الجمعة، 18 فبراير 2022

تسريحٌ بإحسان

 

خاطرة الجمعة /331


الجمعة 18 فبراير 2022م

(تسريحٌ بإحسان)

 

من مذكرات أحد الأئمة:

لقيته مرةً جالساً في المسجد حزيناً كئيباً؛ فوقفتُ على رأسه وقلتُ له مداعباً: "قال رجلٌ لآخر: هل زوجتك من النوع النكد؟! فرد عليه صاحبه: وهل هناك نوعٌ آخرٌ؟!"، فنظر إليّ نظرةً ملؤها الحزن، ثم أشاح بوجهه، وأشار إليّ بيده أن اجلس؛ فجلستُ بجواره مستغرباً وقلتُ: "ما بك؟!"، فاستدار، وزفر زفرةً مُخيفةً، ظننتُ أنها خرجت معها بنار!، ثم قال: "أنا منذ سنواتٍ أُعاني من عدم التفاهم بيني وبين زوجتي، وهي كذلك!"، سألتُه: "هل تمزح؟!"، قال: "لا والله، لا أقول إلا الحق" ثم أكمل قائلاً: "طلقتُها البارحة!"، فاندهشتُ وقلتُ: "هكذا بكل بساطة؟! أنسيتَ العِشرة؟! ألا تتذكر لها أية حسنة؟ وبناتك؟ ألم تفكر فيهن؟"، رد عليّ قائلاً: "يا أخي لا تعجل، امرأتي واللهِ إنسانةٌ فاضلةٌ نبيلةٌ، وهي …"، قاطعتُه بسؤالي: "وتُطلقها رغم فضلها ونبلها؟ ما هذا الكلام؟!"، رد بقوله: "أنت الذي بدأتَ الكلام معي، فإمّا أن تستمع لي، أو تُغيّر الموضوع"، اعتذرتُ منه وقلتُ: "آسف، أكمل!"، قال: "ولأنها نبيلةٌ وفاضلةٌ فقد جلستُ معها البارحة جلسة مصارحةٍ، بناءً على رغبتها، ودار بيننا حوارٌ طويلٌ، ثم قالت لي بالحرف الواحد: أنا أحترمك جداً، لكني لا أشعر تجاهك بحبٍّ، ولا أستطيع الاستمرار معك في هذه المعاناة، وأنت رجلٌ طيبٌ، ولا أريدُ أن أظلمك أو أظلم نفسي، فقلتُ لها: فما الحل؟! قالت: أن تُطلقني وأنت عني راضٍ، ونتفق على كيفية زيارتك للبنات، هذا إن سمحتَ لي أن أقوم برعايتهن، والأمر لك. فدمعت عيناي، وأكبرتُها جداً، وقد كنتُ أدعو الله تعالى أن يُنير لنا الطريق الصحيح، ثم قلتُ لها: أسأل الله تعالى أن يُعوضك خيراً مني، فقالت: وأنا أشهد لله أنك طيبٌ، وأسأل الله أن يُعوضك خيراً مني. ثم طلقتُها وخرجتُ من البيت باكياً، أهيم في الشوارع كالمجنون، فما هانت عليّ الذكريات الجميلة، وما هانت عليّ هي، ولا بناتي، لكني كنتُ أمام أمرين أحلاهما مرٌّ. وبعد قُرابة ساعتين، رجعتُ إلى البيت وإذا بها قد حزمت حقائبها وجلست تنتظرني؛ فأعطيتُها مبلغاً من المال ثم أوصلتُها إلى بيت أهلها ومعها بناتي الصغار؛ فودعتني وهي تبكي. والآن أشعر بفراغٍ كبيرٍ جداً في حياتي، ولستُ أثق في أحدٍ أشكو له حالي إلاّ الله". فحزنتُ لكلامه جداً، وقلتُ له: "أُقسم بالله سيعوضك الله خيراً؛ فأنت رجلٌ شهمٌ وعظيم الأخلاق". وفي الحقيقة فقد ذرفت عيناي ولم أستطع أن أُكمل جلوسي معه فاستأذنتُه وقمتُ، وأنا أدعو له كثيراً. كنتُ أراه في المسجد منهمكاً في الدعاء، ولم أكن –حينها– معروفاً كثيراً بين المصلين، ولم أكن إماماً، بل كنتُ طالب علمٍ صغيرٍ – ولم أزل والله– فكنتُ أمكث في المسجد بعد الصلوات أحياناً، كنتُ أشاهده دائماً على هذا الحال منفرداً بنفسه. ثم فرقت الأيام بيننا، وبعد سنواتٍ رأيتُه صدفةً يركب سيارته فما كدتُ أصدق عينيّ؛ فصحتُ به من بعيدٍ فالتفت فلما رآني أشرق وجهه وابتسم ابتسامةً حبيبةً وأوقف سيارته ثم أقبل نحوي مُسرعاً؛ فلما وصل صافحني بحرارةٍ وضمّني ضمةً أحسستُ بأضلاعي تطقطق منها! وكان طويلاً جسيماً وأنا .. لن أقول لكم! سألتُه: "ماذا صنع الله بك بعدي؟!" قال: "هل عندك وقتٌ؟"، قلتُ: "نعم"؛ فركبتُ معه وانطلق بالسيارة ثم انطلق في الحديث! قال: "أتذكر تلك القصة؟!"، قلتُ: "لقد حُفِرت في قلبي وعقلي!"، قال: "فإني كنتُ يوماً في المسجد، وإذ برجلٍ كبير السن، وقورٍ، ذي لحيةٍ بيضاء، يرمقني من بعيدٍ، ثم اقترب مني فإذا هو أبو فلان، قمتُ إليه، وصافحته، فقال لي: "اجلس!" فجلس وجلستُ معه، قال: "يا بُني؛ منذ فترةٍ طويلةٍ وأنا أراقبك، وأراك تُطيل الجلوس بعد الصلاة في المسجد لوحدك، هل تُعاني من ديون؟!"، فضحكتُ وقلت: "لا يا عم، لكني أمرُّ بظروفٍ عائليةٍ، وإن شاء الله تعالى يُفرّجها"، قال: "أهي سرٌّ؟!"، قلتُ: "عنك أنت؟ لا". ثم أخبرتُه بالقصة كلها فتأثر جداً، ثم سألني: "فلماذا لم تتزوج حتى الآن؟!"، قلتُ: "على يدك!"، فنظر إليّ وقال: "هل أنت جادٌ؟!"، قلتُ: "نعم!"؛ فأخذ بيدي وأقامني بقوةٍ وقال: "قُم معي!"، فقمتُ معه كالمسحور! فمشينا حتى أدخلني بيته، وتركني في المجلس، ودخل على أهله، وغاب عني قرابة ربع ساعةٍ مرت كأنها أربع ساعات! ثم عاد إليّ وأنا غارقٌ في العرق!، قال لي: "يا ولدي .. بعد قليلٍ تدخل علينا بنتي بالقهوة؛ إن أعجبتك فهي زوجتك، وإلاّ فالحمد لله ما صار شيء!"، فغصصتُ بريقي، ونظرتُ إلى ثوبي، وعدّلتُ من عقالي، وتسمّرتُ مكاني، فإذا بقطعة قمرٍ تدخل علينا من الباب، لها ابتسامةٌ خجولةٌ، نظرها إلى الأرض، لم أرَ بدراً ضاحكاً قبل وجهها، ولم ترَ هي قبلي ميّتاً يتكلمُ! دخلتْ تحملُ شيئاً بين يديها، فوضعتْه بيني وبيني أبيها، ثم انصرفتْ! اكتشفتُ بعد أن أفقتُ من ذهولي أنّ هذا الشيء هو القهوة! مسحتُ جبيني والتفتُّ لأبيها وقلتُ مُداعباً: "الله يهديك يا عمّ أحرجتَ البنت؟!"، فضحك وقال: "البنت أم أنت؟!"، ثم سألني: "ما رأيك في العروسة؟!"، قلتُ: "موافق!"؛ فضحك وقال: "أحضر لي غداً 5000 ريال مهرها، ومأذوناً شرعياً، وحياك الله تأخذ زوجتك والله يبارك لكما!"، قلتُ: "يا عمي 5000 آلاف قليلة، وأنا أيضاً أحتاج إلى أن أُجهز نفسي، وأشتري للبنت حاجاتها، و..."، قاطعني وقال: "لا حاجة لذلك؛ أنت عندك بيت، وكل شيءٍ ستجده جاهزاً غداً عندي إن شاء الله. أنت تستحق كل خير". قال: "فتزوجتُها .. والآن عندي منها ولدان، وبناتي يعشن معنا، ولا أزال على ذكرى طيبةٍ بزوجتي الأولى، وأدعو لها دائماً"، قلتُ: "هل تذكر أني قلتُ لك إن الله سيعوضك خيراً لأنك شهمٌ؟ لم تخن العشرة، ولم تجرجر زوجتك وأهلها في المحاكم وأقسام الشرطة، ولم تفترِ عليها وعليهم الكذب، بل تتحدث عنهم بخيرٍ في كل مجلس، لم تبتزها حتى تحصل على مالٍ مقابل طلاقها منك. أنت والله شهمٌ ورجلٌ بمعنى الكلمة"، قال: "أتوقع أنك ستفضحني في دروسك، ومقالاتك"، قلتُ: "اطمئن!".

 

أحبتي في الله .. هذا نموذجٌ رائعٌ لمسلمٍ تقيٍ ألزم نفسه بالتوجيه الإلهي (تسريحٌ بإحسان) والذي ورد ذِكره في قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.

قال المفسرون لهذه الآية إن المُراد بها التعريف بسُنة الطلاق، أي من طلّق اثنتين فليتقِ الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومةٍ شيئاً من حقها، وإما أمسكها مُحسناً عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين. والطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظٍ مخصوصة. وهو مباحٌ بهذه الآية وبغيرها، وبقوله عليه الصلاة والسلام: [فإن شاء أمسك وإن شاء طلق]، وقد طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها. وأجمع العلماء على أن من طلّق امرأته طاهراً في طُهر لم يمسها فيه أنه مطلّقٌ للسُنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطبٌ من الخطاب.

