الجمعة، 22 مايو 2020

أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً

الجمعة 22 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٠

(أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً)

 

عن موقفٍ لا تنساه، كتبت تقول:

بدأتُ رحلتي مع دراسة القرآن الكريم والتجويد في وقتٍ متأخرٍ، فقد كان ذلك بعد خمس سنواتٍ من إنهاء دراستي بالمرحلة الثانوية، وأتذكر وقت أن بدأتُ أدْرس في أحد مراكز تحفيظ القرآن وتعليم أحكام التلاوة، وكنتُ في فصل النون الساكنة والتنوين -وهو المستوى الأول من ثلاثة مستوياتٍ في دراسة التجويد- تصادف أثناء فترة الراحة أن قابلتُ إحدى الدارسات، فسألتني عن عمري، وعن المستوى الذي أَدرس فيه، فما إن أخبرتها، حتى علت وجهها علامات الدهشة والاستنكار، وقالت لي: "أنا مضى عليّ ست سنواتٍ وأنا أدرس التجويد، والآن فقط وصلتُ للمستوى الثالث! فمتى عساك تصلين؟!"، قلتُ لها: "ألم تسمعي عن الحكمة التي تقول (أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً)"، ثم تركتها وانصرفت.

بعد سنتين ونصف، كنتُ قد أنهيتُ خلالها مستويات التجويد بتفوقٍ ولله الحمد، قامت إدارة المركز بتكليفي بتدريس أحد الفصول، دخلتُ الفصل، ابتسمتُ، وسلمتُ على الدارسات، لأفاجأ أن تلك الفتاة -التي عيرتني قبل أكثر من سنتين بتأخري- كانت من بينهن!

 

وهذا موقفٌ آخر تحكيه أستاذةٌ متعاونةٌ في إحدى الجامعات؛ تقول: في أحد الأيام، بعد أن أنهيتُ محاضرتي، أقبلتْ إليّ إحدى الطالبات واسمها نورة وأخبرتني أنها حصلت على علامةٍ سيئةٍ في الاختبار، وسألتني -بحزنٍ وانكسارٍ- إن كان بقي لها أملٌ في النجاح؛ خاصةً وأن موعد الاختبار النهائي قد اقترب، وقالت لي: "زميلاتي كلهن بدأن المذاكرة من بداية العام الدراسي وأنا تأخرتُ كثيراً، وأخشى من الرسوب". قلتُ لها: "هلّا ذكرتيني بدرجتك؟"، فحنت رأسها حتى كاد أن يلامس صدرها من شدة الحياء، وقالت: "5 من 25"، قلتُ لها: "ارفعي رأسك يا نورة، فأنتِ طالبةٌ مجتهدةٌ لدي، حتى لو لم تحصلي على درجةٍ مرتفعةٍ، أنا واثقةٌ أن بإمكانك تعويض هذه الدرجة في الاختبار النهائي، المهم أن تبدأي من الآن، اهتمي أكثر بمذاكرتك، ومتى استصعبتِ شيئاً فأنا موجودةٌ، اسألي ما بدا لك متى شئتِ، ولن يُخيِّب الله أمَلك"، ثم أردفتُ قائلةً: "لا تنسي الدعاء والاستغفار، ولا يزال هناك أملٌ كبيرٌ بأن تعوضي ما فاتك". مع الأيام لاحظتُ تطوراً ملموساً في مستواها أثناء المحاضرات، وعند رصد درجات الاختبار النهائي، فوجئتُ بتدني المستوى العام لدرجات الطالبات نظراً لصعوبة الاختبار؛ فكان متوسط الدرجات 20 من 40 درجة، ومن بين هذه الأوراق وجدتُ ورقةً حصلت صاحبتها على 30 من 40، وكانت ورقة نورة، التي كانت تخشى الرسوب، حصلت على درجةٍ مرتفعةٍ مقارنةً ببقية زميلاتها، لقد أثبتت بطريقةٍ عمليةٍ صحة المقولة: (أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً).

 

أحبتي في الله .. كل يومٍ جديدٍ هو نعمةٌ جديدةٌ من الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه؛ للمؤمن فيزيد إيمانه، وللمسلم المقصر فيثوب إلى رشده ويتدارك أمره، وللكافر الملحد فينقذ نفسه ويؤمن، وللمشرك الذي يؤمن بالله ولكن يُشرك معه غيره فيسارع إلى التوبة ونبذ الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.

كل يومٍ جديدٍ هو فرصةٌ متجددةٌ لزيادة أرصدتنا من الحسنات، إذا نحن أحسنا الاستفادة من هذه الفرص والمنح والعطايا الربانية التي يضعها الله سبحانه أمام أعيننا؛ فمنا من يقتنص الفرص ويُعلي من رصيد حسناته، ومنا من يُضيِّع هذه الفرص الثمينة الغالية.

واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون لهذه الفرص مواسم تزيد وتتضاعف فيها الحسنات عن غيرها من الأيام؛ ومن هذه المواسم شهر رمضان المبارك، ومن هذا الشهر الكريم اختص المولى عزَّ وجلَّ الليالي العشر الأواخر، وجعلها أفضل ليالي العام، ثم اختص من هذه الليالي ليلةً واحدةً لا تأتينا كل عامٍ إلا مرةً واحدةً فقط؛ هي ليلة القدر.

والمسلم المؤمن الفطن لا يُضيِّع فرصة هذا الشهر الفضيل، وهو يجتهد اجتهاداً مضاعفاً في الليالي العشر الأواخر كلها، ثم هو يلتمس ليلة القدر التي إن أحياها بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن كانت خيراً له من عبادة ألف شهر.

ولسببٍ أو آخر يتخلف بعض المسلمين عن اللحاق بهذا الركب الطيب، فهل ضاعت منهم الفرصة؟ هل فاتهم قطار الرحمة والمغفرة والعتق من النيران؟ الإجابة بكل وضوحٍ وبلا أي شك: لا؛ الفرصة ما تزال قائمةً، حتى لو بقيت من الشهر الكريم ساعاتٌ أو حتى دقائق؛ فالندم على ما فات عملٌ قلبيٌ بين الإنسان وربه لا يستغرق إلا ثواني، ثم بدء العودة إلى المسار الصحيح للحاق بالركب المبارك تكفي له النية الصادقة والإخلاص فيها، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى وقتٍ بل هو نيةُ تنعقد في القلب، يأتي بعدها إحسان العمل -فيما تبقى من وقتٍ ولو كان قليلاً- إلى الحد الأقصى الممكن، لمن أراد أن يُعوض ما فاته، فإذا انتهى الشهر المبارك فليستمر في عمله وفي عبادته، دون تراخٍ أو فتور همة.

والعاقل من يتعظ بغيره؛ كم من غافلٍ ضيع فرصته الأخيرة ولم يستفد منها، كسلاً أو تسويفاً أو إهداراً لوقت رمضان الغالي الثمين؛ فخرج من الشهر الكريم وهو محرومٌ من ثوابٍ عظيمٍ.

والعاقل من يجعل غيره، ممن تداركوا أمرهم وأنقذوا أنفسهم، قدوةً له، يتأسى بهم أسوةً حسنةً؛ فهذا سيدنا عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- تأخر إسلامه إلى السنة السادسة من بدء الدعوة؛ ومع ذلك صار من العشرة المبشرين بالجنة، وثاني الخلفاء الراشدين، بل ما نزل بالناس أمرٌ قط، فقالوا فيه وقال فيه عمر؛ إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر، في خمسة عشر موضعاً، فيما عُرف في التاريخ الإسلامي بموافقات عمر.

 

ومن هؤلاء الذين تداركوا أمرهم وأنقذوا أنفسهم واقتنصوا آخر فرصةٍ لتعويض ما فاتهم، الصحابي ضمرة بن جندب؛ فبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى يثرب، لم يتبق في مكة إلا عددٌ قليلٌ من المسلمين لم يهاجروا لمرضهم وكبر سنهم، وكان من بين هؤلاء الصحابة الذين حبسهم المرض وكبر السن الصحابي الجليل، ضمرة بن جندب، رضي الله عنه، لم يستطع أن يتحمل مشقة السفر وحرارة الصحراء فظل في مكة مرغماً، لكنه -رضي الله عنه- أخذ قرارَه في حزمٍ وعزمٍ، وجهز راحلتَه وعُدته على كبر سنه، وقال لَمّا نزل قول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا..﴾ اللهم قد أبلغتَ في المعذرة والحجة، ولا معذرة ولا حجة. لم يتحمل البقاء بين ظهراني المشركين، فقرر أن يتحامل على نفسه ويتجاهل مرضه وسنه، وخرج متوجهاً إلى يثرب، وأثناء سيره في الطريق اشتد عليه المرض، فأدرك أنه الموت، وأنه لن يستطيع الوصول، فوقف -رحمه الله- وضرب كفّاً على كفٍّ، وقال وهو يضرب الكف الأولى: اللهم هذه بيعتي لك، ثم قال وهو يضرب الثانية: وهذه بيعتي لنبيك، ثم سقط ميتاً، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث لضمرة، ثم نزل قول الله تعالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾؛ فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأخبرهم بشأن ضمرة وقال حديثه الشهير، الذي هو الحديث الأول في صحيح البخاري والأربعين النووية: [إنَمّا الأعْمَالُ بِالْنِيَاتِ ...].

حاز ضمرة شرفاً لم يحزه غيره بأن نزل فيه قرآنٌ وسُنةٌ، رغم كونه لم يصل إلى المدينة. هاجر بعد غيره، وعوض ما فاته، فكأني به قد استحضر مقولة (أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً).

