الجمعة، 26 أغسطس 2022

الجوهرة

 

خاطرة الجمعة /358


الجمعة 26 أغسطس 2022م

(الجوهرة)

 

موقفٌ عجيبٌ رواه د. مصطفى محمود في لقاءٍ تليفزيونيٍ معه في أواخر الثمانينات؛ يقول: في العام 1969م شعرتُ بألمٍ رهيبٍ يشق ظهري، قمتُ بتشخيص سببه على الفور؛ كانت أعراض وجع الكُلى الذي أعرفه جيداً بحُكم دراستي للطب آنذاك. أخبرني طبيب المسالك بعد خُضوعي للأشعة السينية "X- ray" أنها حصوةٌ عملاقةٌ، تُهيمن على حجم الكلية تقريباً، ولن تُجدي معها أية موسعات! تفتيت الحصوات بالموجات التصادمية كان خيالاً علمياً وقتها، والليزر والمناظير الطبية كانا في مجاهل الغيب، لهذا لم يكن بُدٌ من تدخلٍ جراحيٍ عاجلٍ، لإنقاذ الموقف، وإلا خسرتُ كليتي كاملةً؛ وهو ما يعني فتحُ جانبي كاملاً، ثم شق الكلية نفسها لاستخراج الحصوة، باعتباره الحل الوحيد المُتاح!

لم يكن جسمي يتحمل خطورة هذه العملية، شعرتُ بفزعٍ رهيبٍ، وتمثلتُ النهاية أمام عينيّ. قمتُ فتوضأتُ وصليتُ وبكيتُ، وبدأتُ أدعو الله: "يا ربِ ساعدني.. يا ربِ انجدني.." واستمريتُ في الدُعاء، دُعاءِ مُذعنٍ خاشعٍ مُتيقنٍ، لدرجة أني ذُبتُ تماماً بين يدي الله؛ كل ذرةٍ في كياني كانت تستجدي وتتوسل وتستنجد بربها، في حالةٍ كاملةٍ مُدهشةٍ من اليقين والخشوع لصاحب الملكوت.

نصف ساعةٍ فقط، وبعدها كنتُ أُهرع إلى المرحاض! انساب مني لترٌ كاملٌ من سائلٍ سميكٍ داكنٍ يُشبه "الطحينة"! نفس اللون والسُمك. يا الله! الحصوة تفتت لسببٍ مجهولٍ، وتحولت لمسحوق! لترٌ كاملٌ أو ما يزيد، وهو ما يتناسب مع ضخامة الحصوة!

لقد استجاب الله لدعائي بصورةٍ أذهلتني. شربتُ بعض الماء، وانتهى الأمر، وكأن شيئاً لم يحدث!

وقتها تذكرتُ مقولةً لطبيبةٍ فرنسيةٍ أسلمت، قابلتها أثناء تواجدي في إحدى المرات بـ «المغرب»: "إنّ لدينا نحن المسلمين جوهرةً لا يعرف البعض قيمتها". ولما سألتها: ما هي؟ قالت: الدُعاء!

 

أحبتي في الله.. صحيحٌ قولها الدُعاء هو (الجوهرة)، لكنها جوهرةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس.

وللتذكرة بأهمية الدُعاء كتب أحد الأفاضل على موقع "تويتر" للتدوين المُصغر تغريدةً قال فيها: "لكلٍ منا مع الدُعاء أحوالٌ عجيبةٌ ومواقف غريبةٌ؛ فلو ذكر كلٌ منكم قصةً حصلت له مع الدُعاء، أو حصلت لغيره وتأكد منها بنفسه، فسأقوم بإعادة تغريدها؛ بهدف بيان فضل الدُعاء ومنزلته، وأنه بإذن الله حلٌ لكثيرٍ من مشاكلنا". انهالت على الموقع قصصٌ ومواقف حقيقيةٌ عن استجابة الدُعاء، منها:

-امرأةٌ أعرفها كانت مصابةً بمرض الغُدة الحميدة، وعلاجها بالكيماوي أو بعمليةٍ جراحيةٍ، وبعد الدُعاء بإخلاصٍ وخشوعٍ ذهبت للطبيب للمُراجعة فقال لها: "أنت شُفيتِ تماماً؛ ولا حاجة لكيماوي أو عملية"، وأقفل ملفها في المستشفى تماماً لانتهاء الموضوع.

-رسالتي للماجستير كنتُ أعدّها، وأحفظها على فلاشةٍ، ولما انتهيتُ منها وحان وقت الطباعة، إذا بالفلاشة يُصيبها عطبٌ محى جميع محتوياتها. كدتُ أُجن؛ فذهبتُ بها لمهندسٍ فقال إن استعادة ما بها من ملفاتٍ صار مُستحيلاً، فتذكرتُ: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ فدعوتُ الله بخشوعٍ وتذللٍ فإذا بالفلاشة تعود للعمل بشكلٍ عاديٍ!

-تذكرتُ شيئاً ثميناً وعزيزاً عليّ، بحثتُ عنه كثيراً فلم أجده، وكان وقت صلاةٍ فصليتُ ودعوتُ الله أن يحفظه لي واستودعته إياه، وبعد أيامٍ وجدتُ ذلك الشيء في نفس المكان الذي كنتُ بحثتُ فيه ولم أجده! فسجدتُ لله شكراً.

-كانت امرأتي عاقراً، وكنتُ كلما صليتُ قيام الليل والتهجد أدعو ربي أن يرزقنا بولدٍ صالحٍ، وأظل أدعو حتى أسمع صوت المؤذن لصلاة الفجر؛ فأذهب لصلاة الفجر بالمسجد. بعد ثلاثة أشهر استجاب الله دُعائي؛ ورزقنا بطفلٍ عمره الآن سبع سنواتٍ.

-لم أكن مُنتظماً في صلاة الفجر، وكنتُ أضبط المنبه ولا أستطيع الاستيقاظ، وكثيراً ما فاتتني صلاة الفجر، فكنتُ أُصلي الصبح عند استيقاظي من النوم بعد شروق الشمس. دعوتُ الله كثيراً؛ وكنتُ أقول: "يا الله أسألك أن توفقني إلى صلاة الفجر مع جماعة المسلمين في بيتٍ من بيوتك". دعوتُ بهذا الدعاء بإخلاصٍ لمدة ثلاثة أيام؛ فاستجاب الله لدعائي، وأعانني على المواظبة، ومُنذ ذلك الحين لم تفتني بفضل الله صلاة الفجر جماعةً وفي بيتٍ من بيوته، ولا ليومٍ واحد.

 

وغير ذلك، عشراتٌ من القصص والمواقف الحقيقة عن استجابة الدُعاء، الذي هو بحقٍ بمثابة (الجوهرة) لكل مُسلم، واختصر أحدهم ما حدث له في أربع كلماتٍ: تعثرتُ فسجدتُ فدعوتُ فأقامني.

 

ويزخر القرآن الكريم بالكثير من الألفاظ المُشتقة من الجذر "دعو"؛ حتى أن عددها قد وصل إلى 212 لفظاً في 182 آية، منها ما يُبين سرعة استجابة الله سُبحانه وتعالى لدعاء الصالحين من عباده؛ فقد وردت عبارة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أربع مراتٍ في القرآن الكريم، وكانت استجابةً لدعاء الأنبياء: نوح، أيوب، يونس، وزكريا، عليهم السلام. كما وردت عبارة ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ﴾ مُباشرةً بعد دعاء داوود، وكذلك بعد دعاء موسى، عليهما السلام.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ﴾.

كما وردت أحاديث عديدةٌ في السُنة الشريفة عن الدُعاء؛ منها:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [الدُّعاءُ هوَ العِبادَةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريمٌ، يستحيي مِن عبدِه إذا رفَع يدَيْهِ إليه أنْ يَرُدَّهما صِفرًا]. وقال أيضاً: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ]، قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: [يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ]. وقال صلوات الله وسلامه عليه: [أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ].

 

ولكثرة ما ورد في القرآن الكريم والسُنة المُشَرّفة من ذِكرٍ للدعاء؛ قال أهل العلم إنّ للدُعاء فضلاً كبيراً وفوائد؛ منها: أنه طاعةٌ لله -عزّ وجلّ- وامتثالٌ لأمره، وهو أكرم شيءٍ عليه، ومن الأمور المحببة إليه، وهو يرد القدر، وهو سببٌ لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم وتيسير الأمور، كما أنه سببٌ لتجنب غضب الله، ودليلٌ على صدق التوكل عليه. وقالوا إنّ الدُعاء المُطلق ليس له وقتٌ مُحددٌ، وإنما هناك أوقاتٌ يُستجاب فيها أكثر من غيرها؛ منها: الثُلث الأخير من الليل، بين الأذان وإقامة الصلاة، النوم على طهارة والاستيقاظ في الليل، عند إفطار الصائم، في ليلة القدر، وقت نزول المطر، آخر ساعةٍ من يوم الجُمعة، وأثناء السُجود حين يكون العبد أقرب ما يكون من ربه. وبينوا أنّ من أسباب استجابة الدعاء: الاستغفار والتوبة من الذنوب، الابتعاد عن المُحرمات، أداء الفروض من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ، الإكثار من النوافل والصدقات، العمل الصالح وبر الوالدين، الدُعاء بما هو خيرٌ، عدم الدُعاء بإثمٍ أو قطيعة رحم، حضور القلب والتضرع والخشية من الله واستشعار عظمته، الدُعاء بأسماء الله الحسنى وصفاته، الدُعاء للغير من المسلمين بخير الدنيا والآخرة، والإكثار من قول ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. وحددوا سُنن الدُعاء وآدابه في: عدم الاستعجال في الإجابة، افتتاح الدُعاء بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه الكريم والختم بذلك، تَحَيُّن أوقات الاستجابة، الدُعاء في الرخاء والشدة، عدم الدُعاء على النفس أو الأهل أو الولد أو المال، خفض الصوت ليكون بين المُخافتة والجهر، التضرع وإظهار الذُل والخضوع والابتهال والافتقار إلى الله والشكوى إليه، الإلحاح في الدُعاء، الاعتراف بالذنب وشُكر النعمة، عدم تكلف السجع، الدُعاء ثلاثاً، استقبال القبلة، والوضوء قبل البدء بالدُعاء، رفع اليدين أثناء الدُعاء.

