الجمعة، 20 نوفمبر 2020

إنها الغفلة

 

الجمعة 20 نوفمبر 2020م

خاطرة الجمعة /266

(إنها الغفلة)

 

حدثنا بهذه القصة أحد المشايخ، وهي لشابٍ قد أخبره بقصته فقال:

"كنتُ مقصراً بالصلاة، حتى أنني لا أعرف طريق المسجد، وفي إحدى الليالي منذ عدة سنواتٍ نمتُ في بيتي ورأيتُ في منامي رؤيا عجيبة؛ رأيتُ أني في فراشي نائمٌ فأتت إليّ زوجتي تريد إيقاظي فقلتُ لها: "ماذا تريدين؟"، فوجئتُ بأنها لا تسمع كلامي! كررتْ زوجتي إيقاظي مراراً، وكنتُ في كل مرةٍ أسألها: "ماذا تريدين؟"، لكنها لم تكن تسمع كلامي أبداً، وإنما ذهبتْ مسرعةً خائفةً ونادت إخواني فأتوا وتجمعوا حولي فصحتُ فيهم: "ماذا تريدون؟"، المفاجأة أني وجدتهم جميعاً لا يسمعوني، بل اقترب مني أخي الأكبر ورفع يديّ للحظاتٍ ثم تركها فوقعت، فإذا به يمسك بجفون عينيّ ويغلقهما، ثم سمعته يقول لباقي إخواني: "عَظَّمَ الله أجركم، أخونا في ذمة الله"، ففزعوا وبكوا على وفاتي، مع أني لم أمت، ولكن لا أدري لماذا لم يسمعوا كلامي؟

كنتُ في حالةٍ عصيبةٍ جداً؛ حيث أرى زوجتي وإخواني وأكلمهم وأنظر إليهم ولكنهم لا يردون عليّ، ثم إني سمعتهم يتحدثون عن جنازتي: "عجلوا بها إن كانت خيراً تُقدم، وإن كانت شراً تُوضع عن الأعناق"! ثم ذهبوا بي إلى المقبرة، وكنتُ أكلم كل من يواجهني في الطريق أني حيٌ ولم أمت، ولكن لا أحد يرد عليّ! لما وصلوا بي إلى المقبرة نزعوا عني ثيابي وغسلوني وكفنوني، ثم ذهبوا بي إلى المسجد للصلاة عليّ؛ فكلمتُ الإمام وقلتُ له: "أنا حيٌ، لم أمت"، لكن الإمام هو الآخر لا يرد عليّ، وأنا أسمعهم وأنظر إليهم وهم يصلون عليّ، وبعد الصلاة ذهبوا بي إلى القبر، كنتُ أنظر إلى الناس وهم يجهزون لدفني، ووضعوني في اللحد! كلمتُ آخر شخصٍ رأيته قبل إتمام عملية الدفن وقلتُ له: "أنا لم أمت، أنا حيٌ؛ فلا تدفنوني"، لكنه لم يرد عليّ هو الآخر، كأنه لم يسمعني، ثم هالوا عليّ التراب. تذكرتُ وقتها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن الميت يسمع قرع النعال] فسمعتُ قرع نعالهم لما ذهبوا وابتعدوا عن قبري. وجدتُ نفسي وقتها في مكانٍ مظلمٍ، بعد قليلٍ أتى إليّ رجلان فزعتُ منهما؛ وقف أحدهما عند قدميّ والآخر عند رأسي، سألاني: "مَن ربك؟"، فبدأتُ أردد: "ربي ربي"، وأنا أعرف مَن هو ربي ولكن لا أدري كيف نسيت، ثم سألاني: "مَن نبيك؟"، فبدأتُ أردد "نبيي نبيي"، ثم سألاني: "ما دينك؟"، فقلتُ: "ديني ديني"، نسيتُ كل شيءٍ، ولم أتذكر وقتها إلا زوجتي وأبنائي ودكاني وسيارتي، حتى أتيا بمرزبةٍ كبيرةٍ وضرباني ضربةً قويةً صرختُ منها صرخةً مدويةً فوجئتُ بعدها بنورٍ يُضاء حولي، وزوجتي بجواري تُسمي عليّ وتسألني: "لماذا تصرخ وتصيح"؟، أيقنتُ وقتها أني كنتُ نائماً، وأن تلك كانت رؤيا رأيتها وأنا نائم، وإذا بأذان الفجر يُرفع؛ فقمتُ مسرعاً وتوضأتُ وتوجهتُ -لأول مرةٍ في حياتي- لصلاة الفجر في المسجد، وأنا سعيدٌ أشعر أنه قد كُتبت لي حياةٌ جديدة؛ فقد كانت هذه الرؤيا سبباً لهدايتي والتزامي وابتعادي عن كل المحرمات، وحافظتُ من يومها -بحمد الله- على الصلاة في المسجد وطاعة ربي، وأعيش الآن مع زوجتي وأبنائي وإخواني حياة السعادة وراحة الضمير، بعد أن كنتُ تائهاً ضائعاً، يا إلهي كم كنتُ غافلاً عن سبيل الرشاد!‏

 

أحبتي في الله .. ما إن انتهيتُ من قراءة هذه القصة حتى تذكرتُ الآيات الكريمة: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. يقول العلماء في معنى هذه الآيات: الشدة والمعاناة عند نزع الروح أوضحت للغافل حقيقةَ الأمر؛ هذا هو الموت الذي كنتَ تنفرُ عنه وتهربُ منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص، ها أنت الآن ترى الحقيقة التي كنتَ تتهرب منها، ها أنت الآن ترحل عن الدنيا التي ملأتْ قلبك واستعبدتْ جوارحك. ثم هذا هو صوت إسرافيل وهو ينفخ في القرن، فاليوم إذن هو يوم البعث، يوم القيامة، يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار، وجاءت كل نفسٍ يصحبها مَلَكٌ يسوقها، وشهيدٌ يُخبر بأعمالها؛ لقد كنتَ أيها الإنسان في لهوٍ وسهوٍ من هذا النازل بك، فأزحنا عنك حجابَ غفلتك؛ فبصرك اليوم حادٌ قويٌ نافذ، إنه يوم الحساب ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾.

 

(إنها الغفلة)، الغفلة عن عبادة الله ولقائه سبحانه، والانشغال بالدنيا الزائلة، عن الآخرة الباقية الخالدة؛ يقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. ويصف الله تعالى الغافلين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، وبقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

وقد توعّد الله تعالى من يستكبر عن عبادته ويُفرِّط في طاعته بأشد الوعيد، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

(إنها الغفلة) عن الموت والدار الآخرة؛ فالغفلة -كما يُبين أهل العلم- تُنسي العبدَ ربّه وآخِرَته، وتجعله متعلقاً بدنياه، مُعْرِضاً عن آخِرَته، لا يتذكر الموت، ولا يستعد ليوم الحشر، حتى إذا نزل به الموت تمنى العودة وقال: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، لكن هيهات. كثيرٌ منا غافلون؛ يسعون بجدٍ واجتهادٍ ويتناحرون ويقتتلون للحصول على مكاسب وملذاتٍ وشهواتٍ في دنيا لا بقاء لها ولا دوام، ثم هُم مُقصِّرون فيما ينفعهم في الدار الآخرة التي إليها معادهم، غافلون عنها، رغم وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بأنها هي الحيوان، أي أنها هي الحياة الكاملة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

(إنها الغفلة) يذكرني بها قول سيدنا علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه: "الناسُ نيامٌ فإذا ماتُوا انتبَهوا".

 

أحبتي .. العاقل من اتعظ بغيره؛ كم من شابٍ صحيحِ الجسم كان يظن أن في قابل أيامه متسعاً له للتوبة وإصلاح علاقته بالمولى عزَّ وجلَّ، فإذا بالموت يفاجئه. وكم من شيخٍ كبيرٍ ما تزال الدنيا تغره وتخدعه وتتزين له وتسحبه بعيداً عن صراط الله المستقيم، ثم يأتيه الموت فجأةً وهو على حاله هذه فيكون مصيره الخلود في نار جهنم وبئس المصير. فهلا اتعظنا؟ هلا أفقنا من غفلتنا؟ هلا حاسبنا أنفسنا قبل أن نُحاسَب؟ إلى متى الغفلة؟ إلى متى البُعد عن الله؟ إلى متى التفريط في عبادته؟ ليراجع كلٌ منا نفسه؛ هل هو راضٍ عن صلاته؟ هل يُخرج زكاة ماله؟ هل يصوم كما ينبغي أن يكون الصيام؟ هل حجَّ وقت أن كان مُستطيعاً؟ إلى أي مدىً هو قريبٌ من كل ما يُرضي الله سبحانه وتعالى من أعمال خيرٍ وبرٍ وصلة رحمٍ وذِكرٍ؟ وإلى أي مدىً هو بعيدٌ عما يُغضب الله سبحانه وتعالى ويستوجب لعنته وسخطه من أعمال شرٍ كالقتل والزنا وشرب الخمر والسرقة وشهادة الزور وأكل أموال الناس بالباطل وإيذاء الناس وسوء التعامل معهم؟

أحبتي فلنحارب الغفلة بمحاسبة النفس، ولنحذر التهاون في الصغائر فهي التي تسحب الإنسان إلى الكبائر. ولنحذر التسويف في التوبة فهي بداية طريق الضياع. ولنأخذ أنفسنا بالشدة؛ فلكلٍ منا نفسٌ أمارةٌ بالسوء، إذا سلمنا لها قيادنا تُهنا وضِعنا. اللهم اجعلنا من أصحاب النفوس اللوامة التي تقود أصحابها حتى يصيروا من أصحاب النفوس المطمئنة، فيكونوا من الفائزين برضا الله ورضوانه، وينعموا بالسعادة في الدارين؛ الدنيا والآخرة، ولا يكونوا من الغافلين.

 

https://bit.ly/38VBjzY

الجمعة، 13 نوفمبر 2020

فنجان القهوة وثلاثة دروس

                                                       الجمعة 13 نوفمبر 2020م


خاطرة الجمعة /265

(فنجان القهوة وثلاثة دروس)

اعتاد أستاذٌ جامعيٌ بعد أن أُحيل إلى التقاعد أن يدعو كل فترةٍ مجموعةً من طلابه الخريجين. التقى الخريجون في منزل أستاذهم العجوز بعد سنواتٍ طويلةٍ من مغادرة مقاعد الدراسة، وبعد أن حققوا نجاحاتٍ كبيرةً في حياتهم العملية، ونالوا أرفع المناصب، وحققوا الاستقرار المادي والاجتماعي. بعد عبارات التحية والمجاملة، بدأ كلٌ منهم يتأفف من ضغوط العمل والحياة التي تُسبب لهم الكثير من التوتر. غاب الأستاذ عنهم قليلاً ثم عاد يحمل إبريقاً كبيراً من القهوة ومعه فناجين وأكواب من كل شكلٍ ولون: بعضها من الكريستال، وبعضها من الصيني الفاخر، وبعضها من الميلامين، وبعضها من الزجاج العادي، وبعضها من البلاستيك. من تلك الفناجين والأكواب ما هو في منتهى الجمال تصميماً وألواناً، ومنها ما هو باهظ الثمن، ومنها العادي، ومنها النوع الذي تجده في أفقر البيوت.

