الجمعة، 9 سبتمبر 2022

الدعوة إلى الله

 

خاطرة الجمعة /360


الجمعة 9 سبتمبر 2022م

(الدعوة إلى الله)

 

قصةٌ حقيقيةٌ عن شخصيةٍ غير عاديةٍ، قصة داعيةٍ إسلاميٍ استثنائيٍ بكل ما تحمله كلمة استثنائيٌ من معانٍ؛ عُرضت عليه الملايين ليميل إلى الدُنيا ويجني الأموال، لكنه ترك ذلك كله وراء ظهره، ومنذ أربعين عاماً وهو يؤسس للإسلام في دولةٍ كانت بلا إسلام!

هذا الداعية تمسكت به السعودية ليعمل بها أستاذاً تقديراً لعلمه، وطلبته الكويت ليعمل لديها في الموسوعة الفقهية بوزارة الأوقاف الكويتية، وعينته باكستان نائباً لرئيس الجامعة وعميداً لكلية الدراسات العليا ورئيساً لقسم الفقه والحديث.

تبدأ قصته تحديداً عام 1982م؛ فأثناء زيارته ضمن وفدٍ إلى وزارة الأوقاف الكويتية، قال وزير الأوقاف الكويتي لأعضاء الوفد إن وزيراً من كوريا الجنوبية زار الكويت وقال للوزراء الكويتيين: "الناس في كوريا يموتون على الكُفر، لماذا لا تأتون وتنشرون الإسلام؟"، وسأل الوزير أعضاء الوفد: "من منكم يريد تحمل هذه المسئولية؟"، قال هذا الداعية الاستثنائي بدون تردد: "أنا أذهب إلى هناك، أنا لها".

إنه الإمام الشيخ الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق، سافر إلى كوريا الجنوبية، وترك الوظيفة القيمة والمنصب المرموق في الكويت، واتجه إلى دولةٍ لم يكن يعرفها، ولا يعرف أي شيءٍ عنها ولا أي شيءٍ فيها، بل كان يعتقد في أول الأمر أنها دولةٌ إفريقيةٌ! دخلها حاملاً رسالة الإسلام بنية (الدعوة إلى الله) ونشر الإسلام. تعلم لغة الكوريين ودرس ثقافتهم وفهم عقولهم ودرس مُعتقداتهم، ووجد أغلبهم يعتقدون أن للكون سبعة آلهةٍ، ووجد منهم ملايين من النصارى وملايين من المُلحدين واللادينيين. على يديه اعتنق الآلاف من الكوريين الإسلام، وفي مراكزه الإسلامية التي ساهم وساعد وجاهد في إنشائها، والمنتشرة في مدنٍ كوريةٍ كثيرةٍ، يتهافت الناس للتعرف على الإسلام، وفي المساجد الكبيرة التي عمل على بنائها وتوزيعها وفقاً لأعداد المسلمين في المدن، يُمكنك أن ترى حقيقة انتشار الإسلام في كوريا.

كتب الشيخ/ عبد الوهاب زاهد الحق، للكوريين بلغتهم عشرات الكُتب حتى أصبح التعرف على الإسلام ظاهرةً لافتةً، والإقبال على التحول إلى الإسلام يحدث بشكلٍ يوميٍ، والأعداد في ازدياد.

للشيخ أكثر من خمسةٍ وخمسين كتاباً إسلامياً بعدة لغاتٍ؛ جميعها تُبسّط الإسلام وتوصل رسالته وتوضح معانيه للناس في دولةٍ ينهشها الإلحاد، وينتشر فيها الانتحار والكُفر، ويأبى الله إلا أن يسطع فيها نور الإسلام.

عرض أحد رجال الأعمال المصريين على الشيخ/ عبد الوهاب أن يكون شريكه في مشاريعه في كوريا بنسبة 50% دون مقدمٍ مع عربونٍ بمليون دولار، قال له الشيخ/ عبد الوهاب: "لقد تركتُ بلاد العرب وأنا عميد كلية دراساتٍ وأنا كذا وأنا كذا وأنا كذا، ليس من أجل المال، الحمد لله رب العالمين، لستُ بحاجةٍ إلى مالٍ، أنا هنا لأدعو إلى الإسلام، أنا هُنا لأُنقذ شخصاً كورياً من النار"، فرح رجل الأعمال المصري برفض الشيخ/ عبد الوهاب وسأله: "ماذا تريد؟"، قال له: "أريد مسجدين لمدينتين في كوريا"، أرسل له الرجل تكلفة مسجدٍ وهو مسجد أبو بكر الصديق؛ أحد أكبر وأهم مساجد كوريا، ونجح الشيخ/ عبد الوهاب في بناء المسجد الثاني في مدينةٍ ثانيةٍ، وسُمي مسجد عمر بن الخطاب، ومن عددٍ لا يُذكر من المساجد، انطلقت رسالة الإسلام، ليصل عدد المساجد الآن إلى أكثر من سبعين مسجداً، عدا عن المُصليات غير الرسمية، وعشرات المراكز الإسلامية، ومئات الآلاف من المسلمين، عشرات الآلاف منهم يعيشون في العاصمة سيول.

نجح الشيخ فيما جاء من أجله، خاطب عقول الكوريين وكسب قلوبهم؛ يقول الشيخ عبد الوهاب: "أنا افتخر بالمسلمين الجُدد في كوريا، سيكونون أمامي يوم القيامة، كتبتُ لهم ثلاثةً وعشرين كتاباً باللغة الكورية؛ في العقيدة الإسلامية والإيمان، والصراع بين الخير والشر، وفلسفة الشرك منذ عصر نوحٍ عليه السلام، كتبتُ لهم كتاباً عن أنبياء الله آدم ونوح وإبراهيم -عليهم السلام-، وكتبتُ لهم عن حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وكتبتُ عن حياته في مكة، وحياته في المدينة، بأسلوبٍ مُبسطٍ لتُقرأ دون مُعاناةٍ ولا مللٍ، تركتُ لهم الإسلام مُترجماً".

الدكتور/ عبد الوهاب زاهد الحق الحلبي، من مواليد مدينة حلب في سورية عام 1941م، في الأربعينات من عُمره كان حاصلاً على بكالوريوس في علوم التفسير والحديث من جامعة الأزهر الشريف في مصر، وماجستير في الحديث الشريف ودكتوراه في الفقه المقارن.

تفرغ لنشر الإسلام في كوريا منذ عام 1984م وحتى اليوم، وهو مفتي المسلمين في كوريا، وإمام وخطيب مركز ومسجد أبي بكر الصديق، له زوجةٌ واحدةٌ، وسبعة أبناءٍ، وخمسة وثلاثون حفيداً. يقول إن والده -رحمه الله- رأى له في المنام مائةً وعشرين حفيداً. اللهم بارك لنا في عُمره، وفي عِلمه، ووفقه إلى ما فيه الخير للإسلام والمسلمين.

 

أحبتي في الله.. هذا الرجل وأمثاله -وهم قليلون- هم رجال الحق و(الدعوة إلى الله) سُبحانه وتعالى.

والدَّعوة لغةً مصدر دَعا يدعو دَعوَةً، وجمعها دَعْوات ودَعَوات. والدعوة تأتي بمعنى الدُعاء، والدعوة الإسلاميّة هي الدعوة إلى الإسلام، وشهادة أنّ لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله.

أما الدَّعوة اصطلاحاً فتأتي بمعنى نشر رسالة الإسلام وتبليغها للناس، وهي -كما يقول أهل العلم- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به رُسله عليهم السلام؛ بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمّن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكُتبه، ورُسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشرّه، ودعوة العبد إلى عبادة الله -تعالى- كأنّه يراه. وقيل في تعريف الدعوة إنها نشر الإسلام بين الناس وتعليمهم إياه؛ بحيث يطبقونه في واقع حياتهم.

 

يقول العلماء إن الآية الكريمة: ﴿...رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ تُبين أن مُهمة الرُسل هي (الدعوة إلى الله) تعالى تبشيراً بالخير وتحذيراً من الشر. وقد خاطب سُبحانه نبينا عليه الصلاة والسلام بالقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾؛ موضحاً أن (الدعوة إلى الله) هي الهدف من رسالته، ثم أمره أن يُبين لأمته أن هذه هي مهمته ومهمة أتباعه؛ فقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾؛ فالرسل وأتباعهم مأمورون بدعوة الناس إلى توحيد الله وطاعته، وإنذارهم عن الشرك به ومعصيته، وهذا مقامٌ شريفٌ، ومرتبةٌ عاليةٌ لمن وفقه الله تعالى للقيام بذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. ولما عرف الصالحون شرف هذه المُهمة حرصوا عليها، ولم يسيروا إليها مشياً بل سعوا لها سعياً، قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.

 

وعن (الدعوة إلى الله) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا]. هذا هو الفضل العظيم؛ فإن الداعي إلى الله يجري له ثواب من اهتدى بدعوته، وهو نائمٌ في فراشه، أو مشتغلٌ في مصلحته؛ بل إن ذلك يجري له بعد موته، لا ينتهي ذلك إلى يوم القيامة.