 

والدُعاء ليس فقط (الجوهرة) التي مَنَّ الله بها على عباده، بل هو أيضاً السلاح الذي يُجابهون به جميع ظُروف الحياة؛ قال العُلماء إنه مع الدُعاء بإخلاصٍ، والإلحاح، واليقين باستجابة المولى عزَّ وجلَّ، وعدم اليأس، فإن الله سُبحانه وتعالى يستجيب بما يراه خيراً للعبد في الدُنيا والآخرة؛ فقد تكون الاستجابة فوريةً، وقد يؤخرها الله إلى وقتٍ آخر، وقد يدفع بها مُصيبةً عن صاحبها ويُعوضه بدلاً عنها، وقد يدّخرها للعبد إلى يوم القيامة وهذا أفضلها.

 

أحبتي.. أضعف الناس همةً وأعماهم بصيرةً من كان عاجزاً عن الدُعاء، رغم أنه أسهل وأيسر عبادةٍ يُمكن لكل فردٍ القيام بها. وإذا كان الدُعاء جوهرةً ثمينةً فلا تُهملوا (الجوهرة)، زيِّنوا بها أوقاتكم، وادعوا الله مباشرةً بدون واسطةٍ؛ فقد تكفل سُبحانه بالإجابة. واعلموا أن الله عزَّ وجلَّ ما كان ليُلهم العبد الدُعاء لولا أنه قد كتب له الإجابة. وإجابة الله دُعاءك لا تعني أنك من أولياء الله، لكنها تعني أن الله سُبحانه وتعالى رحمك مع تقصيرك، وتجاوز فتفضّل وتكرّم وأجاب؛ فاشكر نعمه، وتُب إليه، وامتنع عن الذنوب والمعاصي ما استطعتَ، وتقرّب إليه بما يُحب ويرضى مما افترضه عليك من فروضٍ، ومما تقدر عليه من نوافل.

اللهم إنّا ندعوك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، وأنت الكريم، وأنت الرؤوف الرحيم، وأنت الغفور الحليم، وأنت سُبحانك السميع العليم.

 

https://bit.ly/3pPc7lK

الجمعة، 19 أغسطس 2022

هل هي صُدفة؟

 

خاطرة الجمعة /357


الجمعة 19 أغسطس 2022م

(هل هي صُدفة؟)

 

يحكي داعيةٌ مشهورٌ رحمه الله عن إحدى ذكرياته؛ فيقول:

حدثني أحدهم، وكان دبلوماسياً سابقاً في «مصر»، أنه كُلف مرةً بمهمةٍ سياسيةٍ عاجلةٍ في «روسيا»، وخاف أن يمر ببلدٍ لا تؤكل ذبيحة أهله شرعاً، وكانت عنده دجاجتان فأمر بذبحهما، واتخذت له زوجته منهما سُفرةً -وهي زاد المسافر- حملها معه؛ فلما وصل إلى «روسيا» دعاه شيخٌ مُسلمٌ إلى الغداء عنده، فكرِه أن يأخذ الدجاجتين معه إلى دار الشيخ، فرأى في طريقه امرأةً فقيرةً، عرف من ملابسها أنها مُسلمةٌ، معها أولادها، ورأى الجوع بادياً عليها وعليهم، فدفع إليها الدجاجتين.

‏ثم لم تمضِ ساعةٌ حتى وصلته برقيةٌ أن: "ارجع؛ فقد صُرف النظر عن المهمة"! فكانت هذه الرحلة لأمرٍ واحدٍ: وهو أن الدجاجتين كانتا في داره، لكنهما ليستا له ولا لأهله، إنما لتلك المرأة وأولادها، فطبختهما زوجته، وحملهما بنفسه أربعة آلاف كيلو مترٍ ليوصلهما إليهم.

يقول الداعية: توالي الأحداث وترتيب المواقف وإيجاد الأسباب (هل هي صُدفة؟) لا يُمكن، بل الأمر كله من تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أن يأتي الشيخ من «مصر» إلى «روسيا» حاملاً دجاجتين، طبختهما زوجته في «مصر»، ليعطيهما إلى هذه المرأة الفقيرة وأولادها ويعود، ودون أن يتحقّق من هذه الرحلة أي غرضٍ آخر! وكأنّ الله سخّر زوجة الشيخ لتطبخ الدجاجتين في «مصر»، وسخّر الشيخ ليوصلهما مطبوختين إلى «روسيا» ويُعطيهما لهذه المرأة، ثم يقفل عائداً إلى «مصر» حاملاً معه عبرةً تستحق الوقوف عندها، وتستحق التأمل طويلاً؛ فالأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، يكتبها لخلقه ويُسّبب لها الأسباب، إنه تدبير الله، له حكمةٌ لا تُدركها العقول إلّا بالتسليم لعدله وقُدرته، والإيمان بأنه سبحانه هو اللطيف الخبير.

 

أحبتي في الله.. سبحان الله.. سبحان الذي جعل لكل شيءٍ سبباً، والذي سخّر عباده ليكون بعضهم لبعض سخرياً، والذي بيده مقادير كل شيءٍ، تلك الأحداث (هل هي صُدفة؟)، لا، وإنما هو تدبير الرؤوف الرحيم، العزيز العليم.

 

ذكرتني هذه القصة بقصةٍ حقيقيةٍ أغرب منها، من عجائب القدر وتدبير الله لعباده، قصةٍ تقشعرُّ لها القلوب قبل الأبدان، حصلت فعلاً مع أحد الدُعاة المعروفين في «مصر»؛ يقول فضيلته:

كان عندي سفرٌ من مطار «القاهرة»، وأنا من سُكان «الإسكندرية»، وكان موعد إقلاع الطائرة بعد الفجر، فخفتُ أن تفوتني الطائرة، فاتصلتُ بصديقٍ لي هو إمام مسجدٍ قريبٍ من المطار، قلتُ له: "سوف أنام عندك في المسجد الليلة إلى الفجر، فاترك الباب مفتوحاً"، قال لي: "خير يا شيخ؟!"، قلتُ له: "خير، لا تقلق، عندي سفرٌ بعد الفجر مباشرةً وأريد أن أنام عندكم احتياطاً ليس أكثر!"، قال: "تُشرفنا يا شيخ، أهلاً وسهلاً بك". وصلتُ الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، فوجدتُ باب المسجد مفتوحاً والأنوار مُضاءةً، ورأيتُ رجلاً يُصلي في المحراب وحده، ويُكلم الله بصوتٍ مسموعٍ، وهو ينادي ويقول: "يا رب لم أعد أتحمل، يا رب لم أعد أستطيع، يا رب تعبت، يا رب ليس لي سواك، يا رب أين أذهب؟ يا رب ماذا أفعل؟"، يُعيد ويُكرر هذه الكلمات وهو يبكي! مُناجاةٌ عجيبةٌ وبُكاءٌ وإلحاحٌ تقشعرُّ له الأبدان! فقلتُ في نفسي: "ما هذا ببكاء صاحب فاحشةٍ ولا كبيرةٍ، هذا رجلٌ ألجأته الضرورة والحاجة". انتظرتُ قليلاً ثم اقتربتُ منه، فلما لمحني سكت، قلتُ له: "يا حاج، ما بك؟ لقد قطّعتَ قلبي!"، وبعد إلحاحٍ طويلٍ مني قال لي: "والله يا شيخ لا أعرف ماذا أقول؟! زوجتي ستُجري عمليةً جراحيةً اليوم الساعة التاسعة صباحاً وتكلفة العملية 15400 جنيه، ولا أملك منها جُنيهاً واحداً"، قلتُ له: "والله يا حاج، ما عندي ما أقدر أن أُساعدك به، لكن سأقول لك بِشارةً وهي إن ربنا أرحم بنا من أُمهاتنا، وأنه ما وثق في الله أحدٌ وخذله الله أبداً"، قال لي: "ونِعم بالله"، ثم أكمل صلاته ودعاءه بصوتٍ خافتٍ. أما أنا فقد صليتُ الوِتر ونمتُ حتى أيقظني مُقيم الشعائر الذي كان يستعد لرفع الأذان لصلاة الفجر، ثم أذّن للصلاة؛ فجاء صديقي الإمام وقال لي: "بالله عليك، صلِّ بنا الفجر"، قلتُ له: "أشعر ببعض التعب"، قال: "بالله عليك، ولو بقِصار السور"، صليتُ إماماً بالفعل، وبعد الصلاة جاء أحد الإخوة، وكان يُصلي في الصف الثالث، يلبس بدلةً ومعطفاً طويلاً، وتبدو عليه ملامح الثراء وأنه من عِلية القوم، سلّم عليّ بحرارةٍ وقال: "كيف حالك يا مولانا؟ أنا أُتابع برنامجك ودروسك في التلفاز، وسبحان الله؛ اشتريتُ شقةً أمام هذا المسجد من فترةٍ قصيرةٍ، فكان من نصيبي أن أراك وأُسلم عليك"، قلتُ له: "أهلاً وسهلاً بك، وبارك الله لك"، قال: "يا مولانا، أنا ربنا أكرمني كرماً لا حدود له، كان عندي مصنع للبلاستيك، والحمد لله ربنا فتح عليّ وصار لدي مصنعٌ آخر، وأصبح معي زكاة مالٍ مبلغ 15400 جنيه و...."، قاطعته -قبل أن يُكمل كلامه- ببُكائي واقشّعر جسمي كله! والله الذي لا إله إلا هو، نفس الرقم بالجنيه! تعجّب الناس في المسجد من بُكائي ولم يعرفوا ما الذي يحدث، خاصةً أني بدأتُ أنظر في وجوههم وأنا أبحث عن الرجل الذي قابلته أول الليل! استغرب الرجل التاجر وسألني: "ما بك يا شيخ؟"، قلتُ له: "اصبر قليلاً"، ثم وجدتُ الرجل فعلاً، فأشرتُ إليه أن يأتي إلينا؛ فجاء وعيناه يبدو عليهما أثر بُكاء الليل! فأخذته هو والتاجر بعيداً عن الناس وقلتُ له: "يا حاج أنتَ كنتَ تبكي وتدعو طوال الليل، ما السبب؟"، قال: "يا مولانا قلتُ لك إن زوجتي ستُجري عمليةً جراحيةً صباح اليوم ولا أملك المبلغ"، سألته: "وكم المبلغ المطلوب لإجراء العملية؟"، قال: "15400 جنيه"، فصرخ التاجر وهو يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر"، وأخذ الرجل في حضنه وبكى بُكاءً شديداً، وقال لي وهو يبكي: "والله يا شيخ، زوجتي لها أسبوعٌ وهي تقول لي: أخرج هذا المال وادفع حق ربنا، كل يومٍ صباحاً ومساءً تقول لي هذه الكلمات، وأنا أقول لها: يا أُم فلان، أنا لا أُريد أن أُخرجه مئةً مئةً، أنا أُريد أن أُعطيه كله لشخصٍ واحدٍ مُضطرٍ ومُحتاجٍ له لفك كُربةٍ؛ فأفرِّج به كربته هذه، فيفرِّج الله عني كربةً من كُرب يوم القيامة". استأذن التاجر منا لدقائق ليذهب إلى بيته لإحضار المال، ثم عاد ومعه المبلغ كله وأعطاه للرجل الذي ظل طوال الوقت مُندهشاً غير مُصدقٍ لما حصل، وعندما أخذ المبلغ، تركني وترك التاجر ووضع المال في حُضنه، وسجد وقال: "أنا أُحبك يا رب، أنا أحبك يا رب"، وبكى بُكاءً يُفتّت الصخر.

يقول الشيخ: "قلتُ في نفسي سبحان الله، اجتمع صدق اللجوء في الدعاء، مع إخلاص الطلب في الصدقة، فكان ما كان".

هذه المُفارقة العجيبة (هل هي صُدفة؟) لا، بل هي من تدابير الله لخلقه؛ فلم يكن الشيخ إلا سبباً ساقه الله لهذا وذاك.

 

وعن تدبير الله سبحانه أمر مخلوقاته؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ويقول عزَّ من قائل: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾.

فهل مع كل هذه القُدرة يُمكن أن نقول على أمرٍ ما أنه حدث صُدفةً؟ يقول أهل العلم إنّ الواجب على المؤمن اعتقاد أن كل ما يحدث في هذا الكون من شيءٍ هو بإرادةٍ وتقديرٍ من الله جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وأنّ الله قدّر هذا قبل خلق السماوات والأرض؛ كما ثبت ذلك في الحديث الشريف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]. وعلى هذا؛ إذا كان المُراد بكلمة "صُدفة" حصول الشيء من غير علم الإنسان بذلك مُسبقاً؛ فلا حرج أن نُسمي ذلك صُدفةً؛ لأنه ليس فيه نفيٌ لعلم الله وتقديره، ولا بأس من القول "قابلتُ فلاناً صُدفةً"، لأن مُراد المُتكلم بذلك أنه قابله بدون اتفاقٍ سابقٍ، وبدون قصدٍ منه، وليس المُراد أنه قابله بدون تقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ.

وقد وردت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلماتٌ مثل: "فَصَادَفْتُهُ"، "نُصَادِفْهُ"، و"صَادَفْنَا".

 

أحبتي.. كل التوازنات التي نُشاهدها في الكون على اتساعه، وما يدور حولنا في جميع أنحاء الأرض، وما نقابله من مواقف وأحداثٍ وتوافقاتٍ، يبدو لنا بعضها غريباً ولا يكاد يُصدَق (هل هي صُدفة؟)، بالتأكيد لا، إنها كلها من تدابير المولى عزَّ وجلَّ، مكتوبةٌ في كتابٍ منذ الأزل؛ يقول تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فلنتقي الله، ونتوكل عليه حق التوكل، ونُحسن الظن به، ونثق في حكمته ورحمته ورأفته في تدبير أمورنا وشئوننا، ونتقرب إليه بما يُحب من عباداتٍ ونوافل وأعمال خيرٍ، مؤمنين بأنه هو رب العالمين، القيوم القائم على شئون عباده المُتكفل بهم والراعي لهم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾، وما أكرمه من ربٍ ينام عبيده أما هو سبحانه ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فلا يغيب لحظةً عن تدبير أمور خلقه، ولا يستريح من تعبٍ، كل المخلوقات تخضع لأمره، ولا يُمكن لمخلوقٍ أن يستغنى عنه.

اللهم الطُف بنا وارحمنا، واكتُب لنا الخير كله. اللهم دبِّر لنا أمورنا، ولا تكلنا لأنفسنا؛ فنحن لا نُحسن التدبير.

https://bit.ly/3wfGc1G

الجمعة، 12 أغسطس 2022

الميثاق الغليظ

 

خاطرة الجمعة /356


الجمعة 12 أغسطس 2022م

(الميثاق الغليظ)

 

كتب يقول: تشاجرتُ كالعادة مع زوجتي لأحد الأسباب التافهة، وتطور الخلاف إلى أن قلتُ لها: "وجودك وعدمه واحدٌ في حياتي؛ وكل ما تفعلينه تستطيع أي خادمةٍ أن تفعل أفضل منه"، فما كان منها إلا أن نظرت إليّ بعينٍ دامعةٍ، وتركتني، وذهبت إلى الغُرفة الأُخرى، وتركتُ أنا الأمر وراء ظهري بدون أي اهتمامٍ، كأن شيئاً لم يكن وخلدتُ إلى نومٍ عميقٍ. مرّ هذا الموقف على ذهني، وأنا أُشيّع جثمان زوجتي إلى قبرها، والحضور يُقدمون لي العزاء على مُصابي فيها. الشيء الذي راودني هو أني لم أشعر بفرقٍ كبيرٍ، ربما شعرتُ ببعض الحُزن، ولكني كنتُ أُبرر ذلك بأن العشرة لها وقعٌ على النفس، و"يمر يومان وسأنسى كل ذلك".

عدتُ إلى البيت بعد انتهاء مراسم العزاء، ولكن ما إن دخلتُ البيت حتى شعرتُ بوحشةٍ شديدةٍ تعتصر قلبي، وبغُصةٍ في حلقي لا تُفارقه. أحسستُ بفراغٍ في المنزل لم أعتده، وكأن جدران البيت غادرت معها. استلقيتُ على السرير مُتحاشياً النظر إلى موضع نومها. بعد ثلاثة أيام انتهت مجالس التعزية، استيقظتُ في الصباح متأخراً عن ميعاد العمل؛ فنظرتُ إلى موضع نومها لأُوبخها على عدم إيقاظي باكراً كما اعتدتُ منها، ولكني تذكرتُ أنها قد تركتني إلى الأبد، ولا سبيل إلا أن أعتمد على نفسي، لأول مرةٍ منذ أن تزوجتها. ذهبتُ إلى عملي، ومرّ اليوم عليّ ببطءٍ شديدٍ، ولكن أكثر ما افتقدتُه هو مُكالمتها اليومية؛ لكي تُخبرني بمُتطلبات البيت، يتبعها شجارٌ معتادٌ على ماهية الطلبات، ثم تُنهي المُكالمة بعبارتها المعتادة "لا تتأخر كثيراً"، فكرتُ أنه بالرغم من أن هذه المُكالمة اليومية كانت تُزعجني، ولكني لم أفكر قط في أن طلبها مني ألا أتأخر قد يكون بسبب حُبها لي، أتذكر كلماتها تلك؛ لكني لم أكن أُترجمها على هذا النحو أبداً، بل كنتُ أتعمد التأخير عنها بزيارة أصدقائي ثم أعود إلى البيت، وقلبي يتمنى أن يرى ابتسامتها الصافية تستقبلني على الباب، وأن أسمع جُملتها المُعتادة: "هل أحضرتَ كل ما طلبتُ منكَ إحضاره؟"، ويكون ردي في كل مرةٍ: "انظري بنفسك إلى ما في الأكياس, لن تجدي شيئاً ناقصاً!". كنتُ أعتبر سؤالها هذا كأنه سوء استقبالٍ، لكني الآن أشتاق إلى سماعه، ولو لمرةٍ واحدةٍ؛ فالبيت أصبح خاوياً لا روح فيه، الدقائق تمر عليّ -وأنا وحيدٌ- كأنها ساعات.