قال الأستاذ لطلابه: "تفضلوا، وليسكب كل واحدٍ منكم القهوة لنفسه". وعندما بات كل واحدٍ من الخريجين ممسكاً بفنجانٍ تكلم الأستاذ فقال: "هل لاحظتم أن الفناجين الجميلة فقط هي التي وقع عليها اختياركم وأنكم تجنبتم الفناجين العادية؟ من الطبيعي أن يتطلع الواحد منكم إلى ما هو أفضل؛ وهذا بالضبط هو ما يسبب لكم القلق والتوتر. ما كنتم بحاجةٍ إليه فعلاً هو القهوة وليس الفنجان، ولكنكم تهافتم على الفناجين الجميلة الثمينة"! وأردف الأستاذ قائلاً: "وبعد ذلك لاحظتُ أن كل واحدٍ منكم كان مراقباً للفناجين التي في أيدي الآخرين؛ فلو كانت الحياة هي القهوة فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الفناجين، وهي بالتالي مجرد أدواتٍ ومواعين تحوي الحياة، أما نوعية الحياة التي تمثلها القهوة فتبقى هي هي نفسها لا تتغير، وعندما نركز فقط على الفنجان فإننا نُضيِّع فرصة الاستمتاع بالقهوة؛ فاسمحوا لي أن أنصحكم بعدم الاهتمام بالفناجين والأكواب، والتركيز بدلاً من ذلك على الاستمتاع بالقهوة"!

واستطرد يقول: "فالدرس الأول هو أن النظر إلى ما في أيدي الآخرين يُفسد علينا متعة الاستمتاع بما في أيدينا؛ إذا رأيتَ في يد شخصٍ شيئاً أجمل مما في يدك فلعله تعويضٌ عن شيءٍ حُرم منه، والبيوت أسرار، والناس صنادیق مُغلقة".

وتابع القول: "الدرس الثاني هو أن مشكلة الناس في هذا العصر أن معيار الحرمان عندهم هو المال؛ من كان له مالٌ فهو ذو حظٍ عظيمٍ، ومن ليس له مالٌ فيستحق الشفقة، دعوني لا أكون مثالياً؛ المال يدير عجلة الحياة، ولكنه ليس الحياة. صحيحٌ أنه يتيح لك أن تعيش حياتك برفاهية، ولكنه لا يكفي وحده ليجعلك تعيش بسعادة، أجمل ما في الحياة هي تلك الأشياء التي ليس لها ثمنٌ، ويقف المال أمامها فقيراً عاجزاً لا يستطيع شراءها؛ كحنانِ زوجةٍ تُحبك، أو حضنِ أبيك، أو أصدقاء مخلصين، أو أبناء أذكياء وأصحاء، أو دعوةِ أمٍ عند الصباح، أو بيتٍ يملؤه الحب؛ هذه الأشياء هي الحياة، والمال لا يستطيع شراءها"!

وأنهى الأستاذ كلامه بقوله: "الدرس الثالث هو أننا نهتم بالوسائل ونهمل الغايات؛ هكذا هم البشر في هذا الزمان يهتمون بالوسائد أكثر مما يهتمون بالنوم، يهتمون بالمستشفيات أكثر مما يهتمون بالصحة، يهتمون بالمدارس أكثر مما يهتمون بالتعليم، يهتمون بالمساجد أكثر مما يهتمون بالدين، يهتمون بوسائل الاتصال أكثر مما يهتمون بالتواصل"!

 

أحبتي في الله .. لم يكن هذا مجرد لقاءٍ على فنجان قهوةٍ، وإنما كان (فنجان القهوة وثلاثة دروس) من أستاذٍ حكيمٍ، انقطع عن عمله الوظيفي مع طلابه بتخرجهم، لكن ظلت صلته بهم قائمةً ومستمرةً كموجهٍ ومرشدٍ وخبيرٍ. المعلم الحقيقي لا يعتبر التعليم وظيفةً بل هو رسالةٌ لا ترتبط بزمانٍ ولا مكان. استثمر هذا الأستاذ المخلص لقاءه بطلابه ليعلمهم دروساً ثلاثة:

كان درسه الأول "هو أن النظر إلى ما في أيدي الآخرين يُفسد علينا متعة الاستمتاع بما في أيدينا"، وهذا ذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، حيث يقول المفسرون: لا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً إلى أحوال الدنيا والمتمتعين بها، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، إنما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليعلم سبحانه من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً.

 

وكان درسه الثاني هو "أن مشكلة الناس في هذا العصر أن معيار الحرمان عندهم هو المال؛ مَن كان له مالٌ فهو ذو حظٍ عظيمٍ"، ذكرني بقصة قارون حين خرج ﴿عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، وتذكرتُ الآية الكريمة ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ فالمال والبنون -كما ورد في التفاسير- زينة الحياة الدنيا، لكن ما يبقى للإنسان وينفعه، هو الباقيات الصالحات، من طاعاتٍ واجبةٍ ومستحبةٍ من حقوق الله وحقوق عباده من: صلاةٍ، وزكاةٍ، وصدقاتٍ، وحجٍ، وعمرةٍ، وتسبيحٍ، وتحميدٍ، وتهليلٍ، وتكبيرٍ، وطلب علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وصلة رحمٍ، وبرِ والدين، وقيامٍ بحق الزوجات والأبناء، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، وهي خيرٌ عند الله ثواباً وخير أملاً، فثوابها يبقى ويتضاعف، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون.

 

وكان درسه الثالث هو "أننا نهتم بالوسائل ونُهمل الغايات"، وهذا ذكرني بقول أحد العلماء؛ إذ قال إن الله خلق الإنسان وأوجده في هذه الحياة لأجل تحقيق أمورٍ ثلاثة: هي عبادة الله، وتزكية النفس، وعمارة الأرض. فعبادة الله هي الغاية التي خلق الله تعالى الخلق لأجلها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وبعث الله الرسل لتحقيقها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، وما إن تتحقق عبادة الله بإخلاص إلا وتبدو آثارها على الخلق ظاهرةً متمثلةً في صلاح الفرد فيسهل عليه أن يُزكي نفسه. وعن تزكية النفس يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ فتزكية النفس سببٌ للوصول إلى الجنة في الآخرة، وهي أيضاً سببٌ للوصول إلى جنة الدنيا وزهرتها؛ فهي تهذب أخلاق الإنسان وتُحسِّن سلوكه وتجعله مستعداً لإعمار الأرض. وعن عمارة الأرض؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، فالمتأمل في فقه البناء والعمارة في الإسلام يجد أن الإسلام اهتم بالإنسان أولاً، وبإعمار نفسه وتزكيتها ثانياً حتى يصل إلى إعمار الكون حوله، فإعمار النفوس هو الأساس الذي يُبنى عليه إعمار الأرض.

والدنيا دار ابتلاءٍ واختبار؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، فهو سبحانه قدَّر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم، فمَن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومَن مالَ مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء. وليس معنى ذلك الانقطاع للعبادة بغير عمل، بل الجمع بين العبادة والعمل؛ يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا﴾.

 

أحبتي .. نؤمن جميعاً بأن الآخرة هي دار القرار، وأن الدنيا مزرعتُها؛ فلتكن أهدافنا في الحياة واضحةً جليةً؛ نعبد الله على النحو الذي أمرنا به سبحانه وتعالى وأوضحه وبيَّنه لنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ونُزكي أنفسنا قدر ما نستطيع بالعمل وليس بالكلام، نجمع بين التزامنا بالعبادات وأصول المعاملات، وبين تعميرنا للدنيا -قدر الاستطاعة- وتركنا من الآثار ما ينفعنا في آخرتنا يوم يقوم الحساب، وما ينفع غيرنا ممن يأتون بعدنا.

دعونا نستفيد من ذلك اللقاء؛ لقاء (فنجان القهوة وثلاثة دروس) عسى أن ينتبه الغافلون منا.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3niH8eE

الجمعة، 6 نوفمبر 2020

ترويض النفس

 

الجمعة ٦ نوفمبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /٢٦٤

(ترويض النفس)

 

عن قصةٍ واقعيةٍ يقول أستاذٌ جامعيٌ معروف:

في أحد الأيام كنتُ داخل سيارتي إذ جاء شابٌ في السادسة عشرة من عمره وسألني: "هل أنظف لك الزجاج الأمامي؟"، قلتُ: "نعم"؛ فنظفه بشكلٍ رائعٍ، فأعطيته عشرين دولاراً؛ فتعجب الشاب وسألني: "هل أنت عائدٌ من أمريكا؟"، قلتُ: "نعم"، سألني مرةً أخرى: "هل يمكنني أن أسألك عن جامعاتها بدلاً من أجرة التنظيف؟". كان مؤدباً فدعوته للجلوس إلى جانبي لنتحدث؛ سألته: "كم عمرك؟"، قال: "ست عشرة سنة"، قلتُ: "في الثانية المتوسطة؟"، قال: "بل أتممت السادسة الإعدادية". قلتُ: "وكيف ذلك؟"، قال: "لأنهم قدموني عدة سنوات من أجل علاماتي الممتازة في جميع المواد"، سألته: "فلماذا تعمل هنا؟"، قال: "إن والدي قد تُوفي وأنا في الثانية من عمري، وأمي تعمل طباخةٌ في أحد البيوت، أنا وأختي نعمل في الخارج"، وأردف يقول: "سمعتُ أن الجامعات الأمريكية لديها منحٌ دراسيةٌ للطلاب المتقدمين"، قلتُ: "وهل هناك من يساعدك؟"، قال: "أنا لا أملك إلا نفسي"، قلتُ: "دعنا نذهب للأكل"، قال: "بشرط أن أنظف لك الزجاج الخلفي للسيارة"، فوافقت. في المطعم طلب أن يأتوا بطعامه سفرياً ليشارك أمه وأخته في الأكل بدلاً من أن يأكل وحده. لاحظتُ أن لغته الإنجليزية ممتازةٌ، وأنه ماهرٌ فيما يقوم به من أعمال. اتفقنا أن يأتيني بالوثائق الخاصة به، ووعدته أن أحاول مساعدته ما استطعت.

بعد ستة أشهرٍ حصلتُ له على القبول، وبعدها بيومین اتصل بي وقال: "كلنا في البيت نبكي من الفرح، شكراً لك".

بعد سنتين قرأتُ اسمه منشوراً في مجلة "نيويورك تايمز" كأصغر خبيرٍ بالتكنولوجيا الحديثة، سعدنا بذلك أنا وزوجتي كثيراً، وقامت زوجتي باستخراج سمة الدخول "الفيزا" لأمه وأخته واستقدمتهما دون علمه، فوجيء الشاب بأمه وأخته أمامه في أمريكا؛ عقدت المفاجأة لسانه فلم يستطع أن ينطق، بل ولم يستطع حتى أن يبكي!

في أحد الأيام كنتُ أنا وزوجتي داخل المنزل ورأيناه في الخارج يغسل سيارتي! فخرجتُ له وعانقته وقلتُ له: "ماذا تفعل"؟! قال: "دعني لئلا أنسى نفسي؛ ماذا كنتُ من قبل، وماذا صنعتَ أنت لي"!! هذا الشاب هو الآن أحد أفضل وأشهر الأساتذة في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة!!

 

أحبتي في الله .. عندما قرأتُ هذه القصة، أدهشني التصرف الأخير للشاب، وقوله "دعني لئلا أنسى نفسي".

