الجمعة، 22 يوليو 2022

مُعجزة

 

خاطرة الجمعة /353


الجمعة 22 يوليو 2022م

(مُعجزة)

 

توجّهت الطفلة ذات السنوات الست إلى غُرفة نومها، وتناولت حصالة نقودها من مخبئها السري في خزانتها، ثم أفرغتها مما فيها على الأرض، وأخذت تعد بعنايةٍ ما جمعته من نقودٍ خلال الأسابيع الفائتة، ثم أعادت عدها ثانيةً فثالثةً ورابعةً، ثم همست في سرها: "إنها بالتأكيد كافيةٌ، ولا مجال لأي خطأ". وبكل عنايةٍ أرجعت النقود إلى الحصالة، ثم لبست رداءها، وتسللت من الباب الخلفي لدارها، مُتجهةً إلى الصيدلية التي لا تبعد كثيراً عن الدار.

كان الصيدلي مشغولاً للغاية فانتظرته صابرةً، ولكنه استمر مُنشغلاً عنها بالحديث مع شخصٍ معه؛ فحاولت لفت نظره دون جدوى، فما كان منها -بعد أن يئست- إلا أن أخرجت قطعة نقودٍ معدنيةٍ من فئة ربع دولارٍ من الحصالة، وألقتها فوق زجاج الطاولة التي يقف وراءها الصيدلي، عندئذٍ فقط انتبه إليها، فسألها بصوتٍ عبَّر فيه عن استيائه: "ماذا تريدين أيتها الطفلة؟ هذا الذي يجلس معي أخي الذي لم أره مُنذ زمنٍ طويل"، فأجابته بحدةٍ مُظهرةً بدورها انزعاجها من سلوكه: "أخي الصغير مريضٌ جداً، وبحاجةٍ إلى دواءٍ اسمه (مُعجزة) وأريد أن أشتري له هذا الدواء!"، أجابها الصيدلي بشيءٍ من الدهشة: "عفواً، ماذا قلتِ؟"، فاستأنفت كلامها قائلةً بكل جديةٍ: "أخي الصغير «أندرو» يشكو من مُشكلةٍ في غاية السوء؛ يقول والدي إن هناك ورماً في رأسه لا تُنقذه سوى (مُعجزة)، هل فهمتني؟ فكم هو ثمن (مُعجزة)؟ أرجوك أفدني حالاً!"، أجابها الصيدلي مُغيّراً لهجته إلى أسلوبٍ أكثر نعومةً: "أنا آسفٌ؛ فأنا لا أبيع (مُعجزة) في صيدليتي!"، أجابته الطفلة مُلحَّةً: "اسمعني جيداً؛ فأنا معي ما يكفي من النقود لشراء الدواء فقط قل لي كم هو ثمن (مُعجزة)؟". كان شقيق الصيدلي يُصغي إلى الحديث فتقدم من الطفلة سائلاً: "ما نوع (معجزة) التي يحتاجها شقيقك «أندرو»؟"، أجابته الطفلة بعينين مغرورقتين بالدموع: "لا أدري؛ ولكن كل ما أعرفه أن أخي مريضٌ جداً، قالت أمي إنه بحاجةٍ إلى عمليةٍ جراحيةٍ، لكن أبي أجابها أنه لا يملك نقوداً تُغطي تكاليف هذه العملية، لذا قررتُ أن أستخدم نقودي!"، سألها شقيق الصيدلي مُبدياً اهتمامه: "كم لديك من النقود يا صغيرة؟"، فأجابته مزهوةً: "دولارٌ وأحد عشر سنتاً، ويُمكنني أن أجمع المزيد إذا احتجتَ"، أجابها مُبتسماً: "يا لها من مُصادفةٍ! دولارٌ واحدٌ وأحد عشر سنتاً هو بالضبط ثمن (مُعجزة) من أجل شقيقك الصغير". ثم تناول منها المبلغ بيدٍ وباليد الأخرى أمسك بيدها الصغيرة طالباً منها أن تقوده إلى دارها ليُقابل والديها، وقال لها: "أريد رؤية شقيقك أيضاً".

لقد كان ذلك الرجل هو الدكتور «كارلتن أرمسترنغ» جرّاح الأعصاب المعروف، والذي قام بإجراء العملية للطفل «أندرو» مجاناً، وكانت عمليةً ناجحةً تعافى بعدها «أندرو» تماماً.

بعد بضعة أيامٍ جلس الوالدان يتحدثان عن تسلسل الأحداث كيف تعرَّف الدكتور «كارلتون» على حالة ولدنا؟ وبعد نجاح العملية وعودة «أندرو» إلى حالته الطبيعية كان الوالدان يتحدثان وقد غمرتهما السعادة، شكراً لله أن جلب لنا الدكتور، وقالت الوالدة في سياق الحديث: "حقاً إنها (مُعجزة)!"،

ثم تساءل الوالدان: "يا تُرى كم كلفت هذه العملية؟"، رسمت الطفلة على شفتيها ابتسامةً عريضةً؛ فهي التي اشترت (مُعجزة)، وهي وحدها التي تعلم أن (مُعجزة) التي عالجت أخاها كلفت بالضبط دولاراً واحداً وأحد عشر سنتاً!!

 

أحبتي في الله.. تُمثل هذه القصة صورةً واضحةً وجليةً لبراءة الأطفال؛ يقول ناشر القصة: "عندما قرأتُ هذه القصة دخلتُ عالم الطفولة، وأحسستُ بإحساسٍ رائعٍ لا يوصف؛ فالطفولة صفحةٌ بيضاء وحياةٌ كلها صفاءٌ، وثغرٌ باسمٌ، وقلبٌ نقيٌّ، وروحٌ تتمتع بالبراءة، فما أحلى مشاعر الطفولة البريئة عندما يكون حب الآخرين صادقاً ونابعاً من القلب".

 

ولأن ديننا الإسلامي الحنيف لم يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا واهتم به، فإن الاهتمام بالأطفال يبدو واضحاً وجلياً من خلال آيات القرآن الكريم، وفي سُنة نبينا المصطفى، عليه الصلاة والسلام.

فلفظ الطفل ومشتقاته ورد في أكثر من آيةٍ من آيات القرآن؛ كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ...﴾، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ...﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ ...﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿... التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ ...﴾.

وأولت السُنة النبوية المُشرفة اهتماماً بالغاً بالطفل، مما لا يتسع المقام لذِكره كله، لكني أوجز فيما يلي مُجرد لمحاتٍ مما أورده أهل العلم في هذا الشأن، إذ قالوا إن الاهتمام بالطفل، والحرص على صيانة حقوقه يبدأ من قبل أن يولد؛ فمن حقه أن تُختار له الأم الصالحة، ثم ومع الولادة يكون للمولود الحق في أن يُسمى باسمٍ حسنٍ، وأن يُماط عنه الأذى، وأن يُحنك، وأن يُدعى له، ويُبّرك عليه، وأن يُعق عنه.

وأوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن كل طفلٍ يولد على الاستقامة والصدق والنقاء، وأن الانحراف يكون بتأثير البيئة المُحيطة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه].

وكان عليه الصلاة والسلام شديد الرحمة والشفقة بالصغار؛ يُحسن مُعاشرتهم، ويحملهم، ويضعهم في حجره، ويُعانقهم، ويمسح على رؤوسهم. وكان يُقبّلهم حتى أنه لما تعجب أحد الصحابة من ذلك وقال إنّ له عشرةً من الولد ما قبّل منهم أحداً، نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: [مَن لا يَرحَمْ، لا يُرحَمْ]. ومن مزيد شفقته على الأطفال ورحمته بهم وحُبه لهم، أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يحمل أُمامة بنت ابنته زينب وهو في الصلاة، يضعها على الأرض إذا هوى للركوع، ويحملها مرةً ثانيةً إذا رفع من السجود. بل وكان يُخفف الصلاة والناس مؤتمون به إذا سمع بكاء صبيٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي ممَّا أَعْلَمُ مِن شِدَّةِ وجْدِ أُمِّهِ مِن بُكَائِهِ]. وفي زمنٍ كان الناس فيه يئدون بناتهم ويدفنونهن أحياءً، حثّ نبي الرحمة على الاهتمام بالبنات فقال صلى الله عليه وسلم: [مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ البَنَاتِ بشيءٍ، فأحْسَنَ إلَيْهِنَّ كُنَّ له سِتْرًا مِنَ النَّارِ].

ثم ها هو رسول الرحمة يرى ابنه إبراهيم يجود بنفسه فظلت عينا رسول الله عليه الصلاة والسلام تذرفان، فقيل له: وأنت يا رسول الله؟ فقال: [إنَّهَا رَحْمَةٌ]، ثم قال: [إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ].

وجَاءَهُ رَسولُ إحْدَى بَنَاتِهِ -قيل إنها زينب رضي الله عنها- يَدْعُوهُ للحضور حيث أن ابْنِهَا يحتضر، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [ارْجِعْ إلَيْهَا فأخْبِرْهَا أنَّ لِلَّهِ ما أخَذَ وله ما أعْطَى، وكُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ ولْتَحْتَسِبْ]، فأرسَلتْ إليه تُقسِمُ عليه أنْ يَحضُرَ، فأبَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسَمَها وذهَبَ إليها، فلمَّا حضَر رفَعوا له الطِّفلَ ووضَعُوه في حجْرِه، ونفْسُ الطفل تَقَعْقَعُ، أي: تَضطرِبُ وتَتحرَّكُ ويُسمَعُ لها صَوتٌ، ففاضتْ عَينَا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالدَّمعِ رَحمةً بالصَّغير، فقيل له: يا رَسولَ اللَّهِ، ما هذا؟ قالَ: [هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ].

وكان النبي يُمازح الأطفال ويُداعبهم؛ فقد كان لطفلٍ صغيرٍ كُنيته أبو عُمير طائرٌ يُسمى نُغَيْر يلعب به فمات، فحزن عليه؛ فكان عليه الصلاة والسلام كلما رأى الطفل سأله: [يا أبا عُمَيرُ! ما فعل النُّغَيرُ؟].

ومن باب اهتمام النبي باليتامى من الأطفال قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ حَسَنَةً، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ أَوْ يَتِيمَةٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا]، وَنَصَبَ إِصْبَعَيْنِ وَقَرَنَهُمَا. واهتم كذلك بما يهيئ لهم حياةً كريمةً في المستقبل، فحرّم أكل أموالهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ] وذكر منها [أكْلُ مالِ اليَتيمِ].

أما في مقام التربية فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك سبيل التقريع أو التعنيف؛ قال أحد الصحابة: "كنتُ غلاماً في حجر رسول الله عليه الصلاة والسلام وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله: [يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ]". وقال أنس بن مالك الذي خدم رسول الله عشر سنين: "خَدَمْتُهُ -أي النبي صلى الله عليه وسلم- في السَّفَرِ والحَضَرِ، ما قالَ لي لِشَيءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هذا هَكَذا؟ ولا لِشَيءٍ لَمْ أصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هذا هَكَذا؟".

وكان عليه الصلاة والسلام يُشعر الأطفال بشخصيتهم، ويُربي فيهم روح الفُتوة والشباب؛ فكان يمر على الصبيان فيُسلم عليهم، ويمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم. وكان الأطفال يُصّلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، ويصِّفون خلف الرجال أمام صفوف النساء، وكانوا يشهدون الجماعات والجُمع والأعياد والجنائز. وفرض رسول الله عليه الصلاة والسلام على رب الأسرة أن يُخرج زكاة الفطر عنه وعن أطفاله، وفي ذلك تعويدٌ للطفل على التصدق، وأن صيامه لا يكون مقبولاً إلا بمواساة المساكين والمحتاجين. وكان أطفال الصحابة رضي الله عنهم يصومون، ويُصّلون، ويحفظون القرآن الكريم، وكانوا يحجون مع أهليهم.

 

يتضح مما سبق -وهو غيضٌ من فيضٍ-كيف أن الإسلام وضع منهجاً شاملاً مُتكاملاً لتربية الطفل وتنشئته وصيانة كرامته وحقوقه، أروع ما في هذا المنهج أنه ليس (مُعجزة)، بل هو سهل التطبيق، لم يكن نصوصاً نظريةً بقدر ما كان أسلوب حياةٍ، رباني المصدر، صاغه النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن ينطق عن الهوى. استمر تطبيق هذا المنهج الرباني طوال فترة حياة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بعده في عصر الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم التزم به الصحابة والتابعون. منهجٌ جعل من الأطفال رجالاً عظاماً سادوا الدُنيا، ونشأت على أيديهم حضارةٌ لم يشهد التاريخ مثيلاً لها.

هو ذات المنهج الذي عندما تخلفنا عنه انتهت حضارتنا، وأفل نجمها، وضعف أهلها، وهانوا وذلوا. وفي إشارةٍ إلهيةٍ للخروج من هذا الوضع يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ وفي ذلك ربطٌ بين علو الشأن والإيمان، وتوضيحٌ بأن ليس كل مُسلمٍ مؤمناً؛ فلن يكون العلو إذاً إلا عندما يتحول كل مُسلمٍ منا إلى مؤمنٍ كامل الإيمان.