 

بالأمس كنا نقول أهلاً رمضان، والآن نقول مهلاً رمضان، ما أسرع خطاك! تأتي على شوقٍ وتمضي على عجلٍ، نحن نعلم أنّك ستعود يا رمضان في كل عامٍ بإذن الله، لكن ما لا نعرفه هل سنكون في استقبالك مرةً أخرى؟ اللهم بلغنا إياه كل عام على خير لا فاقدين ولا مفقودين. لا نتألم لرحيل رمضان؛ لأنّه سيعود، ولكن نتألم إن عاد بعد رحيلنا. سننتظرك يا خير الشھور، فإن عُدتَ ولم تجدنا ووجدتَ آخرين غيرنا ذكرهم بنا ليشملونا في دعواتهم.

 

نقول في وداع رمضان كما قال بعض السلف: يا شهر رمضان ترفقْ، دموع المحبين تدفقْ، قلوبهم من ألم الفراق تشققْ، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرقْ، عسى ساعة توبةٍ وإقلاعٍ ترقع من الصيام ما تخرقْ، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحقْ، عسى أسير الأوزار يُطلقْ، عسى من استوجب النار يُعتق. 

ونقول: آهٍ يا رمضان نبكي لوعةً لأننا أضعنا بعض أيامك، وافتقدتنا بعض لياليك؛ في نزوةٍ، في غيبةٍ، في ضعفٍ، في كسلٍ، في انشغالٍ بتوافه الأمور.. نبكي على أوقاتٍ مرت منك غلب فيها كسلُنا عزمَنا فقصَّرنا في حضرتك.

ويقول الشاعر:

يا من أتى رمضانُ فيكَ مطهِّراً **

للنَّفسِ حتى حالها يتبدَّلُ

يمحو الذُّنوبَ عن التقيِّ إذا دعا **

ويزيدُ أجرَ المحسنينَ ويُجزِلُ

هل كنتَ تغفلُ عن عظيمِ مرادِه **

أم معرضاً عن فضلِه تتغافلُ

إن كنتَ تغفلُ فانتبهْ واظفرْ به **

أما التغافلُ شأنُ من لا يعقِلُ

فالله يُمهلُ إنْ أرادَ لحكمةٍ **

لكنه يا صاحبي، لا يُهمِلُ

إن كانَ هذا العامُ أعطى مهلةً **

هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟

لا يستوي من كان يعملُ مخلصاً **

هوَ والذي في شهره لا يعملُ

رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ **

ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ

حتى يعودَ لربه متضرِّعاً **

فهو الرحيمُ المنعمُ المُتفضّلُ

وهو العفوُّ لمن سيأتي نادماً **

عن ذنبهِ في كلِّ عفوٍ يأملُ

 

ويقول آخر:

أبكيك يا شهر الصيام بأدمعٍ **

تنزل فتحكي على الخدود سيولا

لتبكي المساجد حسرةً وتأسفاً **

من بعده إذ عُطلت تعطيلا

النار يُغلق بابها من أجله **

إذ زاده رب العلا تبجيلا

والمارد الشيطان فيه قد انطرد **

عن صائميه مصفداً مغلولا

طوبي لعبدٍ صح فيه صيامه **

ودعا المهيمن بكرةً وأصيلا

شهرٌ يفوق عن الشهور بليلةٍ **

من ألف شهرٍ فُضلت تفضيلا

يا فوز عبدٍ قد رآها مرةً **

في عمره إذ أدرك المأمولا

 

قال أحدهم: لا تحزنوا على وداعه، بل احمدوا الله أن بلغكم إياه، وافرحوا وكبروا الله أن هداكم لصيامه وقيامه. لا تودعوه، بل اصطحبوه إلى باقي عامكم.

رمضان ليس شهراً، بل أسلوب حياةٍ وبدايةٍ للتغيير. لا تودعوه، بل افسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام. الصوم لا ينتهي، القرآن لا يُهجر، والمسجد لا يُترك.

 

وهذه نصيحةٌ قيمةٌ يقدمها أحد العلماء؛ كتب يقول: إن كنتم ممن استفاد من رمضان، وتحققت فيكم صفات المتقين؛ فصُمتم حقاً، وقُمتم صدقاً، واجتهدتُم في مجاهدة أنفسكم فيه، فاحمدوا الله واشكروه واسألوه الثبات على ذلك حتى الممات. وإياكم ثم إياكم من أن تكونوا مثل التي ﴿نَقَضَت غَزلَها مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكاثًا﴾ "تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه". إياكم والرجوع الى المعاصي والفسق والمجون، وترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان؛ يقول أحد الصحابة -رضوان الله عليهم-: من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا خرج رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردودٌ، وباب التوفيق في وجهه مسدود.

 

أحبتي .. الطريق الى الله طويلةٌ، قد لا نصل إلى آخرها، لكن المهم أن نموت ونحن على الطريق، مخلصين في أعمالنا، نيتنا التوفيق إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ما اجتهدنا فيه من عباداتٍ وأعمال بِرٍ نظل عليه ونثبت، ونعمل على زيادته كماً ونوعاً، والارتقاء به إلى أعلى مستوى ممكنٍ من الإخلاص والتقوى والورع، وما قصَّرنا فيه نعمل على سرعة تداركه؛ يقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ فمهما بلغت ذنوبك، يتقبل الله توبتك، ومهما كثرت عيوبك بإمكانك أن تعالجها. مهما تأخرت ما تزال أمامك فرصة للحاق بالركب، وسبحان الله؛ ربما تجاوزت من سبقوك، فيكون لك من الثواب ما ليس لهم!

أقول لنفسي ولكل مقصِّر: "عُد سريعاً إلى الطريق الصحيح لا تتأخر؛ فإن تكلفة العودة تزداد كلما زاد ابتعادنا وتأخرت عودتنا؛ والتكلفة هنا ليس مقياسها المال، وإنما نقصٌ في الثواب وخفضٌ في الدرجة وبعدٌ عن رضا المولى عزَّ وجلَّ". أقول لنفسي ولكل مقصِّر: "الموت علينا حقٌ، ولا ندري متى يدركنا، فهل تتسنى لنا فرصة العيش إلى رمضان قادم؟ أسرِع واقتنص فرصة ما تبقى من ساعات رمضان، لا تُسوِّف، ابدأ باسم الله، وبعزيمةٍ قويةٍ، توجه إلى الله بإخلاصٍ وندمٍ وانكسارٍ وذلٍ وخضوعٍ؛ يقبل توبتك ويُعينك ويوفقك و(أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً)".

اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، واجعلنا فيه من المقبولين، ممّن قام رمضان إيماناً واحتساباً؛ ففاز بعفوك ورضاك. واجعلنا اللهم ممن شملتهم برحمتك ومغفرتك وأعتقتهم من النار.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، غافراً لذنوبنا، ماحياً لزلّاتنا، ومُغيّراً لنفوسنا، وأعده اللهم علينا أعواماً عديدةً وأزمنةً مديدةً ونحن -والمسلمين جميعاً- بأحسن صحة وأفضل حال.

 

https://bit.ly/3cV6ytZ


الجمعة، 15 مايو 2020

محطة الوقود

الجمعة 15 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٩

(محطة الوقود)

 

كنتُ مسافراً بسيارتي من القاهرة إلى العين السخنة ومعي أسرتي. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل. وقبل انطلاقي وضعتُ في بالي أن أنتبه إلى ضوء مؤشر الوقود في السيارة؛ حيث كان يؤشر إلى قُرب انتهاء الخزان.

توجهتُ لشراء بعض اللوازم، وبعدها انطلقتُ بالسيارة في الطريق السريع وقد نسيتُ أمر مؤشر الوقود. تذكرتُ أن الخزان سيفرغ من الوقود وأنا في الطريق، وما هي إلا فترةً قصيرةً حتى أضاء مؤشر الوقود معلناً أن وقودي سينفد نهائياً بعد فترة. لم أقلق في البداية ظناً مني أنني سأجد الكثير من محطات الوقود في الطريق، ولكن ومع مرور الوقت والظلام الحالك والطريق الموحش بدأ القلق يتسرب إلى نفسي.

اتصلتُ بصديقٍ مستعلماً منه عن أول محطة وقودٍ فأنبأني بأنها بعد مسافةٍ طويلةٍ جداً. تحول القلق إلى رعب. وتراجعت كل الاهتمامات والمشاغل والمشاكل، وانحصرت الآمال والأحلام والهموم كلها في أمرٍ واحدٍ فقط؛ وهو (محطة الوقود)! لم أعد أتمنى من الدنيا إلا محطة وقود، إذ تضاءلت وتصاغرت كل المشاكل التي كانت تشغلني منذ دقائق. لاح لي ضوءٌ من بعيدٍ فدب في قلبي أملٌ واهنٌ وفرحٌ مُعلقٌ؛ اقتربتُ من الضوء، لم تكن للأسف محطة وقودٍ، بل كانت استراحةً فقيرةً جداً؛ شعرتُ بالإحباط، وسألتُ الرجل عن أقرب محطة وقود، كياني كله تعلّق بفم ذلك الرجل في انتظار إجابة؛ قال الرجل: "توجد محطة وقودٍ بعد مسافة ثلاثة كيلو مترات"، كدتُ أحتضنه. لكني خشيتُ أن تكون إجابته غير دقيقةٍ، أو أن محطة الوقود ليس بها وقود الليلة. انطلقتُ بعدها مكملاً طريقي، وعيناي لا تفارق ضوء مؤشر الوقود، ومرت الثواني كدهر. أخيراً، لمحتُ من بعيدٍ (محطة الوقود)، وحين وصلتُ لم يكن هناك أحدٌ، وجعلتُ أبحث عمن أكلمه؛ ظهر أخيراً رجلٌ فسألته متلهّفاً: "هل لديكم وقود؟"، قال لي: "نعم"، كانت أجمل نعم سمعتُها في حياتي، سجدتُ لله فوراً، ملأتُ خزان الوقود بسيارتي. انطلقتُ بعدها لاستكمال الرحلة وأنا أشعر أنه قد كُتب لي عمرٌ جديد.