حقاً ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، وإذا لم نأخذها بالشدة أخذتنا إلى كِبْرٍ ما نحن ببالغيه. كم هو مهمٌ أن نكسر كبر أنفسنا، وإلا تمادت وانتفشت وعاشت النعمة ونسيت المنعم، ولربما قالت ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾. أخذُ النفس بالشدة يجعلها طائعةً مستكينةً قويةً في الحق ذليلةً لله سبحانه وتعالى، وطوبى لمن كان دأبه (ترويض النفس).

تذكرتُ موقفاً لسيدنا عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، إذ جمع الناس يوماً في المسجد، واعتلى المنبر وقال: «كنتُ أرعى إبل الخطاب في شعاب مكة، ومعها إبلٌ لخالاتي، وكنتُ ألبس الصوف "الخشن من الملابس"، وكان الخطَّاب يُرهقني "ضرباً ومساءلةً"»، ثم نزل عن المنبر فاقترب منه ابنه عبد الله وقال له: «ما هذا يا أمير المؤمنين؟! واللهِ ما زدتَ أن حقَّرتَ نفسك»، فينظر سيدنا عمر إليه ويقول: «دعني يا عبد الله، رأيتُ نفسي ليس بينها وبين الله أحدٌ، فأحببتُ أن أحقرها"» .. وانصرف!

 

كما تذكرتُ موقفاً للشيخ الشعراوي، يرحمه الله، حين خرج مرةً لإلقاء محاضرةٍ في جامعة القاهرة، وأثناء انصرافه تجمهر حول سيارته آلاف الطلاب وحملوه بسيارته من فوق الأرض، وعندما رجع إلى بيته مساء ذلك اليوم اختفى، فبحث ابنه عنه في كل مكانٍ، ثم تذكر أن والده يذهب إلى مسجد الإمام الحسين كثيراً، وبالفعل وجده في المراحيض ينظفها بنفسه؛ فزع ابنه حينها وقال له: "يا شيخنا قل لي أنظفها بدلاً عنك"، لكن الشيخ الشعراوي قال له: "إن معنىً من العُجب بالنفس ظهر في داخلي، بعد حمل الشباب في الجامعة سيارتي، فأردتُ أن أكسر ذلك العُجب بأن أُقدِم على تنظيف هذه الحمامات".

 

يقول أهل العلم إن (ترويض النفس) مهمٌ وضروريٌ ومفيدٌ؛ فهذه النفس تجمح وتنفر فتحتاج إلى من يروضها وإلى من يسوسها، فما هي إلا كفرسٍ لم تُرَوْض فيحتاج فارسها أن يمتطيها وأن يكون قادراً على الإمساك بلجامها فحينئذ تُرَوْض له وتنقاد معه ويقودها حيث شاء، والطريق إلى ذلك هو أن تحرم نفسك من بعض شهواتها من أجل أن تملكها ولا تملكك، وتقودها ولا تقودك، وتسوسها ولا تسوسك، من أجل أن تقود نفسك بنفسك إلى طريق الخير والصلاح والاستقامة. و(ترويض النفس) تمرينٌ طويلٌ يحتاج إلى الصبر وقوة الإرادة.

 

وقالوا قديماً إن الواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يُجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حُلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه، ويكد في الهواجر ويسهر الليالي إلى أن يرتقي شرفات المجد والمعالي؛ فالمرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت.

 

وحين يتمكن الإنسان من ترويض نفسه يكون كما قال أحد الحكماء: قد أخرجه الله عزَّ وجلَّ من ذل المعاصي إلى عز التقوى؛ فأغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. يكون قد عوَّد نفسه الخوف من الله فيخيف الله منه كل شيء. ويكون قد رضي من الله باليسير من الرزق فيرضى الله منه اليسير من العمل. ويكون قد زهد في الدنيا فيثبت الله الحكمة في قلبه، ويُنطِق بها لسانه، ويبصَّره عيوب الدنيا ويُخرجه منها سالماً إلى دار السلام.

قال الشاعر:

وما الحرُّ إلا حيثُ يجعلُ نفسَه

ففي صالحِ الأعمالِ نفسَك فاجعلِ

وقال آخر:

والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها

وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنعُ

 

لقد نهانا المولى عزَّ وجلَّ عن اتباع هوى النفس؛ يقول تعالى: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، ويخاطب رسوله الكريم بقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وبقوله: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾.

هذه بعض الآيات التي تذم الهوى لما ينتج عنه من صدٍ عن الحق واتباعٍ للباطل.

قيل: البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه. وقيل: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى.

أما الشاعر فقال:

ومِن البلاءِ وللبلاءِ علامةٌ

أن لا يُرى لكَ عن هواكَ نُزوعُ

العبدُ عبدُ النفسِ في شهواتها

والحرُ يشبعُ تارةً ويجوعُ

لذلك كان (ترويض النفس) ومنعها من اتباع الهوى من أكثر ما يفيد المسلم؛ فهو طريقٌ يبدأ بمجاهدة هوى النفس وينتهي بالخلود في الجنة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أفلا تستحق هذه الجائزة الكبرى أن نتعب من أجل الحصول عليها، ونبذل الجهد والصبر؟

 

أحبتي .. كما يقال: إنما الحلم بالتحلم والأدب بالتأدب؛ فهكذا لا يمكن (ترويض النفس) إلا بإرادةٍ وعزيمةٍ وتصميمٍ؛ إرادةٍ واعيةٍ تدرك عواقب اتباع هوى النفس، وعزيمةٍ قويةٍ لا تستسلم لرغبات النفس الأمارة بالسوء، وتصميمٍ أكيدٍ على الإمساك بزمام النفس ومنعها من الإحساس بالغرور والكِبْر والعُجب بالنفس، ولنتذكر الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

أعاننا الله وإياكم على ترويض أنفسنا حتى يكون هوانا موافقاً لشرع الله وطريقه المستقيم؛ فننجو ونكون من الفائزين.


https://cutt.ly/GgHsWZA

الجمعة، 30 أكتوبر 2020

نعمة الاختلاف

 

الجمعة ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /263

(نعمة الاختلاف)

 

تقول صاحبة القصة: أنا مهندسةٌ أعمل في مكانٍ مرموق، تقدم للزواج مني زميلٌ من زملائي، ولأني شخصيةٌ عقلانيةٌ ولستُ عاطفيةً فقد بحثتُ مع أمي ظروفه فوجدناه ميسور الحال، والداه محترمان، فتم الزواج. أغرقني بمشاعره التي لم أعرف كيف أستقبلها؛ أنا شخصيةٌ عقلانيةٌ ومنهجيةٌ، أما هو فشخصٌ عاطفيٌ جداً لدرجة البكاء أحياناً. أنجبتُ «رقية» فكانت شبيهةً بوالدها؛ كلاهما عاطفيان يُحبان الأحضان والحركة، ومتكلمان ويتحركان دوماً! وكنتُ أكره ذلك. ثم أنجبتُ «ريهام» كأنها نسخةٌ مني، مثلي تماماً؛ عقلانيةٌ تتحدث بحساب، أشعر معها بالارتياح. أعترف صراحةً أني كرهتُ من داخلي شخصية «رقية»، لكن ظل عندي أملٌ في أن تتغير وتتحول إلى شخصيةٍ هادئةٍ مع كثرة انتقادي لها، لكن ما حدث هو أنها بقيت حركيةً، لم نتفق على شيءٍ، كنتُ أكره ذلك! كنتُ دوماً أقارن بين «ريهام» العاقلة المتزنة، وبين «رقية» العاطفية العشوائية، أو بالأحرى بين رزانة «ريهام» وتهور «رقية». زوجي كان يميل أكثر إلى «رقية»، وكان يصفني بالجفاف العاطفي. لاحظتُ مع تقدم البنات بالعمر ميل «رقية» إلى أبيها وتباعدها عني وكرهها لانتقاداتي، أما «ريهام» فقد كانت قريبةً مني، مريحةً وعاقلة.

فجأةً! مات زوجي في حادثٍ مروري، وكانت «رقية» بالصف الثالث الإعدادي و«ريهام» بالصف السادس الابتدائي، رحيله كان صعباً، تذكرتُ معاملتي له بجفاء، وشعرتُ بحرقةٍ في قلبي. وفي حين كان حزن «ريهام» هادئاً، فإن «رقية» قد انهارت تماماً، وصارت مندفعةً ومتهورةً، تتصرف بلا ضابطٍ ولا رابط، أصبحت في انعزالٍ دائم، تتباعد عني وعن أختها، أصرخ في وجهها وتصرخ في وجهي! هددتني يوماً أن تترك البيت، واتهمتني بأني لا أحبها، وبالفعل تركت البيت!

بحثتُ عنها كالمجنونة، إلى أن كلمني والد صديقتها وأخبرني بوجودها مع ابنته وزوجته، بكيتُ بحرقةٍ، ربما أكثر من يوم وفاة زوجي! ما الذي يُنفِّر هذه البنت مني؟ أنا محددةٌ حازمةٌ صارمةٌ، لكني لستُ طويلة اللسان، ولا أضربها إلا نادراً، وهي مثلها مثل أبيها؛ نفس العاطفة المفرطة التي لا أحبها. طلب والد صديقتها أن يراني ويتحدث معي، هو طبيبٌ نفسيٌ، قال لي إن «رقية» في حاجةٍ إلى أحضاني، وأنها تفتقدني، وتشعر بكراهيتي لها، وتفضيلي لأختها «ريهام» عليها. قلتُ له: "طبيعي؛ لأن «ريهام» أعقل"، قال لي جملةً عجيبةً: "«رقية» مختلفةٌ عنك، أحبي اختلافها، أولادنا ليس من الضروري أن يشبهوننا! الحياة تحتاج إلى الجميع، نظرة «رقية» إلى نفسها مشوهةٌ، وتقول إنك لا تحبينها"، شعرتُ بالضيق الشديد، قلتُ للطبيب: "أحبها واللهِ لكن ..."، قاطعني قائلاً: "ابنتك مختلفة الطباع عنك؛ هذا ليس عيباً فيها". لم أقتنع، وعادت فأعطيتها محاضرةً طويلةً في الأدب، وبكت كثيراً. لاحظتُ بعدها أنها أصبحت أكثر انعزالاً؛ ساكتةً دوماً، تعيش مع ذكريات أبيها. «ريهام» العاقلة الهادئة مريحةٌ وتفهمني. أفكر دائماً؛ ما فائدة هؤلاء العاطفيين؟ إنهم عبءٌ على العقلانيين!

مضت حياتنا في صراعٍ، إلى أن أصبحتُ وحدي؛ فقد تزوجت «رقية» من شخصٍ عاطفيٍ مثلها يقول لي دوماً: "يا ماما" و"أنتِ مثل أمي". حمدتُ الله أنها ذهبت من البيت. أما «ريهام» فقد تزوجت من دكتور بالجامعة.

بعد فترةٍ فاجأني مرضٌ خبيث. ردود «ريهام» العقلانية "اهدأي"، "تجلدي".