 

أحبتي.. لا أبالغ إذا قلتُ إنها ليست (مُعجزة) أن نستعيد حضارتنا الإسلامية، علينا فقط أن نُربي أطفالنا على قيم الإسلام ومبادئه، وعلى المنهج الذي حقق به المسلمون الأوائل حضارتنا الأولى، التي استمرت -لأكثر من ثمانية قرونٍ- تُشع ضياءها على العالم كله؛ فأخرجته من ظلمات الجهل والتخلف إلى نور الحق والعدل والسلام.

نصيحتي لكل أمٍ ولكل أبٍ: أطفالكم أمانةٌ بين أيديكم، ستُسألون عنهم؛ ربوهم على منهج رسول الله، اعطوا الدين الأولوية في تربية أطفالكم، علِّموهم صحيح الدين، حفِّظوهم القرآن الكريم، اغرسوا فيهم قيم الإسلام السامية، عوّدوهم على تقوى الله سبحانه وتعالى ومراقبة النفس وحسابها، شجِّعوهم على أن يعتزوا بدينهم، ويفخروا بأنهم مُسلمون، وعلِّموهم -في ذات الوقت لكن ليس على حساب الدين- علوم الحياة واللغات الأجنبية وتقنيات العصر، ونمّوا قُدراتهم في مُختلف المجالات: الرياضية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها؛ ليخرج لنا جيلٌ مُسلمٌ، مُتمسكٌ بدينه، قوي العقيدة، يملك ناصية العِلم، مُتفوقٌ في جميع المجالات، جيلٌ ينهض بالأُمة، يسترجع لها كرامتها، ويُعيد للعالم كله ما افتقده من قيم الحب والخير والوئام.

ليس الهدف بعيداً كما يتصور البعض، ولا يحتاج إلى (مُعجزة)، يحتاج فقط إلى إرادةٍ تجعلنا نبدأ بأنفسنا، ونأخذ بالأسباب ونلتزم بالمنهج الرباني الذي تعلمناه من نبينا الكريم في تربية أطفالنا.

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، وأصلح أحوالنا، واهدنا سبيل الرشاد.

https://bit.ly/3IWc7co

الجمعة، 15 يوليو 2022

حُسن التصرف

 

خاطرة الجمعة /352


الجمعة 15 يوليو 2022م

(حُسن التصرف)

 

كتب مُحمدٌ عن بعض ذكرياته في «الولايات المتحدة الأمريكية» يقول:

حدث هذا الموقف في صلاة عيد الأضحى قبل حوالي خمسةٍ وثلاثين عاماً، في شهر أغسطس عام 1986م، بالمسجد الكبير بمدينة «نيو چرسي»، مساحة المسجد محدودةٌ، إلا أنه يتوسط حديقةً كبيرةً تستوعب عادةً جميع المصلين، وفي صباح يوم العيد فوجئ إمام المسجد بأنه قد تم ليلة العيد إغراق الحديقة المُحيطة بالمسجد بالمياه بحُجة ريها! فأصبح من المُستحيل أن يُصلي المُسلمون صلاة العيد في الحديقة كما تعودوا، ولم يكن من مكانٍ للصلاة إلا داخل المسجد، وهو صغير المساحة قليل الاستيعاب، فكان من (حُسن التصرف) أن صلى الإمام -وهو لبناني الأصل اسمه الشيخ/ حمد شبلي- صلاة العيد عدة مراتٍ مُتتابعة، ولاحظتُ أنه اختصر خطبته وجعلها قصيرةً، وكان يطلب في نهاية كل صلاةٍ من المصلين سرعة مُغادرة المسجد ليُفسحوا المكان لغيرهم للصلاة.

بعد عدة سنواتٍ من هذا الموقف، وفي مدينة «نيو أورلينز» بولاية «لويزيانا»، مررتُ بتجربةٍ أُخرى، إذ وصلنا إلى هذه المدينة الجميلة، أنا وزميلٌ لي اسمه چورچ، يدرس معي في نفس الجامعة، بعد قيادة السيارة لمدة ثلاث عشرة ساعةً قادمين من مدينة «ساراسوتا» بولاية «فلوريدا» لزيارة والدته وقضاء أربعة أيام معها -كانت أيام عطلةٍ قوميةٍ بمناسبة ذكرى الرابع من يوليو- قبل العودة للجامعة مرةً أخرى لاستكمال ما تبقى من مُقرر الدراسة الصيفية المُكثف. وصلنا قُبيل فجر يوم جُمعةٍ مُجهدين؛ فنمتُ فوراً في غرفةٍ كانت قد أعدتها والدته لي. أيقظني چورچ بعد عدة ساعاتٍ لتناول طعام الإفطار مع والدته، وكانت امرأةً بدينةً، كبيرةً في السن تجاوز عُمرها الثمانين عاماً، لكن تبدو بصحةٍ جيدةٍ، ودودةٌ بشوشةٌ، كانت تعمل مديرةً لإحدى المدارس. بعد حوارٍ قصيرٍ بيننا أبدت فيه ترحيبها بي، سألتُها عن أقرب مسجدٍ لأداء صلاة الجُمعة، فلم تعرف لا هي ولا چورچ مكان المسجد، فألهمني ربي (حُسن التصرف) فطلبتُ منه أن يأتيني بدليل الهاتف، بحثتُ في الدليل عن أي شخصٍ يحمل اسماً إسلامياً مثل مُحمد أو محمود أو عُمر، وجدتُ كثيرين؛ فاخترتُ واحداً منهم بشكلٍ عشوائيٍ واتصلتُ به، وعرفته بنفسي وبأني مُسلمٌ أزور هذه المدينة لأول مرةٍ وأريد أن أعرف مكان المسجد لأُصلي الجُمعة، فاجأني بسؤالٍ عما إذا كنتُ أريد مسجداً للسُنة أم للشيعة، فأجبته بأني أريد مسجداً للسُنة، فسألني عن موقعي الحالي بالمدينة، فأعطيتُ سماعة الهاتف لچورچ كي يُخبره بذلك، وواضحٌ مما سمعتُ أنه عرف منه مكان المسجد، ورأيته يُدوّن على قصاصة ورقٍ رقم هاتفٍ، ثم شكره وأنهى المكالمة، وقال لي إنه حصل على رقم هاتف المسجد! تعجبتُ لذلك، لكن زال تعجبي عندما اتصل چورچ بالمسجد ليسأل عن موعد بدء الصلاة وموعد انتهائها، أدركتُ وقتها أن هذا الأمر من المُهم أن يعرفه كل مُصلٍ؛ إذ أن يوم الجُمعة ليس يوم إجازةٍ أسبوعيةٍ -كما في بلادنا- بل هو يوم عملٍ يحتاج المُسلم فيه للاستئذان من عمله لمدةٍ مُحددةٍ تكفي لذهابه للمسجد وأداء صلاة الجُمعة ثم العودة إلى مقر العمل. اغتسلتُ وتوضأتُ وأوصلني چورچ إلى المسجد على أن يعود لي في الوقت المُحدد لانتهاء الصلاة. افتتح الإمام -وهو أمريكيٌ من ذوي البشرة السوداء- خطبة الجُمعة بكلماتٍ يحفظها بلغةٍ عربيةٍ ركيكةٍ، انطلق بعدها يتحدث بلغةٍ إنجليزيةٍ بليغةٍ، ثم مد يده إلى عدة كُتيبات كان يضعها على يمينه؛ فتناول واحداً منها فتحه على صفحةٍ يضع فيها ورقةً كعلامةٍ للمكان الذي سيبدأ منه القراءة، وقرأ صفحةً من الكُتيب، ثم وضعه جانباً على يساره، وتناول كُتيباً آخر، وفعل نفس الشيء معه، وكرر ذلك مرتين أُخريين، واتضح لي مما قرأ من نصوصٍ أنّ أحد تلك الكُتيبات هو للعقيدة، والآخر للعبادات، والثالث للتفسير، أما الرابع فهو للسيرة، وبدا لي ذلك أنه نوعٌ من (حُسن التصرف) من الإمام الذي ختم بعد ذلك بدعاءٍ يحفظه بلغةٍ عربيةٍ ممزوجةٍ بلكنةٍ أجنبية، ثم أقام أحد الحاضرين الصلاة؛ فصلى بنا الإمام بقصار السور، وانتهت الصلاة في الوقت المحدد تماماً! سارع المصلون للخروج من المسجد للحاق بجهات عملهم، في الوقت الذي عاد فيه چورچ فأقلني بسيارته، وعُدنا إلى البيت. وجدنا والدته تستقبلنا بترحابٍ، وجلسنا نتبادل أطراف الحديث؛ عبّرت عن سعادتها لحرصي على الصلاة، وطلبت مني أن أحث ابنها على الصلاة في الكنيسة، فقلتُ لها: "اعذريني سيدتي، لا أستطيع، لو طلبتِ مني أن أحثه على الصلاة في المسجد لفعلت"، فقالت: "المهم أن يُصلي؛ فنحن نعبد رباً واحداً"، وجدتُ نفسي وقد أُلهمتُ بأنه من (حُسن التصرف) ألا أستمر في هذا الحوار الشائك فأنهيتُ الحديث بقولي: "هدانا الله جميعاً"، فردت -وهي تبتسم- بكلمةٍ واحدةٍ؛ قالت: "آمين".

 

أحبتي في الله.. تشتد الحاجة إلى (حُسن التصرف) في المواقف الطارئة، والمواقف المُحرجة، وبعض المواقف الاستثنائية والخاصة التي تحتاج إلى التفكير خارج الصندوق كما يُقال، وهي مواقف يمر بها الجميع، وسعيد الحظ الذي يمر منها بنوعٍ من الذكاء والفِطنة وسُرعة البديهة.

ويقول العلماء إنّ من المبادئ المُفيدة في ذلك: التنبؤ بالمواقف المُحرجة والاستعداد لها مُسبقاً قدر الإمكان، هدوء الأعصاب وعدم الانفعال وتجنب الغضب، اللباقة وضبط النفس، سُرعة التصرف، حزم الأمر وعدم التردد.

وللمواقف المُحرجة فوائد جمّةٌ من أهمّها: تنمية الفِطنة والذكاء وسُرعة البديهة، بالإضافة إلى توسيع المدارك وزيادة الخبرات والتجارب.

 

ذكّرني الموقفان اللذان مرّ بهما مُحمد بقصةٍ حدثت قديماً في إحدى قُرى «الهند»، حيث اقترض مُزارعٌ مبلغاً كبيراً من المال من أحد المُرابين بالقرية ولم يستطع سداد القرض في الموعد المُحدد. أُعجب المُرابي العجوز القبيح ببنت المُزارع الفاتنة، فقدّم عرضاً بمقايضةٍ؛ قال بأنه سيعفي المُزارع من القرض إذا زوجه ابنته، فزع المُزارع وابنته من هذا العرض؛ فاقترح المُرابي الماكر أن يدع المُزارع وابنته للقدر يُقرر هذا الأمر؛ أخبرهم بأنه سيضع حصاتين: واحدةً سوداء والأخرى بيضاء في كيس النُقود، وعلى الفتاة التقاط إحدى الحصاتين؛ إذا التقطت الحصاة السوداء، تُصبح زوجةً له ويتنازل عن قرض أبيها، وإذا التقطت الحصاة البيضاء، لا تتزوجه ويتنازل عن قرض أبيها، أما إذا رفضت التقاط أي حصاةٍ فسيسجن أباها. كان الجميع يقفون على ممرٍ مفروشٍ بالحصى في أرض المُزارع، وحينما كان النقاش جارياً، انحنى المُرابي ليلتقط حصاتين، وانتبهت الفتاة إلى أنه التقط حصاتين سوداوين، ووضعهما في الكيس، ثم طلب منها التقاط حصاةٍ من الكيس. فكّرت الفتاة بسُرعةٍ، كيف تتصرف في هذا الموقف؟ لم يُنقذها من تلك الورطة إلا (حُسن التصرف) وسُرعة البديهة؛ إذ أدخلت يدها في كيس النُقود وسحبت منه حصاةً، أطبقت عليها بيدها كي لا يرى أحدٌ لونها ثم تعمدت أن تتعثر وتُسقط الحصاة من يدها في الممر المملوء بالحصى، وبذلك لا يمكن الجزم أبداً بلون الحصاة التي التقطتها، ثم قالت بصوتٍ عالٍ ومسموعٍ للجميع: "يا لي من فتاةٍ حمقاء؛ لقد وقعت الحصاة مني، لكننا نستطيع النظر في الكيس للحصاة الباقية وعندئذٍ نعرف لون الحصاة التي التقطتها". هكذا قالت الفتاة، وبما أن الحصاة المتبقية في الكيس سوداء، فإنه من المنطقي أن تكون الحصاة التي التقتطها وأوقعتها على الأرض هي الحصاة البيضاء. و بما أن المُرابي لن يجرؤ على فضح نفسه وإظهار عدم أمانته، فإن الفتاة تكون -نتيجة (حُسن التصرف)- قد غيّرت ما ظهر أنه موقفٌ مُستحيلٌ التصرف فيه أو الخروج منه إلى موقفٍ نافعٍ لها ولأبيها إلى أبعد حد.