يا الله، كم تركتها تقضي الساعات وحيدةً يومياً بدون أن أفكر في إحساسها؟ كم أهملتها وكنتُ أنظر إلى نفسي فقط دون أن أنظر إلى راحتها وسعادتها؟ كم فكرتُ فيما أُريده أنا، لا ما تُريده هي، وزاد الأمر عليّ حين مرضتُ؛ كم افتقدتُ يديها الحانيتين ورعايتها لي، وسهرها بجانبي إلى أن يُتم الله شفائي؟ كأنها أمي وليست زوجتي!

وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل، ولم أفتأ أُردد "يا رب ارحمها بقدر ما ظلمتُها أنا". وظللتُ هكذا حتى صرعني النوم ولم أفق إلا على رنين جرس المنبه فاعتدلتُ في فراشي.

ولكن مهلاً.. تمتمتُ بكلمات الشكر لله تعالى: "يا الله، إنه مُجرد حلمٍ، بل كابوس، الحمد لك يا رب؛ لم يحدث شيءٌ من هذا في الواقع". هُرعتُ إلى الغرفة التي بها زوجتي، اقتربتُ منها -وقلبي يكاد يتوقف من الفرح- وجدتُها نائمةً ووسادتها مُغرقةٌ بالدموع، أيقظتها؛ فنظرت إليّ باستغرابٍ لا يخلو من العتاب، لم أتمالك نفسي وأمسكتُ بكلتا يديها وقبلتهما، ثم نظرتُ إليها بعينٍ دامعةٍ، وقلتُ لها من كل قلبي: "أنا أحبك، اكتشفتُ أني لا أستطيع الحياة بدونك. ولكن مما تبكين يا عزيزتي؟"، قالت: "خفتُ عليكَ كثيراً عندما وجدتك تتنفس بصعوبةٍ، يبدو أنك كنتَ تحلم حلماً مُزعجاً".

 

علّق كاتب هذه القصة عليها بقوله: للأسف؛ الكثير منا لا يُدرك قيمة الأحبّة في حياته حتى يفتقدهم. إن كان عندك مخزونٌ من العاطفة والمودة فانثرها على أحبابك ما دمتَ بينهم، وإلا بعد الفراق فليس للعواطف والمشاعر قيمةٌ في غيابهم.

 

أحبتي في الله.. هذا زوجٌ كان يُسيء مُعاملة زوجته، ويجرح مشاعرها، ولم يُراعِ ما بينهما من (الميثاق الغليظ) إلى أن هداه الله. وهناك أزواجٌ تعدى سلوكهم مع زوجاتهم إساءة المُعاملة، وتجاوز جرح المشاعر، ووصل لما هو أبعد من ذلك؛ فهذه زوجةٌ عانت من إخلال زوجها بواجباته نحو (الميثاق الغليظ) الذي يربط بينهما، نشر قصتها أحد الأفاضل؛ فكتب يقول:

كانت تسترجع ذكرياتِ زواجها الذي دام خمسةَ عشرة عاماً بجماله ومُغامراته، بإنجازاته وإخفاقاته. كانت سعيدةً بما حققته هي وزوجُها في تلك السنين المنصرمةِ من توافقٍ وانسجام، من إخلاصٍ ووفاء، من بذلٍ وعطاء. كانت له فيها نعم المرأةُ، ذات الدينِ والخُلُق، ذات الجمالِ والدلال، ذات القلبِ الطاهرِ والعقلِ الناضج. وكان لها فيها ذلك الرجلَ المُحبَّ الوفي، الحنونَ الخلوق، الكريمَ المعطاء. كم كان كبيراً حظُّهما حين عثر عليها وعثرت هي عليه. كم كانت سعادتُهما لا توصفُ حين ارتبطا معاً. فهو لم يعثرْ على نصفِه الثاني ومليكةِ قلبِه فحسب، بل عثر على من حفِظت نفسَها وشبابَها من أجله. عثر على من حفرت اسمَهُ في صدرِها وحلفَت يميناً بأن لا تخونَ في حُبها.

بعد تلك السنينَ الطوال، بعد تلك السنينَ الحِسان، بعد التفاني في الحُب والعطاء، بعد كلِّ البذلِ والسخاء، فُجِعت بما لم يكن في الحُسبان. فُجِعت بالخبر الذي هزَّ كيانها، فجّر بركانها وأشعل نيرانها. علمت بأن رفيق عُمرِها قد خانها. شعرت حينها بالخُذلان، بالنُكران. شعرت بانهيار ذلك الصرح العظيم الذي لبِثت في بنائه سنين. إن الخيانةَ الزوجيةَ من الرجل أو المرأة على حدٍّ سواءٍ هي من أقوى الأسبابِ التي تهدمُ البيوت وتملأ الحُرقةَ في الصدور.

كم آنس القرآنُ وِحدتَها، وكم سهِرَتِ الليالي جافيةً مضجعَها، شاكيةً إلى الله حُرقتَها. كم تفطرتِ الأرضُ على بكائِها وتصدّعتِ الجُدرانُ لنحيبِها. كانت بينها وبين نفسها تتساءل، كما لو كانت تُكلم زوجها: أتخونُ بعد هذا العهد؟ أتخونُ بعد هذا (الميثاق الغليظ)؟ أتخونُ بعد هذا الحُب؟ أتخونُ بعد هذه التضحية؟ أتخونُ بعد هذه العِشرة؟ أتخونُ الشمعةَ التي احترقت كي تُضيءَ حياتَك وحياةَ أبنائك؟! أتخونُ من قطَفْتَ زهرةَ شبابِها؟! أنسيتَ التي مهّدتْ لك الطّريقَ وواستكَ حالَ الضيق؟! أنسيتَ من طبّبتك حين مرِضتَ وشجعتك حين يئست؟! أما تفكّرتَ في حالِ الأرواحِ التّي من صُلبِك خُلِقت، وفي بيتِك نشأَت، وبك ارتبطت؟! أما تخشى عليهم تلك الكسرة؟! أما عُدتَ تأبه بتلك العَبرة؟! أما تخشى الحسابَ يومَ الحسرة؟!

 

العلاقة بين الزوج وزوجته من أهم العلاقات، اختار الحق سبحانه وتعالى تعبير (الميثاق الغليظ) وصفاً لها؛ يقول تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ ووُصِفَ الميثاق بالغِلظة في هذه الآية الكريمة لقوته وعظمته، ولأهميته في بناء الأُسرة. و(الميثاق الغليظ) هو العهد الذي أُخذ للزوجة على زوجها عند عقد النكاح؛ وهو في معاجم اللغة "العهد الوثيق القويّ على الوفاء".

وعن تأويل قوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ قال المُفسرون: أيْ: ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم من عهدٍ وإقرارٍ منكم من إمساكهن بمعروف ٍأو تسريحهنّ بإحسان.

 

والإمساك بالمعروف قوامه حُسن العشرة، والمودة والرحمة بين الزوجين.

عن حُسن العشرة يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. وقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي]. وقال عليه الصلاة والسلام: [استوصوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المرأةَ خُلِقَت مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإنْ ذهَبتَ تُقيمُه كسَرْتَه، وإن تركْتَه لم يَزَلْ أعوَجَ؛ فاستوصوا بالنِّساءِ].

أما المودة والرحمة؛ فيقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ والمودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض. كما أنّ المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يُصيبها سوء.

 

أحبتي.. عاشروا بعضكم بالمعروف، تنعموا في الدُنيا وتُثابوا في الآخرة. وفي هذا المعنى أختم بما نشره واحدٌ من علمائنا الأفاضل، كتب يقول: ينبغي للإنسان في مُعاشرته لزوجته بالمعروف أن لا يقصد السعادة الدُنيوية والأنس والمُتعة فقط، بل ينوي مع ذلك التقرب إلى الله تعالى بفعل ما يُحب، وهذا أمرٌ نغفل عنه؛ فكثيرٌ من الناس في مُعاشرته لزوجته بالمعروف قصده أن تدوم العِشرة بينهما على الوجه الأكمل، ويغيب عن ذهنه أن يفعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى، بأن ينوي بهذا أنه قائمٌ بأمر الله ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، فإذا نوى ذلك حصل له الأمر الثاني، وهو دوام العِشرة الطيبة، والمُعاملة الطيبة، وكذلك بالنسبة للزوجة.

اللهم أعّنا -أزواجاً وزوجاتٍ- على أن نُحسن العِشرة، وأن نحرص على أن تسود بيننا المودة والرحمة، وأن يُراعي كلٌ منا حقوق الطرف الآخر؛ فيُلزم الرجل نفسه بالوفاء بمُتطلبات (الميثاق الغليظ) نحو زوجته، وتُلزم الزوجة نفسها بالوفاء بحقوق زوجها كاملةً غير منقوصة؛ فتعم السكينة بيوتنا، وتُحيط السعادة أُسرنا.

علِّمنا اللهم ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.

