الجمعة، 17 ديسمبر 2021

الصراط المستقيم

 

خاطرة الجمعة /322


الجمعة 17 ديسمبر 2021م

(الصراط المستقيم)

 

أحد الأشخاص الأثرياء وهو صاحب مجموعة محلاتٍ مشهورةٍ يقول: اشتغل عندي بائعٌ شابٌ من حوالي عشر سنواتٍ في فرعٍ من فروع محلاتي؛ كان عندي فرعان في نفس البناء، فرع أحذيةٍ مع شركائي، وفرع ملابس لي وحدي، شركائي كانوا يرجونني أن آخذ هذا الموظف من عندهم وأعيّنه في المحل عندي ليرتاحوا منه، لا هُم يريدون أن يقطعوا رزقه، ولا هُم يرون منه أية فائدةٍ تُرجى! كان هذا الموظف هادئاً، قليل الحيلة، ضعيف المواهب، لكنه مستقيمٌ جداً، ملتزمٌ، شديد الطيبة، وجم الأدب. أخذته من عندهم ووظفته في الفرع الذي أنا فيه، وجعلته مديراً للفرع. بعد مدةٍ أخطأ خطأً بسيطاً وتافهاً جداً، لكني كنتُ في مرحلة الطغيان، والاعتداد بالرأي، والانفراد بالقرار، والغباء الإداري، فصممتُ أن أطرده! لم يبقَ إنسانٌ إلا وتوسط لديّ من أجله، كلهم تشفّعوا له، ولكن دون جدوى! فصلته من العمل بحجة أنه قليل الحيلة وضعيف المواهب وصفرٌ في الإمكانيات الإدارية، هكذا كنت أراه. هذا الكلام كان تقريباً منذ حوالي ثماني سنوات.

بعد ثلاث سنواتٍ من طردي له، عرفتُ أنه قد أصبح عنده ستة محلات ملابس، واشترى سيارةً، وأصبح من المشاهير في مجال هذا العمل، واسمه صار كالذهب الناصع، يثق به كل الناس! فقلتُ في نفسي: "سبحان الله، الآن فقط فهمتُ لماذا فصلته من العمل! لم يكن هناك سببٌ عظيمٌ كي أصرّ على طرده، لم يفعل هذا الشاب شيئاً يستحق فصله، كنت أستغرب دائماً من إصراري على أن يترك العمل عندي، بالرغم من أن هناك موظفين لديّ فعلوا أفعالاً أكثر سوءاً مما فعل ولم أقم بفصلهم! ورغم أن هذا الشاب كان أميناً ومُهذباً ملتزماً (الصراط المستقيم) في كل أعماله، وكانت بيني وبينه محبةٌ وثقةٌ متبادلةٌ، ولكن إصراري على فصله كان وكأنه يحدث رغماً عني!". قلتُ في نفسي: "إن الله عزّ وجلّ قد أعدَّ له مساراً آخراً في حياته، وقد جاء وقت ذهابه من عندي فكان ينبغي له أن يمشي بأية طريقةٍ، حتى ولو طرداً، حتى ولو أن يُلقى به في الشارع!".

هذه ليست نهاية القصة، وليست أعجب ما فيها؛ الأعجب، أنه أصبح تاجراً كبيراً جداً وذا سمعةٍ طيبةٍ، وظل على استقامته؛ أذكر أنني احتجتُ له يوماً ما فوقف بجانبي ولم يخذلني، بل إنه لم يُذكّرني بما فعلته معه، ولا عاتبني، ولا لمّح لي ولو بتغييرٍ في نبرة صوته، عاملني كأنني ما زلتُ صاحب المحل الذي يعمل هو فيه! أما الأكثر عجباً فأنه لم يفقد ذرةً واحدةً من التزامه وتدينُّه وحرصه على (الصراط المستقيم)؛ يكفي أن نعرف أن أهم شهرٍ في حياة تاجر الملابس والأحذية هو شهر رمضان؛ إذ أن مبيعات هذا الشهر تُعادل مبيعات السنة كلها، وأهم أيامٍ في رمضان بالنسبة لنا كتجار ملابس وأحذية هي العشر الأواخر؛ ففيها لا يهدأ الهاتف من الاتصالات والطلبيات، وتكون المبيعات في أوجها والأرباح كبيرةً، أما صاحبنا هذا فيُغلق هاتفه في العشر الأواخر من رمضان ويذهب إلى العُمرة! هل تخيلتم هذا؟!

