الجمعة، 6 مارس 2020

تدبير الله


الجمعة 6 مارس 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٩

(تدبير الله)

العم مصطفى سائق سيارة أجرة بالقاهرة، متزوجٌ ولديه طفلةٌ مريضةٌ بالقلب، ركب معه ذات يومٍ شابٌ أسمر اللون، نحيفٌ، يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً أسود، ركب من ميدان رمسيس قاصداً ألماظة. العم مصطفى مريض سكرٍ، ويُعالَج بالأنسولين، أحس أثناء القيادة أن السكر قد ارتفع في جسمه، بدأ يحس باضطرابٍ في بصره، ثم بدوارٍ شديدٍ؛ حيث أنه لم يتناول دواءه ذلك اليوم؛ إذ لم يكن معه من النقود ما يكفي لشراء الدواء، فقرر أن يؤجل الجرعة لآخر اليوم حتى يتوفر له ثمن الدواء. تمكن بصعوبةٍ بالغةٍ من إيقاف السيارة بجانب الطريق. لم يحس بنفسه إلا وهو نائمٌ على سريرٍ بمستشفى. سأل عما حدث له، أخبره العاملون بالمستشفى بأن شاباً أحضره وهو في غيبوبة السكر، وتركه ومشى، ووصفوا له ذلك الشاب، هو إذن الشاب الذي كان آخر من ركب معه، لكنه لا يتذكر أي شيءٍ بعد إيقافه السيارة. حمد الله أنَّ هذا الشاب كان معه وقت غيبوبة السكر، وأنه لم يتركه بل أوصله إلى المستشفى لتلقي العلاج. ومع استعادة وعيه، بحث السائق عن هاتفه فلم يجده، وبحث عن حافظة نقوده لم يجدها، ثم بحث عن السيارة خارج المستشفى فلم يجدها! عاد أدراجه إلى المستشفى وطلب بيانات الشاب الذي أوصله، فوجئ بأنه ترك لهم بيانات السائق من واقع بطاقة إثبات الشخصية التي كانت بحافظة نقوده، لكن الأمر الغريب أنه دفع حساب المستشفى قبل أن ينصرف! إذن هي عملية سرقةٍ مكتملة الأركان؛ استولى فيها الشاب على سيارة الأجرة، والهاتف، وحافظة النقود، لكنه كان صاحب قلبٍ رحيمٍ فقام بدفع تكاليف العلاج! وربما فعل ذلك ليبعد عن نفسه شبهة السرقة! خرج العم مصطفى من المستشفى كالمجنون، وتوجه فوراً إلى أقرب مخفر للشرطة، وقدم بلاغاً بسرقة سيارة الأجرة، ضمَّنه مواصفات الشاب الذي كان يركب معه وقت أن فاجأته غيبوبة السكر، والمكان الذي ركب منه، وترك لهم صورة ذلك الشاب التي حصل عليها بعد مراجعة كاميرات المستشفى.
من شدة الصدمة، لم يستطع عم مصطفى أن يعود إلى بيته، ظل يلف في الشوارع وهو يبكي من حسرته على نفسه، وعلى ابنته المريضة، وعلى فقدان سيارته التي كان يتكسب منها والتي هي كل ما يملكه في هذه الدنيا. ويا للعجب؛ قبل حدوث هذه الواقعة بشهرٍ واحدٍ فقط، كان قد دفع آخر قسطٍ من أقساط السيارة، ولا يعلم إلا الله كم تعب وتحمل من أجل ذلك، ثم ها هو يجد نفسه وقد ضاعت منه سيارته في لحظة! ظل يبكي ويصرخ قائلاً: "أيرضيك يا ربِ، بعد كل هذا التعب، يضيع مني مصدر دخلي الوحيد؟ كيف أصرف الآن على أسرتي وعلى علاج ابنتي؟ ليس مهماً علاجي أنا، لكن ما ذنب ابنتي؟ ماذا أفعل؟ هل أدور في الشوارع حاملاً ابنتي أتسول بها؟". كان يكلم الله سبحانه وتعالى وهو يبكي بكاءً شديداً في الشارع، حتى أنَّ بعض الناس سارعوا إلى تهدئته وأحضروا مقعداً له ليجلس عليه وأحضروا له ماءً ليشربه. وكان ممن تأثروا بحاله سائق سيارة أجرةٍ أشفق عليه؛ فسأله عن عنوان بيته، وقام بتوصيله إليه. عندما وصل إلى منزله نزل من سيارة الأجرة مثل المجنون، وكأن ماساً كهربائياً أمسك به؛ فما رآه كان غير معقولٍ أبداً، رأى آخر ما يمكن أن يتوقع رؤيته، رأى سيارة الأجرة الخاصة به واقفةً أمام باب بيته! توجه مسرعاً إلى شقته فوجد ابنته نائمةً على السرير ومُعلقٌ لها جهاز تنفس، وبجوارها زوجته التي رحبت بعودته سالماً حيث فوجئ أنَّها كانت تعلم أنه محجوزٌ في المستشفى! سأل عما حدث، قالت له زوجته: "اشتد تعب البنت أمس؛ فاتصلتُ بك فرَّد عليّ شابٌ وأخبرني بحالة غيبوبة السكر التي حدثت لك، وأنه قام بنقلك إلى المستشفى، وعرف عنوان البيت فأتى إلينا بسيارة الأجرة الخاصة بك وأوصلنا إلى المستشفى، وبعد أن اطمأننتُ عليك، كان لابد من سرعة علاج البنت، فقام هذا الشاب بكل ما يلزم لعلاجها واشترى لها جهاز التنفس الذي تراه، وأعادنا إلى البيت، وسلمني هاتفك وحافظة نقودك ومفاتيح سيارتك. ولولا هذا الشاب لكانت البنت قد ماتت، جزاه الله خيراً لم يترك لي فرصةً لصرف أية نقود، قام بتحمل كل النفقات الخاصة بعلاج البنت!"، كان عم مصطفى يستمع إلى كلامها وهو مندهشٌ، كما لو كان يستمع إلى قصةٍ من نسج الخيال، لولا أن رأي بأم عينيه سيارته، وجهاز التنفس الواصل بابنته، وها هي متعلقاته الشخصية كلها بين يديه لم ينقص منها شيء. شَعر عم مصطفى بالندم الشديد، واكتشف كم كان مخطئاً حينما أساء الظن بذلك الشاب، الذي أرسله الله له في الوقت المناسب لينقذه، ولولا عودته بالسيارة إلى البيت ومسارعته إلى علاج البنت لكانت ماتت. سأل نفسه: "ماذا كان سيحدث لو لم يرسل الله لي هذا الشاب في ذلك الوقت وفي ذلك المكان؟!" وأيقن أن كل ما تم كان من (تدبير الله). ذهب بسرعةٍ إلى مخفر الشرطة وتنازل عن المحضر، وظل يبحث عن ذلك الشاب في كل مكانٍ، لكنه لم يجده أبداً!

أحبتي في الله .. تذكرني هذه القصة بقصةٍ أخرى لأحد القضاة بالشام؛ كتب يقول: ذهبنا في المساء عند أحد الأصدقاء، فشعرتُ بضيقِ نفسٍ، واختناقٍ شديدٍ، فاستأذنتُ أصدقائي للرحيل، فأصروا على أن أُتم السهرة معهم، ولكني لم أستطع، وقلتُ لهم: أريد أن أتمشى لأستنشق هواءً نقياً؛ فخرجتُ أمشي وحدي في الظلام، وبينما أنا كذلك، إذ سمعتُ بكاءً ونحيباً وابتهالاً، آتياً من خلف تلةٍ، فنظرتُ فوجدتُ امرأةً تبدو عليها مظاهر البؤس، وكانت تبكي بحُرقةٍ، وتدعو الله،
اقتربتُ منها، وقلتُ لها: "ما الذي يبكيكِ يا أختي؟"، قالت: "إن زوجي رجلٌ قاسٍ وظالمٌ، طردني من البيت، وأخذ أبنائي، وأقسم ألا أراهم يوماً، وأنا ليس لي أحدٌ، وليس لي مكانٌ أذهب إليه"؛ فقلتُ لها: "ولماذا لا ترفعين أمرك للقاضي؟"، فبكت كثيراً وقالت: "كيف لامرأةٍ مثلي أن تصل للقاضي؟". يقول الشيخ وهو يبكي: والمرأة تقول هذا، وهي لا تعلم أن الله سبحانه وتعالى قد جَرَّ القاضي -يقصد نفسه- من رقبته ليُحضرهُ إليها!
فسبحان مدبر الأمر، سبحان من جعل القاضي يخرج في ظلمة الليل، ليقف أمام هذه المرأة بقدميه، ويسألها هو بنفسه عن حاجتها، إنه من يعلم السر وأخفى. لماذا أحس القاضي بالضيق؟ ولماذا خرج وحده في الظلام؟ ولماذا في هذا الوقت وفي هذا المكان دون غيره؟ كل ذلك لم يكن ليكون لولا أنه من (تدبير الله) سبحانه وتعالى.

يقول الله جلَّ شأنه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾.
يقول المفسرون: التدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود. ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ أي يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، ويُهيئ الأسباب لإنفاذ مشيئته؛ فالله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ ولا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، ولا تُعجزه المسائل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ و﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [... إِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ...].

أما أهل العلم فيقولون إن من أركان الإيمان الستة، الإيمان بالقضاء والقدر؛ خيره وشره، فالمؤمن يعتقد أن الله تعالى يدبر الأمر كله، وتدبير الأمر يعم تقديره وتسهيله وإنفاذه على أحسن حال وأحمد عاقبة. و"المدبر" يعني أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الفاعل الحقيقي في هذا الكون، وأنَّ ما نظنه هو الفاعل من البشر أو غيرهم ما هو إلا سبب، فلو لم يُرد الله أمراً لن يحدث أبداً. و"المدبر" يعني -أيضاً- أن الله -سبحانه وتعالى- يدبر شؤون عباده المؤمنين بما هو أصلح لدينهم ودنياهم.
‏‏
ويقول أحد السلف: "لو علم العبد كيف يدبر الله له أموره؛ لعلم يقيناً أنّ الله أرحم به من أمه وأبيه، ولذاب قلبه محبةً لله".