 

وكتبت إحداهن مقالاً جميلاً حول هذا الموضوع عنوانه (تسريحٌ بإحسان) قالت فيه إنّ من أبلغ الآيات التي تحدثت عن العلاقة الزوجية وعن حق المرأة في حال الانفصال، قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، حفظتْ هذه الآية حق الزوج في الاختيار، وحفظتْ وجوباً كرامة المرأة وحقوقها كزوجةٍ أو طليقة. الحياة الزوجية عمادها المودة والرحمة، وأحد أهدافها الإعفاف وسد الاحتياجات الطبيعية، لكن يحدث اليوم استمرار الحياة الزوجية على الرغم من الانفصال العاطفي بين الزوجين، وتمضي أيامهما في غربةٍ وصمتٍ أو في شتاتٍ بين بيت الزوجية وبيت الأهل، فقط للاستمرار في ذات الشكل الاجتماعي أو خوفاً من تبعات الطلاق، وقد ينتهي المطاف بالزوجة إلى القضاء كطريقٍ لا تتمناه للبت في حالها. نعم، الأصل في عقد الزواج التأبيد، لكن مع استحالة العشرة يكون الانفصال هو المُقدَم على الاستمرار، ولا يوجد ما يُبيح للرجل تعليق زوجته وتركها متذبذبةً؛ فلا هي أخذت حق الزوجية كاملاً، ولا هي خرجت من ذمته فتسعى لحياةٍ أخرى كريمة. ولأن العصمة في الزواج بيد الرجل، كان حل تلك العصمة المنعقدة بيده، وكان العبء الأكبر عليه في رسم مسار تلك الحياة بالاستمرار أو الفراق، وكلا الأمرين شرطهما إكرام المرأة وإعزازها، وعدم إيذائها بالمن عليها وظلمها بمساس شيءٍ من حقوقها المالية والنفسية والعاطفية والاجتماعية. استضعاف المرأة والضغط عليها من خلال أي جانبٍ من تلك الجوانب يعتبر إضراراً بها ومنافياً للإحسان وللمعروف الذي أُمِر الرجل بمراعاته معها والالتزام به، الكيد للمرأة في نفسها أو في أبنائها والانتقام منها بطول مقاطعتها أو تعطيل مصالحها أو تأخير طلاقها أو المبالغة في التعويضات المتفق عليها للانفصال أو إخراجها من بيتها قبل انقضاء عدتها أو الحديث بما يُشير إليها أو إلى خصوصيتها ولو تلميحاً، كلها تُعتبر من التعدي عليها، وتُعد مخالفةً صريحةً للأمر الوارد في هذه الآية الكريمة، والمدعوم بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا﴾. يجب أن نجعل من قرآننا وأخلاقنا أفعالاً تُرى، وليس شعاراتٍ تُرفع.

 

وعند وقوع الطلاق يكون الأبناء هُم أول ضحاياه؛ الأمر الذي دفع إحدى الصحافيات للتساؤل: لماذا لا يُفكر الزوج والزوجة في مصير أطفالهما بعد الطلاق؟ هل يضمنان الحالة النفسية التي سيكون الأطفال عليها بعد الانفصال؟ هل فكرا في مستقبل أبنائهما والحالة التي سيكونون عليها بعد أن تتأزم نفسياتهم وتنعكس المشكلات على شخصياتهم وتوجهاتهم وطرق تفكيرهم؟ وما هو حال الصغار مع زوجة الأب أو مع زوج الأم؟ ومن يضمن ألا يكره الصغار آباءهم أو أمهاتهم؟ خاصةً ونحن نرى كيف يتبارى بعض الآباء والأمهات في تشويه صور بعضهم بعضاً لدى أطفالهم؛ مما يؤدي إلى مشكلاتٍ نفسيةٍ يُعانون منها، لا يعلم مداها إلا الله عزَّ وجل.

 

لا شك في أن الطلاق هو آخر ما يجب التفكير فيه إذا استحالت العشرة بين الزوجين، لكن هناك مرحلتين مهمتين تسبقانه، يجب ألا يحرم الزوجين المتخاصمين نفسيهما منهما، الأولى هي مرحلة الصلح؛ وتكون بالتفاهم ومحاولة حل المشكلات وإعادة النظر في السلوكيات التي كانت سبباً في سوء الفهم والخصام بين الزوجين، مع التسليم بأنه في هذه المرحلة لابد أن يُقدم كل طرفٍ بعض التنازلات كي تعود المياه إلى مجاريها؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾. أما المرحلة الثانية فهي التحكيم؛ وتكون بتدخل الحكماء من أهل الزوج وأهل الزوجة بهدف الإصلاح ببنهما؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾.

 

أحبتي .. أختم بفقرةٍ منشورةٍ في إحدى الصحف استوقفتني، يقول كاتبها: "أنتم أيها المندفعون نحو المجهول، أعيدوا التفكير في الأمر، فتشوا في أعماقكم فقد يجد كلٌ منكم شيئاً من التقصير في داخله لم يتنبه إليه سابقاً، صحيحٌ أنّ هناك مشكلةً ما تدفع إلى الفراق، لكن من يدري، فربما يكون هناك شيءٌ آخر جديرٌ بإعادة التفكير والتأني".

أحبتي إذا وصل الزوجان إلى ما لا نتمناه -وهو الطلاق- فليتذكر كلٌ منهما قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وليكن حرصهما وقتها على أن يتم إنهاء الحياة الزوجية مع الالتزام الكامل بالتوجيه الرباني (تسريحٌ بإحسان).

وفقنا الله لما يُحب ويرضى، وأبعد الفُرقة والخصام عن بيوتنا، ومتعنا بالوئام والانسجام والمودة والرحمة.

https://bit.ly/3LLTLMv

الجمعة، 11 فبراير 2022

مودةٌ ورحمةٌ

 

خاطرة الجمعة /330


الجمعة 11 فبراير 2022م

(مودةٌ ورحمةٌ)

 

في أحد الأيام دخل طبيبٌ إلى عيادته في الساعة العاشرة صباحاً، ودخل رجلٌ عجوزٌ تجاوز السبعين من عمره، جاء لإزالة بعض الغرز من إصبع قدمه المُصاب، كان العجوز متعجلاً من أمره فقال للطبيب: "أرجوك أيها الطبيب فك الغرز سريعاً؛ فلديّ موعدٌ هامٌ في العاشرة والنصف"، تساءل الطبيب في نفسه متعجباً، ماذا يمكن أن يكون موعد العجوز المسن؟ وأين سيذهب؟ فسأل الطبيب الرجل بفضولٍ شديدٍ: "أين ستذهب يا أبي في هذا الوقت؟"، ابتسم العجوز قائلاً: "سوف أذهب لأتناول طعام الإفطار مع زوجتي العزيزة في دار المسنين يا بُني". اندهش الطبيب وسأل الرجل: "كيف تضع زوجتك في دار مسنين؟"، فرد العجوز: "هي مصابةٌ بمرض الزهايمر؛ ولا تستطيع تذكر أي شيءٍ"، فقال الطبيب: "وهل تغضب زوجتك إذا تأخرتَ عنها يا أبي؟"، رد العجوز من بين دموعه: "هي لم تعد تتذكرني يا ولدي منذ سنواتٍ كثيرةٍ، ولا تعرف من أكون"، تعجب الطبيب بشدةٍ وقال: "وإن كانت زوجتك لا تتذكرك ولن تغضب منك إذا تأخرتَ؛ فلماذا تُتعب نفسك وتذهب إليها كل يومٍ بدار المسنين؟"، قال العجوز وهو يبتسم: "يا ولدي هي لم تعد تتذكرني، لكنني لا زلتُ أتذكرها وأحبها؛ فلن أنسى سنوات عمرنا التي قضيناها معاً وذكرياتنا الكثيرة وأيامنا الجميلة التي مضت". بكى العجوز بحُرقةٍ، ثم رحل ليلحق موعده مع زوجته.

 

أحبتي في الله .. إنها (مودةٌ ورحمةٌ) بين زوجين عاشا معاً الحياة بحُلوها ومُرّها، جعلها المولى عزَّ وجلَّ بين الأزواج لتكون مفتاحاً لكل خيرٍ، وسبباً لكل سعادةٍ، وباباً يُفضي إلى السكينة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ومن أفضل ما قيل عن هذه الآية الكريمة إنها تتضمّن آيةً من آيات الله الكونيّة، وهي أنّ الله تعالى قد جعل الزَّواج سكناً، وجعل بين الزَّوجين -مهما تباعدا في النَّسب- مودةً ورحمةً؛ وبالتالي فإنّ الشِّقاق بين الزَّوجين -إن حدث- هو خلافُ الأصل، لابد أن يُعالج؛ إذ أن كلَّ واحدٍ من الزوجين يعلم وقتها أنه قد خرج عن الأصل الَّذي تُبنى عليه العلاقة الزوجية؛ فإنّ فقدان المودَّة والرَّحمة، أو ضعفهما وعدم السَّكن والاستقرار، داءٌ ينبغي معرفة سببه؛ ليتيسَّر علاجه، فليقف الزوجان وقفةً متأمّلةً، عند هذه الآية الكريمة، ويجتهدان في النظر إلى مسار حياتهما ليعرفا سبب العلّة والداء، ومن ثمّ يتطلّعان إلى معرفة الشفاء والدواء، والعودة إلى حال الصِّحَّة والعافية.

 

إنّ أعظم صور المودة والرحمة تتجلى في الوفاء من الزوج لزوجته ومن الزوجة لزوجها. وعن هذا الوفاء اطلعتُ على قصةٍ قصيرةٍ يقول صاحبها: مرت عدة أشهرٍ على زواجي، وزوجتي الآن نائمةٌ بجانبي، وأنا أتابع التلفاز، فجأة اهتز هاتفي، نظرتُ إلى شاشته فإذا بي أجد هذه الرسالة "أنا فلانة، سمعتُ أنك تزوجتَ لكني ما زلتُ مشتاقةً لك"، إنها صديقةٌ قديمةٌ؛ فتاةٌ جميلةٌ وأنيقةٌ. أغلقتُ الرسالة ونظرتُ إلى زوجتي فإذا هي في سُباتٍ عميقٍ من تعب النهار وأعراض الحمل، تأملتها كثيراً، وفي رأسي أكثر من سؤال: مَن أعطاها هذا الأمان لتنام بهذا النوم العميق في بيتٍ جديدٍ عنها بعيدةً عن بيتها الذي قضت فيه ستاً وعشرين سنةً، وأهلها الذين نشأت بينهم؟ ما الذي جعلها تترك كل شيء وتأتي معي لبيتٍ جديدٍ عنها لتهتم بي؛ تطبخ وتغسل وتسهر على راحتي؟ بل وفوق هذا هي الآن نائمةٌ مطمئنةٌ وواثقةٌ أنها بجانب رجلٍ يتكفل بحراستها؛ فأمسكتُ هاتفي وقمتُ بحظر صاحبة الرسالة، والتفتُ إلى زوجتي، ونمتُ بجانبها؛ فأنا رجلٌ لا أخون زوجتي التي وثقت بي، وتركتْ أهلها وبيتها وإخوتها من أجلي، لن أُدمر عائلتي، ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.

