اللهم أعنّا، ويسّر لنا أمورنا وأحوالنا، واهدنا للنهوض بواجب الدعوة إليك، وإلى شريعتك السمحاء، شريعة الإسلام.

https://bit.ly/3D9whyL

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

اللطيف الخبير

 

خاطرة الجمعة /359


الجمعة 2 سبتمبر 2022م

(اللطيف الخبير)

 

قصةٌ غريبةٌ تدل على عظمة الخالق سُبحانه؛ ففي أحراش غابات «أمريكا الجنوبية» يتجول الصيادون في مواسم الصيد حيث تمتلئ حياتهم بالمغامرات المُثيرة. وقد روى أحدهم القصة التالية:

بعد جولةٍ نهاريةٍ مُرهقةٍ بين الأحراش جلستُ على جذع شجرةٍ لأستريح، وفيما أنا جالسٌ شد انتباهي صرخات عُصفورٍ صغيرٍ كان يُرفرف على عُشه في جزعٍ شديدٍ، وقد بدا واضحاً أنه يواجه موقفاً عصيباً، اقتربتُ من مصدر الصوت في أعلى الشجرة المجاورة؛ فتبين لي سر انزعاج العُصفور، فقد كانت هناك حيةٌ كبيرةٌ تزحف صاعدةً فوق الشجرة وعيناها شاخصتان إلى العُش حيث يرقد أفراخ العصافير، وبينما كانت العُصفورة الأم تصرخ جزعاً وخوفاً على فراخها، رأيتُ العُصفور الأب يطير بعيداً ويجول في الهواء وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، وبعد لحظاتٍ عاد وهو يحمل في منقاره غُصناً صغيراً مُغطىً بالورق، ثم اقترب من العُش حيث كانت العُصفورة الأُم تحتضن صغارها؛ فوضع الغُصن الصغير فوقهم، وغطاهم بأوراقه العريضة ثم وقف فوق غُصنٍ قريبٍ يُراقب الموقف وينتظر وصول العدو!

قلتُ لنفسي: "كم هو ساذجٌ هذا العُصفور؛ أيحسب أن الحية الماكرة سوف تُخدع بهذه الحيلة البسيطة؟!". مرت لحظاتٌ من التوتر قبل أن تصل الحية إلى الموقع، والتفتْ حول غُصنٍ قريبٍ، وعندما اقتربتْ من العُش رفعت رأسها الكبير استعداداً لاقتحامه. كان واضحاً أن كل شيءٍ قد انتهى تماماً، غير أن ما حدث بعد ذلك كان مُثيراً جداً؛ ففي اللحظة التي همّت فيها الحية باقتحام العُش توقفتْ واستدارتْ، ثم تحولت فجأةً، وأسرعتْ مُبتعدةً عن العُش وكأنها أصيبت برصاص بُندقيةٍ وهبطت عائدةً إلى حيث أتت، وقد بدا اضطرابها واضحاً! لم أفهم ما حدث، لكني رأيتُ العُصفور الأب يعود إلى العُش لترتفع صوصوات العائلة السعيدة فرحاً بالنجاة، ويُزيح الغُصن من فوق الأفراخ فيُسقطه إلى الأرض، فالتقطتُ الغُصن واحتفظتُ به حتى التقيتُ بأحد خبراء الحياة البيولوجية في الأحراش اللاتينية، فرويتُ له ما حدث وسألته عن هذا الغُصن؛ فقال لي إن هذه الأوراق تحتوي على مادةٍ شديدة السُمية، قاتلةٍ للحيات، حتى أنها تخاف رؤيتها وترتعب من رائحتها وتهرب خوفاً من مُلامستها! تعجبتُ من تلك القوانين المُنضبطة التي تحكم الحياة بدقائقها المُثيرة؛ فتُساند الضعيف، وتتصدى للقوي، وتمنح العُصفور الصغير عِلماً ومعرفةً وحكمةً وشجاعةً وحُباً وأُبوةً كهذه!

لقد وضع الله تخطيطاً مُحكماً لجميع مُفردات الحياة؛ صغيرها وكبيرها، فالذي علّم العُصفور أن هذه الأوراق فيها سمٌ قاتلٌ تخافه الحيات لن يُضيّعك وقت الشدائد، وسيُلهمك التصرف السليم لتخرج منها معافىً؛ فلا تقلق على حياتك ولا على رزقك، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، رُفعتْ الأقلام وجفت الصحف. ما أعظمك ربنا، وأنت سُبحانك (اللطيف الخبير).