 

والأمة كلها -كما يُخبرنا العلماء- يقع عليها عبء (الدعوة إلى الله)؛ فلا ينبغي أن يتخلف أحدٌ من المُسلمين عن هذا الميدان، ولا ينبغي أن يزدري المرء نفسه ويظن أنه أقل من أن يدعو إلى الله. إن (الدعوة إلى الله) واجبةٌ على كل مؤمن؛ يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، وهي ليست قاصرةً على من يعتلي المنابر ويُلقي الدروس والمُحاضرات، وإنما هي واجبٌ على كل مُسلمٍ يُحب الخير للآخرين كما يُحبه لنفسه، ويتطلع إلى أن يكون من المُفلحين؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

 

أحبتي.. فلنتعاهد جميعاً أمام الله سُبحانه تعالى بألا يمر يومٌ إلا وقد تقربنا إلى الله عزَّ وجلَّ بعملٍ من أعمال (الدعوة إلى الله)؛ سواءً بهداية الآخرين من غير المُسلمين، أو بتصحيح مفاهيم خاطئة عند بعض المُسلمين، أو -على الأقل- بالعزم الأكيد والنية الصادقة ومُكابدة هوى النفس حتى يُصبح كلٌ منا نموذجاً وقدوةً يتمثلها الآخرون؛ بالالتزام بالعبادات، والصدق والإخلاص في المُعاملات، وحُسن الخُلُق. على كلٍ واحدٍ منا أن ينوي (الدعوة إلى الله) حسب طاقته وقدرته؛ ويقول كما قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.

اللهم أعنّا، ويسّر لنا أمورنا وأحوالنا، واهدنا للنهوض بواجب الدعوة إليك، وإلى شريعتك السمحاء، شريعة الإسلام.

https://bit.ly/3D9whyL

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

اللطيف الخبير

 

خاطرة الجمعة /359


الجمعة 2 سبتمبر 2022م

(اللطيف الخبير)

 

قصةٌ غريبةٌ تدل على عظمة الخالق سُبحانه؛ ففي أحراش غابات «أمريكا الجنوبية» يتجول الصيادون في مواسم الصيد حيث تمتلئ حياتهم بالمغامرات المُثيرة. وقد روى أحدهم القصة التالية:

بعد جولةٍ نهاريةٍ مُرهقةٍ بين الأحراش جلستُ على جذع شجرةٍ لأستريح، وفيما أنا جالسٌ شد انتباهي صرخات عُصفورٍ صغيرٍ كان يُرفرف على عُشه في جزعٍ شديدٍ، وقد بدا واضحاً أنه يواجه موقفاً عصيباً، اقتربتُ من مصدر الصوت في أعلى الشجرة المجاورة؛ فتبين لي سر انزعاج العُصفور، فقد كانت هناك حيةٌ كبيرةٌ تزحف صاعدةً فوق الشجرة وعيناها شاخصتان إلى العُش حيث يرقد أفراخ العصافير، وبينما كانت العُصفورة الأم تصرخ جزعاً وخوفاً على فراخها، رأيتُ العُصفور الأب يطير بعيداً ويجول في الهواء وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، وبعد لحظاتٍ عاد وهو يحمل في منقاره غُصناً صغيراً مُغطىً بالورق، ثم اقترب من العُش حيث كانت العُصفورة الأُم تحتضن صغارها؛ فوضع الغُصن الصغير فوقهم، وغطاهم بأوراقه العريضة ثم وقف فوق غُصنٍ قريبٍ يُراقب الموقف وينتظر وصول العدو!

قلتُ لنفسي: "كم هو ساذجٌ هذا العُصفور؛ أيحسب أن الحية الماكرة سوف تُخدع بهذه الحيلة البسيطة؟!". مرت لحظاتٌ من التوتر قبل أن تصل الحية إلى الموقع، والتفتْ حول غُصنٍ قريبٍ، وعندما اقتربتْ من العُش رفعت رأسها الكبير استعداداً لاقتحامه. كان واضحاً أن كل شيءٍ قد انتهى تماماً، غير أن ما حدث بعد ذلك كان مُثيراً جداً؛ ففي اللحظة التي همّت فيها الحية باقتحام العُش توقفتْ واستدارتْ، ثم تحولت فجأةً، وأسرعتْ مُبتعدةً عن العُش وكأنها أصيبت برصاص بُندقيةٍ وهبطت عائدةً إلى حيث أتت، وقد بدا اضطرابها واضحاً! لم أفهم ما حدث، لكني رأيتُ العُصفور الأب يعود إلى العُش لترتفع صوصوات العائلة السعيدة فرحاً بالنجاة، ويُزيح الغُصن من فوق الأفراخ فيُسقطه إلى الأرض، فالتقطتُ الغُصن واحتفظتُ به حتى التقيتُ بأحد خبراء الحياة البيولوجية في الأحراش اللاتينية، فرويتُ له ما حدث وسألته عن هذا الغُصن؛ فقال لي إن هذه الأوراق تحتوي على مادةٍ شديدة السُمية، قاتلةٍ للحيات، حتى أنها تخاف رؤيتها وترتعب من رائحتها وتهرب خوفاً من مُلامستها! تعجبتُ من تلك القوانين المُنضبطة التي تحكم الحياة بدقائقها المُثيرة؛ فتُساند الضعيف، وتتصدى للقوي، وتمنح العُصفور الصغير عِلماً ومعرفةً وحكمةً وشجاعةً وحُباً وأُبوةً كهذه!

لقد وضع الله تخطيطاً مُحكماً لجميع مُفردات الحياة؛ صغيرها وكبيرها، فالذي علّم العُصفور أن هذه الأوراق فيها سمٌ قاتلٌ تخافه الحيات لن يُضيّعك وقت الشدائد، وسيُلهمك التصرف السليم لتخرج منها معافىً؛ فلا تقلق على حياتك ولا على رزقك، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، رُفعتْ الأقلام وجفت الصحف. ما أعظمك ربنا، وأنت سُبحانك (اللطيف الخبير).

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأخرى، مُختلفةٍ معها في التفاصيل، مُشتركةٍ معها في العبرة. تقول القصة:

أبحرت سفينةٌ على متنها بعض الرجال، وفي عرض البحر هبت عاصفةٌ شديدةٌ، أخذت السفينة تتمايل، وتمايل معها مَن كان فيها حتى غرقت ووقع مَن فيها بالماء. تعلق رجلٌ من ركابها بعرقٍ من خشب السفينة، وظل يُقاوم الموج والغرق، وبفضل الله ألقته الأمواج على جزيرة. خرج الرجل مُتعباً على شاطئ الجزيرة، واستلقى على الرمال. مرَّ الوقت واستراح من تعبه وأخذ يتفقد الجزيرة؛ فوجدها خاليةً من السُكان، بها بعض الأشجار المُثمرة، وبعض الطُيور والأرانب، وبها عين ماءٍ جاريةٌ. حمد الله على فضله ونعمته عليه، واستقر على الجزيرة، يأكل من ثمارها، ويصطاد من الأرانب ويطهي، ويشرب من ماء العين. بني لنفسه كوخاً من خشب الأشجار لينام فيه، ويحتمي من حرارة الشمس بظله، ويُعد طعامه به، وفي أحد الأيام تمكن من اصطياد أرنبٍ سمينٍ، فذبحه ووضعه على النار داخل الكوخ لينضج، وخرج يتفقد الجزيرة لعله يجد مخرجاً أو يعثر على مَن يتواصل معه إلى أن يطيب الطعام، مرّ الوقت ولم يشعر ورجع إلى كوخه لتناول طعامه. وكانت المفاجأة؛ امتد لهب النار للكوخ فالتهمه، واتسع اللهب ليتناول كل ما في الكوخ، رأى الرجل الأمر فاشتد حزنه وأخذ في البكاء، ورفع يديه إلى السماء يشكو أمره لله، وكأنه يعترض على ما أصابه من بلاءٍ، ثم انتبه واستغفر الله وأوي إلى شجرةٍ ونام تحتها حتى الصباح. أشرقت الشمس وقام الرجل من نومه، واتجه قُرب الشاطئ ينعي حاله لماء البحر. وحدثت المفاجأة؛ رأى سفينةً تقترب من الشاطئ؛ فدعا الله أن يراه من فيها، وبالفعل رأوه وأنزلوا قارباً صغيراً لإنقاذه. ركب القارب وصعد إلى سطح السفينة وهو يبكي من شدة الفرح. استقبله رجال السفينة وهم يقولون له: "حمداً لله على السلامة"؛ فبكى الرجل وسألهم: "من دلكم على مكاني؟!"، فقالوا له: "بالأمس شاهدنا دخاناً يتصاعد من الجزيرة؛ فعلمنا أن هناك من يطلب العون ويستجير، فأبحرنا نحوك"، رفع الرجل يديه إلى السماء شاكراً الله، ثم قال: “رُبَّ ضارةٍ نافعة".