 

وهذا رجلٌ نبيلٌ لم يتفق مع زوجته فذهب ليطلقها؛ فسألوه عن سبب طلاقها فقال: "لا أتحدث عن زوجتي بما يسوؤها ولا أفشي سراً لها". وبعد أن طلقها قالوا له: "الآن طلقتها، فأخبرنا عن سبب طلاقك لها"؛ فقال: "لا يحل لي أن أتكلم عن امرأةٍ صارت أجنبيةً عني". إنها أخلاق الرجال عندما تتأصل في نفوسهم قيم النبل والوفاء، كأني به وقد امتثل لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.

 

الوفاء -يقول أحدهم- ليس محصوراً في الأساطير، ولا في القصص النادرة التي تُحكى، إنه سلوكٌ يحملنا على الامتنان للناس الذين قضوا معنا جُزءاً طيباً من حياتنا، فنذكرهم بالخير، ونُثني عليهم بما هُم أهله، وننسى ما نُظنه إساءةً أو خطأً في حقنا، ونتذكر معهم قول الله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾. الحياة الزوجية ليست شراكةً اقتصاديةً تقوم على الكسب، ولا رفقةَ سفرٍ عابرٍ، إنها امتزاجُ روحٍ بروح، ودمٍ بدم، هي مستقبلٌ واحدٌ، وأسرةٌ واحدةٌ، ويا لجمال التعبير القرآني حين يصف عقد الزواج بـ "الميثاق الغليظ"، والسياق يجعل الميثاق هنا لصالح المرأة، وأنها أخذته من الرجل ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾. وحين يُعبر عن الزوجية بأنها سكنٌ و(مودةٌ ورحمةٌ) هنا لم يذكر الجانب المادي البتة. الوفاء خُلُقٌ إنسانيٌ رفيعٌ، ومعنىً شريفٌ، وعلاقةٌ جميلةٌ، لن تأتي حينما نقتصر على انتظارها من الآخرين، أو حين نلومهم على التفريط فيها، إنما تأتي حينما نرمي بسهمنا فيها، ونبدأ بصياغة حروفها الأولى؛ ليجد الشريك الآخر نفسه منساقاً طوعاً إلى مجازاة الجميل بالجميل، ومقابلة الحُسنى بالحُسنى، وكلما عرض عارضٌ بقطع حبل الود استدعى الوفاء ساعات الصفاء وتناسى الجفاء. وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ؛ جاءت محاسنه بألف شفيع. صحبة الزوجين تعني رصيداً عاطفياً يكبر مع الزمن، تعني شجرةً تمتد أغصانها وتبسق، وتضرب جذورها في أعماق التربة، وليست صلةً مصلحيةً آنيةً تزول بمرور الزمن، ولا شجرةً سريعةَ الذبول يجتثها صاحبها ليغرس بدلاً منها غيرها دون تردد. أليس لنا في رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنةٌ؟ لقد ظل وفياً للسيدة خديجة -رضي الله عنها- حتى غارت منها السيدة عائشة -رضي الله عنها- وقالت: "أبدلك الله خيراً منها"، فقال عليه الصلاة والسلام: [ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ]. الحياة الزوجية أخذٌ وعطاءٌ، فهي تصالحٌ وتسامحٌ، وإعراضٌ وإغماضٌ، وتراحمٌ وتلاحمٌ. والحب والوفاء والمروءة والمودة والرحمة والإيثار هي الأُسس التي تطيب معها النفوس، وتحلو بها الحياة.

 

وفي وصفةٍ سحريةٍ للسعادة الزوجية التي قوامها (مودةٌ ورحمةٌ) بين الزوجين كتب أحدهم: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من التراب، ثم خلق حواء من ضلعه، فحواء بهذا المفهوم هي جزءٌ من آدم، والجزء مفطورٌ على أن يتبع الكُل، والكُل مفطورٌ على أن يقود الجزء؛ فالرجل قائد المرأة لا سيدها، والمرأة تعيش في كنفه وليست أمَته، لم تكن القضية يوماً من يُسيطر على من؟ ولا من يُلغي من؟ القضية كانت دوماً في أن يحنو الكُلّ على جزئه، وأن يحتمي البعض بكُلّه. وحين فطر الله الرجل ليكون قوّاماً، هذا يعني أنه جعل المرأة إحدى مسؤولياته، لا إحدى ممتلكاته! وحين فطر المرأة لتعيش في كنف الرجل، فلأنه فطره أولاً أن يُحب رقتها، ويستعذب لجوءها إليه، لجوءٌ أنثويٌ تُمارس فيه المرأة فطرتها دون أن تشعر أن إنسانيتها تُمتهن، إنها الطريقة المتقنة التي أبدعها الله لتستمر الخليقة؛ فالرجل حين يتصرف على أساس أنه يحمي امرأته ويعطف عليها، لا يشعر أنه يتصدق عليها بقدر ما يشعر أنه يحقق رجولته. والمرأة حين تعيش رقيقةً في كنف رجُلها، لا تشعر أنها تابعةٌ له، بقدر ما تشعر أنها تحقق أنوثتها. هناك بيوتٌ كثيرةٌ تقود فيها النساء الرجال، اسألوهن هل هنّ سعيدات؟ سيخبركن أنهن يشتهين رجلاً يُمسك زمام الأمور مكانهن، لأنهن يمارسن وظيفة غير التي خُلقن لها، ويلعبن دوراً خارج السيناريو المكتوب بإتقان. أحياناً تُضطر المرأة أن تسد مكان الرجل، ولكنها تفعل ذلك من باب الاضطرار لا من باب الرغبة، لو كان الأمر إليها ما اختارت أن تلعب دوراً غير ذلك الذي خُلقت له. اسألوا النساء اللواتي يظهرن على أنهن يتصرفن كيف شئن وكيف يشعرن، ستخبركن كل واحدةٍ منهن أنها تشتهي رجلاً يغار عليها. ستحدثكم أنها تبيع الدنيا لأجل رجلٍ قد يرتكب جريمةً إذا حاول أحدٌ أن يمسّ شعرةً من رأسها. ستحدثكم كم تتمنى أن يهديها رجلٌ يحبها هديةً رغم أن بإمكانها أن تشتري ما تريد. الأشياء البسيطة التي لا تأبهون بها ثروةٌ في عيون النساء، لأنهن خُلقن أن يسعدن بالقليل. اسألوا النساء عن رجلٍ يضع يده في يدها ليعبر بها الطريق، رغم أنها تستطيع أن تعبره وحدها. اسألوا النساء عن رجلٍ يضع يده على جبينها يتحسس حرارتها حين تمرض، رغم أن عندها ميزان حرارة. اسألوا النساء عن رجلٍ يهديها وردةً، رغم أن لديها حديقة. اسألوا النساء عن رجلٍ يخلع معطفه ويلبسها إياه في يومٍ ماطرٍ، رغم أنها لا تشعر بالبرد. اسألوا امرأةً عن رجلٍ يكتب لها أحبك دون مناسبة، رغم أن لديها مئة ديوان شعر. اسألوا امرأةً عن رجلٍ يُعدّ لها كوب عصيرٍ، رغم أن عندها خادمة. هؤلاء الرجال لا يُسعدون النساء فقط، هؤلاء يُحلقون بهن إلى السماء، لأن الجزء فيه جوعٌ لاهتمام كُلّه به. أخيراً، ليتذكر كل زوجٍ أمر الله له، والذي تدوم به السعادة الزوجية؛ يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

 

أحبتي .. أختم بآيةٍ كريمةٍ وحديثين من الأحاديث الشريفة؛ أما الآية فأوجهها إلى كلا الطرفين، الزوج والزوجة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. والحديث الأول أوجهه لكل زوجٍ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا]، وأما الثاني فأوجهه إلى كل زوجةٍ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا].

اللهم أصلح ذات بيننا، واجعل اللهم في كل بيتٍ من بيوتنا سكناً وسَكينةً، ومحبةً ووفاءً، واكتب لأسرنا أن تسودها (مودةٌ ورحمةٌ) لتتحقق السعادة الزوجية ويعم الوئام والانسجام؛ فينشأ أبناؤنا في بيئةٍ إسلاميةٍ صحيحةٍ يتعودون فيها من صغرهم على الحب والتعاطف والإيثار والوفاء.

https://bit.ly/3Bf0lGk

الجمعة، 4 فبراير 2022

بين الأخ وأخته

 

خاطرة الجمعة /329


الجمعة 4 فبراير 2022م

(بين الأخ وأخته)

 

قصةٌ مؤثرةٌ ذكرتها إحدى الأخوات الداعيات؛ تقول: أُصيبت فتاةٌ سعوديةٌ بالثانوية العامة بمرض السرطان، ولها 17 أخاً، أحدهم من أمها المتوفية، والباقي من أبيها وزوجة أبيها. نُقلت الفتاة إلى «الرياض» للعلاج، وعلمت أنّ للمرض علاجاً في أمريكا، فطلبت من أبيها وإخوتها سفرها للعلاج بالخارج، رفض الجميع طلبها بحجة عدم جدوى العلاج! ورفضت الدولة رحلة العلاج لأنها غير مجدية!

تشبثت الفتاة بأخيها من أمها، وكان الشاب متوسط الحال، لا يملك سوى راتبه وبيتٍ تشاركه فيه زوجته؛ فقام الشاب رحمةً بأخته برهن البيت بمبلغٍ كبيرٍ وبدأ بإجراءات السفر، وعندما علمت زوجته ثارت وذهبت لبيت أهلها مهددةً إياه بعدم العودة ما لم يرجع في قراره. أكمل الشاب الإجراءات متحملاً لوم إخوانه وغضب زوجته، وسافر مع أخته، وصرف كل ما يملك على علاجها، وخسر وظيفته، وبعد ثمانية أشهر تُوفيت الفتاة وتكفلت السفارة بنقل الجثمان، وعاد الشاب بجثة أخته، وخيبة أمله بزوجته التي طلبت الطلاق وشماتة إخوته. أخذ يبحث عن عملٍ، واشتغل سائق سيارةٍ في البلدية، لحين توفر عملٍ آخر له.

بعد عدة أشهر اتصل به أحد أقرباء والدته من منطقة شمال المملكة، وبشره بأنه ورث مالاً كلالةً عبارة عن أرضٍ شاسعةٍ تُقدّر قيمتها بالملايين، ليس لمالكها وارثٌ سواه. أخذت المعاملة وقتاً طويلاً جداً، ثم بعد حينٍ استلم صك الأرض؛ فباع جزءاً منها، واستعاد بيته المرهون، وكتبه باسم زوجته، وبعث لها صك البيت وصك الطلاق معاً، حاولت زوجته بشتى الوسائل الرجوع اليه لكنه رفض، وزرع بقية الأرض واشتغل بتجارة المواشي، وفُتحت أبواب السماء له برزقٍ وفيرٍ وتوفيقٍ من رب العالمين؛ فسُئل عن سبب هذا الرزق الوفير؛ فقال: لحظة احتضار أُختي، دعت الله بأن يفتح لي باب الرزق كماءٍ منهمرٍ من السماء.