خطر على بالي بعد هذا الموقف معنى أن يأتينا رمضان مرةً واحدةً كل عام؛ فرمضان أصلاً هو (محطة الوقود) الروحاني يتزود منها أحدنا لباقي العام، كيف نضيعه؟ كيف نجازف بالموت وأرواحنا عطشى؟ كيف نمر بهذه المحطة الوحيدة في السنة كلها فلا نتزود بالوقود؟ ألا يمكن أن يكون رمضان هذا العام هو الأخير في حياة أحدنا؟! أي أنه يكون بمثابة آخر محطة للتزود بالوقود قبل القدوم على الله، آخر محطة للتوبة والاستقامة ورد المظالم وبر الوالدين وصلة الرحم والعودة إلى القرآن الكريم؛ يقول الله تعالى في سورة الذاريات: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.

 

أحبتي في الله .. كتب هذه القصة الدكتور/ إبراهيم الفقي، رحمه الله، تحت عنوان: «ضوء مؤشر البنزين»، عن موقفٍ حقيقيٍ تعرض له بالفعل، ونقلتها لكم بتعديلاتٍ طفيفة.

إن شهر رمضان المبارك هو بحقٍ فرصةٌ للعودة إلى الله، بل للفرار إليه. وعن الآية الكريمة ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ يقول أهل العلم إن الفرار نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء. أما فرار السُعداء فهو فرارٌ من الدنيا إلى الله؛ فرارٌ إلى ﴿إِيّاكَ نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾، فرارٌ من عصيان الله إلى طاعته، ومن عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته، بالالتجاء إلى الله والاعتماد عليه والتوكل عليه، بالتوبة من الذنوب. وأما فرار الأشقياء؛ فهو فرارٌ من الله وليس إليه، فرارٌ منه سبحانه إلى الدنيا، إلى المعاصي، إلى الشهوات، إلى الظلمات، إلى المهلكات؛ قال تعالى واصفاً حال هؤلاء: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾، إنه فرارٌ إلى الطريق الخطأ؛ فطريق الفرار الصحيح يكون إلى الله سبحانه وتعالى؛ يقول سبحانه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، نَفِرُّ إلى الله لأن خلفنا عدونا إبليس يسعى جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلنا من أصحاب السعير، يحذرنا من ذلك المولى عزَّ وجلّ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾.

فرار المسلم المؤمن هو فرار السعداء من شيءٍ مخيفٍ إلى شيءٍ آمن، من شيءٍ مزعجٍ إلى شيءٍ مُطَمْئِن، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة، من الجهل إلى العلم، ومن الكسل إلى العزم، من الضيق إلى السَعَةِ؛ من ضيق الصدر بالهموم والأحزان إلى سعة الإيمان ورحابة طاعة الرحمن، من ضيق المخاوف إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصِدق التوكل عليه، وحُسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبِره.

 

يقول الشاعر:

وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى

ذَرْعاً وعندَ اللهِ منها المَخرَجُ

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها

فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ

 

ومما نُشر في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وله صلةٌ بموضوعنا، ما يلي: لا تقف متحسراً على أنك لم تختم القرآن خمس مراتٍ، أو لم تقم الليل كله، أو لم تبنِ مسجداً. لا تنتظر طويلاً على رصيف الحِرمان، وتفكر في بعيدٍ لم تنله. فكر في مساحة الممكن لديك، ‏يمكن لك أن تقرأ ولو صفحةً من المصحف، وتصلي ولو سجدة، وتتصدق ولو بتمرة. لقد فعلت امرأة الممكن وسقت كلباً فدخلت الجنة! وفعل رجلٌ الممكن وأماط غصن شوكٍ عن الطريق فنال من الله المغفرة! الطريق إلى الله يُحسب بالأشبار؛ ففي الحديث القدسي يقولُ اللَّهُ تَعالَى: {... وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا ...}. لا تتوقف محتقراً خطوةً، ولا تتوقف منتظراً وثبةً؛ فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطع. تذكر كل ليلةٍ ألاّ تحاسب نفسك على مستحيلٍ تمنيتَه، وإنما على مُمكنٍ ضيعتَه! إن مساحة الممكن تتسع بالأعمال لا بالآمال.

 

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم﴾، ويقول حكيم: إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قُصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك، إنما الأعمال بالخواتيم، وإن كنتَ لم تُحسن الاستقبال فلعلك تحسن الوداع؛ فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وحُسن الختام خيرٌ من حماسة البدء. وقيل في الأثر: لا تَحقِرَنَّ مِن المَعروفِ شَيئاً. ويقول المثل: ما لا يُدرَكُ كُلُّه، لا يُترَكُ جُلُّه.

يصف أحدهم حال بعض الناس مع رمضان؛ فيقول: ﻭإﻧﻪ ﻟﻤ ﺍﻟﺤﻣﺎﻥ ﺍﻟﻌ ﻭﺍﻟﺨﺴﺎﺭﺓ ﺍﻟﻔﺎﺩﺣﺔ ﺃﻥ ﺗﻯ ﻛﺜﻴﺍً ﻣ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴ، ﻳُﻤﻀﻥ ﻫﻩ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ ﺍﻟﺜﻤﻴﻨﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻻﻳﻨﻔﻌﻬ؛ ﻳﺴﻬﻭﻥ ﻣﻌﻈﻢ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻬ ﺍﻟﺒﺎﻞ، ﻓﺈﺫﺍ ﺟﺎﺀ ﻭﻗ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﻧﺎﻣﺍ ﻋﻨﻪ، ﻭﻓَْﺗﺍ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻔﺴﻬ ﺧﻴﺍً ﻛﺜﻴﺍً، ﻟﻌﻠﻬ ﻻﻳﺭﻛﻧﻪ ﺑﻌ ﻋﺎﻣﻬﺍ ﺃﺑﺍً.

وصدق من قال: مَن رُحِم في رمضان فهو المرحومُ، ومَن حُرِم خيره فهو المحرومُ، ومَن لم يتزودْ لمعادِه فيه فهو الملومُ.

 

أحبتي .. عودةً إلى قصة البداية، قال كاتبها في نهايتها: اللهم اجعلنا من المتزوّدين بوقود الروح في محطة رمضان، ولا تجعلنا من الساهين، ولا تجعلنا من المقصرين، ولا تجعلنا من الغافلين، ولا تجعلنا من المحرومين.

وعن الفرار إلى الله والعودة إليه تائبين أعجبني قول أحد العلماء كتب يتساءل: لماذا عباد الله نؤخر الفرار إلى الله؟ هل نحن مغترون بصحتنا وقوتنا التي هي إلى ضعفٍ وزوال؟ أم نحن مغترون بأموالنا التي لن يلحقنا منها شيءٌ إذا متنا؟ أم نحن عالمون بموعد موتنا وانتقالنا عن هذه الحياة؛ فنؤخر الفرار إلى الله إلى قُرب هذا الموعد؟ هذه أسئلةٌ لابد أن يسألها المسلم لنفسه، ولابد أن يجد لها الإجابات المقنعة، إن كان حقاً يريد مرضاة الله سبحانه، وإن كان حقاً يريد النجاة من عذاب الله وعقابه. فتعالوا نعلنها صريحةً واضحةً -كما أعلنها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم- تحمل كل معاني الفرار إلى الله ظاهراً وباطناً: [اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ].

قد يكون رمضان هذا هو (محطة الوقود) الأخيرة بالنسبة لنا؛ فليكن شعارنا أحبتي فيما بقي لنا من أيام هذا الشهر الفضيل، وفي العودة إلى الله والفرار إليه، الآية الكريمة: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. خلاصة القول: إنْ أحسنتَ فَزِد، وإنْ قصَّرتَ فَعُد.

اللهم خُذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك، ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين.

 

https://bit.ly/363p8xF


الجمعة، 8 مايو 2020

يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً

الجمعة 8 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٨

(يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً)

 

قصتنا اليوم حدثت في روسيا، الاتحاد السوڤيتي سابقاً، أواخر أربعينيات القرن الماضي. يقول «نيكيتا خروتشوف» -السكرتير العام للحزب الشيوعي السوڤيتي وقتها- في مذكراته:

اتصل بي الرفيق «جوزيف ستالين» رئيس الدولة، وقال لي: "تعال إلى مكتبي بسرعة يا «نيكيتا».. هناك مؤامرةٌ كبيرة". وصلتُ وكان معي مجموعةٌ من الوزراء، قال «ستالين»: "يا رفيق «نيكيتا»، لدينا معمل إطارات سيارات -كان هديةً من شركة فورد الأمريكية- ينتج الإطارات منذ سنواتٍ بشكلٍ جيد، ولكن فجأةً، ومنذ ستة أشهرٍ بدأ هذا المعمل ينتج إطاراتٍ تنفجر بعد أن تسير حوالي ١٠٠ كلم، ولم يعرف أحدٌ السبب. أريدك أن تذهب إلى المعمل فوراً وتكتشف ما هو السبب".

وصلتُ إلى المعمل، وباشرتُ التحقيق فوراً، وكان أول ما لفت نظري هو حائط الأبطال على مدخل المعمل، على هذا الحائط تُوضع صور أفضل العمال والإداريين الذين عملوا بجدٍ ونشاطٍ كل شهر. بدأتُ التحقيقات مباشرةً مع جميع العاملين، من مسئولي الإدارة حتى أصغر عامل؛ ولا أحد منهم يعرف سبب انفجار الإطارات. قررتُ النوم في المعمل حتى أحل هذا اللغز. استيقظتُ في صباح اليوم التالي مبكراً، وقفتُ في أول خط الإنتاج، وقمتُ بمتابعة أحد الإطارات وسرتُ معه من نقطة البداية حتى خروجه من المعمل، وأُصبتُ بالإحباط؛ فكل شيءٍ طبيعيٍ، وكل شيءٍ صحيحٍ، وكل شيءٍ متقنٍ، ومع ذلك انفجر الإطار بعد عددٍ قليلٍ من الكيلومترات! جمعتُ المهندسين والعمال والإداريين، وأحضرتُ المخططات، وقمتُ بالاتصال بالمهندسين الأمريكيين، لكننا لم نصل إلى معرفة السبب! قمتُ بتحليل المواد الخام المستخدمة في صناعة ذلك الإطار؛ أثبتت التحاليل أنها جميعها ممتازةٌ جداً، ومعنى ذلك أنها ليست السبب في انفجار الإطار! فما هو سبب انفجار الإطار يا تُرى؟ يستحيل أن ينفجر الإطار بدون سبب!

