الجمعة، 18 سبتمبر 2020

المظاهر قد تكون خادعة

                                                                الجمعة 18 سبتمبر 2020م


خاطرة الجمعة /257

(المظاهر قد تكون خادعة)

 

هذه قصةٌ حقيقيةٌ كتبها صديقٌ عزيزٌ يرسل لي يومياً بترويقةٍ صباحيةٍ بنكهةٍ سعوديةٍ تحث على التفاؤل، كتب يقول: عشتُ أحداث هذه القصة بنفسي؛ يومها كنتُ أراجع إحدى مستشفيات «جدة»، وبينما أنا أدفع رسوم الفحوصات، أتى رجلٌ في الأربعين من العمر وهو في حالةٍ يُرثى لها من الهم والحزن والعجز، يقول لموظف الاستقبال: "زوجتي تتوجع من ألم المخاض"، فقال له: "ادفع خمسة آلاف ريال مقدماً تحت الحساب"؛ فظل زوج المريضة يتوسل للموظف ليعفيه من ذلك، لكن دون جدوى. حاولتُ المساعدة والشفاعة قدر استطاعتي، إلا أن موظف الاستقبال لم يستجب لجميع محاولاتي، وقال بحزم: "لابد من دفع هذا المبلغ قبل الدخول؛ هذا نظام المستشفى". ومع سماعي توجع المريضة وتوسلات زوجها، أدخلتُ يدي في جيبي وأخرجتُ بطاقة الصراف الآلي لعلي أجد فيها بعضاً من المال لمساعدة الرجل، لكن للأسف الشديد لم يكن فيها إلا ألف وسبعمائة ريال فقط، وأبىَ الموظف إلا أن يُدفع المبلغ كاملاً، قلتُ له: "سأتكفل بباقي المبلغ، فقط أدخل المرأة المريضة"، لكنه أصر على الرفض. وبينما أنا وزوج المريضة نتوسل موظف الاستقبال لإدخال الزوجة المريضة، دخل علينا فجأةً شابٌ "كول" كما يسمونه، صاحب قَصة شَعرٍ عجيبةٍ، يلبس بنطال "برمودا" وحذاءً من غير شراب، لم ألمح عليه أية علامةٍ من علامات الصلاح، فيما كنتُ أظن حينها، قال الشاب: "ما الخطب"؟! شرح له الموظف الموضوع، بدون تردد أخرج الشاب بطاقة الصراف الآلي وقال للموظف: "اخصم الخمسة آلاف ريال، وأدخل المرأة فوراً"، تملكتنا جميعاً حالةٌ من الذهول، لم نَفُق منها إلا ونحن نشاهد ذلك الشاب يغادرنا ويذهب في حال سبيله دون أن يتفوه بكلمةٍ!

ذهب الشاب، ولم يذهب لَوْمي لنفسي لسوء ظني به، وتفكيري السلبي تجاهه، فقط لأني تسرعتُ وحكمتُ عليه من مظهره، ظللتُ أستغفر الله وأتوب إليه لما ظننته فيه.

 

أحبتي في الله .. (المظاهر قد تكون خادعة) ولا تعبر عن الحقيقة، وذكرني هذا بالقصة المشهورة لإنشاء واحدةٍ من أفضل الجامعات في العالم، جامعة «ستانفورد»، حين دخلت سيّدةٌ ترتدي لباساً رمادياًَ باهتاً تمشي إلى جانب زوجها الذي يرتدي بزةً مهترئةً، وتوجها إلى مكتب رئيس جامعة «هارفرد» طالبين مقابلته، نظر السكرتير إلى مظهرهما وأراد أن يُثنيهما عن طلبهما فأجابهما بأن رئيس الجامعة سيكون مشغولاً طوال اليوم، قالت الزوجة: "سننتظر حتى يفرغ من شؤونه"، حاول السكرتير أن يتجاهل الزوجين، على أمل أن ييأسا من طلبهما ويرحلا، لكن ذلك لم يحدث؛ فقرر أخيراً أن يخبر رئيس الجامعة بوجودهما، لعلهما ينصرفان بعد أن يقابلاه، خرج الرئيس بوجهٍ وقورٍ عابسٍ يتبختر أمام الزوجين، بدأت الزوجة بالتحدث أمامه: "كان لنا ابنٌ يدرس في جامعة «هارفرد» لمدة عامٍ كاملٍ، لقد أحب الدراسة هنا، وكان سعيداً للغاية، لكن منذ نحو عامٍ قُتل بحادثٍ، نود أنا وزوجي أن نقيم له نُصُباً تذكارياً في الحرم الجامعي"، لم يتأثر الرئيس على الإطلاق، وقال للزّوجة: "سيدتي، لا نستطيع إقامة نُصُبٍ تذكاريٍّ لكل طالبٍ درس في «هارفرد» وتُوفي، إن قُمنا بذلك، فسيبدو هذا المكان كالمقبرة"، قالت السيدة: "لم يكن هذا ما أردنا، نحن نريد إقامة مبنى بالجامعة"، ذُهل الرئيس مما سمع، ألقى نظرةً على هندام السيدة وزوجها، وتعجب: "مبنى! هل لديكما أدنى فكرةٍ عما قد يكلفكما بناء مبنىً كاملٍ وتجهيزه في جامعتنا؟ إن بناء مبنى هذه الجامعة كلفنا سبعةً ونصف مليون دولار!"، للحظةٍ ساد الصّمت، شعر الرّئيس حينها بنوعٍ من الفخر والغرور، فقد آن لهما بعد أن أخبرهما بذلك أن ينصرفا. استدارت السيدة إلى زوجها وقالت بصوتٍ خافتٍ: "هل هذا فقط ما يُكلف إقامة مبنى جامعة؟! لِمَ إذاً لا نقيم جامعةً خاصةً تخليداً لابننا؟"، أومأ الزوج برأسه موافقاً، فنهضا وخرجا من المكان، ثم سافرا إلى «كاليفورنيا» حيث أقاما جامعةً تحمل اسمهما، جامعة «ستانفورد»، تخليداً لذكرى رحيل ابنهما الذي لم تهتم جامعة «هارفارد» لذكراه، وأصبحت هذه الجامعة الشهيرة تحتل مراكز متقدمةً جداً في ترتيب الجامعات حول العالم.

 

ولأنّ (المظاهر قد تكون خادعة) فقد نهانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عن الحكم على الناس بظاهرهم؛ فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: [مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟]، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟]، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا].

يقول أحد العلماء شارحاً هذا الحديث: إن الله سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرف، والجاه، والنسب، والمال، والصورة، واللباس، والمركوب، والمسكون، وإنما ينظر إلى القلب والعمل، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، وأناب إلى الله، وصار ذاكراً لله تعالى، خائفاً منه، مخبتاً إليه، عاملاً بما يرضيه، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره؛ قال صلى الله عليه وسلم: [رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ].

ويؤخذ من هذا أن الرجل قد يكون ذا منزلةٍ عاليةٍ في الدنيا، ولكنه ليس له قدرٌ عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبةٍ منحطةٍ، وليس له قيمةٌ عند الناس، وهو عند الله خيرٌ من كثيرٍ ممن سواه. ولا يدل الحديث على أن المسلم الفقير أفضل وأحب إلى الله من المسلم الغني بإطلاق، فإن الصواب في هذه المسألة: أن أفضلهما أتقاهما؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ].

 

وفي مقابل من يكون جوهرهم طيباً لكنهم لا يهتمون بحُسن المظهر، نجد من الناس من يجعلون من مظهرهم الملتزم وسيلةً للنصب وأداةً من أدوات الاحتيال؛ يُرَّبون لحاهم ويُقَصِّرون أثوابهم لا لشيءٍ إلا لكسب ثقة الناس فيسهل خداعهم، كما نجد بعضاً آخر يحرصون على مظهرهم الملتزم مراءاةً وسمعةً وكسباً لرضا الناس ولا يفعلون الخير إلا قليلاً؛ لذلك يقول المختصون إنه في بعض الأوقات قد يكون الانطباع الأول الذي نأخذه عن الناس -من خلال مظاهرهم الخارجية- خاطئاً بدرجةٍ كبيرة، فعلى أساس هذا الانطباع، قد نُعامِل الناس معاملةً سيئةً يستحقون عكسها، أو نعاملهم معاملةً طيبةً هم آخر من يستحقونها.

 

إن حُسن المظهر من الدِين؛ يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: [إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ]، ويقول أيضاً: [إنّ الله يُحِبُّ أن يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِه علَى عَبْدِهِ]، وعلى المسلم صحيح الإيمان أن يجمع بين الحسنيين: طهارة الجوهر، وجمال المظهر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اللباس الطيب؛ فقد وصفه أحد الصحابة رضي الله عنهم فقال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ". وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يرى مسلماً بثيابٍ متَّسخة؛ قَالَ صحابيٌ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ: [أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ]، وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ غير نظيفةٍ، فَقَالَ: [أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ]. على المسلم إذن أن يُحَسِّن مظهره، ويُصِلح هيئته، ويكون هذا اتباعاً للسُّنَّة، وإكمالاً للدين.

 

أحبتي .. سرعة الحكم على الناس بغير تَثَبُّت عادةٌ ذميمةٌ سيئةٌ، نُهينا عنها، فلنلتزم هذا النهي، ولتكن لنا في تجارب غيرنا عبرةٌ، ولتكن أخطاؤهم موعظةً لنا.

إنّ (المظاهر قد تكون خادعة) فلا تجعلوا مظاهر الناس معياراً للتفاضل بينهم، فالجوهر أهم من المظهر، والتصرف والسلوك العملي أهم من الشكل الخارجي، هذا مع غيرنا. أما مع أنفسنا؛ فالجمع بين الجوهر والمظهر واجبٌ نحرص عليه، ولا ننسى أن حُسن المظهر من الدِين، فلنحرص على أن يكون مظهرنا مرتباً ومقبولاً، بل وجميلاً، ليكون عنواناً صادقاً يدل على سلامة جوهرنا ومتانة إيماننا وسمو أخلاقنا ونُبل أعمالنا، وليكن ذلك بنية اتباع سُنة نبينا الكريم فنُثاب على ذلك.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://tinyurl.com/y2ohvtq7

الجمعة، 11 سبتمبر 2020

رؤيا الحبيب

 

الجمعة ١١ سبتمبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /256

(رؤيا الحبيب)

 

لستُ متأكداً من حقيقة هذه القصة، لا أدري إن كانت قد حدثت بالفعل أم هي من نسج الخيال! وأعتقد شخصياً أن الأسماء الواردة فيها مستعارة.

يقول راوي القصة: أنا من جراحي العظام المشهورين بقصر العيني، أنحدر من أسرةٍ ثرية، وبمجرد حصولي على بكالوريوس الطب أوفدني أبي لجامعة كامبردج ببريطانيا للحصول على الماجستير والدكتوراه بل والزمالة أيضاً. اخترتُ تخصص العظام، وعشتُ في بريطانيا أكثر من عشر سنواتٍ اصطبغت فيها حياتي بالمجتمع الإنجليزي في عاداته وسلوكياته، والذي ساعد على سرعة تكيفي مع البيئة الإنجليزية المحيطة بي، عدتُ إلى مصر وتم تعييني مدرساً لجراحة العظام بقصر العيني، كنت صريحاً لا أقبل المجاملات، وسخياً لأبعد الحدود، وربما كان هذا ما أثار حيرتهم، "فالبخل الشديد هو أول عادات الإنجليز"، ولكن ربما كان ذلك بقايا من شرقيتي المطمورة، لا أحب المزاح والهزل، ورغم ذلك كنتُ محبوباً من طلابي وزملائي، لا أبخل عليهم بعلمي أو بمالي، أنقل اليهم خبراتي ولا أكتم عنهم ما أعرفه، مثلما يفعل بعض الزملاء، كنت مسلماً تقليدياً؛ أصوم رمضان وحججتُ البيت وملازمٌ للقرآن.

تزوجتُ من ابنة عمي، مر على زواجنا عشرة أعوامٍ لم نُرزق فيها بطفلٍ، ولم أدخر جهداً في عرضها على كبار الأطباء داخل مصر وخارجها. استسلمتُ لقضاء الله، كانت زوجتي هي دنيتي وحياتي، معها أنسى كل متاعب الدنيا، تعرف متى تحدثني ومتى تتركني. أعرف كم تتعذب حينما تجد منزلنا خالياً من ضحكات الأطفال ولعبهم، كنتُ أعتبرها ابنتي أدللها، وكانت تناديني دائماً "يا ابني"!