 

إنه تدبير المولى سُبحانه لجميع مخلوقاته، وصف نفسه بصفتي (اللطيف الخبير)؛ يقول تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

ووصف نفسه سبحانه بذات الصفتين ولكن بحذف أداة التعريف؛ يقول تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾، ويقول أيضاً: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾، ويقول كذلك: ﴿يَـبُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل فَتَكُن فِي صَخْرَة أَوْ فِى السَّمَـوَتِ أَو فِى الاَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.

 

قال العُلماء إن اسم "اللطيف" من اللُطف؛ فهو سُبحانه يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما لطف منها، ثم يسلك في إيصال ما يُصلحها سبيل الرفق دون العنف. وهو العالِم بخبايا الأمور، والمُدبر لها برفقٍ وحكمةٍ ويُسر؛ فهو الذي يلطف بعبده، فيسوق إليه البِر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسبابٍ لا تكون من العبد على بالٍ، حتى إنه يُذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.

 

وعن اسم الله "اللطيف" قال الشاعر:

وهوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ

واللطفُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ

إدراكُ أسرارِ الأمورِ بِخِبْرَةٍ

واللطفُ عندَ مَوَاقِعِ الإحسانِ

فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ

والعبدُ في الغَفَلاتِ عنْ ذا الشَّانِ

وقال آخر:

وكم لله مِن لُطفٍ خَفيٍّ

يَدِقُّ خَفاهُ عن فَهمِ الذَكيِّ

وكَم يُسرٍ أتى مِن بَعدِ عُسْرٍ

ففرَّج كُربةَ القلبِ الشجيِّ

وكَم أمرٍ تُساءُ به صَباحًا

وتأتيك المَسرَّةُ بالعشيِّ

إذا ضاقت بكَ الأحْوالُ يومًا

فثِقْ بالواحدِ الفَردِ العَليِّ

 

أما اسم "الخبير" فهو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في المُلك والملكوت ذرةٌ، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ، إلا وعنده خبرها. العالِم بخلقه وسرهم وجهرهم وجميع أعمالهم، المُطّلع على ما في قلوبهم ونفوسهم من الخير والشر. العليم بما في الكون كله، وبما في أرجاء الأرض وأقطارها. يعلم كل شيءٍ ولا يغيب عن عِلمه صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، وهو العالِم بكُنه كل شيءٍ، ومُطّلعٌ على كل حقيقةٍ، مهما دقت، أو خفيت، العليم بدقائق الأمور لا تخفى عليه خافيةٌ، العليم بظاهر الأشياء وبواطنها، بشكلها وحقيقتها، وبجلائلها، وبدقائقها، بما تراه العيون وبما يخفى عنها، العليم بكل الأمور وبواعثها وأهدافها البعيدة، وبما يُخامر فاعلها من مشاعر. هو العالِم بما كان، وما هو كائنٌ، وما سيكون، وما لو كان كيف يكون، وليس ذلك إلا لله عزَّ وجلَّ، يعلم مستقر كل شيءٍ ومستودعه؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.

 

وعن اسم الله "الخبير" قال الشاعر:

عْمَ الخَبِيـرُ بِحَالِ كُـلِّ عِبَادِهِ

يَهَبُ العُلُومَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُخْبِرُ

 

وقد ورد الاسمان -من أسماء الله الحُسنى- متتابعين (اللطيف الخبير) في الحديث الذي روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- والذي حكت فيه عن ليلةٍ كان النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وجاءه جبريل عليه السلام يُبلغه أن ربه يأمره أن يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، وخرج الرسول لأمر ربه وقد ظن أن السيدة عائشة نائمةً فلم يُرد أن يوقظها، ولكنها انطلقت على إثره حتَّى جَاءَ البَقِيعَ. قالت: فَقَامَ، فأطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فأسْرَعَ فأسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فليسَ إلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقالَ: [ما لَكِ يا عَائِشُ؟ حَشْيَا رَابِيَةً؟] قالَتْ: قُلتُ: لا شَيءَ، قالَ: [لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ]، فأخبرته ما كان منها. {"فأحْضَرَ فأحْضَرْتُ" الإحضارُ: العدْوُ. "عائشُ" بحذْفِ التَّاءِ تلطُّفًا وتَودُّدًا. "حَشْيَا" هو التَّهيُّجُ الَّذي يَعرِضُ للمُسرعِ في مَشيِه والمُحتَدِّ في كَلامِه مِن ارتفاعِ النَّفَسِ وتَواترِه، "رابِيَةً" أي: مُرتفِعةَ البطْنِ! ومعنى السؤال: فلأيِّ سَببٍ اضطَرَبَ جِسمُكِ وانقَطَع نفَسُكِ يا عائشة؟}.

 

قال الشاعر:

لَيسَ يَدري إِلّا اللَطيفُ الخَبيرُ

أَيُّ شَيءٍ تُطوى عَلَيهِ الصُدورُ

 

أحبتي.. "اللَّطيفُ" إذاً هو الرَّفيقُ بعِبادِه، و"الخبيرُ" هو العليمُ بأحوالِهِم ظاهرِها وباطنِها. يقول العارفون إنه إذا أيقن العبد بهذين الاسمين من أسماء الله الحُسنى: (اللطيف الخبير) هان عليه ما يمر به من شدائد، وأيقن أن الله سُبحانه وتعالى لا يقضي لعباده الصالحين إلا ما فيه العاقبة الحميدة لهم. والمؤمن يعلم أنه لا تخفى على الله منه خافيةٌ، ما يجعله يستقيم على طاعته، ويعتمد على اختيار ربه في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من أمره، ويُسلّم له في جميع شؤونه ثقةً في كمال تدبيره؛ فيوقن بالفرج حال الشدة، واليُسر حال العُسر، ولا يقطع أملاً في رحمة الله.

اللهم اجعلنا ممن تشملهم بلُطفك وخبرتك، فتُدّبر لنا ما يُصلحنا، ولا تتركنا لأنفسنا طرفة عينٍ فنحن لا نُحسن التدبير.

https://bit.ly/3cBRtms

الجمعة، 26 أغسطس 2022

الجوهرة

 

خاطرة الجمعة /358


الجمعة 26 أغسطس 2022م

(الجوهرة)

 

موقفٌ عجيبٌ رواه د. مصطفى محمود في لقاءٍ تليفزيونيٍ معه في أواخر الثمانينات؛ يقول: في العام 1969م شعرتُ بألمٍ رهيبٍ يشق ظهري، قمتُ بتشخيص سببه على الفور؛ كانت أعراض وجع الكُلى الذي أعرفه جيداً بحُكم دراستي للطب آنذاك. أخبرني طبيب المسالك بعد خُضوعي للأشعة السينية "X- ray" أنها حصوةٌ عملاقةٌ، تُهيمن على حجم الكلية تقريباً، ولن تُجدي معها أية موسعات! تفتيت الحصوات بالموجات التصادمية كان خيالاً علمياً وقتها، والليزر والمناظير الطبية كانا في مجاهل الغيب، لهذا لم يكن بُدٌ من تدخلٍ جراحيٍ عاجلٍ، لإنقاذ الموقف، وإلا خسرتُ كليتي كاملةً؛ وهو ما يعني فتحُ جانبي كاملاً، ثم شق الكلية نفسها لاستخراج الحصوة، باعتباره الحل الوحيد المُتاح!

لم يكن جسمي يتحمل خطورة هذه العملية، شعرتُ بفزعٍ رهيبٍ، وتمثلتُ النهاية أمام عينيّ. قمتُ فتوضأتُ وصليتُ وبكيتُ، وبدأتُ أدعو الله: "يا ربِ ساعدني.. يا ربِ انجدني.." واستمريتُ في الدُعاء، دُعاءِ مُذعنٍ خاشعٍ مُتيقنٍ، لدرجة أني ذُبتُ تماماً بين يدي الله؛ كل ذرةٍ في كياني كانت تستجدي وتتوسل وتستنجد بربها، في حالةٍ كاملةٍ مُدهشةٍ من اليقين والخشوع لصاحب الملكوت.

نصف ساعةٍ فقط، وبعدها كنتُ أُهرع إلى المرحاض! انساب مني لترٌ كاملٌ من سائلٍ سميكٍ داكنٍ يُشبه "الطحينة"! نفس اللون والسُمك. يا الله! الحصوة تفتت لسببٍ مجهولٍ، وتحولت لمسحوق! لترٌ كاملٌ أو ما يزيد، وهو ما يتناسب مع ضخامة الحصوة!

لقد استجاب الله لدعائي بصورةٍ أذهلتني. شربتُ بعض الماء، وانتهى الأمر، وكأن شيئاً لم يحدث!

وقتها تذكرتُ مقولةً لطبيبةٍ فرنسيةٍ أسلمت، قابلتها أثناء تواجدي في إحدى المرات بـ «المغرب»: "إنّ لدينا نحن المسلمين جوهرةً لا يعرف البعض قيمتها". ولما سألتها: ما هي؟ قالت: الدُعاء!