 

https://bit.ly/3JSd9Xj

الجمعة، 5 أغسطس 2022

الندم المتأخر

 

خاطرة الجمعة /355


الجمعة 5 أغسطس 2022م

(الندم المتأخر)

 

بازدراءٍ لمقطعٍ لداعيةٍ يذكر الموت ويُذكِّر به، كتب في صفحته على فيس بوك: "صديقي الشيخ: لا تُحدثني عن الموت بل حدثني عن الحياة، وكيف نعيش اليوم، أما الموت فموعده غداً؛ ولن نؤجل عمل اليوم إلى الغد. عِش حياتك وانسَ يا عم!". ثم أصابته نشوة النصر عندما رأى سيل علامات الاستحسان "اللايكات" وكثرة إعادة النشر! ويله؛ لقد نسي أنه كما أن هناك حسناتٍ جاريةً لا تتوقف ولا تنقطع، فإنه وبالمقابل توجد سيئاتٌ جاريةٌ؛ فحصاد الغد هو نتاج عمل اليوم!

خرج الشاب ليُمارس رياضته المحبوبة؛ الركض، وهو يضع بإذنيه السماعات يستمع إلى أغنية "الدُنيا حُلوة". شعر فجأةً كما لو أن شخصاً يدفعه من الخلف. لم يملك الوقت لينظر من الذي دفعه، ولا ليعرف ما الخطب!! أُغلقت عيناه على مشهد الرصيف الذي كان يركض عليه، ثم فُتحت على مشهد أطباء فوق رأسه يصرخون بكلماتٍ غير واضحةٍ لكنها مُعبرةٌ!! مُعبرةٌ عن هلعٍ ومُحاولاتٍ يائسةٍ لإنقاذ مريضٍ ما!

"لحظة، يبدو أني أنا المريض المعني! أنا على السرير نائمٌ ولا أستطيع الكلام، أتنفس بصعوبةٍ، ماذا حدث؟! من الذي دفعني وأنا أركض على الرصيف؟ آخر صوتٍ سمعته كان صوت سيارةٍ تُحاول الوقوف خلفي، يبدو أنها هي التي دفعتني، صدمتني وأوصلتني إلى المُستشفى. تنفسي يزداد صعوبةً! وهذا الطبيب العجوز لماذا يتحرك ببطءٍ؟ ماله يضرب كفيه ببعضهما يائساً من حالي؟! ويلكم، لماذا بدأتم بمُغادرة الغرفة؟! يا الله، إنها إذاً ساعة الحقيقة تقترب، لن أُكابر: أنا أموت! بهذه البساطة؟! أنا الشاب الرياضي! خاتم الخطوبة مازال في إصبعي! سامحيني يا أُمي، لن أستطيع استرضاءك بعد مُشكلة الأمس. كم ضيعتُ من صلواتٍ؟ ليتني حفظتُ آياتٍ من كتاب الله. كم سخرتُ من ناصحين، كم مجدتُ فاسدين ومُفسدين واتخذتُ منهم قدوةً لي؟! كان في جيبي عدة دنانير، ليتني كنتُ قد تصدقتُ بها. أرجوكِ يا خواطر الخير الضائع ارحلي عن عقلي المُودِّع! ألمُ الحادث أخف من ألمِ (الندم المُتأخر)! ويا صفحة الفيس اللعينة، كم وضعتُ عليكِ من صورٍ ومقاطع سيئةٍ! والمنشور الأخير.. نعم آخر منشورٍ امسحوه. لماذا لا يسمعني أحد؟! طلبي الأخير أن يُمسح؛ لا تنقصني سيئاتٌ جاريةٌ! يا جماعة.. يا جما.. يا ج.. يا..".

مات الشاب ولم يُكمل كلامه، وكان آخر ما سمعه: "من السُنة إغماض عين الميت" تلك كانت وصية الطبيب العجوز لآخر المُمرضين في الغرفة!

ومازال آخر منشورٍ للشاب المتوفى بصفحته على فيس بوك في مكانه، لم يمسحه أحد، وما يزال البعض يضع عليه علامة الاستحسان "لايك" والبعض يُعيد تعميمه ونشره، وما تزال -وستظل- تُكتب على صاحبه سيئاتٌ جاريةٌ حتى بعد موته! فهل من مُتعظ؟

 

أحبتي في الله.. إن قصة هذا الشاب هي قصة (الندم المتأخر)؛ ندمٌ بعد فوات الأوان.

أما هذا الشاب فقصته تختلف، لقد مرَّ بخبرةٍ مُماثلةٍ لكنه نجا منها برحمة الله، كتب ناصحاً غيره يقول:

تدارك نفسك طالما في الأمر مهلةٌ وقبل فوات الأوان، اعمل عملاً يُنجيك من النار ما دام في الوقت مُتسعٌ وفي العمر بقية. إن الموت حقيقةٌ قاسيةٌ رهيبةٌ تواجه كل حيٍ؛ فلا يملك لها رداً، يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ إنها نهاية الحياة؛ الجميع سيموت، لكن المصير بعد ذلك يختلف، ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. وفي الموت تنبيهٌ وتذكيرٌ ونذيرٌ وتحذيرٌ، وكفى بالموت واعظاً، لكننا مع الأسف الشديد نسيناه أو تناسيناه، وكرهنا ذِكره، وإن تعجب فالعجب من عاقلٍ يرى الموت يخطف أقرانه وجيرانه ولا يستعد له. إن المُنهمك في الدُنيا، المُنكب على لذاتها، المفتون بزخارفها، المُحب لشهواتها يغفل قلبه لا محالة عن ذِكر الموت، ومن لم يتذكر الموت اليوم ويستعد له فاجأه في غده وهو في غفلةٍ من أمره وفي شُغلٍ عنه. كثيرٌ من الناس، يُضيِّع عُمره في غير ما خُلق له، ثم إذا فاجأه الموت صرخ ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ ولماذا ترجع؟ ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، وأين كنتَ عن هذا اليوم أيها الغافل؟ لماذا لم تعمل وأنت في سعةٍ من أمرك، وصحةٍ في بدنك، ولم يدنُ منك ملك الموت بعد؟ ألم تتعظ من موت غيرك؟ ألا تعلم أن حامل الجنازة اليوم محمولٌ غداً إلى قبره، حيث يُترك فيه وحيداً، مُرتهناً بعمله، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر. لكن ما أقل من اتعظ فاجتهد واستفاد من كل لحظةٍ من لحظات عُمره في طاعة ربه، قبل أن يندم (الندم المتأخر) ويتحسّر على كل وقتٍ أضاعه بدون عملٍ صالحٍ يُقربه إلى الله. انظر إلى حال الموتى، وتأمل مآلهم، وتأكد أنه سيأتيك يومٌ مثل يومهم، وسيمر عليك ما مرّ بهم، فتخيل نفسك وأنت محمولٌ على الأعناق. إن طاعة الله وأنتَ ما زلتَ على قيد الحياة أهون عليكَ بكثيرٍ مما ينتظرك من حسابٍ إن أنت قصّرتَ وتقاعستَ؛ فاعمل من الآن من الأعمال ما يُنجيك بإذن الله ما دام في الوقت مُتسعٌ وما زال في عُمرك بقيةٌ، وما دامت لديك استطاعة العمل؛ لتخرج من هذه الدنيا مُرتاحاً وفرحاً مسروراً بلقاء ربك، وبما أعده لك من النعيم المُقيم.

 

وواصفاً لحظة الندم الكُبرى التي لا تُعادلها لحظة، وتعقبها الحسرة والخسران المبين يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

 

يقول أهل العلم إنّ الخلائق جميعاً سيجمعهم الله تعالى يوم القيامة، وهو يومٌ تشيب له الولدان، وتتصدع فيه القلوب، وتقشعر منه الأبدان، في مشهدٍ مهولٍ، وأحوالٍ فظيعةٍ، وأوقاتٍ عصيبةٍ، ومواقف عظيمةٍ؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.

والناس يوم القيامة صنفان:

إما آمنون كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يُشركوا به شيئاً، هم الآمنون يوم القيامة، المُهتدون في الدُنيا والآخرة ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾.

وإما خائفون نادمون مُتحسرون، يحزنهم الفزع الأكبر، يتأسفون على ما فات ومضى، وهم غافلون؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وأي حسرةٍ أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه والنار، وهُم لا يتمكنون من الرجوع والعود إلى الدُنيا لاستئناف العمل، وتغيير حالهم؟! يُعانون من الحسرة ويندمون (الندم المتأخر) الندم الذي يأتي بعد فوات الأوان. إنها الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله، عندما ينقضي العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾، ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، ﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. وهي الحسرة على مجالسة أصدقاء السوء الذين يسحبونهم بعيداً عن الصراط المستقيم يومها ﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ وتراه يقول: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ لماذا؟ ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾. أما منتهى الحسرة فيكون حين ينادون ربَهم عزَّ وجلَّ: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ فيُجيبهم سُبحانه: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾.

 

وليس المُسيء فقط هو الذي يتحسر يوم القيامة، بل إنّ المؤمن والمُحسن يتحسر هو الآخر، ولكن لسببٍ مُختلف؛ فهو حين يرى نعيم الجنة يتمنى أن يرجع للدُنيا مرةً أخرى ليزيد من الطاعات والإحسان والعمل الصالح.