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى، مُختلفةٍ معها في التفاصيل، مُشتركةٍ معها في العبرة. تقول القصة:

أبحرت سفينةٌ على متنها بعض الرجال، وفي عرض البحر هبت عاصفةٌ شديدةٌ، أخذت السفينة تتمايل، وتمايل معها مَن كان فيها حتى غرقت ووقع مَن فيها بالماء. تعلق رجلٌ من ركابها بعرقٍ من خشب السفينة، وظل يُقاوم الموج والغرق، وبفضل الله ألقته الأمواج على جزيرة. خرج الرجل مُتعباً على شاطئ الجزيرة، واستلقى على الرمال. مرَّ الوقت واستراح من تعبه وأخذ يتفقد الجزيرة؛ فوجدها خاليةً من السُكان، بها بعض الأشجار المُثمرة، وبعض الطُيور والأرانب، وبها عين ماءٍ جاريةٌ. حمد الله على فضله ونعمته عليه، واستقر على الجزيرة، يأكل من ثمارها، ويصطاد من الأرانب ويطهي، ويشرب من ماء العين. بني لنفسه كوخاً من خشب الأشجار لينام فيه، ويحتمي من حرارة الشمس بظله، ويُعد طعامه به، وفي أحد الأيام تمكن من اصطياد أرنبٍ سمينٍ، فذبحه ووضعه على النار داخل الكوخ لينضج، وخرج يتفقد الجزيرة لعله يجد مخرجاً أو يعثر على مَن يتواصل معه إلى أن يطيب الطعام، مرّ الوقت ولم يشعر ورجع إلى كوخه لتناول طعامه. وكانت المفاجأة؛ امتد لهب النار للكوخ فالتهمه، واتسع اللهب ليتناول كل ما في الكوخ، رأى الرجل الأمر فاشتد حزنه وأخذ في البكاء، ورفع يديه إلى السماء يشكو أمره لله، وكأنه يعترض على ما أصابه من بلاءٍ، ثم انتبه واستغفر الله وأوي إلى شجرةٍ ونام تحتها حتى الصباح. أشرقت الشمس وقام الرجل من نومه، واتجه قُرب الشاطئ ينعي حاله لماء البحر. وحدثت المفاجأة؛ رأى سفينةً تقترب من الشاطئ؛ فدعا الله أن يراه من فيها، وبالفعل رأوه وأنزلوا قارباً صغيراً لإنقاذه. ركب القارب وصعد إلى سطح السفينة وهو يبكي من شدة الفرح. استقبله رجال السفينة وهم يقولون له: "حمداً لله على السلامة"؛ فبكى الرجل وسألهم: "من دلكم على مكاني؟!"، فقالوا له: "بالأمس شاهدنا دخاناً يتصاعد من الجزيرة؛ فعلمنا أن هناك من يطلب العون ويستجير، فأبحرنا نحوك"، رفع الرجل يديه إلى السماء شاكراً الله، ثم قال: “رُبَّ ضارةٍ نافعة".

 

إنه تدبير المولى سُبحانه لجميع مخلوقاته، وصف نفسه بصفتي (اللطيف الخبير)؛ يقول تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

ووصف نفسه سبحانه بذات الصفتين ولكن بحذف أداة التعريف؛ يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿يَـبُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل فَتَكُن فِي صَخْرَة أَوْ فِى السَّمَـوَتِ أَو فِى الاَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.

 

قال العُلماء إن اسم "اللطيف" من اللُطف؛ فهو سُبحانه يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما لطف منها، ثم يسلك في إيصال ما يُصلحها سبيل الرفق دون العنف. وهو العالِم بخبايا الأمور، والمُدبر لها برفقٍ وحكمةٍ ويُسر؛ فهو الذي يلطف بعبده، فيسوق إليه البِر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسبابٍ لا تكون من العبد على بالٍ، حتى إنه يُذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.