 

أحبتي في الله.. صحيحٌ قولها الدُعاء هو (الجوهرة)، لكنها جوهرةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس.

وللتذكرة بأهمية الدُعاء كتب أحد الأفاضل على موقع "تويتر" للتدوين المُصغر تغريدةً قال فيها: "لكلٍ منا مع الدُعاء أحوالٌ عجيبةٌ ومواقف غريبةٌ؛ فلو ذكر كلٌ منكم قصةً حصلت له مع الدُعاء، أو حصلت لغيره وتأكد منها بنفسه، فسأقوم بإعادة تغريدها؛ بهدف بيان فضل الدُعاء ومنزلته، وأنه بإذن الله حلٌ لكثيرٍ من مشاكلنا". انهالت على الموقع قصصٌ ومواقف حقيقيةٌ عن استجابة الدُعاء، منها:

-امرأةٌ أعرفها كانت مصابةً بمرض الغُدة الحميدة، وعلاجها بالكيماوي أو بعمليةٍ جراحيةٍ، وبعد الدُعاء بإخلاصٍ وخشوعٍ ذهبت للطبيب للمُراجعة فقال لها: "أنت شُفيتِ تماماً؛ ولا حاجة لكيماوي أو عملية"، وأقفل ملفها في المستشفى تماماً لانتهاء الموضوع.

-رسالتي للماجستير كنتُ أعدّها، وأحفظها على فلاشةٍ، ولما انتهيتُ منها وحان وقت الطباعة، إذا بالفلاشة يُصيبها عطبٌ محى جميع محتوياتها. كدتُ أُجن؛ فذهبتُ بها لمهندسٍ فقال إن استعادة ما بها من ملفاتٍ صار مُستحيلاً، فتذكرتُ: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ فدعوتُ الله بخشوعٍ وتذللٍ فإذا بالفلاشة تعود للعمل بشكلٍ عاديٍ!

-تذكرتُ شيئاً ثميناً وعزيزاً عليّ، بحثتُ عنه كثيراً فلم أجده، وكان وقت صلاةٍ فصليتُ ودعوتُ الله أن يحفظه لي واستودعته إياه، وبعد أيامٍ وجدتُ ذلك الشيء في نفس المكان الذي كنتُ بحثتُ فيه ولم أجده! فسجدتُ لله شكراً.

-كانت امرأتي عاقراً، وكنتُ كلما صليتُ قيام الليل والتهجد أدعو ربي أن يرزقنا بولدٍ صالحٍ، وأظل أدعو حتى أسمع صوت المؤذن لصلاة الفجر؛ فأذهب لصلاة الفجر بالمسجد. بعد ثلاثة أشهر استجاب الله دُعائي؛ ورزقنا بطفلٍ عمره الآن سبع سنواتٍ.

-لم أكن مُنتظماً في صلاة الفجر، وكنتُ أضبط المنبه ولا أستطيع الاستيقاظ، وكثيراً ما فاتتني صلاة الفجر، فكنتُ أُصلي الصبح عند استيقاظي من النوم بعد شروق الشمس. دعوتُ الله كثيراً؛ وكنتُ أقول: "يا الله أسألك أن توفقني إلى صلاة الفجر مع جماعة المسلمين في بيتٍ من بيوتك". دعوتُ بهذا الدعاء بإخلاصٍ لمدة ثلاثة أيام؛ فاستجاب الله لدعائي، وأعانني على المواظبة، ومُنذ ذلك الحين لم تفتني بفضل الله صلاة الفجر جماعةً وفي بيتٍ من بيوته، ولا ليومٍ واحد.

 

وغير ذلك، عشراتٌ من القصص والمواقف الحقيقة عن استجابة الدُعاء، الذي هو بحقٍ بمثابة (الجوهرة) لكل مُسلم، واختصر أحدهم ما حدث له في أربع كلماتٍ: تعثرتُ فسجدتُ فدعوتُ فأقامني.

 

ويزخر القرآن الكريم بالكثير من الألفاظ المُشتقة من الجذر "دعو"؛ حتى أن عددها قد وصل إلى 212 لفظاً في 182 آية، منها ما يُبين سرعة استجابة الله سُبحانه وتعالى لدعاء الصالحين من عباده؛ فقد وردت عبارة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أربع مراتٍ في القرآن الكريم، وكانت استجابةً لدعاء الأنبياء: نوح، أيوب، يونس، وزكريا، عليهم السلام. كما وردت عبارة ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ﴾ مُباشرةً بعد دعاء داوود، وكذلك بعد دعاء موسى، عليهما السلام.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ﴾.

كما وردت أحاديث عديدةٌ في السُنة الشريفة عن الدُعاء؛ منها:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [الدُّعاءُ هوَ العِبادَةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريمٌ، يستحيي مِن عبدِه إذا رفَع يدَيْهِ إليه أنْ يَرُدَّهما صِفرًا]. وقال أيضاً: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ]، قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: [يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ]. وقال صلوات الله وسلامه عليه: [أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ].

 

ولكثرة ما ورد في القرآن الكريم والسُنة المُشَرّفة من ذِكرٍ للدعاء؛ قال أهل العلم إنّ للدُعاء فضلاً كبيراً وفوائد؛ منها: أنه طاعةٌ لله -عزّ وجلّ- وامتثالٌ لأمره، وهو أكرم شيءٍ عليه، ومن الأمور المحببة إليه، وهو يرد القدر، وهو سببٌ لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم وتيسير الأمور، كما أنه سببٌ لتجنب غضب الله، ودليلٌ على صدق التوكل عليه. وقالوا إنّ الدُعاء المُطلق ليس له وقتٌ مُحددٌ، وإنما هناك أوقاتٌ يُستجاب فيها أكثر من غيرها؛ منها: الثُلث الأخير من الليل، بين الأذان وإقامة الصلاة، النوم على طهارة والاستيقاظ في الليل، عند إفطار الصائم، في ليلة القدر، وقت نزول المطر، آخر ساعةٍ من يوم الجُمعة، وأثناء السُجود حين يكون العبد أقرب ما يكون من ربه. وبينوا أنّ من أسباب استجابة الدعاء: الاستغفار والتوبة من الذنوب، الابتعاد عن المُحرمات، أداء الفروض من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ، الإكثار من النوافل والصدقات، العمل الصالح وبر الوالدين، الدُعاء بما هو خيرٌ، عدم الدُعاء بإثمٍ أو قطيعة رحم، حضور القلب والتضرع والخشية من الله واستشعار عظمته، الدُعاء بأسماء الله الحسنى وصفاته، الدُعاء للغير من المسلمين بخير الدنيا والآخرة، والإكثار من قول ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. وحددوا سُنن الدُعاء وآدابه في: عدم الاستعجال في الإجابة، افتتاح الدُعاء بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه الكريم والختم بذلك، تَحَيُّن أوقات الاستجابة، الدُعاء في الرخاء والشدة، عدم الدُعاء على النفس أو الأهل أو الولد أو المال، خفض الصوت ليكون بين المُخافتة والجهر، التضرع وإظهار الذُل والخضوع والابتهال والافتقار إلى الله والشكوى إليه، الإلحاح في الدُعاء، الاعتراف بالذنب وشُكر النعمة، عدم تكلف السجع، الدُعاء ثلاثاً، استقبال القبلة، والوضوء قبل البدء بالدُعاء، رفع اليدين أثناء الدُعاء.

 

والدُعاء ليس فقط (الجوهرة) التي مَنَّ الله بها على عباده، بل هو أيضاً السلاح الذي يُجابهون به جميع ظُروف الحياة؛ قال العُلماء إنه مع الدُعاء بإخلاصٍ، والإلحاح، واليقين باستجابة المولى عزَّ وجلَّ، وعدم اليأس، فإن الله سُبحانه وتعالى يستجيب بما يراه خيراً للعبد في الدُنيا والآخرة؛ فقد تكون الاستجابة فوريةً، وقد يؤخرها الله إلى وقتٍ آخر، وقد يدفع بها مُصيبةً عن صاحبها ويُعوضه بدلاً عنها، وقد يدّخرها للعبد إلى يوم القيامة وهذا أفضلها.

 

أحبتي.. أضعف الناس همةً وأعماهم بصيرةً من كان عاجزاً عن الدُعاء، رغم أنه أسهل وأيسر عبادةٍ يُمكن لكل فردٍ القيام بها. وإذا كان الدُعاء جوهرةً ثمينةً فلا تُهملوا (الجوهرة)، زيِّنوا بها أوقاتكم، وادعوا الله مباشرةً بدون واسطةٍ؛ فقد تكفل سُبحانه بالإجابة. واعلموا أن الله عزَّ وجلَّ ما كان ليُلهم العبد الدُعاء لولا أنه قد كتب له الإجابة. وإجابة الله دُعاءك لا تعني أنك من أولياء الله، لكنها تعني أن الله سُبحانه وتعالى رحمك مع تقصيرك، وتجاوز فتفضّل وتكرّم وأجاب؛ فاشكر نعمه، وتُب إليه، وامتنع عن الذنوب والمعاصي ما استطعتَ، وتقرّب إليه بما يُحب ويرضى مما افترضه عليك من فروضٍ، ومما تقدر عليه من نوافل.