أصابني الإحباط، وأحسستُ بالعجز. وبينما أنا أمشي في المعمل لفت نظري -مرةً أخرى- حائط الأبطال في مدخل المعمل؛ ولاحظتُ تكرار اسم أحد المهندسين لستة أشهرٍ متتاليةٍ ووضعه بالمرتبة الأولى، أي منذ بدأت هذه الإطارات بالانفجار بدون سبب، لم أستطع النوم، وقمتُ باستدعاء هذا المهندس إلى مكتبي فوراً، وقلتُ له: "أرجوك اشرح لي يا رفيق كيف استطعتَ أن تكون بطل الإنتاج لستة أشهرٍ متتالية؟"، قال: "لقد استطعتُ أن أوفر الملايين من الروبلات للمعمل والدولة"، قلتُ: "وكيف استطعت أن تفعل ذلك؟"، قال: "ببساطةٍ، قمتُ بتخفيف عدد الأسلاك المعدنية في الإطار، وبالتالي استطعنا توفير مئات الأطنان من المعادن يومياً". هنا أصابتني السعادة الكبيرة لأنني عرفتُ حل اللغز، وعرفتُ أخيراً السبب وراء انفجار الإطارات. لم أصبر على ذلك؛ فاتصلتُ ب«ستالين» فوراً، وشرحتُ له ما حدث. وبعد دقيقة صمتٍ قال لي بالحرف الواحد: "والآن.. أين دفنتَ جثة هذا الغبي؟"، كان ردي: "في الواقع لم أعدمه يا رفيق.. بل سأنفيه إلى «سيبيريا»، لأن الناس لن تفهم لماذا نعدم بطل إنتاج لستة أشهرٍ متتالية"!

 

أحبتي في الله .. ما إن انتهيتُ من قراءة هذه القصة إلا وتذكرتُ على الفور قوله تعالى: ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكُم بِالأَخسَرينَ أَعمالًا . الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾. نزلت هذه الآية في الكفار عبدة الأوثان الذين أضلتهم شياطينهم فزينت لهم أعمالهم وحسبوا أنهم مهتدون، لكن كما تقول القاعدة الفقهية: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب".

 

يقول المفسرون عن هذه الآية: ﴿قُل هَل نُنَبِّئُكُم﴾ أي نخبركم ﴿بِالأَخسَرينَ أَعمالًا﴾، الأخسرون: اسم تفضيلٍ من خاسرون، فالأخسرون هم الأكثر خسارة، وفسرهم سبحانه فقال: ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا﴾ أي عملوا أعمالاً باطلةً غير مشروعةٍ ﴿وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾ أي يعتقدون أنهم على شيء، وأن عملهم مقبول. وفي ذلك دلالةٌ على أنَّ مِن الناس مَن يعمل العمل وهو يظن أنه محسنٌ، وقد حبط سعيه، وبَطُلَ عمله.

واستخدم القرآن الكريم تعبير ﴿بِالأَخسَرينَ أَعمالًا﴾ وليس "الأخسرين عملاً"؛ حيث أنَّ التمييز يكون عادةً مفرداً، ليبين أنّ هؤلاء لم يخسروا في عملٍ واحدٍ معين، بل إِنَّ جهلهم كان سبباً للخسران في جميع أعمالهم، وهذا هو الخسران المبين. ويكون الجهل مُركباً عندما يجهل الإنسان ويجهل أنه يجهل؛ ذلك أن الإنسان إذا علم بجهله فإنه يسعى إلى إزالة جهله بالتعلم، أما الإنسان الذي يجهل بأنه جاهلٌ فهذا لا يُتصوَر أن يزيل جهله يوماً لعدم علمه به أساساً؛ فيستمر في خسرانه؛ فمن يخسر نتيجة عملٍ ما ويبقى مُصراً عليه فلا يُصلحه ولا يُقوِّمه فضلاً عن أن يغيره ويبدله يكون في خسارةٍ دائمةٍ؛ لذلك سمى القرآن الكريم هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، ووصفهم بأنهم (يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً)، إنهم أُولئك الذين يرون ذنوبهم عبادةً، وأعمالهم السيئة أعمالاً صالحةً، وانحرافهم استقامةً!

 

يقول أحد العلماء إنه يمكن أن تنطبق هذه الآية أيضاً على المسلم حين يُخطئ أو يرتكب معصيةً وهو يظن أنها خيرٌ؛ مثل مَن ينصب على الناس ويخدعهم ليأخذ أموالهم ظناً منه أنَّ هذه شطارة وفهلوة وذكاء، ومثل مَن تخلع الحجاب بحُجة أنه رجعيةٌ وتخلفٌ وأن السفور تقدمٌ ورقي، ومثل مَن يرى في المَشاهد الإباحية والرقص والعُري فناً ورسالةً، ومثل الصحفي الذي ينشر فضائح الناس ويتتبع عوراتهم ويشوه سمعتهم بحُجة أنَّ ذلك خبطةٌ صحفيةٌ، وأنه ينشر الحقائق والواقع. هؤلاء وأمثالهم لا يختلفون عن «فرعون» الذي رأى كفره شيئاً جميلاً وعظيماً فقال لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.

هؤلاء يقول تعالى عنهم: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾، هذا هو مفتاح الشر كله؛ أنْ يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حَسناً؛ فيُعجب بنفسه وبكل ما يصدر عنها، ولا يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه؛ لأنه واثقٌ من أنه لا يُخطئ! متأكدٌ أنه دائماً على صواب! معجبٌ بكل ما يصدر منه! لا يخطر على باله أن يُراجع نفسه في شيءٍ، ولا أن يحاسبها على أمر، وهو -بطبيعة الحال- لا يطيق أن يُراجعه أحدٌ في عملٍ يعمله أو في رأيٍ يراه؛ لأنه حَسنٌ في عين نفسه، مُزينٌ لنفسه، لا مجال فيه للنقد ولا موضع فيه للنقصان!

 

إن الخسران المبين هو أن يظن الإِنسان أنَّهُ يُحسن العمل وهو في الواقع يُفسده؛ فهو لا يتعلم من أخطائه؛ لأنه ببساطةٍ لا يدرك أصلاً أنه يُخطئ! إنه -فوق ذلك- لا يشك للحظةٍ فيما يعمل، وهو متأكدٌ ومتيقنٌ من أن ما يعمله هو عين الصواب فيكرره مراتٍ ومرات، وتجده لا يتقبل النقد أبداً، ولا يُقَرِّب منه إلا الحمقى الذين يوافقونه، والمنافقين الذين يمدحونه، والمنتفعين المتكسبين من وراء أخطائه، وهذا هو الغباء بعينه!

 

يكلف الغباء صاحبه خسارةً شخصيةً كبيرةً، تتضاعف الخسارة وتتزايد وتتحول إلى خسارةٍ عامةٍ عندما يكون العمل الذي يُنفذ بغباءٍ مؤثراً على عددٍ كبيرٍ من الناس، وتصل الخسارة إلى ذروتها عندما يكون العمل مؤثراً على قومٍ بأكملهم، رغم أنَّ مَن يقومون بهذه الأعمال (يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً) كما في قصة «فرعون»؛ يقول تعالى: ﴿... وَما أَمرُ فِرعَونَ بِرَشيدٍ . يَقدُمُ قَومَهُ يَومَ القِيامَةِ فَأَورَدَهُمُ النّارَ وَبِئسَ الوِردُ المَورودُ﴾.

ويُذَكِّرنا التاريخ الحديث ببعض الأغبياء الذين تولوا مسئولية العمل في مواقع مهمةٍ ومؤثرةٍ فتسببوا بقراراتهم الغبية في خساراتٍ، ليتها كانت لأنفسهم فقط، وإنما -وللأسف- تعدت ذلك وتأثر بها كثيرون غيرهم؛ فكان الخسران المبين؛ كما حدث في الحرب العالمية الثانية -على سبيل المثال- حيث قُدِّر إجمالي عدد ضحاياها بما يتراوح ما بين 62 و78 مليون قتيل!

 

أحبتي .. علينا أن نبدأ بأنفسنا؛ نخطط لأي عملٍ قبل أن نشرع في تنفيذه -سواءً على المستوى الشخصي أو على مستوى يؤثر على الآخرين- ندرسه جيداً، نحلل الواقع، نستفيد من تجارب غيرنا وتجاربنا السابقة، نرجع إلى المختصين، نستفيد من آراء الخبراء، نتشاور، ثم نتوكل على الله ونقوم بالتنفيذ، ونهتم بالتقييم الذاتي أثناء التنفيذ، ونستمع بصدورٍ رحبةٍ إلى النقد الذي يساعدنا على تصحيح وتقويم العمل حتى يصل إلى منتهاه محققاً أهدافه، ثم ننهي ذلك بتقييم ختامي نستفيد منه كتغذية راجعة، ويستفيد منه غيرنا عند تخطيطهم لأعمال مشابهة.

قد يقول قائل: "انتهيتَ إلى نصائح منهجيةٍ علميةٍ أكثر منها دينية!"، أقول: "ديننا دين الفكر والتدبر واستخلاص العبر ومراجعة النفس والتشاور وسؤال أهل العلم والأخذ بالأسباب، وهو دين الفطرة السليمة وصلاة الاستخارة والاستعانة بالله والتوكل عليه؛ ولا صدام بين ذلك كله".