ويقول الشاعر:
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ
أَبْشِرْ بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِهِ
لا تَيْئَسَنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحْدِثُ بعدَ العُسرِ مَيْسَرَةً
لا تَجْزَعَنَّ فإنَّ القاسمَ اللهُ
إذا بُلِيتَ فثقْ باللهِ، وارْضَ بهِ
إنَّ الذي يَكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ
واللهِ مَا لَكَ غيرُ اللهِ مِن أحدٍ
فحَسْبُك اللهُ في كُلٍّ لكَ اللهُ

تتكرر قصة عم مصطفى وقصة قاضي الشام في حياتنا بأشكالٍ وصور وتفاصيل مختلفةٍ؛ نتساءل في أول الأمر: "لماذا يحدث هذا؟!"، أو "كيف حدث هذا؟!"، أو "لماذا أنا يا رب؟"، ثم عندما يتبين لنا أن ما حدث هو من (تدبير الله) سبحانه وتعالى، لا نملك سوى أن نقول: سبحانك ربنا، رضينا بما قسمتَ لنا، والحمد لله رب العالمين. قد ندرك نعمة الله علينا وتلطفه بنا ورحمته لنا بما كنا نظنه شراً -بعد وقتٍ قصيرٍ أو طويلٍ- حينها نخجل من أنفسنا، ونستحي من الله سبحانه وتعالى، وندرك أننا كأننا نطالع لأول مرةٍ الآية الكريمة: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقد تمر الأيام والسنون ولا ندرك حكمته سبحانه فيما جرت به المقادير فنسَلِّم بعدها بأن ما حدث هو من (تدبير الله) عزَّ وجلَّ؛ خفف عنا به ضُراً لم نكن نعلمه، أو أنه ادخر لنا ثواباً وأجراً في الآخرة لم نكن لنستحقه لولا وقوع ما نحسبه شراً أو بلاءً.

أحبتي .. إن (تدبير الله) خيرٌ من تدبيرنا لأنفسنا. وصدق مِن الصالحين مَن قال: إذا أردنا الفلاح في الدنيا والآخرة فلندعو الله أن يدبر لنا؛ فنحن ليس بأيدينا شيءٌ إلا السعي والأخذ بالأسباب، والله ولي التدبير لنا وللمخلوقات جميعاً، وقد ندعو الله بما نحب، فإذا وقع لنا ما نكره علينا الرضا والتسليم بما قدَّر الله؛ فان اختيار الله لنا أفضل وأكمل. وقد تتأخر استجابة الدعاء، فلنثق بالله ولا نستعجل.
سبحان مُدَبِّر الأمر، سبحان العليم بخلقه، اللطيف بهم؛ يسمع دعاءهم وشكواهم، ويُفَرِّج كروبهم وهمومهم، فيا مَن تشعر بالبؤس والضيق، ويا مَن تشعر بالظلم، ويا مَن تظن أن الدنيا قد أظلمت في وجهك، فقط ارفع يديك إلى السماء، وتضرع لمن يسمع الدعاء، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وكُن على يقينٍ أن الله يُدَبِّر الأمر، ويأتي بالفرج بعد الضيق، وباليسر بعد العسر؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾.
اللهم دَبِّر لنا فإنّا لا نُحسن التدبير، وأعِنّا على ما أردته بنا مِن تغيير، واكتب لنا في كل خطوةٍ التيسير، إنك بنا يا ربنا لطيفٌ خبير.

http://bit.ly/3axdZWF)


الجمعة، 28 فبراير 2020

إطعام الطعام

الجمعة 28 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٨
(إطعام الطعام)

تقول إحداهن: عشتُ وأنا صغيرةٌ لفترة مع جدتي التي لم تنل قسطاً كافياً من التعليم، لكن الله رزقها بدلاً من ذلك حكمةً فطريةً عجيبةً، وإيماناً عميقاً.
كانت تمر بالبيت أحياناً ظروفٌ اقتصاديةٌ صعبةٌ مثلما يحدث في كثيرٍ من بيوت الناس لأي سببٍ مثل ألا يستطيع خالي إرسال مالٍ لها، ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت أثناءها إلى أن تمر الأزمة بسلام.
لكن في يومٍ لا أنساه، مرت جدتي بأزمةٍ طاحنةٍ مفاجئةٍ لم تكن في الحسبان؛ حيث نزلت إلى السوق لتشتري بعض الحاجيات فضاع منها كيس نقودها أو سرقه أحدهم، فعادت إلى البيت ودخلت فوراً وهي شاردةٌ نحو دولاب الملابس لتخرج آخر ما تبقى من نقود، ولا أنسى أبداً شكلها حين تسمرت وهي تنظر إلى آخر ورقة نقود؛ خمسة جنيهاتٍ هي كل ما تبقى لمصاريف البيت كله! أمسكت بها لدقيقةٍ كاملةٍ تنظر إليها، وكأن نهراً من الأفكار والحسابات المعقدة يمر بعقلها، وظهرت -لأول مرة- في عيني المرأة القوية دموع الحيرة والعجز، ثم كأنها وجدت الحل واتخذت قراراً مفاجئاً؛ فالتفتت إليّ بحماسةٍ وتصميمٍ تطلب مني أن أساعدها فيما ستفعله، لكن ما طلبته كاد يصيبني بالجنون؛ طلبت مني أن أنزل لشراء عشر بيضاتٍ وربع كيلو عدس، فظننتُ أنها ستطبخه لنا، لكنها أخذت تطبخ العدس في استغراقٍ وإتقانٍ، وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر البيت، وسلقت البيض، وسخَّنت بعض أرغفة الخبز، ووضعت بعض الملح والفلفل في ورقةٍ صغيرةٍ، ثم أخذت كل هذا ونزلت إلى الشارع، وأعطته لبعض الفقراء في الحي. كدتُ أُجن؛ فقد نفد كل ما عندنا من مالٍ، وكدتُ أصرخ فيها: "على الأقل، كنتِ أعطيتني بيضةً منهم!"، وكأنها قرأت ذلك في عينيّ المذهولتين؛ فقالت في إيجازٍ وثقةٍ كلمتين اثنتين فقط: "اصبري.. سترين"!
رجعنا إلى البيت قُبيل العصر، ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت، لكننا استيقظنا على صوت طرقٍ مزعجٍ لباب البيت؛ فتحنا الباب، فإذا بولدٍ ممن يبيعون في السوق يسأل جدتي: "هل هذا هو كيس نقودك يا حاجة؟"، كان سقط منها أمام محله، ولما حاول اللحاق بها تاهت منه في زحمة السوق، ولأنه أمينٌ فقد سأل الباعة حوله عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا والتي تأتينا كل أسبوع؛ فأرشدته إحدى البائعات إلى منزلنا. ولم تمضِ ساعةٌ حتى سمعنا صوت طارقٍ آخر؛ فإذا بصديقٍ لخالي عاد من سفرٍ جاء ليرد دَيْناً عليه لخالي، اقترضه قبل السفر، مع هدايا وحلويات.
يومها قالت جدتي: "يا ابنتي.. اللُقمة تزيح النِقمة.. كلما أحسستِ بضيقٍ أطعمي فقيراً أو محروماً"، قلتُ لها ضاحكةً: "ألم يكن هناك طعامٌ أفضل من العدس؟"، قالت: "العدس من الأطعمة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، كما أني أحبه؛ وأفضل الصدقات أن تتصدقي بما تحبينه من الطعام، قدمي للناس ما تحبينه من طعامٍ فيجعل الله البركة في طعامك".
كبرتُ، وعرفتُ فيما بعد التأصيل الشرعي لثقافة جدتي؛ عرفتُ الحديث القدسي: {أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ}، وتعلمتُ قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
لم تكن جدتي تحفظ هذه النصوص، لكن هذا اليقين يسري في كيانها كله.
كانت في أيام الشتاء الباردة تسلق البيض وتوزعه على الجنود الواقفين في الشارع لتنظيم المرور، أو تعمل شطائر فولٍ وتعطيها لعمال النظافة.
كبرتُ وقرأتُ الكثير عن فضائل الإنفاق في سبيل الله وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة، فاستقبلتُها في يقينِ مَن عاين كل هذا بأم عينيه، ورأى كيف يستر الله أسرةً بسيطةً كبيرة العدد قليلة الرزق عبر سنواتٍ، ويعبر بهم نهر الحياة في بساطةٍ وبركةٍ ويسر. تعلمتُ أنَّ التعامل مع الله تجارةٌ رابحةٌ، وأنَّ مَن تعامل مع الله عرف كرمه ولطفه ورحمته، فقط حين نتعامل معه -سبحانه- بيقين.

أحبتي في الله .. يظن بعض الناس أن الإنفاق في سبيل الله يقتصر فقط على الجهاد والإعداد له، ولا يعلمون أن (إطعام الطعام) هو أحد أهم مجالات الإنفاق في سبيل الله، ولأهميته جعله الله سبحانه وتعالى من مصارف الزكاة، وجعله زكاةً للفطر، ورضي أن يُنذَر به، وأن يكون به الهَدي، وأن تُذبح له الأضاحي، وأن يكون من الكفارات.
وما يزال بعضنا يظن أن الإطعام تفضلٌ من الإنسان المسلم؛ له الخيار أن يفعله أو ألا يفعله، ولا يعلم أن (إطعام الطعام) للفقراء والمساكين والمحتاجين هو واجبٌ وفرضٌ، وهو سببٌ لنيل رضا الله وثوابه.

يحثنا المولى عزَّ وجلَّ على (إطعام الطعام)؛ يقول تعالى: ﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾.
والإطعام من أسباب النجاة من أهوال يوم القيامة؛ يقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا . فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا﴾، وهو من صفات الأبرار؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا . يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا . وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾، كما أن (إطعام الطعام) من صفات أصحاب الميمنة؛ يقول تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ . ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾.
وفي الحديث القدسي؛ يقول تعالى: {يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟}.
وفى السُنة المشرفة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ]. "الْعَانِيَ": أي الأسير.
و(إطعام الطعام) من أسباب دخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ]، وقال: [إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا، تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا]. فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: [لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ].