اللهم إنّا ندعوك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، وأنت الكريم، وأنت الرؤوف الرحيم، وأنت الغفور الحليم، وأنت سُبحانك السميع العليم.

 

https://bit.ly/3pPc7lK

الجمعة، 19 أغسطس 2022

هل هي صُدفة؟

 

خاطرة الجمعة /357


الجمعة 19 أغسطس 2022م

(هل هي صُدفة؟)

 

يحكي داعيةٌ مشهورٌ رحمه الله عن إحدى ذكرياته؛ فيقول:

حدثني أحدهم، وكان دبلوماسياً سابقاً في «مصر»، أنه كُلف مرةً بمهمةٍ سياسيةٍ عاجلةٍ في «روسيا»، وخاف أن يمر ببلدٍ لا تؤكل ذبيحة أهله شرعاً، وكانت عنده دجاجتان فأمر بذبحهما، واتخذت له زوجته منهما سُفرةً -وهي زاد المسافر- حملها معه؛ فلما وصل إلى «روسيا» دعاه شيخٌ مُسلمٌ إلى الغداء عنده، فكرِه أن يأخذ الدجاجتين معه إلى دار الشيخ، فرأى في طريقه امرأةً فقيرةً، عرف من ملابسها أنها مُسلمةٌ، معها أولادها، ورأى الجوع بادياً عليها وعليهم، فدفع إليها الدجاجتين.

‏ثم لم تمضِ ساعةٌ حتى وصلته برقيةٌ أن: "ارجع؛ فقد صُرف النظر عن المهمة"! فكانت هذه الرحلة لأمرٍ واحدٍ: وهو أن الدجاجتين كانتا في داره، لكنهما ليستا له ولا لأهله، إنما لتلك المرأة وأولادها، فطبختهما زوجته، وحملهما بنفسه أربعة آلاف كيلو مترٍ ليوصلهما إليهم.

يقول الداعية: توالي الأحداث وترتيب المواقف وإيجاد الأسباب (هل هي صُدفة؟) لا يُمكن، بل الأمر كله من تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أن يأتي الشيخ من «مصر» إلى «روسيا» حاملاً دجاجتين، طبختهما زوجته في «مصر»، ليعطيهما إلى هذه المرأة الفقيرة وأولادها ويعود، ودون أن يتحقّق من هذه الرحلة أي غرضٍ آخر! وكأنّ الله سخّر زوجة الشيخ لتطبخ الدجاجتين في «مصر»، وسخّر الشيخ ليوصلهما مطبوختين إلى «روسيا» ويُعطيهما لهذه المرأة، ثم يقفل عائداً إلى «مصر» حاملاً معه عبرةً تستحق الوقوف عندها، وتستحق التأمل طويلاً؛ فالأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، يكتبها لخلقه ويُسّبب لها الأسباب، إنه تدبير الله، له حكمةٌ لا تُدركها العقول إلّا بالتسليم لعدله وقُدرته، والإيمان بأنه سبحانه هو اللطيف الخبير.

 

أحبتي في الله.. سبحان الله.. سبحان الذي جعل لكل شيءٍ سبباً، والذي سخّر عباده ليكون بعضهم لبعض سخرياً، والذي بيده مقادير كل شيءٍ، تلك الأحداث (هل هي صُدفة؟)، لا، وإنما هو تدبير الرؤوف الرحيم، العزيز العليم.

 

ذكرتني هذه القصة بقصةٍ حقيقيةٍ أغرب منها، من عجائب القدر وتدبير الله لعباده، قصةٍ تقشعرُّ لها القلوب قبل الأبدان، حصلت فعلاً مع أحد الدُعاة المعروفين في «مصر»؛ يقول فضيلته:

كان عندي سفرٌ من مطار «القاهرة»، وأنا من سُكان «الإسكندرية»، وكان موعد إقلاع الطائرة بعد الفجر، فخفتُ أن تفوتني الطائرة، فاتصلتُ بصديقٍ لي هو إمام مسجدٍ قريبٍ من المطار، قلتُ له: "سوف أنام عندك في المسجد الليلة إلى الفجر، فاترك الباب مفتوحاً"، قال لي: "خير يا شيخ؟!"، قلتُ له: "خير، لا تقلق، عندي سفرٌ بعد الفجر مباشرةً وأريد أن أنام عندكم احتياطاً ليس أكثر!"، قال: "تُشرفنا يا شيخ، أهلاً وسهلاً بك". وصلتُ الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، فوجدتُ باب المسجد مفتوحاً والأنوار مُضاءةً، ورأيتُ رجلاً يُصلي في المحراب وحده، ويُكلم الله بصوتٍ مسموعٍ، وهو ينادي ويقول: "يا رب لم أعد أتحمل، يا رب لم أعد أستطيع، يا رب تعبت، يا رب ليس لي سواك، يا رب أين أذهب؟ يا رب ماذا أفعل؟"، يُعيد ويُكرر هذه الكلمات وهو يبكي! مُناجاةٌ عجيبةٌ وبُكاءٌ وإلحاحٌ تقشعرُّ له الأبدان! فقلتُ في نفسي: "ما هذا ببكاء صاحب فاحشةٍ ولا كبيرةٍ، هذا رجلٌ ألجأته الضرورة والحاجة". انتظرتُ قليلاً ثم اقتربتُ منه، فلما لمحني سكت، قلتُ له: "يا حاج، ما بك؟ لقد قطّعتَ قلبي!"، وبعد إلحاحٍ طويلٍ مني قال لي: "والله يا شيخ لا أعرف ماذا أقول؟! زوجتي ستُجري عمليةً جراحيةً اليوم الساعة التاسعة صباحاً وتكلفة العملية 15400 جنيه، ولا أملك منها جُنيهاً واحداً"، قلتُ له: "والله يا حاج، ما عندي ما أقدر أن أُساعدك به، لكن سأقول لك بِشارةً وهي إن ربنا أرحم بنا من أُمهاتنا، وأنه ما وثق في الله أحدٌ وخذله الله أبداً"، قال لي: "ونِعم بالله"، ثم أكمل صلاته ودعاءه بصوتٍ خافتٍ. أما أنا فقد صليتُ الوِتر ونمتُ حتى أيقظني مُقيم الشعائر الذي كان يستعد لرفع الأذان لصلاة الفجر، ثم أذّن للصلاة؛ فجاء صديقي الإمام وقال لي: "بالله عليك، صلِّ بنا الفجر"، قلتُ له: "أشعر ببعض التعب"، قال: "بالله عليك، ولو بقِصار السور"، صليتُ إماماً بالفعل، وبعد الصلاة جاء أحد الإخوة، وكان يُصلي في الصف الثالث، يلبس بدلةً ومعطفاً طويلاً، وتبدو عليه ملامح الثراء وأنه من عِلية القوم، سلّم عليّ بحرارةٍ وقال: "كيف حالك يا مولانا؟ أنا أُتابع برنامجك ودروسك في التلفاز، وسبحان الله؛ اشتريتُ شقةً أمام هذا المسجد من فترةٍ قصيرةٍ، فكان من نصيبي أن أراك وأُسلم عليك"، قلتُ له: "أهلاً وسهلاً بك، وبارك الله لك"، قال: "يا مولانا، أنا ربنا أكرمني كرماً لا حدود له، كان عندي مصنع للبلاستيك، والحمد لله ربنا فتح عليّ وصار لدي مصنعٌ آخر، وأصبح معي زكاة مالٍ مبلغ 15400 جنيه و...."، قاطعته -قبل أن يُكمل كلامه- ببُكائي واقشّعر جسمي كله! والله الذي لا إله إلا هو، نفس الرقم بالجنيه! تعجّب الناس في المسجد من بُكائي ولم يعرفوا ما الذي يحدث، خاصةً أني بدأتُ أنظر في وجوههم وأنا أبحث عن الرجل الذي قابلته أول الليل! استغرب الرجل التاجر وسألني: "ما بك يا شيخ؟"، قلتُ له: "اصبر قليلاً"، ثم وجدتُ الرجل فعلاً، فأشرتُ إليه أن يأتي إلينا؛ فجاء وعيناه يبدو عليهما أثر بُكاء الليل! فأخذته هو والتاجر بعيداً عن الناس وقلتُ له: "يا حاج أنتَ كنتَ تبكي وتدعو طوال الليل، ما السبب؟"، قال: "يا مولانا قلتُ لك إن زوجتي ستُجري عمليةً جراحيةً صباح اليوم ولا أملك المبلغ"، سألته: "وكم المبلغ المطلوب لإجراء العملية؟"، قال: "15400 جنيه"، فصرخ التاجر وهو يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر"، وأخذ الرجل في حضنه وبكى بُكاءً شديداً، وقال لي وهو يبكي: "والله يا شيخ، زوجتي لها أسبوعٌ وهي تقول لي: أخرج هذا المال وادفع حق ربنا، كل يومٍ صباحاً ومساءً تقول لي هذه الكلمات، وأنا أقول لها: يا أُم فلان، أنا لا أُريد أن أُخرجه مئةً مئةً، أنا أُريد أن أُعطيه كله لشخصٍ واحدٍ مُضطرٍ ومُحتاجٍ له لفك كُربةٍ؛ فأفرِّج به كربته هذه، فيفرِّج الله عني كربةً من كُرب يوم القيامة". استأذن التاجر منا لدقائق ليذهب إلى بيته لإحضار المال، ثم عاد ومعه المبلغ كله وأعطاه للرجل الذي ظل طوال الوقت مُندهشاً غير مُصدقٍ لما حصل، وعندما أخذ المبلغ، تركني وترك التاجر ووضع المال في حُضنه، وسجد وقال: "أنا أُحبك يا رب، أنا أحبك يا رب"، وبكى بُكاءً يُفتّت الصخر.