أما «رقية» فتبكي من أجلي، وتدعو الله لي كثيراً. عندي موعدٌ مع الطبيب؛ «رقية» تحمل ابنها الرضيع، وتكون عندي بسيارة زوجها قبل الموعد. أما «ريهام» فتعتذر لأنها تعاني من تعب الحمل، كما أنها لا تستطيع ترك ابنها وحده! أول مرةٍ بحياتي، وأنا مريضةٌ أعرف أن العواطف لها قيمة! حُضن «رقية» يُهوِّن عليّ آلامي، رغم أني لم أكن أحبه أبداً! أشعر -وأنا في الخمسين- أني طفلة! زوج «رقية» يقول لي من قلبه: "سلامتك يا ماما". كيف كرهتُ العواطف والعاطفية؟

«ريهام» حزينةٌ، لكن دعمها بحساب، تماماً مثل شخصيتها، أما «رقية» وزوجها فقد كان دعمهما لي وعطفهما بلا حساب!

بكيتُ من قلبي، وتذكرتُ سابق حياتي؛ احتضنتُ «رقية»، كم هو جميلٌ حضنها، بكت وبكيت.

هل في العمر متسعٌ لأستمتع بما لم أكن أفهمه وفهمته الآن؟ أم أن الأجل قد دنا؟ دعوتُ الله من قلبي: "يا ربِ اشفني، وامنحني العمر كي أسعد بابنتي المختلفة عني". وبالفعل استجاب الله لدعائي وشفاني والحمد لله رب العالمين. أنا و«رقية» الآن لا نفترق؛ أشعر أني قد اكتشفتُ كنزاً! كلامها يؤنسني وحضنها يهدئني. أنا و«رقية» نحيا أسعد أيامنا.

لا تكرهوا اختلاف أولادكم، بل أحبوا اختلافهم، وتقربوا منهم. لا تشوهوا نظرتهم إلى أنفسهم بسبب أنهم لا يشبهونكم. يقول تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾.

 

أحبتي في الله .. إنها (نعمة الاختلاف) تلك النعمة التي يغفل عنها كثيرٌ من البشر؛ وُلدوا وعاشوا وكبروا وهم يرون التنوع والاختلاف في كل شيءٍ حولهم: في البشر والدواب والأنعام والطيور والأسماك والزروع والثمار والمعادن والأجواء، وفي كل شيءٍ حتى في ألوان الجبال، ولأن هذا الاختلاف موجودٌ في كل مخلوقات الله، صار مألوفاً لديهم فلم يعودوا يُحسون بأنه آيةٌ من آيات الله، ونعمةٌ منه سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، والقائل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾.

ماذا لو لم يُنعم علينا المولى سبحانه وتعالى بهذه النعمة (نعمة الاختلاف) ونعمة التعددية؟

هل يمكن أن نتخيل كيف تكون حياتنا لو كان هناك نوعٌ واحدٌ فقط من الخضار أو الفاكهة؟ أو لو أنها كانت كلها بلونٍ واحدٍ فقط؟ هل يمكن أن نتخيل حديقةً جميلةً ليس بها إلا نوعٌ واحدٌ من الزهور، وبلونٍ واحدٍ؟ هذه بالطبع مجرد أمثلة، ولو أردنا أن نعدد أشكال (نعمة الاختلاف) ما استطعنا، وهي نعمةٌ واحدةٌ فقط من كثيرٍ من نعم الله الكثيرة التي تغمرنا، سبحانك ربنا وأنت القائل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾، تعاليت ربنا وأنت القائل: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

 

وإن كان التنوع هو سُنةٌ من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإنه أوضح ما يكون في البشر؛ كيف يمكن تصور شكل الحياة في هذه الدنيا إن كان كل من بها ذكورٌ فقط أو إناثٌ فقط؟ وكيف ستكون لو أن البشر جميعهم خُلقوا على هيئةٍ واحدةٍ وشكلٍ واحدٍ لغتهم واحدةٌ ولونهم واحدٌ وطولهم واحدٌ وفهمهم واحدٌ، وميولهم واحدةٌ؟ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾، ويبين سبحانه وتعالى وجهاً من وجوه حكمة الاختلاف والتنوع بقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾.

وتمتد (نعمة الاختلاف) بين الناس لتطال العقل والفهم والحكمة؛ ليكون التنوع مصدر قوةٍ للأمم إذا أُحسنت إدارته، ويكون سبباً في ضعفها إذا أساءت إدارته، ويكون وبالاً على الجميع إذا حاربته، بأية حجةٍ كانت، فتحرم نفسها من (نعمة الاختلاف) فيكون مصيرها كمصير قوم فرعون حين قال لهم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فصدقوه وأيدوه وأعانوه وأطاعوه؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ وكان مصيرهم في الدنيا ﴿ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ أما مصيرهم في البرزخ وفي الآخرة فكان ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾، فهذا الذي قال لا أريكم إلا ما أرى ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾.

إنها سُنة الله تجري على الأمم والأقوام والأُسر والأفراد؛ إذا هم قبلوا بالتنوع والاختلاف في الآراء والأفكار وأحسنوا إدارة الاختلاف سعدوا، أما إذا ساروا كالقطيع وراء من يقول لهم ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، فكبتوا الرأي الآخر، وأقصوا أصحابه وآذوهم وضيقوا عليهم، شقوا جميعاً وضعفت شوكتهم؛ فعدم التفاعل مع الرأي الآخر يصيب أصحاب نظرية الرأي الواحد بالجمود والتحجر.


ومن الاختلاف -كما يقول العلماء- ما يكون مذموماً كالخلاف الناتج عن الغرور والكبْر والعُجب، أو الخلاف الذي يكون سببه طلب المحافظة على الزعامة والجاه، والخلاف الناتج عن سوء الظنّ بين المختلفين واتّهام بعضهم البعض بالباطل، أو ما يكون بسبب قلّة العلم، أو بسبب تغليب الأهواء الشخصية على المصالح العامة.

 

أحبتي .. لنتقبل الفروق الفردية بين أبنائنا، ولنعلم أن الله سبحانه وتعالى و﴿هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ و﴿هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قد خلقنا مختلفين وأنعم على كلٍ منا بمواهب وقدراتٍ وميولٍ غير التي أنعم بها على غيرنا؛ ليُكمِّل كلٌ منا الآخر. وفي أُسرنا علينا أن نشجع أبناءنا على إبداء آرائهم بحُريةٍ، والتعبير عن أفكارهم بصراحةٍ، ونزيد من مساحة الحوار والتواصل والتفاعل الإيجابي فيما بيننا، ولنعلم أنه ليس معنى أن يكون أحدنا على صوابٍ أن يكون الآخر على خطأ؛ فربما يكون الاثنان على صوابٍ، كلٌ من وجهة نظره. وليكن شعارنا "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". علينا ألا نخلط بين الرأي أو السلوك وبين صاحبه، من حقنا أن نرفض رأياً أو سلوكاً، لكن ليس من الحكمة أن نرفض صاحبه ونُشعره بعدم حبنا له أو كُرهنا لشخصه.

وفقنا الله وإياكم لشكر (نعمة الاختلاف) بإدارة التفرد بين أبنائنا بصبرٍ وذكاءٍ لتحقيق مراد الله في خلقنا مختلفين.

https://cutt.ly/HgUlrUE

الجمعة، 23 أكتوبر 2020

الاهتمام والتفقد

 

الجمعة ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /262

(الاهتمام والتفقد)

 

هذه قصةٌ كتبتها فتاةٌ شابةٌ في دفتر مذكراتها، تألمت بداخلها فترةً طويلةً دون أن تُخبر أحداً من عائلتها. عانت ما عانت في صمتٍ، واشترت فرحة أهلها بمعاناتها. كتبت تقول:

يكاد المرض ينهش بجسدي .. يحاول القضاء على بسمتي .. يحاول القضاء على شبابي .. لم أكمل عامي العشرين إلا وهذا المرض قد افترس جسدي بأكمله .. بدأ الألم بوخزةٍ سريعةٍ بقلبي .. وتوالت الوخزات، وبدأت نوبات الألم. تألمت بصمت، لم يشعر أحدٌ بمرضي الخطير؛ كنتُ أصبر على المرض، أتحمل الألم وأخفيه عن أعينهم؛ لا أريد أن يصيبهم الحزن .. مرت ليالٍ وأنا أبكي وأتأوه بصمت، ومع مرور الأيام، بدأتُ أشعر بأن المرض ينتقل من قلبي إلى بقية أعضاء جسدي النحيل إلى أن وصل لأخمص قدميّ، بدأت الهالات السوداء تتمركز تحت عينيّ، وبدأت الشحوب تغزو محيايّ .. كنتُ مترددةً في الذهاب إلى الطبيب، ولكني وصلتُ لحالةٍ لا أستطيع فيها تحمل الألم.. ذهبتُ وكنتُ متوقعةً ما سأسمعه. أجريتُ الفحوصات المتعبة والمملة.. تقدم إليّ الطبيب والارتباك واضحٌ على محياه .. سألني: "كم عمركِ يا صغيرتي؟"، أجبته: "سأكمل عامي العشرين بعد خمسة أشهر"، فطأطأ رأسه وسكت لبرهة .. "ألن أكمل عامي العشرين يا دكتور" سألته؛ فرَّد بقوله "الأعمار بيد الله" ..

"ولكني أشعر بأني لن أكمله؛ فالمرض قد سيطر على جسدي" قلت له، فسألني: "صغيرتي، منذ متى وأنت تعرفين عن معاناتك ومرضك"؟، أجبت: "منذ سنة"، سأل: "مَن يعلم مِن أهلك"؟، قلت: "لا أحد، سوى دفاتري وكتبي فقط.. نعم، لم أخبر أحداً حتى لا يعيشوا بحزنٍ أبديٍ؛ فأنا أعلم أن والدتي ستحزن كثيراً لفراقي فأنا ابنتها الوحيدة، ولطالما حلمت أن تراني بفستاني الأبيض، وتحمل أطفالي على كتفها، وينادونها جدتي.. ولكن هيهات؛ فأنا أشعر بألمي؛ فلم يبقَ إلا القليل .. ولكني ما زلتُ أقابلها كل صباحٍ بوجهٍ مشرقٍ وأداعبها لأنني لا أريد أن أُشعرها بأي تغيير .. حاولتُ أن أخبر أخي، ولكني وجدته مشغولاً بتجهيزاته لزفافه .. يأتي ليلاً إلى غرفتي منهكاً، يجلس بجانبي على السرير، يُخبرني عن حبه الكبير لزوجة المستقبل، يُخبرني ماذا اشترى لها من هدايا، وعن مفاجأته لها برحلةٍ لمدة شهرٍ لأستراليا، يخبرني عن شوقه لهذا اليوم الذي لم يبقَ عليه إلا خمسة أشهر، فكيف أخبره بمرضي وهو بغاية السعادة؛ أتود مني أن أقتل فرحته؟ أما والدي؛ فأنا ظللتُ طوال عمري أخجل منه، رغم أنني دائماً أختلس النظرات إليه؛ فأنا أحبه كثيراً وأعتبره قدوتي .. كنتُ أحلم بفتى أحلامٍ يشبه والدي .. هل علمتَ الآن يا دكتور لماذا لم أخبرهم؟ حتى لا يعيشوا الحزن.. فلو أخبرتهم؛ لما جهز أخي لزفافه، ولما رأيتُ السعادة تشع من عيني والدتي ووالدي، رغم مرور ثلاثين عاماً على زفافهما إلا أن الحب ما زال يحيط بينهما.. دكتور.. ها أنت الوحيد بعد الله الذي يعلم بمرضي، لذا سأترك معك هذا الصندوق به وصيةٌ صغيرةٌ أتمنى أن تسلمها لوالدتي يوم وفاتي".