أرسلتُ له مرةً رسالةً عن حالة شخصٍ فقيرٍ من قريةٍ في محافظته، وطلبتُ منه أن يستوثق من الحالة، لو أي إنسانٍ آخر لكان احتاج مني إلى اتصالين أو ثلاثة، أما صاحبنا هذا وجدته ثاني يوم في الصباح يُكلمني من عند الرجل الفقير، لم يتركه إلا وقد قام بالواجب معه ولم يُقصّر!

كان مما يلفت انتباهي التزامه بتكبيرة الإحرام التزاماً عجيباً؛ ساعة يسمع الأذان ينتفض من مكانه، كأن عقرباً قد لدغته؛ فيُشمر للوضوء ويذهب إلى المسجد للصلاة.

الخلاصة أنه إنسانٌ مستقيمٌ استقامةً تامةً، وصدق سبحانه وتعالى إذ يقول: ﴿ومَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.

 

أحبتي في الله .. هو الله، لا إله إلا هو، يدبر الأمر لجميع خلقه، ويساعد من لا حيلة له حتى يتعجّب أصحاب الحيل. هو الله الذي أمرنا بالاستقامة ويثيبنا عليها فتحاً ونصراً وسعة رزقٍ وغنىً ونجاحاً وتوفيقاً وفلاحاً.

 

أمر الله تعالى بالاستقامة، وحث عليها في كتابه الكريم في مواضع عدة؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وعن هذه الآية التي نزلت في سورة هود قال المفسرون: "ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية؛ لذلك حين قال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم له: قد أسرع إليك الشيب؟! قال: [شَيّبَتْنِي هُودٌ ...]".

ولاحظ العلماء أن الآية وجهت الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنه إمام المستقيمين؛ فقالوا إن المقصود هو الدوام على الاستقامة باعتبارها أعظم كرامة.

وأوصانا رسولنا الكريم بالاستقامة؛ فحين قال أحد الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال عليه الصلاة والسلام: [قُلْ: آمَنْت باللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ]. وقال أيضاً: [إذا أصبحَ ابنُ آدمَ فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللِّسانَ فتقولُ اتَّقِ اللَّهَ فينا فإنَّما نحنُ بِك فإن استقمتَ استقمنا وإن اعوججتَ اعوججنا].

وأفضل ما قيل في وصف (الصراط المستقيم) "أن يكون العمل خالصاً لله عزّ وجلّ، وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعلى ذلك فإن الاستقامة -كما يقول العلماء- تتضمن: الإيمان الصادق بالله عزّ وجلّ، الاتباع الكامل والاقتداء التام بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أداء الفروض والواجبات، اجتناب المحرمات والمكروهات، الإكثار من النوافل، المداومة على أعمال الخير، عدم الغلو وعدم التفريط، حفظ الجوارح واللسان، السعي لتزكية النفس، والاجتهاد في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي نيل مرضاته قدر الاستطاعة.

إن الاستقامة تعني التمسك بالدين كله، والثبات عليه، والدعوة إليه، وهي -كما يصفها أهل العلم- سلوك (الصراط المستقيم).