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلنا ربنا ممن يرتكبون الأخطاء بجهالةٍ وهُم (يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً).

https://bit.ly/2Wfqke3


الجمعة، 1 مايو 2020

البراعة والإحسان

الجمعة 1 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٧

(البراعة والإحسان)

 

تحت عنوان «كلمة راس في طائرة» كتب يحكي عن موقفٍ أدهشه:

بعد أن استويتُ على مِقعدي بدرجة رجال الأعمال في الطائرة، وفي انتظار الإقلاع من جدة إلى الدمام، هزَّ كتفي أحد المسافرين، وقال لي بصوتٍ خفيضٍ: "أريدك في كلمة راس"، أي: أريد أن أتحدث معك على انفراد، توقعتُ لأول وهلةٍ أنه يريد نقوداً؛ كَوْن "كلمة راس" ارتبطت في مخيلتي بالسَلَف والدَّيْن. فقلتُ لنفسي: "يا الله، وصل المتسولون إلى الطائرات! ألم تكفهم الأموال الطائلة التي يمتصونها منا ونحن نقف في إشارات المرور؟"، قاطع أفكاري وأنا أمخر عُباب خيالي قائلاً: "عذراً أزعجتك، ولكن لا أريد أن تسمع أمي ما أريد أن أقوله لك الآن؛ لذلك أخذتك جانباً". قلتُ له: "مَن أمك؟ وما علاقتي بها؟". أجابني: "هي مَن تجلس بجوارك، لا تجيد اللغة الإنجليزية، والمضيفات لا يُجدن العربية؛ فهي تحتاج إلى مساعدتك في الترجمة لها إذا تقاطعت معهن. لا أود أن تعرف أمي أنني طلبتُ منك هذا الشيء، فتشعر بأنها ناقصةٌ؛ أنا أريدها أن تشعر بأنها الأفضل، أفضل منا جميعاً"، قلتُ له: "أبشر؛ لم تطلب شيئاً، أنت وأمك فوق رأسي، لكن لِمَ لَمْ تجلس بجوارها، ألم تجد مقعداً معها في نفس الدرجة؟"، رد عليّ: "لا، إمكاناتي محدودةٌ؛ فلا أستطيع أن أشتري تذكرتين في درجة رجال الأعمال، بوسعي بمشقةٍ أن أشتري واحدةً وهي لأمي. لا يمكن أن أسمح لأمي أن تركب الدرجة السياحية". عرضتُ عليه مِقعدي ليجلس فيه، فرَّد وابتسامةٌ كبيرةٌ تملأ وجهه: "أنا أكثر سعادةً عندما تكون أمي في درجة رجال الأعمال وأنا في الدرجة السياحية؛ أشعر أنها أعلى وأرقى مني". ودَّعني وعاد إلى مقعده، وتوقعتُ أن ألتقيه مع نهاية الرحلة، بَيْدَ أنه فاجأني بزياراتٍ مباغتةٍ كل عشر دقائق، يُقَبِّل رأس أمه ويقول لها: "توصين علىّ شيء؟ تأمريني بشيء؟"، وأحياناً ينادي المضيفة ويسألها أن تجلب شاياً أو ماءً إلى أمه. لم يَغب طويلاً عن أمه وعني، كان حاضراً بجوارنا طوال الرحلة! بعد أن هبطت الطائرة في مطار الملك فهد الدولي بالدمام عانقني بحرارةٍ كأنه يعرفني منذ عشرين سنة، وشكرني بشدةٍ، وقبل أن يودعني قلتُ له: "أنا مَن يستحق أن أشكرك؛ تعلمتُ منك درساً جديداً في البر بالوالدين، دُمتَ عالياً".

شعرتُ أمام هذا الشاب بأني ضئيلٌ جداً ومقصرٌ جداً؛ إنه مثالٌ لشبابٍ كثيرين حولنا يبرعون في البر بوالديهما، يتفننون في التعبير عن حبهم لهما، ويتقنون هذا التعبير. جعلنا الله مثلهم.

 

أحبتي في الله .. شدني إلى هذه القصة مدى بِر هذا الشاب بأمه. واستوقفني هذا التعبير الجميل «يبرعون في البِر بوالديهما»؛ فاستخدام كلمة «يبرعون» جاء مدهشاً؛ فهو في محله تماماً!

تأملتُ في هذه الكلمة، وسألتُ نفسي هل وردت كلمة «بَرَع» أو مشتقاتها في القرآن الكريم؟ بحثتُ فلم أجد لها أي استخدام على أي وجهٍ من الوجوه، لكني انتبهتُ إلى أن هناك كلمةً أخرى تفيد نفس المعنى وتزيد؛ هي كلمة الإحسان؛ يقول الله سبحانه وتعالى آمراً المسلمين: ﴿وَأَحسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى﴾، ويقول تعالى واعداً المحسنين: ﴿هَل جَزاءُ الإِحسانِ إِلَّا الإِحسانُ﴾، ويقول مُبشراً المحسنين بالهداية وبمعيته: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وهل أحسن من معية الله جزاءً؟ ويَعِد المحسنين بنعيم الدنيا والآخرة؛ يقول تعالى: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنوا في هذِهِ الدُّنيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعمَ دارُ المُتَّقينَ﴾، ويوضح أن جزاء المحسنين الحسنى؛ يقول تعالى: ﴿وَيَجزِيَ الَّذينَ أَحسَنوا بِالحُسنَى﴾، ويبشرهم بأكثر من ذلك؛ يقول تعالى: ﴿لِلَّذينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرهَقُ وُجوهَهُم قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصحابُ الجَنَّةِ هُم فيها خالِدونَ﴾. كما ورد الحث على الإحسان في مواضعَ أخرى كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾.

 

وأمرنا رسولنا الكريم بالإحسان في كل شيءٍ؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: [إنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسانَ على كلِّ شَيءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، ولْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرحْ ذَبيحَتَهُ]، ومُعرفاً الإحسان؛ قال -عليه الصلاة والسلام-:[الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ]، يقول العلماء إن هذا الحديث يُبين أن مرتبة الإحسان ومنزلة المُحسن على درجتين؛ الأولى عبادة رجاء، وهي الأعلى والأفضل، والثانية عبادة خوف. كما أن في الحديث إشارةً إلى أن مَن شقَّ عليه أن يعبد الله كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه، فيستحي من نظره إليه.

ويقولون إن الإحسان أعلى مراتب الدين، وهو لغةً: ضد الإساءة؛ فهو إجادة العمل وإتقانه والإخلاص فيه. تقول أحسنتُ العمل إذا أتقنته، وأحسنتُ إلى فلانٍ إذا أوصلتَ إليه نفعاً، وهذا هو الإحسان إلى عباد الله؛ ويكون واجباً، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام. أو مستحباً، مثل الإحسان إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين. وأهل الإحسان هم الصفوة الخُلَص من عباد الله المؤمنين، ولهذا ورد الثناء عليهم كثيراً في القرآن الكريم وفي السُنة النبوية الشريفة.

 

ومن أعظم أبواب (البراعة والإحسان) في عمل الخير وأكثرها ثواباً؛ الصدقات الجارية كبناء المساجد، ووقف الأموال لمساعدة طلبة العلم، وإنشاء مكتباتٍ إسلاميةٍ لخدمة العلم والعلماء، وبناء المستشفيات، وبناء دور إيواءٍ للعجزة والأرامل والمساكين، وبناء المدارس، وتشييد دورٍ لتحفيظ القرآن الكريم، وبناء عماراتٍ تُؤَجَّر ويخرج ريعها ‏للفقراء والمساكين، وغرس الأشجار المعمرة، وحفر آبار المياه، وغيرها، فهي صدقاتٌ جاريةٌ يعود ثوابها على كل مَن قام بها -منفرداً أو شارك وساهم فيها- في حياته، وتستمر فيما تجلبه لصاحبها من ثوابٍ بعد مماته، إلى أجلٍ لا يعلمه إلا الله.

 

يقول أهل العلم إن من أنبل المقاصد وأسمى الغايات التي يسعى الإنسان إليها هي فعل الخير، والمسارعة إليه، وبهذا تسمو إنسانيته ويتشبّه بالملائكة، ويتحلّى بأخلاق الأنبياء والصادقين، ولذلك فقد أوصى الإسلام المسلمين بأن يفعلوا الخير مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وأجناسهم، فقال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. فما بالنا بمن يبرع في عمل الخير ويُحسنه ويتفنن في أدائه؟

 

ويقول الشاعر:

ﺍﻟﻨـﺎﺱُ ﻟﻠﻨـﺎﺱِ ﻣﺎ ﺩﺍﻡَ ﺍﻟﻓـﺎﺀُ ﺑـﻬ

ﻭﺍﻟﻌﺴرُ ﻭﺍﻟﻴﺴرُ ﺃﻭﻗــﺎﺕٌ ﻭﺳـﺎﻋـﺎﺕُ

ﻭﺃﻛﻡُ ﺍﻟﻨـﺎﺱِ ﻣـﺎ ﺑﻴ ﺍﻟﺭﻯ ﺭﺟـﻞٌ

ﺗُﻘﻀﻰٰ ﻋﻠﻰ ﻳـدهِ ﻟﻠﻨـﺎﺱِ ﺣﺎﺟـﺎﺕُ

ﻻ ﺗﻘﻌنَ ﻳـدَ ﺍﻟﻤﻌـﻭﻑِ ﻋ ﺃﺣـدٍ

ﻣـﺎ ﺩُﻣـتَ ﺗـﻘـﺭُ ﻭﺍﻷﻳـــﺎﻡُ ﺗــﺎﺭﺍﺕُ

ﻭﺍﺫﻛر ﻓﻀﻴﻠﺔَ ﺻـﻨﻊِ ﺍﻟﻠﻪِ ﺇﺫ ﺟﻌﻠ

ﺇﻟﻴـكَ ﻻ ﻟكَ ﻋﻨدَ ﺍﻟﻨـﺎﺱِ ﺣﺎﺟــﺎﺕُ

ﻣﺎﺕَ ﻗﻡٌ ﻭﻣﺎ ﻣﺎﺗ ﻓﻀـﺎﺋﻠُﻬ

ﻭﻋﺎﺵَ ﻗﻡٌ ﻭﻫُ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱِ ﺃﻣﺍﺕُ

 

أحبتي .. نرى مِن الناس مَن يبرع في مجالٍ ما من مجالات الدنيا؛ كالرياضة، أو الكتابة، أو الهندسة، أو التدريس، أو الطب، وفي غيرها من المجالات فنقول سبحان الله، هذه موهبةٌ ونعمةٌ اختص بها المولى عزَّ وجلَّ بعض عباده. أما (البراعة والإحسان) في أعمال الخير والبر فهي متاحةٌ -بفضل الله ونعمته- لجميع خلقه؛ يقول تعالى: ﴿وَفي ذلِكَ فَليَتَنافَسِ المُتَنافِسونَ﴾.