 

إنّ (حُسن التصرف) عملٌ من أعمال العقل، وفي حثٍ لنا كمُسلمين لاستخدام عقولنا الاستخدام الرشيد؛ فقد وردت الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم بعدة صورٍ، قام أحد الأفاضل بحصرها فوجد أنّ منها ما ورد بصورةٍ مُباشرةٍ وأسلوبٍ صريحٍ باللفظ والمعني؛ كما هو الحال في الآيات التي تحتوي على: مُشتقات لفظ "عقل" مثل: يعقلون، تعقلون، نعقل، يعقلها، وغيرها، وقد وردت هذه الألفاظ في القرآن الكريم تسعاً وأربعين مرةً. ومنها ما ورد ككلماتٍ مُرادفةٍ للفظة "عقل" كالقلب واللُب والفؤاد والحلم وغيرها، وقد وردت في القرآن الكريم حوالي مائةٍ وثمانين مرةً. ومنها ما ورد كألفاظٍ تُشير إلى وظيفةٍ من وظائف العقل: مثل التذكر والتفكر والتفقه والتدبر وغيرها، وقد وردت هذه الألفاظ حوالي ثلاثمائة مرةً. وهذا يعني أن مُشتقات لفظ "عقل" ومُرادفاته قد ترددت أكثر من خمسمائة مرةً في القرآن الكريم، مما يؤكد أهمية العقل ودوره في حياة الإنسان، كما يُوضح المنزلة السامية للعقل في القرآن الكريم.

 

أحبتي.. جاء في الأثر "المؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ". والذكاء رغم أنه نعمةٌ إلهيةٌ من المولى عزَّ وجلَّ يختص بها بعض عباده فتظهر في (حُسن التصرف) وسُرعة البديهة؛ وتأتي في صورة إلهامٍ أو حدسٍ أو استبصارٍ أو كشفٍ أو فتحٍ أو ما شابه، إلا أن كل مُسلمٍ، وبتوفيقٍ من الله سُبحانه وتعالى، يُمكنه بالتدريب والتركيز والرغبة الأكيدة والعزيمة الصادقة والمُمارسة الواعية وتراكم الخبرات، أن يكتسب الكياسة والفِطنة، ويُنميهما، ويُطوعهما لخدمة دينه وخدمة وطنه وخدمة نفسه وغيره من الناس، بغير ضررٍ يقع على أحد؛ فليجتهد كلٌ منا أن يكون كَيّساً وأن يكون فطناً، وألا يترك الكياسة والفِطنة لغيره، فالحكمة ضالة المؤمن؛ حيث وجدها فهو أحق بها.

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الذين تُنعم عليهم بالذكاء والفِطنة فيحسنوا التصرف فيما يمر بهم من مواقف.

https://bit.ly/3yPtEP8

الجمعة، 8 يوليو 2022

دعاء يوم عرفة

 

خاطرة الجمعة /351


الجمعة 8 يوليو 2022م

(دعاء يوم عرفة)

 

يقول أحد الأخوة: من سنةٍ بالضبط، شبّ حريقٌ في السوبر ماركت الذي أملكه نتيجة ماسٍ كهربائيٍ، واشتعلت النار في أكثر من ثلاثة أرباع البضاعة. وقعت هذه الحادثة قبل يوم عرفة بيومين، ولكم أن تتخيلوا الحال التي كنتُ عليها؛ فقد كُنا نستعد لموسم عيد الأضحى، وهو من مواسم البيع التي يحرص كل تاجرٍ على أن يُحقق فيها ما يستطيع من أرباح. لكن بعد هذا الحريق صار عملي شبه مُتوقفٍ وحالي أصبح صعباً، وهذا يعني أنه بدلاً من فرحة العيد، سيكون هناك حزنٌ ونكدٌ وديون. كنتُ وقتها عريساً جديداً مُتزوجاً من شهرين، والبضاعة التي احترقت تُقدر بحوالي 15 ألف جنيه. بدأتُ أسأل نفسي: "ماذا أفعل؟ كيف أتصرف؟ هل أطلب من زوجتي أن تبيع ذهبها وهي ما زالت عروسةً جديدة؟ ماذا أفعل؟"، رأيتُ أن أفضل حلٍ هو أن أقترض من أحد أصدقائي؛ فكنتُ كلما أدخل على واحدٍ منهم وأطلب منه قرضاً يقول لي: "داخلين على عيد، اعذرني لا أستطيع أن أساعدك!". بقيتُ يومين على هذه الحال، أقصى ما استطعت أن أقترضه من أصحابي ومعارفي مبلغ 800 جنيه فقط، وهذا المبلغ بالنسبة للبضاعة التالفة لا يعدو كونه نقطةً في بحرٍ!

ليلتها رجعتُ إلى بيتي فالتقيتُ بجاري وأنا عائدٌ إلى البيت فقال لي: "كل سنةٍ وأنت طيبٌ يا أستاذ، لا تنسَ الصيام غداً"، فقلتُ بيني وبين نفسي: "أي صيامٍ هذا وأنا في هذه الحال؟! دعني وشأني". أرادت زوجتي أن تواسيني؛ فطلبت مني أن نخرج ونتمشى قليلاً، فخرجنا فعلاً، والمشوار لم يكن جميلاً أبداً وأنا حزينٌ ومُكتئبٌ وأفكر بوضعي طوال الوقت، فلما عُدنا إلى البيت قالت لي: "هيا للسحور؛ فقد اقترب موعد أذان الفجر!"، فقلت لها: "أي سحورٍ هذا؟"، لم أكن أتذكر حتى أن يوم عرفة سيدخل بعد قليلٍ؛ فقلتُ لها: "أنا في وادٍ وأنتِ في وادٍ آخر، أي سحورٍ، وأي عرفة؟ ألا ترين وضعنا الذي نحن فيه؟"، فقالت: "قدّر الله وما شاء فعل، لكنه لن ينسانا. أما الصيام فلابد منه!". أصرّت زوجتي أن أصوم، وفعلاً نوينا الصيام، وحين اقتربت ساعة الإفطار قالت لي: "ادعُ ربّك، (دعاء يوم عرفة) مُستجابٌ بإذن الله"، فقلت: "بماذا أدعو؟"، قالت: "ادعُ بأي شيءٍ تريده"، قلت لها: "يعني أدعو بـ 15 ألف جنيه فتنزل من السماء الآن، هل هذا معقول؟!"، قالت: "الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على كل شيءٍ"، وتركتني وقامت تُصلي وتدعو الله، أما أنا فتكبّرتُ عن الدعاء، وانتهى اليوم، وفطرنا ولم أدعُ الله بحرف. بصراحةٍ لم يكن في بالي شيءٌ أصلاً غير مبلغ ال 15 ألف جنيه لأستعيد به عملي وسعادتي!!

بعد المغرب بساعةٍ اتصل عليّ أحد أصدقائي وقال لي: "انزل إلى المقهى أريدك؟"، نزلتُ من بيتي إلى القهوة لأقابله، فقال لي: "يا أخي، لن أجد أحداً أفضل منك لهذا الأمر"، قلتُ: "خيرٌ إن شاء الله؟"، قال: "أحد أصدقائي استلم مبلغ جمعيةٍ كان مُشاركاً فيها، ويُريد مشروعاً يُشغِّل هذا المبلغ فيه، فما رأيك أن نكلمه ويستثمر ماله معك؟!"، فرحتُ جداً بهذا العرض؛ فقد جاء في وقته تماماً، وكلمنا الرجل ونزل إلينا على القهوة، قال لي: "أنا معي 30 ألف جنيه، ومُحتاجٌ أن أستثمرهم"، قلتُ له: "السوبر ماركت الذي عندي يحتاج 15 ألف لأشتري بهم بضاعةً جديدةً، ما رأيك أن تضع نصف المبلغ في البضاعة، والنصف الثاني في تجديد المحل، ولك 50 بالمئة من الأرباح بعد أن تسترد ال 30 ألف جنيه؟!"، وافق على ذلك، واتفقنا وتسلمتُ المبلغ منه، وجددتُ السوبر ماركت، واشتغل بعد العيد، وكدتُ يومها أطير من شدة الفرح.

قبل حادثة السوبر ماركت بأسبوعٍ، أجرينا لأُمي المُصابة بالسرطان التحاليل الدورية، وظهرت نتيجتها يوم عرفة، وإذا هي بالسالب، يعني أمي شُفيت بمعجزة! حين عرفت أُمي بالخبر وأنها سليمةٌ بكت طوال اليوم من كرم ربنا. عاد السوبر ماركت للعمل، وأُمي شُفيت من مرضها، وخُتم اليوم بأن اتصلت زوجتي بي وبشرتني -وهي تطير من الفرحة- بأنها حاملٌ، وقالت لي: "هل رأيت فضل الصوم وفضل (دعاء يوم عرفة)؟"، قلتُ في نفسي: "سبحان الله، الدنيا كلها اسودت في وجهي وقتها، في حين أن الموضوع سهلٌ ويُحل بدعوةٍ". تعلمتُ يومها درساً في الأدب مع الله عزّ وجلَّ، لن أنساه في حياتي؛ الله معنا ونحن نعبده، يبتلينا أحياناً بالهموم لنعود إليه ونتوب.

وبعد أن انتهى العيد والسوبر ماركت اشتغل، ومرّت الأيام، واكتمل مبلغ 30 ألف جنيه، أردتُ أن أرجعهم لصديقي ليردهم لصاحبه، كانت الحكاية مُختلفةً تماماً؛ قال لي: "بصراحةٍ، هذا المبلغ لم يكن لصاحبي! بل كان لشخصٍ تبرع به لوجه الله؛ لأن زوجته شُفيت من مرض عضال، فأحببنا أن نُساعدك بطريقةٍ غير مُباشرةٍ، ونقف معك في أزمتك! يعني هذا المبلغ كله لك، ولا يوجد أحدٌ ليطالبك به". ذهبتُ يومها إلى البيت، ودخلتُ غرفتي وبقيتُ ساعةً كاملةً أبكي بكاء الأطفال بأنينٍ؛ من كرم ورحمة ربنا.

كلما أتخيل كرم المولى عزّ وجلّ في حياتي رغم أني لم أكن مُلتزماً تماماً، أبكي بدل الدموع دماً. أبكي حسرةً على الوقت الذي فات من عمري وأنا بعيدٌ عنه سبحانه.

علمني هذا الموقف ماذا يعني يوم عرفة، وماذا يعني (دعاء يوم عرفة)، وماذا يعني صومه! لقد كان هذا الموقف سبباً في التزامي وتوبتي ورجوعي إلى الله. وفقنا الله وإياكم لما يُحب ويرضى دائماً أبداً، وجعلنا من المُحسنين الفائزين بكل خير.

 

أحبتي في الله.. ذكرتني هذه القصة بأُخرى تحكيها إحدى السيدات فتقول:

مر على زواجنا سنتان ولم نُنجب؛ فصرنا -أنا وزوجي- نذهب للأطباء ونفحص أنفسنا، وسبحان الله لم تكن هناك أية مشكلةٍ لا عندي ولا عند زوجي، ولا يوجد أي عائقٍ للإنجاب، توجهنا بعدها للطب الشعبي والحجامة والكثير من الأمور التي لا يُمكن تخيل بعضها، حتى كدنا نفقد الأمل؛ فقد استمر هذا الوضع لمدة ثماني سنواتٍ من زواجنا. في يوم عرفة من ثلاث سنواتٍ، ولم أكن صائمةً فيه لعُذرٍ شرعيٍ، أتذكر ذلك اليوم كما لو كان بالأمس؛ كانت الساعة الثالثة والنصف وقت صلاة العصر، حين جلستُ أمام التلفاز، فشاهدتُ الحُجاج على عرفة يدعون الله سبحانه وتعالى ويُصلون، لا أعرف ماذا أصابني، وجدتُ نفسي وقد جلستُ على الأرض وبدأتُ في البكاء كما لو أني طفلةٌ صغيرة. بدأتُ أُردد: "يا ربِ في مثل هذا اليوم تجعلني لا أصلي ولا أصوم ولا تستجيب لدعائي في الإنجاب، يا ربِ ماذا فعلتُ؟". وبقيتُ على هذه الحال ساعتين كاملتين لم أنقطع عن الدعاء والتذلل لله سبحانه وتعالى، وأطلب منه أن يُرضي قلبي، وأن يرحمني في الدنيا والآخرة. دعوته أن يرزقني راحة البال، وأن يوسع لي رزقي، ويجعلني أنا وزوجي من الصالحين، وأن يمن علينا بالذُرية الصالحة. لم يكن كلامي مُرتباً؛ فقد كنتُ أدعو بما يخطر على بالي دون أي مُقدماتٍ، بل وكنتُ أدعو باللغة العامية وليس بالعربية الفُصحى، لكن دعائي كان صادراً من القلب. لم تمر ثلاثة أشهر بعد ذلك اليوم إلا وأنا حاملٌ في طفلي الأول. أتذكر عندما اقترب موعد الولادة شعرتُ وقتها بالمعجزة الحقيقية، وباستجابة الله عزَّ وجلَّ لدعائي يوم عرفة، وجلستُ أبكي حمداً لله على ما رزقني؛ فالحمد لله دائماً وأبداً على كل شيء.