والمؤمن مطالبٌ بالاستقامة الدائمة، ولذلك يسألها ربَه في كل ركعةٍ من صلاته؛ يقول في كل صلاة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ ذلك أن الاستقامة هي الطريق الوحيد إلى الله الواحد الأحد؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

يقول أهل العلم إنه لما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يُقصّر في فعل المأمور، أو اجتناب المحظور، وهذا خروجٌ عن الاستقامة، فإن الشرع أرشد إلى ما يُعيد العبد لطريق الاستقامة؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، في إشارةٍ إلى أنه لابد من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها، وأن ذلك التقصير يُجبَر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة. وفي هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ...] أمرنا بالاستقامة، وأخبرنا بأننا لن نستطيع أن نُلم بكل جوانب الإسلام، وأن نفعل كل ما أمر به الله عزّ وجلّ، فقال عليه الصلاة والسلام: [سدِّدُوا وقَارِبُوا ...]، أي: اتقوا الله ما استطعتم.

 

قال الشاعر:

وإلا فإنّ الاستقامة عينُ ما

هو الشرعُ، يَسمو مَنْ بها يتجملُ

وما الشرعُ إلا والحقيقةُ عينُه

وبينهما لا فرقَ مفصلُ

 

وقيل إن من عوائق التزام (الصراط المستقيم): اليأس، الغلو، الاستهانة بالمعصية، الانشغال بالدنيا عن الآخرة، الشهوات والتطلع إليها، التوسع في المباحات، والصحبة السيئة.

 

أحبتي .. الاستقامة إذن هي لزوم طاعة الله تعالى مع السداد والاعتدال، وتجنب الإفراط والتفريط. والطريق واضحةٌ؛ إما سبيل الاستقامة وإما سبيل الضلال والاعوجاج والبُعد عن شرع الله. وكل إنسانٍ حرٌ في اختياره: إما أن يلتزم (الصراط المستقيم)؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، وهذا هو اختيار الأذكياء. أو أن يختار الطريق المعاكس؛ فينجرف إلى متعٍ زائلةٍ في دنيا فانيةٍ يلهث وراءها، يُزينها الشيطان له؛ يقول تعالى: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ والسبيل هنا هو سبيل الحق، يظل الشيطان يغويه حتى يبتعد عن هذا السبيل؛ فينسى الله فيصبح من الفاسقين؛ يقول تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. ليكن اختيارنا اختيار الأذكياء، وليكن رضا الله سبحانه وتعالى هدفنا، فنكون من المُفلحين الفائزين في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم يا مُقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا من أهل السداد والاستقامة، وأصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، وارزقنا حسن الختام.

 

https://bit.ly/3EbQQaY

الجمعة، 10 ديسمبر 2021

تدبُّر القرآن


خاطرة الجمعة /321


الجمعة 10 ديسمبر 2021م

(تدبُّر القرآن)

 

تحكي عن جارةٍ لها فتقول: أذكر أياماً خوالي قضيتها من عمري في دمشق، وأذكر جارةً لي هناك، كنتُ كلما طرقتُ عليها الباب صباحاً لأقول لها: "تفضلي، اشربي فنجان قهوة"، كانت فوراً تأخذ حجابها ومفتاحها وتدخل وتقول: "وين القهوة؟ فليس لديّ وقت.. اغلِ القهوة سريعاً"، وبعد أن نشرب القهوة تقوم وتقول: "ليس لديّ وقت"؛ فأتعجب منها. كل يومٍ.. وكل وقتٍ.. وأنا أعزمها دائماً.. فقد كنتُ قد كبرتُ وأصبحتُ وحيدة. والعجب أنها أكبر مني عمراً، وليس لديها سوى زوجٍ شيخٍ كبيرٍ في السن مثلها. ولم تكن هذه الزيارات تستغرق الكثير من الوقت؛ فدائماً نشرب القهوة وتنصرف سريعاً وهي تعتذر: "ليس لديّ وقت"! وأحياناً كنتُ أعزم نفسي عندها، وأراها تبتسم وتقول: "فوتي، أغلي القهوة، فليس لديّ وقت".. وأزداد عجباً فلستُ أرى ما يشغلها.. أشرب القهوة وأعود سريعاً خوفاً من إزعاجها. وذات يومٍ قلتُ لها مازحةً: "يا ريت تشغليني معك بالذي يشغلك، ويجعلك ما عندك وقت"، فأشرق وجهها استبشاراً وفرحت وقالت: "منذ زمنٍ وأنا أنتظر منك هذا الطلب".. غداً نبدأ عملنا معاً إن شاء الله تعالى. دخلتُ بيتها صباحاً، شربنا القهوة، ومن ثمّ قالت: "ليس لدينا وقت".. أحضرتْ مُصحفين وقالت: "هيا بنا نقرأ آية ونتدبرها، ونُحاسب أنفسنا أين نحن منها!"، حَبِستُ أنفاسي للحظاتٍ ثم قلتُ لها: "مصحف؟ آية؟ نتدبر؟ أين أنا من هذا؟ أهذا ما يشغلك يا جارتي العزيزة الرائعة؟ أهذا هو لغز عبارة ليس لديّ وقت؟"، قالت مبتسمةً: "نعم، فلم يعد لدينا أنا وأنتِ وقتٌ؛ نُسابِقُ زمن عمرنا، ودقائقه، وثوانيه قبل أن يسبقنا، ونجد أنفسنا في قبرٍ مظلمٍ لا يُنيره سوى نور القرآن، والصّدق مع كلام الله، وتعمير أوقاتنا بالطّاعات وأعمال البر"..