و(إطعام الطعام) له فضائل كثيرةٌ، منها: إنه خير الأعمال؛ فقد سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: [تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ]. وقال: [إِنَّ اللَّهَ لَيُرَبِّي لِأَحَدِكُمْ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ]. "الفَلُو" هو المُهر. "الفَصِيل" هو ﻭﻟ ﺍﻟﻨﺎﻗﺔ ﺇﺫﺍ ﻓﺼﻞ ﻣ ﺭﺿﺎﻉ ﺃﻣﻪ.
و(إطعام الطعام) حرزٌ ووقايةٌ للمسلم من النار؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اتّقُوا النّارَ ولَو بشِقّ تَمرَة].
والجار المحتاج هو أولى الناس بالإطعام؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ].

يقول أحد العلماء إن من ثمرات (إطعام الطعام) كسب الكثير من الأجر والثواب، وشُكر الله تعالى على نعمة المال، وتطهير نفس المُطعِم من البُخل والشُح، وتطهير نفس الفقير أو الجائع من الحَسد والحِقد والغِل على غيره من ميسوري الحال، وتحقيق المودة والترابط بين أبناء المجتمع المسلم وانتشار الخير فيما بينهم.

وعن آداب (إطعام الطعام) يقول أهل العلم: لكي يؤدي الإنفاق تلك الثمار العظيمة لابد وأن يكون المُنفِق مستحضراً آداباً أهمها: الإخلاص؛ فيبتغي المُطعم الأجر من الله وحده، فمن أنفق رياءً أو سمعةً أخذ حظه من ثناء الناس في الدنيا، وليس له حظٌ في الآخرة. ثم عدم المن والأذى؛ إذ أن المن يخدش كرامة النفوس الكريمة ويجرح مشاعرها، ويستذلها بمنته، ويُشعرها بالصَغار والهوان. وكذلك الإنفاق من المال الطيب؛ لأن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيباً. وأيضاً الاعتدال في الإنفاق؛ لأن المال أمانةٌ عند صاحبه، فهو مال الله، رزقه هذا الإنسانَ ليتعامل به بما لا يتجاوز القصد والاعتدال، فلا يُبذِّر ويُسرف، ولا يقتُر فيشح ويبخل ويُمسك.

وورد الترهيب من عدم الحض على (إطعام الطعام) أو منعه؛ في قوله تعالى في صفات من أُوتي كتابه بشماله: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ . إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ . وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين . فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ الْمُجْرِمِينَ . مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ . قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ . وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾.

أحبتي .. (إطعام الطعام) عملٌ عظيمٌ لا يقتصر على موائد الرحمن أو الإطعام أو توزيع حقائب المواد الغذائية والكراتين أو كفارة الإفطار أو زكاة الفطر في شهر رمضان المبارك فحسب، ولا مجرد نذرٍ نتطوع به نافلةً، ولا هو فقط كفارة الحنث في اليمين أو عدم الوفاء بالنذر، أو غير ذلك من كفارات. (إطعام الطعام) لا يكون فقط على وجه الاستحباب؛ إنما هو فرضٌ وواجبٌ على المسلم يترتب على تركه عذابٌ ووعيدٌ شديد. إنه من أوجه الخير التي ينبغي أن نقوم بها طوال العام؛ يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً، كلٌ حسب استطاعته ومقدرته، ابتغاء وجه الله، ورغبةً في تحصيل أعظم الثواب. فلنعَوِّد أنفسنا وأبناءنا على (إطعام الطعام) للفقراء والمساكين والمحتاجين، ولنخصص لذلك مبلغاً محدداً، قلَّ أو كَثُر، المهم الاستمرارية بغير توقفٍ؛ فإن [أَحَبَّ الأَعْمَالِ إلىٰ اللهِ أَدْوَمُهَا وَإنْ قَلَّ] كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون الإطعام ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ حتى ﴿تَنَالُوا الْبِرَّ﴾، ويكون على الأقل ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾. وأُذَكِّر نفسي وأُذَكِّرْكُم بما نهانا عنه المولى سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ فلا تطعموا إلا من أطيب الطعام. وأُذَكِّر نفسي وأُذَكِّرْكُم بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ فلا نطلب الدعاء ممن نطعمهم أو نتصدق عليهم؛ حتى يكون عملنا خالصاً لله عزَّ وجلَّ، ويكون ثوابه كاملاً، فإذا دعوا لنا من تلقاء أنفسهم فلندعو لهم بمثل ما دعوا لنا به. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

http://bit.ly/2T8jWnl

الجمعة، 21 فبراير 2020

نعمة الابتلاء


الجمعة 21 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٧
(نعمة الابتلاء)

كتب أحد كبار الأطباء على صفحته بفيس بوك يقول: استحييتُ من ربي، وعرفتُ ضعف إيماني عندما حضرت بالأمس لعيادتي تلك الأسرة برفقة ابنتهم التي انتشر في جسدها الورم الخبيث وتغلغل، وسقط شعرها من العلاج الكيماوي، وتعاني من التهابٍ شديدٍ؛ حضرت لي لتُعالج منه، وأدركتُ أنَّ البلاء على قدر الإيمان، وأنَّ الصبر والرضا عليه يختص الله به عباداً أحبهم.
الأب متوسط الحال في أواخر الثلاثينات، والأم في أولها، وكلاهما لا تفارق لسانه عبارة "الحمد لله"، ولا تفارق شفتيه ابتسامة الرضا، رغم أنهما في ابتلاءٍ شديدٍ؛ فقد مات لهما من قبل ولدان بنفس الداء "السرطان"، وإذا به يصيب الابنة الوحيدة الباقية لهما؛ ابنة السنوات السبع، وها هي مشرفةٌ على الرحيل، يتبادلان معها الضحك، وكأنها مصابةٌ بنزلة بردٍ، ويهونون عليها. الطفلة كالقمر يوم اكتماله بالسماء، زَلْزَلَتْ كياني وأبكتني عندما قالت لي بفرح: "دكتور، بابا وماما اشتريا لي فستاناً جديداً؛ لأني عن قريبٍ سأزور أخوي سعيد ومصطفى في الجنة". ابتسم الأب وقال لي همساً: "هكذا تعودنا على رحلة العذاب؛ تشخيصٌ وعملياتٌ وعلاجٌ ثم نستعد كل مرةٍ لتسليم الأمانة لخالقها، عندما يقترب موعد الرحيل. تعاهدتُ أنا وأمها -منذ رحيل طفلنا الأول- أن نُلقي في قلوب أبنائنا أنهم ذاهبون إلى الجنة، فيها ما يعوضهم عن رحلة العذاب في الدنيا، وأنَّ من سبقه من إخوته ينتظره على بابها. وها نحن نُهَِّونُ عليها وعلى أنفسنا استقبال الموت الذي أصبح ضيفاً علينا تتكرر زيارته كلما تفتَّحتْ أوراق زرعنا". شَدَدْتُ على يديه، ويعلم الله لو استطعتُ تقبيلها لفعلت. قَبَّلْتُ الطفلة وقلبي يبكي. يعلم الله أنَّ بكاء قلبي هذه المرة كان على نفسي، وأنا أشعر أنَّ الله أرسل لي هذه الأسرة الصابرة، والبنت المبتلاة، لأستحي وأعرف ضعف نفسي وهوانها؛ فأنا عندما تشوكني شوكةٌ املأ الدنيا عويلاً وصياحاً!
يعلم الله، منذ رأيتُ هذه الأسرة، في الساعة الرابعة من عصر أمس، لم تفارق عينيّ صورتهم، ولم يغب عن أذنيّ صوت الملاك الصغير: "أنا ذاهبةٌ لأقابل إخوتي بالجنة".
ما أصغركِ يا نفسي، وعذراً لك يا ربي؛ أيقنتُ الدرس وتعلمتُه، وأدركتُ أنَّ الشكوى لغيرك مذلةٌ، وأنَّ الصبر على البلاء درجةٌ عاليةٌ تختص بها عباداً لم أرْتَقِ بَعْدُ لأكون واحداً منهم. حقّاً؛ لا يشعر المرء بتفاهة نفسه إلا عندما يرى الصابرين.