 

يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟] فهو يومٌ يعتق الله من النار كل من أخذ بأسباب العتق، سواءً من وقف بعرفاتٍ أو من لم يقف بها، ولهذا صار اليوم الذي يليه عيداً للمسلمين في جميع بقاع الأرض، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، ولاجتهادهم في عشر ذي الحجة بأنواع الصلاة والصيام والذِكر والدعاء، وتعرضهم للنفحات والرحمات في هذه الأيام المباركات.

 

وصوم يوم عرفة أفضل الصيام؛ جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ]؛ فصوم يوم عرفة رفعةٌ في الدرجات، وتكثيرٌ للحسنات، وتكفيرٌ للسيئات.

 

و(دعاء يوم عرفة) هو خير الدعاء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]. ويُستدل من هذا الحديث الشريف على أن هناك تفضيلاً لبعض الدعاء على بعض؛ فبيّن الحديث أن الدعاء يوم عرفة خيرٌ من الدعاء في غيره من الأيام، وأوضح لنا أفضل صيغةٍ للدعاء فيه؛ وهي قول «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، فهذا أكثَرُ الذِّكرِ، وأكثَرُ الدُّعاءِ بركةً، وأعظَمُه ثواباً، وأقْرَبُه إجابةً؛ لوقوعِه من أفضَلِ الناس؛ وهم الأنبياء، ووقوعِه في أفضَلِ أيَّام السَّنة؛ وهو يومُ عرفة.

 

ويأتي يوم عرفة هذا العام مُصادفاً ليوم الجُمعة، ويجتمع بذلك الفضلان: فضل يوم عرفة، وفضل يوم الجُمعة، فقد ثبت فضل الدعاء في يوم الجمعة، وفي يوم عرفة؛ ففي كلا اليومين يكون الدعاء مُستجاباً بإذن الله؛ ففي الحديث: [خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ]، وفي لفظٍ: [أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ]. وفي حديثٍ آخر: [إِنَّ مِنْ أَفضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْم الجُمُعَةِ]، وحديث: [إنَّ في الجُمُعَةِ لَساعَةً، لا يُوافِقُها مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ فيها خَيْرًا، إلَّا أعْطاهُ إيَّاهُ]. ومغبونٌ -بل محرومٌ- من فوّت هذا اليوم باللهو، وبما لا يعود عليه بالنّفع.

والدعاء في ذاته عبادةٌ يُثاب عليها المرء، وقد يُعجِّل الله ثمرة هذه العبادة؛ وقد يكتب لنا خيراً مما ندعو به فيكون الدعاء سبباً لحصول نِعَمٍ أُخَرَ أو دفع مصائب، وقد يؤخر الله ثمرة الدعاء إلى الآخرة فيكفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، وفي كل ذلك خيرٌ وفيرٌ، لا يُضيعه إلا جاهلٌ أو غافلٌ أو مُتكبر.

قال أحد العارفين: عندما تدعون الله -سبحانه وتعالى- اطلبوا المستحيل منه؛ فإنه ليستحيى من عبده إذا رفع يديه بالدعاء أن يردها صفراً. ليس من الزُهد التواضع في الدعاء؛ بل عليكم أن ترفعوا سقف دعائكم بكل ما تحتاجونه في الدنيا، وترفعوا سقف دعائكم بكل ما تتمنوه في الآخرة؛ بسؤالكم الفردوس الأعلى من الجنة، لا تترددوا، حتى لو رأيتم أنكم لا تستحقون ما تطلبون؛ فأنتم تتعاملون مع الله الوهاب الرزاق الكريم، العزيز العليم، السميع البصير، القوي المتين، القادر الذي لا يُعجزه شيءٌ، وفي ذلك عبادةٌ أخرى هي إحسان الظن بالله، وعلى قدر حُسن ظنك بالله تكون استجابته لدعائك.

 

أحبتي.. يُستحب الإكثار من ذِكر الله تعالى و(دعاء يوم عرفة) تُرجى إجابته؛ فهو أفضل أيام السنة للدعاء، والدعاء فيه أفضل من الدعاء في غيره، فما بالنا وهو يُصادف هذا العام يوم عيدنا الأسبوعي؛ يوم الجمعة، الذي فيه ساعة إجابة؟ حريٌ بنا أن نُفرِّغ أنفسنا في هذا اليوم للدعاء؛ فندعو لأنفسنا ووالدينا وزوجاتنا وأبنائنا وأقاربنا وجيراننا وأحبابنا وكل من أحسن إلينا وكل من له فضلٌ علينا ولجميع المسلمين، ولنحذر كل الحذر من التقصير في ذلك، فإن الدعاء في هذا اليوم إذا فات لا يُمكن تداركه، وليس في الإمكان تعويضه.

وأقول لمَّن أُغلِقت في وجهه الأبواب، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، اطرق باب الله مُسبب الأسباب، وألحّ عليه في الدعاء، وارفع إليه الشكوى، وابكِ بين يديه، إنه ربٌ رحيمٌ، يستجيب لك، ويفتح لك الأبواب، ويفرِّج عنك ما بك من غمٍ وهمٍ وشِدّةٍ وكربٍ وضيق، فقط عليك أن تدْعُوهُ بِإِلْحَاحٍ وذلٍ وانكسارٍ وحُسنِ ظنٍ ويقينٍ وخشوعٍ، ادعوه برجاء؛ فكَمْ مِنْ أمرٍ بعدَ الرَّجَاءِ جَاء!

أعدِّوا أحبتي قلوبكم، وجهزوا دعواتكم، وتفرغوا يوم عرفة للدعاء والذِكر والعبادة، وكونوا من الصائمين. جعلنا الله وإياكم من المقبولين.

 

https://bit.ly/3PbXPqe

الجمعة، 1 يوليو 2022

أفضل أيام الدنيا

 

خاطرة الجمعة /350


الجمعة 1 يوليو 2022م

(أفضل أيام الدنيا)

 

يقول أحد الأخوة: كلما اقتربت أيام العشر من ذي الحجة ويوم عرفة أتذكر «سباستيان»! فمن هو «سباستيان»؟ وما علاقته بالأيام العشر ويوم عرفة؟

يقول: في أكتوبر سنة 2012م أجرت سلسلة محلاتٍ ألمانيةٍ شهيرةٍ اسمها «ساتورن Saturn» مسابقةً كبيرةً جداً لجمهور صفحتها على «فيسبوك» احتفالاً بافتتاح فرعها رقم 150 في «ألمانيا»؛ الفائز بهذه المسابقة يُسمح له بدخول المحل لمدة 150 ثانيةً فقط يأخذ فيها كل ما يستطيع أن يحمله مجاناً بدون أن يدفع شيئاً! انتهت المسابقة وتم الإعلان عن الفائزين، وكان من بين الفائزين شابٌ عمره 27 سنةً اسمه «سباستيان»، وكانت هناك يوم المسابقة تغطيةٌ إعلاميةٌ رهيبةٌ، بدأ العد التنازلي للـ 150 ثانية، وبدأ الفائزون يدخلون واحداً تلو الآخر ليأخذوا ما يُريدون ويخرجوا؛ هناك من كان يركض ويقع، وهناك من يأخذ أشياءً لا يحتاجها ثم يرميها ويأخذ غيرها، وآخرون يأخذون أي شيءٍ يجدونه أمامهم، وأكثرهم خرج بأشياءٍ غير ذات قيمةٍ أو أشياءٍ ليس في حاجةٍ لها أصلاً، لكن العجيب أن «سباستيان» هذا دخل بمُنتهى السرعة والنظام والتركيز، وكأنه يعرف تماماً ماذا يفعل! أخذ شاشاتٍ كبيرةً وسحبها إلى الخارج، موبايلات، وتابلتس، ولاب توبس، وأجهزةً من كل الأشكال والألوان، ومن أفخم الماركات وأغلى الأسعار، يضعها فوق بعضٍ بترتيبٍ عجيبٍ ويخرج بها، يضعها على الأرض، ثم يدخل مرةً أخرى! استغرب الناس من أدائه واختياراته، حتى أنه استطاع في آخر الثواني أن يسحب ثلاجةً كبيرةً ويُخرجها من المحل! انتهت الـ 150 ثانية، وخرج «سباستيان» هذا وسط تهليلٍ فظيعٍ من الجمهور، وسقط على الأرض من شدة تعبه. قُدرت قيمة الأشياء التي أخذها في الـ 150 ثانية -أي في دقيقتين ونصف- بـ 29 ألف يورو!

أول ما قال «سباستيان» بعدما خرج: "لقد نجحت استراتيجيتي!"؛ فأجروا معه لقاءً تلفزيونياً وسألوه: ماذا يقصد بذلك، فرد قائلاً: "إني من اليوم الذي سمعتُ به عن المسابقة وأنا أذهب إلى هذا المحل يومياً، أُخطط وأحفظ أماكن الأشياء الغالية التي أُريد أن آخذها، وأرتب مساري وأولوياتي وطريقي داخل المحل الكبير لأعرف كيف أخرج بأكبر قدرٍ مُمكن من المكاسب خلال الـ 150 ثانية هذه، وبالتالي عندما وقع عليّ الاختيار كنتُ جاهزاً ومُستعداً؛ فكانت أول كلمةٍ لي بعد الانتصار لقد نجحت استراتيجيتي".

 

أحبتي في الله.. لم أكن لأكتب هذه القصة لولا أنها تُمثل طريقة تفكيرٍ ذكيٍ يُمكن لنا كمُسلمين أن نستفيد منها في التعامل مع ما يُنعم به الله سبحانه وتعالى به علينا من رحمة وفضل بتخصيص مواسم للعبادات والطاعات تتضاعف فيها الأجور وتزداد الحسنات، كهذه الأيام الطيبة المباركة، العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة؛ فهي (أفضل أيام الدنيا)؛ أقسم بها المولى عزَّ وجلَّ، -ولا يُقسم إلا بعظيمٍ- فقال: ﴿وَلَيَالٍ عَشْر﴾ يقول المفسرون "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أُمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أفضلُ أيامِ الدُنيا أيامُ العَشْر] يعنى عشر ذي الحجة. قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: [ولا مثلهن في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ عفَّر وجهَه في التراب].

وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ] يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: [وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ].

 

لم يفت هذا المعنى راوي القصة فعقّب عليها بقوله: العبرة التي أخذتُها من هذه القصة، أنه كلما اقتربت أيام العشر ويوم عرفة، تذكرتُ «سباستيان» هذا، وقلتُ لنفسي: "أنا أولى في الفوز من هذا الرجل في التخطيط ليومٍ عظيمٍ كيوم عرفة! «سباستیان» خرج بأشياءٍ قيمتها 29 ألف يورو في دقیقتین ونصف، یا تُرى بماذا سأخرج أنا من هذه الأيام ويوم عرفة وهي (أفضل أيام الدنيا)؟". قال الأوزاعي رحمه الله: "أدركتُ أقواماً كانوا يُخبئون الحاجات ليوم عرفة ليسألوا الله بها"، فكيف تعلم قيمة وفضل تلك الأيام العظيمة ويوم عرفة ولا يكون لديك خطةٌ لاستثمار تلك الأيام؟! كيف تعلم أن هذا اليوم -يوم عرفة- هو الذي يعتق الله فيه الناس النار، وهو اليوم الذي يُباهي الله بعباده ملائكته، وأن صيامه يُكفِّر السنة الماضية والسنة القادمة، وأن العمل الصالح فيه أفضل مما دونه من الأيام، وأن خير الدعاء وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، كيف تعلم كل ذلك ولا تُجهِّز نفسك لعباداتك ودعواتك؟! هناك أناسٌ كثيرون حصلت لهم مُعجزاتٌ بسبب دعاء يوم عرفة! جهز قائمةً لكل ما تتمناه في دُنياك وآخرتك من الآن، وانزل يوم عرفة إلى أي مسجدٍ، أو حتى في غرفةٍ في بيتك، من العصر إلى المغرب، وادعُ ربك واطلب منه كل حاجاتك من خيريّ الدنيا والآخرة. إن كنتَ فقيراً، أو ليس لديك عمل، أو تائهاً، أو ذنوبك كثيرةٌ، ماذا تنتظر؟ جهِّز قائمة دعواتك من اليوم، أمامك عشرة أيامٍ من (أفضل أيام الدنيا) ويوم عرفة.