آه.. كم أحسستُ لحظتها أني كبرتُ كثيراً، وأنه فعلاً ليس لديّ وقت!! وأحسستُ بيدي تُمسك بحافة القبر وأنا أنظر إليه.. وأحسستُ بدقات قلبي معدودة.. أمسكتُ بالمصحف عطشى، أرتوي منه، ولا ينتهي ظمئي. آهٍ يا نفسي كم شغلتيني عن كلام ربي! سأسابق الزمن، والعمر، والموت لأعوض ولو بعضاً مما فاتني.

أحبتي في الله .. لقد وفق الله سبحانه وتعالى هذه الجارة - وأمثالها- إلى أمرٍ عظيمٍ وهو (تدبُّر القرآن)، ليس فقط مجرد قراءته وتلاوته ولا حتى حفظه -وإن كان كل ذلك مهماً- بل تدبر معانيه، ومحاسبة النفس عما كان منها بعد تدبره. إنه والله لأمرٌ عظيمٌ أزعم أن الكثير منا غافلون عنه.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ويقول كذلك: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

 

أما مفهوم التدبر في اللغة فهو يعني النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، وفي المصطلح فإن (تدبُّر القرآن) يعني تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والاعتبار والاستبصار، وتصفح آياته، وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول العلماء إن التدبُّر في القرآن يُثبت أنه من عند إلهٍ حكيمٍ قديرٍ، وليس للبشر أن يُبدعوا مثله أبداً؛ فيُطَمْئِن المؤمنَ في عبوديته لله عزَّ وجلَّ، ويُزيل الشُبهة، ويُقَوِّي العقيدة، مما ينعكس على حياة الإنسان كلها. والتدبُّر في القرآن طريق هدايةٍ؛ فالقرآن له مذاقٌ خاصٌّ، وفيه أسرارٌ عظيمةٌ، وبقدر تدبُّر المؤمن فيه يفتح الله له أبواب الهداية، والذي لا يتدبَّر القرآن يُخشَى عليه أن يضل ويزيغ. والتدبُّر في القرآن يفتح آفاقاً مباركةً هائلةً من المعرفة، فقد ملأه ربُّ العالمين بكنوز العلم بشتَّى فروعه، والذي يتعلَّم في نور القرآن يصل إلى ما لا يقدر غيره على الوصول إليه؛ قال بعض التابعين: “من تدبر القرآن طالباً الهدى منه؛ تبين له طريق الحق”.