تزوج الشاب امرأةً صالحة وبدأ حياته من جديد. تقول الأخت الداعية صاحبة القصة: أنا ابنة هذا الرجل الذي أسعد قلب أخته، ووهبني اسمها المبارك، وأصبحت داعيةً إلى الله.

 

أحبتي في الله .. عقّب مَن نشر هذه القصة بقوله: هذا الذي يخدم الناس، هذا الذي يُدخل الفرح على قلوب الخَلْق بإحسانه إليهم بتخفيف آلامهم، بحمل همومهم، بقضاء حاجاتهم، له عند الله مقامٌ كبير. إذا أردتَ أن تسعَد فأسعِد الآخرين؛ وأنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً.

 

وعن العلاقة (بين الأخ وأخته) يقول العلماء إنّ للأخ على أخته، وللأخت على أخيها، حقوقاً منها:

الإحسان والتلطّف في التعامل؛ فقد استقبل النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- أخته من الرضاع؛ وهي الشيماء بنت الحارث، فبسط لها رداءه حتّى تجلس عليه، وخيّرها ما بين البقاء عنده أو الرجوع إلى قومها، وأهداها جاريةً ونَعَماً.

التسامح بين الإخوة؛ فينبغي على الأخ أو الأخت أن يتسامحا فيما بينهما إذا صدر من أحدهما خطأٌ تجاه الآخر، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما يظهر منهم من أمورٍ قد يُساء فهمها، ولهم في نبيّ الله يوسف -عليه السّلام- القدوة في ذلك، حينما تعرّض إلى المحن والفتنة والابتلاء بسبب كيد إخوته له، فلم يُقابل صنيعهم بالإساءة، وإنّما صبر على ذلك، وقال لهم في نهاية الأمر: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

الدعاء؛ فالإخوة يدعون لبعضهم بالخير في ظهر الغيب.

ومن حقوق الأخت على أخيها العمل على حفظ حقوقها وصيانتها، والدفاع عنها إذا تعرّضت للظلم من زوجها، وعدم إجبارها على العودة إلى زوجها إلّا بعد أن تكون راضيةً مكرّمةً، والنصح لها، وصلتها، والتضحية من أجل راحتها وسعادتها، وإثبات حقّها في الميراث.

وللأخ قوامةٌ على أخته إذا غاب الوالد، أمّا إذا تزوّجت فإنّ القوامة تنتقل إلى زوجها، بينما تبقى للأخ حقوقٌ وواجباتٌ تجاه أخته؛ كالنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة الأدب في الحديث والتعامل معها خاصّةً إذا كانت أكبر سنّاً من أخيها.

 

ومن أجمل ما قرأتُ عن العلاقة (بين الأخ وأخته) أن الأخ في عين أخته هو أمنٌ لا يشوبه خوفٌ، وسندٌ لا يميل ولا يهتز. إنه شعورٌ مختلطٌ يجمع ما بين الحب والرحمة والأمان. وجود الأخ في حياة الأخت هو حضور صدیقٍ أبديٍ، ورفيقٍ أولٍ للطفولة، وصخرةٍ تستند إليها عندما تكبر. أما الأخت في عين أخيها فهي مودةٌ وحنانٌ، إنها بمثابة أمه الثانية كأنه ولدها الأول.

إن علاقة الأخ بأخته يجب أن تسودها المحبة والعطف والإيثار فيما بينهما؛ فمن أخص العلاقات وأشدها حاجةً إلى الرعاية والعناية هي علاقة الأخوة؛ إنها من أرق العلاقات وأقواها وأقدرها على البقاء ومواجهة المصاعب، يداً بيدٍ يمضي الأخ بأخته إلى جنةٍ أخويةٍ من التفاهم والتواد والتراحم، وتمضي الأخت بأخيها إلى جنةٍ أخويةٍ من التآلف والتآخي والتناصح. علاقةٌ جديرٌ بنا أن نحرص على توثيقها في زمنٍ أصبحت العلاقات فیه مهزوزةً متصدعةً، وصار تدهور العلاقات أمراً شائعاً.

 

وهذا شاعرٌ يكتب لأخته فيقول:

قَدْرُ الأخوةِ فيكِ لا يُعلى عليه

وإنْ بَعِدتِ

فمَكانُكِ بين الحَنايا والشِغافِ

فأنتِ أختي

إنْ قدَّرَ اللهُ الّلقاءَ فأنا سَعِدتُُ

وأنتِ طِبْتِ

فيكِ عَرِفتُ القَلبَ يَطْرُبُ إنْ نَطَقتِ

أو سَكَتِ

أدْعو الإلهَ يَصونُكِ أنىَ رَحَلْتِ

أوْ أقَمْتِ

أحبتي .. أختم بما كتبه أحدهم؛ كتب يقول: أيها الأخ أختك أمانةٌ لديك؛ تقرّب منها، وأظهر لها المودة والمحبة، واجعلها تشعر بأن خوفك عليها ومعزتك لها هي دافعك الوحيد في معاملتك لها، ولا تجعل من الغِلظة والقسوة عنواناً لك، الكلمة الطيبة واهتمامك وسؤالك عنها، وإخبارها دائماً بأنك موجودٌ من أجلها دائماً، أمورٌ بالرغم من أنها بسيطةٌ إلا أن تأثيرها كبيرٌ، فلا تجعل من أختك عدواً، بل اتخذ منها صديقةً تأنس بها وتأنس هي بك. وأنتِ كذلك أيتها الأخت؛ حاولي إظهار اهتمامك بأخيك، وإظهار حنيتك عليه واشتياقك له إن غاب، حاولي إظهار حبك له كأخت، وأنه يعني لك الكثير، حاولي أن تكوني أول من يريد أن يحكي لها همومه، وشكّلي حضوراً أنيقاً؛ فأنتِ أحق بأخيك من أي شخصٍ آخر. بذلك تكون العلاقة (بين الأخ وأخته) مثاليةً، تعمر بالمحبة والإخاء.

اللهم احفظ لنا أخواتنا، واحفظ لنا إخواننا، وبارك اللهم في علاقات الحب والمودة والرحمة والتعاطف التي تجري في دمائنا وتجمع بيننا.

 

https://bit.ly/3rrfelJ

الجمعة، 28 يناير 2022

سواسية كأسنان المشط

 

خاطرة الجمعة /328


الجمعة 28 يناير 2022م

(سواسية كأسنان المشط)

 

يروي أحد المعلمين عن موقفٍ مؤثرٍ مرّ به؛ فيقول إنه كان يقود سيارته فأوقفته دورية المرور، وبادر ضابط المرور بطلب الرخصة وأوراق السيارة، وهو يتفحص وجهي من وراء عدساته الشمسية المعتمة؛ فسلمتُه كل ما طلب من وثائق ليبادرني بلهجةٍ هادئةٍ وحازمةٍ: "أنت لم تربط حزام الأمان يا أستاذ!"، قلتُ: "نعم، للأسف"، قال: "هذه مخالفة"، قلتُ: "نعم أعترف أني أخطأتُ وأستحق المخالفة، بدأ الضابط بتدوين قسيمة المخالفة، ثم سألني: "هل أنت أستاذٌ ومعلمٌ تربوي؟"، قلتُ: "نعم"، قال: "إذا غش طالبٌ في الامتحان هل تسامحه؟"، قلتُ: "لا"، قال: "إذن ماذا تفعل؟"، قلتُ: "أُطبق عليه القانون"، فناولني ورقة المخالفة، وقال: "هل يمكن أن تنزل من السيارة؟"، بترددٍ واستغرابٍ نزلتُ. قام فجأةً باحتضاني وقبَّل رأسي! كنتُ مندهشاً مما يحصل. قال لي: "أستاذ؛ أنا الطالب فلان، درستُ عندك. أتذكر حين غششتُ من ابنك فلان في الامتحان فعاقبتنا حينها وسحبت ورقتي وورقته ومنحتنا صفراً وطبقت عليّ وعلى ابنك القانون؟ منذ ذلك اليوم عرفتُ أن القانون وُضع ليُطبق على الجميع ولا يُستثنَى منه أحدٌ، ولو كان ابنك. يومها بكيتُ احتراماً لك وحزناً على أنك طبقتَ القانون على ابنك دون أن تُجامل؛ فجعلتك مثالاً لي. واليوم أستاذي أنا أطبق عليك القانون ولا أستثني أحداً ولو كان ابني". لم أستطع أن أتحكم بدموعي فرحاً بأن هذا الضابط كان أحد طلابي، وعرف ماذا يعني تطبيق القانون، وهو بالمقابل كان يناضل من أجل ألا تسيل دموعه حفاظاً على هيبة الزي العسكري الذي يرتديه؛ فأخرج مبلغاً من المال من جيبه الخلفي وقال: "أقسمتُ عليك يا أستاذي أن تقبل هديتي"، فامتنعتُ، فألح عليّ وقال: "القانون طبقته عليك لكن قيمة المخالفة عليّ؛ فأنت معلمي وأبي وقدوتي، أدامك الله تاجاً فوق رؤوسنا"، حاولتُ الامتناع فألح بشدة، وسانده زميله الذي شهد الموقف بتأثر.

غادرتُ المكان وقد سَرتْ بين أضلعي سَكينةٌ عجيبةٌ وسعادةٌ غامرةٌ ودموع فخرٍ أنه تخرج من تحت يديّ جيلٌ لا يخون وظيفته ولا وطنه.