أحبتي في الله .. كان هذا ما كتبه الأستاذ الدكتور ذو القلب الرحيم، ونشره على صفحته على فيس بوك -نقلتُه بتصرفٍ يسير- فانهالت بعد ذلك تعليقات القراء، اخترت لكم منها ما يلي:
- يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ ذَكَرَ ربنا سبحانه وتعالى الصابرين بعد الخوف والجوع والفقر والموت، فهم الذين استرجعوا وتذكروا بأننا جميعاً لله، وأننا جميعاً إليه سنعود، ووصفهم بأنهم هم المهتدون، واختصهم بصلاةٍ منه ورحمة. كم أنت رحيمٌ يا رب العالمين، تُصلي على عبادك الصابرين.
- قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ]. "لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ" يعني: قبل بلوغ الحُلُم.
- وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ].
- ذكرني هذا الموقف بتصرف أم سُليم الصحابية مع زوجها أبي طلحة؛ وكيف نقلت له خبر موت ابنهما الصغير فقالت: "يا أبا طلحة، أرأيتَ أن قوماً أعاروا قوماً عاريةً لهم، فسألوهم إياها، أكان لهم أن يمنعوهم؟"، فقال: "لا"، قالت: "فإن الله عزَّ وجلَّ كان أعارك ابنك عاريةً، ثم قبضه إليه، فاحْتَسِبْ واصْبِرْ"، فاسترجَع، وحَمِدَ الله. "عارية": شيءٌ مستعار.
- اللهم بحق سماواتك وأراضيك، وما بينهما، وما فيهما، وبحق عبادك الصالحين المتقين، وبحق رحمتك وعفوك وغفرانك، وقدرتك على كل شيء، اشفها شفاءً لا يغادر سقماً يا رب العالمين.
-شفاها الله، وجزى الله والديها خيراً على صبرهما، وعلى ما علماه إيانا من عظةٍ، ونسأل الله الثبات.
- اللهم الطف بها، وبأهلها، وجازهم على صبرهم وقوة إيمانهم خيراً.
- هؤلاء تجاوزوا مرحلة الصبر، هؤلاء في مقام الرضا، ولهم من الله جزاءٌ عظيمٌ.
- أنزل ربنا سبحانه وتعالى على الوالدين السكينة، وجعل صبرهما في ميزان حسناتهما.
- اللهم اربط على قلوبهما، وثبتهما، وأجرهما أجر الصابرين، واجعل أبناءهم أفراطاً لهما على الحوض، نسأل الله لهما العفو والعافية. "الفَرَط": الطفل الصغير.
- إنها حقاً أسرةٌ عظيمةٌ تستحق الثناء، ربط الله على قلوبهم.
- حقاً إنه الصبر جزاؤه الجنة؛ فهذا المرض اللعين لا يستطيع الصبر عليه إلا من اختصه الله سبحانه وتعالى برحمة.
- لله حكمةٌ في ابتلاء عباده، والابتلاء ليس فقط للمريض، بل لكل مَن حوله، ولكل من علم بمرضه، الابتلاء واعظٌ لمن له عقلٌ وقلبٌ وروحٌ تسعى لرضا الله.
- عجز اللسان عن التعبير، وعجزت اليد عن كتابة أية مواساةٍ أو تعزية لكبر الابتلاء وعِظَم الصبر.
- الصواعق لا تضرب سوى قمم الجبال الشامخة، وأما المنحدرات فلا تذهب إليها إلا المياه الراكدة، والمرء يُبتلى على قدر شموخه ورفعته.
- عند المصاعب والمصائب تظهر المعادن الأصيلة، ويظهر أصحابها الناظرون إلى ربهم مستبشرين؛ فما أعظمهم.
- أبكيتنا يا دكتور، وأدميتَ قلوبنا، وأحسستنا كم نحن ضعافٌ، وكم نحن في نعمة.
- قصتك هذه جعلتنا نفيق من أحزاننا ونستهين بها؛ كنا نحتسب أنفسنا من الصابرين، إلى أن عرفنا ما هو الصبر الحق، قواهم الله وصبَّر قلوبهم.

وعن (نعمة الابتلاء) يقول العلماء إن وقوع البلاء من السنن الكونية على المخلوقين اختباراً لهم، وتمحيصاً لذنوبهم، وتمييزاً بين الصادق والكاذب منهم يقول الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، ويقول: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾.
والابتلاء نعمةٌ للمؤمن؛ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ خَيْرًا عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللَّه بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بهِ يَومَ الْقِيامةِ]، وقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ خَيْرًا ابْتَلَاهُمْ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ].
وأكملُ الناس إيماناً أشدهم ابتلاءً؛ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: [الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ].
يقول أهل العلم إن (نعمة الابتلاء) تظهر جليةً في فوائده ومنها: تكفير الذنوب ومحو السيئات، رفع الدرجة والمنزلة في الآخرة، فتح باب التوبة والذل والانكسار بين يدي الله، تقوية صلة العبد بربه، تذكر أهل الشقاء والمحرومين والإحساس بألآمهم، تعزيز الإيمان بقضاء الله وقدره واليقين بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، وتَذَكُر المآل وإبصار الدنيا على حقيقتها.
والمؤمن كل أمره خيرٌ، فهو في نعمةٍ وعافيةٍ في جميع أحواله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ].
وللصبر على البلاء ثوابٌ عظيمٌ يغبطهم عليه يوم القيامة مَن لم يُبتلى؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ].
واقتضت حكمة الله اختصاص المؤمن غالباً بنزول البلاء تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته، أما الكافر والمنافق فيعافَى ويُصرَف عنه البلاء وتُؤخَر عقوبته في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتَّى تَسْتَحْصِدَ]. "تَسْتَحْصِدَ": أي يقع عليها الحصد يوم القيامة. ومعنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفرٌ لسيئاته، ورافعٌ لدرجاته، وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيءٌ لم يُكفِر شيئاً من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملةً.

أحبتي .. الابتلاء واقعٌ بنا جميعاً لا محالة، نسأل الله أن يخفف وقعه علينا، وألا يحرمنا (نعمة الابتلاء) وثواب الصبر عليه والتسليم بقضاء الله وقدره، وأن يُلهمنا الثبات، ويجعلنا وقت البلاء من الصابرين، وعند الابتلاء من الشاكرين.
اللهم اجعلنا من المؤمنين الخاشعين القانتين الراضين بقضائك وقدرك الحامدين لك على آلائك ونعمك.

http://bit.ly/32dcyK2


الجمعة، 14 فبراير 2020

بالشكر تدوم النعم/2


الجمعة 14 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٦
(بالشكر تدوم النعم)

قصةٌ واقعيةٌ رواها صاحبها فقال: في شهر مارس الماضي كنتُ خارجاً من المسجد بعد صلاة العصر، وطئتُ بقدمي طوبةً صغيرةً فاختل توازن جسمي؛ فسقطتُ فانكسرت قدمي؛ ذهبتُ إلى المستشفى، وبعد عمل الأشعة تم تشخيص الحالة على أنها كسرٌ في قاعدة المشطية الخامسة بالقدم. تم تجبيس القدم والساق حتى الركبة، وأخبرني الطبيب أن الجبس سيستمر ما بين شهرٍ ونصف إلى شهرين! ما هذا الذي تقول؟ مستحيل، إنها مجرد طوبةٍ صغيرةٍ جاءت قدمي فوقها، فلم تصدمني سيارةٌ ولم أسقط من مكانٍ مرتفع!
مساء نفس اليوم، وبعد العودة إلى البيت بدأت تتكشف لي حقائق وتتتابع دروسٌ وعبرٌ ما كنت ألحظها ولا أُلقي لها بالاً؛ بدأتُ أكتشف أهمية قدمي للمرة الأولى في حياتي! وأكتشف عظيم ما تقدمه لي من خدماتٍ، وما تقوم به من أدوار لم أشعر بها قبل اليوم! صار دخول الحمام مهمةً تحتاج إلى تخطيطٍ وتنسيقٍ وترتيبٍ وتركيزٍ شديدٍ جداً، الوضوء والصلاة وقضاء الحاجة صارت مهام تحتاج إلى ترتيباتٍ خياليةٍ وصعوباتٍ بالغة!
فجر اليوم الأول بعد الحادث ذهبتُ إلى الحمام وبعدما توضأتُ سقطتُ سقطةً في الحمام، لا أعرف إلى الآن كيف نجوتُ منها، لكن الله سَلَّم.
صرتُ لا أستطيع المكوث بمفردي في البيت؛ فلابد من وجود مَن يقوم على خدمتي ورعايتي، ولم يعد بإمكان أفراد الأسرة اتخاذ قرارات خروجهم من البيت بمعزلٍ عن هذا التغيير الذي حدث. صار الحمام بعيداً جداً وشاقاً، وصار المطبخ في قارةٍ أخرى! لأول مرةٍ أستوعب مشاعر مَن أقعده المرض ومشاعر كبار السن، وأتخيل من يعيش وحده وتتوقف حياته حتى يأتي مَن يخدمه ويساعده ويرعاه! لم أكن أتخيل أبداً أهمية وخطورة قدمي إلى هذا الحد، فمجرد أن تعطلت قدمي تعطلت حياتي كلها وتبدلت تماماً!
في أحد الأيام كنتُ وحدي في البيت لوقتٍ قصيرٍ، فذهبتُ على مشّاية كبار السن على قدمٍ واحدةٍ إلى المطبخ، وصنعتُ لنفسي كوباً من الشاي ثم اكتشفتُ مفاجأةً لم تخطر ببالي: كيف سأعود بكوب الشاي لكي أشربه أمام التلفاز؟! لقد اكتشفتُ أن العودة سيراً على قدميّ بكوب الشاي في يدي نعمةٌ عظيمةٌ لم أنتبه إليها قط!
طوبةٌ صغيرةٌ تحت قدمي بدلت برنامج حياتي كله .. يا سبحان الله .. خرجتُ من بيتي في الصباح ماشياً، وعدتُ في المساء محمولاً على أكتاف أصحابي.
في مطلع شهر إبريل شعرتُ بألمٍ رهيبٍ في سمانة ساقي التي بها الكسر، فأسرعتُ في منتصف الليل إلى المستشفى، وبعد فك الجبس وإجراء الفحص بالموجات الصوتية تم تشخيص الحالة بأنها جلطةٌ في الأوردة العميقة، وهي تحصل في حالات الجبس أحياناً نتيجة عدم الحركة. كان يتم حقني بحقنةٍ في البطن، لم يمر عليّ في حياتي شيءٌ بهذا الرعب، كنتُ أفكر في الحقنة التالية، والحقنة الحالية لم تخرج من جلدي بعد!
تم حجزي بالمستشفى؛ فنتيجةً لنوبة سعالٍ أصابتني حصل شكٌ في أن الجلطة وصلت للرئة، فتم نقلي إلى العناية المركزة فوراً، وبدا أن طوبةً تحت قدمي أمام المسجد قد تحولت إلى كابوسٍ مرعب. تم عمل أشعةٍ بالصبغة على الصدر على أن نعرف نتائجها في صباح اليوم التالي، في الصباح كانت حياتي كلها متوقفةً على كلمة الطبيب الذي راجع الأشعة، دخل عليّ حاملاً الأشعة، وأنا في انتظار كلمةٍ فارقة! "الأشعة سليمةٌ والحمد لله" قالها الطبيب بكل بساطةٍ؛ فانتهت في عقلي سيناريوهاتُ مرعبةٌ محزنةٌ مؤلمة!
كانت المعضلة هي أن القدم ما زالت مكسورةً، لكن الجبس ممنوعٌ بسبب جلطة الساق، وأن علاج الجلطة مقدمٌ على علاج الكسر، مما يعني أن العودة للمشي عليها سيحتاج لوقتٍ أطول من الطبيعي. تورمت قدمي وتغير لونها بسبب عدم وجود الجبس، وبسبب الاعتماد على قدمٍ واحدةٍ أصبح هناك ألمٌ رهيبٌ في مفصل الحوض في القدم السليمة، وفي ركبة الساق السليمة، أصبحتْ يدي تؤلمني من ثقل الاعتماد عليها وزاد وزني! وبسبب عدم الحركة لمدة شهرٍ اختفت عضلة سمانة القدم المكسورة تقريباً.
مرَّ عليّ أكثر من شهر لم تمس جبهتي الأرض! فأنا أتوضأ وأُصلي في الفراش مستلقياً، لأني ممنوعٌ حتى من الجلوس العادي، أكاد أُجن من شوقي لصلاةٍ أسجد فيها لله على الأرض، وأقف وأركع وأجلس كما كنت من قبل بشكل طبيعيٍ وعادي! المرض الشديد الذي أقعدني عن الحركة عرفني معنى الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