 

وحتى يتحقق (تدبُّر القرآن) يرى أهل العلم أن لذلك خطواتٍ هي: الاستعداد النفسيّ للتدبُّر: فتدبُّر القرآن يبدأ من إرادة الشخص داخليّاً، ووجود دافعٍ، ويكون ذلك بالتأمُّل، والنَّظَر، والبحث. اختيار المكان المناسب، والوقت الملائم: باستقبال القِبلة، والحرص على الطهارة، والخشوع في الجِلسة، ومن الأوقات المُفضَّلة وقت السَّحَر. التوجُّه إلى الله بالدعاء: فالاعتماد على الأسباب دون الرجوع إلى مُسبّب الأسباب من الأخطاء التي قد يقع فيها العباد. المراقبة الذاتيّة أثناء القراءة: فينظر القارئ إلى ما يمنعه من الوصول إلى التدبُّر، ويبحث عن الحلول لتجاوز تلك الموانع، كما يُمكن تحقيق التدبُّر بتلاوة الآيات بصوتٍ عالٍ، أو خَفضه. عدم التعجُّل في القراءة: فلا بدّ من تلاوة القرآن بتأنٍ وهدوءٍ ورَويّة، وتعويد النفس على ذلك، والأفضل عدم خَتْم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّامٍ. اعتبار الخطاب الإلهيّ مُوجَّهاً إلى النَّفْس: فيسعى القارئ إلى استجابة أمر الله الوارد في الآيات، وعليه أن يُسقط القرآن على نفسه، وواقعه، ويتساءل عن مُراد الله، وغايته. المحافظة على الوِرد اليوميّ: فقد أمر الله -تعالى- عباده بتلاوة القرآن، ولم يُلزمهم بقَدْرٍ مُعيَّنٍ؛ فكلّ شخصٍ له ظروف تختلف عن غيره، ولهذا يقرأ بحسب ما يناسبه.

 

يقول أحد العلماء أنْ ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من (تدبُّر القرآن)، وإطالة التأمل، والتفكر في معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر؛ فتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتُعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه. كما تُعرفه ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

 

وعن تدبُّر الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن الكريم؛ كان أحدهم إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن؛ فتعلموا العلم والعمل. حتى المشركين الذين لم يسلموا عرفوا قدر القرآن الكريم؛ إذ وصفه كبيرٌ من كبرائهم بقوله: "واللهِ إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه". ومع ذلك نجد من بيننا كمسلمين من يقصر علاقته بالقرآن تلاوةً وتدبراً على شهر رمضان فقط، وكأنه في غنىً عن هدى الله ونوره ورحمته وحياة قلبه أحد عشر شهراً كل عام!

 

أحبتي .. إن التلاوة الحقة لكتاب الله تعالى تعني تلاوته بفهمٍ لآياته وتدبرٍ لمعانيه ينتهي إلى إدراكٍ وتأثرٍ ثم عملٍ وسلوك. فالعبرة ليست -كما يفعل كثيرٌ منا- بكثرة عدد ختماتنا للقرآن، بل بمدى فهمنا له والتزامنا بأحكامه، وإقامتنا لحدوده، وإتيان أوامره واجتناب نواهيه، العبرة باختصار تكمن في (تدبُّر القرآن). فلينظر كلٌ منا في أسلوبه وطريقة تعامله مع القرآن؛ فربَّ ختمةٍ واحدةٍ بتدبر أبرك وأنفع وأثقل في موازيننا من عشرات الختمات بغير تدبر. ولا أعجب من أن نجد من المسلمين -شباباً وشيوخاً- من لم يختم قراءة القرآن ولا مرةً واحدةً فيما مضى من عمره! لهؤلاء أقول: "عفى الله عما سلف، تدارك نفسك، ابدأ اليوم، بل الآن، في ختمةٍ تنوي بينك وبين الله سبحانه وتعالى أن تكون كاملةً وأن تكون بتدبرٍ وفهمٍ واستيعاب. لا تؤجل هذا الأمر، فلا تدري لعل الله أراد لك خيراً بإمهالك إلى الآن".