 

أحبتي.. طالت أعمارنا أو قصُرت، فإننا كُلنا لا شك راجعون إلى الله سبحانه وتعالى، الملك الحق، واقفون بين يديه، مُحاسبون على نوايانا وأفعالنا وأقوالنا، وكل من أضاع وقته في الدنيا بالمُلهيات، والخطايا والمُنكرات، ولم يستجب لأوامر الله وترك العبادات، سيتحسر يوم القيامة ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، ويندم حينها (الندم المتأخر). فلينظر كلٌ منا إلى نفسه؛ إن كان مُحسناً فليُكثر من إحسانه، وإن كان مُقّصراً فليبتعد عن المعاصي، ويتوب عن الخطايا، ويزيد من حسناته، موقناً بوعد الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِۚ﴾ فإن الأعمال الصالحات تمحو صغائر الذنوب.

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، الذين ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وأن لا يجعلنا من الغافلين المُتحسرين يوم القيامة؛ الذين قال فيهم المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

 

https://bit.ly/3d97hN3

الجمعة، 29 يوليو 2022

نور القلوب

 

خاطرة الجمعة /354


الجمعة 29 يوليو 2022م

(نور القلوب)

 

بملامحه التي ظهرت عليها أمارات اليأس والإحباط، توجه الشاب الضرير «أمجد» إلى قطار الدرجة الثانية بصُحبة أخيه، الذي أجلسه في مقعدٍ خالٍ مُستعيناً بمصباح هاتفه؛ حيث ساد القطارَ المتهالك ظلامٌ دامسٌ، ثم ودّعه وانصرف. وحتماً لم يدر في خلد الشاب أنه يجلس بجانب رجلٍ يبدو من هيئته أنه قد تجاوز عقده الخامس، يجلس في مقعده وابتسامةٌ عذبةٌ قد ارتسمت على محياه، حال الظلام والعمى بين «أمجد» وبين رؤيتها.

جرس الهاتف يرن؛ فيُخرج الشاب هاتفه من جيب معطفه، وظهر أن المتصل هو والده الذي حادثه قليلاً، ثم رد عليه «أمجد»: "لا تقلق يا والدي؛ فابن عمي سينتظرني كما تعرف في المحطة. لا تخف" وضحك ضحكةً مُتهالكةً ساخرةً قائلاً: "حتى إن حدث لي مكروهٌ فلن يضر العالم وجودي من عدمه؛ أنا أعيش كالحيوانات أتناول طعامي وأُخرجه، وأنام لا أختلف عن السرير الذي أنام عليه. كيف لا أقول ذلك الكلام يا أبي؟ أليست هذه هي الحقيقة؟ إنني أتمنى الموت في كل دقيقةٍ. حسناً يا أبي، سأتصل بك بمجرد وصولي".

انتهت المكالمة الهاتفية، فإذا بيدٍ حانيةٍ تأخذ طريقها إلى كتف الشاب، تبعتها كلمات ذلك الشيخ الذي يجلس بجواره: "لماذا كل هذا القدر من التشاؤم يا ولدي؟ الحياة جميلةٌ، أجمل مما تعتقد". «أمجد» وهو يكبت ضيقه: "جميلة؟ وما الجميل فيها يا سيدي؟"، الشيخ: "أنك موجودٌ فيها"، أثارت الكلمة انتباه «أمجد» فرد باهتمامٍ: "كيف؟"، الشيخ: "لأنها من أجلك! هكذا خُلقت من أجلك الشمس والنجوم والشجر والبحار والأنهار، لأنك خليفة الله في الأرض"، «أمجد»: "قُل هذا الكلام لمن يرون الحياة، ويُشاهدون ما تتحدث عنه؛ الذين يُشاهدون جمال الطبيعة كما تُشاهدها أنت تماماً، و…"، قاطعه الشيخ: "لكن تلك المشاهد حيةٌ في كيانك، في حِسك، فقط دعْ عنك اليأس والإحباط سترى جمال الحياة كما أراها، سترى مشهد الغُروب عندما تُعانق الشمس صفحة المياه وتغيب في أحضانها"، بدا «أمجد» مشدوهاً من تلك العبارات التي بدت وكأن صاحبها يرسم بها لوحةً شعريةً، لكنه تابع الإنصات والشيخ يستطرد: "سترى مع تفتح الزهور أملاً جديداً في الحياة، سترى سريان ماء النيل ينتقل بك بين القُرون السابقة واللاحقة في نهر الزمن.. "، قاطعه «أمجد» باهتمامٍ: "سيدي هل أنت شاعر؟"، ابتسم الشيخ ابتسامةً عريضةً مُجيباً: "لا يا ولدي. ولكني أرى جمال الحياة، وحطّم جمالُها كل ذرةِ يأسٍ قد يدب إلى نفسي"، «أمجد»: "ليتني كُنتُ مُتفائلاً مثلك، لكن كما يُقال: يدك في المياه، ويدي في النار، ولن تشعر بمرارتي"، الشيخ: "يا ولدي إن كان الله قد أخذ بصرك، فإنه -برحمته- لم يحرمك من البصيرة، وإن كان قد سلب منك نعمةً، فقد أنعم عليك بما لا تُحصيه عدداً من نعمٍ أخرى. لماذا تنظر إلى ما أُخذ منك ولا تنظر إلى ما أُعطيت؟ لا تستصغر نفسك وتحتقرها على حالها، وانظر إلى ما ذخر به العالم ممن سُلبوا نعمة البصر وصاروا فخراً يذكرهم التاريخ. لماذا ترى نفسك أقل من هؤلاء؟"، «أمجد»: "أتعرف سيدي أنه لم يسبق لي أن حدثني أحدهم بهذا الشكل؟ أجد لكلامك أثراً عميقاً في نفسي"، الشيخ: "إذاً فلتطوِ صفحات الماضي، واعتبر هذه اللحظات بداية حياتك وولادتك الجديدة، وعاهدني على أن تستثمر كل موهبةٍ وطاقةٍ لديك في أن تسير إلى الأمام"، تهلل وجه الشاب وهو يقول: "لقد فجرتَ في نفسي مشاعر كنتُ أظن أنها قد ماتت؛ إنني أشعر الآن بقوةٍ لم أعهدها من قبل، أرجوك كُن على صلةٍ دائمةٍ بي، وتفقد أحوالي؛ أنا أحتاج لمثل هذه الروح التي بعثت فيَّ الأمل من جديد"، ربت الشيخ على كتف الشاب في حنانٍ وهو يقول: "إنك لستَ بحاجة إليّ؛ فأنا على يقينٍ من أنه قد وُلد فيك العزم من جديدٍ. سأنزل في المحطة القادمة. في رعاية الله يا ولدي"، وفي سُرعةٍ سأله «أمجد»: "هل كنت في عمل؟"، أجاب مُبتسماً: "نعم. عملٌ يوميٌ؛ أستقل القطار يومياً من المنطقة التي أُقيم فيها إلى منطقةٍ أخرى، وأعود في أول قطار". تعجب الشاب، وقال: "لماذا؟"، اتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول: "أزرع الأمل في قلوبٍ مات فيها الأمل". قالها وهو ينهض حيث توقف القطار في المحطة، وودعه: "في رعاية الله يا ولدي، في رعاية الله"، فأجاب الشاب مُمتناً: "في أمان الله يا زارع الأمل"، لكن سرعان ما اتسعت حدقتا عينيه دهشةً؛ إذ سمع صوتاً مألوفاً لديه يأتي من قِبل الشيخ؛ صوت عصا طويلةٍ رفيعةٍ يملك «أمجد» أختها يتحسس بها الأعمى الطريق!

 

أحبتي في الله.. صدق الشيخ حينما قال: "إن كان الله قد أخذ بصرك، فإنه -برحمته- لم يحرمك من البصيرة"؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. ويقول المفسرون في معنى هذه الآية: إن العمى ليس عمى البصر، وإنما العمى المُهْلِك هو عمى البصيرة عن إدراك الحق والاعتبار؛ فكثيرٌ مِمَّن لهم قلوبٌ لا يعقلون ولا يفهمون ولا يعتبرون، وكثيرٌ مِمَّن لهم عيونٌ لا يرَوْن إلا شخوصَ الأشياء، وقد عمِيَت قلوبُهم التي في صدورهم فلا بصيرةَ لهم. ويقول العُلماء إنه لا يُعتَبر بعمى الأبصار، وإنما يُعتَبَر بعمى القلوب؛ فليس الأعمى من لا يرى، وإنما الأعمى هو الذي لا يشعر بالحق الذي يراه، ولا يتدبر الموعظة التي أمامه، فكم من بصيرٍ يرى بعينيه ولكن قلبه لا يرى شيئاً، وكم من أعمى البصر ولكن قلبه يرى الحق، كل أصحاب العقول وكل ذوي الأبصار يرون الحق فيتبعونه، أما الذين طمس الله علي قلوبهم، فهُم يسيرون بلا وعيٍ أو إدراك.

 

وعن البصيرة والبصائر وردت عدة آياتٍ في القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى: ﴿قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ أي على يقينٍ؛ فالبصيرة هي المعرفة التي نُميز بها بين الحق والباطل. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ يعني الحُجج البينة الظاهرة التي تُبصرون بها الهُدى من الضلالة والحق من الباطل. ويقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي أن هذا القرآن بمنزلة البصائر للقلوب، به تُبصر الحق وتُدرك الصواب. ويقول سبحانه: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ أي حُججاً وأدلةً على صدق ما جئتك به. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ﴾ أي أنواراً لقلوبهم يُبصرون بها الحقائق، كما يُبصرون بأعينهم المرئيات. ويقول: ﴿هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ والبصائر جمع بصيرةٍ، والمُراد بها البُرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبساً، إنها حقاً (نور القلوب).