دُعيتُ مرةً إلى مؤتمرٍ لجراحة العظام بجامعة أسيوط، ركبتُ القطار المكيف، وأخذتُ أبحاثي معي، فجأةً جلس بجواري رجلٌ يتضح من هيئته أنه فلاحٌ أو صعيدي، أسمر الوجه واسع العينين، يرتدي جلباباً رمادي اللون، يُغطي رأسه بشالٍ أبيض، يفوح من ثيابه عطرٌ نفاذ. بوجهه ألقٌ محببٌ تُحسه ولا تستطيع وصفه! كان يسير بصعوبةٍ يتوكأ على عصا، ويستند على ذراع شخصٍ آخر عرفتُ أنه ابنه عندما طلب مني مترجِّياً أن أترك له كرسيِّي وأنتقل لكرسيه ليكون بجوار أبيه، ولكني رفضتُ بشكلٍ قطعيٍ فهذا حقي ولا أجامل به، وكان حرياً به أن يحجز كرسيين متجاورين! هَمَّ أن يرفع صوته ولكنه سكت بإشارةٍ من أبيه، الذي راح يتلو أدعيةً وصلواتٍ وأوراداً بجانبي، حتى أحسستُ بالضيق، ولم أعد أركز في القراءة، وكنتُ أختلس إليه النظر غاضباً، وكأنما شعر بهذا، فقال لي مبتسماً: "أزعجك صوتي؟" رددتُ بمنتهى الصراحة: "نعم، وأرجو أن تخفض صوتك"، اعتذر ثم راح يتمتم بصوتٍ غير مسموعٍ فأحسستُ بالراحة.

فجأةً استغرق في نومٍ عميقٍ وعلا شخيره، فشعرتُ بتوترٍ من شخيره، ولكني أشفقتُ عليه أن أوقظه نظراً لما يعانيه. ثم فجأةً سمعته يتكلم بصوتٍ خفيضٍ: "وعليك السلام يا سيدي يا رسول الله، سمعاً وطاعةً يا سيدي، بشرك الله بكل خير، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا سيدي!". لم يسمعه أحدٌ سواي، وكأنه كان لا يريد أن يسمعه أحد. قلتُ ربما كان ذلك يحدث في لاوعي الرجل، ولكن شخير الرجل علا ثانيةً، يا إلهي، إن الرجل كان مستغرقاً في نومه، لم يكن يتصنع، ربما كانت رؤيا طيبة، ثم قلتُ فليرَ ما يشاء، لا أقحم نفسي فيما يرى لأنه لا يعنيني. استيقظ الرجل بوجهٍ غير الذي نام به، ازداد ذلك الألق، أصبح النور يشع من وجهه، لا تخطئ العين رؤياه. اقترب منه ولده وراح يمسح وجهه الذي تبلل بالعرق. فجأةً سمعته يقول لابنه بصوتٍ منخفضٍ: "الدكتور عبد الرحمن كيلاني راكبٌ معنا هذا القطار، وهو الذي سيجري لي العملية غداً!". صدمتني تلك العبارة بشدةٍ، لكني قلتُ في نفسي ربما هناك من أخبره عن موضوع القطار، ربما ممرض عيادتي، ولكن هذا الأمر لم يكن مطروحاً قبل أن ينام الرجل ويرى ما رأى، أتكون رؤيا وشفافية؟!

سألني: "حضرتك نازل فين؟"، أجبتُ: "أسيوط". سكت الرجل، وأشاح عني بوجهه، أصبح الفضول يقتلني، قررتُ أن أخوض معه الأمر حتى نهايته، ولكن أنا المبادر هذه المرة، خاصةً بعد أن ذكر اسمي وأصبحت بطلاً لرؤياه التي رآها، فرحتُ أسأله بعض الأسئلة فيجيب عنها باقتضاب. لم تُشفِ ردوده غليلي، فقررتُ أن أنزل بآخر ورقةٍ معي؛ فسألته: "هل تعرف الدكتور عبد الرحمن؟"، قال: "لا، ولكني ذاهبٌ إليه"، قلتُ له: "أنا الدكتور عبد الرحمن كيلاني!"، نظر إلى الأرض، وكأنه لم يُفاجأ، راح ينقر أرضية القطار بعصاه، وأنا أسمعه يتمتم بالصلاة والسلام على الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، تركني أتحرق لمعرفة ردة فعله، لكنه صمت! أحسستُ أنه يلاعبني، وكأنه يريد أن أرفع راية الاستسلام أولاً! باغته بقولي: "لعله رسول الله أخبرك بهذا؟"، ذُهل الرجل وظهر التأثر واضحاً عليه، رفع رأسه واتّسعت عيناه، ونظر إليَّ طويلاً باستغراب ثم سألني متلعثماً: "كيف عرفتَ؟ ومَن أخبرك؟"، ابتسمتُ وقلتُ في نفسي: "ها أنا ذا قد نلتُ منك يا صديقي"، راح في لهفةٍ يسأل ويُلح، وأنا أتصنع الوقار وأرسم الجد على ملامحي، أشحتُ عنه بوجهي مثلما فعل، وقلتُ له: "هذا أمرٌ خاصٌ بي!"، رد مسرعاً: "نعم نعم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمَّلني لك رسالةً يقول لك: استوصِ بالشيخ راضي خيراً"، ابتسمتُ نصف ابتسامةٍ وقلتُ: "صلى الله عليه وسلم". أحسستُ أن الرجل أشبه بالغازي الذي دك حصني في ثوانٍ! باغته بالسؤال: "ولكن هل أنبأك الرسول الكريم أني سأجري لك العملية غداً؟!"، نظر إليَّ طويلاً وكأنه أدرك أن الشك يداخلني فيما يقول، قال: "نعم، وأرسل معي أمارةً لك، بالأمس كنتَ تقف مع زوجتك بالشرفة، وترفع يديك بالدعاء أن يرزقك الله بطفلٍ مثلما رزق زكريا بيحيى عليهما السلام، ثم هوَت يدك على كوب الشاي الساخن على حافة الشرفة، فسقط في الشارع بعد أن حرق يدك"، جحظت عيناي، وتجمدت أناملي، وجف ريقي، فالآن لم يعد مجالٌ للشك، صدمتي كانت واضحةً بوجهي، انتابتني رعشةٌ، ورحتُ أتلمس يدي الملتهبة من أثر الشاي الساخن، ووجدتُ نفسي أتهاوى أمام ذلك الرجل البسيط؛ أنا -خريج كامبرديج والحاصل على زمالة الجراحين الملكية- أقبل أن أفكر بهذا الأسلوب؟! أحسستُ أني أقف أمامه مُسَلِّماً ومستسلماً، ولا أدري كيف استيقظت شرقيتي المطمورة فجأةً، فانحنيتُ على يده أقبلها والدموع تملأ عينيّ وسط ذهول مَن يرانا من الركاب. راح يمسح رأسي، ثم قال: "ولك عندي بشرى خاصة أخبرني بها الحبيب الكريم عليه الصلاة والسلام، لقد سمع الله دعاءك وسيمنُّ عليك بيحيى ومحمد معاً"، فأمسكتُ بهاتفي المحمول، اتصلتُ بزميلي رئيس مستشفيات أسيوط لأطلب منه أن يحجز غرفةً باسم الشيخ راضي، لأني سأجري له عمليةً غداً، وأنا من سيتولى كافة تكاليفها.

نزلنا المحطة، كانت تنتظرني سيارةٌ لتقلني إلى مقر المؤتمر، صممتُ أن أذهب للمستشفى أولاً للحجز للشيخ راضي لتجهيزه للعملية، توجهتُ بعد ذلك إلى المؤتمر، وما إن انتهى حتى أغلقتُ هاتفي وعدتُ إلى المستشفى، ودخلتُ غرفة العمليات وأنهيتُ العملية بنجاح. كانت عادتي أن أترك متابعة المريض للفريق الطبي المشارك، ولكني صممتُ أن أتابع حالة الحاج راضي بنفسي في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ تنفيذاً للوصية الكريمة، حتى جاءني زميل دراسةٍ وأخبرني أن زوجتي اتصلت بي عشرات المرات وكان هاتفي مغلقاً، أسرعتُ لأكلمها، فوجدتها منهارةً وتبكي، كاد القلق أن يقتلها عليَّ، اعتذرتُ لها، ثم صاحت في طفولةٍ: "يا عبد الرحمن أنا حامل، أجريتُ اختبار حملٍ بناءً على نصيحة طبيب النساء الذي يتابعني، حيث ذهبتُ إليه بعد أن شعرتُ بألمٍ يُمزق جنبي، والحمد لله أنا حامل"، ابتسمْتُ وتراءى لي وجه الشيخ راضي؛ فقلتُ لها: "عارف، ومش كده وبس أنت حامل بتوأم!"، وجدَتني أكلمها بثقةٍ كاملةٍ، وبجديةٍ تعرفها فيَّ صاحت: "عبد الرحمن، أنت تعبان؟"، أكملتُ حديثي وكأني لم أسمعها: "ستلدين يحيى ومحمد بإذن الله!"، ضحكت وقالت: "وتوأم كمان؟ هو احنا كنا طايلين «برص»، وبعدين إحنا لسة في أول الحمل يا شيخ عبده"!

وضعَت زوجتي بالفعل توأماً، ومن يومها وهي تنظر إليَّ بانبهارٍ وإكبارٍ، كنظر المريد لشيخه، وتقول عني: "سرك باتع، ومكشوف عنك الحجاب يا شيخ عبده!"، فأضحك في نفسي لأني لم أخبرها بشيء، بناءً على طلب الشيخ راضي.

وها هما أولادي: محمد ويحيى، عمرهما الآن خمس سنواتٍ يتشاكسان حولي لا أستطيع منعهما وإلا تعرضتُ لما لا تُحمد عقباه من أمهما.

 

أحبتي في الله .. تلك الرؤيا التي رآها الحاج راضي في منامه؛ (رؤيا الحبيب) المصطفى هل يمكن حدوثها؟ وهل هي مقبولة شرعاً؟

وردت الرؤى -بصفة عامة- في عددٍ من آيات القرآن الكريم منها؛ رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام، ورؤيا الملك، ورؤيا الفتيين صاحبي السجن، وغيرها من رؤى. أما أن يرى أحدنا في منامه النبي صلي الله عليه وسلم فهذا أمرٌ آخر؛ قال عنه عليه الصلاة والسلام: [مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي]. يقول أهل العلم إن هذا الحديث صحيحٌ، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد يُرى في النوم، وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة في السُنة والسيرة النبوية فقد رآه، فإن الشيطان لا يتمثل في صورته، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الرائي من الصالحين، ولا يجوز أن يُعتمد على هذه الرؤية في شيءٍ يخالف ما عُلم من الشرع، بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي -من أوامر أو نواهٍ أو خبرٍ أو غير ذلك من أمورٍ يسمعها أو يراها الرائي- على الكتاب والسُنة الصحيحة، فما وافقهما أو وافق أحدهما قُبل، وما خالفهما أو خالف أحدهما تُرك. ثم ليس كل من ادعى رؤيته صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً، وإنما تُقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه. وعلى المسلم قبل أن يدَّعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أهل العلم والدين ـ الذين يُعرف عنهم الصلاح والتقوى ـ ليخبروه إنْ كان ما رأى حقاً أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام لا تستوي مع رؤية غيره من البشر، وهي من المبشرات التي تُفرح القلب، وتُسعد النفس، فهي تنطوي على بشرى عظيمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَآنِي فَقْدْ رَأىَ اَلْحَقَ] أي الرؤيا الصحيحة الثابتة لا أضغاث أحلامٍ ولا خيالات.

 

وقيل إن أسباب (رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام متوقفةٌ ـ بعد فضل الله تعالى- على طاعة الله سبحانه، وحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، والشوقَ لرؤيته، وكلما كان الإنسان أتقى لله عزَّ وجلَّ، وأكثر اتباعاً لسنة النبي الله صلى الله عليه وسلم كان توقع رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر احتمالاً من غيره، وأما ما عدا ذلك من أوراد أو أذكارٍ أو صلواتٍ ـ تساعد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ـ فجميعه غير صحيح، بل حكم العلماء ببدعيته.

(رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام إذن جائزةٌ شرعاً وعقلاً، واقعةٌ فعلاً، وما مِن شكٍ أن رؤيته صلوات الله وسلامه عليه فرحةٌ لا تضاهيها فرحة، وأمنيةٌ غاليةٌ لا تدانيها أمنية، فالمسلم المحب للنبي صلى الله عليه وسلم مستعدٌ لأن يبذل أهله وماله مقابل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر النبي عن حال المشتاقين إليه بعد وفاته، ممن لم يروه ولم يدركوا زمانه قَالَ: [مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ].