يقول الشيخ: "قلتُ في نفسي سبحان الله، اجتمع صدق اللجوء في الدعاء، مع إخلاص الطلب في الصدقة، فكان ما كان".

هذه المُفارقة العجيبة (هل هي صُدفة؟) لا، بل هي من تدابير الله لخلقه؛ فلم يكن الشيخ إلا سبباً ساقه الله لهذا وذاك.

 

وعن تدبير الله سبحانه أمر مخلوقاته؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ويقول عزَّ من قائل: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾.

فهل مع كل هذه القُدرة يُمكن أن نقول على أمرٍ ما أنه حدث صُدفةً؟ يقول أهل العلم إنّ الواجب على المؤمن اعتقاد أن كل ما يحدث في هذا الكون من شيءٍ هو بإرادةٍ وتقديرٍ من الله جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وأنّ الله قدّر هذا قبل خلق السماوات والأرض؛ كما ثبت ذلك في الحديث الشريف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]. وعلى هذا؛ إذا كان المُراد بكلمة "صُدفة" حصول الشيء من غير علم الإنسان بذلك مُسبقاً؛ فلا حرج أن نُسمي ذلك صُدفةً؛ لأنه ليس فيه نفيٌ لعلم الله وتقديره، ولا بأس من القول "قابلتُ فلاناً صُدفةً"، لأن مُراد المُتكلم بذلك أنه قابله بدون اتفاقٍ سابقٍ، وبدون قصدٍ منه، وليس المُراد أنه قابله بدون تقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ.

وقد وردت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلماتٌ مثل: "فَصَادَفْتُهُ"، "نُصَادِفْهُ"، و"صَادَفْنَا".

 

أحبتي.. كل التوازنات التي نُشاهدها في الكون على اتساعه، وما يدور حولنا في جميع أنحاء الأرض، وما نقابله من مواقف وأحداثٍ وتوافقاتٍ، يبدو لنا بعضها غريباً ولا يكاد يُصدَق (هل هي صُدفة؟)، بالتأكيد لا، إنها كلها من تدابير المولى عزَّ وجلَّ، مكتوبةٌ في كتابٍ منذ الأزل؛ يقول تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فلنتقي الله، ونتوكل عليه حق التوكل، ونُحسن الظن به، ونثق في حكمته ورحمته ورأفته في تدبير أمورنا وشئوننا، ونتقرب إليه بما يُحب من عباداتٍ ونوافل وأعمال خيرٍ، مؤمنين بأنه هو رب العالمين، القيوم القائم على شئون عباده المُتكفل بهم والراعي لهم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾، وما أكرمه من ربٍ ينام عبيده أما هو سبحانه ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فلا يغيب لحظةً عن تدبير أمور خلقه، ولا يستريح من تعبٍ، كل المخلوقات تخضع لأمره، ولا يُمكن لمخلوقٍ أن يستغنى عنه.

اللهم الطُف بنا وارحمنا، واكتُب لنا الخير كله. اللهم دبِّر لنا أمورنا، ولا تكلنا لأنفسنا؛ فنحن لا نُحسن التدبير.

https://bit.ly/3wfGc1G

الجمعة، 12 أغسطس 2022

الميثاق الغليظ

 

خاطرة الجمعة /356


الجمعة 12 أغسطس 2022م

(الميثاق الغليظ)

 

كتب يقول: تشاجرتُ كالعادة مع زوجتي لأحد الأسباب التافهة، وتطور الخلاف إلى أن قلتُ لها: "وجودك وعدمه واحدٌ في حياتي؛ وكل ما تفعلينه تستطيع أي خادمةٍ أن تفعل أفضل منه"، فما كان منها إلا أن نظرت إليّ بعينٍ دامعةٍ، وتركتني، وذهبت إلى الغُرفة الأُخرى، وتركتُ أنا الأمر وراء ظهري بدون أي اهتمامٍ، كأن شيئاً لم يكن وخلدتُ إلى نومٍ عميقٍ. مرّ هذا الموقف على ذهني، وأنا أُشيّع جثمان زوجتي إلى قبرها، والحضور يُقدمون لي العزاء على مُصابي فيها. الشيء الذي راودني هو أني لم أشعر بفرقٍ كبيرٍ، ربما شعرتُ ببعض الحُزن، ولكني كنتُ أُبرر ذلك بأن العشرة لها وقعٌ على النفس، و"يمر يومان وسأنسى كل ذلك".

عدتُ إلى البيت بعد انتهاء مراسم العزاء، ولكن ما إن دخلتُ البيت حتى شعرتُ بوحشةٍ شديدةٍ تعتصر قلبي، وبغُصةٍ في حلقي لا تُفارقه. أحسستُ بفراغٍ في المنزل لم أعتده، وكأن جدران البيت غادرت معها. استلقيتُ على السرير مُتحاشياً النظر إلى موضع نومها. بعد ثلاثة أيام انتهت مجالس التعزية، استيقظتُ في الصباح متأخراً عن ميعاد العمل؛ فنظرتُ إلى موضع نومها لأُوبخها على عدم إيقاظي باكراً كما اعتدتُ منها، ولكني تذكرتُ أنها قد تركتني إلى الأبد، ولا سبيل إلا أن أعتمد على نفسي، لأول مرةٍ منذ أن تزوجتها. ذهبتُ إلى عملي، ومرّ اليوم عليّ ببطءٍ شديدٍ، ولكن أكثر ما افتقدتُه هو مُكالمتها اليومية؛ لكي تُخبرني بمُتطلبات البيت، يتبعها شجارٌ معتادٌ على ماهية الطلبات، ثم تُنهي المُكالمة بعبارتها المعتادة "لا تتأخر كثيراً"، فكرتُ أنه بالرغم من أن هذه المُكالمة اليومية كانت تُزعجني، ولكني لم أفكر قط في أن طلبها مني ألا أتأخر قد يكون بسبب حُبها لي، أتذكر كلماتها تلك؛ لكني لم أكن أُترجمها على هذا النحو أبداً، بل كنتُ أتعمد التأخير عنها بزيارة أصدقائي ثم أعود إلى البيت، وقلبي يتمنى أن يرى ابتسامتها الصافية تستقبلني على الباب، وأن أسمع جُملتها المُعتادة: "هل أحضرتَ كل ما طلبتُ منكَ إحضاره؟"، ويكون ردي في كل مرةٍ: "انظري بنفسك إلى ما في الأكياس, لن تجدي شيئاً ناقصاً!". كنتُ أعتبر سؤالها هذا كأنه سوء استقبالٍ، لكني الآن أشتاق إلى سماعه، ولو لمرةٍ واحدةٍ؛ فالبيت أصبح خاوياً لا روح فيه، الدقائق تمر عليّ -وأنا وحيدٌ- كأنها ساعات.

يا الله، كم تركتها تقضي الساعات وحيدةً يومياً بدون أن أفكر في إحساسها؟ كم أهملتها وكنتُ أنظر إلى نفسي فقط دون أن أنظر إلى راحتها وسعادتها؟ كم فكرتُ فيما أُريده أنا، لا ما تُريده هي، وزاد الأمر عليّ حين مرضتُ؛ كم افتقدتُ يديها الحانيتين ورعايتها لي، وسهرها بجانبي إلى أن يُتم الله شفائي؟ كأنها أمي وليست زوجتي!

وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل، ولم أفتأ أُردد "يا رب ارحمها بقدر ما ظلمتُها أنا". وظللتُ هكذا حتى صرعني النوم ولم أفق إلا على رنين جرس المنبه فاعتدلتُ في فراشي.