قال عبد الله بن المبارك: "جئتُ إلى سُفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان فالتفت إليّ، فقلتُ له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له".

انتبه إنه يوم عرفة القادم إن شاء الله، إنّه يومٌ شرّفه الله، إنّه يومٌ عظّمه الله، إنَه يومٌ يُباهي الله بأهل عرفة أهل السماء، إنّه يوم العتق من النيران، إنّه يوم الطاعة والاجتهاد في العبادة، وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة.

واجتهد ألا يخلو نَفَسٌ من أنفاسِكَ إلا في عمل طاعةٍ أو قُربةٍ تتقرب بها، فإنها لو كانت معك جوهرةٌ من جواهر الدنيا لساءك ذهابها، فكيف تُضيِّع (أفضل أيام الدنيا)؟! إذا كانت ليلة القدر مجهولةً فإن يوم عرفة معلومٌ، وإذا كانت ليلة القدر تتنزل فيها الملائكة، فإن الله ينزل يوم عرفة؛ فاغتنموا الفرصة، واجتهدوا ما استطعتم في يوم عرفة، وهو يومٌ واحدٌ في السنة: نم ليلة عرفة مُبكراً لتتقوى لطاعة الله، قُم قبل الفجر لتتسحر بنية صوم هذا اليوم ثم صلِّ ركعتين أو أربع على الأقل، وادعُ ربك وأنت ساجدٌ بخيري الدنيا والآخرة واحمده أنه بلّغك يوم تنزل فيه الرحمات والمغفرة، قبل الفجر اقضِ وقتاً في الاستغفار حتى تُكتب عند الله من المستغفرين في الأسحار، استعد لصلاة الفجر قبل الآذان بخمس دقائق واستشعر أن ذنوبك تخرج مع آخر قطرةٍ أثناء الوضوء، ثم قُل دعاء ما بعد الوضوء، صلِّ الفجر، واجلس في مُصلاك إلى ما بعد الشروق ب 15 دقيقة، ابدأ التكبير بعد السلام مباشرةً، أنت الآن في مُصلاك حتى الشروق تقرأ القرآن وتُسبح وتُهلل وتحمد الله ولا تنسَ أذكار الصباح، صلِّ ركعتي الشروق ليُكتب لك أجر حجةٍ وعُمرةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك أن تضيعها، أنت الآن مُخيرٌ إن استطعتَ ألا تنام اليوم كاملاً فلا تُضيّع ثانيةً واحدةً إلا وأنت في ذِكرٍ ودعاءٍ وكُن على يقينٍ بالإجابة، أو تنام ساعةً تنوي بها أن تتقوى على طاعة الله، ثم تقوم من النوم تتوضأ وتُصلي أربع ركعاتٍ على الأقل صلاة الضُحى وتُنوِع في الطاعات حتى لا تمل: تكبيرٌ ذِكرٌ تلاوةٌ وأكثِر من "لا إله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير"، صلِّ الظهر وكبِّر وسبِّح واقرأ شيئاً من القرآن، استمع إلى خُطبة عرفاتٍ بكل جوارحك، صلِّ العصر وكبِّر وقُل أذكار المساء، اقرأ القرآن إلى قبل المغرب بساعةٍ تقريباً، ادعُ الله ألا تغرب شمس عرفة إلا وأنت من عُتقائه من النار، ابدأ الدعاء بالحمد والثناء على الله ثم الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم الدعاء لنفسك ووالديك وزوجك وأولادك وإخوانك وأهلك ولا تنسَ الدعاء لإخوانك المسلمين في كل مكان.

 

يقول أحد العارفين: نحن مُقبلون على أعظم المواسم أجراً، وأكثرها عطاءً؛ مُقبلون على (أفضل أيام الدنيا) فادخلوا على الله فيها من أبواب مُتفرقةٍ؛ فلا تدرون أي الأبواب يُفتح لكم؟ ادخلوها بأزواد مُتعددةٍ؛ فرُبَّ زادٍ تستقله وفيه الخير كله. ادخلوها باستعطاف والديكم، أو من بقي من بعض ريحهم. ادخلوها بالتماس الدُعاء بظهر الغيب ممن تظنون بهم الخير. ادخلوها بأعمال خفيةٍ. ادخلوها بمعصيةٍ تهجرونها وكأنكم تقولون معها: "وعزتك وجلالك ما تركناها إلا ابتغاء وجهك فحرِّم على النار وجوهنا". ادخلوها بشفقةٍ على المسلمين يعلمها الله من قلوبكم. ادخلوها بانكسارةٍ يسمعها الله من أصواتكم ويراها من لمعان دموع أعينكم. ادخلوها بالصدقات، ادخلوها بالتوبات والاستغفارات. ادخلوها بالمصاحف لا تتركونها حتى تسقط من أياديكم، وبالقيام لا تتركونه حتى تتورم أرجلكم، ولسان حالكم قول القائل: "وعزتك وجلالك لا أعرف للراحة طعماً حتى أذوق للقبول طعماً". ادخلوها بمُعتكَفٍ صغيرٍ في بيوتكم، أو كبيرٍ في مساجدكم؛ فالاعتكاف لزومٌ والتصاقٌ بباب المَلِك، وحيثما شعر القلب بمعناه فليعتكف. ادخلوها بقلوبٍ غافرةٍ عفوَّةٍ، تُرسل العفو للمخلوق لتستقبل عفو الخالق. ادخلوها بهذا كله، وغيره من جميل الأعمال والنيات؛ فالمواسم الجليلة تحتاج لقرباتٍ جليلةٍ، وموسمنا هذا ليس ككل المواسم. رضي الله عن أنس بن مالك عندما قال: "تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ".

ورضي الله عن بعض أحبتنا الذين إذا دخلت المواسم غابوا عنا وحضروا عند ربهم، فلما كنا نسأل عنهم كانوا يقولون:

"لا ينبغي لعاقلٍ أن يغيب وقت توزيع الرحمات، وغيابنا عنكم يُستَدرك، لكن غيابنا عن باب المَلِك قد لا يُدرَك".

احملوا أزوادكم، وأنيخوا مطاياكم، وتخففوا من ضوضاء الدُنيا حولكم؛ فأنتم مُقبلون على أيامٍ وليالٍ لو كشف الله لكم حفلات توزيع جوائزه فيها لمُتُّم طرباً للقبول أو حُزناً للفوات. فَرِّغ قَلبكَ لأيام العشر! لُمَّ شعثَ نفسِكَ، وقلْ لها: "ما أدراكِ؟ فقد تكونُ هذه هي آخر عشرٍ تدركينها!". مزِّق شريطاً كان يُلهيك، أغلق جهازاً كان يسرقُ وقتك، ابتعد عن صحبك قليلاً وكُن مع الله؛ فأنت مُقبلٌ -إن شاء اللهُ- على رحلةٍ إيمانيةٍ لن يركبَ سفينتها إلا أنت وأقوامٌ صالحون ولكنهم أخفياءُ أتقياء!

لا يعلم عن أحوالِهم إلا الله، لقد أخفوا عن الخلقِ أعمالَهم الصالحة، فأخفى الله لهم الثوابَ الجزيل: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فكُن مثلَهم خفياً نقياً تقياً، لا تعلم يمينُك ما أنفقت شِمالك، تدمع عيناك خشيةً من الله؛ فتصدَّ بالدمعِ عن كل مَن حولك، انسحبْ منهم خِلسةً إلى حُجرتِك، وتبتلْ هناك في محرابك بعيداً عنهم. صحيحٌ أن ذلك ليس يسيراً على أنفسنا، فقد أغرقتنا الدنيا بلهوِها وزينتها، ولكن لا يخفى علينا أجرُ منْ جاهدَ نفسَه، فإنه مأجورٌ على ما يُلاقيه من نَصَبٍ ومشقةٍ في تفريغِ قلبه لاستقبال العشر؛ فكلما فترت همتُك، ووهَن عزمُك؛ تذكرْ وعدَ الله لك: ﴿وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنَا﴾؛ فجاهِد نفسَك ليهديَك الله سُبلَه؛ فقد جاهَدَ أحدُ السلفِ نفسَه على قيامِ الليلِ عشرين عاماً، ثم تلذَّذ به عشرين عاماً! أما علمتَ أن رسولَنا الكريمَ صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها -وصحابته- بالأعمال الصالحة؛ لأنها (أفضل أيام الدنيا)، والعمل فيها أحب إلى الله من غيرها؟ كيف لا؟ وفيها يومٌ عظيمٌ يعتق فيه الله عبيده من النار أكثر منْ غيره! بل إن صيامه يُكَفَّرُ به ذنوب سنتين! ويدنو فيه الله إلى خلقه يباهي بهم ملائكته ويُشْهِدُهُمْ أنه غفر لهم. فهلَّا اتخذتَ لك صاحباً يُعينُك على طاعةِ اللَّهِ وتُعينُه فيهَا؟ كم اشتاقت أرواحُنا إليك يا عشر؟ كم اشتقنا إلى أيامك؟ وإلى ظمأِ هواجرِك لتقربَنا إلى الله زُلفى؛ فتقوى العلائقُ بين العبدِ والربِّ حتى لكأنَّ أرواحَنا تطوفُ وتُحلِّقُ في نعيمٍ تلو نعيم، وعبادةٍ تلو عبادة! ارسم اليومَ خطتَك، بنية أن تعملَ صالحاً، واسألِ الله القبول. قم هذه الليلةَ في السَّحَرِ وانطرحْ بين يديّ ربك؛ ناجِه، نادِه، وقُل: يا رب، أنا مقبلٌ عليك، وأنت قد وعدتَ -ووعدُك الحق- أنني إن تقربَتُ إليك شبراً؛ تقربَتَ إلَيَّ ذراعاً، وإن تقربَتُ إليك ذراعاً؛ تقربَتَ إليّ باعاً، وإن أتيتك أمشي، أتيتني هرولةً. وإني -يا الله- لطامعٌ في الركضِ إليك، فأعني على نفسي، واخسأ شيطاني، واصرفْ قلبي عن زينة الدنيا! انطرحْ بين يديّ ربك، تذلل له، أرسلْ على وجنتيك دموعاً حبسَتْها مُلهياتُ الدنيا عن البكاء من خشيةِ الله، ونادِ: يا رب، إن عشرك الفضيلَة قد أقبلت، وإني إليك راغبٌ، وقد عجلتُ إليك ربي لترضى!

 

أحبتي.. ورد في الأثر "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"، وورد أيضاً: "الحكمةُ ضالةُ المؤمنِ فحيث وجدها فهو أحقُ بها". فالكياسة والفطنة والحكمة تجعلنا نستفيد من تجارب غيرنا ولو كانوا كُفاراً، وكما قيل: فليس بغضُ المؤمنِ شخصاً ما بحامله على ردِ ما جاء به من الحكمة والخير، بل هو يأخذ الحكمةَ من أي وعاءٍ خرجت، وعلى أي لسانٍ ظهرت، على حد قول القائل:

لا تحقرنَ الرأيَ وهو مُوافقٌ

حُكمَ الصوابِ إذا أتى مِنْ ناقصِ

فالدرُ وهو أعزُ شيءٍ يُقتنى

ما حَطَ قيمتَه هوانُ الغائصِ

فلتكن استراتيجية «سباستيان» منهجاً لنا للتعامل مع (أفضل أيام الدنيا)، وغيرها من مواسم العبادات والطاعات، بل وفي جميع أيامنا وأوقاتنا؛ لنُزيد رصيد ثوابنا ونُضاعف أجورنا ونُثقِّل موازين أعمالنا.

أعاننا الله على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

https://bit.ly/3R22BIv

الجمعة، 24 يونيو 2022

الله غالبٌ على أمره

 

خاطرة الجمعة /349


الجمعة 24 يونيو 2022م

(الله غالبٌ على أمره)

كانت تريد تنصير إحدى المُسلمات فأسلمت؛ قصة إسلام "جميلة جولي". وُلدت جميلة في قريةٍ شمال نورثامبتون بإنجلترا، لأبٍ مُلحدٍ وأُمٍ مُلحدةٍ، تحكي قصتها فتقول: بسبب مرض أخي أرسلني والدي للعيش مع جدتي النصرانية؛ لذا ترعرعتُ نصرانيةً. عشتُ حياةً مُرفهةً وهادئةً بدون مشاكلٍ، درستُ الطب وتخرجتُ أخصائيةً في مُعالجة الأقدام. وكنتُ ناشطةً جداً في الكنيسة أحضر كل الصلوات وكل الدروس. وذات مرةٍ أرسلتني الكنيسة للعمل التطوعي في مُنظمةٍ اسمها «مُساعدة النساء»، وفي هذه المُنظمة تعرفتُ على امرأةٍ اسمها "حميدة"، تعمل بهذه المُنظمة، كانت علاقتنا جيدةً، وكنتُ دائماً أتحدث عن الدين مع فتاتين واحدةٍ كاثوليكية والأُخرى بروتستانتية، وكانت حميدة تجلس معنا دائماً ولكن لا تتحدث في هذه الأمور. وذات يومٍ سألتُ حميدة عن ديانتها؛ لأنها كانت امرأةً رائعةً وكانت أكثرنا صبراً وتحملاً وهدوءً ولا شيء يُغضبها، فقالت حميدة: "أنا مُسلمة"؛ فأصابني الهلع والذُهول، وقلتُ: "كيف لامرأةٍ مُتعلمةٍ مثلك أن تتبع ديناً بربرياً مثل الإسلام؟!".