فلنكُن بارعين ومحسنين فيما يُرضي الله -سبحانه وتعالى- ليس فقط في أعمال الخير والبر، ولكن في ممارسة العبادات كذلك: لنكُن بارعين ومحسنين في صلاتنا؛ حضوراً واطمئناناً وخشوعاً والتزاماً بالجماعة ومحافظةً على السنن الرواتب وغير الرواتب وقيام الليل. ولنكُن بارعين ومحسنين في صومنا؛ إيماناً واحتساباً وحفظاً للجوارح من الحرام نُطقاً ومشاهدةً وسمعاً. ولنكُن بارعين ومحسنين في تعاملنا مع أقرب الناس إلينا؛ والدينا وأزواجنا وأبنائنا وإخواننا وأخواتنا وذوي أرحامنا وجيراننا، صلةً ورحمةً ومودةً ومحبةً واحتراماً. ولنكُن بارعين ومحسنين في معاملاتنا مع جميع الناس؛ إعانةً وإيثاراً وأمانةً ونُصحاً وصدقاً. وكلما برعنا وأحسنا في ذلك كله كلما زادنا الله من نعيمه، ورضيَ عنا.

وفقنا الله إلى (البراعة والإحسان) في كل عملٍ نقوم به قاصدين به وجهه الكريم سبحانه، راجين رضاه.

 

https://bit.ly/2StFaLE


الجمعة، 24 أبريل 2020

بناء الإنسان

الجمعة 24 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٦

(بناء الإنسان)

 

نشر الكاتب البرازيلي الشهير "باولو كويلو" قصةً قصيرةً يقول فيها:

كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة، ولكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته؛ وحين تعب الأب من ابنه قام بقطع ورقةٍ من الصحيفة -كانت تحتوي على خريطة العالم- ومزقها إلى قطعٍ صغيرةٍ وقدمها لابنه وطلب منه إعادة تجميع الخريطة، ثم عاد لقراءة صحيفته ظاناً أن الطفل سيبقى مشغولاً بقية اليوم، إلا أنه لم تمر خمسة عشر دقيقة حتى عاد الابن إليه وقد أعاد ترتيب الخريطة!

فتساءل الأب مذهولاً: "هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟!"، رد الطفل قائلاً: "لا، لكن كانت هناك صورةٌ لإنسانٍ على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ (بناء الإنسان)، أعدتُ بناء العالم"!

كانت عبارةً عفويةً؛ ولكنها كانت جميلةً وذات معنىً عميق!

 

أحبتي في الله .. عندما قرأتُ هذه القصة القصيرة تساءلت بيني وبين نفسي: "هل نستطيع بالفعل إعادة (بناء الإنسان) لنعيد بناء العالم؟ ولماذا؟ وكيف؟".

في محاولتي للإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة، وجدتُ نفسي وقد عدتُ إلى الوراء كثيراً، أمتطي آلة الزمن أقودها إلى الماضي؛ علَّه يكون ملهماً لي وأنا أستشرف المستقبل، وفي ذهني المقولة الشهيرة "لا مستقبل لمن لا ماضي له".

 

وجدتُ في العودة إلى الماضي إجابةً واضحةً عن السؤال الأول، هل نستطيع؟ نعم نستطيع، فقد استطعنا ذلك من قبل، حين التزم المسلمون الأوائل منهج الإسلام في (بناء الإنسان) تسيدنا العالم لأكثر من ثمانية قرونٍ متتالية، توسعت خلالها الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً، وقدمت للبشرية حضارةً مشرقةً وصفها أحد المفكرين الإسلاميين -رحمه الله- حين التفت إليه أحد المشاركين في مجلسٍ وخاطبه مستهزئاً وقال: "أفهم من كلامك أنك تريد تطبيق أحكام الشريعة والعودة بنا إلى الوراء"، فكان مما رد به مفكرنا: "هل تقصد إلى الوراء عندما كنا كمسلمين نحكم نصف الكرة الأرضية؟ عندما كان ملوك أوروبا محميين من الدولة الإسلامية ويحكمون بتفويضٍ من حكامها؟ أم تقصد إلى الوراء زمن حكم المماليك الذين أنقذوا العالم من المغول والتتار؟ أم إلى الوراء عندما حكم العباسيون نصف الأرض؟ أم إلى الوراء أيام الأمويين؟ أم قبلهم زمن سيدنا عمر -رضي الله عنه- الذي حكم أكثر الكرة الأرضية؟ أم إلى زمن عبد الرحمن الداخل الذي طوّق جيشه إيطاليا وفرنسا؟ أم تقصد عندما كان علماء العرب مثل ابن سينا والفارابي وابن جبير والخوارزمي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، يُعلِّمون العالم العربي والغربي الطب والصيدلة والهندسة والفلك؟! أم تقصد عندما عبث يهوديٌ بعباءة امرأةٍ مسلمةٍ فصاحت «وامعتصماه»، فجرّد المعتصم جيشاً وطرد اليهود من أرض الدولة الإسلامية؟! أم عندما أنشأ المسلمون أول جامعةٍ تعرفها أوروبا في إسبانيا؟! أنتظر أن توضح لي قصدك، وتخبرني كم تريد أن نرجع إلى الوَراء؟!".

 

أما السؤال الثاني، وهو لماذا نعيد (بناء الإنسان)؟ فالإجابة عنه هي أن الإسلام دينٌ أكمله الله لنا، وأتمم به نعمته علينا، وارتضاه لنا ديناً؛ فهو دينٌ للبشرية جمعاء وليس للعرب فقط دون غيرهم من الناس. لقد أرسل الله كل نبيٍ إلى قومه خاصةً إلا رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام، خاتم الأنبياء- أرسله ربه إلى الناس جميعاً؛ يقول تعالى: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا كافَّةً لِلنّاسِ بَشيرًا وَنَذيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَما أَرسَلناكَ إِلّا رَحمَةً لِلعالَمينَ﴾.

والمتتبع لعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ في القرآن الكريم يجد أنها تكررت في عشرين موضعاً، في مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ قَد جاءَكُمُ الرَّسولُ بِالحَقِّ مِن رَبِّكُم فَآمِنوا خَيرًا لَكُم﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [... وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً].

وعلى ذلك يكون (بناء الإنسان) الهدف منه هو تبليغ رسالة المولى عزَّ وجلَّ إلى البشرية جمعاء؛ يقول تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ﴾، يقول العلماء: ولما لم يكن هناك بعد رسول الله رسول، وجب على أمته حمل دعوته من بعده والقيام بتبليغها للخلق أجمعين، وكان لابد لهذه الأمة أن تقوم بهذه المهمة ـ ضرورةً لا اختياراً ـ وأن يكون منها مَن يقوم بهذا الواجب كفرض كفاية، وإلا أثم المسلمون جميعهم وحوسبوا على التقصير في أداء الواجب المنوط بهم كأمةٍ ختم الله بها الأمم؛ ومن ثَمَّ كان واجباً على كل مسلمٍ -بقدر طاقته- أن يتحمل من هذا الواجب ما يقدر عليه؛ كما أمرنا الله بقوله تعالى: ﴿وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾، وكما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً].

خلاصة القول -كما يقول أحد العلماء- إنه في زماننا هذا كل مكلفٍ من المسلمين مطالبٌ بهذا الواجب، وليس هذا التبليغ مقصوراً على العلماء، بل كل مسلمٍ مطالبٌ أن يُبَلِّغ ما فهمه وعلمه، وأما العلماء فهم يختصون ـ مع دعوتهم العامة ـ بالقيام بواجب التبليغ التفصيلي والأحكام الشرعية والمعاني التي يحتاج إليها عامة المسلمين؛ نظراً لسعة علمهم ومعرفتهم بالتفاصيل؛ يقول تعالى: ﴿فَلَولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهوا فِي الدّينِ وَلِيُنذِروا قَومَهُم إِذا رَجَعوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرونَ﴾. فالدعوة إلى دين الله ضرورةٌ شرعيةٌ لا يمكن النهوض بأعبائها بغير (بناء الإنسان) المسلم الواعي؛ المساير لمعارف عصره، المتمكن من التقنيات الحديثة، المتقن للغات أهل الأرض جميعاً، القادر على نقل وشرح وتوضيح رسالة الإسلام إلى كل البشر في أقاصي الأرض وأركانها الأربعة بروح العصر.