 

وعن اسم الله "اللطيف" قال الشاعر:

وهوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ

واللطفُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ

إدراكُ أسرارِ الأمورِ بِخِبْرَةٍ

واللطفُ عندَ مَوَاقِعِ الإحسانِ

فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ

والعبدُ في الغَفَلاتِ عنْ ذا الشَّانِ

وقال آخر:

وكم لله مِن لُطفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفاهُ عن فَهمِ الذَكيِّ

وكَم يُسرٍ أتى مِن بَعدِ عُسْرٍ

ففرَّج كُربةَ القلبِ الشجيِّ

وكَم أمرٍ تُساءُ به صَباحًا

وتأتيك المَسرَّةُ بالعشيِّ

إذا ضاقت بكَ الأحْوالُ يومًا

فثِقْ بالواحدِ الفَردِ العَليِّ

 

أما اسم "الخبير" فهو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في المُلك والملكوت ذرةٌ، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ، إلا وعنده خبرها. العالِم بخلقه وسرهم وجهرهم وجميع أعمالهم، المُطّلع على ما في قلوبهم ونفوسهم من الخير والشر. العليم بما في الكون كله، وبما في أرجاء الأرض وأقطارها. يعلم كل شيءٍ ولا يغيب عن عِلمه صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، وهو العالِم بكُنه كل شيءٍ، ومُطّلعٌ على كل حقيقةٍ، مهما دقت، أو خفيت، العليم بدقائق الأمور لا تخفى عليه خافيةٌ، العليم بظاهر الأشياء وبواطنها، بشكلها وحقيقتها، وبجلائلها، وبدقائقها، بما تراه العيون وبما يخفى عنها، العليم بكل الأمور وبواعثها وأهدافها البعيدة، وبما يُخامر فاعلها من مشاعر. هو العالِم بما كان، وما هو كائنٌ، وما سيكون، وما لو كان كيف يكون، وليس ذلك إلا لله عزَّ وجلَّ، يعلم مستقر كل شيءٍ ومستودعه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

 

وعن اسم الله "الخبير" قال الشاعر:

عْمَ الخَبِيـرُ بِحَالِ كُـلِّ عِبَادِهِ

يَهَبُ العُلُومَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُخْبِرُ

 

وقد ورد الاسمان -من أسماء الله الحُسنى- متتابعين (اللطيف الخبير) في الحديث الذي روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- والذي حكت فيه عن ليلةٍ كان النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وجاءه جبريل عليه السلام يُبلغه أن ربه يأمره أن يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، وخرج الرسول لأمر ربه وقد ظن أن السيدة عائشة نائمةً فلم يُرد أن يوقظها، ولكنها انطلقت على إثره حتَّى جَاءَ البَقِيعَ. قالت: فَقَامَ، فأطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فأسْرَعَ فأسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فليسَ إلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقالَ: [ما لَكِ يا عَائِشُ؟ حَشْيَا رَابِيَةً؟] قالَتْ: قُلتُ: لا شَيءَ، قالَ: [لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ]، فأخبرته ما كان منها. {"فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ" الإحضارُ: العدْوُ. "عائشُ" بحذْفِ التَّاءِ تلطُّفًا وتَودُّدًا. "حَشْيَا" هو التَّهيُّجُ الَّذي يَعرِضُ للمُسرعِ في مَشيِه والمُحتَدِّ في كَلامِه مِن ارتفاعِ النَّفَسِ وتَواترِه، "رابِيَةً" أي: مُرتفِعةَ البطْنِ! ومعنى السؤال: فلأيِّ سَببٍ اضطَرَبَ جِسمُكِ وانقَطَع نفَسُكِ يا عائشة؟}.

 

قال الشاعر:

لَيسَ يَدري إِلّا اللَطيفُ الخَبيرُ

أَيُّ شَيءٍ تُطوى عَلَيهِ الصُدورُ

 

أحبتي.. "اللَّطيفُ" إذاً هو الرَّفيقُ بعِبادِه، و"الخبيرُ" هو العليمُ بأحوالِهِم ظاهرِها وباطنِها. يقول العارفون إنه إذا أيقن العبد بهذين الاسمين من أسماء الله الحُسنى: (اللطيف الخبير) هان عليه ما يمر به من شدائد، وأيقن أن الله سُبحانه وتعالى لا يقضي لعباده الصالحين إلا ما فيه العاقبة الحميدة لهم. والمؤمن يعلم أنه لا تخفى على الله منه خافيةٌ، ما يجعله يستقيم على طاعته، ويعتمد على اختيار ربه في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من أمره، ويُسلّم له في جميع شؤونه ثقةً في كمال تدبيره؛ فيوقن بالفرج حال الشدة، واليُسر حال العُسر، ولا يقطع أملاً في رحمة الله.