وكل يومٍ أتحدث معها لإقناعها بالنصرانية، وبعد مُحاولاتٍ كثيرةٍ فاشلةٍ، قالت لي حميدة: "إذا وجدتِ أي خطأٍ في الإسلام -وليس في المسلمين- سأعتنق النصرانية"، قلتُ لها: "قبلتُ التحدي"، وسألتها: "كيف أعرف عن الإسلام؟"؛ فأعطتني كتاباً عن المساواة بين الجنسين في الإسلام؛ فلما قرأته وجدتُ أنه رائعٌ ويختلف عما أعرفه؛ فاعتقدتُ أنها أعطتني كتاباً مُنحازاً لتُضللني، فلم أكتفِ بهذا الكتاب، وذهبتُ إلى محلٍ في مدينة "لوتن" اسمه "زمزم"، وكان صاحب المحل بلحيةٍ طويلةٍ، بدا لي مُخيفاً جداً، ولكنه كان رائعاً في تعامله وأخلاقه فقلتُ له: "أبحث عن كُتبٍ تُعلِّم الإسلام"، فعرض عليّ بعض الكتب اشتريتُ منها ثلاثة، وقلتُ في نفسي: "سأجد خطأً في هذه الكُتب لأجعل حميدة نصرانيةً"، ثم ذهبتُ أنا وأولادي لتناول طعامنا في مطعم، وأثناء الأكل فتحتُ كيس الكُتب فوجدتُ سبعة كُتبٍ وليس ثلاثةً؛ فطلبتُ من ابني الأكبر إرجاع أربعة كُتب، لكن صاحب المحل قال لابني: "هذه الكُتب هديةٌ لكم"؛ فتفاجأتُ كثيراً لأن هذا لا يحدث عادةً في محلٍ إنجليزي. بدأتُ في قراءة الكُتب، وبعد الانتهاء منها لم أجد خطأً أو تناقضاً؛ فقلتُ في نفسي: "لا بد من التعمق أكثر حتى أجد أخطاء". درستُ الإسلام سنةً كاملةً، وكلما ألتقي حميدة أقول لها: "سوف أجد خطأً في الإسلام". وذات مرةٍ قالت لي حميدة مازحةً: "لم تجدي شيئاً مُتناقضاً في الإسلام، لكنك لا تريدين الاعتراف بذلك"، فأجبتها: "هل يُمكنك أن تجدي شيئاً مُتناقضاً في النصرانية؟"، فأعطتني كتاباً عن الإنجيل لأحمد ديدات وقالت: "اقرأي هذا"؛ قرأتُ الكتاب ولم أدرك يوماً حجم الأخطاء والتناقضات الموجودة في النصرانية، فعلمتُ أن الإنجيل الذي بين أيدينا ليس كلام الله، أما القرآن فلم يتغير منذ نزوله، وأن الإسلام هو دين الحق فأسلمتُ. وكل يومٍ أتعمق في تعلم الإسلام، وأندم على ما ضاع من عُمري ولم أكن مُسلمةً، والحمد لله علي نعمة الإسلام.

 

أحبتي في الله.. كثيرةٌ هي قصص دخول غير المسلمين في الإسلام، والتي تُثبت لنا أن (الله غالبٌ على أمره)، ومصداقاً لوعده سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وتصديقاً لما بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: [لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمرُ مَا بَلَغَ الليلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَر وَلَا وَبَر إِلَّا أَدْخَلَهُ هَذَا الدِّينَ، بعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ].

وقصتنا التالية انتهت بإسلام نصرانيٍ ثم إسلام يهوديٍ على يديه؛ إذ كان للرئيس الأمريكي الراحل "ريتشارد نيكسون" مُستشارٌ اسمه "روبرت كرين" حصل على دكتوراه في القانون العام، ثم دكتوراه في القانون الدولي، ثم أصبح رئيساً لجمعية هارفارد للقانون الدولي، ومُستشاراً للرئيس الأمريكي للشؤون الخارجية، ويتقن ست لغات. في أحد الأيام أراد الرئيس أن يقرأ عن "الأصولية الإسلامية" فطلب من المُخابرات الأمريكية أن تُعدّ له بحثاً في ذلك الموضوع، وقد كان بحثهم طويلاً بعض الشيء؛ فطلب من مُستشاره "روبرت كرين" أن يقرأ البحث، ويختصره له، وبالفعل قرأ روبرت البحث، ثم ذهب يحضر ندواتٍ ومُحاضراتٍ إسلاميةٍ؛ ليتعرّف أكثر على الموضوع، وما هي إلّا أيامٌ حتى دوى خبر إسلام "روبرت كرين" في أرجاء الولايات المُتحدة الأمريكية بالكامل؛ فقد أسلم وسمّى نفسه "فاروق عبد الحق". يقول أخونا فاروق عن سبب إسلامه: "بصفتي دارساً للقانون، فقد وجدتُ في الإسلام كلّ القوانين التي درستها، بل وأثناء دراستي في جامعة هارفارد لمدة ثلاث سنواتٍ لم أجد في قوانينهم كلمة العدالة ولو مرّةً واحدة! هذه الكلمة وجدتها في الإسلام كثيراً". سمّى نفسه "فاروق" تأسياً بالفاروق "عمر". يقول فاروق: كُنّا في حوارٍ قانونيٍ، وكان معنا أحد أساتذة القانون من اليهود، فبدأ يتكلّم، ثم بدأ يخوض في الإسلام والمسلمين، فأردتُ أن أُسكته فسألته: "هل تعلم حجم قانون المواريث في الدستور الأمريكي؟"، قال: "نعم، أكثر من ثمانية مجلدات"، فقلتُ له: "إذا جئتك بقانون المواريث في الإسلام فيما لا يزيد عن عشرة سُطورٍ، فهل تُصدّق أن الإسلام دينٌ صحيح؟"، قال: "لا يُمكن أن يكون هذا!"، فأتيتُ له بآيات المواريث من القرآن الكريم، وقدّمتها له؛ فجاءني بعد عدّة أيامٍ يقول لي: "لا يُمكن لعقلٍ بشريٍ أن يُحصي كلّ علاقات القُربى بهذا الشمول الذي لا ينسى أحداً، ثم يوزّع عليهم الميراث بهذا العدل الذي لا يظلم أحداً!"، ثم أسلم هذا الرجل أيضاً، سبحان الله، فعّال لما يشاء؛ إن (الله غالبٌ على أمره) ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

يُرجع العلماء انجذاب الأفراد والشعوب إلى اعتناق الإسلام إلى الأمان والصفاء الروحي الذي يشعرون به منذ اللحظة الأولى لدخولهم الإسلام، وتأثرهم بما لمسوه من الأخلاق الحميدة والأمانة التي يتصف بها عامة المسلمين في تعاملاتهم في حياتهم الاجتماعية والعملية، إضافةً إلى القيم الاجتماعية السامية التي يتميز بها المُجتمع المُسلم والتي تدعو إلى التسامح والتعايش على أساسٍ من التآخي ومشاعر المحبة؛ فقد كان التاجر يذهب إلى إندونيسيا وهو تاجرٌ لا يحفظ إلا فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص والمعوذتين، ينظرون إلى وجهه فإذا عليه النور، ويرون مُعاملته فإذا هي الصدق والوفاء، ويختبرون أخلاقه فإذا هو قرآنٌ يمشي فوق الأرض، فيدخلون في دين الله أفواجاً؛ سبحان الله، إن (الله غالبٌ على أمره) وهو على كل شيءٍ قدير.

 

ومما قرأتُ -تعقيباً على فرحتنا باعتناق البعض من غير المسلمين للإسلام- مقالاً قالت فيه كاتبته: ننظر أحياناً لكثيرٍ من النعم التي رزقنا الله إياها على كونها أموراً مُسلَّماً بها، وعلى رأسها إسلامنا، ما يلبث أن يتذكر بعضنا هذه النعمة ويشكرها حين يسمع قصة أحد المسلمين الجُدد، ويحمد الله عليها؛ فالواقع أننا: ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾. بيد أنه من المُثير للأسى، أن نجد مُسلمين يشنون الهجوم على ذات الأمور التي أدت إلى إسلام غيرهم من غير المسلمين حول العالم! ومن ذلك:

"البحث عن النفس": من أكثر الأسباب شيوعاً لاعتناق غير المسلمين للإسلام رغبة مُعظمهم في معرفة الهدف وراء الحياة، فأسلوب حياتهم المادي في الغرب، والغرق في ملذات الدُنيا، يبعث في نفوسهم شعوراً بالتعاسة والحيرة، والرغبة في عيش حياةٍ لها معنىً وهدفٌ ورسالة. ومع بحثٍ دؤوبٍ ومُستمرٍ، يجد معظمهم هذا في الإسلام. وفي المقابل، نجد كثيراً من المسلمين، بلا هويةٍ ولا هدفٍ، وحين يلجأ بعضهم للبحث، نراهم يلجأون لفلسفات ومراجع الغرب في النفس والحياة، والتي دحضها الإسلام بدليلٍ مُقنعٍ وجاء بخيرٍ منها!

"الطُمأنينة إلى القُرآن قراءةً واستماعاً": وهذا سببٌ لدخول البعض في الإسلام؛ فبعضهم يقرأ القُرآن خصيصاً ليُهاجم به المسلمين، ولكن سرعان ما ينقلب السحر على الساحر، وتكون النتيجة أن يعتنق هذا الشخص الإسلام. والبعض يتأثر بالاستماع إلى القُرآن، ويجد فيه راحةً نفسيةً وسكينة لا يجدها في غيره، وهو لا يفهم معانيه. والمؤسف أن نجد في المقابل من المُسلمين من يحرصون على سماع الأغاني من باب إراحة النفس والبال وتجديد النشاط والفكر!

"الصلاة": تجد فتاةً أسلمت حين رأت مُسلمةً تُصلي، مُبررةً ذلك بأنها رغبت هي الأُخرى في الصلاة لتتمكن من الحديث مع الله جلَّ وعلا بصورةٍ مُباشرةٍ. كما تلقى أحد المُسلمين الجُدد وقد علَّق على صلاة الجماعة بكونها "أمراً خارقاً"؛ فما إنْ يُكبِّر الإمام للصلاة حتى يُصبح جميع المُصلين مُصطفين جنباً إلى جنبٍ في ثوانٍ معدودةٍ بصورةٍ تلقائيةٍ شديدة التنظيم؛ فيتيقن أنّ هذا الدين الذي يجمع الناس من الطبقات الاجتماعية كافةً، ومن مُختلف الأجناس والأعراق والألوان، لا ريب هو دينٌ مميزٌ ورائعٌ؛ فيُبادر إلى إعلان إسلامه. والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه هو: تُرى كم مِن المُسلمين الآن مَن يحرصون على الصلاة بصفةٍ عامة وعلى صلاة الجماعة بالمسجد على وجه الخصوص؟!

أرى أنه من الواجب علينا كمُسلمين، حين نسمع إحدى قصص المُسلمين الجُدد، أن نُضيف إلى شُعورنا بالغبطة ورغبتنا في الشُكر والحمد على نعمة الإسلام، مرحلة التطبيق العملي، سواءً من خلال الأمر بالمعروف قولاً، أو تطبيق الفرائض فعلاً؛ حتى لا ينتهي الأمر بمعظمنا ليكونوا مُجرد مُسلمين بالاسم فحسب!

 

أحبتي.. على كلٍ منا أن يكون مثالاً إيجابياً للمُسلم صحيح الإسلام صحيح الإيمان بأن نلتزم في مظهرنا ومخبرنا، في أقوالنا وأفعالنا، في علاقاتنا ومُعاملاتنا، بمبادئ الإسلام الحنيف؛ فنكون سفراء لديننا -خاصةً في بلاد المهجر- فواجبٌ علينا أن نُغيِّر النظرة الغربية المُشوهة للإسلام، والصورة النمطية السلبية عنه التي يتعمد الإعلام المُعادي للإسلام تضخيمها. ليس المطلوب أن يعرف الناس كم نقرأ وكم نحفظ من القرآن، لكن المطلوب أن يظهر لهم أثر القرآن على سلوكنا وأخلاقنا ومُعاملاتنا، وقتها يُمكنا أن نقوم بواجب الدعوة إلى دين الله؛ وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [...فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]، وعلينا -عند الدعوة إلى الإسلام وعند الحديث عنه- أن نلتزم بالحكمة والقول الحسن؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وكما نتذكر دائماً أن (الله غالبٌ على أمره)، فلنتذكر أيضاً أن كلاً منا على ثغرٍ، فليحذر من أن يؤتى الإسلام منه.