ولكن مهلاً.. تمتمتُ بكلمات الشكر لله تعالى: "يا الله، إنه مُجرد حلمٍ، بل كابوس، الحمد لك يا رب؛ لم يحدث شيءٌ من هذا في الواقع". هُرعتُ إلى الغرفة التي بها زوجتي، اقتربتُ منها -وقلبي يكاد يتوقف من الفرح- وجدتُها نائمةً ووسادتها مُغرقةٌ بالدموع، أيقظتها؛ فنظرت إليّ باستغرابٍ لا يخلو من العتاب، لم أتمالك نفسي وأمسكتُ بكلتا يديها وقبلتهما، ثم نظرتُ إليها بعينٍ دامعةٍ، وقلتُ لها من كل قلبي: "أنا أحبك، اكتشفتُ أني لا أستطيع الحياة بدونك. ولكن مما تبكين يا عزيزتي؟"، قالت: "خفتُ عليكَ كثيراً عندما وجدتك تتنفس بصعوبةٍ، يبدو أنك كنتَ تحلم حلماً مُزعجاً".

 

علّق كاتب هذه القصة عليها بقوله: للأسف؛ الكثير منا لا يُدرك قيمة الأحبّة في حياته حتى يفتقدهم. إن كان عندك مخزونٌ من العاطفة والمودة فانثرها على أحبابك ما دمتَ بينهم، وإلا بعد الفراق فليس للعواطف والمشاعر قيمةٌ في غيابهم.

 

أحبتي في الله.. هذا زوجٌ كان يُسيء مُعاملة زوجته، ويجرح مشاعرها، ولم يُراعِ ما بينهما من (الميثاق الغليظ) إلى أن هداه الله. وهناك أزواجٌ تعدى سلوكهم مع زوجاتهم إساءة المُعاملة، وتجاوز جرح المشاعر، ووصل لما هو أبعد من ذلك؛ فهذه زوجةٌ عانت من إخلال زوجها بواجباته نحو (الميثاق الغليظ) الذي يربط بينهما، نشر قصتها أحد الأفاضل؛ فكتب يقول:

كانت تسترجع ذكرياتِ زواجها الذي دام خمسةَ عشرة عاماً بجماله ومُغامراته، بإنجازاته وإخفاقاته. كانت سعيدةً بما حققته هي وزوجُها في تلك السنين المنصرمةِ من توافقٍ وانسجام، من إخلاصٍ ووفاء، من بذلٍ وعطاء. كانت له فيها نعم المرأةُ، ذات الدينِ والخُلُق، ذات الجمالِ والدلال، ذات القلبِ الطاهرِ والعقلِ الناضج. وكان لها فيها ذلك الرجلَ المُحبَّ الوفي، الحنونَ الخلوق، الكريمَ المعطاء. كم كان كبيراً حظُّهما حين عثر عليها وعثرت هي عليه. كم كانت سعادتُهما لا توصفُ حين ارتبطا معاً. فهو لم يعثرْ على نصفِه الثاني ومليكةِ قلبِه فحسب، بل عثر على من حفِظت نفسَها وشبابَها من أجله. عثر على من حفرت اسمَهُ في صدرِها وحلفَت يميناً بأن لا تخونَ في حُبها.

بعد تلك السنينَ الطوال، بعد تلك السنينَ الحِسان، بعد التفاني في الحُب والعطاء، بعد كلِّ البذلِ والسخاء، فُجِعت بما لم يكن في الحُسبان. فُجِعت بالخبر الذي هزَّ كيانها، فجّر بركانها وأشعل نيرانها. علمت بأن رفيق عُمرِها قد خانها. شعرت حينها بالخُذلان، بالنُكران. شعرت بانهيار ذلك الصرح العظيم الذي لبِثت في بنائه سنين. إن الخيانةَ الزوجيةَ من الرجل أو المرأة على حدٍّ سواءٍ هي من أقوى الأسبابِ التي تهدمُ البيوت وتملأ الحُرقةَ في الصدور.

كم آنس القرآنُ وِحدتَها، وكم سهِرَتِ الليالي جافيةً مضجعَها، شاكيةً إلى الله حُرقتَها. كم تفطرتِ الأرضُ على بكائِها وتصدّعتِ الجُدرانُ لنحيبِها. كانت بينها وبين نفسها تتساءل، كما لو كانت تُكلم زوجها: أتخونُ بعد هذا العهد؟ أتخونُ بعد هذا (الميثاق الغليظ)؟ أتخونُ بعد هذا الحُب؟ أتخونُ بعد هذه التضحية؟ أتخونُ بعد هذه العِشرة؟ أتخونُ الشمعةَ التي احترقت كي تُضيءَ حياتَك وحياةَ أبنائك؟! أتخونُ من قطَفْتَ زهرةَ شبابِها؟! أنسيتَ التي مهّدتْ لك الطّريقَ وواستكَ حالَ الضيق؟! أنسيتَ من طبّبتك حين مرِضتَ وشجعتك حين يئست؟! أما تفكّرتَ في حالِ الأرواحِ التّي من صُلبِك خُلِقت، وفي بيتِك نشأَت، وبك ارتبطت؟! أما تخشى عليهم تلك الكسرة؟! أما عُدتَ تأبه بتلك العَبرة؟! أما تخشى الحسابَ يومَ الحسرة؟!

 

العلاقة بين الزوج وزوجته من أهم العلاقات، اختار الحق سبحانه وتعالى تعبير (الميثاق الغليظ) وصفاً لها؛ يقول تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ووُصِفَ الميثاق بالغِلظة في هذه الآية الكريمة لقوته وعظمته، ولأهميته في بناء الأُسرة. و(الميثاق الغليظ) هو العهد الذي أُخذ للزوجة على زوجها عند عقد النكاح؛ وهو في معاجم اللغة "العهد الوثيق القويّ على الوفاء".

وعن تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قال المُفسرون: أيْ: ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم من عهدٍ وإقرارٍ منكم من إمساكهن بمعروف ٍأو تسريحهنّ بإحسان.

 

والإمساك بالمعروف قوامه حُسن العشرة، والمودة والرحمة بين الزوجين.

عن حُسن العشرة يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي]. وقال عليه الصلاة والسلام: [استوصوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المرأةَ خُلِقَت مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإنْ ذهَبتَ تُقيمُه كسَرْتَه، وإن تركْتَه لم يَزَلْ أعوَجَ؛ فاستوصوا بالنِّساءِ].

أما المودة والرحمة؛ فيقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ والمودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. كما أنّ المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يُصيبها سوء.

 

أحبتي.. عاشروا بعضكم بالمعروف، تنعموا في الدُنيا وتُثابوا في الآخرة. وفي هذا المعنى أختم بما نشره واحدٌ من علمائنا الأفاضل، كتب يقول: ينبغي للإنسان في مُعاشرته لزوجته بالمعروف أن لا يقصد السعادة الدُنيوية والأنس والمُتعة فقط، بل ينوي مع ذلك التقرب إلى الله تعالى بفعل ما يُحب، وهذا أمرٌ نغفل عنه؛ فكثيرٌ من الناس في مُعاشرته لزوجته بالمعروف قصده أن تدوم العِشرة بينهما على الوجه الأكمل، ويغيب عن ذهنه أن يفعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى، بأن ينوي بهذا أنه قائمٌ بأمر الله ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فإذا نوى ذلك حصل له الأمر الثاني، وهو دوام العِشرة الطيبة، والمُعاملة الطيبة، وكذلك بالنسبة للزوجة.

اللهم أعّنا -أزواجاً وزوجاتٍ- على أن نُحسن العِشرة، وأن نحرص على أن تسود بيننا المودة والرحمة، وأن يُراعي كلٌ منا حقوق الطرف الآخر؛ فيُلزم الرجل نفسه بالوفاء بمُتطلبات (الميثاق الغليظ) نحو زوجته، وتُلزم الزوجة نفسها بالوفاء بحقوق زوجها كاملةً غير منقوصة؛ فتعم السكينة بيوتنا، وتُحيط السعادة أُسرنا.

علِّمنا اللهم ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.

 

https://bit.ly/3JSd9Xj

الجمعة، 5 أغسطس 2022

الندم المتأخر

 

خاطرة الجمعة /355


الجمعة 5 أغسطس 2022م

(الندم المتأخر)

 

بازدراءٍ لمقطعٍ لداعيةٍ يذكر الموت ويُذكِّر به، كتب في صفحته على فيس بوك: "صديقي الشيخ: لا تُحدثني عن الموت بل حدثني عن الحياة، وكيف نعيش اليوم، أما الموت فموعده غداً؛ ولن نؤجل عمل اليوم إلى الغد. عِش حياتك وانسَ يا عم!". ثم أصابته نشوة النصر عندما رأى سيل علامات الاستحسان "اللايكات" وكثرة إعادة النشر! ويله؛ لقد نسي أنه كما أن هناك حسناتٍ جاريةً لا تتوقف ولا تنقطع، فإنه وبالمقابل توجد سيئاتٌ جاريةٌ؛ فحصاد الغد هو نتاج عمل اليوم!