 

أحبتي .. خلاصة الأمر في مسألة (رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام، أنها "دليل خيرٍ وبشرى لصاحبها، ومع ذلك لا يجوز بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي مبشراتٌ تبعث الأمل، يُفْرَح ويُتفاءل بها، ولا يُبنى حُكْمٌ عليها".

اللهم اجعلنا ممن يتشرفون برؤية نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام في الحياة الدنيا، واجعلنا في الآخرة من المحظوظين الفائزين المفلحين الذين يشربون عند الحوض من يده الشريفة شربة ماءٍ لا نظمأ بعدها أبداً.

 

https://tinyurl.com/y5682drb

الجمعة، 4 سبتمبر 2020

وبالوالدين إحسانا

 

الجمعة 4 سبتمبر 2020م


خاطرة الجمعة /255

(وبالوالدين إحسانا)

 

قصةٌ حقيقةٌ حدثت في إحدى دول الخليج العربي رواها أستاذٌ جامعيٌ لطالباته، قال الأستاذ:

كان ذلك في تلك الأيام الخوالي في منتصف السبعينيات، وفي أحد أيام الصيف الحارة، حيث الرطوبة والحرارة التي لا تُطاق، والعرق المتصبب بغزارة، والمناخ القائظ، والهواء الملتهب، فلا يتحمل أحدنا البقاء خارج الغرف مكيفة الهواء اتقاء حرارة الشمس اللاهبة في أشهر الصيف الطويلة. في ذلك اليوم توقفت سيارة أجرةٍ في حيّنا، ونزلت منها امرأةٌ شابةٌ تلف جسدها بعباءةٍ طويلةٍ، وتتشح بحجابٍ أبيض ناصع البياض غطى نصف شعرها الأسود الداكن، ثم نزلت بعدها مباشرةً امرأةٌ طاعنةٌ في السن بلغت على ما يبدو للعيان الثمانين عاماً، وقد اتكأت على عكازٍ مهترئٍ كأنه العُرجون القديم، وبرجلين نحيلتين وبجسدٍ ناحلٍ وضامرٍ سكنته الأمراض، أمراض الشيخوخة والكِبَر، وقد انحنى ظهرها واحدودب إلى الأمام.

تساءلتُ وقتها بيني وبين نفسي: مَن هذه السيدة الشابة؟ ومَن تلك المرأة العجوز؟ ولماذا جاءتا إلى حيّنا المتواضع؟

كنتُ حينذاك صغيراً في السن، ألعب مع أترابي على قارعة الطريق العام، وقد شدني هذا المشهد وأدهشني. علمتُ فيما بعد من هما هاتان السيدتان؛ لقد كانت السيدة الشابة ابنة تلك المرأة العجوز، وقد جاءت إلى حيّنا لتسَّكنها في حجرةٍ قديمةٍ مستأجرةٍ تُطل على أحد الشوارع الفرعية في ذلك الحي القديم، وهذه الحجرة بالذات كانت في الزمن البعيد قبراً لصاحبها الذي أوصى قبل مماته بأن يُدفن فيها، وقد حقق أهالي الحي رغبته فدفنوه فيها، بعدما عاش جُل حياته بين جدرانها، مرافقاً للعوز والفقر والحاجة. فجاءت هذه المرأة لتسكن فيها من جديد، ويا ليت هذه الحجرة كانت صالحةً للسكن، فقد كانت تفتقر إلى الخدمات العامة من ماءٍ وكهرباء؛ فإذا حلّ الليل حلّ معه الظلام الدامس وأشباح الموتى وأرواحهم، كما كانت رائحة الحجرة نتنةً لقذارة المكان ووساخته.

أما لماذا أسكنت تلك المرأة الشابة أمها في هذه الحجرة المتواضعة؟ فقد كان السبب هو في طلب الخلاص من عناء رعاية الأم الطاعنة في السن والتخلص من شكاواها من أمراضها العديدة، وذلك بعدما اتفقت الابنة الشابة وزوجها على استئجار هذه الحجرة لهذه الأم المسكينة. ولم يكن يومها في تلك الدولة الخليجية دُورٌ للعجائز والشيوخ وكبار السن ممن عقهم الأبناء والبنات.

لقد رأيتُ هذه المرأة العجوز تجلس كل يومٍ على عتبة الحجرة وتمد يدها للتسول من المارة من الصباح حتى الظهيرة، وكل ما تجمعه تسلمه لصاحب الحجرة ومالكها، وهي في الواقع قروشٌ قليلةٌ لا تُسمن ولا تُغني من جوع. وقد تكفلت أسرتي بتقديم وجبتي الغداء والعشاء لها، أما طعام الإفطار، والذي نسميه نحن أهل الخليج " الريوق"، فقد كانت تأتي به بنتٌ صغيرةٌ من أسرةٍ أخرى في حيّنا.

مضت الأيام على هذه الوتيرة إلى أن جاءت ليلةٌ شديدة الحر، حيث دخلت العجوز حجرتها وأقفلت بابها بالمصراع الخشبي المعروف آنذاك، ويا ليتها ما فعلت ذلك؛ فقد اشتد عليها الحر والرطوبة والظلام، وسمع الرجال الخارجون من مسجد الحي أنيناً كأنين المكلوم ينبعث من تلك الحجرة، وللأسف لم يتحرك أحدٌ لإنقاذ هذه العجوز مما هي فيه من عناءٍ وابتلاء، إلى أن أصبح الصباح وجاءت البنت الصغيرة كعادتها وهي تحمل صينية الإفطار، وطرقت الباب مراتٍ عدة، ولكن لم يُفتح لها، فأخبرت أمها فجاءت مسرعةً واستعانت بأحد المارة في فتح الباب، فوجدوا المرأة العجوز ساقطةً على وجهها وهي مشرفةٌ على الهلاك وقد احمَّر جسدها الناحل الضعيف، فنقلوها إلى المستشفى، وهناك بقيت أسبوعين، وقال الطبيب الذي أشرف على علاجها: "إذا عادت إلى نفس الحجرة فإنها سوف تموت حتماً"، ولكن ما الحيلة وقد هجرتها ابنتها العاقة ولا نعرف أحداً من ذويها؟ لذلك رجعت العجوز إلى نفس الحجرة وإن شئتَ فقل: إلى نفس القبر!

وما هي إلا ثلاثة أيام حتى تكررت نفس المأساة، فلما كُسر الباب عليها وجدوها ميتةً، وقد انكبت على وجهها بعدما عجزت عن فتح الباب لتظفر بنسمة هواءٍ نقية. وحملها أهل الحي إلى مثواها المحتوم، وهم يترحمون عليها ويستغفرون لها، ويصبون لعناتهم القاسية على ابنتها العاقة.

وكنتُ ممن شيّعوا جنازتها إلى المقبرة، ولكنني كنتُ أقول: ما أقسى هذه الحياة، وما أقسى ما فيها، لقد تحجرت الرحمة في قلوب الناس حتى تركوا هذه المسكينة تموت بهذه الصورة البشعة دون أن يقدموا لها شيئاً، وكان بإمكانهم أن يوصلوا لها الماء والكهرباء، وأن يضعوا لها مكيف هواء، ولكنهم لم يفعلوا، فماتت بهذه الطريقة، وذهبت إلى ربها لتشتكي إليه عقوق الأبناء وموت الرحمة في قلوب الناس. ألا ما أقسى هذه الحياة.. ألا ما أقسى هذه الحياة.

بهذه الكلمات المؤلمة والحزينة ختم الأستاذ الجامعي حديثه لطالباته الباكيات، وقد تفجر الدمع من أعينهن، أما هو فقد جلس على الكرسي ليمسح عن عينيه بقايا دموعٍ غلبته وفرت من مقلتيه، وهو يدعو للعجوز بالرحمة والغفران.

 

أحبتي في الله .. إذا كان موقف الرجال الخارجين من مسجد الحي غريباً ومستهجناً وهم يسمعون أنيناً كأنين المكلوم ينبعث من حجرة العجوز ولم يتحرك منهم أحد! فإن الأكثر غرابةً والأولى بالاستهجان هو موقف الابنة الشابة من أمها؛ أهكذا يكون البر بالأم؟ ألم تقرأ هذه الابنة الشابة ولو آيةً واحدةً من آيات القرآن الكريم التي تحث على البر بالوالدين والإحسان إليهما؟ ألم تتأثر بعبارة (وبالوالدين إحسانا)؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، كما يقول: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، كما يقول: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾، وغيرها من آياتٍ كريمةٍ تحث على البر بالوالدين والإحسان إليهما، مع التركيز على الأم على وجه الخصوص.

ألم تقرأ تلك الابنة العاقة أياً من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على البر بالوالدين، وتخص الأم بمزيدٍ من البر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ]، قيلَ: مَنْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: [مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [رضا الربُّ في رضا الوالدينِ، وسخطُهُ في سخطِهما]. وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: [أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ]، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: [ثُمَّ أبُوكَ]. وعندما سُئل صلى الله عليه وسلم عن أحب العمل إلى الله، قال: [الصَّلَاةُ علَى وقْتِهَا]، قيل: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: [برُّ الوَالِدَيْنِ]، قيل: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: [الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ]. وجاء رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واستأذَنَه في الجهادِ، فقال له صلى الله عليه وسلم: [أحَيٌّ والداكَ؟]، قال: نعمْ، قال: [ففيهما فجاهِدْ]. وجاء رجلٌ فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أُمّ؟]، قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ألا أحدِّثُكم بأَكبرِ الكبائرِ؟]، قالوا: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قال: [الإشراكُ باللَّهِ، وعقوقُ الوالدينِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [وأطِعْ والدَيْكَ، وإنْ أمراكَ أنْ تخرجَ مِن دُنياكَ، فاخرجْ لهُما]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أنتَ ومالُكَ لوالدِكَ، إنَّ أَولادَكم مِن أطيَبِ كَسبِكم، فكُلوا مِن كَسبِ أَولادِكم]. وغير ذلك من أحاديث نبوية شريفة التي يدور معناها حول (وبالوالدين إحسانا).

 

يقول أهل العلم إن البر بالوالدين معناه طاعتهما، وإظهار الحب والاحترام لهما، ومساعدتهما، والإحسان إليهما، وفعل الخيرات لهما. وقد جعل الله لبر الوالدين والإحسان إليهما منزلةً عظيمةً لا تعادلها منزلة؛ بذكر ذلك بعد الأمر بعبادته سبحانه وتعالى، وقد جعل برهما والإحسان إليهما فرضاً عظيماً، وأمر بالعمل على رضاهما، بكل وسيلةٍ ممكنةٍ بالجهد والمال، والحديث معهما بكل أدبٍ وتقديرٍ، والإنصات إليهما عندما يتحدثان، وعدم التضجر وإظهار الضيق منهما. إن الوالدين نعمةٌ عظيمةٌ على الإنسان، فما أجمل أن يُمتِّع الإنسان نظره بوالديه وهما على قيد الحياة، ويسمع نصحهما، ويستفيد من توجيههما في حياته، وعلى الأبناء شكر الله على هذه النعمة، والإحسان وردّ الجميل لوالديهما. إن بر الوالدين يأتي على رأس قائمة الأعمال السامية الشريفة التي حثَّت عليها الفطرة الإنسانية السليمة، والتي أكدتها الديانات السماوية كلها، وذلك لما لهما من فضلٍ عظيمٍ لا يستطيع ذو عقلٍ إنكاره، فهما مَن يرعيان الإنسان منذ الصغر، ويقفان إلى جانبه في سائر مراحل حياته.

وفي بر الأم تقرُّبٌ من الله تعالى، وفي عقوقها عصيانٌ له سبحانه، ومن هنا فإن الإنسان الكيِّس يُعِّد العدة للقاء الله تعالى، ويحرص كل الحرص على نيل رضا والدته، وعدم إغضابها، أو رفع الصوت عليها، وتلبية كل رغباتها مهما كانت. بر الأم واجبٌ حتى لو كانت غير مسلمةٍ؛ فقد أكد الشرع على ضرورة الإحسان إليها، ونيل رضاها مهما كان دينها، وفي ذلك منتهى الإنسانية، فحب الإنسان لأمه فطريٌّ، ولا يمكن لإنسانٍ عاقلٍ سليم الفطرة أن يتنكَّر لأمِّه لسببٍ أو لآخر.

 

قال الشاعر:

العَيْـشُ مَاضٍ فَأَكْـرِمْ وَالِدَيْـكَ بِـهِ

والأُمُّ أَوْلَـى بِـإِكْـرَامٍ وَإِحْـسَـانِ

وَحَسْبُهَا الحَمْـلُ وَالإِرْضَـاعُ تُدْمِنُـهُ

أَمْـرَانِ بِالفَضْـلِ نَـالاَ كُلَّ إِنْسَـانِ

 

أحبتي .. تهزني من الأعماق عبارةٌ قرأتها تقول: "تستطيع الأم العناية بعشرة أبناء، لكن أحياناً عشرة أبناءٍ لا يستطيعون العناية بأمٍ واحدة!"، اللهم لا تجعلنا من هؤلاء الأبناء، ولا تجعل أبناءنا منهم.