اللهم اجعلنا ممن تشملهم بلُطفك وخبرتك، فتُدّبر لنا ما يُصلحنا، ولا تتركنا لأنفسنا طرفة عينٍ فنحن لا نُحسن التدبير.

https://bit.ly/3cBRtms

الجمعة، 26 أغسطس 2022

الجوهرة

 

خاطرة الجمعة /358


الجمعة 26 أغسطس 2022م

(الجوهرة)

 

موقفٌ عجيبٌ رواه د. مصطفى محمود في لقاءٍ تليفزيونيٍ معه في أواخر الثمانينات؛ يقول: في العام 1969م شعرتُ بألمٍ رهيبٍ يشق ظهري، قمتُ بتشخيص سببه على الفور؛ كانت أعراض وجع الكُلى الذي أعرفه جيداً بحُكم دراستي للطب آنذاك. أخبرني طبيب المسالك بعد خُضوعي للأشعة السينية "X- ray" أنها حصوةٌ عملاقةٌ، تُهيمن على حجم الكلية تقريباً، ولن تُجدي معها أية موسعات! تفتيت الحصوات بالموجات التصادمية كان خيالاً علمياً وقتها، والليزر والمناظير الطبية كانا في مجاهل الغيب، لهذا لم يكن بُدٌ من تدخلٍ جراحيٍ عاجلٍ، لإنقاذ الموقف، وإلا خسرتُ كليتي كاملةً؛ وهو ما يعني فتحُ جانبي كاملاً، ثم شق الكلية نفسها لاستخراج الحصوة، باعتباره الحل الوحيد المُتاح!

لم يكن جسمي يتحمل خطورة هذه العملية، شعرتُ بفزعٍ رهيبٍ، وتمثلتُ النهاية أمام عينيّ. قمتُ فتوضأتُ وصليتُ وبكيتُ، وبدأتُ أدعو الله: "يا ربِ ساعدني.. يا ربِ انجدني.." واستمريتُ في الدُعاء، دُعاءِ مُذعنٍ خاشعٍ مُتيقنٍ، لدرجة أني ذُبتُ تماماً بين يدي الله؛ كل ذرةٍ في كياني كانت تستجدي وتتوسل وتستنجد بربها، في حالةٍ كاملةٍ مُدهشةٍ من اليقين والخشوع لصاحب الملكوت.

نصف ساعةٍ فقط، وبعدها كنتُ أُهرع إلى المرحاض! انساب مني لترٌ كاملٌ من سائلٍ سميكٍ داكنٍ يُشبه "الطحينة"! نفس اللون والسُمك. يا الله! الحصوة تفتت لسببٍ مجهولٍ، وتحولت لمسحوق! لترٌ كاملٌ أو ما يزيد، وهو ما يتناسب مع ضخامة الحصوة!

لقد استجاب الله لدعائي بصورةٍ أذهلتني. شربتُ بعض الماء، وانتهى الأمر، وكأن شيئاً لم يحدث!

وقتها تذكرتُ مقولةً لطبيبةٍ فرنسيةٍ أسلمت، قابلتها أثناء تواجدي في إحدى المرات بـ «المغرب»: "إنّ لدينا نحن المسلمين جوهرةً لا يعرف البعض قيمتها". ولما سألتها: ما هي؟ قالت: الدُعاء!

 

أحبتي في الله.. صحيحٌ قولها الدُعاء هو (الجوهرة)، لكنها جوهرةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس.

وللتذكرة بأهمية الدُعاء كتب أحد الأفاضل على موقع "تويتر" للتدوين المُصغر تغريدةً قال فيها: "لكلٍ منا مع الدُعاء أحوالٌ عجيبةٌ ومواقف غريبةٌ؛ فلو ذكر كلٌ منكم قصةً حصلت له مع الدُعاء، أو حصلت لغيره وتأكد منها بنفسه، فسأقوم بإعادة تغريدها؛ بهدف بيان فضل الدُعاء ومنزلته، وأنه بإذن الله حلٌ لكثيرٍ من مشاكلنا". انهالت على الموقع قصصٌ ومواقف حقيقيةٌ عن استجابة الدُعاء، منها:

-امرأةٌ أعرفها كانت مصابةً بمرض الغُدة الحميدة، وعلاجها بالكيماوي أو بعمليةٍ جراحيةٍ، وبعد الدُعاء بإخلاصٍ وخشوعٍ ذهبت للطبيب للمُراجعة فقال لها: "أنت شُفيتِ تماماً؛ ولا حاجة لكيماوي أو عملية"، وأقفل ملفها في المستشفى تماماً لانتهاء الموضوع.