أحبتي في الله .. نعمةٌ واحدةٌ من نعم المولى عزَّ وجلَّ التي لا تُعد ولا تُحصى، أقعدت هذا الشخص لشهور طويلةٍ، لم يشعر بقيمتها إلا عندما فقدها، رغم أن فقدها كان مؤقتاً لكنه كان مؤثراً، فإذا علمنا أن (بالشكر تدوم النعم) فهل يا تُرى نقوم بشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه العظيمة كما ينبغي أن يكون الشكر؟
يقول أهل العلم إن الله أمر بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله، وحارساً وحافظاً لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته. والشكر من العبادات العظيمة التي ينعم الناس بثمرتها في العاجل والآجل: شكر الله تعالى على ما أولى من نعم، و"الشكر نصف الدين" كما قال جماعةٌ من السلف، وكما قيل (بالشكر تدوم النعم). وقد امتلأ كتاب ربنا بكثيرٍ من الآيات عن الشكر والشاكرين؛ من ذلك: يقول الله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، كما يقول: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: [أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟]. وقال لمعاذ: [أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ]، وكان مما يدعو صلى الله عليه وسلم: [رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا].

وعن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، يقول المفسرون: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾، أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ، ﴿لَا تُحْصُوها﴾، أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا، ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، أَيْ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعصية كافرٌ بربه فِي نِعْمَتِهِ. وَقِيلَ الظَّلُومُ الَّذِي يَشْكُرُ غَيْرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، والكَفَّارٌ من يجحد منعمه.
جاء في الأثر أن داود عليه السلام قال: "ربِ، كيف أشكرك وشكري لك نعمةٌ منك علي؟"، فقال الله تعالى: {الآن شكرتني يا داود}، أي: إنك شكرتني حين اعترفتَ بالتقصير عن أداء شكر النعم.

وعن الشكر قال أحد العلماء: هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبةً، وعلى جوارحه انقياداً وطاعةً. والشكر مبنيٌ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.

يقول الشاعر:
إذا كانَ شكري نِعمةَ اللهِ نِعمةً
عليّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشكرِ إلا بفضلِه
وإنْ طالتْ الأيامُ واتصلَ العمرُ
إذا عَمَّ بالسراءِ عَمَّ سُرورُها
وإنْ خَصَّ بالضَراءِ أعقبَها الأجْرُ

ويقول آخر:
آلاءُ ربي لا يُحصيها عَددُ
وإنْ يجعلوا البحرَ في عَدِّها مَددُ
البحرُ ينفدُ والآلاءُ لا تُحصى
فسبحانُه ربٌ واحدٌ أحدُ
فمن مسَّتهُ نعماءُ يحمدُه
فشرُ الناسِ قد نَعِموا وما حَمدوا
والنِّعمُ في كلِ العبادِ تفاوتت
ليَمِيزَ ربّي مَنْ شَكروا ومَنْ حَسدوا

أحبتي .. عندما يعيش كلٌ منا حياةً عاديةً فليحمد الله سبحانه وتعالى عليها، فلا تمر لحظةٌ واحدةٌ ننسى فيها نعم الله علينا، أو ننسى فيها شكر الله على نعمه، أو ننسى أن (بالشكر تدوم النعم).
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا، إنا تبنا إليك، وإنا من المسلمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

http://bit.ly/31TMSly


الجمعة، 7 فبراير 2020

يسارعون في الخيرات/2


الجمعة 7 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٥
(يسارعون في الخيرات)

شابٌ من البادية نزل بغداد للعلم والتجارة، واستأجر غرفةً ليسكن فيها. بعد صلاة الفجر يخرج للعمل، وبعد صلاة الظهر يذهب إلى دروس العلم والمعرفة. كان هذا الشاب يُقَّسِم أجر عمله إلى ثلاثة أقسام: ثلثٌ لأبيه، وثلثٌ لصاحب الغرفة، وثلثٌ لنفقته. مرت عليه ثلاثة أشهرٍ لا يستطيع أن يدفع إيجار سكنه، فقال له صاحب الغرفة: "أمامك ثلاثة أيام لدفع الإيجار وإلا سجنتك؛ لأني ما بنيتُ هذا البيت وقفاً للفقراء". خرج يبحث عن عملٍ في اليوم الأول فلم يجد، ذهب إلى ديوان الخراج يسألهم عن عمل فلم يجد، إلى أن جاء اليوم الثالث -يوم سجنه إذا لم يدفع إيجار الغرفة- فخرج من بيته حاملاً الدنيا فوق رأسه، يقول: أخذتُ في المشي إلى أن وجدتُ نفسي في أطراف بغداد، فوجدتُ بيتاً متهالكاً فقلتُ أستريح، ووضعتُ يدي على الباب فإذا الباب مفتوحٌ، وإذ بشيخٍ مسنٍ مضطجعٍ على سرير، فنادى علىّ وقال لي: "اسمع يا بنيّ: واللهِ ما ساقك إلىَّ إلا الله، وأنا الساعة أموت، وأشتهي عنباً"، فقلتُ له: "أبشر، وواللهِ لتأكلن اليوم عنباً". فانطلقتُ إلى السوق، وذهبتُ إلى بائعٍ يبيع العنب وسألتُه: "بكم هذا العنب؟"، فقال: "بدرهم"، فقلتُ له: "خُذ ثوبي هذا رهناً عندك إلى أن آتيك بالمال"، وأخذتُ العنب وأنا أجري به حتى ألحق الرجل قبل موته، وقدمتُ إليه العنب، مع أني في حاجةٍ إليه أكثر منه، وبعد أن أكل العنب قال لي: "اسمع يا بنىّ: هذا الركن في هذه الغرفة، احفر تحته وستجد شيئاً"، أخذتُ في الحفر إلى أن وجدتُ جرةً مليئةً بالمال والذهب، وقدمتُها له، فسكبها في ملابسي ثم قال لي: "هي لك، لكن لهذا المال قصةٌ يا بنيّ؛ كنتُ أنا وأخي تاجرين كبيرين نذهب للهند والسند، ونتاجر في الحرير والصوف، وكنا نخاف من اللصوص وقُطّاع الطرق، وفي يومٍ من الأيام نزلنا منزلاً فقلتُ لأخي: هذا المنزل يرتاده قُطّاع الطرق، وأنا أخشى على مالي ومالك، أعطني مالك كي أخفيه مع مالي في مكانٍ آمن، ثم أرجع إليك، فإن أصبحنا وسلمنا أخذنا مالنا ومشينا، وما كدتُ أدخل في النوم مع أخي إلا وجاء اللصوص وقتلوا مَن قتلوا، ونهبوا ما نهبوا، وما فقتُ إلا من حر الشمس في اليوم التالي، وأخذتُ أبحث عن أخي فلم أجده لا بين الأحياء ولا بين الأموات، فدخلتُ بغداد وبنيتُ هذا البيت، وأخفيتُ هذا المال الذي هو مال أخي منذ عشرين عاماً، فإن مِتُ فهو حلالٌ لك"، ثم نطق الرجل بالشهادتين ومات. يقول: فأخفيتُ المال وخرجتُ أبحث عمن يُعينني على دفن هذا الشيخ، وبعد دفنه عدتُ لآخذ جرة المال، فبعد أن كنت فقيراً معدماً أصبحتُ من أثرياء بغداد. أخذتُ المال وذهبتُ إلى بائع العنب وأعطيتُه ثمن العنب وأعطاني ثيابي، ثم أردتُ أن أركب مركباً لأنتقل إلى الناحية الثانية مِن نهر دجلة، فوجدتُ مراكب كثيرةً، لكنني وجدتُ مركباً صاحبه يبدو عليه الفقر والعوْز، فركبتُ معه وقد أحزنني حاله، وقد هممتُ أن أعطيه من هذا المال الذي معي، فبكى، ثم قال: "واللهِ ما كنتُ فقيراً في يومٍ من الأيام؛ فقد كنتُ تاجراً أذهب إلى الهند والسند، وأتاجر في الحرير والصوف، وكان لي أخٌ -لا بارك الله فيه- قد اتفق مع اللصوص كي يقتلوني ويأخذوا مالي، لكن الله نجاني، إلى أن آل بي المآل إلى بغداد".
يقول: فاسودت الدنيا في عينيّ مرةً ثانية، لقد أصبحت الجرة من نصيب صاحبها، ولابد للمال أن يعود إلى صاحبه، تدخل الشيطان وقال لي: "أعطه بعضه أو نصفه"، إلى أن توقفتُ وقلتُ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وقلتُ لصاحب المركب: "هذا المال مالك"، فلم يصدق الرجل، وحكيتُ له ما حدث بيني وبين أخيه، وأنني قد دفنتُه من ساعةٍ فقط، فأخذ الرجل يبكي ويستغفر ربه لسوء ظنه بأخيه، ثم أراد أن يعطيني شيئاً من هذا المال فأبيتُ، لكنني طلبتُ منه أن يعذرني في درهم العنب. يقول: فرجعتُ إلى بغداد مرةً ثانيةً، فقيراً معدماً كما خرجتُ منها مِن قبل، وبينما أنا أسير إذ بالعسكر الذين يعملون في ديوان الخراج ينادون عليّ ويقولون لي: "نبحث عنك"، فقلتُ سيسجنونني لعدم دفعي إيجار الغرفة، ثم قالوا لي: "لقد مات بالأمس أحد الكتاب بالديوان ونبحث عنك كي تعمل بدلاً منه"؛ فأدخلوني عندهم وأعطوني مرتب شهر، فذهبتُ إلى صاحب الدار وأعطيتُه حقه في الإيجار، وظللت أعمل بالديوان إلى أن أصبحتُ وزيراً!