 

أحبتي في الله .. تزخر هذه القصة بالكثير من المعاني العظيمة والقيم الرائعة؛ كإخلاص المعلم في عمله، ووفاء التلميذ لأستاذه، وغير ذلك من معانٍ وقيمٍ، إلا أن ما استوقفني وشدّ انتباهي هو سلوكٌ إيجابيٌ قَلّ أن يلتزم به الناس في أيامنا هذه -إلا من رحم ربي- ذاك السلوك هو إيقاع المعلم العقاب بابنه حين أخطأ، بغير محاباةٍ أو مجاملةٍ أو تمييزٍ، ولعل مرجع المسلمين في مثل هذه المواقف هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها]؛ ولهذا الحديث قصةٌ ملخصها أنّ امرأةً من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده {أي: تأتي للناس تقول: أعرني قدرًا، أعرني إناءً، أعرني كذا، فإذا أعاروها جحدت وقالت: لم آخذ منكم شيئاً}، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تُقطع يدها؛ لأن هذا نوعٌ من السرقة. وكانت هذه المرأة من بني مخزوم، من قبيلةٍ من أشرف قبائل العرب ذات الأهمية والشأن، فأهم قريشاً شأنُها، وقالوا: كيف تُقطع يد مخزوميةٍ، ثم طلبوا شفيعاً إلى رسول الله فقالوا: أسامة بن زيد حِب رسول الله {حِبّه يعني: محبوبه، أي: أنه يحبه}؛ فتقدم أسامة بن زيد -رضي الله عنه- إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليشفع، فأنكر عليه وقال: [أتشفعَ في حدٍّ من حدودِ الله؟]، ثم قام رسولُ اللَّهِ خطيباً، فأثْنَى علَى اللَّهِ بما هو أهْلُهُ، ثُمَّ قالَ: [أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّما أهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أنَّهُمْ كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لو أنَّ فاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَها]، وفي روايةٍ [لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَها]. ثُمَّ أمَرَ النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بتِلْكَ المَرْأَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُها، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُها بَعْدَ ذلكَ.

 

يقول أهل العلم إن رسالة الإسلام جاءت حاملةً كل معاني الخير للبشرية جمعاء؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، فدعوة الإسلام جاءت مستهدفةً الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم وأعراقهم وألوانهم، مقرةً لهم بجميع الحقوق على حدٍ سواء فلا يتم التعامل مع أيٍ من الناس باعتبار شكله أو لونه أو عرقه أو حسبه ونسبه، بل إن معيار التفاضل الوحيد الذي أقره الإسلام بين الناس هو التقوى؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾. إضافةً إلى ما احتوت عليه سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحداثٍ ومواقف تؤصل وتؤكد على أن الناس (سواسية كأسنان المشط)، وتُرسخ مبدأ المساواة الذي يتم على أساسه التعامل مع كل الناس في الإسلام، بحيث لا يمكن لأحدٍ مهما كانت مكانته أن يكون فوق القانون، وأن تتم معاملته بأسلوبٍ مخالفٍ لما يُعامَل به عامة الناس. ولقد كانت حياة الصحابة خير مثالٍ للتعايش والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس؛ فلا نرى بين الصحابة تمييزاً بين أبي بكر العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جمَّعهم الإسلام جميعاً تحت عباءته إخواناً متحابين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمُ، وآدمُ من ترابٍ]. ولعلنا نرى حقيقة المساواة واضحةً جليةً في قصة أبي ذرٍ الغفاري يرويها بنفسه فيقول: إنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَقالَ لي النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: [يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ].

ولقد تعدى مبدأ المساواة في الإسلام التعامل بين المسلمين إلى تعامل المسلم مع غيره من غير المسلمين؛ يقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، فقد أمرنا الله بالبر والقسط في التعامل معهم، والبر والقسط من أرقى مبادئ التعامل الإنساني، فحتى لو لم يكونوا مسلمين إلا أن لهم الحق في احترام حقوقهم وحمايتها وعدم الاعتداء عليها.

 

وبالتاريخ الإسلامي العديد من القصص التي تؤكد على أن المساواة بين الخلق في الحقوق والواجبات مبدأٌ إسلاميٌ؛ وأن الناس (سواسية كأسنان المشط)؛ ومن ذلك ما رُوي أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، عائذٌ بك من الظُلْم، قال: "عذتَ معاذاً"، قال: سابقتُ ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين؛ فكتب عُمر إلى عَمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: "أين المصري؟ خُذ السوط، فاضرب"؛ فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر: "اضرب ابن الأكرمين".

 

ومن ذلك أيضاً ما رُوي أن علياً بن أبي طالب -رضي الله عنه- وجد درعاً له عند يهوديٍ التقطها فعرفها؛ فقال: "درعي سقطت عن جملٍ لي أورق"، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين؛ فأتوا شُريحاً القاضي فلما رأى علياً قد أقبل قال شريح: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟ قال: "درعي سقطت عن جملٍ لي أورق، والتقطها هذا اليهودي"؛ فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي، فقال شريح: لأمير المؤمنين لا بد من شاهدين، فدعا عليٌّ ابنه الحسن بن علي ومولاه قنبر فشهدا أنها لدرعه، فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك لك فلا نجيزها، وقال لليهودي: خذ الدرع، فقال اليهودي متعجباً: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي! والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك سقطت عن جملٍ لك التقطتُها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوهبها له سيدنا عليّ.

 

وكذلك تلك المحاكمة التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، وكانت في عصر عمر بن العزيز -رضي الله عنه- عند فتح سمرقند على يدِّ قائدٍ عظيمٍ هو قتيبة بن مسلم. بدأت المحاكمة، بقول القاضي: نادِ يا غلام "يا قتيبة" {هكذا بلا لقب}، فجاء قتيبة وجلس هو وكبير كهنة سمرقند أمام القاضي بحضرة الكثير من الكهنة، قال القاضي للكاهن: "ما دعواك يا سمرقندي؟" قال: "اجتاحنا قتيبة بجيشه، ولم يدعنا إلى الإسلام ويُمهِلنا حتى ننظر في أمرنا". التفت القاضي إلى قتيبة وقال: "وما تقول في هذا يا قتيبة؟". قال قتيبة: "الحرب خدعةٌ، وهذا بلدٌ عظيمٌ، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام ولم يقبلوا بالجزية". قال القاضي: "يا قتيبة هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟" قال قتيبة: "لا، إنما باغتناهم لِمَ ذكرتُ لك". قال القاضي: "أراك قد أقررتَ، وإذا أقر المدعى عليه انتهت المحاكمة، يا قتيبة ما نَصَر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل". ثم قال: "قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكامٍ وجيوشٍ ورجالٍ وأطفالٍ ونساءٍ، وأن تُترك الدكاكين والدور، على أنْ يُنذِرهم المسلمون بعد ذلك!" لم يُصدِّق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه؛ فلم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلا وأمير المؤمنين والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم. وبعد ساعاتٍ قليلةٍ سمع أهل سمرقند جلبةً تعلو وأصواتاً ترتفع، وشهدوا غباراً يعمّ الجنبات، وراياتٍ تلوح خلال الغبار، فسألوا؛ فقيل لهم: "إنَّ الحُكم قد نُفِذَ وأنَّ جيش المسلمين قد انسحب". وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم، ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعاتٍ أكثر، حتى خرجوا أفواجاً، وكبير الكهنة أمامهم وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.

 

أحبتي .. نقف جميعاً وقت الصلاة صفاً واحداً متساويين أمام رب العالمين، لا فرق بين غنيٍ وفقيرٍ، ولا أسود أو أحمر، ولا بين رئيسٍ ومرؤوسٍ، هذا هو شرع الله، ما أعدله وما أحكمه. لو طبقنا هذا الشرع وهذا العدل في جميع مجالات الحياة لكنا قدوةً لغيرنا، ولكان ذلك سبباً في دخول الناس للإسلام أفواجاً؛ فلنوطن أنفسنا على أن نكون قدوةً، ونطبق العدل ولو على أنفسنا أو والدينا وأقرب الناس إلينا؛ يقول تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. ولنتعاهد أحبتي على نبذ التمييز عند تعاملنا مع الغير، فكلنا عباد الله، ولنهتم بما هو أهم من المنصب والمركز والمال والجاه؛ نهتم بالتقوى، فنحوز رضا الله ثم رضا الناس.

اللهم اجعلنا ممن يقيمون العدل في الأرض، وأعنّا على أن نُعامل الناس جميعهم بغير تمييز، موقنين أننا وأنهم جميعاً (سواسية كأسنان المشط).

https://bit.ly/34dA2Uv

الجمعة، 21 يناير 2022

رد المظالم

 

خاطرة الجمعة /327


الجمعة 21 يناير 2022م

(رد المظالم)

 

يحكي قصته فيقول: في مقتبل شبابي وتحديداً قبل سبعٍ وعشرين سنةً من الآن تقدمتُ لأسرةٍ صالحةٍ أطلب يد ابنتهم؛ تمت النظرة الشرعية، وحصلت الموافقة من الطرفين. بعد أيامٍ من الخِطبة، وقبل إتمام عقد النكاح جدَّ جديد؛ خلافٌ في أمرٍ ما أدى إلى عدم إتمام الزواج. مضى فينا قدر الله، ولن يأخذ الإنسان إلا ما قُدِّر له؛ فلا لوم على أحدٍ، لا في ساعتها ولا الآن بعد كل هذه السنين من باب أولى. ومنذ افترقنا لم تزل صورة تلك الأسرة كما هي في نظري؛ أسرةٌ صالحةٌ، وذات سمعةٍ طيبةٍ، والظن في نظرتهم نحو أسرتي كذلك، والموضوع لم يأخذ برمته منذ بدأ وانتهى سوى أيامٍ قلائل، ولم يترك بفضل الله في النفوس شيئاً، وإن ترك فلأيامٍ فقط، لا يستدعي الموضوع أكثر من هذا، ثم مضى كلٌ إلى حال سبيله. رزقني الله غيرها، وهي رُزقت غيري، وتمضي السنون سراعاً، لا أعرف عن والدها وإخوتها شيئاً، وأظنهم كذلك نحوي، فقد أتى كلَ واحدٍ منا ما يُنسيه أمسه لكثرة بلايا الدنيا وهمومها فكيف لا ينسى أحدنا تفاصيل ما حدث، ولأكثر من عقدين من الزمان، كل ما عرفته أن الذي تزوجها أحد أحبتي الكرام، وحين صرتُ بعدها بسنواتٍ إماماً كان زوجها من رواد مسجدي في صلاة التراويح ويصطحب أهله معه، كل ذلك يؤكد صفاء النفوس، ولا ينصرف من المسجد كل ليلةٍ إلا بعد تبادل السلام والسؤال عن الحال؛ للعلاقة الكريمة القديمة بيننا.