وفقنا الله لما يُحب ويرضى، ويُعيننا على أن نكون خير سفراء لديننا القويم، وخير دعاةٍ له.

 

https://bit.ly/3yjPIC4

الجمعة، 17 يونيو 2022

فُرص لا تُعوض

                                                      خاطرة الجمعة /348


الجمعة 17 يونيو 2022م

(فُرص لا تُعوض)

 

كتب يقول: منذ مساء أمس وطفلي الصغير صحته ليست على ما يُرام؛ وعندما عدتُ مساء اليوم من عملي قررتُ الذهاب به إلى المستشفى. رغم التعب والإرهاق إلا أن التعب لأجله راحةٌ، كان المنتظرون في المستشفى كثيرين، قدّرتُ أننا ربما نتأخر أكثر من ساعةٍ، أخذتُ رقماً للدخول على الطبيب وتوجهتُ للجلوس في غرفة الانتظار، وجوهٌ كثيرةٌ مختلفةٌ؛ فيهم الصغير وفيهم الكبير، الصمت يُخيم على الجميع، يوجد عددٌ من الكتيبات الصغيرة استأثر بها بعض الحاضرين؛ منهم من هو مُغمض العينين لا تعرف فيم يُفكر، وآخر يُتابع نظرات الجميع، والكثير تُحس على وجوههم القلق والملل من الانتظار. يقطع السكون الطويل صوت المُنادي برقم كذا، الفرحة على وجه المُنادى عليه، يسير بخطواتٍ سريعةٍ نحو غرفة الطبيب، ثم يعود الصمت ليعم الجميع. لفت انتباهي شابٌ في مقتبل العمر، لا يعنيه أي شيءٍ حوله؛ لقد كان معه مُصحف جيبٍ صغيرٌ يقرأ فيه، لا يرفع طَرْفه، نظرتُ إليه ولم أُفكر في حاله كثيراً، لكن عندما طال انتظاري عن ساعةٍ كاملةٍ تحول نظري إليه، من مجرد نظرةٍ عابرةٍ إلى تفكيرٍ عميقٍ في أسلوب حياته ومحافظته على الوقت؛ ساعةٌ كاملةٌ من عُمري لم أستفد منها وأنا فارغٌ بلا عملٍ ولا شُغلٍ بل انتظارٌ مملٌ. أذَّن المؤذن لصلاة المغرب، ذهبنا للصلاة في مُصلى المستشفى، تعمّدتُ أن أكون بجوار الشاب صاحب المُصحف، وبعد أن أتممنا الصلاة سرتُ معه وأخبرته بإعجابي به لمحافظته على وقته؛ فكان حديثه يتركز على كثرة الأوقات التي لا نستفيد منها إطلاقاً، وهي أيامٌ وليالٍ تنقضي من أعمارنا دون أن نُحس أو نندم، أخبرني إنه أخذ مصحف الجيب هذا منذ سنةٍ واحدةٍ فقط عندما حثه صديقٌ له على المحافظة على الوقت، وأخبرني أنه يقرأ في الأوقات التي لا يُستفاد منها كثيراً أضعاف ما يقرأ في المسجد أو في المنزل، بل إن قراءته في المُصحف -زيادةٌ على الأجر والمثوبة إن شاء الله- تقطع عليه الملل والتوتر، وأضاف قائلاً إنه الآن في مكان الانتظار منذ ما يزيد عن الساعة والنصف، وسألني: "متى ستجد ساعةً ونصف ساعةٍ لتقرأ فيها القرآن؟" وقال: "إنها (فُرص لا تُعوَض)". تأملتُ ملياً فيما قال؛ كم من الأوقات تذهب سُدىً؟! وكم لحظةٍ في حياتي تمر ولا أحسِب لها حساباً؟! بل كم من شهرٍ مرّ عليّ ولم أقرأ القرآن؟!" تأملتُ حالي؛ وجدتُ أني محاسَبٌ والزمن ليس بيدي، فماذا أنتظر؟ قطع تفكيري صوت المنُادي؛ ذهبتُ إلى الطبيب. وبعد أن خرجتُ من المستشفى أسرعتُ إلى أقرب مكتبةٍ فاشتريتُ مُصحفاً صغيراً. قررتُ أن أحافظ على وقتي، سألتُ نفسي -وأنا أضع المُصحف في جيبي- كم من شخصٍ سيفعل ذلك؟ وكم من الأجر العظيم يكون للدال على ذلك؟

 

أحبتي في الله.. ما أسعد مثل هذا الشاب؛ استفاد من (فُرص لا تُعوَض)، وأهمها فرصة وقت الانتظار.

وهذا رجلٌ في الثمانين من عُمره، نادمٌ على عدم اغتنام الفرص حينما كانت متاحةً أمامه، كتب يقول إلى أولاده بشكلٍ خاصٍ، وإلى المهتمين بشكلٍ عامٍ: تهاونتُ في أمور ديني ولم أترك بيني وبين الله باباً مفتوحاً؛ كان من الممكن أن أصوم يومين في الأسبوع، بُمعدل مائة يومٍ في السنة، ولو فعلتُ لكنتُ ممن يدخلون الجنة من باب الريان فهو للصائمين، ولكنّي فهمتُ الدرس متأخراً عندما أصبحت لا أستطيع الصيام! تمنيتُ لو أنني قرأتُ يومياً بضع صفحاتٍ من القُرآن عندما أستيقظ وعندما أذهب إلى النوم مواظباً على ذلك يوماً بعد يومٍ، لو فعلتُ لكنتُ من أهل القرآن؛ أهل الله وخاصته، ولكني أدركتُ تقصيري عندما ضعُفَ بصري! تمنيتُ لو أنني واظبتُ على ترديد دعاء "لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، لو فعلتُ لغُفرت لي به ذنوبٌ كثيرةٌ، ولكني كُنتُ أستثقله، ويضيق عنه صدري! كُنت أترُك صلاة الفجر وأنا أعلم جيداً أن ترك صلاة الفجر من صفات المنافقين. ليتني كنتُ أُصلي ركعتين من قيام الليل يومياً قبل النوم، كُنت أعلم أنها سترفعني درجاتٍ عند الله؛ فلو كنتُ قمتُ بعشرِ آياتٍ لم أُكتَبْ منَ الغافلينَ، ولو قمتُ بمائةِ آيةٍ كُتِبَت منَ القانتينَ، ولو قرأتُ ألفَ آيةٍ كُتِبَت منَ المُقنطِرينَ، ليتني كنتُ منهم قانتاً ومُقنطراً. ليتني لم أرفع صوتي على أُمي وأَبي؛ فهما الجسر الذي كان من المُمكن أن أعبر عليه إلى الجنة. وصل عُمري عشرين عاماً ولم أسلك أي بابٍ إلى الجنة. ثم صار أربعين عاماً ولم أستطع الفكاك من مشاغل الدُنيا وزينتها. ثم صار ستين عاماً وأنا أسعى لتأمين مُستقبل أولادي. ثم صار ثمانين عاماً وتخلى عني أغلب الناس وعلى رأسهم من أفنيتُ عُمري لأجلهم. ندمتُ على ما فرطتُ وتمنيتُ الرجوع بالزمن إلى الوراء وأعيش حياتي بطريقةٍ مختلفةٍ؛ لأن الدُنيا رخيصةٌ وفانيةٌ. أنا وحيدٌ وسَفْرِي بَعيدٌ، وَزادي قليلٌ لا يُبلغني مُرادي، وَقُوَتي استهلكها أولادي، والموتُ كل يومٍ عليّ يُنادي. أيقنتُ الآن أن الدُنيا مهما عَظُمَت فهي حقيرةٌ، وأن العُمر مهما طال فهو قصيرٌ. يا أولادي؛ سردتُ لكم قصتي باختصارٍ كيلا تندموا مثلي بعد فوات الأوان. وإلى كل شخصٍ مُقصرٍ في طاعة الله أقول: خُذ مني وصية الرسول ﷺ والتي لم أكن أُعيرها اهتماماً، لأني كنتُ وقتها مغروراً بشبابي ومفتوناً بدنياي، فأُغشيت عينايّ عن فهم هذا الحديث الذي يقول: [اغتنِمْ خمساً قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هَرَمِك، وصحتَك قبلَ سقَمِك، وغِناك قبلَ فَقرِك، وفَراغَك قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك].

 

وحتى لا تضيع منا الفُرص، ثم نندم على ضياعها وقت لا ينفع الندم، يضرب لنا علماؤنا الأفاضل أمثلةً على (فُرص لا تُعوَض) لنغتنمها، ومنها الطاعات اليومية: الصلوات الخمس والوضوء لها، استعمال السواك عند الوضوء والصلاة، الترديد خلف المؤذِّن، صلاة الجماعة، السُنن الرواتب، صلاة الضُّحَى، قيام اللَّيل والوِتر، أذكار الصباح والمساء، أذكار اليوم والليلة: عند دخول البيت والخروج منه، عند دخول المسجد والخروج منه، عند دخول الخلاء والخروج منه، عند تناول الطعام والشراب، دبر الصلوات المكتوبات، عند النوم وعند الاستيقاظ، وغير ذلك. كما بينوا لنا أمثلةً على الطاعات الأسبوعيَّة: صلاة الجمعة، قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أو يومها، الإكثار من الصلاة على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجمعة ويومها، صيام الإثنين والخميس. وأوضحوا لنا أمثلةً على الطاعات الشهريَّة: صيام ثلاثة أيَّام من كل شهرٍ هجري. وكذلك أمثلةً على الطاعات السنويَّة أو الموسميَّة: الزكاة لمَن توفَّرت فيه شروط وجوبها، الحجّ لمَن استطاعَ إليه سبيلاً، صوم رمضان، صلاة التراويح جماعةً في المسجد، اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، صلاة العيدَين، صيام ستة أيَّامٍ من شوال، صوم عاشوراء ويومٍ قبلَه أو يومٍ بعدَه، صوم يوم عرفة، الإكثار من الأعمال الصالحة في العشر الأُوَل من ذي الحجَّة. كما أن هناك أعمالاً تُشرَع في كلِّ وقتٍ وحينٍ، منها: صلاة النافلة في غير أوقات الكراهة، صيام التطوع، العُمرة، ذِكر الله، تلاوة القرآن، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الدُّعاء، الاستغفار، برّ الوالدَين، صلة الرَّحِم، الصدقة، إفشاء السَّلام، حُسن الخُلُق، عِفَّة اللِّسان، محبَّة الله، خشيته، رجاؤه، التوكُّل عليه، الرِّضا، اليقين، الاستعانة به سبحانه وتعالى. وهناك أعمالٌ ذوات سببٍ، تُشرَع إذا وُجِدَ سببها؛ منها مثلاً: عيادة المريض، صلاة الجنازة واتباعها، التعزية، تشميت العاطس، رَدّ السلام، إجابة الدَّعْوَة، صلاة الاستخارة، صلاة التوبة، صلاة الكسوف، صلاة الاستسقاء، الإصلاح بين المتخاصمَين، غضّ البصر، كفّ الأذى، الصبر على الأذى والبلاء... وغير ذلك.

 

يقول أهل العلم إن الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الثروة الوحيدة التي لا يُمكن تعويضها، فما ضاع منه لن يعود، وإنّ أهل الجنة لن يتحسروا من الدنيا إلا على الوقت الذي مضى ولم يذكروا فيه اسم الله. ولنتذكّر الموت وساعة الاحتضار حين نقول: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فيقال لنا حينئذٍ انتهى الوقتﱡ ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾. يقول تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ]؛ فمن ملك الصحة والفراغ ولم يسعَ لاستثمارهما في إصلاح آخرته ودنياه فهو التعيس حقاً. وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ] وذكر منها: [عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ]، و[شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ]. إنّ ساعةً واحدةً من وقتنا نستطيع فيها أن نمسح دمعة يتيمٍ، أو نُعين عاجزاً، أو نُغيث ملهوفاً، أو نصل رحماً، أو نقرأ جُزءاً من القرآن، أو نُصلي بعض ركعاتٍ تطوعاً.

إن ما مضى من الوقت لا يعود، كانت فيه (فُرص لا تُعوَض)؛ ويُقال في هذا المعنى: «ما من يومٍ يمرُّ على ابن آدم إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يومٌ جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، وإذا ذهبتُ عنك لم أرجع إليك، فقدِّم ما شئتَ تجده بين يديك، وأخِّر ما شئتَ فلن يعود إليك أبداً، يا بن آدم إنما أنت أيامٌ، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك».