أحبتي في الله .. إنها قصة العالم الفقيه الوزير ابن هُبَيْرَة، (499هـ - 560هـ) (1105م - 1165م). هو يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر، عون الدين، من كبار الوزراء في الدولة العباسية، عالمٌ بالفقه والأدب، نُعتَ بالوزير العالم العادل، قام بشؤون الوزارة -حُكماً وسياسةً وإدارةً- أفضل قيام. قيل عنه: "خرج في جنازته ما لم يُرَ في جنازة غيره في عصره".

انظروا كيف أسرع إلى تلبية رغبة شخصٍ لا يعرفه، وكيف آثره على نفسه وهو المحتاج، ثم انظروا كيف أسرع إلى رد المال إلى صاحبه، وهو نفسه محتاجٌ إلى المال، مَن منا سمع عن هذا الشخص الورع، وعن شهامته وتقواه؟ إنه كان من الذين (يسارعون في الخيرات) فجزاهم الله في الدنيا خير الجزاء، ووعدهم في الآخرة ثواباً عظيماً. وُصِفوا بأنهم المجتهدون في الطاعة، الذين من دأبهم المسارعة إلى كل عملٍ صالحٍ، وهُم إلى الخيرات سابقون، تجدهم في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفةٌ فيما يُنجي من عذابه، فكل خيرٍ سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروا لفعله.

لقد وصف الله عزَّ وجلَّ الذين (يسارعون في الخيرات) بأنهم من الصالحين، وأنهم من المتقين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾. وجعل سبحانه المسارعة في الخيرات سبباً لاستجابة الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، وجعلها سبحانه من صفات عباده المصطفين، واعتبرها هي الفضل الكبير؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: [فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ].
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالمسارعة إلى ما ينفعنا؛ يقول تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وخصَّ هذه المسارعة بالخيرات فأمرنا باستباقها؛ يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، وجعل عزَّ وجلَّ المسارعة إلى الخيرات من صفات المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾، قال المفسرون: إنهم الذين يبادرون برغبةٍ وسرعةٍ إلى فعل الخيرات، وإلى الوصول إلى ما يُرضي الله سبحانه وتعالى ﴿وَهُمْ لَهَا﴾ أي: لهذه الخيرات وما يترتب عليها من فوزٍ وفلاحٍ ﴿سَابِقُونَ﴾ لغيرهم. ﴿يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ﴾ أي في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات. ﴿وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾ فهم يسبقون إلى أوقاتها؛ فالصلاة في أول الوقت أفضل، وكل مَن تقدم في شيءٍ فهو سابقٌ إليه، وكل مَن تأخر عنه فقد سبقه وفاته. إنهم يبادرون في الأعمال الصالحة، ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته. أولئك المجتهدون في الطاعة، دأبهم المسارعة إلى كل عملٍ صالحٍ، وهُم إلى الخيرات سابقون.

وعن قوله سبحانه وتعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾ قال أحد العلماء: يقول تعالى "يُسَٰرِعُونَ" في الخيرات، ولم يقل "يسرعون" في الخيرات؛ حيث إن زيادة المبنى دليلٌ على زيادة المعنى، "يسرعون" ستة أحرف، و"يُسَٰرِعُونَ" سبعة، ويكون المعنى أنهم يسرعون إسراعاً كبيراً، تطير هممهم وتخف أجسامهم لفعل الخير وبذره وبذله. ثم إن المسارعة على وزن المفاعلة، والمفاعلة تعني المشاركة فكأنهم يتسابقون في المسارعة ويتشاركون فيها. لقد علَّمنا الإسلام المبادرة إلى الخير ودعانا للإسراع إليه؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا؛ هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَّرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ].
ثم إنه سبحانه وتعالى يقول يسارعون "فِي" الخيرات، ولم يقل يسارعون "إلى" الخيرات؛ حيث أنَّ أسرع "إلى" الشيء إذا كان خارجه واستعجل الوصول إليه، أما أسرع "فِي" الشيء إذا كان داخله وتعجل المضي فيه.
ويقول تعالى يسارعون في "الْخَيْرَاتِ" بصيغة الجمع، ولم يقل يسارعون في "الخير"؛ حيث دلالة ذلك أنهم يتفننون في الخيرات أشكالاً وألواناً، ويتنافسون فيها أعداداً وأنواعاً.

يقول أهل العلم إنَّ للمسارعة في الخير حظوةً عند المولى - جلَّ وعلا - تجعل المؤمن يقف إزاءها متدبراً لحاله، ساعياً في كماله؛ فهي سببٌ لرضا ربه عنه، كما قال موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾. وتلك المسارعة سبيلٌ لغفران الذنوب؛ وكان هذا مطمعَ سحرة فرعون حين آمنوا قالوا: ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِين﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [التُّؤَدَةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ، إلا في عملِ الآخرةِ]. وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنها- قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: [لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]. وقال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا]، وقال عليه الصلاة والسلام لرجلٍ وهو يعظه: [اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ]؛ فالمسارعة في الخيرات ينبغي أنْ تكون منهج حياةٍ لكل مسلم.

قال الشاعر:
سابِقْ إلى الخيرِ وبادِر بِهِ
فإنَّ مِنْ خَلفكَ ما تَعلمُ
وقَدِّم الخيرَ فُكُلُّ امرئٍ
على الذي قَدَّمَه يُقْدِمُ

وقال عارفٌ بالله: "إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل؛ فالمسابقة إلى الخيرات خُلُقٌ لا يتصف به إلا المؤمن الصادق، والمسارعة إلى أعمال البر طبعٌ لا يتخلق عليه إلا من وهبه الله تعالى رجاحةً في العقل وانشراحاً في الصدر وسلامةً في القلب".

ويصف واحدٌ من الذين (يسارعون في الخيرات) شعوره فيقول: شعورٌ لا يُوصف، تجده وقد غمرك كاملاً، حين تجد نفسك وقد أسرعتَ في تقديم الخير، مهما يكن نوعه، قولاً كان أو عملاً طيباً. وما ذاك الشعور الذي يسري بالنفس بعد عمل الخير إلا لأنه توافق مع فطرتك الطيبة المحبة للخير.

أحبتي .. لأهمية المسارعة في الخيرات قدمها الله سبحانه وتعالى على الدعاء، رغم ما نعلمه جميعاً عن أهمية الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا﴾، فماذا ننتظر؟ ألا شمرنا عن سواعد الجد وسعينا سعياً حثيثاً لنكون من الذين (يسارعون في الخيرات)؟ العمر مهما طال قصيرٌ، وعيشنا في الدنيا اختبارٌ وابتلاءٌ؛ فلنحرص على اكتساب ما استطعنا من أجرٍ وثوابٍ يُعلي من درجاتنا في دار القرار، في جنات النعيم، في الفردوس الأعلى من الجنة، جمعنا الله وإياكم وكل من نحب فيها بإذنه تعالى وبرحمته.
اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين الصالحين المتقين الذين (يسارعون في الخيرات)، وتقبل منا إنك أنت العزيز الحكيم.
http://bit.ly/2OQoWuj

الجمعة، 31 يناير 2020

يا جبار اجبر كسري


الجمعة 31 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٤
(يا جبار اجبر كسري)