خرج الشاب ليُمارس رياضته المحبوبة؛ الركض، وهو يضع بإذنيه السماعات يستمع إلى أغنية "الدُنيا حُلوة". شعر فجأةً كما لو أن شخصاً يدفعه من الخلف. لم يملك الوقت لينظر من الذي دفعه، ولا ليعرف ما الخطب!! أُغلقت عيناه على مشهد الرصيف الذي كان يركض عليه، ثم فُتحت على مشهد أطباء فوق رأسه يصرخون بكلماتٍ غير واضحةٍ لكنها مُعبرةٌ!! مُعبرةٌ عن هلعٍ ومُحاولاتٍ يائسةٍ لإنقاذ مريضٍ ما!

"لحظة، يبدو أني أنا المريض المعني! أنا على السرير نائمٌ ولا أستطيع الكلام، أتنفس بصعوبةٍ، ماذا حدث؟! من الذي دفعني وأنا أركض على الرصيف؟ آخر صوتٍ سمعته كان صوت سيارةٍ تُحاول الوقوف خلفي، يبدو أنها هي التي دفعتني، صدمتني وأوصلتني إلى المُستشفى. تنفسي يزداد صعوبةً! وهذا الطبيب العجوز لماذا يتحرك ببطءٍ؟ ماله يضرب كفيه ببعضهما يائساً من حالي؟! ويلكم، لماذا بدأتم بمُغادرة الغرفة؟! يا الله، إنها إذاً ساعة الحقيقة تقترب، لن أُكابر: أنا أموت! بهذه البساطة؟! أنا الشاب الرياضي! خاتم الخطوبة مازال في إصبعي! سامحيني يا أُمي، لن أستطيع استرضاءك بعد مُشكلة الأمس. كم ضيعتُ من صلواتٍ؟ ليتني حفظتُ آياتٍ من كتاب الله. كم سخرتُ من ناصحين، كم مجدتُ فاسدين ومُفسدين واتخذتُ منهم قدوةً لي؟! كان في جيبي عدة دنانير، ليتني كنتُ قد تصدقتُ بها. أرجوكِ يا خواطر الخير الضائع ارحلي عن عقلي المُودِّع! ألمُ الحادث أخف من ألمِ (الندم المُتأخر)! ويا صفحة الفيس اللعينة، كم وضعتُ عليكِ من صورٍ ومقاطع سيئةٍ! والمنشور الأخير.. نعم آخر منشورٍ امسحوه. لماذا لا يسمعني أحد؟! طلبي الأخير أن يُمسح؛ لا تنقصني سيئاتٌ جاريةٌ! يا جماعة.. يا جما.. يا ج.. يا..".

مات الشاب ولم يُكمل كلامه، وكان آخر ما سمعه: "من السُنة إغماض عين الميت" تلك كانت وصية الطبيب العجوز لآخر المُمرضين في الغرفة!

ومازال آخر منشورٍ للشاب المتوفى بصفحته على فيس بوك في مكانه، لم يمسحه أحد، وما يزال البعض يضع عليه علامة الاستحسان "لايك" والبعض يُعيد تعميمه ونشره، وما تزال -وستظل- تُكتب على صاحبه سيئاتٌ جاريةٌ حتى بعد موته! فهل من مُتعظ؟

 

أحبتي في الله.. إن قصة هذا الشاب هي قصة (الندم المتأخر)؛ ندمٌ بعد فوات الأوان.

أما هذا الشاب فقصته تختلف، لقد مرَّ بخبرةٍ مُماثلةٍ لكنه نجا منها برحمة الله، كتب ناصحاً غيره يقول:

تدارك نفسك طالما في الأمر مهلةٌ وقبل فوات الأوان، اعمل عملاً يُنجيك من النار ما دام في الوقت مُتسعٌ وفي العمر بقية. إن الموت حقيقةٌ قاسيةٌ رهيبةٌ تواجه كل حيٍ؛ فلا يملك لها رداً، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ إنها نهاية الحياة؛ الجميع سيموت، لكن المصير بعد ذلك يختلف، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. وفي الموت تنبيهٌ وتذكيرٌ ونذيرٌ وتحذيرٌ، وكفى بالموت واعظاً، لكننا مع الأسف الشديد نسيناه أو تناسيناه، وكرهنا ذِكره، وإن تعجب فالعجب من عاقلٍ يرى الموت يخطف أقرانه وجيرانه ولا يستعد له. إن المُنهمك في الدُنيا، المُنكب على لذاتها، المفتون بزخارفها، المُحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذِكر الموت، ومن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له فاجأه في غده وهو في غفلةٍ من أمره وفي شُغلٍ عنه. كثيرٌ من الناس، يُضيِّع عُمره في غير ما خُلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ ولماذا ترجع؟ ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، وأين كنتَ عن هذا اليوم أيها الغافل؟ لماذا لم تعمل وأنت في سعةٍ من أمرك، وصحةٍ في بدنك، ولم يدنُ منك ملك الموت بعد؟ ألم تتعظ من موت غيرك؟ ألا تعلم أن حامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً إلى قبره، حيث يُترك فيه وحيداً، مُرتهناً بعمله، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر. لكن ما أقل من اتعظ فاجتهد واستفاد من كل لحظةٍ من لحظات عُمره في طاعة ربه، قبل أن يندم (الندم المتأخر) ويتحسّر على كل وقتٍ أضاعه بدون عملٍ صالحٍ يُقربه إلى الله. انظر إلى حال الموتى، وتأمل مآلهم، وتأكد أنه سيأتيك يومٌ مثل يومهم، وسيمر عليك ما مرّ بهم، فتخيل نفسك وأنت محمولٌ على الأعناق. إن طاعة الله وأنتَ ما زلتَ على قيد الحياة أهون عليكَ بكثيرٍ مما ينتظرك من حسابٍ إن أنت قصّرتَ وتقاعستَ؛ فاعمل من الآن من الأعمال ما يُنجيك بإذن الله ما دام في الوقت مُتسعٌ وما زال في عُمرك بقيةٌ، وما دامت لديك استطاعة العمل؛ لتخرج من هذه الدنيا مُرتاحاً وفرحاً مسروراً بلقاء ربك، وبما أعده لك من النعيم المُقيم.

 

وواصفاً لحظة الندم الكُبرى التي لا تُعادلها لحظة، وتعقبها الحسرة والخسران المبين يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

 

يقول أهل العلم إنّ الخلائق جميعاً سيجمعهم الله تعالى يوم القيامة، وهو يومٌ تشيب له الولدان، وتتصدع فيه القلوب، وتقشعر منه الأبدان، في مشهدٍ مهولٍ، وأحوالٍ فظيعةٍ، وأوقاتٍ عصيبةٍ، ومواقف عظيمةٍ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.

والناس يوم القيامة صنفان:

إما آمنون كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يُشركوا به شيئاً، هم الآمنون يوم القيامة، المُهتدون في الدُنيا والآخرة ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾.

وإما خائفون نادمون مُتحسرون، يحزنهم الفزع الأكبر، يتأسفون على ما فات ومضى، وهم غافلون؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وأي حسرةٍ أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه والنار، وهُم لا يتمكنون من الرجوع والعود إلى الدُنيا لاستئناف العمل، وتغيير حالهم؟! يُعانون من الحسرة ويندمون (الندم المتأخر) الندم الذي يأتي بعد فوات الأوان. إنها الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله، عندما ينقضي العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾، ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. وهي الحسرة على مجالسة أصدقاء السوء الذين يسحبونهم بعيداً عن الصراط المستقيم يومها ﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ وتراه يقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ لماذا؟ ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾. أما منتهى الحسرة فيكون حين ينادون ربَهم عزَّ وجلَّ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ فيُجيبهم سُبحانه: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾.

 

وليس المُسيء فقط هو الذي يتحسر يوم القيامة، بل إنّ المؤمن والمُحسن يتحسر هو الآخر، ولكن لسببٍ مُختلف؛ فهو حين يرى نعيم الجنة يتمنى أن يرجع للدُنيا مرةً أخرى ليزيد من الطاعات والإحسان والعمل الصالح.

 

أحبتي.. طالت أعمارنا أو قصُرت، فإننا كُلنا لا شك راجعون إلى الله سبحانه وتعالى، الملك الحق، واقفون بين يديه، مُحاسبون على نوايانا وأفعالنا وأقوالنا، وكل من أضاع وقته في الدنيا بالمُلهيات، والخطايا والمُنكرات، ولم يستجب لأوامر الله وترك العبادات، سيتحسر يوم القيامة ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، ويندم حينها (الندم المتأخر). فلينظر كلٌ منا إلى نفسه؛ إن كان مُحسناً فليُكثر من إحسانه، وإن كان مُقّصراً فليبتعد عن المعاصي، ويتوب عن الخطايا، ويزيد من حسناته، موقناً بوعد الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِۚ﴾ فإن الأعمال الصالحات تمحو صغائر الذنوب.

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، الذين ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وأن لا يجعلنا من الغافلين المُتحسرين يوم القيامة؛ الذين قال فيهم المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

 

https://bit.ly/3d97hN3