"صغيرتي؛ ما هذا الكلام؟ الله قادرٌ على كل شيء".

"اطمئن إيماني بالله كبير، ولولا هذا الإيمان لما استطعتُ أن أصبر هكذا على المرض، ولكن العمر ينتهي وأود أن أكتب كلماتٍ لوالدتي تقرأها بعد وفاتي، هل تعدني بذلك"؟

"حسناً، أعطني الصندوق، ولا تنسي تناول الأدوية".

"متى أمرّ عليك"؟

"تعالي بعد أسبوعين، وإن شعرتِ بتعبٍ فاتصلي بي فوراً".

"حسناً، إلى اللقاء .. شكرا لك يا دكتور".

عُدتُ إلى منزلي .. انفردتُ بنفسي في غرفتي.. تناولتُ أدويتي .. واستلقيتُ على السرير لآخذ قسطاً من الراحة..

ومرت الساعات .. تلو الساعات .. وكانت آخر اللحظات..

وفُتحت الوصية .. قرأها الدكتور وهو يبكي ..قرأها والكل يبكي معه.. قرأ كلمات تلك الشابة.. كتبتها بخطٍ جميل .. كتبت لوالدتها: "أحبكِ والدتي؛ كنتِ صديقتي .. أختي .. والدتي، اعذريني لأن مرضي كان السر الوحيد الذي أخفيته عنكِ، لم أقوَ أن أخبركِ أني مصابةٌ بالسرطان، لم أقوَ أن تسهري معي وترين نوبات ألمي، لم أقوَ أن أقتل الابتسامة من على محياك الجميل.. والدتي، أتعلمين أني كنتُ أحسدك على أمر ما؟ سأخبرك إياه الآن.. حسدتك مراراً على عشق والدي لكِ .. فلم أرَ بحياتي قصة حبٍ تضاهي حبكما .. وكنتُ أحلم بشابٍ يأخذني بين ذراعيه ويحيطني بالحب ثلاثين عاماً وأكثر.. ولكن شاء الله ألا أكمل عامي العشرين .. والدتي، لا تبكِ على وفاتي.

أخي الحبيب، كم أحببتك وأحببتُ مغامراتنا معاً .. وكم كنتُ سعيدةً عندما أكون معك وصديقاتي يُطلن النظر إليك

معجباتٍ بك.. لا أريدك أن تؤجل زواجك ولكن لي طلبٌ بسيطٌ إن رزقك الله بطفلةٍ فسمها باسمي «شوق».

والدي، فخري وعزتي .. فرحي وسروري .. لو تعلم مقدار احترامي لك .. مقدار الحب الكبير الذي يُكنه قلبي لك..

والدي أنت مثال الأب الرائع .. لن أوصيك على والدتي؛ لأنني أعلم ما بينكما من حبٍ صادق.

دكتوري، أشكرك من أعماق قلبي لكتمانك سري.

لا تنسوني جميعكم من الدعاء.. أحبكم.. كنتُ أريد أن تروني أبتسم في اللحظة الأخيرة.. ولكن ها أنا أموت وحدي".

 

أحبتي في الله .. رحم الله «شوق»، وصبَّر أهلها على فراقها.

لن أناقش إن كان ما فعلته -بإخفاء أمر مرضها عن أسرتها- صواباً أم لا .. وهل خفف بالفعل من حزنهم عليها بعد وفاتها؟ أم أنه زاد من ندمهم على أنهم لو كانوا يتفقدونها ويطمئنون على أحوالها ما تركوها تواجه مرضها وحدها وما كانوا فقدوها بهذه السرعة؟

قدر الله وما شاء فعل، لكن ما استرعى انتباهي أكثر هو عدم تفقد الوالدين لأحوال ابنتهما طوال فترة إصابتها بهذا المرض الخبيث، ومعاناتها وصبرها على أوجاعه وآلامه ألم يلاحظ أحد الوالدين أي تغيرٍ طرأ عليها؟ ألم يحس أحدهما بضعفها وهزالها؟ وعند وصل الأمر إلى شحوب وجهها ألم يلاحظ أيٌ منهما ذلك؟ وإذا كان الأب كالعادة مشغولاً خارج البيت -وهذا ليس بعذر- أين كانت الأم؟

 

الأمر المهم إذن هو (الاهتمام والتفقد)، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية ذلك في الآية الكريمة عن سيدنا سليمان حينما: ﴿تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾. كما وردت إشارةٌ أخرى عن (الاهتمام والتفقد) في القرآن الكريم بصيغة أخرى هي "التحسس"؛ ففي قصة سيدنا يوسف قال يعقوب عليه السلام لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما؛ إذ فقد يعقوب ابنَه يُوسُفَ طفلاً لِسنينَ طويلة، ثُم فقدَ ابنَه الآخر، ولمْ ييأْسْ من تفقدهما والبَحث عنهما.

 

يقول أهل العلم إن تَفَقُّدُ الشخصِ هو السؤال عنه، ومعرفة سبب غِيابه، ومَآل حاله، وتقديم يد العون له إذا احتَاج، وهو خُلُقٌ كريم يدْعو إليه الإسلامُ، وتحمله النفوس الطيِّبة، وكان من شمائل أخلاق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه: "يَتفَقَّد أصحابَه، ويسأل الناسَ عمَّا في الناس"؛ فهذا هو صلى الله عليه وسلم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه، فأتاه فوجَدَه جالسًا في بيته مُنكِّسًا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال ثابت: شرٌّ؛ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبَرَه أنه قال كذا وكذا، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: [اذهب إليه فقل له: إنَّك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة].

كما تَفَقُّد صلَّى الله عليه وسلَّم امرأةً سوداء كانت تَقُمُّ المسجد "أي تجمع قمامته"؛ فسأل عنها الصحابة، فقالوا: ماتت، قال: [أفلا كنتم آذنتموني؟] "أي أعْلمتُموني بموتها"، فكأنهم صَغَّروا أمرها، فقال: [دُلُّوني على قبرها]، فدلُّوه فصلَّى عليها.

وورد في الأثر: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وهو للزجر وليس للتكفير.

 

وهذا شخصٌ سكن في حيٍ جديدٍ وأراد أن يتعرف على جيرانه القريبين ويتفقدهم فسأل عنهم في المسجد؛ فقال بعضهم: أما هؤلاء فلا نراهم يصلون في المسجد، وفيهم، وفيهم! فقام بزيارتهم، فوجد أحدهم في فترة نقاهةٍ من عملية زراعة كِلية، والآخر مصابٌ بحساسيةٍ شديدةٍ في الصدر، والثالث يعاني من مرض في القلب ونصحه الأطباء بلزوم البيت. لولا (الاهتمام والتفقد) ما كان ليكسب ثواب زيارتهم والسؤال عنهم، وثواب تعديل وتغيير نظرة الآخرين لهم بعد أن أطلع الآخرين على ما هم فيه وما لهم من أعذار، فضلاً عن ثواب كل مساعدةٍ ومعاونةٍ استطاع أن يقدمها لهم.

 

يقول أحد العلماء إن تفقُّد أحوال الناس يفتح باباً واسِعاً على الإنسان لِجَمْعِ الحسنات ومَحْوِ السيئات؛ فإنَّه يعني: عيادة المريض، والإحسان إلى المحتاج، والتفريج عن المكروب، وغير ذلك من أعمال البرِّ والفلاح، التي أقلُّها الاهتِمام بأمر المسلم. ومن التفقُّد تحرِّي معرفة حال الإنسان لتقديم المساعدة له، سواء أكانت هذه المساعدة مساعدة ماديَّة أو معنويَّة؛ فالماديَّة كتقديم مال يَتجاوَز به محنته، أو إعانته على حاجةٍ له، والمعنويَّة كالجلوس معه، ومشاركته همومه، وغير ذلك. وليس تحرِّي معرِفة حال الأخ من الفضول والتدخُّل فيما لا يَعنِي؛ بل هو من حُسْنِ الإخاء، وكرم الأخلاق، ومُقتَضَى المروءة.

 

ورغم سهولة وتنوع وسائل وأساليب التواصل والاتصال وانتشار الهواتف المحمولة إلا أن الكثير منا ما يزال مقصراً في تفقد غيره، كما أن غيرنا مقصرٌ في تفقد أحوالنا!

لقد أخذتنا الحياة المعاصرة بمشاغلها بعيداً عن بعض؛ حتى أصبح من النادر أن يجتمع أفراد الأسرة الواحدة على مائدة الغداء معاً! وحتى صار المحظوظ فينا مَن يجد من يسأل عنه ويطمئن على أحواله ويتصل به لغير مصلحة!

 

أحبتي ..هذه دعوةٌ إلى المزيد من (الاهتمام والتفقد)، دعوةٌ إلى أن يتفقد بعضنا بعضاً؛ نتفقد أفراد أسرنا، وأقاربنا وجيراننا وأصدقاءنا وزملاءنا في العمل، ومَن يواظبون على الصلاة في مسجدنا؛ ربما كان منهم مَن هو محتاجٌ متعففٌ يمنعه حياؤه عن السؤال فنساعده، أو مريضٌ لم يُخبر أحداً بمرضه فنواسيه، أو باحثٌ عن عملٍ يكفل له ولأسرته عيشاً كريماً لكنه يخجل من الطلب فنعينه وندعمه، أو مَن توفاه الله فنقوم بواجب الصلاة عليه والدعاء له ونعزي أهله، وغير ذلك من حالات.

اللهم أنر بصائرنا وألن قلوبنا واهدنا إلى الصراط المستقيم، لا يهدي إليه إلا أنت سبحانك، واجعلنا اللهم ممن يهتمون بغيرهم ويتفقدونهم عسى أن نجد من يهتم بنا ويحمل همنا ويتفقدنا؛ فالجزاء من جنس العمل.

https://cutt.ly/TgvJViz

الجمعة، 16 أكتوبر 2020

عقوق الآباء

 

الجمعة 16 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /261

(عقوق الآباء)

 