قبل خمس سنواتٍ من الآن وكان قد مضى على خِطبتي تلك 23 سنة، وفي ليلةٍ ما، وفي صلاة عشاءٍ، وأنا في محرابي، وبعد إقامة الصلاة التفتُ للناس أقول: "استووا اعتدلوا"، انتبهتُ لرجلين في الصف الأول؛ العم والد الفتاة التي خطبتها قديماً، ومعه ولده بجانبه، والذي نحسبه من أهل القرآن وهو من أترابي. جاء في خاطري قبل أن أشرع في التكبير أنهما مجرد عابري سبيلٍ ليس أكثر، حين فرغتُ من الصلاة والتفتُ إلى المصلين في جلوسي، إذ بالعم يقوم مباشرةً يمشي نحوي يتكئ على عصاه بيده اليُسرى وعلى ولده بيده اليُمنى، يمشي الهوينا برفقٍ وتؤدة وعليه آثار الكِبَر والمرض، لم يُسعفني قرب مكانهما مني وسرعة الحدث لأن أهتدي بالتفكير عن سر مجيئهما،

غير أني قمتُ عَجِلاً لاستقبالهما وكلي ذهولٌ، وصل إليّ وهو يردد: "كيف حالك يا شيخ؟"، وأنا أقول: "الحمد لله، أهلاً بوالدي الغالي"، قبَّلتُ يده ورأسه وتعانقنا، أثناء السلام والسؤال عن الحال أسمعني ما أدمع عينيّ؛ نعم دمعت عينايّ، وما لها لا تدمع وهو يقول لي: "سامحني، قبل أن أموت؛ لا أريد أن ألقى الله وبيني وبين أحدٍ خصومة"، هكذا قال، وأنا على يقينٍ أنه لم يُخطئ في حقي وأن الخلاف الذي حصل لا يصل إلى درجة الخصومة التي تُلقي بحرجٍ على أصحابها يوم القيامة، فكان ردي عليه على وجه الحقيقة: "أبداً ما أخطأتَ في حقي، بل صرفكم الله عني، وأبدلكم خيراً مني"، فيرد عليّ على وجه التواضع: "بل صرفك الله عنا، وأبدلك خيراً منا، نحن لا نستحقك"، واسترسل في الثناء عليّ قاصداً تطييب خاطري، ظن صاحب القلب الطيب أن في نفسي شيئاً عليه، كان الحديث يدور بيننا، والدموع تتقاطر مني ومنه، وربما كان تقاطرها مني أكثر، وكنتُ كلما نظرتُ إلى وجهه ورأيتُ دموعه كررتُ تقبيل يده ورأسه؛ أُهدئ من روعه وأطمئن قلبه وأقول: "والله ما في النفس شيء"، ثم قال لي: "أنا الآن في عمري هذا أزور كل من بيني وبينه خصومةٌ، أبحث عنهم لأطلب منهم السماح؛ أريد أن ألقى الله وما بيني وبين أحدٍ خصومةٌ، سامحني لعلي أموت قريباً"، وأنا أرد عليه: "بل أنت سامحني". كل ذلك كان مؤثراً: أموت قريباً، ألقى الله، أستعد للرحيل، أطلب العفو، المسامحة. وهو في الثمانين يستشعر قرب الرحيل ولقاء الله يتكبد المشاق ليستقين من صفاء قلوب من اختلف معهم يوماً، وما كنتُ أظن أنه بعد كل تلك السنين يذكر اسمي أو يتذكر تلك الخِطبة، ولا كنتُ أظن أن يسأل عن مكاني ويتكلف المجيء لأجلي. وما تركنا بعضاً إلا وكأننا طيورٌ من خفة الروح وسعادتها.

عدتُ إلى بيت والدي بعدها مباشرةً، التقيتُ به وقلتُ له وأنا في سرورٍ بالغٍ: "أبي .. أتدري من صلي معي العشاء الليلة؟"، قال: "من؟"، قلتُ: "العم فلان"، تذكره الوالد تماماً، ثم قلتُ لوالدي: "جاء ليعتذر، وقصصتُ للوالد ما حصل بالتفصيل فما كان منه إلا أن وضع كفيه على وجهه وأُجهش في البكاء، وهذه من المواقف النادرة التي أذكرها لوالدي والتي لم يملك فيها دموعه، رحمه الله.

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ واقعيةٌ عن رجلٍ ورعٍ يتقى الله شعر بدنو أجله؛ فسعى إلى (رد المظالم) وطلب الصفح والمسامحة ليقف بين يدي الله سبحانه وتعالى خالياً من مظالم لم يردها.

 

وعند الحديث عن (رد المظالم) أتذكر على الفور ما رُوي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ {أي: سهم} يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مُستَنْتِلٌ {أي: مُتقدم} من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح، وقال: [استوِ يا سواد]، فقال: يا رسول الله! أوجعتَنِي، وقد بعثَكَ الله بالحق والعدل فأقدني {أي: مَكِّنِّي من القصاص لنفسي}، فكشفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: [استَقِدْ] {أي: اقْتَصَّ}، فاعتنقه سواد وانكبَّ عليه فقبَّل بطنه الشريفة؛ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [ما حملك على هذا يا سواد؟] قال: يا رسول الله! حضر ما ترى {يقصد الجهاد} فأردتُ أن يكون آخرُ العهد بكَ أن يمسَّ جِلدي جِلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له: [استوِ يا سواد]، فلم يتردَّد النبي -صلى الله عليه وسلم- في إعطاء سواد رضي الله عنه حقه في القصاص حين طالب به، مع أنه -صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن يقصِد إيذاءه وإيجاعه، ليَضرب بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً رائعاً للعدل والقود من النفس.

 

والمظالم جمع مظلمة، والتي هي كل فعلٍ جائرٍ يقوم به ظالمٌ تجاه طرفٍ آخر يكون هو المظلوم. سواءً كان هذا الفعل باغتصاب مالٍ أو إتلافه أو حبسه أو منع الانتفاع منه، أو تضييع حقٍ أو سلب اعتبارٍ، أو غير ذلك سواءً باشر ذلك أو تسبب فيه بحيث تسبب للمظلوم في خسارةٍ ماديةٍ أو معنويةٍ، ففعله هذا مظلمة، وللمظلوم المطالبة بحقه من الظالم. ويكون معنى (رد المظالم) هو أن على الظالم ردّ المظلمة إلى المظلوم؛ بإرجاع مالٍ مسلوبٍ أو حقٍ مغتصبٍ، أو تقديم تعويضٍ عنه، ورد الاعتبار والمكانة الاجتماعية في المظالم الأدبية، والعمل على إرضاء المظلوم بأي طريقةٍ تؤدي إلى الصفح عنه والتحلل من وزر الظلم.

 

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: [مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ].

وقال -عليه الصلاة والسلام-: [مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه]، كما قال: [من ضَرب بسوطٍ ظلمًا، اقتُصَّ منه يومَ القيامةِ].

 

ولا يكاد يوجد من بيننا واحدٌ إلا وقد ظلم غيره، ظُلماً يسيراً أو كبيراً، فنحن خطأون كما وصفنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: [كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ]، وأول طريق التوبة هو (رد المظالم).

وأوضح العلماء لنا طريقة (رد المظالم) فقالوا: إن المظالم التي تكون بين العبد والعبد إما أن تكون معنويةً؛ كأن تكون بغيبةٍ أو نميمةٍ أو سُخريةٍ ونحو ذلك؛ فالخلاص منها يكون بالتحلل من صاحب المظلمة حال حياته إن علم بها، وأما إن لم يعلم فالأولى أن تتحلله تحللاً عاماً ولا تذكر له اغتيابك إياه لئلا تُغضبه، وعليك بالإكثار من الحسنات لتُكاثِر بها السيئات وتُسدد ببعضها ما عليك من الحق، وينبغي أن تُكثر من الدعاء للمسلمين الذين اغتبتهم والثناء عليهم بما علمته فيهم من الخير. وإما أن تكون المظالم ماديةً وهي المتعلقة بالمال كالغصب أو السرقة منهم مثلاً؛ وهذه لا بد من ردها إليهم أو طلب السماح والعفو منهم، ولا يُشترط إخبارهم بأنها سرقةٌ أو غصبٌ، بل المطلوب هو ردها إليهم بأي وجهٍ أو الاستحلال منهم؛ أي طلب المسامحة، إن كانوا أحياءً بردها إليهم، أو كانوا أمواتاً بردها إلى ورثتهم، فإن لم تستطع ذلك فعليك بالإكثار من الاستغفار والأعمال الصالحة والتصدق عنهم بقدر المظلمة.

 

أحبتي .. أختم بما ختم به راوي القصة؛ قال: أناسٌ من غير إساءةٍ تعتذر وتطلب المسامحة لرقة قلوبها واستشعارها قُرب لقاء الله عزَّ وجلَّ، وأناسٌ تظلم وتُسيء وتؤذي وتجرح ولا تعتذر ولا تتأسف ولا تطلب العفو بل لا تزال تمضي في ظلم العباد؛ قلوبٌ قاسيةٌ وعن حساب الله غافلةٌ. كم نسمع ونردد: "الدنيا ما تسوى شي" ثم تجدنا لأجلها تقاتلنا تقاطعنا تهاجرنا تدابرنا ظلمنا غيرنا واعتدينا. أيها الأحبة؛ اعتذروا وتسامحوا واعفوا، والله إن حساب الدنيا أهون من حساب الآخرة. هيئوا قلوبكم ليوم غدٍ ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

واستحضروا أحبتي معنى هذه الآية الكريمة؛ يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

كم منا يا ترى سوف يُغمض عينيه قليلاً الآن ليُحاسب نفسه ويتذكر من لديهم مظالم لديه، ثم يُبادر فوراً إلى ترتيب مسألة (رد المظالم)؟ يبدو أن العدد سيكون قليلاً، لكني أثق أنك أنت أحدهم بفضل الله ثم بهمتك وعزيمتك .. نعم أنت واحدٌ منهم .. واحدٌ من هؤلاء الذين يسعون إلى التخفيف من أوزارهم بغير كِبرٍ ودون تردد، ويحمدون الله أن أنعم عليهم بأن مكنهم من (رد المظالم) في حياتهم قبل أن يُحاسبوا عليها يوم الحساب.