هذه دعوةٌ إلى كل مَن كان والداه أحياءً: احمد الله على هذه النعمة، وأحسن إليهما وبرهما، واحذر أن تفوتَك هذه الفرصة؛ بادر بالبر، واطرح العقوق والهجر، وأحط أمك بمزيدٍ من الرعاية والبر والإحسان. وليكن شعارنا جميعاً (وبالوالدين إحسانا) عسى أن يكون برنا بهما سبباً في رضا المولى عزَّ وجلَّ؛ فنكون من الفائزين المفلحين في الدنيا والآخرة. ولنربي أبناءنا على البر بالوالدين والإحسان إليهما، ونكون قدوةً لأبنائنا بأفعالنا في هذا المجال؛ فينشأ جيلٌ جديدٌ لا يرمي بآبائه في الشوارع، ولا يوُدعهم دُور المسنين، بل يرعاهم ويُكرمهم إلى آخر أيام حياتهم.

ومن تُوفي والداه فيستمر في برهما بعد وفاتهما بالصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما، وذلك كما علمنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.

اللهم ارزقنا بِر والدينا أحياءً وأمواتاً، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

 

https://tinyurl.com/y5c9cne5

الجمعة، 28 أغسطس 2020

حُسن الخُلُق

 

الجمعة 28 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة / ٢٥٤

(حُسن الخُلُق)

 

يقول الراوي وهو مسلمٌ يسكن بإحدى القرى في أرض البلقان بإحدى دول أوروبا الشرقية:

يوجد بالقرية مسجدٌ به حلقات تحفيظ القرآن الكريم يومي السبت والأحد من كل أسبوع. صليتُ المغرب بالمسجد في يوم سبتٍ، وهممتُ بالانصراف، فإذا بالأطفال الذين صلوا معنا ينشطون عقب انتهاء الصلاة والأذكار، يحولون الصالة الأمامية للمسجد إلى ساحة لعب! أحضروا طاولةً للعب تنس الطاولة، جهزوها وأمسكوا بالمضارب، فتحولت الصالة إلى ساحة بهجةٍ وسرور. أما إمام المسجد -الذي كان الأطفال يقبلون يده وهو يؤمهم في الصلاة منذ قليل- فقد وجدته وسط الأطفال في تلك الصالة، يشاركهم لعبهم! هل هذا هو الإمام الذي صلينا خلفه؟ نعم هو!

وقفتُ ألاحظهم وأتعجب، فاقترب مني الإمام -وقد لاحظ تعجبي- وقال لي: "أعتقد أنه لو رأى المسئولون عن المساجد في بلادكم العربية ما نفعل في مساجدنا لاعتبروا ما نفعل بدعة". وفرتُ عليه كلاماً كثيراً، وقلتُ له: "أعلم كل ما تريد قوله، لكن أريدك أن تخبرني لماذا تفعلون ذلك؟"، رد عليّ قائلاً: "لقتل النفاق". إجابةٌ لم أكن أتوقعها، وأنا مَن ظنّ بنفسه أنه يعرف أساليب التربية وأهدافها كلها، بحكم طبيعة تخصصي وعملي كاختصاصي اجتماعي على مدى عشرين عاماً. سألته: "كيف هذا؟"، قال: "الطفل عندكم يلتحق بحلقات التحفيظ ليتعلم القرآن الكريم فيعيش في بيئةٍ إيمانيةٍ عمادها (حُسن الخُلُق)، ثم يخرج إلى الشارع يريد أن يُشبع رغباته كطفلٍ يريد اللعب واللهو مع الأصدقاء، فيشبعها في بيئةٍ غير منضبطةٍ؛ شتائم وألفاظ هابطة ومعارك وأخلاق سيئة، ولابد أن يتأقلم معهم في هذه البيئة حتى يستطيع أن يُشبع رغباته من خلالهم، فإن عاد إلى حلقة التحفيظ التزم سلوك التدين وسلوك الطفل المتأدب بآداب القرآن كما هو مطلوبٌ منه؛ فيعيش الطفل حالةً من التقلب تؤدي به في النهاية إلى طريق النفاق، أمانحن فقد اخترنا طريقاً آخر نربي به أولادنا: نصلي بهم ونحفظهم القرآن الكريم ونلعب ونلهو معهم في المسجد متمسكين بقيمنا الإسلامية؛ فيعيش الطفل في بيئةٍ إيمانيةٍ خارج المسجد كما هي داخله، لا فرق ولا تباين ولا اختلاف"، ". ثم أردف قائلاً: "نزل الإسلام ببلادكم؛ بلاد العرب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام، يجعل المسجد قلب المجتمع، ومقراً لحياةٍ كاملة. وكانت حياته كلها -صلى الله عليه وسلم- نسقاً متكاملاً حتى أنه كان يسابق زوجته أم المؤمنين السيدة/ عائشة، رضي الله عنها، وهو في طريقه للقتال. أنتم أخذتم من الإسلام جسده وتركتم روحه".

هنا أوشكت دموعي على السقوط، وتذكرتُ قصة المرأة التي بعثت بابنها -صاحب الأربعة عشر عاماً- إلي أحد المراكز الإسلامية بأوروبا لكي يُسْلِم، وحين دخل على الإمام وطلب منه ذلك، سأله الإمام: "من أتى بك إلى هنا؟"، قال الطفل: "أمي، وهي تقف خارج المركز"، قال له الإمام: "لماذا لم تدخل معك؟"، قال الطفل: "لأنها غير مسلمة"، تعجب الإمام، وطلب من الطفل أن يدعو أمه لتدخل. دخلت الأم فسألها الإمام: "أنتِ لستِ مسلمةً، كما أخبرني ابنك، إذن لماذا تطلبين من ابنك أن يُسْلِم؟"، امتلأت عيون الأم بالدموع وقالت: "لي جارةٌ مسلمةٌ ابنها في عمر ابني، ما دخل البيت ولا خرج إلا قَبَّل يدها وسَلَّم عليها؛ فتمنيتُ أن يكون ابني مثله".

 

أحبتي في الله .. إنه (حُسن الخُلُق)؛ فالمعاملة الطيبة هي روح الدين، هذه هي التي علينا أن نوليها فائق العناية وعظيم الاهتمام.

يقول أحد الدعاة: عدد آيات القرآن الكريم 6236 آية، آيات العبادات منها لا تزيد عن 130 آيةً، أي 2٪؜ تقريباً، في حين يصل عدد آيات الخُلُق إلى 1504 آية، أي قرابة ربع آيات كتاب الله، ومع ذلك ركز عددٌ كبيرٌ من المسلمين على العبادات، وترك الجزء الأكبر من المعاملات وهو (حُسن الخُلُق)، رغم أن الإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا، فالدنيا مزرعةٌ للآخرة، والدين عباداتٌ ومعاملاتٌ، ولا يصح فصل العبادة عن حُسن معاملة الناس، بل لا يصح أن يتعبد المسلم ويسيء معاملة الناس، كما لا يصح أن يحسن معاملة الناس ولا يصلي ولا يصوم. ومن عظمة الإسلام أنه ليس فيه أعمالٌ خاصةٌ للدنيا وأعمالٌ خاصةٌ للآخرة؛ فكل عملٍ حلالٍ يؤديه المسلم في دنياه يبتغي به مرضاة الله ينال عليه الأجر والثواب في الدنيا والآخرة؛ فينبغي على المسلم أن يحرص على الصدق، وعفة اللسان، وطهارة اليد، ونقاء النفس، والبعد عن أذى الآخرين بالغيبة والنميمة والغش والسرقة والكذب والقتل، حرصه على أداء الصلاة في وقتها، وإخراج الزكاة في موعدها، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام إذا استطاع إليه سبيلا. ويجب أن يعلم المسلم أن الأخلاق في الإسلام فرائض لا فضائل؛ فذو الخُلُق القويم لا يتفضل على أخيه بطيب خُلُقه وحُسن معاملته، بل ذلك فرضٌ في شريعة الإسلام.

وعن (حُسن الخُلُق) يقول تعالى عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. ويقول تعالى آمراً عباده بالقول الحسن: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. ويقول تعالى مبيناً ثمرة المعاملة الطيبة والسلوك الحسن: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ]. وقال -عليه الصلاة والسلام-: [اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: [أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا]، وقال كذلك: [إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ]، وقال أيضاً: [أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ]، كما قال: [إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا].

وفي بشرى منه صلوات ربي وسلامه عليه قال: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ، عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ]، وفي بشرى أعظم قال صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ: [تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ].

 

وتأتي أهمية (حُسن الخُلُق) وتربية أبنائنا عليه قبل أهمية العلم والتعليم؛ فلا خير في أمةٍ قدمت العلم والتعليم على الأخلاق؛ يتخرج من أبنائها مهندسون وأطباءٌ وضباطٌ ومحامون وقضاةٌ ومهندسون ومعلمون وإعلاميون، على أعلى مستوى من العلم والتعليم، لكن منظومة القيم لديهم ضعيفةٌ أو مهزوزةٌ فيكون الفساد بأشكاله: رشوةً وغشاً وتدليساً وكذباً وافتراءً ونكثاً بالوعود وعدم وفاءٍ بأغلظ الأيمان وخيانةً للأوطان، إلا من رحم ربي. ويا ويل أمةٍ لا هي اهتمت بالعلم والتعليم، ولا هي اهتمت بالأخلاق!

لتكن لنا في رسول الله قدوةٌ حسنةٌ؛ يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾، فإنه كما اهتم بالعلم وحث عليه، فإنه حضَّ على مكارم الأخلاق، بل كانت حياته كلها -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً يُحتذى به، وقدوةً يُتأسى بها في (حُسن الخُلُق)؛ فلننظر كيف كان يعامل أهله وزوجاته -رضوان الله عليهم- يلاعبهم ويلاطفهم ويقوم على خدمتهم؛ فقد كان خير الناس بأهله، ولننظر كيف كانت معاملته لصحابته -رضوان الله عليهم- بالحب والحِلم والرأفة والرحمة ولين الجانب، ولننظر كيف كان أرحم الناس وألطفهم في معاملة الأطفال؛ يقول عنه سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وقال هو عن نفسه: [إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ]، وقالت عنه السيدة عائشة -رضي الله عنها- لما سُئلت عن أخلاقه: "فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَ القُرآنَ"، وفي روايةٍ: "خُلُقُ مُحَمَّدٍ القُرآنُ".

قَالَ الشَّاعرُ:

وإنما الأُممُ الأخلاقُ ما بَقِيت

فإِن هُمُ ذَهَبَت أَخلاقُهم ذَهَبُوا

وقال آخر:

صلاَحُ أمرِكَ للأَخلاَق مَرجعُهُ

فَقوِّمِ النَّفسَ بالأَخلاَقِ تَستَقِمِ

 

أحبتي .. ليسعى كلٌ منا إلى تحسين خُلُقه، وترقيق طباعه، وتلطيف علاقاته، وتليين معاملاته، ليكمل إيمانه، ويثقل ميزانه، ويدخل الجنة برحمة الله. قال أحد العارفين: "الدين كله خُلُق، فمن فاقَك في الخُلُق، فاقَك في الدّين"؛ فلنجتهد ألا يفوقنا أحدٌ فيديننا بأن نسعى -مع التزامنا بأداء الفروض وما استطعنا من نوافل- إلى اكتساب المزيد من (حُسن الخُلُق) وإحسان معاملة الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والزملاء والناس أجمعين. ولنربي أبناءنا على مكارم الأخلاق، يتمسكون بها في كل وقتٍ وفي كل مكان. فإذا ضعف دور المدارس في هذا المجال، وقصَّرت وسائل الإعلام في أداء دورها في هذا الشأن، فإن مسئولية الأسرة المسلمة تكون مضاعفةً في تربية النشء على القيم الإسلامية، وتعويده وتدريبه من صغره عملياً على ممارسة (حُسن الخُلُق) في جميع الحالات.

اللهم اجعلنا، وأهلنا وأبناءنا وجميع المسلمين، من أصحاب الخُلُق القويم، وكما أحسنتَ ربنا خَلْقنا أحسِن اللهم خُلُقنا يا عزيز يا حكيم.