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً، اللهم ذَكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجةً لنا لا علينا يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3dCpBv1

الجمعة، 3 ديسمبر 2021

أشعث أغبر

 

خاطرة الجمعة /320


الجمعة 3 ديسمبر 2021م

(أشعث أغبر)

 

يقول راوي القصة: من أغرب ما صادفتُه في رحلات الحج التي كنتُ أتشرّف بتنظيمها؛ أنه من عدّة سنوات اعترضتني مشكلةٌ كارثيّةٌ خلال أداء مهمّتي في موسم الحج تتعلق بتجهيز مخيمات عرفات الخاصة بالفوج الذي أقوم على خدمته، وتتلخص القصة بأنّه بقي على يوم عرفات خمسة أيّام ولم أتمكّن من الحصول على مساحةٍ كافيةٍ لعدد حجاج الفوج الذي أقوم على خدمته، وهذا يعني أنني لن أتمكنّ من أن أفي الناس حقها من الخدمة المتميزة التي وعدتهم بها في عرفات. استحال الأمرُ عليَّ، ولم أجد سبيلاً إلى تحقيق المراد، وقد ضاق الوقت إلى درجةٍ تقتضي أن أجد حلاً قبل الفجر لأتمكّن من نقل مستلزمات المخيم ورفع الخيام وتجهيز المكيفات وبناء الحمامات وتحضير مخيّمٍ بكامل مستلزماته لتفي باحتياجات ثلاثمائة حاج، وواقع المشكلة يؤكد عدم وجود أي حل! ركبتُ سيارتي منطلقاً من جدة إلى مكة، وكانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، كنتُ في حالةٍ يُرثى لها من الانهيار النفسي؛ فالحلول تكاد تكون معدومةً، ولا أرى بصيص أملٍ، كنتُ أقود سيارتي وأنا في حالةٍ من الذهول، فبيني وبين وقوع الكارثة ساعات الليل فقط. تذكّرتُ وأنا في منتصف الطريق إلى مكة أنني نسيتُ أداء صلاة العشاء، فتوقفتُ عند إحدى محطات الوقود الموجودة على طريق «جدّة - مكة» حيث يُوجد مسجدٌ في هذه المحطة، توضّأتُ ثم دخلتُ إلى المسجد وكان خالياً إلّا من رجلٍ بنغاليٍ في الأربعين من العمر، شكله يدل على أنّه عاملُ بناء، كان يدور داخل المسجد حاملاً مصحفه منهمكاً في الحفظ يقرأ بصوتٍ عالٍ وبلغةٍ أعجميّةٍ لا تُسعفه! كان الرجل (أشعث أغبر) رثَّ الثياب، عليه آثار عملٍ ترابيٍ مع آثار عرقٍ جفّ على جبينه مصحوباً بزيتٍ أو شحمٍ أسود، وكان يدور وكأنّه يطوف في الحرم، ألقيتُ عليه السلام لكنه لم يرد عليّ؛ فهو في عالمٍ آخر لا يكاد يشعر بأحدٍ حوله، إذْ كان يطوف في جنبات المسجد كالنحلة، يتسارع في خطواته ويتلعثم في قراءته وهو يلهث مصارعاً قُدراته وكأنّه في وعدٍ على إنجاز مهمّته! صليتُ العشاء في زاويةٍ من المسجد ثم اتجهتُ إلى هذا الرجل وأخرجتُ من محفظتي مبلغاً من المال ليس بالقليل وقدّمته له، فنفضَ يده عنّي رافضاً استلامه، وتابع دورانه دون أن يكترث للمال الذي قدّمته له -رغم أن حالته تدلّ على فقره الشديد- فهرولتُ وراءه أترجاه أن يأخذ المبلغ وهو منهمكٌ في حفظه لا يُلقي إليَّ بالاً، وعندما وجدني أُلح عليه توقف وقال لي: "إنتا إيش أبغي؟!"، فقلتُ له: "لا أريد شيئاً يا أخي، أنا في ضائقةٍ شديدةٍ، وأريدك أن تشملني بدعوةٍ منك"، فطوى مصحفه على إصبعه كي لا يفقد الصفحة التي يقرأ منها، ونظر إلى الأعلى وقال: "يا رب هادا نفَر مُشكل كبير، إنتا في مساعدة يا رب"، ثم تركني وتابع ما كان عليه، تركته ووضعتُ النقود على كرسيٍّ أمامه وأشرتُ إليه كي لا ينساها، فلم يحرّك له ساكن، وأُشهد الله أنّه لم ينظر إلى النقود، بل رمقني بنظرةٍ تحمل شيئاً من اللامبالاة مع شيءٍ من الامتنان.