اللهم طهِّرنا وطهِّر قلوبنا، اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا تجعل لمخلوقٍ مظلمةً عندنا أبداً ما أحيَيْتَنا يا رب العالمين.

https://bit.ly/3qXj5a1

الجمعة، 14 يناير 2022

من لا يَرحم لا يُرحم

 

خاطرة الجمعة /326


الجمعة 14 يناير 2022م

(من لا يَرحم لا يُرحم)

 

دخل رجلٌ إلى أحد فروع هايبر ماركت بريطانيٍ شهيرٍ تنتشر فروعه في ماليزيا، وتناول بعض عُلب العصائر الرخيصة وشيئاً من الفواكه يعادل ثمنها 7 دولارات أمريكية، وحاول الخروج بها خِلسةً من دون أن يدفع الثمن. اقترب منه مدير الفرع، حيث كان يُتابعه على شاشات المراقبة في مكتبه. أُسقط في يديّ الرجل، واعترف فوراً بأن نيته كانت السرقة وعدم الدفع. هدّأ المدير من روعه، وطلب منه معرفة السبب الذي دفعه إلى ذلك، أقسم الرجل -وهو في حالةٍ يُرثى لها من الخوف والارتباك- أنه ترك عمله منذ فترةٍ، لرعاية أطفاله الثلاثة وزوجته التي أنجبت حديثاً، وأصيبت بغيبوبةٍ بعد الولادة. استبقى المدير الرجل في مكتبه، وأرسل أحد أفراد الأمن إلى منزل الرجل -بحسب العنوان الذي قدّمه- للتأكّد من صدق روايته. وفعلاً؛ تأكّدتْ رواية الرجل المسكين، فبادر مدير الفرع -وهو مسلم- إلى منح الرجل السلع التي أراد الحصول عليها مُضافاً إليها أطعمةً ومواد غذائيةٍ وسلعاً أخرى، ومنحه مبلغاً من المال، وعرض عليه وظيفةً في الهايبر ماركت الذي تكفلت الشركة المالكة له بدفع نفقات التحاق الأطفال بالمدرسة، ومعالجة الأم المصابة بالغيبوبة.

القصة هزت ماليزيا خلال أيامٍ قليلةٍ، وتم عرضها مراتٍ عديدةً على شاشات القنوات المحلية وفي الصحف، حتى وصل صداها إلى المقر الرئيسي للشركة في بريطانيا؛ فقامت الشركة بالتبرع بكوبونات شراء تكفي الرجل وعائلته سنةً كاملةً. وتم عرض القصة في بعض القنوات والصحف البريطانية مع الكثير من عبارات الثناء على مدير الفرع الذي أصبح فجأةً مشهوراً في جميع أنحاء ماليزيا وبريطانيا!

لو كان مدير الفرع سلّم الرجل للشرطة، لكان حدثاً عادياً، يحدث كثيراً فلا يكاد يشعر به أحد؛ فكثيرٌ من المحلات تُحبط محاولات سرقةٍ، وتُلزم أصحابها بالدفع أو مقاضاتهم، أما هذا المدير فقد سلك مسلكاً إيجابياً مختلفاً، مسلكاً نبيلاً وإنسانياً، مسلكاً رحيماً وطيباً وغير معتادٍ؛ فكانت النتيجة شلالاً لا يكاد يتوقف من الإيجابية التي حركت عوامل النُبل والرحمة لدى شركاتٍ تجاريةٍ وأشخاصٍ ومؤسسات، وفتح طريقاً للتوبة لذلك الرجل، وبلغت شهرة هذا المدير المسلم الآفاق، وكذلك السوق الذي يعمل فيه، حيث تتابعت أفواج المشترين بزيادةٍ كبيرةٍ جداً، للشراء من هذا السوق الذي يمتلك حِساً إنسانياً عالياً.. فالرحمة قبل العدل، والعطاء يفتح أبواب الرجاء والأمل، ويبعث على صالح العمل.. وثمار الرحمة والنُبل والتسامح أكثر وفرةً من ثمار العدالة نفسها.

 

أحبتي في الله .. صحيح أنه (من لا يَرحم لا يُرحم)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: [مَن لا يَرْحَمِ النَّاسَ، لا يَرْحَمْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ].

لقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأعلى صفات الرحمة وهما الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ يقول تعالى في فاتحة الكتاب: ﴿بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ وهما كلمتان بصيغة المبالغة من اسم الفاعل "الراحم"، ويقول على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم يكتفِ الله سبحانه وتعالى بوصف نفسه بكلمة الرحمن فقط وتبعها بالرحيم؟ يُقال إن كلمة الرحمن على وزن فعلان، وكل كلمةٍ في اللغة العربية على هذا الوزن تزول بزوال أسبابها؛ فكلمة جوعان مثلاً يزول الجوع بتناول الطعام، وكلمة تعبان يزول التعب بالراحة، وهكذا كلمة عطشان يزول العطش بشرب الماء، ومثلها: نعسان، زعلان. ... إلخ؛ لذلك يرتعب العربي عندما يقرأ كلمة الرحمن فقط لأنها قد تنتهي بزوال أسبابها، فيضع الله عزَّ وجلَّ كلمة الرحيم بعد كلمة الرحمن ليزرع الطُمأنينة في قلب المؤمنين؛ فتنتقل نفس المؤمن من الخوف والقلق إلى الإحساس بالأمان والطمأنينة والثقة برحمة الله.

وقد جعل سبحانه وتعالى صفة الرحمة لأفضل خَلقه وخير عباده؛ يقول تعالى مُخاطباً النبي -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾، ويصف رسالته للبشرية جمعاء بأنها رحمةٌ لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، ويصفه وأصحابه -رضي الله عنهم- بأنهم رحماء؛ يقول تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾. ويقول واعداً المتواصين بالمرحمة بأنهم أصحاب الميمنة: ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾. وتكررت آيات الرحمة في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم حتى بلغ تكرار الكلمات المشتقة من الفعل "رَحِمَ" ٣٣٩ مرة.

 

وفي السُنة المُشرّفة وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه بأنه نبي الرحمة؛ قال: [أنا محمدُ، وأنا أحمدُ، وأنا نبيُّ الرحمةِ ...]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وصف المؤمنين: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]. وقال صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمونَ يَرحَمُهمُ الرَّحمنُ، ارْحَموا أهْلَ الأرضِ يَرْحَمْكم مَن في السَّماءِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَن لا يَرْحَمُ النَّاسَ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزَع الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقيٍّ]. وقال لمن ذكر عنده أن له عشرةً من الولد ما قَبَّل منهم أحداً: [مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ]. وجاء أعرابيٌّ إلى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تُقبِّلون الصِّبيان فما نُقبِّلهم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [وما أملِكُ لك أنْ نزَع اللهُ الرَّحمةَ مِن قلبِك؟].

يقول المفسرون إن في هذه الأحاديث -وغيرها- الحض على استعمال الرَّحْمَة للخَلق كلهم؛ كافرهم، ومؤمنهم، ولجميع المخلوقات من حيواناتٍ وطيورٍ والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب، ويُكفر به الخطايا. ويقولون إن رحمة العبد للخَلق من أكبر الأسباب التي تُنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عينٍ، وكل ما هو فيه من النِّعم واندفاع النقم، من رحمة الله؛ فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تُنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وهُم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباده. والإحسان إلى الخَلق أثرٌ من آثار رحمة العبد بهم. أما من كان بعيداً عن الإحسان بالخَلق، ظلوماً غشوماً شقياً، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله وهو متلبسٌ بظلم عباده؛ إذ أن (من لا يَرحم لا يُرحم).

 

قالوا عن الرَّحْمَة إن "علامة الرَّحْمَة الموجودة في قلب العبد، أن يكون مُحبّاً لوصول الخير لكافة الخَلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته، فمتى ما وُجِدَتْ هذه العلامة في قلب العبد، دلَّت على أنَّ قلبه عامرٌ بالرَّحْمَة، مفعمٌ بالرَّأفة".

 

وقال الشاعر:

إنْ كُنْتَ لا تَرْحَمُ المِسْكينَ إنْ عَدِما

ولا الفَقيرَ إذا يَشْكو لَكَ العَدَما

فَكَيْفَ تَرْجو مِنَ الرَحْمنِ رَحْمَتَه

وإنَّما يَرْحَمُ الرَحْمَنُ مَنْ رَحِما

 

أحبتي .. إن أردنا الكتابة عن الرحمة في الإسلام فلن يتسع المقام لذلك، يكفينا العلم بأن (من لا يَرحم لا يُرحم) حتى نكون رحماء فيما بيننا؛ في أسرنا مع أهلينا، وفي بيوتنا مع جيراننا، وفي أماكن عملنا مع زملائنا ومرؤوسينا. نرحم غيرنا ونتواصى بالمرحمة في كل مكانٍ وكل زمانٍ، ومع جميع المخلوقات من إنسانٍ وحيوانٍ؛ حتى تتنزل علينا رحمة الله وتغشانا فنكون من المرحومين في الدنيا والآخرة.

اللهم ليِّن قلوبنا ووسِّع صدورنا وحبِّب إلينا صفة الرحمة ويسِّر لنا أن نكون من الراحمين، وتقبل منا أعمالنا ورحماتنا، واجزنا عنها رحمةً من لدنك لا نشقى بعدها أبداً.

 

https://bit.ly/33vx5yi

الجمعة، 7 يناير 2022

نعمة القرآن

 

خاطرة الجمعة /325


الجمعة 7 يناير 2022م

(نعمة القرآن)

 

تحت عنوان: "امرأة تركيةٌ .. بكت وأبكتني!!" كتبت سيدةٌ عربيةٌ تقول: كنتُ في الحرم المكي فإذا بمن يطرق على كتفي وتقول بلكنةٍ أعجميةٍ: "حاجة!"، التفتُ فإذا امرأةٌ متوسطة السن غلب على ظني أنها تركيةٌ سلمتْ عليّ؛ فوقعت في قلبي محبتها! سبحان الله الأرواح جنودٌ مجندةٌ، كانت تُريد أن تقول شيئاً وتحاول استجماع كلماتها، أشارت إلى المصحف الذي كنتُ أحمله وقالت بعربيةٍ مكسرةٍ ولكنها مفهومة: "إنتَ تقرأ في قرآن"، قلتُ: "نعم!"، وإذا بالمرأة يحمَّر وجهها وقد اغرورقت عيناها بالدموع، اقتربتُ منها وقد هالني منظرها، بدأتْ في البكاء!! والله إنها لتبكي كأن مصيبةً حلت بها! سألتها: "ما بكِ؟"، قالت بصوتٍ مخنوقٍ حتى حسبتُ أنها ستموت بين يديّ، وكانت تنظر إليّ نظرةً عجيبةً وكأنها خجلانة: "أنا ما أقرأ قرآن!"، قلتُ لها: "لماذا؟"، قالت: "لا أستطيع ...."، ومع انتهاء حرف العين .. انفجرت باكيةً ظللتُ أربتُ على كتفيها وأهدئ من روعها؛ قلتُ لها: "أنت الآن في بيت الله .... إسأليه أن يُعلمكِ .. إسأليه أن يُعينكِ على قراءة القرآن"، كفكفتْ دموعها، وفي مشهدٍ لن أنساه ما حييتُ رفعتْ المرأة يديها تدعو الله قائلةً: "اللهم افتح ذهني .. اللهم افتح ذهني أقرأ قرآن .. اللهم افتح ذهني أقرأ قرآن"، قالت لي: "أنا هموت وما قرأت قرآن"، قلتُ لها: "لا، إن شاء الله سوف تقرأينه كاملاً وتختمينه مراتٍ ومراتٍ قبل أن تموتي". سألتها: "هل تقرأين الفاتحة؟"، قالت: "نعم .. الحمد لله رب العالمين، الفاتحة"، وجلستْ تُعدد قصار السور، كنتُ متعجبةً من عربيتها الجيدة إلى حدٍ بعيدٍ، والسر كما قالت لي أنها تعرفتْ على بعض الفتيات العربيات المقيمات قريباً منها، وعلمتُ أنها بذلتْ محاولاتٍ مُضنيةً لتتعلم قراءة القرآن، ولكن الأمر شاقٌ عليها إلى حدٍ بعيدٍ، قالت لي: "إذا أنا أموت ما قرأت قرآن .. أنا يدخل نار!"، واستطردتْ: "أنا أسمع شريط .. دايماً .. بس لازم في قراءة! هذا كلام الله .... كلام الله العظيم!". لم أتمالك نفسي من البكاء؛ امرأة أعجميةٌ تعيش في بلادٍ علمانيةٍ تخشى أن تلقى الله ولم تقرأ كتابه .. منتهى أملها في الحياة أن تختم القرآن قبل أن تموت .. ضاقت عليها الأرض بما رحبت وضاقت عليها نفسها لأنها لا تستطيع تلاوة كتاب الله!