 

https://tinyurl.com/y29pl6hw

الجمعة، 21 أغسطس 2020

صاحب التاكسي

 

الجمعة 21 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة /253

(صاحب التاكسي)

يحكي أستاذ علم الاجتماع في جامعة بغداد، ويقول:

بعد أن هبطت بنا الطائرة في رحلةِ العودة إلى بلدي استلمتُ حقيبتي وخرجتُ من بوابة المطار، وركبتُ إحدى سيارات الأجرة التي كانت متوقفةً في انتظار المسافرين، وبعد أن وضع السائق حقيبتي في شنطة السيارة، ركب خلف المقود وتحركت السيارة، وكان الزمن ما بين المطار وبين منزلي ما بين الثلث والنصف ساعة بحسب خلو الطريق وازدحامه. وفي أثناء الطريق أخذتُ أتجاذب أطراف الحديث مع (صاحب التاكسي)، فوجدتُ في حديثه ثقافةً واضحةً، وفي أسلوبِهِ رصانةً واتزانا، وكنتُ أنظر إليه وهو يتحدث فأرى في قسماتِ وجهِهِ نضارةً، وفي ابتسامتِه رضاً وسعادة، وفي نظرته للمستقبل تفاؤلاً قلَّ نظيره، وكأن هذا السائق لا يحمل من همومِ الدنيا شيئاً أبداً، بخلاف ما تعودناه من أقرانِه سائقي سياراتِ الأُجرة، من كثرةِ شكوى وتضجرٍ وتأفف، تسمع ذلك في حديثهم، وتراه بادياً في قسماتِ وجوهِهم لما يواجهونه من ضغوطات الحياة ومتاعبها.

حقيقةً لقد أدهشني هذا السائقُ وفرضَ عليَّ احترامَه، بحُسنِ مظهرِه ونضارةِ وجهِه، وأسرني بحديثِه وحلاوةِ منطقه، فعدَّلتُ في جلستي ورتَّبتُ كلامي، وغيَّرتُ نِدائي له باختيار ألفاظٍ فيها من التقدير والاحترام ما يليق بهذا الرجل. ولمَّا توسطنا العاصمةَ ونحن في الطريق، نظرتُ للرجلِ وخاطبته قائلاً له: اصدقني القول يا أخي في التعريف بنفسك، فمظهرُك ونضارةُ وجهِك وثقافتك لا تتوافق مع صفات صاحبِ سيارةِ أجرةٍ يكدح من الصباح إلى الليل!! فنظر إليَّ الرجلُ بابتسامةٍ تُخفي وراءها ألفَ حكايةٍ وحكاية، ثم صمت قليلاً، ونظر إليَّ وأشار بيده إلى عددٍ من المباني الشاهقة على يمين الطريق، وفي الجهة الأخرى أشار بيده إلى بعض القصور الفخمة والتي تمتد على مساحاتٍ شاسعة، محاطةٍ بأسوارٍ مرتفعة، ترى من فوقها أشجارَها الخضراء، فقلتُ: نعم قد رأيتها فما شأنها؟ قال: لو أردتُ أن تكون كلُّها وأضعافُها ملكاً لي لكان ذلك. فقلتُ له: ولِمَ لا؟ وهل يكره عاقلٌ أن يكون مالكاً لكلِّ ما ذكرتَ؟ فقال: يا أخي الكريم، لقد كنتُ مديراً للشئون المالية في أكبرِ الوزارات في هذا البلد، وأنت تعرف معنى ذلك في بلدنا وفي مثيلاتها من الدول، لقد كانت كلُّ المشاريعِ والمناقصات لا يمكن اعتمادُها والموافقةُ عليها إلا بعد توقيعي. فكنتُ دقيقاً في استيفاءِ الشروطِ والضوابطِ كافةً لقبول أيّةِ معاملة، ولا يمكن التنازلُ عن هذا المبدأ أيَّاً كانت المبررات، فأنا أعلم أن وِزرَ هذا الشعب سيتحمله كلُّ مسئولٍ خان أمانتَه، وأنَّ دعاء الملايين على مَن فرَّط في حقوقه سيصل عاجلاً أو آجلاً، كيف لا والله عزَّ وجلَّ يقول في الحديث القدسي عن دعوة المظلوم: {وعِزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين}، ولا أُخفيك أخي لقد تعرضتُ لمضايقاتٍ عديدة، وضغوطاتٍ كثيرة، وصل بعضُها إلى حدِّ التهديدِ المبطَّن، فلم ألتفت لذلك، وثبتُّ على المبادئ والقيمِ التي آمنت بها، ولأنَّنِي إنسانٌ من لحمٍ ودمٍ ومشاعرَ وأحاسيس، أشعر بما يشعر به كلُّ إنسان، فقد مرَّت بي لحظاتُ ضعفٍ أمام عروضٍ كثيرةٍ بعشرات الملايين، وأراضٍ وعِماراتِ، وكلُّ ذلك في واحدةٍ فقط من المناقصات، فكيف لو وافقتُ على كل المعاملات؟ هل كنتَ ستراني أقوم بنقلِك من المطارِ إلى منزِلك في هذا الوقت، وعلى هذه السيارة؟

فقلتُ له –وقد ازداد إعجابي به–: وكيف تغلبتَ على لحظاتِ الضعفِ التي مرَّت بِكَ؟ قال: تعلم يا أخي أنَّ من أعظمِ الفتن التي يُبتلى بها العبدُ فتنةَ المالِ والفقرِ، وإلحاحَ الزوجةِ والأولاد، فكيف إذا اجتمعت كلُّها على إنسانٍ ضعيفٍ مثلي – وكأنه يستحضر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، وكأنه يقرأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يوم استعاذ من فتنة الفقر في قوله: [وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ]. فقلتُ له: وماذا صنعتَ أمام هذه المُغريات من الملايين؟ وأمام تلك الضُّغوطاتِ الكبيرةِ من المسئولين في الوزارة، وإلحاحِ الزوجةِ والأولاد، واحتياجاتِهم الحياتية؟ فقال لي: عندما يعمل الإنسان وفق مبادئ وقيمٍ يؤمنُ بها إيماناً كاملاً، واثقا بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يُقسِّم الأرزاق، فسينجح وسيتغلب على كلِّ العواصف التي تواجهه، فكيف عندما يكون هذا الإنسانُ مسلماً، عالماً بأن الله يبتلي عباده بالفقر والغنى، واثقاً بتحقُّقِ موعود الله له بأن يعُوِّضَه خيراً مما تركه، كما في الحديث [إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ]. ثم استرسل (صاحب التاكسي) في حديثه قائلاً: وكنتُ كلما شعرتُ بالضعف أمام إغراءات المال، وكثرةِ متطلبات الأسرةِ التجأتُ إلى الله بأن يثبتني، فإذا عُدتُ لبيتي ونظرتُ في وجوهِ أبنائِي وبناتِي زاد ذلك في ثباتي، فقد كنتُ أخاطب نفسي بأنَّ أولادي هم أول من سيحاسبني ويتعلق في رقبتي في الآخرة لو أطعمتهم من كسبٍ حرام، وبأنَّ هؤلاء الصغار المساكين سأكون أنا من دمرتُ حياتَهم في هذه الدنيا، وأضعفتُ قوتَهم، وفرَّقتُ شملَهم، وزرعتُ بينهم العداوةَ والبغضاء فيما لو أطعمتهم سُحتاً وحراماً. ولا أُخفيك سراً أخي بأن رؤيتي لأطفالي وخوفي عليهم من آثار اللقمةِ الحرامِ كانت من أكبرِ المثبِّتاتِ لي بعد اللهِ عزَّ وجلَّ.

قال الدكتور: وقبل أن نصل إلى منزلي ختم الرجل –الصادق في إيمانه والكبير في رجولته وإيثاره– حديثه قائلاً: بعد سنواتٍ أمضيتُها في عملي كنتُ خلالها في صراعٍ كبيرٍ مع الجميع؛ فالبعضُ ينظر إليَّ باحتقار، والبعض الآخر يتحدث عنِّي بسُخريةٍ وازدراء، وطائفةٌ أخرى يرمونني بالجنون -بزعمهم أن من يرفض هذه الملايين معتوه– وكنتُ خلال تلك الفترة في صبرٍ عظيمٍ ومجاهدةٍ مستمرةٍ مع النفس، كلما ضعفتُ التجأتُ لربِي، ثم جمعتُ أولادي أنظرُ إلِيهم وأضُمُّهم لقلبي، واحتضنهم إلى صدري، وأنا أردد قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ . فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾، فأعود بعدها أقوى وأقوى، أمارس عملي ثابتاً على مبدئي. وفي نهاية المطاف قدمتُ استقالتي من عملي، وخرجتُ خروجاً لا رجعةَ بعده، واشتريتُ بحقوقي هذا التاكسي، وانطلقتُ أجمعُ لقمةَ أولادي من عرَقِ جبينِي غيرَ آسفٍ على منصبٍ تركتُه، ولا آبهٍ براتبٍ كنتُ أتقاضاه، تركتُ ذلك كلَّه لأنجو بدِيني ولأكسبَ مستقبل أولادي، وأُحافظَ على صحتِي،

وأنا واثقٌ بأنَّ الله عزّ وجلَّ سيعوضَنِي خيراً مما تركتُه، وسيحفظَنِي بحفظه، وكنتُ أردد دائماً حديثَ نبيي وحبيبي صلى الله عليه وسلم: [احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ]، وقد حفظني ربِّي في نفسي وولدي، فأنت أخي قد رأيتَ ما أنعم اللهُ به عليَّ من الصحةِ والقوةِ ونضارةِ الوجه كما سمعتُهُ منكَ.

قلتُ: وهذا يذكِّرُنا بما قيل: "إن من عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابَها الصحةَ والنشاط، وجعل مع الرذيلةِ عقابَها الانحطاطَ والمرض".

أضاف (صاحب التاكسي): وكما حفظ اللهُ لي صِحتي فقد حفظني كذلك في أولادي؛ فأولادي – ولله الحمد والمنَّة – قد تخرجوا من الجامعات بتفوقٍ، وهم يشغلون مراكزَ عليا، وجُلُّهم يحفظ القرآن أو على وشكِ حفظِهِ، وبيننا من المحبةِ والأُلفةِ والإِيثارِ والترابُطِ ما أعجزُ أن أصِفَهُ لك. وبلغني بعد سنواتٍ عن بعض زملائي في العمل ممَّن هم أقلُّ منِّي درجةً في السلم الوظيفي -وقد أصبحوا من أصحابِ الأرصدةِ الكبيرة والعِمارات الشاهقة والقصور الفخمة- سمعتُ عنهم أخباراً جعلتني أضاعف حمدي وشكري لمولاي عزَّ وجلَّ الذي هداني وثبَّتنِي أمام فتنة المال، فقد انتهى المطاف ببعض أولئك الزملاء إلى إصابتهم بأمراضٍ مزمنة، فأحدُهم يُعالَج في الخارج من المرض الخبيث، والثاني من تليُفٍ في الكبِد، وآخر اختلف أبناؤه وتقاتلوا فيما بينهم، وآخر أدمن بعضُ أبنائه المخدرات. وفي القريب العاجل بإذن الله سوف أُودِّع هذه الحبيبة –سيارتي التاكسي– فقد ألحَّ أولادي عليَّ كثيراً بالترجُّلِ من على صهوتها، بعد أن تحسَّنت أحوالُهم، وارتفع دخلُهُم، وأصبحوا في رَغَدٍ من العيش، فقد فهمتُ أنَّهُم يريدون إِراحتِي ليبرُّوا بي، ويقوموا على خدمتي، وأنا أرغب في أن أُتيح لهم الفرصةَ ليجِدوا بِرَّ أولادِهم.

قال الدكتور: اقتربنا من المنزل وأنا أسبَحُ في أمواجٍ عاتيةٍ من الأفكارِ المتداخلةِ التي تواردت بشكلٍ سريعٍ في مخيلتي، وأنا أحاول خلال هذه اللحظات أن أتماسك، ودموعي قد حبستها في مآقيها، وبعد وصولنا أوقف الرَّجلُ سيارته، ونزل واتجه يريد حملَ حقيبتِي، فأسرعتُ الخطى وسبقتُهُ إليها

وحملتها وكُلِّي حياءٌ وخجلٌ من نفسي عندما سمحتُ له بحملها عند المطار، ثم مددتُ إليه يدي وأعطيتُهُ أُجرتَه، فأخذها ووضعها في جيبه ولم يتأكد من عدِّها، وركب سيارتَهُ وألقى عليَّ السلامَ مودِعاً، فلم أستطع أن أرُدَّ عليه وداعَهُ خشيةَ انكشافِ أمري وتفجُّر دموعي وارتفاع صوت بكائي. لقد وقفتُ ثابتاً في مكاني خارج منزلي أنظرُ باحترامٍ وإجلالٍ إلى (صاحبِ التاكسي)، أنظر إلى أعظمِ رجلٍ قابلتُه في حياتي، وخجلتُ من دخولِ منزلي قبل اختفائه.