 

أحبتي.. فليُحاسب كلٌ منا نفسه: ماذا عمِل في يومه الذي انقضى؟ وكيف أنفق وقته؟ هل ازداد فيه من الحسنات أم ازداد فيه من السيئات؟

لنوطن أنفسنا على اغتنام الوقت واستغلال ساعات العُمر في طاعة الله. ولنَحْذَر الغفلة؛ فهي مرضٌ خطيرٌ أفقد الكثيرين الحسَّ الواعي بالأوقات واغتنامها؛ فاشتغلوا بالمُلهيات والشهوات حتى فاجأهم هادم اللذات. ولنَحْذَر التسويف؛ فإننا لا نضمن أن نعيش إلى الغد، وإن عشنا فلا نأمن المعوِّقات من شُغلٍ أو مرضٍ، فلنبادر إلى اغتنام أوقاتنا في طاعة الله، ولا نستهين بالدقائق فهي تتجمع لتكون ساعاتٍ، وما أعمارنا -مهما طالت- إلا دقائق وساعات. احمل معك كتيباتٍ صغيرةً ومصحف جيبٍ في سيارتك ونسخةً من القرآن الكريم في هاتفك المحمول، للقراءة أوقات الانتظار في المُستشفيات والعيادات والمصارف، وعند إنهاء المُعاملات في المصالح والمؤسسات، وغير ذلك من أماكن وأوقات.

وفقنا الله إلى اغتنام الأوقات، واقتناص (فُرص لا تُعوَض) نشغلها بذِكره وشكره وحمده وتسبيحه، وفيما يُرضيه -سبحانه وتعالى- من أعمالِ خيرٍ وبِرٍ وتقوى.

https://bit.ly/3zRPSBQ

الجمعة، 10 يونيو 2022

فضل الله

 

خاطرة الجمعة /347


الجمعة 10 يونيو 2022م

(فضل الله)

 

قصةٌ واقعيةٌ مؤثرهٌ؛ ذكرت إحدى المعلمات حادثةً حصلت لها قبل أكثر من ٢٠ سنةً، حين كانت مشرفةً على مقصف المدرسة، وكان من عادتها أنها بعد انتهاء الفسحة تجلس تعد النقود وتحسب الربح وتتفقد النواقص وغيرها من متطلبات المقصف، وكانت تُعاونها إحدى الفرّاشات، وكانت امرأةً مسكينةً ضعيفة الحال تُعول أبناءها الأيتام. تقول المعلمة كنتُ ذات مرةٍ أعد النقود ومُعظمها من فئة الريال، لأن الطالبات صغيرات السن والمدرسة ابتدائية، كانت الريالات أمامي كثيرةً فأردتُ أن أُمازح الفرّاشة فقلتُ لها: "تخيلي يا أم فلان لو أنّ هذه الريالات تحولت لأوراقٍ من فئة الخمسمائة ريال!"، فقالت: "الله أكبر!"، ثم قلتُ: "تخيلي لو صارت لكِ"، فقالت: "اللهم فضلك يا كريم"، فسألتها: "لو حدث هذا، ماذا تصنعين بهذه النقود؟"، أجابت بسرعةٍ: "أشتري بيتاً يضمني أنا والأيتام، ويُريحني من الإيجار الشهري". تقول المعلمة: ضحكتُ وقلتُ لها: "البيوت الآن غاليةٌ، لا يقدر على شرائها الميسورون، فما بالك بمن هُم غير ميسورين؟"، فاجأتني بأن نظرت إليّ نظرةً قويةً وقالت: "ما طلبتُ منكِ أنتِ، طلبتُ من الله سبحانه وتعالى؛ إنه (فضل الله) يُعطيه من يشاء"، فأفحمني ردها.

انتهينا من أعمال المقصف، وأكملتُ يومي الدراسي حتى نهايته، ثم عُدتُ إلى منزلي، فلما حان وقت العصر أخذتُ بناتي وذهبنا لزيارة والدتي، كنتُ أراها أثناء جلستنا معها تُكثر من استخدام الهاتف ومشغولةٌ بالاتصالات؛ فسألتها: "ما الخبر يا أُمي؟"، قالت: "فلانةٌ قريبتنا التي طُلقت، جمعنا -نحن الأقارب- لها مالاً لنشتري لها بيتاً، وبعد أن اشترينا البيت اتصلت تُخبرنا أنها ولله الحمد تصالحت مع زوجها وعادت لبيتها. والآن أستشير الأقارب، وكُلهم يقولون أخرجنا المال لله فلا نُريد استرجاعه بل يُصرف في الخير، ولا ندري ما نفعل به". انطلقت المعلمة بلا شعورٍ تحكي لوالدتها عن الفرّاشة المسكينة أُم الأيتام وحالها مع الإيجار الشهري وتعبها في توفيره وأُمنيتها بالبيت؛ فعادت أُم المعلمة تتصل بالأقارب وتسألهم عن رأيهم فاتفقوا أن يُعطى البيت للفرّاشة المسكينة.

تتحدث المعلمة عن نفسها فتقول: "سبحان الله، لقد كان هذا الحدث درساً لي في الثقة بالله وحُسن الظن به، أنا التي كنتُ في وقت الضُحى أضحك عليها وأقول من أين لك البيت؟ أنا بنفسي -وفي ذات اليوم- آخذها لِنَمُرَّ على المكتب العقاري، فتُوقع العقد، وتستلم البيت. ما أعظم (فضل الله) وما أحسن التعلق به وسؤاله من فضله؛ يُدبر لك الأمور، ويرزقك من حيث لا تحتسب".

 

أحبتي في الله .. إنه (فضل الله) يؤتيه من يشاء، هذا أمرٌ لا ريب فيه. وفيما يلي قصةٌ تُروى في هذا الشأن، فيها عبرةً لأولي الأبصار. تقول القصة:

جلس رجلان قد ذهب بصرهما على طريق أم جعفر زبيدة العباسية لمعرفتهما بكرمها. فكان أحدهما يقول: اللهم ارزقني من فضلك، وكان الآخر يقول: اللهم ارزقني من فضل أم جعفر. وكانت أم جعفر تعلم ذلك منهما وتسمع، فكانت ترسل لمن طلب (فضل الله) درهمين، ولمن طلب فضلها دجاجة مشوية في جوفها عشرة دنانير. وكان صاحب الدجاجة يبيع دجاجته لصاحب الدرهمين بدرهمين كل يوم، وهو لا يعلم ما في جوفها من دنانير. وأقاما على ذلك عشرة أيام متوالية، ثم أقبلت أم جعفر عليهما، وقالت لطالب فضلها: "أما أغناك فضلنا؟"، قال: "وما هو؟"، قالت: "مائة دينارٍ في عشرة أيامٍ"، قال: "لا، بل دجاجةٌ كنت أبيعها لصاحبي بدرهمين"؛ فقالت: هذا طلب من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من (فضل الله) فأعطاه الله وأغناه.

 

ومن القصص المُتداولة عن (فضل الله) قصة امرأةٍ صوماليةٍ مُسلمةٍ فقيرةٍ تعيش في إنجلترا اتصلت بمحطة إذاعةٍ محليةٍ من أجل الحصول على مساعدةٍ، وتصادف أن شخصاً مُلحداً كان يستمع إلى المذياع وقتها، فاتصل بمحطة الإذاعة وطلب رقم هاتف وعنوان هذه المرأة لكي يُقدِّم لها مساعدةً، وكان في حقيقة الأمر يُضمر في نفسه أن يسخر منها. بعد أن أخذ رقمها وعنوانها أعطى التعليمات لسكرتيرته الخاصة بأن تُجهِّز مواد غذائيةً ومساعداتٍ أُخرى لهذه المرأة وتوصلها إليها، وقال للسكرتيرة: "إذا سألتك المرأة عن مصدر هذه المساعدات فقولي لها إنها من الشيطان!"، ولما وصلت السكرتيرة إلى منزل المرأة فرحت المرأة الفقيرة بهذه المساعدات؛ فسألتها السكرتيرة: "ألا تريدين أن تعرفي مصدر هذه المساعدات ومَن أرسلها لك؟"، أجابت المرأة المسلمة بجوابٍ رائعٍ إذ قالت: “لا أريد أن أعرف ولا أهتم بذلك؛ لأن هذا (فضل الله) الذي إذا أراد شيئاً فحتى الشياطين تُطيعه!!".

 

وفي القرآن الكريم كثيرةٌ هي الآيات التي ورد فيها ذِكر (فضل الله)؛ ومن ذلك يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، ويقول: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، ويقول: ﴿ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾، ويقول: ﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾، ويقول: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، ويقول: ﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ويقول: ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾، ويقول: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾، ويقول: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ويقول: ﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ويقول: ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

 

ويقول العلماء إنه من (فضل الله) أن يسَّر -سبحانه وتعالى- لعباده طرق الخير التي تُسهِّل لهم طريق الجنة من غير مشقةٍ، وبارَك لهم في أعمال الخير بمُضاعفة الحسنات وتكفير السيئات بقليلٍ من العمل، وخصَّ -سبحانه- أعمالاً يسيرةً بثوابٍ جزيلٍ مُضاعَفٍ عنده؛ فالتوحيدُ دينُ الفِطرة وجزاءُ أهله الجنة؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [مَن لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ]، و[من كان آخرُ كلامهِ لا إلهَ إلَّا اللهُ دخل الجنَّةَ]، وأثابَ -سبحانه- على فروعٍ في العباداتِ يتكرَّرُ عملُها في اليوم والليلة بتكفيرِ الخطايا وفتحِ أبوابِ الجِنان؛ ومن ذلك: [الطُّهورُ شطْرُ الإيمانِ]، و[السِّواكُ مَطهَرةٌ للفَمِ، مَرْضاةٌ للرَّبِّ]، و[مَن تَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِن جَسَدِهِ، حتَّى تَخْرُجَ مِن تَحْتِ أَظْفَارِهِ]، و[من توضأ فأحسن الوضوءَ ثم قال: أشهد أن لا إله َإلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهِّرين، فُتحت له ثمانيةُ أبوابِ الجنةِ، يدخل من أيّها شاءَ]، و[مَن توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ، ثمَّ صلَّى رَكعتينِ يُقبلُ عليْهِما بقلبِهِ ووجْهِهِ وجبَت لَهُ الجنَّةُ]، و[مَن تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إلى بَيْتٍ مَن بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إحْدَاهُما تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً]، و[مَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَقَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ]، و[مَنْ قالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤَذِّنَ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، رَضِيتُ باللَّهِ رَبًّا وبِمُحَمَّدٍ رَسولًا، وبالإسْلَامِ دِينًا، غُفِرَ له ذَنْبُهُ]. ولفضلِ الصلاةِ وعُلُوِّ منزلتها، كان ثوابُ الأعمال فيها عظيماً؛ ومن ذلك: [مَن غَدَا إلى المَسْجِدِ ورَاحَ، أعَدَّ اللَّهُ له نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدَا أوْ رَاحَ]، و[صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً]، و[مَن صَلَّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ]، ومن حافَظَ على صلاةِ العصر ضُوعِفَ له أجرُه مرتين؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذِه الصَّلَاةَ عُرِضَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فمَن حَافَظَ عَلَيْهَا كانَ له أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ]، و[مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ]، و[رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَما فِيهَا]، و[من صلَّى في يومٍ وليلةٍ اثنتي عشْرَةَ ركعةَ تطوعًا غيرَ فريضةٍ بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ]، وركعتان في الضُّحَى تُؤدِّي شُكرَ نعمةِ جميع مفاصِلِ الإنسان؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يُصْبِحُ علَى كُلِّ سُلَامَى مِن أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِن ذلكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُما مِنَ الضُّحَى].

جميع هذه الفضائل، مع الأذكار التي شُرعت صباحاً ومساءً ودُبر الصلوات، وغير ذلك من أعمالٍ، كلها لا تُمثل إلا جُزءاً يسيراً من (فضل الله) على عباده.

ثم ما أكرمك يا الله؛ فإن فضلك اتسع ليشمل مُجرد هَم العبد وعزمه على فعل العمل الصالح؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كُتِبَتْ له حَسَنَةً، ومَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَعَمِلَها، كُتِبَتْ له عَشْرًا إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، لَمْ تُكْتَبْ، وإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ].

 

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا إِلاَّ أَنْتَ]. ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: [اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ]. ومن دعائه إذا خرج من المسجد: [اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ].

 

أحبتي.. قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله؛ ألا تكفينا نعم الله -عزَّ وجلَّ- علينا؛ نعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ونعمة القرآن، ونعمة إرساله -سبحانه وتعالى- لنا النبي العدنان؟ إن (فضل الله) علينا كبيرٌ وعظيمٌ؛ فلنُخلص في عبادته على الوجه الذي يُرضيه عنا، ولنُصَوِّب أعمالنا لتكون موافقةً لسُنة رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- بغير زيادةٍ ولا نُقصان، ثم لتلهج ألسنتنا بالحمد والشُكر والثناء على صاحب كل هذه النعم والأفضال، ولندعوه ونسأله بإلحاحٍ أن يؤتينا من واسع فضله، وكريم عطائه، فإن خزائنه لا تنفد، وهو سبحانه ذو الفضل العظيم.

https://bit.ly/3HdhxPr