 

يقول أهل العلم إن المُسلم هذه الأيام بحاجةٍ ماسةٍ للبصيرة في دين الله أشد من أي وقتٍ مضى؛ فقد طغت الحياة المادية واستحوذت على مُعظم أوقاتنا وغالب تفكيرنا، في ظل غزارة العقائد الفاسدة والمناهج المُنحرفة والسلوكيات المُشينة والأخلاقيات السيئة، وكثرة الفتن والمآسي والويلات، وتكالب الأعداء من كل حدبٍ وصوبٍ، وعليه فنحن جميعاً بحاجةٍ لتذكير النفس بحقيقة الأشياء وما يصلح منها وما لا يصلح، ولا يكون كل هذا إلا بعلمٍ وفهمٍ وبصيرةٍ.

يقول علماؤنا: هناك بصرٌ وهناك بصيرةٌ؛ البصر يُرينا ظاهر الأشياء، أما البصيرة فتُرينا حقائق الأشياء، إنها (نور القلوب). وأي إنسان يملكُ بصراً، أما البصيرة فلا يملكها إلا المؤمن. إن البصيرة نورٌ يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرُسل، كأنه يُشاهده رأي العين؛ فيتحقق من ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرُسل، وتضرره بمخالفتهم. من هنا تتضح أهمية الدراية والفهم والبصيرة في دين الله سبحانه وتعالى، والتي لابد من السعي الحثيث لتحصيلها وبذل كل شيءٍ من أجلها.

ويقولون إن من أسباب تحصيل البصيرة: صِدقُ الإيمان بالله ورسوله، تحصيل العِلم النافع بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، العمل بالعِلم، صِدقُ اتباع السنة ظاهراً وباطناً، المُداومة على ذِكر الله -عزَّ وجلَّ-، كثرة العبادة، والبُعد عن المعاصي بغضّ البصر وحفظ الفرج وتجنب الاختلاط المُحرم.

إن نور البصيرة عبقٌ من الجنة، يأنس به الموحدون الذين نزَّهوا الخالق عن أي شائبةٍ من شوائب الشرك، فانقادوا له، لا يُقدمون قولاً على قوله، ولا أمراً على أمره، ولا نهياً على نهيه، أولئك هم المفلحون. في المقابل فإن للمعاصي ظُلماتٌ تُطفئ (نور القلوب)، وتُعمي البصائر، وتسد طُرق العِلم، وتحجب شمس الهداية؛ يقول تعالى: ﴿وَاعلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الـمَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إلَيهِ تُحشَرُونَ﴾، إنها صورةٌ تستوجب اليقظة الدائمة والحذر المستمر من الوقوع في المعاصي؛ حتى لا تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجهَ منها سوادٌ مما تُشير إليه الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ﴾.

 

أحبتي.. ليعمل كلٌ منا من أجل أن تكون في قلبه بصيرةٌ، فيعيش حياةً سعيدةً، واثقاً بالله، وبرحمته وعدالته وتوفيقه ونصره، همه أن يُطّبق أوامر الله، وأن يعيش حياته على منهج الله المُستقيم، وصراطه القويم، ليكون من المُفلحين في الدنيا، الفائزين في الآخرة.

نسأل الله العليم البصير أن يرزقنا (نور القلوب) ويُبصّرنا في ديننا ويُسدد فهمنا ويُحسّن عملنا ويهدينا سواء السبيل.

 

https://bit.ly/3Q5GAHm

الجمعة، 22 يوليو 2022

مُعجزة

 

خاطرة الجمعة /353


الجمعة 22 يوليو 2022م

(مُعجزة)

 

توجّهت الطفلة ذات السنوات الست إلى غُرفة نومها، وتناولت حصالة نقودها من مخبئها السري في خزانتها، ثم أفرغتها مما فيها على الأرض، وأخذت تعد بعنايةٍ ما جمعته من نقودٍ خلال الأسابيع الفائتة، ثم أعادت عدها ثانيةً فثالثةً ورابعةً، ثم همست في سرها: "إنها بالتأكيد كافيةٌ، ولا مجال لأي خطأ". وبكل عنايةٍ أرجعت النقود إلى الحصالة، ثم لبست رداءها، وتسللت من الباب الخلفي لدارها، مُتجهةً إلى الصيدلية التي لا تبعد كثيراً عن الدار.

كان الصيدلي مشغولاً للغاية فانتظرته صابرةً، ولكنه استمر مُنشغلاً عنها بالحديث مع شخصٍ معه؛ فحاولت لفت نظره دون جدوى، فما كان منها -بعد أن يئست- إلا أن أخرجت قطعة نقودٍ معدنيةٍ من فئة ربع دولارٍ من الحصالة، وألقتها فوق زجاج الطاولة التي يقف وراءها الصيدلي، عندئذٍ فقط انتبه إليها، فسألها بصوتٍ عبَّر فيه عن استيائه: "ماذا تريدين أيتها الطفلة؟ هذا الذي يجلس معي أخي الذي لم أره مُنذ زمنٍ طويل"، فأجابته بحدةٍ مُظهرةً بدورها انزعاجها من سلوكه: "أخي الصغير مريضٌ جداً، وبحاجةٍ إلى دواءٍ اسمه (مُعجزة) وأريد أن أشتري له هذا الدواء!"، أجابها الصيدلي بشيءٍ من الدهشة: "عفواً، ماذا قلتِ؟"، فاستأنفت كلامها قائلةً بكل جديةٍ: "أخي الصغير «أندرو» يشكو من مُشكلةٍ في غاية السوء؛ يقول والدي إن هناك ورماً في رأسه لا تُنقذه سوى (مُعجزة)، هل فهمتني؟ فكم هو ثمن (مُعجزة)؟ أرجوك أفدني حالاً!"، أجابها الصيدلي مُغيّراً لهجته إلى أسلوبٍ أكثر نعومةً: "أنا آسفٌ؛ فأنا لا أبيع (مُعجزة) في صيدليتي!"، أجابته الطفلة مُلحَّةً: "اسمعني جيداً؛ فأنا معي ما يكفي من النقود لشراء الدواء فقط قل لي كم هو ثمن (مُعجزة)؟". كان شقيق الصيدلي يُصغي إلى الحديث فتقدم من الطفلة سائلاً: "ما نوع (معجزة) التي يحتاجها شقيقك «أندرو»؟"، أجابته الطفلة بعينين مغرورقتين بالدموع: "لا أدري؛ ولكن كل ما أعرفه أن أخي مريضٌ جداً، قالت أمي إنه بحاجةٍ إلى عمليةٍ جراحيةٍ، لكن أبي أجابها أنه لا يملك نقوداً تُغطي تكاليف هذه العملية، لذا قررتُ أن أستخدم نقودي!"، سألها شقيق الصيدلي مُبدياً اهتمامه: "كم لديك من النقود يا صغيرة؟"، فأجابته مزهوةً: "دولارٌ وأحد عشر سنتاً، ويُمكنني أن أجمع المزيد إذا احتجتَ"، أجابها مُبتسماً: "يا لها من مُصادفةٍ! دولارٌ واحدٌ وأحد عشر سنتاً هو بالضبط ثمن (مُعجزة) من أجل شقيقك الصغير". ثم تناول منها المبلغ بيدٍ وباليد الأخرى أمسك بيدها الصغيرة طالباً منها أن تقوده إلى دارها ليُقابل والديها، وقال لها: "أريد رؤية شقيقك أيضاً".

لقد كان ذلك الرجل هو الدكتور «كارلتن أرمسترنغ» جرّاح الأعصاب المعروف، والذي قام بإجراء العملية للطفل «أندرو» مجاناً، وكانت عمليةً ناجحةً تعافى بعدها «أندرو» تماماً.

بعد بضعة أيامٍ جلس الوالدان يتحدثان عن تسلسل الأحداث كيف تعرَّف الدكتور «كارلتون» على حالة ولدنا؟ وبعد نجاح العملية وعودة «أندرو» إلى حالته الطبيعية كان الوالدان يتحدثان وقد غمرتهما السعادة، شكراً لله أن جلب لنا الدكتور، وقالت الوالدة في سياق الحديث: "حقاً إنها (مُعجزة)!"،

ثم تساءل الوالدان: "يا تُرى كم كلفت هذه العملية؟"، رسمت الطفلة على شفتيها ابتسامةً عريضةً؛ فهي التي اشترت (مُعجزة)، وهي وحدها التي تعلم أن (مُعجزة) التي عالجت أخاها كلفت بالضبط دولاراً واحداً وأحد عشر سنتاً!!

 

أحبتي في الله.. تُمثل هذه القصة صورةً واضحةً وجليةً لبراءة الأطفال؛ يقول ناشر القصة: "عندما قرأتُ هذه القصة دخلتُ عالم الطفولة، وأحسستُ بإحساسٍ رائعٍ لا يوصف؛ فالطفولة صفحةٌ بيضاء وحياةٌ كلها صفاءٌ، وثغرٌ باسمٌ، وقلبٌ نقيٌّ، وروحٌ تتمتع بالبراءة، فما أحلى مشاعر الطفولة البريئة عندما يكون حب الآخرين صادقاً ونابعاً من القلب".