لقد تعلمتُ -وأنا الأستاذ الجامعي- من هذه الشخصية ما لم أتعلمُه طيلةَ حياتي، وكنتُ أظن أننا –أساتذة الجامعة– نملك التأثيرَ بما لدينا من علمٍ وثقافة، لكنَّ الحقيقةَ أنَّ من يملك التأثير والتغيير في الآخرين هم الصادقون المخلصون المتوكلون على ربِّهم، الواثقون بعونِه وحفظه وتأييده، أولئك الذين يعملون بما تعلَّمُوه، الذين يثبتون على القيم والمبادئ التي آمنوا بها، بعيداً عن بريقِ المناصب وعُلوِّ الجاه، وتضخُّمِ الرصيد.

 

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم إن المال مال الله، وجميع المسلمين لهم حقٌّ فيه، ويعتبرونه مِلْكًا لهم، وأنَّ مَن اؤْتُمِنَ على هذا المال، فأخَذَ منه شيئاً، فلا شكَّ أنَّه مُعَرِّضٌ نفسَه لسَخَطِ الله؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ]، وقال رسول لله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ].

إنها حرمة المال العام التي تجلت بوضوحٍ حين استعمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على الصَّدَقة، فلمَّا قَدِم، قال: هذا لكم وهذا أُهْدِي إليّ، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [فهلاَّ جَلَس في بيت أبيه أو بيت أُمِّه، فينظر يُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحدٌ منه شيئًا إلاَّ جاء به يومَ القيامة يَحمله على رَقَبته؛ إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاه تَيْعَر]. يقول الراوي: ثم رفَعَ يدَه؛ حتى رأْينا عُفْرَة إبطَيْه؛ وقال: [اللهمَّ هل بلَّغْت] قالها ثلاثاً.

وفي بيان ما يجبُ على ولاة أمور المسلمين في الأموال العامة قال الفقهاء: "وليس لولاة الأموال أنْ يَقْسموها بحسب أهوائهم، كما يَقسم المالك مِلْكَه، فإنَّما هم أُمَناء ونوَّاب ووُكلاء، ليسوا مُلاَّكًا؛ كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّمَا أَنَا الْقَاسِمُ؛ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ] أَيْ: لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ.

 

ولا تقتصر المحافظة على المال العام على ما فعل (صاحب التاكسي) فقط، بل إن هناك صُوَراً كثيرةً في التَعَدِّي على المال العام، نبه إليها أحد العارفين منها: التهرُّب من سداد القروض من المصارف. سرقة الكهرباء واستخدامها لأغراض شخصية. توقيف عدَّاد الكهرباء أو الماء أو الغاز بطرق احتيالية. استعمال الأدوات والأجهزة والممتلكات الخاصة بالعمل كالسيارة والحاسوب والهاتف والأوراق والأقلام وغيرها في أغراضٍ شخصية. تعمد عدم إتقان العمل، وإضاعة الوقت، والتربُّح من الوظيفة. السرقة، والغِش، وخيانة الأمانة، والتدليس، والرِّشوة، والاختلاس. المحاباة والمجاملة في ترسِيَة العَطَاءات والمناقصات. الحصول على عمولةٍ من المشتري أو من المورِّد. التهرب من دفع الضرائب. التحايل لعدم دفع الجمارك. وغير ذلك من أمثلةٍ، وإن يبدو بعضها ضئيلاً أو صغيراً أو غير ذي بال، أو يبدو أن بعضها يمكن بشكلٍ ما تبريره وتسويغ حدوثه، إلا أنها كلها اعتداءٌ على المال العام، ولا يقل عنها أبداً الاعتداء على المال الخاص بالغير.

في جميع الأحوال علينا إبراء ذمتنا من استخدام مالٍ لا نملكه، أو التصرف فيه بغير علمٍ أو إذنٍ من أصحابه.

 

أحبتي .. تأثرت كثيراً بهذه القصة، ودعوت من كل قلبي وبإخلاص، أن يُكثر الله من أمثال (صاحب التاكسي) هذا، وسألت نفسي ماذا لو أن كل مسئولٍ -خاصةً من له سلطة اتخاذ القرار- خاف ربه وراعى ضميره وامتنع عن أكل المال الحرام؟ ماذا لو أن كل موظفٍ أُوكلتْ له مهمة تخليص مصالح الناس كان شريفاً نزيهاً طاهر اليد؟ ألم نكن لنصبح من أسعد الناس؟ وتصبح بلادنا من أرقى البلاد؟ إنها والله لأمانةٌ، وسوف يُسأل كلٌ منا عنها؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [أدِّ الأمانةَ إلى مَنْ ائْتَمَنكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خَانَك]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ]؛ فليُعِّد كلٌ منا إجابته عن هذه الأسئلة، خاصةً السؤال عن المال؛ فالسؤال عنه لا يكون مرةً واحدةً كغيره من الأشياء التي سنُسأل عنها، وإنما يكون مرتين: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟

اللهم باعد بيننا وبين الحرام، وارزقنا رزقاً واسعاً حلالاً طيباً، وبارك لنا فيه. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك. اللهم إن كان رزقنا في السماء فأنزله، وإن كان رزقنا في الأرض فأخرجه، وإن كان بعيداً فقرّبه، وإن كان قريباً فيّسره.

 

https://tinyurl.com/y2yv6gh7

الجمعة، 14 أغسطس 2020

موعد مع الموت

 

الجمعة 14 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة /252

(موعد مع الموت)

 

خرج من عيادة الطبيب يجر قدميه لا يدري إلى أين يذهب؛ لقد نزلت عليه كلمات الطبيب كالصاعقة: "باقي لك في الدنيا ثلاثة أشهر؛ عندك ورمٌ في المخ في مرحلةٍ متأخرةٍ، لا ينفع معها علاجٌ ولا تفيد فيها جراحة".

ركب سيارته وانطلق بأقصى سرعةٍ إلى مكتب صديقه المحامي الذي يتولى الأمور القانونية لشركاته وأعماله وممتلكاته. أخبر صديقه المحامي بما قاله الطبيب؛ فحاول صديقه أن يُهوِّن عليه الخبر، وأن يبث الأمل في قلبه، لكنه كان في حالةٍ لا يُجدي معها الكلام أو المواساة. طلب من صديقه المحامي أن يكتب وصيةً يتنازل بموجبها عن كل ثروته وممتلكاته بعد موته إلى الجمعيات الخيرية، على ألا يتم تنفيذ الوصية إلا بعد موته. وبعد أن نفذ المحامي تعليماته خرج قاصداً مكتبه الكائن في أرقى أحياء المدينة، وبمجرد دخوله المكتب أسرعت إليه سكرتيرته الخاصة التي تدير مكتبه، وفي نفس الوقت تدير حياته الليلية وتدبر له وسائل اللهو والمتعة الحرام، طلب منها أن تستدعي مراسل المكتب على وجه السرعة؛ فذهبت تنفذ تعليماته، وهي في دهشةٍ من حالته وتغيره بهذه الصورة. ما إن حضر المراسل، طلب منه أن يقوم فوراً بإلقاء كل زجاجات الخمر الموجودة بالمكتب في القمامة، وأن يتبع ذلك بإلقاء كل المنكرات الموجودة في منزله، وأن يُحضر له جلباباً أبيض ومسبحةً، تهلل وجه المراسل فرحاً بهذا التحول المفاجئ في تصرفات مديره وأخذ يدعو له بالثبات والقبول، وانصرف ينفذ أوامره على وجه السرعة قبل أن يغير رأيه. ثم أخرج دفتر الشيكات، كتب شيكاً وأعطاه للسكرتيرة قائلاً: "هذه مكافأة نهاية الخدمة لك، من الآن لا تدخلي هذا المكتب، ولا أريد أن أرى وجهك في أي مكانٍ بعد اليوم". أخذت السكرتيرة الشيك وهي تتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ، وخرجت من المكتب إلى غير رجعة.

تغيرت حالته؛ بدَّل ملابسه وارتدى الثوب الأبيض، وأصبح لا يتأخر عن مواعيد الصلاة في المسجد ويحرص على أن يكون في الصف الأول، ويقرأ كل يومٍ عدة أجزاء من القرآن الكريم، وعند خروجه من المسجد يُغدق على الفقراء والمحتاجين المتواجدين أمام المسجد بسخاءٍ وهم يدعون له بطول العمر، وكلما سمع دعواتهم له بطول العمر ابتسم وردد في نفسه بحسرةٍ: "طول العمر ؟!".

مرت الأشهر الثلاثة كالريح، ومع إشراقة كل يومٍ جديدٍ يتساءل: متى يحضر ملك الموت؟ وفي صبيحة اليوم الأخير من الأشهر الثلاثة إذا بهاتفه يرن، نظر إلى رقم المتصل فإذا هو رقم طبيبه الخاص، رد على المكالمة وهو يقول في نفسه: "هذا الطبيب يريد أن يعرف إذا كنتُ متُ أم ما زلتُ حياً"، لكن حدث ما لم يكن يتوقعه؛ فقد أخبره الطبيب أنه قد حدث خطأٌ في تشخيص حالته، وأن الأشعة التي بنى عليها تشخيصه كانت لشخصٍ آخر، وتم تبديلها بالخطأ، ولم يُكتشف الخطأ إلا عند وفاة هذا المريض، تماماً بعد ثلاثة أشهر كما أخبره من قبل!

كانت المفاجأة كبيرةً حتى أنها ألجمت لسانه وأفقدته النطق لحظياً، ثم وجد نفسه يردد: "لن أموت .. لن أموت .. مرحباً بالحياة .. لقد انتهى الكابوس المزعج"، كلماتٌ قالها وهو يركب سيارته وينطلق مسرعاً إلى مكتب صديقه المحامي، أخذ منه الوصية ومزقها، ألقاها في الهواء وهو يُلقي معها هموم ثلاثة أشهرٍ قضاها في انتظار الموت. أخرج الهاتف، واتصل بسكرتيرته التي طردها، وطلب منها تجهيز السهرة في منزله للاحتفال بهذا الخبر السعيد: "أريد أن أُعوِّض اليوم حرمان الثلاثة أشهر الماضية، أريد المتعة بكل أشكالها"، وعلى الطرف الآخر كانت السكرتيرة سعيدةً تضحك وتعده بليلةٍ من ليالي ألف ليلةٍ يكون فيها هو شهريار، له ما يشاء من الجواري والمتعة.

انطلق بسيارته يقودها بأقصى سرعةٍ يريد أن يسابق الزمن ليلحق بالسهرة الموعودة والمتعة المنشودة، ويعوض ما فاته.

ما هي إلا ثوانٍ معدوداتٍ حتى تجمع الناس، يحاولون إخراج جثته من السيارة وقد تفحمت وتناثرت أجزاؤها، جراء اصطدامها المروع بقطارٍ أطلق سائقه أبواقه ليُحذِّر ذلك المجنون المنطلق بأقصى سرعةٍ عابراً سكة الحديد ليصبح في مواجهة القطار كأنه كان على موعدٍ مع الموت!

 

أحبتي في الله .. لقد ظلم نفسه فاستحق عقاب ربه؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

وهكذا بعض من الناس، لا يعرفون الله إلا وقت الشدة، ثم إذا خرجوا سالمين مما كانوا فيه إذ هم ينسون الله؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا﴾ وكفور: صيغة مبالغةٍ من الكفر، أي: كثير الكفر للنعمة. ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾، قيل إن إشراكهم أن يقول قائلهم: "لولا الله وربان السفينة الماهر لغرقنا"؛ فيجعلون ما فعل الله لهم من النجاة قسمةً بينه سبحانه وبين غيره من خلقه.

يقول العلماء إنّ الإنسان، حتى وإنْ كان كافراً، إنْ أحاطتْ به الأخطار لا يلجأ إلا إلى الله؛ لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف؛ فهو سبحانه الذي أمره أنْ يلجأ إليه وأنْ يدعوه فقال: ﴿فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ﴾ فإنْ دَعَوهُ سمع لهم وأجابهم -على كفرهم وعنادهم- لأنهم عباده وخَلْقه، فما أرحمه سبحانه حتى بمَنْ كفر به!

ثم إن طبيعة بعض الناس أنه يُكثر الدعاء عند الضُر والشدائد، فيدعو الله إلى كشفها وزوالها عنه، فإذا فرَّج الله شدته وكشف كربته، أعرض ونأى بجانبه، وذهب يزاول كفره وفساده وجحوده، وكأنه ما كان به من ذاك شيءٌ؛ يقول تعالى: ﴿مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾.