 

أما السؤال الثالث؛ كيف يكون (بناء الإنسان)؟ فالإجابة عنه أنّ من السهل تحقيق هذا الهدف عندما نُغَيِّر نظرتنا إلى أطفالنا، ونغير طريقة تربيتنا لهم، ونعود إلى تاريخنا الإسلامي لنستلهم منه كيف كانت الأمهات يقمن بتربية أطفالهن؛ فهذه أم الإمام مالك، العالية بنت شريك بن عبد الرحمن الأسدية، دفعت ابنها لحفظ القرآن الكريم فحفظه، وأرسلته إلى مجالس العلماء، وكانت تختار له ما يأخذه عن العلماء؛ فتقول له: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"، فأصبح الإمام مالك جبلاً من جبال العلم وعالم المدينة النبوية ومفتيها، وأحد أكابر علماء الأمة الإسلامية. وهذه أم الإمام الشافعي، مات زوجها، فنشأ الشافعي يتيماً، وكانت أمه ذات حِذقٍ وذكاءٍ وتفقُّهٍ في الدين، ارتحلت به حين بلغ عامين من عمره من غزَّة إلى مكة، حيث العلم والفضل، وحيث البادية حولها، والتي فيها يُقَوَّم لسان الغلام وتصح لغته، فأصبح الإمام العلامة الفقيه والشاعر الفصيح ومن أئمة الإسلام، هو ثمرة جهود تلك المرأة الفاضلة. وهذه أم الإمام أحمد بن حنبل، صفية بنت عبد الملك الشيبانية، مات أبوه وهو طفلٌ، فتكفلت أمه بتربيته، فحفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ولما بلغ السادسة عشرة، قالت له أمه: "اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرةٌ إلى الله الواحد الأحد"، وأعطته متاع السفر عشرة أرغفة شعيرٍ، ووضعت معها صرة ملحٍ، وقالت: "يا بني! إن الله إذا استُودِع شيئاً لا يُضَيِّعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه"؛ فأصبح العالِم المحدث الفقيه الشجاع في الحق، وإماماً من أئمة السنة. 

إن تعليم القرآن الكريم للأطفال هو -كما قيل- أصلٌ من أصول الإسلام، فينشؤون على الفطرة، وتسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة، قبل أن تتمكن الأهواء منها، وقبل سوادها بفعل المعصية والضلال. ومع تعليم القرآن ليكون (بناء الإنسان) على عقيدةٍ صحيحةٍ، يكون شرح هذه العقيدة بأسلوبٍ سهلٍ وبسيطٍ للصغار؛ قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كنتُ خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ]، ويكون (بناء الإنسان) كذلك بإكسابه القيم والآداب اللازمة لبناء عالمٍ تسوده محاسن الأخلاق والفضائل؛ قال عمر بن أبي سلمة: كُنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ] فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ.

إن (بناء الإنسان) يبدأ حين تتغير نظرتنا القاصرة إلى أبنائنا المراهقين على أنهم ما زالوا صغاراً وليسوا أهلاً للمسئولية، ونعود إلى تاريخنا الإسلامي لنستلهم منه كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- يتعاملون مع المراهقين؛ فهذا زيدٌ بن ثابت، تعلم لغة اليهود في 17 ليلة فقط، وصار ترجمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وكاتب الوحي، كان عمره 13 سنة. وقاتِلا أبا جهلٍ بغزوة بدر: معاذ بن الجموح، وكان عمره 13 سنة، ومعوذ بن عفراء، وكان عمره 14 سنة. وأول من سلَّ سيفه في الإسلام، الزبير بن العوام، كان عمره 15 سنة. والذي فتح بيته بمكة للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، الأرقم بن أبي الأرقم، كان عمره 16 سنة. وأول من رمى بسهمٍ في الإسلام، سعد بن أبي وقاص، كان عمره 17سنة. أما الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على مكة حين خرج للغزو، عتاب بن أسيد، فقد كان عمره 18 سنة.

ومحمد القاسم، فاتح بلاد السند، كان عمره 17 سنة. وأسامة بن زيد، قائد جيش المسلمين -وفيه كبار الصحابة منهم أبو بكر وعمر- كان عمره 18سنة. وعبد الرحمن الداخل، فاتح بلاد الأندلس، كان عمره 21 سنة. ومحمد الفاتح، فاتح القسطنطينية، كان عمره 22 سنة.

إن (بناء الإنسان) كمدخلٍ لبناء العالم لا يمكن أن يتم إلا وفق مبادئ وقيم المنهج الإسلامي الذي أثبت صلاحيته تاريخياً؛ فحينما انتكست البشرية، وابتعدت عن هذا المنهج، وسار مَن سار على درب الشيوعية الملحدة، وسار البعض على درب الرأسمالية المتوحشة، واغتر الغافلون بالعلم المادي الحديث فنادوا بالعلمانية فصلاً للدين عن الدولة، حين حدث ذلك لم يَجنِ العالم إلا الحروب والخراب والمجاعات والأزمات والنكبات، وثبت للقاصي والداني -إلا لمكابر- أنه لا مناص لبناء عالمٍ مثاليٍ نقيٍ فاضلٍ إلا بالعودة إلى المنهج الإسلامي في (بناء الإنسان)؛ لأنه ببساطة منهج الفطرة السليمة، وهو المنهج الذي أكمله لنا الله وأتمم به نعمته علينا وارتضاه لنا ديناً؛ يقول تعالى: ﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا﴾.

 

أحبتي .. بداية (بناء الإنسان) الذي يمكنه أن يُغير العالم هي أن يبدأ كلٌ منا بنفسه. وأهم قاعدة في ذلك هي ألا نخبر الناس كم نحفظ من القرآن الكريم، وكم نتلو منه، لكن ندعهم يَرَوْن فينا قرآناً يمشي ويتحرك: نُطعم جائعاً، نكسو عارياً، نرحم يتيماً، نُسامح مسيئاً، ننصر مظلوماً، نُعلِّم جاهلاً، نبر والدينا، نصل رحمنا، نُميط الأذى عن الطريق، نُنظف أبداننا وثيابنا وبيوتنا وقلوبنا، نُحسن معاملتنا للجميع، نبتسم لهم؛ لا نقتل، لا نزني، لا نسرق، لا نكذب، لا نَظلِم، لا نغدر، لا نخون، لا نَفْجُر، فليست العبرة أين وصلنا في تلاوة القرآن وحفظه، إنما أين وصل القرآن فينا، وكيف انعكس على أخلاقنا وسلوكنا ومعاملاتنا؟ علينا أن نُلزم أنفسنا وأبناءنا وأهلنا باتباع هذا المنهج الإسلامي السلوكي الصحيح، ولا نكتفي -كما يفعل بعضنا- باختزال الدين في تربية لحيةٍ أو إطالة ثوبٍ أو لبس نقابٍ.

اللهم ثبتنا على الإسلام، وساعدنا على أن نرتقي بأنفسنا، ونصلح من أحوالنا، لنكون خير سفراء لهذا الدين القيم، ننقله إلى الناس كافةً بالقدوة والمثال الحسن والمعاملة الطيبة.

 

https://bit.ly/2KuX5gr


الجمعة، 17 أبريل 2020

رد الأمانات إلى أهلها

الجمعة 17 إبريل 2020م


خاطرة الجمعة /٢٣٥

(رد الأمانات إلى أهلها)

 

يقول عم مصطفى: لم أكن أتصور أن شهادة وفاة صاحب الشركة التي عملتُ بها طوال الثلاثين عاماً الماضية هي شهادة شقائي أنا؛ فبعد أن تولى ابنه هيثم مقاليد إدارة الشركة كانت أول قراراته التخلص مني وطردي إلى الشارع، فهو لم ينسَ ذلك الموقف القديم حين اكتشفت تحويله أموالاً من حسابات الشركة إلى حسابه الخاص دون علم أبيه، وطلب مني هيثم عدم إخبار والده، وأصررتُ أنا على إبلاع أبيه من باب الأمانة؛ فلابد من (رد الأمانات إلى أهلها). وها أنا أدفع اليوم ثمن الأمانة؛ الطرد من العمل، بل من الشركة التي ساهمتُ في نموها حتى كبرت وصارت إلى ما صارت إليه.

ماذا أفعل؟ ومشكلتي الكبيرة والمستمرة كانت دائماً تتمثل في شُح المال خاصةً في آخر الشهر، لأجد نفسي فجأةً الآن أعيش ذات المشكلة ولكن في جميع أيام الشهر! ابني الكبير في كلية الطب يحتاج إلى مراجع باهظة الثمن ووعدته في أول الشهر! ابنتي أرادت ملابس جديدةً للشتاء ووعدتها في أول الشهر! ولدي الصغير في الثانوية العامة ودروسه الخاصة تُدفع رسومها أول الشهر! فواتير الماء والكهرباء والبقال وغيرهم كلها تنتظر السداد آخر الشهر! يا إلهي؛ والصيدلية! دوائي ودواء زوجتي! لقد أصبحتُ الآن بلا تأمينٍ صحي، ماذا إذا مرضتُ أو مرضت زوجتي أو أحد الأبناء؟! هل من العدل أن يكون هذا ثمن خدمة السنين بأمانة وإخلاص، بعد أن شاب شعري وخارت قواي أعود لنقطة الصفر؟!

لم أشعر بنفسي إلا وأنا واقفٌ أمام باب البنك، حيث وضع صاحب الشركة أكثر من مائة ألف جنيهٍ باسمي -خارج حسابات الشركة لأصرف منها على بعض أموره في غيابه- وأنا في انتظار دوري لصرف هذا المبلغ وإعادته لابن المرحوم، بإذن الله، صاحب الشركة، فهذا المال أمانةٌ لديّ، يتوجب عليّ إعادتها إلى أصحابها.

لكني ترددتُ وفكرتُ للحظات! ألا يكون هذا المال من حقي وحق أولادي، بعد خدمة هذه السنين؟ ألا يكون هو مكافأة نهاية الخدمة التي أستحقها؟ ألا يكون هذا المال ثمن الغدر الذي نالني من هيثم ابن المرحوم صاحب الشركة؟ أقنعتُ نفسي بأنه إذا أراد القدر ذلك فلتكن مشيئته!