فما بالنا؟! ما بالنا قد هجرناه؟ ما بالنا قد أُوتيناه فنسيناه؟ ما بالنا والسُبل ميسرةٌ لنا لقراءته وتلاوته وفهمه وحفظه، فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير ولم نعكف عليه؟

لقد كانت دموعها الحارة أبلغ من كل موعظةٍ، ودعاؤها الصادق كالسياط تُذكِّر من أُعطي (نعمة القرآن) فأباها وانشغل عنها .. فسبحان مقلب القلوب ومُصَّرِفها! هذه امرأةٌ أعجميةٌ همها أن تختم القرآن، فما بال هممنا نحن قد سقطت وضعفت وفترت؟ على أي شيءٍ تحترق قلوبنا؟ وما الذي يُثير مدامعنا ويُهيِّج أحزاننا؟

اللهم أبرم لنا أمر رُشدٍ .. وسبحان من ساق إليّ هذه المرأة المسلمة التي ذكرتني ووعظتني .. اللهم افتح ذهنها ويسِّر لها تلاوة كتابك يا رب .. اللهم كما أحبتْ كلامك فأحبها، وارفع درجتها، واكتبها عندك من الذاكرين.

 

أحبتي في الله .. يقول العلماء إن إنزال القرآن يُعَدُّ مِنَّةً عُظمى على هذه الأمة؛ وذلك لصلاح أمر الناس كافَّة؛ أفراداً وجماعاتٍ، رحمةً بهم ولهم؛ لتبليغهم مُراد الله تعالى منهم؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾؛ فالصلاح الفردي يكون بتهذيب النفس وتَزْكِيتها، كما يكون بصلاح الظاهر كالعبادات من صلاةٍ وحجٍ، وغيرهما، ويكون بصلاح الباطن بتطهير النفس من الأخلاق الرذيلة -كالحسد، والحقد، والبُغض والكِبر- والتخلُّق بالأخلاق الحميدة؛ أُسوةً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قالت عنه السيدة عائشة -رضي الله عنها- واصفةً خُلقَه: "كان خُلُقُه القرآن". وصلاح الجماعة إنما يكون بصلاح الفرد؛ لأن إصلاح الكلِّ لا يكون إلا بصلاح أجزائه، وما جاءت الشريعة إلا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. ولا تكون الاستفادة حقَّةً وكاملةً من هذا الكتاب، إلا بدوام الصلة به -عِلماً وعملاً، تلاوةً وتدبُّراً، فهماً وتذكُّراً- قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، ويتحقق ذلك باتباع المنهجية التي تَعلَّمها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم، وحمَلوها إلى العالمين، فكان القرآن رائدَهم ومرجعهم الذي لا يَحيدون عنه، ولا يهجرون آياته.

 

يقول أهل العلم إن القرآن نعمة الله الكبرى لإنقاذ البشرية؛ فهو أجلَّ وأعظم النعم على الإطلاق، جاء للبشر بالإصلاح، وكرَّم الله تعالى به الإنسان، وجعل سعادته وشقاءه منوطين بعمله وإيمانه، وأن الجزاء على الكُفر والظُلم والفساد في الأرض يكون بعدل الله تعالى. والقرآن معجزةٌ تُخاطب الضمير والوجدان وتستثير الإنسان لتحكيم عقله، والاعتبار بما أبدع الله عزَّ وجلَّ في الكون من آياتٍ بيناتٍ وشواهد واضحاتٍ على وجوده وألوهيته ووحدانيته، وصِدقِ رسوله فيما أخبر به عنه من أحوال المعاد، وما دعا إليه من عبادته والعمل بشريعته التي تُحقق السعادة الأبدية وتكفل للناس ما يصبون إليه من طُمأنينةِ نفسٍ وراحة بالٍ، وأي نعمةٍ أعظم من ذلك؟

 

وشكر (نعمة القرآن) -كما يُبين لنا العلماء- يكون بالتخلق بأخلاقه، وتطبيق ما جاء فيه من طاعاتٍ سواءً تعلق الأمر بالأوامر أم بالنواهي؛ وذلك يعني عرض الناس أنفسهم على القرآن لقياس المسافات التي تفصلهم عن الأخلاق التي ينشدها؛ فالتخلق بأخلاق القرآن الكريم هو أفضل طريقةٍ لشكر هذه النعمة التي لا تُضاهيها نعمةٌ؛ كما جاء في الحديث الشريف: [وَفَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ]. ولهذا كان الاشتغال بكتاب الله عزَّ وجلَّ هو أشرف ما يوجد في الحياة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ]؛ فإن الله إنما يُفاضل بين الناس بقدر تعلمهم لكتابه وتعليمه للغير بطُرقٍ شتى تبدأ بقراءته وحفظه واستظهاره، وفهمه، وتدبره، وتنتهي بتطبيقه. ومن فضائل القرآن كذلك أن من يتمسك به لن يضل أبداً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أبشِروا وأبشِروا أليس تشهَدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ؟] قالوا: نَعم، قال: [فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم؛ فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا]. إن مجرد قراءة كتاب الله عزَّ وجلَّ تُكسب الأجر العظيم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ]. وأكثر من ذلك يرتفع قارئ القرآن إلى درجة الملائكية حين يقرؤه بمهارةٍ، ويُضاعَف الأجر لمن يقرؤه ويجد صعوبةً في قراءته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ومَثَلُ الذي يَقْرَأُ وهو يَتَعاهَدُهُ، وهو عليه شَدِيدٌ؛ فَلَهُ أجْرانِ]. والمشغول بكتاب الله له أجره على الله الذي تكفل بأن يُعطيه أفضل ما يُعطي السائلين؛ جاء في الحديث: [يقولُ الرَّبُّ تباركَ وتعالى: مَن شغلَه القُرآنُ عَن مَسألتي أعطيتُه أفضَلَ ما أُعطي السَّائلِينَ].

وإذا كان هذا هو شأن المتعاطي للقرآن في الحياة الدنيا، وهي دار عملٍ، فشأنه في الآخرة وهي دار جزاءٍ أعظم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]. وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم يُدافع عن صاحبه يوم القيامة؛ جاء في الحديث: [يَجِيءُ صاحِبُ القُرآنِ يومَ القِيامةِ، فيقولُ القرآنُ: يا رَبِّ حُلَّهُ، فيَلْبسُ تاجَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، فيَلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثُم يقولُ: يا ربِّ ارْضَ عَنه، فيَرضَى عنه، فيُقالُ لهُ: اقْرأْ، وارْقَ، ويُزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً] فهذه مكانةٌ لا يُدركها أحدٌ إلا صاحب القرآن.

 

في مقابل ذلك فإن من يُهمل القرآن ولا يهتم به يكون لا قيمة له ولا فائدة منه؛ فقد ورد في الحديث: [إنَّ الَّذِي لَيْسَ في جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَالبَيْتِ الخَرِبِ] ومعلومٌ أن البيت الخرب لا فائدة فيه. كما أن غياب القرآن من حياة الناس يكون سبباً في فتنةٍ؛ فقد ورد في الأثر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ]، قالوا: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا -يَا رَسُولَ الله-؟ قالَ: [كِتَابُ الله، فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيعُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الالْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا: ﴿إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ﴾، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].

وفي وصف القرآن الكريم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [إنَّ هذا القرآنَ مَأْدُبَةُ اللهِ فتَعَلَّموا مَأْدُبَتَه ما استطعتم، وإنَّ هذا القرآنَ هو حبلُ اللهِ، وهو النورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عِصْمَةُ مَن تَمَسَّك به، ونجاةُ مَن تَبِعَه، لا يَعْوَجُّ فيُقَوَّمُ، ولا يَزِيغُ فيُسْتَعْتَبُ، ولا تَنْقَضِي عجائبُه، ولا يَخْلَقُ عن كَثْرَةِ الرَّدِّ].

 

وعن (نعمة القرآن) قال الشاعر:

إلهي عَلَى كلِّ الأمورِ لَكَ الحمْدُ

فليسَ لما أوليتَ من نِعمٍ حَدُّ

لكَ الأمرُ من قَبلِ الزمانِ وبَعدَهِ

ومالكَ قَبلٌ كالزمانِ ولا بَعدُ

لكَ الحَمدُ ربيِّ عنْ كِتابٍ ومِلَّةٍ

بها يَهتدي إنْ زاغَ عنْ نَهجهِ العَبْدُ

 

أحبتي .. هذا هو القرآن الكريم، كلام الله العظيم، ودستور كل مسلمٍ، فلنعرض أنفسنا عليه، ولينظر كلٌ منا إلى منزلة القرآن في قلبه، وكم من الوقت يُعطيه لكلام الله يومياً؟ وكم يحفظ من سوره؟ وإلى أي مدىً يصل فهمه وتدبره لآيات القرآن؟ وهل هو ملتزمٌ بما في كلام الله من أحكامٍ؟ هل يُحل حلاله ويُحَّرِم حرامه؟ هذه الأسئلة وغيرها تفيدنا في تقويم علاقتنا بكتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن ثمَّ تصويب وتصحيح مسارنا حتى لا نكون مقصرين في شكر الله سبحانه وتعالى على (نعمة القرآن)، وحتى يكون القرآن شاهداً لنا لا علينا، ويكون شفيعاً لنا؛ قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ]، وحتى نكون من أهل الله؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ].

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً. اللهم ذكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله لنا حُجةً يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3f5mYTa