 

هذا نموذجٌ لبعض البشر، وهناك نموذجٌ آخر سليم الفطرة، صادق الوعد، مع الله ومع النفس، يدرك أن القرب من الله في وقت الشدة، لابد وأن يستمر بعدها في وقت الرخاء؛ فهذا أحد الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- كان من أشد أعداء الإسلام، ففرَّ من «مكة» بعد فتحها، راكباً البحر، مهاجراً إلى «الحبشة»، إنه الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل، كان من أشد أعداء رسول الله ضراوةً في التاريخ كله، شرب العداوة من أبيه فرعون هذه الأمة، لما ذهب فارّاً من رسول اللّه صلى اللّه، جاءتهم -وهُم في البحر- ريحٌ عاصفٌ فقال القوم بعضهم لبعض: "إنه لا يُغني عنكم إلاَّ أن تدعو اللّه وحده"، فقال عكرمة في نفسه: "واللّهِ إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليّ عهدٌ لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمدٍ فلأجدنه رؤوفاً رحيماً"، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلم وحَسُن إسلامه، رضي اللّه عنه وأرضاه. وهو القائل: "لا أدع نفقةً كنتُ أُنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنتُ أقاتل في صدٍ عن سبيل الله إلا أبليتُ ضعفه في سبيل الله". ثم اجتهد في القتال طوال حياته، سواءً في حروب الردة أو في فتوح الشام، حتى استشهد في اليرموك.

 

ويوجهنا الخالق سبحانه وتعالى إلى شكر النعم، فهو سبيلٌ إلى زيادتها في الدنيا، وطريقٌ إلى رضوان الله في الآخرة، ويحذرنا من كفران النعم؛ فهو سبيلٌ للنقمة، وزوال النعم في الدنيا، والتعرض لسخط الله وعذابه عزَّ وجلَّ في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

 

وكم شاهدنا مرضى يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء أن يشفيهم، وعندما يستجيب لدعائهم، ويُنعم عليهم بالصحة والعافية، إذا هم يعودون إلى ما كانوا عليه قبل المرض من بُعدٍ عن الله! بل إن بعضهم يَعِد أن إذا شافاه الله ليكونن من المواظبين على الصلاة، ثم إذا هو -بعد أن يشفيه الله- يحنث بوعده!

وكم رأينا بأم أعيننا المساجد وهي ملأى بالطلاب يصلون الفجر وقت الامتحانات، ثم لا نراهم في المساجد بعد انتهاء الامتحانات!

فهل هكذا تكون علاقة العبد الصالح بربه؟!

 

أحبتي .. آن لنا أن نفوق من غفلتنا؛ فالله الذي ندعوه وقت شدتنا، فيستجيب لدعائنا -وقد لا يستجيب لحكمةٍ نجهلها- هو الله المستحق للعبادة في كل وقتٍ؛ فالشدائد ابتلاءاتٌ منه سبحانه وتعالى لينظر أنصبر أم نجزع؟ أنشكر أم نكفر؟ أنصدق مع الله ونزداد قرباً منه بعد الشدة أم نمُرّ كما لو كنا لم ندعوه إلى ضُرٍ مسنا؟

اللهم اهدنا، وردنا إليك وإلى دينك رداً جميلاً، وثبتنا اللهم على طاعتك، وأعنا على أن نقهر هوى نفوسنا، ونخالف ما يزينه الشيطان لنا.

 

https://tinyurl.com/yyv6ac9b

الجمعة، 7 أغسطس 2020

كيف تكسب من الإنترنت؟!

 

الجمعة 7 أغسطس 2020م


خاطرة الجمعة /251

(كيف تكسب من الإنترنت؟!)

 

في مجلس علمٍ ضم عدداً من رجال الدعوة وشيوخها، دارت مناقشةٌ حول أسلوب أحد الدعاة، الذي كان له تأثيرٌ إيجابيٌ على قطاعٍ مهمٍ من المسلمين؛ فسأل أحد الحاضرين: "يا أستاذ، مِن وجهة النظر التربوية، ما رأيك في منهجية وإرشادات الداعية فلان؟"، فقال: "إنه يملك موهبةً فذةً وظَّفها في خدمة دينه"، قلتُ له: "بعض الناس يرى أنه ليس عالماً؛ ومِن ثَم لا يجوز أن يأخذ هذا الحجم من الانتشار"، قال: "كثيرٌ من العلماء عبارةٌ عن خزانة معلوماتٍ مغلقةٍ، أو نسخةٍ من مكتبة، أما هذا الداعية فلم يقل إنه فقيهٌ، وكوْن عليه ملاحظاتٌ، فمن ذا الذي ليس عليه ملاحظاتٌ؟ علينا النصح والتجاوز عن هذه العثرات في سبيل الانتفاع من الخير الكثير الذي يعطيه للناس، لأن المقابل هو الخزانات المغلقة والنسخ المكتبية"!

علق شيخٌ من الحاضرين قائلاً: "علينا ألا نحصر معنى كلمة «فقه» في مدلولها الاصطلاحي، وإنما الفقه في اللغة يعني الفهم، فكما أن هناك فقه الأحكام، هناك فقه الدعوة، وفقه السيرة، وفقه المعاملة، وما يقوم به فلانٌ في جذب الناس ومعرفة كيف يخاطبهم هو أيضاً نوعٌ من أنواع فقه النفوس".

توجهت بالسؤال إلى فلانٍ نفسه فقلتُ: "حدثنا عن أكثر ما أثَّر فيك من نتائج بثك الفضائي"، فأحنى رأسه وسكت قليلاً، ثم تدفق قائلاً: "بعد أن تكلمتُ عن معنى «العفة» في إحدى القنوات الفضائية اللبنانية جاءتني رسالةٌ، عبر البريد الإلكتروني، من فتاةٍ تقول: "أنا فتاةٌ اسمي «سارة» والدي لبنانيٌ مسلمٌ، وأمي لبنانيةٌ مسيحيةٌ، انتقلا إلى «فنزويلا»، وبعد فترةٍ انفصلا عن بعضهما ليتزوج كلٌ منهما بمن يناسبه، وبقيتُ أنا حائرةٌ شاردةٌ، وقد رزقني الله جمالاً أخاذاً؛ فانزلقت قدمي لأنضم إلى مسابقات ملكات الجمال هناك، حتى انتهى بي المطاف إلى العمل في «بار» وصار لي «بوي فرند»، نسيتُ ديني، بل نسيتُ أني مسلمةٌ، ولم أعد أعرف عن الإسلام إلا اسمه، ولا عن المصحف إلا رسمه، وصدفةً كنتُ أتابع تلك القناة من «فنزويلا»؛ لأنها قناةٌ لبنانيةٌ، رأيتك تتكلم عن «العفة»؛ فلأول مرةٍ أشعر بالخجل من نفسي، وأنني أصبحتُ سلعةً رخيصةً في أيدي الأوغاد، انشرح صدري، وأنا لا أعرف مسلماً سواك". ثم قالت: "سؤالي لك: هل يقبلني الله وأنا الغارقة في الموبقات والآثام؟!"، بينتُ لها سعة رحمة الله وفضله وحبه للتائبين، فأرسلت تقول: "أريد أن أصلي، وقد نسيتُ سورة الفاتحة، أريد أن أحفظ شيئاً من القرآن"، فأرسلتُ لها بالبريد المستعجل ختمةً مسجلةً كاملةً بصوت إمام الحرم المكي الشريف، بعد ثلاثة أيامٍ أرسلت لي تقول: "إنني حفظتُ سورتي: «الرحمن» و«النبأ»، وبدأتُ أصلي"، ثم أرسلت تقول: "لقد هجرتُ «البوي فرند» وطردته، كما أنني انفصلتُ عن مسابقات الجمال و«البار»". بدأت الفتاة تُقبل على الله سبحانه وتعالى بصدقٍ، لقد وجدت ذاتها لأنها عرفت ربها.

بعد أسبوعين من المراسلات، أرسلت تقول: "إنني متعبةٌ؛ لهذا انقطعتُ عن مراسلتكم، أصابني صداعٌ وآلامٌ شديدةٌ، وبعد الفحوص والكشف الطبي، اتضح أنني مصابةٌ بسرطانٍ في الدماغ"، العجيب أنها قالت: "أنا لستُ زعلانةً بل فرحانةٌ، لأنني عرفتُ ربي وأحببته وأقبلتُ عليه قبل المرض والبلاء، وأنا داخلةٌ على عمليةٍ جراحيةٍ بعد يومين، وأخاف ألا يغفر الله لي إذا متُ"، فقلتُ لها: "كيف لا يغفرُ الله للتائبين؟ لقد أكرمك اللهُ بهذه العودة إليه، وبحفظ سورة «الرحمن» وأنت الآن بين يدي الرحمن أرحم الراحمين"، وفتحتُ لها أبواب الرجاء، وطردتُ من نفسها اليأس، فقالت: "لقد وضعتُ في المسجد أشرطتي لترتيل القرآن بصوت إمام الحرم مع أشرطتك، لأنني قد أُودِّع الحياة، لتكون لي صدقةً جاريةً". وبعد يومٍ أرسلت لنا صديقتها المسيحية تقول: "لقد ماتت «سارة»".

 

أحبتي في الله .. علَّق الكاتب على قصة «سارة» بقوله: نحن الآن في عصرٍ أصبح العالم فيه بيتاً صغيراً؛ فهل كان هذا الداعية -وفقه الله- يعلم أن فتاةً في «فنزويلا» سوف تعود إلى الله بسبب محاضرةٍ له نقلتها الأقمار الصناعية إلى هناك؟! وهل كان إمام الحرم يدرك أنه قد يكون نائماً في فراشه في منتصف الليل في «مكة»، وصوته يصدح بالقرآن في مناطق شتى من العالم، منها «فنزويلا» النائية في آخر العالم؟! هذا معناه حسناتٌ لا تنتهي، ﴿ذلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ﴾، سوف تقولون عنهم إنهم محظوظون! وأنا أقول لكم: نحن أيضاً قد أنعم الله علينا بنعمة الإنترنت؛ فلنغتنم الفرصة ما دام القلب ما زال ينبض!

 

صدق الكاتب حين قال إن الله أنعم علينا بنعمة الإنترنت؛ فلنغتنم الفرصة، وأقول: نعم، إنها فرصةٌ سانحةٌ أمامنا نستطيع -لو أحسَّنا الاستفادة منها- أن نُعوض كثيراً مما فاتنا، ونأمل في كسب رضا الله والفوز برضوانه. وكما تطالعنا الكثير من الإعلانات بعبارةٍ تجذب الانتباه (كيف تكسب من الإنترنت؟!) فإن المسلم الذكي الكيِّس الفطن، لا يُفوِّت أبداً فرصةً مثل هذه إلا واقتنصها؛ عندما نوظِّف الإنترنت في نشر العلم المفيد، فقد يقرأ شخصٌ ما -نعرفه أو لا نعرفه- في مكانٍ ما -قريبٍ أو بعيد- في وقتٍ ما -سواءً الآن أو بعد موتنا- آيةً قرآنيةً نشرناها، أو حديثاً نبوياً شريفاً عممناه، أو كلمةً أو عبارةً كتبناها، أو قد يشاهد مقطعاً مرئياً قمنا بإرساله، أو يستمع إلى شريطٍ صوتيٍ نصحنا بالاستماع إليه، أو يرى صورةً ثابتةً معبرةً، تكون سبباً في صلاح حاله وإنقاذه من التيه والضياع والغفلة والهلاك.

وإلى جانب نشر العلم المفيد، يقوم المسلم الكيِّس الفطن بتصحيح وتصويب ما يصله من رسائل وما يطَّلع عليه من منشوراتٍ بها أخطاءٌ فيما يتعلق بالعقيدة أو السيرة النبوية، أو بها سوء تفسيرٍ لبعض الآيات أو تحريفٌ لها، أو بها أحاديث باطلةٌ موضوعةٌ مكذوبةٌ ومنسوبةٌ إلى رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام.

كما يمتنع المسلم الكيِّس الفطن عن نشر ما لا يفيد من الموضوعات، فضلاً عن نشر ما يضر، مهما حَسُنت النوايا.

 

فلنراجع أنفسنا؛ كم من أوقاتنا نقضيها في إرسال واستقبال ما لا يفيد من رسائل وصورٍ ومقاطع مرئيةٍ ومسموعة؟ أليس في ذلك مضيعةٌ لأوقاتنا التي هي أعمارنا؟ ألا نتذكر وقت تضييع هذه الأوقات أننا محاسبون عنها؟ ألم نقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ]؟ فهل حضَّرنا الجواب عن سؤالنا عن عمرنا فيما أفنيناه؟

كم من الوقت نخصصه للتعامل مع شبكة الإنترنت دون أن يسأل أحدنا نفسه: (كيف تكسب من الإنترنت؟!).