تقول إحدى الأخوات: تزوجتُ ثم شاء الله أن أتطلق من زوجي؛ فعشتُ مع أمي وأبي، وكانا وحيدين بعد زواج إخوتي وأخواتي، واحتسبتُ الأجر وصبرتُ وكنتُ أقوم على خدمتهما فأشعر بلذةِ الطاعة.
في يومٍ من الأيام ذهب والداي إلى منطقةٍ أخرى لزيارة أحد أقاربنا، وشاء الله -سبحانه وتعالى- أن يُتوفيا في حادث مرور؛ فكانت فاجعة فقدان الوالدين هي أكبر الآلام التي عشتُها في حياتي. ثم انتقلتُ للعيش مع إخوتي، وكنتُ أتنقل بينهم؛ بين كل فترةٍ وفترةٍ أذهب إلى منزل أحدهم، ولكن زوجات إخوتي لم يكنّ يرغبن بوجودي معهن ويَرين أن وجودي يُقلل من راحتهن ويُقيد من حريتهن. ذهبتُ في مرةٍ إلى منزل أحد إخوتي، وكلما عاد من عمله نقلت له زوجته كلاماً عني وأنني أضايقها وأتدخل في شؤونها هي وأبنائها؛ فيقتنع أخي بكلامها ويغضب مني، وكم كنتُ أسمع من إهانةٍ وتجريحٍ بسبب ما يُنقل عني زوراً وبهتاناً. ويتكرر الأمر مع جميع زوجات إخوتي؛ أتنقل من منزلٍ إلى آخر لا أملك إلا دمعتي أمامهم. كنتُ أعاني من ظلم إخوتي وظلم زوجاتهم، ولم يكن لي إلا الدعاء وتفويض أمري إلى الله سبحانه وتعالى؛ فما كنتُ أجلس ولا أقوم ولا أعمل إلا وأنا أدعي بهذا الدعاء موقنةً به مفوضةً أمري إلى الله جلَّ شأنه: (يا جبار اجبر كسري).
انتقلتُ للعيش الدائم عند أحد إخوتي، فجعل لي غرفةً مخصصةً وحدوداً بمنزله لا أتعداها؛ فلا أرى أبناءه ولا أخالطهم! وكلما تذكرتُ مصيبتي أردد: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام طرق باب أخي رجلٌ يكبرني بعشرين عاماً -وكان متزوجاً وعنده سبعةٌ من الأبناء- طالباً يدي للزواج، وافق أخي على الفور دون أن يستشيرني؛ فقد أراد أن يتخلص مني لأني أصبحتُ ثقيلةً عليه، ولا أنسى ما قاله لي أخي يومها: "كفانا اللهُ شَرَّك"! كنتُ أبلع الكلام وأتحمل التجريح منه لأنني لو تكلمتُ فسيتم طردي من بيته ولا يهمه أين أذهب! كنتُ صابرةً محتسبةً، ودمعتي على خدي؛ فلا سندٌ لي سوى الله سبحانه، وكنتُ أردد دائماً: (يا جبار اجبر كسري).
تم عقد الزواج، ولم أرَ زوجي إلا مرةً واحدةً عندما ذهبنا إلى المحكمة الشرعية لإتمام العقد، واتفقنا على أن يتم الزواج بعد أسبوعين، لم يتكلف إخوتي عناء السؤال عن زوجي، فقد كان همهم الوحيد -هم وزوجاتهم كذلك- أن أتزوج، فقد كانوا كلهم يريدون فقط الخلاص مني. ذهب الرجل، ولم نكن نعرف عنه شيئاً سوى ذاك اليوم الذي أتى فيه، ومرَّت أيامٌ وأسابيع، ومرَّت شهورٌ دون أن نعلم عنه شيئاً. ازداد ظلم إخوتي لي، وكنتُ أسمع منهم كلماتٍ جارحةً؛ يقولون إن وجهي شؤمٌ، وعتبتي فقر. وظننتُ أن هذا الرجل الكبير قد غيَّر رأيه وتركني معلقةً، فلم أجد سوى الدعاء: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام -بعد مرور أربعة أشهر- إذا بطارقٍ يطرق باب بيت أخي يسأل عني! كان شاباً في الثلاثين من عمره، عرَّف نفسه بأنه ابن زوجي الغائب، أدخله أخي إلى غرفة استقبال الضيوف، ثم ناداني وطلب مني أن أقابل ابن زوجي، ولما دخلتُ عليه بالغرفة أنا وأخي قام وسلم عليّ، وكان مظهره يدل على أنه شابٌ خلوقٌ ووقورٌ، تبدو عليه سمات الصالحين، ثم جلسنا، قال الشاب: "أنا ابن فلانٌ -وذكر اسم والده- وقد صار لوالدي حادثٌ تُوفي على إثره، ووجدنا بسيارته وثيقة عقد زواجٍ تثبت أنه قد تزوج منكِ، ولم أستطع القدوم إليك إلا بعد انتهاء واجب العزاء لوالدي"، سكت للحظات وكأنما يترحم على والده ثم قال: "كان والدي ثرياً، وبعد وفاته تم تقسيم أملاكه بعد أن حصرناها جميعها، وأنتِ من ضمن ورثة والدي، وقد ورثتِ عنه منزلاً فخماً ورصيداً في البنك بالملايين، وقد أتيتُ إليكِ اليوم كي أسلمك هذه الأمانة، وأسألك عمن سيكون وكيلاً لك على أملاكك"، أُصبنا بالذهول أنا وأخي، نظر أخي إليّ وكأنه يقول: "اجعليني وكيلك"، أعاد الشاب عليّ السؤال: "مَن ستوكلين حتى تستلمي نصيبك من الميراث؟"، قلتُ له دون تردد: "أنت، نعم أنت مَن سأوكله"، قلتُ ذلك وأنا مازلتُ في حالة صدمةٍ وذهول. انصرف الشاب بعد أن قال بأنه سيأتي اليوم التالي لأذهب معه إلى منزلي الجديد. تركنا الشاب وأنا وأخي مازلنا في ذهولٍ مما سمعنا منه. لمّا سمع باقي إخوتي وزوجاتهم بما جرى صاروا يتسابقون كلهم في الاتصال بي وتقديم التهاني لي؛ لقد تغيروا تماماً، سبحان الله؛ غيَّر المال نفوسهم!
حزمتُ أمتعتي وانتظرتُ في اليوم التالي، وعندما أتى الشاب ذهبتُ معه أنا وإخوتي، دخلتُ منزلي الجديد، واللهِ لم أصدق ما رأته عيناي، كان المنزل فخماً جداً، وكان مجاوراً لمنزل زوجته الأولى وأبنائه.
مرت عدة أيامٍ وإذا بزوجته تأتي لزيارتي وتقول: "أنا مريضةٌ، وأنا مَن طلبتُ منه أن يتزوج؛ فما عدتُ أستطيع أن ألبي احتياجاته، وقلتُ له تزوج امرأةً تصغرك سناً"، وقالت لي أيضاً: "سنكون أنا وأنتِ أخواتٍ من الآن، وأولادي هم أولادك، وابني الكبير اعتبريه أخاً لكِ".
فواللهِ ثم واللهِ إني أعيش في سعادةٍ معهم؛ أبدلني الله خيراً من منازل إخوتي، وعشتُ مع أسرتي الجديدة في سعادةٍ، وكان أبناؤه وبناته يغمرونني بحنانهم وبِرهم بي، بِراً بوالدهم المتوفى، وكانت زوجته نِعم الأخت لي، وتذكرتُ دعائي لربي: (يا جبار اجبر كسري). أراد الله أن يجبر كسري، فجبره بدعائي هذا، وهو يعلم مدى إخلاصي ويقيني.

أحبتي في الله .. إن اسم الله “الجبار” من أسماء التعظيم والتنزيه، يدل على معاني العظمة والكبرياء، وهو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار؛ فهو سبحانه جبارٌ يقهر الجبابرة؛ فكل جبارٍ هو تحت قهر الله عزَّ وجلَّ وجبروته وفي يده وقبضته. ومن بين معاني اسم الله "الجبار" أنه هو الذي يَجبُرُ الضعيف وكل قلبٍ منكسرٍ؛ فيَجبُر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسر على المعسر كل عسيرٍ، ويُجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوضه عن مصابه أعظم الأجر، وإذا دعا الداعي فقال: (يا جبار اجبر كسري) فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته دفع المكاره عنه.
وقد ورد اسم "الجبار" في القرآن الكريم في موضعٍ واحدٍ، هو قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده مسبحاً: [سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ]، وكان يدعو بين السجدتين يقول: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي].
و"الجبر" يكون مداواةً للكسر، وتأتي منه الجبيرة التي تداوي كسر العظام. إن كلمة "الجبر" من الجبيرة التي نضعها على العظم المكسور حتى يلتئم. و"الخاطر" هو القلب أو النفس؛ فيُقال "أخذ على خاطره" بمعنى حزن وتأثر قلبه.

يقول العلماء: لمن يذهب المكسور إلا لربه الجبار؟ ولمن يشتكي المظلوم إلا للجبار الرحيم؟ ولمن يلجأ اليتيم الضعيف إلا للجبار؟ ولمن يعود المريض الذي ضاقت به الحيل إلا إلى الجبار سبحانه؟! الحياة كلها آلامٌ وانكساراتٌ وابتلاءاتٌ وصراعاتٌ لكن "الجبار" سبحانه يرحم عباده، فيرأب الصدع ويلم الشمل ويُغني الفقير ويجبر الكسير ويُعطي المحروم، لذلك كلما جئناه من باب الخضوع والتذلل والانكسار جبر كسرنا ولمَّ شعثنا ورأب صدعنا وأعزنا؛ فهو المصلح إنْ جبَر الفقير أغناه، وإنْ جبَر المريض شفاه، وإنْ جبَر الذليل أعزه، وإنْ جبَر الضعيف قواه، وإنْ جبَر الخائف أمّنه، فالجابر هو المصلح و"الجبار" كثير الإصلاح. إذا انكسرتَ ولجأتَ إلى الله مخلصاً متذللاً فلن يُرجعك خائباً، قد يؤخر الجبر لحكمةٍ يعلمها، لكنه لن يُضيعك أبداً، لابد وأنْ يُجبرك، قد يكون ذلك تدريجياً، لكنه -سبحانه وتعالى- سيجبر خاطرك ويأخذ لك حقك ممن ظلمك ولو بعد حين؛ فهو جبارٌ للمظلومين والمنكسرين، جبارٌ على الظالمين.

وإذا كان الله -بقوته وقدرته- يُجبر كسر الضعيف منا، ألا يجدر بنا أن نجبر -نحن الضعفاء- كسر أنفسنا؟
يقول أحد العارفين: “ما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
ويقول آخر: ‏جبر الخواطر خلقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ وعظمة قلبٍ وسلامة صدرٍ ورجاحة عقلٍ، يُجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت وقلوباً فُطرت وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها؛ فجبر الخواطر يجعل القلوب تشرق من جديدٍ على بستان الحياة.
وليكن من جبرك للخواطر كلمةٌ طيبةٌ أو همسةٌ في أذنٍ؛ فكما قال الشاعر:
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ
فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ

يقول عالمٌ فاضلٌ: قد تكون العبادات قليلةً، قد تكون الطاعات غير كثيرةٍ، قد لا يكون هذا المسلم ممن يقوم الليل أو ممن يتهجد أو يصلي النوافل، قد لا يكون متحلياً بشيءٍ من ذلك، لكنه ممن وفقه الله عزَّ وجلَّ إلى أن يكون جباراً للخواطر الكثيرة، وماسحاً عن الأفئدة المكلومة قتام الحزن، يجلو عنها الشعور بالآلام والمصائب، مع قصده بذلك رضا الله، إذا كان كذلك فليعلم أنه محبوبٌ من قبل الله -سبحانه وتعالى- وأنه ذو حظٍ عظيم.

أحبتي .. إذا كنتم مظلومين فلا تنسوا هذا الدعاء (يا جبار اجبر كسري) ولن يُخيب الله سبحانه وتعالى ظنكم؛ فهو مَن يجبر كسر المظلومين. وإذا كنتم ظالمين -ولو ظلماً بسيطاً هيناً من وجهة نظركم- فلا تنسوا أن الجبار سبحانه وتعالى يتوعد كل ظالمٍ، يُمهل ولا يُهمل، وإن أخذه للظالمين ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾، فبادروا إلى رفع الظلم بالرجوع إلى جادة الصواب ورد المظالم إلى أهلها أو طلب إبرائكم منها. وإذا لم تكونوا مظلومين ولا ظالمين فاحمدوا الله أن عافاكم مما ابتلى به غيركم، واحرصوا على كسب المزيد من الأجر بعبادةٍ سهلةٍ ميسرةٍ ألا وهي جبر الخاطر لكل شخصٍ مكسورٍ ولو بكلمةٍ طيبة.
اللهم يا جبار السماوات والأرض اجبرنا جبراً يليق بك، جبراً أنت أهله ووليه. يا ناصر المستضعفين انصرنا، يا جابر المنكسرين اجبر كسرنا، الله أعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.