 

ولأن ديننا الإسلامي الحنيف لم يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا واهتم به، فإن الاهتمام بالأطفال يبدو واضحاً وجلياً من خلال آيات القرآن الكريم، وفي سُنة نبينا المصطفى، عليه الصلاة والسلام.

فلفظ الطفل ومشتقاته ورد في أكثر من آيةٍ من آيات القرآن؛ كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ...﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ...﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ ...﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿... التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ ...﴾.

وأولت السُنة النبوية المُشرفة اهتماماً بالغاً بالطفل، مما لا يتسع المقام لذِكره كله، لكني أوجز فيما يلي مُجرد لمحاتٍ مما أورده أهل العلم في هذا الشأن، إذ قالوا إن الاهتمام بالطفل، والحرص على صيانة حقوقه يبدأ من قبل أن يولد؛ فمن حقه أن تُختار له الأم الصالحة، ثم ومع الولادة يكون للمولود الحق في أن يُسمى باسمٍ حسنٍ، وأن يُماط عنه الأذى، وأن يُحنك، وأن يُدعى له، ويُبّرك عليه، وأن يُعق عنه.

وأوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن كل طفلٍ يولد على الاستقامة والصدق والنقاء، وأن الانحراف يكون بتأثير البيئة المُحيطة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه].

وكان عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة والشفقة بالصغار؛ يُحسن مُعاشرتهم، ويحملهم، ويضعهم في حجره، ويُعانقهم، ويمسح على رؤوسهم. وكان يُقبّلهم حتى أنه لما تعجب أحد الصحابة من ذلك وقال إنّ له عشرةً من الولد ما قبّل منهم أحداً، نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: [مَن لا يَرحَمْ، لا يُرحَمْ]. ومن مزيد شفقته على الأطفال ورحمته بهم وحُبه لهم، أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يحمل أُمامة بنت ابنته زينب وهو في الصلاة، يضعها على الأرض إذا هوى للركوع، ويحملها مرةً ثانيةً إذا رفع من السجود. بل وكان يُخفف الصلاة والناس مؤتمون به إذا سمع بكاء صبيٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي ممَّا أَعْلَمُ مِن شِدَّةِ وجْدِ أُمِّهِ مِن بُكَائِهِ]. وفي زمنٍ كان الناس فيه يئدون بناتهم ويدفنونهن أحياءً، حثّ نبي الرحمة على الاهتمام بالبنات فقال صلى الله عليه وسلم: [مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ البَنَاتِ بشيءٍ، فأحْسَنَ إلَيْهِنَّ كُنَّ له سِتْرًا مِنَ النَّارِ].

ثم ها هو رسول الرحمة يرى ابنه إبراهيم يجود بنفسه فظلت عينا رسول الله عليه الصلاة والسلام تذرفان، فقيل له: وأنت يا رسول الله؟ فقال: [إنَّهَا رَحْمَةٌ]، ثم قال: [إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ].

وجَاءَهُ رَسولُ إحْدَى بَنَاتِهِ -قيل إنها زينب رضي الله عنها- يَدْعُوهُ للحضور حيث أن ابْنِهَا يحتضر، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [ارْجِعْ إلَيْهَا فأخْبِرْهَا أنَّ لِلَّهِ ما أخَذَ وله ما أعْطَى، وكُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ ولْتَحْتَسِبْ]، فأرسَلتْ إليه تُقسِمُ عليه أنْ يَحضُرَ، فأبَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسَمَها وذهَبَ إليها، فلمَّا حضَر رفَعوا له الطِّفلَ ووضَعُوه في حجْرِه، ونفْسُ الطفل تَقَعْقَعُ، أي: تَضطرِبُ وتَتحرَّكُ ويُسمَعُ لها صَوتٌ، ففاضتْ عَينَا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالدَّمعِ رَحمةً بالصَّغير، فقيل له: يا رَسولَ اللَّهِ، ما هذا؟ قالَ: [هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ].

وكان النبي يُمازح الأطفال ويُداعبهم؛ فقد كان لطفلٍ صغيرٍ كُنيته أبو عُمير طائرٌ يُسمى نُغَيْر يلعب به فمات، فحزن عليه؛ فكان عليه الصلاة والسلام كلما رأى الطفل سأله: [يا أبا عُمَيرُ! ما فعل النُّغَيرُ؟].

ومن باب اهتمام النبي باليتامى من الأطفال قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ حَسَنَةً، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ أَوْ يَتِيمَةٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا]، وَنَصَبَ إِصْبَعَيْنِ وَقَرَنَهُمَا. واهتم كذلك بما يهيئ لهم حياةً كريمةً في المستقبل، فحرّم أكل أموالهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ] وذكر منها [أكْلُ مالِ اليَتيمِ].

أما في مقام التربية فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك سبيل التقريع أو التعنيف؛ قال أحد الصحابة: "كنتُ غلاماً في حجر رسول الله عليه الصلاة والسلام وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله: [يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ]". وقال أنس بن مالك الذي خدم رسول الله عشر سنين: "خَدَمْتُهُ -أي النبي صلى الله عليه وسلم- في السَّفَرِ والحَضَرِ، ما قالَ لي لِشَيءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هذا هَكَذا؟ ولا لِشَيءٍ لَمْ أصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هذا هَكَذا؟".

وكان عليه الصلاة والسلام يُشعر الأطفال بشخصيتهم، ويُربي فيهم روح الفُتوة والشباب؛ فكان يمر على الصبيان فيُسلم عليهم، ويمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم. وكان الأطفال يُصّلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، ويصِّفون خلف الرجال أمام صفوف النساء، وكانوا يشهدون الجماعات والجُمع والأعياد والجنائز. وفرض رسول الله عليه الصلاة والسلام على رب الأسرة أن يُخرج زكاة الفطر عنه وعن أطفاله، وفي ذلك تعويدٌ للطفل على التصدق، وأن صيامه لا يكون مقبولاً إلا بمواساة المساكين والمحتاجين. وكان أطفال الصحابة رضي الله عنهم يصومون، ويُصّلون، ويحفظون القرآن الكريم، وكانوا يحجون مع أهليهم.

 

يتضح مما سبق -وهو غيضٌ من فيضٍ-كيف أن الإسلام وضع منهجاً شاملاً مُتكاملاً لتربية الطفل وتنشئته وصيانة كرامته وحقوقه، أروع ما في هذا المنهج أنه ليس (مُعجزة)، بل هو سهل التطبيق، لم يكن نصوصاً نظريةً بقدر ما كان أسلوب حياةٍ، رباني المصدر، صاغه النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن ينطق عن الهوى. استمر تطبيق هذا المنهج الرباني طوال فترة حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بعده في عصر الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم التزم به الصحابة والتابعون. منهجٌ جعل من الأطفال رجالاً عظاماً سادوا الدُنيا، ونشأت على أيديهم حضارةٌ لم يشهد التاريخ مثيلاً لها.

هو ذات المنهج الذي عندما تخلفنا عنه انتهت حضارتنا، وأفل نجمها، وضعف أهلها، وهانوا وذلوا. وفي إشارةٍ إلهيةٍ للخروج من هذا الوضع يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وفي ذلك ربطٌ بين علو الشأن والإيمان، وتوضيحٌ بأن ليس كل مُسلمٍ مؤمناً؛ فلن يكون العلو إذاً إلا عندما يتحول كل مُسلمٍ منا إلى مؤمنٍ كامل الإيمان.

 

أحبتي.. لا أبالغ إذا قلتُ إنها ليست (مُعجزة) أن نستعيد حضارتنا الإسلامية، علينا فقط أن نُربي أطفالنا على قيم الإسلام ومبادئه، وعلى المنهج الذي حقق به المسلمون الأوائل حضارتنا الأولى، التي استمرت -لأكثر من ثمانية قرونٍ- تُشع ضياءها على العالم كله؛ فأخرجته من ظلمات الجهل والتخلف إلى نور الحق والعدل والسلام.

نصيحتي لكل أمٍ ولكل أبٍ: أطفالكم أمانةٌ بين أيديكم، ستُسألون عنهم؛ ربوهم على منهج رسول الله، اعطوا الدين الأولوية في تربية أطفالكم، علِّموهم صحيح الدين، حفِّظوهم القرآن الكريم، اغرسوا فيهم قيم الإسلام السامية، عوّدوهم على تقوى الله سبحانه وتعالى ومراقبة النفس وحسابها، شجِّعوهم على أن يعتزوا بدينهم، ويفخروا بأنهم مُسلمون، وعلِّموهم -في ذات الوقت لكن ليس على حساب الدين- علوم الحياة واللغات الأجنبية وتقنيات العصر، ونمّوا قُدراتهم في مُختلف المجالات: الرياضية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها؛ ليخرج لنا جيلٌ مُسلمٌ، مُتمسكٌ بدينه، قوي العقيدة، يملك ناصية العِلم، مُتفوقٌ في جميع المجالات، جيلٌ ينهض بالأُمة، يسترجع لها كرامتها، ويُعيد للعالم كله ما افتقده من قيم الحب والخير والوئام.

ليس الهدف بعيداً كما يتصور البعض، ولا يحتاج إلى (مُعجزة)، يحتاج فقط إلى إرادةٍ تجعلنا نبدأ بأنفسنا، ونأخذ بالأسباب ونلتزم بالمنهج الرباني الذي تعلمناه من نبينا الكريم في تربية أطفالنا.

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، وأصلح أحوالنا، واهدنا سبيل الرشاد.

https://bit.ly/3IWc7co