عشرات الرسائل -وربما مئاتٌ منها- نرسلها ونستقبلها يومياً بواسطة برامج وتطبيقات التواصل الاجتماعي: واتس آب، فيس بوك، يو تيوب، ماسنجر، تيليجرام، إنستجرام، سناب شات، تويتر، سكايب، ڤايبر، لاين، إيمو، وغيرها، فهل فكرنا في استثمار هذه الفرصة لكسب المزيد من الحسنات؟

نعم، نحن لسنا من الدعاة المشهورين الذين تُفتَّح أمامهم أبواب القنوات الفضائية، لكن يمكن لكلٍ منا أن يكون داعياً -ما استطاع- من خلال مدونةٍ يُنشؤها، أو مقاطع ڤيديو ينشرها، أو صورٍ مفيدةٍ يعممها، أو كتاباتٍ على مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي يبث من خلالها خبراته في الحياة، أو مقتطفاتٍ يقتطفها من كتبٍ مفيدةٍ، أو آيةٍ قرآنيةٍ مع تفسيرها، أو سُنةٍ نبويةٍ يحيها ويُعرِّف بها. وإن لم نستطع عمل ذلك فإنه يمكنا على الأقل أن نُعيد نشر ما يصلنا من الآخرين -شرط التأكد من صحته- لتعم الفائدة وتتسع دائرة المنتفعين بالعلم، وهذه كلها أعمالٌ طيبةٌ يمكن لأيٍ منا أن يستثمر فيها وقته، ويُثقِّل بها ميزان حسناته، فيكون من الذين كسبوا من الإنترنت.

 

الوقت هو وعاء العمر، وهو أغلى ما نملك، وما يذهب منه لا يعود أبداً، ولا يمكن شراؤه ولا استعارته ولا تأجيره ولا تخزينه، إنه نعمةٌ يوميةٌ متجددةٌ من رب العالمين. والوقت شاهدٌ لنا أو شاهدٌ علينا؛ إما أن نملأه بما يُرضي المولى عزَّ وجلَّ فيتفضل علينا بثوابه، أو نملأه بما يُغضبه فيكون سخطه وعقابه، أو نتركه بلا أي عملٍ، لا نافع ولا ضار؛ فنخسره بإهداره هباءً.

 

ما يزال الأمر في أيدينا، وما تزال الفرصة سانحةً أمامنا؛ ما دامت لنا أنفاسٌ نتنفسها، وما دام لنا قلبٌ ينبض.

فلينظر كلٌ منا إلى حياته، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ}.

 

أحبتي .. الإنترنت نعمةٌ لمن يُحسن استخدامه، وهو نقمةٌ لمن يسيء هذا الاستخدام. لا تُضيعوا أوقاتكم في نشر ما يضر، وفي تعميم ما لا يفيد. أعمارنا -وإن طالت- قصيرةٌ مقارنةً بحياة الخلود في جنات النعيم برحمةٍ من الله، أو في النار والعياذ بالله. أعمالنا في أوقاتنا المحدودة هي التي تحدد مصيرنا؛ فإن كنتم أحبتي ممن يستخدمون شبكة الإنترنت، كونوا أذكياء؛ وليسأل كلٌ منكم نفسه: (كيف تكسب من الإنترنت؟!).

هدانا الله وإياكم إلى ما فيه صلاحنا وفلاحنا.

اللهم اهدنا رشدنا واجعلنا من الفائزين.

 

https://tinyurl.com/y2e3o8r2

الجمعة، 31 يوليو 2020

التجارة مع الله

الجمعة 31 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /250

(التجارة مع الله)

 

جاءت ليلة العيد، فقالت الزوجة لزوجها: "العيد غداً يا أبا عبد الله، وليس لدى أطفالنا ملابس جديدةٌ يلبسونها مثل بقية أطفال الجيران، وهذا بسبب إسرافك!"، قال الزوج: "أنا أنفق أموالي في الخير ومساعدة المحتاجين، وهذا ليس إسرافاً يا أم عبد الله"، قالت الزوجة: "ابعث رسالةً إلى أحد أصدقائك المخلصين ليعطينا بعضاً من المال، نردُّه له عندما تتحسَّن أحوالنا إن شاء الله".

كان لهذا الرَّجل صديقان مخلصان، الهاشمىُّ وأسامة، كتب الرَّجل رسالةً وأعطاها لخادمه، وطلب منه أن يذهب بها إلى صديقه الهاشمىِّ. ذهب الخادم إلى الهاشمىِّ وأعطاه الرِّسالة؛ فقرأها وعرف أنّ صديقه في ضيقٍ وحاجةٍ

وأصبح لا يملك شيئاً، قال الهاشمىُّ للخادم: "أعرف أنّ سيّدك ينفق كل ما عنده من أموالٍ في عمل الخير، خُذ هذا الكيس وقل لسيِّدك إنَّ هذه الدَّنانير هي كلّ ما أملك في ليلة العيد". عاد الخادم إلى سيِّده وأعطاه الكيس؛ ففتحه فوجد به مائة دينارٍ، فقال لزوجته في فرحةٍ: "يا أم عبد الله، هذه مئة دينارٍ أرسلها الله إلينا"، سُرَّت الزوجة وقالت لزوجها: "أسرع إلى السوق لنشتري الأثواب والأحذية الجديدة لأولادنا". في هذه اللَّحظة دقَّ الباب؛ ففتحه الرَّجل فوجد خادم صديقه أسامة ومعه رسالةٌ يطلب فيها بعض المساعدة ليدفع ديناً

قد حل موعده. أعطى الرَّجل الخادم الكيس الذي أرسله إليه صديقه الهاشمىُّ، وفي داخله المبلغ كاملاً دون أن يأخذ منه شيئاً، ثارت الزَّوجة على زوجها الذي فضَّل صديقه على أولاده، فقال لها زوجها: "صديقي يطلب المساعدة، فكيف أمنع عنه ما عندي من خير؟!". مرَّت ساعةٌ، ثمَّ دق الباب؛ ففتح الرَّجل الباب فوجد أمامه صديقه الهاشمىّ فرحَّب به وأدخله. قال الهاشميُّ: "جئتُ لأسألك عن هذا الكيس، هل هو الكيس نفسه الذي أرسلته إليك مع خادمك وبداخله مائة دينار؟"، نظر الرَّجل إلى الكيس وقال في دهشةٍ: "نعم..نعم..إنَّه هو... أخبرني يا هاشمى.. كيف وصل هذا الكيس إليك؟"، أجاب الهاشمىُّ: "عندما جاءني خادمك برسالتك، وأعطيته الكيس الذي عندي لم يكن في بيتي غيره، فأرسلتُ إلى صديقنا أسامة أطلب المساعدة ففاجأني بأن ّقدّم لي الكيس الذي أرسلته إليك كما هو، دون أن ينقص ديناراً واحداّ، فتعجَّبتُ وجئتُ إليك لأعرف السِّرَّ"، ضحك الرّجل وقال: "لقد فضَّلك أسامة على نفسه وأعطاك الكيس، كما فضَّلتني أنت على نفسك يا هاشمىّ"، ابتسم الهاشمىُّ وقال: "بل أنت فضَّلتَ أسامة على نفسك وعيالك، ما رأيك يا أبا عبد الله في أن نقتسم المائة دينار بيننا نحن الثَّلاثة؟!"، أجاب الرَّجل: "بارك الله فيك يا هاشمىّ!".

سمع الخليفة بهذه الحكاية، فأمر لكلِّ واحدٍ من الأصدقاء الثَّلاثة بألف دينار.

عندئذٍ دخل أبو عبد الله على زوجته وفي يده الدَّنانير الألف وقال في فرحٍ: "ما رأيك يا أمَّ عبد الله هل ضيَّعنا الله؟"، قالت المرأة: "لا واللهِ، ما ضيَّعنا، بل زادنا رزقاً!"، فقال الرَّجل: "عرفتِ الآن يا زوجتي أنَّ الإنفاق في سبيل الله تجارةٌ رابحةٌ لا تخسر أبداً؟!".

 

أحبتي في الله .. إنها (التجارة مع الله)؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

يقول أهل العلم إن الله تعالى ذكر في الآيات السابقة إن الذين يقرأون كتاب الله الذي أنزله على نبيه، وأقاموا الصلاة المفروضة في مواقيتها، وأنفقوا مما رزقهم الله في السر والعلن، وتصدقوا بما مَنّ عليهم من الأموال سراً وعلانيةً، وأدوا الزكاة المفروضة، وتطوعوا بالصدقة، فإن هؤلاء المؤمنين يرجون من وراء ذلك تجارةً رابحةً مع الله تعالى لن تبور، ولن تكسد ولن تهلك. وهذه الآية المباركة تعلمنا وترغبنا في عباداتٍ جليلةٍ، لتحقيق الفوز بهذه التجارة الرابحة، إنها (التجارة مع الله). وقد جاء في الآية لفظ «تجارة» مع وصفها بعدم البوار على سبيل الاستعارة التصريحية، فوصف أهلها بأنهم يرجونها، أي يتوقعون أرباحها. وتعتبر (التجارة مع الله) من أجَّل التجارات وأفضلها، وهي توصل إلى رضا الله، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه؛ فعبادة الله سبحانه وتعالى، واتباع أوامره وسُنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والبعد عما نهى عنه، تُعد من مقاصد الدين السليم للمؤمن؛ فسبحان الله الذي وهبَنا ما نتاجر به، ثم وفقنا إلى التجارة معه، وسبحان الله الذي يمنحنا أحسن الأجر مقابل التجارة معه، ويَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا؛ فنعم (التجارة مع الله).

 

ويقولون إن من صور (التجارة مع الله)، المعاملة مع الناس، فلا تعاملهم لدنيا ولا لشهوةٍ، بل تعامِلهم لله وفي الله، فتعامُلك معهم حسب الشرع يجعلك تدخل في (التجارة مع الله)، ثم لا تسل عن الأرباح، ستجد أولاً الراحة النفسية فلا حزن على ما فات، ولا فرح بموجود، فالكل مِن الله وعلى مراد الله، ستجد نفسك تعفو عمن ظلمك؛ لأنك ترجو ما عند الله، وتصل من قطعك، لأنك ترجو ما عند الله، وتُعطي مَن حرمك لأنك ترجو ما عند الله، فهذه معاملةٌ وتجارةٌ مع الله، وسعادةٌ في الدنيا والآخرة، وهكذا كل مَن تعامل مع الله، فلا خسران عليه بل هو في ربحٍ دائمٍ، وعملٍ صالحٍ، وتوفيقٍ متواصلٍ، فهو في كنَف الله ورعايته. هذه هي الحياة الحقيقية التي يعيش فيها المسلم حياةً طيبةً، ولا يكون كالأنعام يأكل ويشرب وينكح بلا هدفٍ ولا نيةٍ، فالواجب على كل مكلفٍ أن يجعل له في كل عملٍ نيةً صالحةً، وأن يجلس مع نفسه جلسةَ محاسبةٍ، ويصلح نياتِ أعماله، ويجردها لله، ليكون من المتاجرين مع الله.

 

أحبتي .. ينصحنا أحد الصالحين فيقول: اتجر مع الله بمداومتك على ذِكره سبحانه وتعالى، فإن لك بكل تسبيحةٍ صدقةً، وبكل تحميدةٍ صدقةً، وبكل تكبيرةٍ صدقةً، وبكل تهليلةٍ صدقةً، وبكل كلمةٍ طيبةٍ صدقةً. اتجر مع الله بالتقرب إلى الله بالإحسان إلى خلق الله بأي أمرٍ يكون فيه الإحسان إلى الخلق، مهما قلّ، فإن في التسليم على الناس صدقةً، وإن في معاونتك للضعيف صدقةً، وإنك بأخذك بيد الأعمى ليجتاز الطريق صدقةً، وإن في كل معروفٍ صدقةً. لستَ تنفق على الله، وليس الله في حاجتك؛ ولكنك أنت المحتاج إليه سبحانه وتعالى، فاتجر مع الله تجد الخير بين يديك. فإذا خرجتَ تبتغي وجه الله، فتجارتك مع الله؛ يكتب لك بكل خطوةٍ إلى المسجد حسنةٌ، ويمحى لك بها سيئةً، ويرفع لك بها درجةً.

اللهم اجعلنا ممن يتاجرون معك تجارةً لا تبور، ولا تحرمنا ربنا عظيم ثوابك وأعلى الأجور، وتقبل منا إنك أنت سبحانك العزيز الحكيم، وأنت الرحيم الغفور.

 

https://tinyurl.com/y2bzdpkn