الجمعة، 24 يناير 2020

البر بالأب


الجمعة 24 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٣
(البر بالأب)

كتب أحدهم مقالاً تأثرتُ به حين قرأته، كتب عن الأب فقال: في صغرك، تلبس حذاءه فتتعثر من كبر حذائه وصغر قدمك، تلبس نظاراته فتشعر بالعظمة، تلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة، يخطر ببالك شيءٌ تافهٌ فتطلبه منه فيتقبل منك ذلك بكل سرورٍ ويحضره لك دون مِنَةٍ، يعود إلى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكاً وأنت ﻻ تدري كيف قضى يومه وكم عانى في ذلك اليوم في عمله.
واليوم في كبرك، أنت ﻻ تلبس حذاءه فذوقه قديمٌ ﻻ يعجبك، تحتقر ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة ﻷنها ﻻ تناسب ذوقك، أصبح كلامه ﻻ يلائمك، وسؤاله عنك هو تدخلٌ في شؤونك، وذلك ﻻ يروق لك، حركاته تصيبك بالحرج وكلامه يشعرك بالاشمئزاز، إذا تأخرتَ وقلِق عليك وعاتبك على التأخير حين عودتك تشعر أنه يضايقك، وتتمنى لو لم يكن موجوداً لتكون أكثر حريةً، رغم أنه يريد الاطمئنان عليك ليس إﻻ، ترفع صوتك عليه وتضايقه بردودك وكلامك فيسكت ليس خوفاً منك بل حباً فيك وتسامحاً معك، إن مشيَ بقربك محني الظهر ﻻ تمسك يده فلقد أصبحت أنت أطول منه. كنتَ باﻷمس القريب تتلعثم بالكلام وتخطئ في الحروف؛ فيضحك مبتسماً ويتقبل ذلك برحابة صدر، وأنت اليوم تتضايق من كثرة تساؤﻻته واستفساراته بعد أن ضعف سمعه ووهن نظره، لم يتمنَ أبوك لك الموت أبداً؛ ﻻ في صغرك وﻻ في كبرك، وأنت تتمنى له الموت فهو يضايقك في شيخوخته! تحملك أبوك في طفولتك، في جهلك، في سفهك، في رعونتك، في عوزك، في شدتك؛ تحملك في كل شيء، فهل فكرت يوماً أن تتحمله في شيخوخته ومرضه؟ وذلك هو (البر بالأب). أحسن إليه؛ فغيرك يتمنى رؤيته من جديد.

أحبتي في الله .. يذكرني هذا بما كتب أحد الآباء فقال: الغريب أن الأبناء لا يكتشفون حبّهم الجارف لآبائهم إلا متأخراً، إما بعد الرحيل، وإما بعد المرض وفقدان الشهية للحياة، وهذا حبٌ متأخرٌ كثيراً حسب توقيت الأبوة.
الآن كلما تهتُ في قرارٍ، أو ضاقت عليّ الحياة، أو ترددتُ في حسم مسألةٍ تنهّدتُ وقلتُ: أين أنت يا أبي؟ لو كنتُ أعرف أن العمر قصيرٌ إلى هذا الحد لكنتُ أكثر قرباً من أبي. نحن نعرف قيمة الملح عندما نفقده في الطعام، وقيمة الأب عندما يموت ويشغر مكان جلوسه في البيت؛ إذ عندما يموت يفتقد الأبناء وجود ذلك البطل في حياتهم، فهو الذي كان يقودهم بثباتٍ إلى بر الأمان؛ فالأسرة كلها مع الأب في رحلة الحياة كراكبي قطارٍ في سفرٍ طويلٍ لا يعرفون قيمة قائد القطار إلا عندما يتعطل بهم، ويبدأ قائده في التفاني لإصلاحه وإعادة تشغيله رغم ضخامته. الأب وحده هو الذي لا يحسد ابنه على موهبته وتفوقه بل يتباهى به ويفرح ويفاخر، والأب وحده هو الذي يُخفي أخطاء ابنه ويتسامح معه وينساها، والأب وحده الذي يريد لنفسه أن يكون أفضل الناس يتمنى أن يكون ابنه أفضل منه، تأنيب الأب لابنه مؤلمٌ في حينه لكنه دواءٌ ناجعٌ حلو المذاق بعد التعلم منه، تأنيب الأب يصدر من جوار قلبه لا من جدار قلبه إذ يتألم وهو يؤنب ابنه؛ فقلب الأب هبة الله الرائعة لأبنائه.

أمرنا الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين وبرهما؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

فلا حق على الإنسان أعظم ولا أكبر -بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم- من حقوق الوالدين وبرهما، والحديث عن بر الوالدين ارتبط لدى البعض ببر الأم حتى كاد يُنسيهم أن للأب حقاً هو الآخر من البر، وإن كان حق الأم مقدماً على حقه، فلا ننسى أبداً (البر بالأب)، ولا ننسى أن نقدمه للأم مضاعفاً.
ومن أعظم صور بر الابن بأبيه ما ورد مفصلاً في القرآن الكريم عن: بر إبراهيم عليه السلام بأبيه رغم كفره، وعن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه إبراهيم.

ولقد خصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم، (البر بالأب) بأحاديث منها:
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ‏]، كما قال: [ثلاثُ دعَواتٍ مُستَجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دَعوةُ الوالِدِ، ودَعوَةُ المسافِرِ، ودعوَةُ المَظلومِ]، وقال كذلك: [الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ].
يقول أهل العلم إن للأب عليك حقاً في البر لأنه هو سبب وجودك في الحياة، وما أنت إلا بَضْعةٌ منه، وهو مبعث الاستقرار، وهو ملاذك بعد الله. به تقوى قلوب الأبناء، وتزهو نفوسهم، وتحل الطمأنينة في حياتهم، وهو الذي يكد ويكدح من أجل تحقيق حياةٍ آمنةٍ حافلةٍ بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده، وهو خبرة الحياة التي يحتاجها الأبناء لحل ما يواجهونه، وما يقابلونه من مشكلاتٍ وصعوباتٍ. وللأب حق البر والتكريم مهما بلغ سنه، ويتحتم ذلك ويزداد عند كبر سنه وشيخوخته؛ اخفض له جناح الذل من الرحمة، فللأب حق الإحسان والطاعة، وله حُسن الصحبة والعِشرة، والأدب في الحديث، وطيب المعاملة، إن تحدث فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمشِ بين يديه ولا أمامه، حيّه بأحسن تحية، وقبّل رأسه ويديه، وتلزمك النفقة عليه إذا احتاج إلى ذلك؛ تذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ].

يقول أحدهم: أزعم أني كنتُ باراً وطائعاً لأبي، ولا أتذكَّر أني عصيتُه أو أحزنتُه، لكني اليوم -وبعد أن فارقَنا والدي- أشعر بالندم عندما كنتُ أعرِضُ عليه خدمةً أو منفعةً أو هديةً فيعتذر ويقول: "شكراً" فأُصدِّقُهُ، وكنتُ أعتقد أنه لو أراد شيئاً لأخبرني بذلك. اليوم عندما كبرتُ، وأصبحتُ أباً عرفتُ كذِبَ الآباء عندما يقولون "شكراً"! وتنبَّهتُ لغباء الأبناء عندما يصدقون آباءهم حين يقولون "شكراً"؛ فيعتبر الأبناء أن آباءهم لا يريدون حقاً. أيها الأبناء والبنات؛ لا تصدِّقوا آباءكم حين يقولون لكم إذا عرضتم عليهم أو قدمتم لهم شيئاً "شكراً" إنما يقولونها ذوقاً وتَعفُّفاً ومراعاةً لظروفكم، وخجلاً من إتعابكم وإرهاقكم. أيها الأبناء أسعدوا آباءكم دون إذنٍ، ولا تكونوا بخلاء ولا أغبياء، ولا تحرموا أنفسكم الخير الكثير الذي يأتيكم نتيجة (البر بالأب). سامحني يا أبي فكم كنتُ غبياً!

وصدق من قال: الأب هو الرجل الوحيد في العالم الذي يأخذ من نفسه ووقته وعمره وسعادته ليعطيك كل ما تريد، قد لا يكون أعطاك كل ما تتمناه، لكن تأكد أنه أعطاك كل ما يستطيع وكل ما يملك، ولو أنّ الأماني تُعيد لنا ميتاً رحل، لقبلتُ أقدام الأماني حتىٰ يعود أبي؛ فجازوا آباءكم بالإحسان إحساناً، وكونوا بارين بهم أحياءً، وأشد براً بهم أمواتاً.

ومن مظاهر (البر بالأب) في حياته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ]، ومن مظاهر ذلك بعد موته؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ].

أحبتي .. هذا هو مقام الأب ومكانته في الإسلام. وكلمتي أوجهها لكل أب: كُن صالحاً يُصلح الله لك أبناءك؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ صلاحك لنفسك ولأبنائك، فلا تكن معاملتك لهم سبباً في عقوقهم لك وعدم برهم بك. وكلمتي أوجهها لكل ابنٍ وبنت: عليكم ببر آبائكم واحترامهم -وإن جفوا أو قصروا- تقصيرهم لأنفسهم أما بركم فهو لكم، بروهم وأقسطوا إليهم، وأكرموهم قبل أن يأتي يومٌ تندمون فيه وتقولون يا ليت. وورد في الأثر: "برُّوا آباءَكم، تبرُّكم أبناؤكم".
اللهم سامحنا إن قصَّرنا فيما مضى، ووفقنا لبر آبائنا فيما بقي من أعمارنا وأعمارهم. اللهم احفظ الأحياء من آبائنا، وارحم الموتى منهم واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة يا رب العالمين.