حان دوري، وتقدمتُ نحو الصراف، وصرفتُ المال، ثم انصرفتُ من البنك في طريق عودتي إلى البيت بحقيبةٍ ملأى بمالٍ أحدث نفسي وأقول: "هذا المال هو تذكرة الأمان لي ولأسرتي، ليس لآخر الشهر فقط، وإنما لآخر العمر إن شاء الله!". مع آخر كلمةٍ فكرتُ فيها، تسمرتُ قدماي في مكانهما، وكأنما شُلتا! أفقتُ على صوتٍ بداخلي يُنبهني، يوقظني من غفلتي: "هل قلتَ إن شاء الله؟! هل تذكر الله وأنت تسرق؟! هل تذكر الله وأنت تخون الأمانة؟!". تذكرتُ فجأةً الآية الكريمة ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾؛ فأصابني ما يشبه الصعقة الكهربائية، أفقتُ وبدأتُ أسائل نفسي: "هل هذا هو أنا الذي فكرتُ في الاستيلاء على مالٍ ليس لي؟! أم هو شيطاني اللعين أوحى لي بهذا العمل وزينه في قلبي؟! كيف أرضى لنفسي ولأسرتي أن نعيش من مالٍ حرام؟! حتى وإن كان هيثم لا يعلم شيئاً عن هذا المال، ألا يراني الله ويعلم ما أفعل؟! هل أنا الذي عشتُ عمري كله شريفاً أميناً أسرق الآن وأخون الأمانة؟! يا للعار! ما الذي أفعله؟! هل جُننت؟!".

انتهت لحظات الحساب مع النفس سريعاً؛ ووجدتُ نفسي وقد غيرتُ اتجاهي من طريق العودة إلى البيت إلى طريق الذهاب إلى مقر الشركة.

تحولتُ في لحظاتٍ من إحساسي بأني أسرق وأخون، إلى إحساسٍ آخر، هو الشعور بالراحة والسعادة أني جاهدتُ نفسي الأمارة بالسوء، وانتصرتُ على شيطاني. إحساسٌ طاغٍ بالعزة والفخر، والإيمان بأن الله الذي رزقني كل تلك السنوات هو الذي سيتولاني ويسترني ويرزقني في آخر عمري، كيف يكون ذلك؟ لا أدري، لكني تذكرتُ آيةً واحدةً وقتها: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، فوجدتُ روحي وقد امتلأت أملاً وسلاماً.

وصلتُ إلى باب الشركة، دلفتُ مسرعاً أخاف أن تخور إرادتي أو تضعف عزيمتي، اتجهتُ فوراً إلى مكتب مَن ظلمني؛ مكتب هيثم، دخلتُ عليه دون استئذان، لأجده جالساً والدهشة تملأ وجهه، وهو يمسك بورقةٍ في يده، علمتُ فيما بعد إنها خطابٌ من والده له، وضعتُ حقيبة المال في هدوءٍ أمامه، وحكيتُ له قصتها، والدهشة تزداد على وجهه، وعيناه حائرتان بين حقيبة المال أمامه والورقة في يده! هممتُ بالخروج وأنا في قمة الفخر، مع حزنٍ راودني حين تراءت لي أطياف أبنائي وهم في انتظاري أول الشهر يمدون أيديهم لي! ليوقفني نداء هيثم مليئاً بما يشبه الاعتذار: "انتظر يا عم صلاح!"، التفتُ إليه لأتفاجأ به؛ وجهه بشوشٌ مبتسمٌ، يمد يده بالورقة التي كان يقرأ فيها لحظة دخولي عليه، لأتناولها وأقرأ ما بها:

ولدي العزيز

أعرف أن أول قراراتك هي طرد عمك صلاح من العمل؛ فأنت تكرهه منذ أن أفشى سرك لي، وكان الأجدر أن تحترمه لأمانته. اعلم يا بني أنك الخاسر إن لم يعد عمك صلاح إليك مرةً أخرى، ولكن إن عاد -وهذا ظني به- فسوف يكون ليعطيك درساً قاسياً، حينها أعطه الشيك المرفق بالخطاب، واعلم إنه كان رفيق دربي وكفاحي لنصنع لك تلك الشركة الكبيرة".

أجهشتُ بالبكاء مع آخر كلمات الخطاب، وأقبل هيثم يحتضنني بقوةٍ، وهو يردد "أنا آسف يا عم صلاح" وأعطاني الشيك، فإذا قيمته أضعاف ما كنتُ سوف أختلسه من مالٍ بالحرام! وصار لي بالحلال مالٌ أستطيع أن أكمل به باقي عمري -أنا وأسرتي- في عزةٍ، وأودع أيام آخر الشهر إلى الأبد!

 

أحبتي في الله .. عرضتُ عليكم هذه القصة كما نُشرت على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعديلاتٍ طفيفةٍ وإضافاتٍ قليلة.

ما أبرك الحلال وإن قلَّ، وما أمحق الحرام وإن كَثُر، وما أروع أن يحصل الإنسان على ثواب (رد الأمانات إلى أهلها) بأسرع مما يتصور، ومع ذلك فلحكمةٍ ربانيةٍ، قد يؤخر الله سبحانه وتعالى حصول الإنسان على ذلك الثواب إلى وقتٍ بعيد، وقد يدخر له ذلك إلى يوم الحساب.

لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، قال المفسرون إن هذه الآية من أمهات الأحكام؛ تضمنت جميع الدين والشرع؛ فاللّه تعالى يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق اللّه عزّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك، مما هو مؤتمنٌ عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أُخذ منه ذلك يوم القيامة؛ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ]. {"يُقَاد": يُقتص، "الْجَلْحَاء": التي ليس لها قرن، "الْقَرْنَاء": التي لها قرن}.

 

وأكد الله سبحانه على ضرورة أداء الأمانة؛ يقول تعالى: ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ﴾، ويقول في وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾، ونهانا سبحانه عن خيانة الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ونهانا عن أكل أموال الناس بالباطل؛ يقول تعالى: ﴿وَلا تَأكُلوا أَموالَكُم بَينَكُم بِالباطِلِ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ]، وقال عليه الصلاة والسلام في وصف المنافقين: [أَرْبَعٌ مَنْ كنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حَتّى يَدَعَهَا: إِذا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا عاهَدَ غَدَرَ، وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ]، كما قال: صلى الله عليه وسلم: [لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ]، وقال كذلك: [مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ].

 

أما العلماء فيقولون إن الأمانات في حقيقتها هي ما أؤتمن عليه الإنسان المكلف من الأوامر والنواهي الشرعية؛ من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وفرائضَ وحدودٍ وغير ذلك من التكاليف؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾. ومن الأمانات؛ الودائع التي للناس، فإن الواجب على المرء أداء الأمانة في ذلك حتى يحصل له الثواب من الله جلَّ وعلا، كما إن الإخلال في أداء الأمانة يُعرض المرء للعقاب. إن عدم رد الأمانات إلى أصحابها هو سُحتٌ نهانا الله عنه؛ يقول تعالى: ﴿وَتَرى كَثيرًا مِنهُم يُسارِعونَ فِي الإِثمِ وَالعُدوانِ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ ما كانوا يَعمَلونَ﴾، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ].

 

جعل الشرع الحنيف كفارة خيانة الأمانة أن نستغفر الله تعالى، ونندم على ما فعلنا، ونعزم ألا نعود إلى ذلك أبداً، ونرد الأمانات إلى أصحابها.

ويقول أهل العلم إن خشية الإنسان من الفضيحة لا تبيح له عدم (رد الأمانات إلى أهلها) والتحلل منها، ولا يحملنا الخجل على عدم الوفاء وأداء الأمانة إلى أهلها، فإن الحياء من الله وإبراء الذمة والتحلل من الإثم أحق من الخجل من مقابلة أصحاب الحقوق، لنخلص أنفسنا في الدنيا قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهمٌ يوم القيامة، فتُوفى حقوقهم من حسناتنا، أو يوضع علينا من سيئاتهم فنُلقى بها في النار والعياذ بالله‏.‏

 

وليست جميع الأمانات ماليةً كالنقود والأموال، وليست جميعها ماديةً كالأراضي والشقق والسيارات وما شابه، فبعض الأمانات أدبيةٌ ومعنويةٌ كأمانة الكلمة، وأمانة الفتوى، وأمانة حفظ السر، وأمانة الرعاية لمن نلزم برعايتهم، وغيرها من أماناتٍ مماثلة.

ومن أهم وأخطر ما علينا من ديونٍ -نكاد لا نتذكرها أو نشعر بها- ما صدر منا من غيبةٍ ونميمةٍ وكذبٍ وافتراءٍ وشهادة زورٍ ورمي محصناتٍ وتهكمٍ وسخريةٍ وتنابزٍ بالألقاب؛ إنها أمانات للآخرين يتوجب علينا ردها، وطلب السماح من أصحابها وأهلها. وتظل أهم الأمانات الواجب عدم التفريط فيها أبداً، ما تعلق بالعقيدة والعبادات؛ وفي مقدمتها الصلاة وصلة الأرحام.

 

أحبتي .. ليبدأ كلٌ منا بمحاسبة نفسه؛ هل يؤدي أمانات الله كما ينبغي؟ هل يصلي، هل يصوم، هل يزكي، على الوجه الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى؟ هل توفرت له استطاعة الحج فحج؟ أم أجلّ وسوَّف حتى ضاعت فرصة أداء ركنٍ من أركان الإسلام؟ ثم لنسأل أنفسنا عن حقوق الغير علينا؛ هل نقوم بحقوق الوالدين كما ينبغي؟ هل نصل أرحامنا كما أمرنا الله؟ وماذا عن حقوق أزواجنا وأبنائنا، هل نؤديها على وجهها الأكمل؟ وحقوق إخواننا وأخواتنا كيف نؤديها؟ هل نؤدي حقوق الجيران؟ ثم حقوق الغير التي في رقابنا؛ من ديونٍ وعهودٍ ووعودٍ هل أوفينا بها؟ هل ما يزال لبعض الناس حقوقٌ علينا؟

حقوق الغير هي أماناتٌ علينا أن نؤديها ونردها إلى أهلها، والقاعدة التي نُلزم بها أنفسنا في التعامل مع حقوق الغير هي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ].

فلنسارع أحبتي إلى (رد الأمانات إلى أهلها) قبل أن يداهمنا الوقت ويحين الأجل وما تزال في رقابنا أماناتٍ لم نؤدها.

أعاننا الله سبحانه وتعالى على إنقاذ أنفسنا من حسابٍ عسير، والتصدق على أنفسنا بثوابٍ كبير.

 

https://bit.ly/2VHOVGW