-رسالتي للماجستير كنتُ أعدّها، وأحفظها على فلاشةٍ، ولما انتهيتُ منها وحان وقت الطباعة، إذا بالفلاشة يُصيبها عطبٌ محى جميع محتوياتها. كدتُ أُجن؛ فذهبتُ بها لمهندسٍ فقال إن استعادة ما بها من ملفاتٍ صار مُستحيلاً، فتذكرتُ: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ فدعوتُ الله بخشوعٍ وتذللٍ فإذا بالفلاشة تعود للعمل بشكلٍ عاديٍ!

-تذكرتُ شيئاً ثميناً وعزيزاً عليّ، بحثتُ عنه كثيراً فلم أجده، وكان وقت صلاةٍ فصليتُ ودعوتُ الله أن يحفظه لي واستودعته إياه، وبعد أيامٍ وجدتُ ذلك الشيء في نفس المكان الذي كنتُ بحثتُ فيه ولم أجده! فسجدتُ لله شكراً.

-كانت امرأتي عاقراً، وكنتُ كلما صليتُ قيام الليل والتهجد أدعو ربي أن يرزقنا بولدٍ صالحٍ، وأظل أدعو حتى أسمع صوت المؤذن لصلاة الفجر؛ فأذهب لصلاة الفجر بالمسجد. بعد ثلاثة أشهر استجاب الله دُعائي؛ ورزقنا بطفلٍ عمره الآن سبع سنواتٍ.

-لم أكن مُنتظماً في صلاة الفجر، وكنتُ أضبط المنبه ولا أستطيع الاستيقاظ، وكثيراً ما فاتتني صلاة الفجر، فكنتُ أُصلي الصبح عند استيقاظي من النوم بعد شروق الشمس. دعوتُ الله كثيراً؛ وكنتُ أقول: "يا الله أسألك أن توفقني إلى صلاة الفجر مع جماعة المسلمين في بيتٍ من بيوتك". دعوتُ بهذا الدعاء بإخلاصٍ لمدة ثلاثة أيام؛ فاستجاب الله لدعائي، وأعانني على المواظبة، ومُنذ ذلك الحين لم تفتني بفضل الله صلاة الفجر جماعةً وفي بيتٍ من بيوته، ولا ليومٍ واحد.

 

وغير ذلك، عشراتٌ من القصص والمواقف الحقيقة عن استجابة الدُعاء، الذي هو بحقٍ بمثابة (الجوهرة) لكل مُسلم، واختصر أحدهم ما حدث له في أربع كلماتٍ: تعثرتُ فسجدتُ فدعوتُ فأقامني.

 

ويزخر القرآن الكريم بالكثير من الألفاظ المُشتقة من الجذر "دعو"؛ حتى أن عددها قد وصل إلى 212 لفظاً في 182 آية، منها ما يُبين سرعة استجابة الله سُبحانه وتعالى لدعاء الصالحين من عباده؛ فقد وردت عبارة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أربع مراتٍ في القرآن الكريم، وكانت استجابةً لدعاء الأنبياء: نوح، أيوب، يونس، وزكريا، عليهم السلام. كما وردت عبارة ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ﴾ مُباشرةً بعد دعاء داوود، وكذلك بعد دعاء موسى، عليهما السلام.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ﴾.

كما وردت أحاديث عديدةٌ في السُنة الشريفة عن الدُعاء؛ منها:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [الدُّعاءُ هوَ العِبادَةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريمٌ، يستحيي مِن عبدِه إذا رفَع يدَيْهِ إليه أنْ يَرُدَّهما صِفرًا]. وقال أيضاً: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ]، قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: [يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ]. وقال صلوات الله وسلامه عليه: [أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ].