كتبت تحكي قصتها فقالت: أنا سيدةٌ أبلغ من العمر إحدى وستين سنة، أنعم عليّ ربي بابنتين وولد، تزوجت ابنتي الصغرى منذ سبع أعوامٍ، وتزوج ابني منذ خمس عشرة سنة، وبقيت معي ابنتي الكبرى؛ حيث تقدم لها كثيرون من راغبي الزواج غير أني كنتُ أرفضهم واحداً تلو الآخر، فمنذ أن تزوجت ابنتي الصغرى وأنا أتكل على الكبرى اتكالاً تاماً في كل شيء؛ لا أرفع حتى كوب الماء، أوقظها من نومها لأتفه الأسباب، أدَّعي المرض الشديد لأجل أن تخدمني في كل شيء. كانت تحاول إرضائي بكل الوسائل، وكنتُ أنا أشعرها دوماً بأنها مُقَّصِرةٌ مهما فعلت، نادراً ما أشكرها أو أدعو لها، كانت تقوم بكل أعمال المنزل، وأنا لا أقوم من فرشتي إلا لقضاء الحاجة -أعزكم الله- أو للوضوء، وأنا سليمةٌ معافاةٌ، كنتُ أفتعل المشاكل معها وأصرخ عليها باستمرار، أصبحتُ أريد أن أتملكها لتبقى خادمتي الأبدية، وسوس لي شيطاني بأن أحرمها من الزواج؛ فهي لي وحدي، وكل ما تملك لي، كانت تتقاضى راتباً من تقاعد زوجي، رحمه الله، وكانت تصرفه عليّ وعلى طلباتي التي لا تنتهي، ما أشتهي شيئاً إلا ويكون عندي، ربي يغفر لي ما فعلت. كنتُ كلما أتى عريسٌ لها أرفضه وأزعم أن فيه عيوب الدنيا. كنتُ أعمل أموراً غير جيدةٍ أمام العرسان وأهلهم كي أُنفرهم؛ كأن أرفع صوتي، أو أن أتكلم بشكلٍ تافهٍ، أو أن أتصرف بشكلٍ غير لائقٍ بسيدةٍ في عمري، وعندما تعاتبني ابنتي أبدأ بالصراخ عليها وأعنفها وأشتمها بألفاظٍ نابيةٍ فما يكون منها إلا أن تصمت وتبكي. لم أهتم أبداً بمشاعرها، ولم أفكر فيها وفي مستقبلها، ولا حتى في أبسط حقوقها وهو أن تتزوج ويكون عندها طفلٌ يبرها كما هي برتني، كنتُ أنانيةً لأبعد الحدود، حرَّمتُ ما أحل الله وأمر به، المهم نفسي نفسي، مع أنني كنتُ ضد من يمنع ابنته أو ابنه من الزواج لكي يحتكره لنفسه، وكنتُ أحتقرهم وأتعجب منهم، لكن لا أعرف ماذا حصل لي؟ وكيف سيطر الشيطان عليّ وصور لي أموراً غريبةً كالعيش وحدي لا أحد معي؟ ومَن سيخدمني؟ ونسيتُ أن الله معي وهو يرعاني، وأنّ مَن عنده ابنةً مثل ابنتي لن يضيع حتى لو تزوجت، ألم أتزوج أنا وأخواتي؟ ألم تعش أمي لوحدها وكنا نزورها باستمرار وكانت سعيدةً جداً بنا وبأطفالنا؟

بدأت ابنتي تشعر بأنني أقف في طريقها بلا رحمة كالوحش المفترس، كبرت وعندما أصبح عمرها أربعين سنةً تقدم عريسٌ متواضعٌ لخطبتها، جُن جنوني؛ كيف مازال هناك خاطبون لها وهي بهذا العمر؟ لم يعجبني الأمر أبداً، بينما هي كانت تبدو عليها ملامح الفرح والأمل، لكن كيف تفرح؟ يجب عليّ قتل هذا الفرح فهي عبْدتي أنا! وكالعادة حاولتُ تطفيش العريس وأهله، وبدأتُ أضايق ابنتي وأفتعل المشاكل معها؛ كنا في رمضان، وفي وقت السحور ليلة السابع والعشرين افتعلتُ معها مشكلةً بادعاء أن هذا السحور لا يعجبني، وأنها مُقصرةٌ معي، فقالت لي: "أنا أعرف يا أمي لِمَ تفعلين كل هذا معي؛ أنتِ لا تريدين لي أن أتزوج، أليس حراماً عليك أن تفعلي بي هذا؟ هل قصرتُ معك؟ قضيتُ سنين عمري بجانبك وكبرتُ وأنا أرعاك؟ أليس من حقي أن أتزوج؟"، وأخذت تبكي، وأنا لا أهتم لها ولا أرحم دموعها، بل قلتُ لها مستهزئةً: "مَن الذي سيتزوج عجوزاً مثلك يا عانس؟ احمدي ربك أنك معي"، لا أعرف كيف نطقتُ هذه الكلمات، وفجأةً رأيتُ ابنتي ترفع يديها إلى السماء وتدعو وتقول: "يا رحمن يا رحيم، ارحمني مما أنا فيه؛ فأنا ما عدتُ أريد الزواج، ولا أريد البقاء مع أمي، فخذني إلى جوارك يا رب"، وبقيت تكرر كلمة "يا رب" إلى أن اختنق صوتها ووقعت على الأرض، استنجدتُ بالجيران ونقلناها إلى أقرب مستشفى، أدخلوها العناية المركزة، وأخبرني الطبيب أنها أُصيبت بجلطةٍ حادةٍ في الدماغ وأنها في غيبوبة. في اليوم التالي تجمع الأهل والأصحاب وابني وابنتي الصغرى حولها، كلنا كنا حولها، أصابني انهيارٌ وبكيتُ بحرقةٍ، وليس في ذهني إلا سؤالان: ماذا فعلتُ بها؟ وبأي حقٍ؟ كنتُ بجانبها أتلو القرآن، فجأةً فتحت عينيها أمام الجميع ورأتني فقالت بصوتٍ خافتٍ: "ظلمتيني يا أمي، والله سيأخذ حقي، ألقاك يوم الحساب" ثم نطقت بالشهادتين وشهقت ولفظت أنفاسها الأخيرة وماتت. صُعق الأطباء من يقظتها؛ فهي ميتةٌ دماغياً، لكني عرفتُ بأن الله أيقظها لتقول لي ما قالت، ويا ويلي من ربي؛ فقد قتلتُ ابنتي مرتين؛ مرةً حين ظلمتها، ومرةً حين تسببتُ في وفاتها.

صُعقت أنا وانهرت، ماذا فعلتُ بابنتي؟ ظلمتها وحرمتها من أبسط حقوقها وهو الزواج، وتسببتُ بموتها، والمصيبة الأكبر ما قالت، سوف يعاقبني الله، وأي عقابٍ، يا رب سامحني، يا رب اغفر لي.

بقيتُ وحدي، ماتت ورحلت إلى الأبد، يا ليتني تركتها تتزوج، لكنتُ أراها كل فترةٍ وأحتضن أطفالها الذين كانت تحلم بهم، وما كانت ستقصر معي؛ فهي بنتٌ تقيةٌ نقيةٌ حنونةٌ، لكني لم أحفظ هذه النعمة. حرمتها من حياتها فحرمني الله منها إلى الأبد. الكل احتقرني على فعلتي بها بعد أن أخبرتَهم هي عن السبب قبيل موتها.

هذه جريمتي باختصار، أنا لا أنام الليل وأنا أراها أمامي في لحظاتها الأخيرة، أدعو لها وأدعو أن يرحمني ربي، لم أكن أماً صالحةً معها أبداً.

قررتُ نشر قصتي لينتبه الآباء والأمهات فلا يظلمون أبناءهم. البِر ليس مطلوباً من الأبناء تجاه والديهم فقط، بل أيضاً البِر مطلوبٌ من الوالدين تجاه أبنائهم أيضاً. الدنيا لا تستحق، لقد ظلمتُها وظلمتُ نفسي ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾.

 

أحبتي في الله .. يقول العلماء إنه ينبغي أن يعلم الابن أن حق الوالدين عظيم، قد ذكره الله تعالى في القرآن في عدة مواضع قارناً إياه بالتوحيد؛ كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم البر بالوالدين مقدماً على الجهاد؛ فلما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أَيّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قال: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]، [ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ]، [ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ]. وينبغي أن يعلم الابن أن بره بوالديه ليس بمقتضى عقدٍ يقابَل به حقٌ بحق، وواجبٌ بواجب، بل هو مأمورٌ ببرهما على أية حال، فيُحسن إليهما وإن أساءا، ويصلهما وإن قطعا، ويعطيهما وإن منعا. غير أن هذا لا يعني أنه ليس على الوالدين واجبٌ تجاه أبنائهما، فعليهما أن يُحسنا تربيتهم، ويعلماهم صلة الرحم، ويكونا قدوةً لهم في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فضلاً عن النفقة عليهم، فإن قصَّرا في ذلك، فإنهما سيريا أثر تقصيرهما لا محالة؛ يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

 

وحذرت الشريعة الإسلامية الآباء من عقوق أبنائهم؛ حيث قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [ألا كُلّكُم راعٍ، وكلّكُم مسئولٌ عن رعيّتهِ]، وممن خصَّهم في هذا الحديث [والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ، وهو مسئولٌ عنهم].

ومن (عقوق الآباء) عدم وفائهم بحقوق أبنائهم؛ ومنها: اختيار الأسماء الحسنة لهم، وتعليمهم، والإحسان إليهم في المعاملة. وكذلك العدل بينهم؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [اتَّقوا اللهَ، واعْدِلُوا بينَ أولادِكمْ، كما تحبونَ أن يَبَرُّوكُم]. والنفقة عليهم، وحُسن تربيتهم؛ بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. كما أن اختيار الأمّ الصالحة ذات الدين هي حقٌ من حقوق الأبناء.

 

ويرى أهل العلم أنّ (عقوق الآباء) لأبنائهم من أمراض المجتمع التي لا بُد من الانتباه إليها. ويظهر العقوق في صور عديدة؛ منها: التفرقة في المعاملة، والاستبداد بالرأي خاصةً فيما يتعلّق بمستقبل الأولاد كاختيار التخصص الذي سيدرسونه، أو تزويج الفتاة دون رضاها. كما يظهر في الاهتمام بطعام الأبناء وشرابهم على حساب تربيتهم؛ فيهمل الآباء تربية أبنائهم بحجة الانشغال بجمع الأموال لتحسين حياتهم، رغم أن التربية أهمّ من الحرص على جمع المال. ومن صور (عقوق الآباء)؛ الدعاء على أبنائهم، وكَيْل السباب لهم في كل صغيرةٍ وكبيرة، وتعنيفهم بدنياً ولفظياً. والغريب أن يتوقع مثل هؤلاء الآباء من الأبناء أن يكونوا بارين بهم!

 

ومما يُروى عن (عقوق الآباء) أنه جاء رجلٌ في أحد الأيام لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو عقوق ابنه، فطلب عمر إحضار الولد، فلّما جاء أنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ فقال: نعم، فقال الولد: فما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: أن يُحسِن اختيار أمه، ويُحسِن تسميته، ويعلمه القرآن الكريم، فقال الولد: فإنّ أبي لم يفعل شيئاً من ذلك؛ تزوج من زنجيةٍ كانت لمجوسيٍ فأنجبتني، وسمّاني جُعلاً "أي خنفساء"، ولم يُعلمني حرفاً واحداً من القرآن. فنظر عمر بن الخطاب إلى الرجل وقال له: "جئتني تشكو عقوق ولدك، وقد عققتَه قبل أن يعقّك، وأسأتَ إليه قبل أن يسيء إليك".

 

ورد في الأثر: "أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماءٌ ظليلة، وبهم نصول عند كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودَهم، ويحبّوك جهدَهم، ولا تكن عليهم قفلاً فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك".

 

أحبتي .. ليس أبغض من عقوق الأبناء إلا (عقوق الآباء). وما أحمق الوالد الذي يُهين أبناءه، ويُسيء معاملتهم، ويُضيِّع حقوقهم ويظلمهم؛ فما أعجل عقوبته في الدنيا، يُسلط الله تعالى عليه من يُهين كرامته، وربما حصل له ذلك من أبنائه أنفسهم، فيرى منهم ما يكره في كبره ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾؛ فالظلم من الذنوب المعجلة عقوبتها في الدنيا، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. فلنحسن معاملة أبنائنا ولا نعقهم، ونعزِّز في نفوسهم مكارم الأخلاق؛ لنجدهم أكثر بِراً بنا وأعظم إحساناً إلينا.

اللهم اجعلنا وأبناءنا متحابين، محافظين على حقوق بعضنا بعضاً، واجعلنا اللهم أقرب ما نكون من البِر والإحسان، وأبعد ما نكون عن العقوق والخسران.

 

https://cutt.ly/Xggm1lq

الجمعة، 9 أكتوبر 2020

طريق السعادة

 

الجمعة 9 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /260

(طريق السعادة)

 

أهدي قصة خاطرة هذا الأسبوع إلى كل حائرٍ في هذه الدنيا، تائهٍ، فاقدٍ للبوصلة الصحيحة التي ترشده إلى بر الأمان .. أهديها إلى كل باحثٍ عن السعادة، يريد أن يعرف كيف يصل إليها ..

لن أطيل؛ أترككم مع تفاصيل القصة، وهي حقيقيةٌ، يرويها صاحبها بنفسه؛ كتب يقول:

بدأتُ حياتي منذ نعومة أظفاري في أسرةٍ عمادها الطُهر والفضيلة. لا أنسى أيام الطفولة الجميلة يوم أن دخلتُ المدرسة الابتدائية، كنتُ لا أرضى بأي تقديرٍ دون الامتياز، وبالفعل كان التفوق والامتياز حليفي، حتى وصلتُ إلى المرحلة المتوسطة حينئذٍ تغير مجرى حياتي؛ ففي السنة الأولى من المرحلة المتوسطة التقيتُ بمجموعةٍ من الشباب المنحرفين، كنتُ أعلم أن والدي لم يكن ليرضى أن أرافقهم، لكن نداء الشيطان كان أعلى من صوت أبي، بدأتُ أولى خطوات الانحراف بالالتقاء مع رفاقي دون علم والدي. مضت الأيام وخطواتي الشيطانية تمتد وتطول يوماً بعد يوم، وسرعان ما أوصلتني تلك الخطوات مع رفاق السوء إلى بلاد العُهر والرذيلة؛ حيث أدمنتُ السفر إلى تلك البلاد، لم أكن أملك في ذلك الوقت إلا القليل من النقود، ومع تكاليف السفر، وإنفاقي على الشهوات، كان لا بد لي من مصدر دخلٍ أحصل منه على المزيد من المال، فكانت الخطوة الشيطانية التالية هي اشتراكي مع بعض رفاقي في السرقة طمعاً في الحصول على المال، وبعد أيامٍ من تعلّم السرقة، وممارسة النصب والاحتيال، أصبحتُ أمهر رفاقي في جمع المال فصرتُ زعيماً لهم، أتحكم فيهم كيفما أشاء. ومع توفر المال استقبلتُ حياة الوهم الجديدة، أتنقل بين أفخر الشقق المفروشة، وأتناول أفخر الأطعمة، كنتُ أظنُّ أن المال هو (طريق السعادة)؛ فكل شيءٍ يمكن الحصول عليه بالمال. مضت الأيام وأنا ألهث بحثاً عن السعادة، ولكن دون جدوى؛ فقد كنتُ كالذي يشرب من ماء البحر، لا يزداد بالشرب إلا عطشاً، ولما لم أجد ضالتي في حياتي البائسة، توجّهتُ إلى عالَمٍ آخر أبحث فيه عن السعادة، حيث المخدرات، ومصاحبة العاهرات. بلغ إنفاقي اليومي قرابة خمسة آلاف ريال بسبب إدماني على المخدرات، وعلاقاتي مع النساء. ومع هذا كله لم أكن أشعر بالسعادة إلا لحظاتٍ قليلة، ثم يتحول يومي بعدها إلى همومٍ وأحزان. لقد غرقتُ في بحور الشهوات، وتُهتُ في دهاليز الظلمات. نكدٌ في العيش، وظلمةٌ في القلب، وضيقٌ في الصدر. ولم أزل أمارس جريمة السرقة حتى شاء الله تعالى أن يُقبض عليّ متلبساً بالسرقة مع بعض رفاقي، وما هي إلا لحظاتٌ فإذا أنا حبيسٌ وراء القضبان في ظلمة السجن، وكل ذلك بسبب إعراضي عن ذكر ربي.

استيقظتُ من غفلتي، وصورة والدي الحبيب في مخيلتي، ونصائحه المشفقة كأني أسمعها لأول مرة. شعرتُ وكأنما نداءٌ ما في أعماق قلبي يناديني: "ألا تستحيي من الله؟ ألا تتوب إلى الله"؟ بلى، أريد أن أتوب، لكن الأمر لم يكن سهلاً؛ صراعٌ مريرٌ بين نفسي التي تعلقت بالشهوات، وبين نداء الإيمان في قلبي. وبينما أنا في هذه الحال تتقاذفني أمواج الصراع إذ بالقاصمة تنزل على ظهري؛ ففي أحد الأيام اتصلتُ بأهلي لأطمئن عليهم، فإذا بالخبر المؤلم: "أحسَن الله عزاءك"، "مَن الفقيد"؟ إنه والدي الحبيب، بكيتُ بكاءً مُراً، وحزنتُ حزناً شديداً على هذا الأب الرحيم، الذي طالما بكى وبكى بسبب إجرامي وانحرافي.

كانت هذه الأحداث المؤلمة بدايةً حقيقيةً للاستقامة والإنابة إلى الله تعالى؛ لقد أقلعتُ عن الذنوب والمعاصي، وأقبلتُ على الصلاة والقرآن. وأخيراً، وبعد سنواتٍ من الألم والمعاناة، وجدتُ (طريق السعادة)، أتدرون أين؟ لقد وجدتُه في تقوى الله، كما قال الشاعر:

ولستُ أرْ السعادةَ جمعَ مالٍ           ولكنّ التقيَ هو السعيدُ

إنني أحدثكم الآن من بين جدران السجن، وأنا أشعر ولله الحمد براحةٍ نفسيةٍ لم أذقها في حياتي، اعتكفتُ بمسجد السجن ثلاثة أشهرٍ حفظتُ خلالها خمسة أجزاء من القرآن، أصبح حفظ القرآن سهلاً بسبب إقلاعي عن الذنوب. ثم مَنّ الله عليّ فأصبحتُ إماماً للمصلين بمسجد السجن. صدقوني، لم أعد أفكر في موعد انتهاء مدة السجن، وخروجي منه؛ ولماذا أفكر وقد كنتُ قبل دخولي السجن حبيساً عن ربي، أسيراً لهواي، سجيناً بين جدران شهوتي، أما الآن فقد أطلق الإيمان سراحي، وأعاد لي حريتي المفقودة. صدقوني، إنني الآن حرٌ طليقٌ وراء القضبان. إنني راضٍ عن ربي، وأسأله أن يرضى عني، وأن يُكفِّر عني ما قد سلف في أيامي الخالية، وأن يُثبِّتني على دينه حتى ألقاه، والحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنتُ لأهتدي لولا أن هداني الله.

 

أحبتي في الله .. حقاً إن (طريق السعادة) هو طريق التقوى واتباع شرع الله، أما الإعراض عن ذكر الله والبعد عن شرعه فهو وصفةٌ مؤكدةٌ لضنك المعيشة؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

هما اختياران إذن لا ثالث لهما: الأول: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، ويكون عدم الضلال وعدم الشقاء بقدر اتباع الهدى. والثاني: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، وتكون المعيشة الضنك بقدر الإعراض عن ذكر الله، والبعد عن اتباع طريق الهدى، والجزاء من جنس العمل. لذلك يقول العلماء إذا أصَابكَ الحزن والضِّيق والهمومُ الدَّائمَة فتأمل هذه الآية، وقُم بِمُراجعةِ حِساباتكَ وتقصيرِك مع اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فالشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها. إن العبد ليعمل الذنب فما يزال به كئيباً؛ فمن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها الضيق والهم والحزن والغم والأسى.

ويصف أحد علماء النفس شخصية المُعرِض عن ذكر الله فيقول: هي شخصيةٌ قلقةٌ مضطربةٌ، أرهقها الجري، بعيدةٌ عن الخشوع في الصلاة والتذلل لله، محرومةٌ من السعادة الحقَّة، ترى وَهْمَ السعادة في دنيا زائفة، أعرضت عن ذكر الله، وأضاعت أوامرَه، فهي كئيبةٌ حزينةٌ، تضحك والحزن يقطع كبدها، تفرح وغيوم البؤس تحوم حول عينها، تبحث عن ابتسامةٍ زائفةٍ وكلمةٍ تُلقى على قارعة الطريق، إنها تبحث عن (طريق السعادة) والحياة الطيبة، لكنها ضلَّتِ الطريق.

ويرى أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون القرآن الكريم منهاجاً للحياة الكريمة، وطريقاً للسعادة والهناء، فقد ورد وصف أهل الجنة في القرآن الكريم بالسعداء؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾، فثمن السعادة في الحياة الآخرة الحصول على رضا الله تعالى في الدنيا، مع تحقيق العبودية الكاملة له سبحانه. وكثيراً ما يظنّ الناس أنّ السعادة تكون في جمع المال، أو بالوصول إلى المناصب العليا، إلّا أنّ الواقع يُبطل ذلك، فلو حصل الإنسان على جميع المُتع الزائلة من مالٍ وجاهٍ وشهرةٍ، وفقَدَ السكون والطمأنينة في قلبه لكان أشقى الناس؛ فالسعادة الحقيقية تكون بالقرب من الله تعالى، والشقاء يكون في البُعد عنه؛ فالسعادة حالةٌ من صفاء النفس وطمأنينة القلب، تأتي من خلال الموازنة بين مطالب الجسد والروح، وبين الراحة الشخصيّة وراحة الآخرين، وبين إعمار الدنيا وإعمار الآخرة. السعادة عندما تكون دنيويّةً بحتةً فهي غير كاملةٍ وزائلةٌ لا محالة، أمّا عند ارتباطها بالآخرة فستكون سعادةً حقيقيّةً لا نهاية لها.

والقرآن الكريم هو الذي يحقق لنا هذه الموازنة الدقيقة، وهو المدخل الرئيس إلى (طريق السعادة)؛ يقول طبيبٌ نفسي: "زارني في العيادة جميع فئات المجتمع ما عدا أهل القرآن". وقيل لعالمٍ: "فلانٌ يحفظ القرآن"، قال: "بل القرآن يحفظه". إن أردتم بركةً في أوقاتكم وأعمالكم فاجعلوا لكم من بين زحام مواعيدكم موعداً مع كتاب الله.

 

أحبتي .. (طريق السعادة) هو طريق الإيمان، أما البعد عن الله سبحانه وتعالى فهو سببٌ للشقاء والمعاناة والتعاسة. والعاقل من اتعظ بغيره، ليس معنى ذلك أن يمر الإنسان بطريق الشر كما مر به غيره قبل أن يُصلح علاقته بربه سبحانه وتعالى؛ بل يكفيه تعلم الدرس دون أن يُضطر إلى دفع الثمن. والمؤمن كما ورد في الأثر "كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ"، تغنيه تجارب غيره عن السير في طريق الشيطان، وسلوك دربه. فليكن اختيارنا اختيار الأذكياء.