 

ولكثرة ما ورد في القرآن الكريم والسُنة المُشَرّفة من ذِكرٍ للدعاء؛ قال أهل العلم إنّ للدُعاء فضلاً كبيراً وفوائد؛ منها: أنه طاعةٌ لله -عزّ وجلّ- وامتثالٌ لأمره، وهو أكرم شيءٍ عليه، ومن الأمور المحببة إليه، وهو يرد القدر، وهو سببٌ لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم وتيسير الأمور، كما أنه سببٌ لتجنب غضب الله، ودليلٌ على صدق التوكل عليه. وقالوا إنّ الدُعاء المُطلق ليس له وقتٌ مُحددٌ، وإنما هناك أوقاتٌ يُستجاب فيها أكثر من غيرها؛ منها: الثُلث الأخير من الليل، بين الأذان وإقامة الصلاة، النوم على طهارة والاستيقاظ في الليل، عند إفطار الصائم، في ليلة القدر، وقت نزول المطر، آخر ساعةٍ من يوم الجُمعة، وأثناء السُجود حين يكون العبد أقرب ما يكون من ربه. وبينوا أنّ من أسباب استجابة الدعاء: الاستغفار والتوبة من الذنوب، الابتعاد عن المُحرمات، أداء الفروض من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ، الإكثار من النوافل والصدقات، العمل الصالح وبر الوالدين، الدُعاء بما هو خيرٌ، عدم الدُعاء بإثمٍ أو قطيعة رحم، حضور القلب والتضرع والخشية من الله واستشعار عظمته، الدُعاء بأسماء الله الحسنى وصفاته، الدُعاء للغير من المسلمين بخير الدنيا والآخرة، والإكثار من قول ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. وحددوا سُنن الدُعاء وآدابه في: عدم الاستعجال في الإجابة، افتتاح الدُعاء بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه الكريم والختم بذلك، تَحَيُّن أوقات الاستجابة، الدُعاء في الرخاء والشدة، عدم الدُعاء على النفس أو الأهل أو الولد أو المال، خفض الصوت ليكون بين المُخافتة والجهر، التضرع وإظهار الذُل والخضوع والابتهال والافتقار إلى الله والشكوى إليه، الإلحاح في الدُعاء، الاعتراف بالذنب وشُكر النعمة، عدم تكلف السجع، الدُعاء ثلاثاً، استقبال القبلة، والوضوء قبل البدء بالدُعاء، رفع اليدين أثناء الدُعاء.

 

والدُعاء ليس فقط (الجوهرة) التي مَنَّ الله بها على عباده، بل هو أيضاً السلاح الذي يُجابهون به جميع ظُروف الحياة؛ قال العُلماء إنه مع الدُعاء بإخلاصٍ، والإلحاح، واليقين باستجابة المولى عزَّ وجلَّ، وعدم اليأس، فإن الله سُبحانه وتعالى يستجيب بما يراه خيراً للعبد في الدُنيا والآخرة؛ فقد تكون الاستجابة فوريةً، وقد يؤخرها الله إلى وقتٍ آخر، وقد يدفع بها مُصيبةً عن صاحبها ويُعوضه بدلاً عنها، وقد يدّخرها للعبد إلى يوم القيامة وهذا أفضلها.

 

أحبتي.. أضعف الناس همةً وأعماهم بصيرةً من كان عاجزاً عن الدُعاء، رغم أنه أسهل وأيسر عبادةٍ يُمكن لكل فردٍ القيام بها. وإذا كان الدُعاء جوهرةً ثمينةً فلا تُهملوا (الجوهرة)، زيِّنوا بها أوقاتكم، وادعوا الله مباشرةً بدون واسطةٍ؛ فقد تكفل سُبحانه بالإجابة. واعلموا أن الله عزَّ وجلَّ ما كان ليُلهم العبد الدُعاء لولا أنه قد كتب له الإجابة. وإجابة الله دُعاءك لا تعني أنك من أولياء الله، لكنها تعني أن الله سُبحانه وتعالى رحمك مع تقصيرك، وتجاوز فتفضّل وتكرّم وأجاب؛ فاشكر نعمه، وتُب إليه، وامتنع عن الذنوب والمعاصي ما استطعتَ، وتقرّب إليه بما يُحب ويرضى مما افترضه عليك من فروضٍ، ومما تقدر عليه من نوافل.

اللهم إنّا ندعوك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، وأنت الكريم، وأنت الرؤوف الرحيم، وأنت الغفور الحليم، وأنت سُبحانك السميع العليم.

 

https://bit.ly/3pPc7lK