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الفطنين الذي يختارون لأنفسهم ولأهليهم سبيل الرشد والصراط المستقيم فهو (طريق السعادة) الذي فيه رضا الله عزَّ وجلَّ.

 

https://cutt.ly/dgtMnkr

الجمعة، 2 أكتوبر 2020

نعمة الهداية

 

الجمعة 2 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /259

(نعمة الهداية)

 

هذه من أعجب القصص، ولولا أن صاحبها كتبها بنفسه، ما ظننتُ أن تحدث. يقول صاحب القصة، وهو من أهل «المدينة المنورة»: أنا شابٌ في السابعة والثلاثين من عمري، متزوجٌ، ولي أولاد. ارتكبتُ كل ما حرَّم الله من الموبقات، أما الصلاة فكنتُ لا أؤديها مع الجماعة إلا في المناسبات فقط مجاملةً للآخرين، والسبب في ذلك أني كنت أصاحب الأشرار؛ فكان الشيطان ملازماً لنا في أكثر الأوقات.

كان لي ولدٌ في السابعة من عمره، اسمه «مروان»، أصم أبكم، لكنه كان قد رضع الإيمان من ثدي أمه المؤمنة. كنتُ ذات ليلةٍ أنا وهو في البيت، وكنتُ أخطط ماذا سأفعل أنا وأصحاب السوء، وأين سنذهب في تلك الليلة؟ كان الوقت بعد صلاة المغرب، فإذا بابني «مروان» يُكلمني بلغة الإشارة ويسألني: "لماذا يا أبتِ لا تُصلي"؟! ثم أخذ يرفع يده إلى السماء، ويقول لي: "إن الله يراك"، وكان ابني في بعض الأحيان يراني وأنا أفعل بعض المنكرات، تعجبتُ من قوله، ولم أكترث له؛ فبدأ يبكي، أخذته إلى جانبي لكنه هرب مني. بعد فترةٍ قصيرةٍ ذهب إلى صنبور الماء وتوضأ، تعلم ذلك من أمه التي كانت تنصحني كثيراً ولكن دون فائدة، وكانت من حفظة كتاب الله، ثم دخل عليّ وأشار إليّ أن أنتظر قليلاً؛ فإذا به يُصلي أمامي، ثم قام وأحضر المصحف الشريف ووضعه أمامه وفتحه مباشرةً، دون أن يُقلب الأوراق، ووضع إصبعه على هذه الآية من سورة مريم: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ ثم أُجهش بالبكاء، فوجدتُ نفسي أبكي معه طويلاً، فقام ومسح الدمع من عيني، ثم قبَّل رأسي ويدي، وقال لي: "صلِ يا والدي قبل أن تُوضع في التراب، وتكون رهين العذاب". كنتُ في دهشةٍ وخوفٍ لا يعلمهما إلا الله، حتى أنني قمتُ على الفور بإضاءة أنوار البيت جميعها، وكان «مروان» يلاحقني من غرفةٍ إلى غرفة، نظر إليّ باستغراب وقال لي: "دع الأنوار، وهيا إلى المسجد الكبير" ويقصد الحرم النبوي الشريف، فقلتُ له: "بل نذهب إلى المسجد المجاور لمنزلنا"، فأبى إلا الحرم النبوي الشريف، فأخذته إلى هناك، وأنا في خوفٍ شديدٍ، وكانت نظراته لا تفارقني أبداً. دخلنا الروضة الشريفة، وكانت مليئةً بالناس، وأُقيم لصلاة العشاء، وإذا بإمام الحرم يقرأ من كتاب الله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فلم أتمالك نفسي من البكاء، و«مروان» بجانبي يبكي لبكائي، وفي أثناء الصلاة أخرج «مروان» من جيبي منديلاً ومسح به دموعي، وبعد انتهاء الصلاة ظللتُ أبكي وهو يمسح دموعي، حتى أنني جلستُ في الحرم مدة ساعةٍ كاملةٍ، وخاف عليّ «مروان» من شدة البكاء.

عدنا إلى المنزل، فكانت تلك الليلة من أعظم الليالي عندي، إذ وُلدتُ فيها من جديد، وحضرتْ زوجتي، وحضر أولادي، فأخذوا يبكون جميعاً، وهم لا يعلمون شيئاً مما حدث، فقال لهم «مروان»: "أبي صلى في الحرم"، ففرحتْ زوجتي بهذا الخبر إذ هو ثمرة تربيتها الحسنة، وقصصتُ عليها ما جرى بيني وبين «مروان»، وقلتُ لها: "أسألك بالله، هل أنتِ أوعزتِ له أن يفتح المصحف على تلك الآية"؟ فأقسمتْ بالله ثلاثاً أنها ما فعلتْ، ثم قالت لي: "احمد الله على (نعمة الهداية)". وكانت تلك الليلة من أروع الليالي. وأنا الآن – ولله الحمد – لا تفوتني صلاة الجماعة في المسجد، وقد هجرتُ رفقاء السوء جميعاً، وذقتُ طعم الإيمان، كما أصبحتُ أعيش في سعادةٍ غامرةٍ وحبٍ وتفاهمٍ مع زوجتي وأولادي وخاصةً ابني «مروان» الأصم الأبكم الذي أحببته كثيراً، كيف لا وقد كانت هدايتي على يديه؟

 

‏أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أخرى لا تقل غرابةً عن قصة الطفل «مروان»؛ فهي لطفلٍ في الصف الثالث الابتدائي، تطرق معلمه في إحدى الحصص إلى فضل صلاة الفجر وأهميتها، سمعه الطفل وتأثر بحديثه، فهو لم يسبق له أن صلى الفجر، لا هو ولا أحدٌ من أهله. وعندما عاد الطفل إلى المنزل أخذ يفكر كيف يمكن أن يستيقظ لصلاة الفجر في اليوم التالي؟ فلم يجد حلاً سوى أن يبقى مستيقظاً طوال الليل حتى يتمكن من أداء الصلاة، وبالفعل نفذ ما فكر به، وعندما سمع أذان الفجر انطلق لأداء الصلاة بالمسجد، ولكن ظهرت مشكلةٌ في طريق الطفل؛ فالمسجد بعيدٌ ولا يستطيع الذهاب وحده، فجلس بجوار باب البيت يبكي، فجأةً سمع صوت طقطقة حذاءٍ في الشارع، فتح الباب وخرج مسرعاً فإذا برجلٍ شيخٍ عجوزٍ يهلل متجهاً إلى المسجد، نظر إليه فعرفه، أنه جد زميله ابن جارهم، تسلل الطفل بخفةٍ وهدوءٍ خلف ذلك الرجل حتى لا يشعر به فيخبر أهله فيعاقبونه. واستمر الحال على هذا المنوال يومياً، ولكن دوام الحال من المحال؛ فقد تُوفي الشيخ العجوز، وعندما علم الطفل بوفاته ذُهل وأخذ يبكي بحرقةٍ وحرارةٍ استغرب منها والداه؛ فسأله أبوه: "لماذا تبكي عليه هكذا وهو ليس في سنك لتلعب معه، وليس قريبك فتفقده في البيت"؟ نظر الطفل إلى أبيه بعيونٍ دامعةٍ ونظراتِ حزنٍ وقال له: "يا ليت الذي مات أنت وليس هو!"، صُعق الأب من إجابة ابنه وتعجب فهو لا يدري لماذا يقول له ابنه هذا الكلام الجارح؟ ثم لماذا يحب هذا الرجل كل هذا الحب؟ استمر الطفل في الكلام فقال: "أنا لم أفقده من أجل شيءٍ مما تقول"، استغرب الأب وقال: "إذاً من أجل ماذا"؟ فقال الطفل: "من أجل الصلاة .. نعم من أجل الصلاة"!! ثم استطرد وهو يبتلع عبراته: "لماذا يا أبي لا تُصلي الفجر؟ لماذا يا أبتِ لا تكون مثل ذلك الرجل ومثل الكثير من الرجال الذين رأيتُهم"؟ فقال الأب: "أين رأيتَهم"؟ فقال الطفل: "في المسجد"، قال الأب: "كيف"؟ فحكى الطفل لأبيه حكايته؛ فتأثر الأب من ابنه واقشعر جلده وكادت دموعه أن تسقط واحتضن ابنه، ومنذ ذلك اليوم لم يترك الأب أي صلاةٍ في المسجد مع ابنه؛ إنها (نعمة الهداية).

 

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]. فما أجمل أن يَهدي المسلم غيره، سواءً في ذلك دعوة غير المسلم للإسلام أو دعوة المسلم الضال للعودة إلى الطريق المستقيم، فما بالنا بأقرب الناس إلينا وأحبهم لنا، لا شك يكون في دعوتهم للعودة إلى درب الهدى ثوابٌ مضاعفٌ؛ ذلك أنها تجمع إلى جانب ثواب الدعوة ثواب صلة الرحم، فدعوتهم إلى هذا الخير هو أشد ما يحتاجون إليه، ولو كابروا، ولو قاوموا، ولو مانعوا بدايةً وتأخروا في الاستجابة، لكن أنفسهم اللوامة ستجعلهم يتغلبون على أنفسهم الأمارة بالسوء، وكم تكون سعادتهم وسعادة كل من يحبهم عندما يعدَّلون مسيرتهم ويضعون أقدامهم على الطريق الصحيح، حينها يشعرون بحلاوة الإيمان و(نعمة الهداية) وتصبح أنفسهم مطمئنةً راضيةً مرضية.

والدعوة إلى الهُدى تكون بالقول كما تكون بالفعل؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. ولدعوة الأهل للهداية وطريق الرشاد أهميةٌ خاصةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ﴾، فالواجب -كما يقول أهل العلم- أن يُعنى المسلم بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه وأقربائه، يُعلمهم ويُرشدهم ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

أحبتي .. ما أعظم ثواب دعوة الناس وهدايتهم، وما أجمل أن نقوم بذلك مع أقرب الناس منا، أهلنا وأرحامنا، وما أروع أن تكون علاقة الإخوة في الدين مقدمةً على علاقة الإخوة بالنسب. لنتعاهد أحبتي على أن نقوم بواجب الدعوة والنصح والتوجيه والإرشاد إلى طريق الهُدى، ولا نسوِّف ولا نتكاسل أو نتوانى حتى تعم (نعمة الهداية) جميع المسلمين، لا تمنعنا عن ذلك اعتباراتٌ زائفةٌ يزينها لنا الشيطان؛ كالخوف من الإحراج، أو الخشية من رد الفعل، أو لاعتباراتٍ أخرى كفارق السن أو الخوف من وصف الناس للداعي بالتشدد أو التدخل في شئون الغير، وغير ذلك من اعتباراتٍ تتهاوى كلها جميعاً بتوفيق الله طالما كان هدفنا الإصلاح؛ يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾، والهداية من الله سبحانه وتعالى، أما نحن فعلينا فقط واجب الدعوة؛ يقول سبحانه: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾.

على أن يكون الداعي منا -صغيراً أو كبيراً- مثالاً وقدوةً، يبدأ بنفسه، ويلتزم هو أولاً بما يدعو إليه؛ ويكون مخلصاً في طاعة الله؛ يقول الشاعر:

تعصي الإلَهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّه

هذا لعَمْرُكَ في المَقالِ بديعُ

لو كَانَ حُبُكَ صَادِقاً لأطَعْتَهُ

إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مُطيعُ

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://cutt.ly/yf4PXvU