ركبتُ سيارتي وتابعتُ طريقي إلى مكة والدموع تذرف من عينَيّ، ولا أدري مصير هذه الليلة، فغداً هو آخر يومٍ في السماح لتحضيرات عرفات، وجميع المُطوّفين أنجزوا تحضير مخيماتهم.

ومن عجائب لطف الله، وقبل دخولي إلى مكة اتصل بي مطوّفٌ مسؤولٌ عن الحجاج السوريين، وبيني وبينه قطيعةٌ سببها خطأ وقع منه منذ عدة سنواتٍ، انقطعت معها أخباره عني، اتصل بي مُعاتباً ومُصالحاً ومُعتذراً عن خطأٍ عمره عدة سنواتٍ، وسألني عن حالي ووضعي في عرفات، وقال لي إن وزارة الحج زادت منذ ساعةٍ مساحة مخصّصاته في عرفات وأن لديه مساحةً تتسع لعدد أربعمائة حاج، وعرض عليّ المكان إذا كنتُ بحاجةٍ له، وأخبرني أنّه استلم الموقع وهو الآن بجوار الموقع في عرفات، تمالكتُ نفسي وقلتُ له إنني في طريقي إلى عرفات، وبعد أن أنهيتُ المكالمة صرختُ بأعلى صوتي قائلاً: "الله أكبر"، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم: [ربَّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه]. حوّلتُ اتجاهي من مكة إلى عرفات وذهبتُ إلى الموقع واستلمتُ منه المساحة المطلوبة، وسارعتُ بتجهيز المخيم على الشكل الذي وعدتُ به حجاجي، وانتهى الحج وأنا أسمع كلمات المديح والثناء من الحجاج والتي تنسبُ لي الخبرة والكفاءة ولا أحد فيهم يعلم أنّ ما نحن عليه من نجاحٍ هو بسرّ توفيق الله وبسرّ العون الإلهي، وبسرّ بركاتٍ خفيّةٍ لدعاء (أشعث أغبر) تقف خلفها خبرتنا عاجزةً محدودة.

 

أحبتي في الله .. وهذا رجلٌ تُوفي ولم يكن له غير ولدٍ واحدٍ، وكان أهل قريته يكرهونه ويعزفون عن وصله، ولكن الفاجعة أنه عند موته لم يأتِ أحدٌ ليدفنه أو يُساعد في دفنه؛ فأخذ الابن أبيه إلى الصحراء ليدفنه فيها، وفي طريقه رآه أعرابيٌ (أشعث أغبر) كان يرعى الغنم؛ فسأل الشاب: "أين الناس؟"، لم يُرد الابن أن يفضح أباه ويُخبر الأعرابي بالحقيقة فظل يردد: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم الأعرابي الأمر، ومد يده يساعد الشاب في دفن أبيه، ثم رفع الأعرابي يديه إلى السماء وظل يدعو في سره، ثم أخذ غنمه وذهب. في تلك الليلة حلم الولد أن أبيه يسرح في الجنة وهو في قمة سعادته؛ فسأله الابن: "ما بلغك يا أبي هذه المنزلة؟"، فأجاب الأب: "هذه بركة دعاء الأعرابي". فذهب الابن يُمشط الصحراء ليبحث عن ذلك الأعرابي عله يجد عنده السر خلف هذا الدعاء المُستجاب، ويطلب منه أن يدعو له، وبعد طول بحثٍ وجده فقال له: "أسألك بالله ما الدعاء الذي دعوته لوالدي وهو في قبره؟"، وقصّ عليه ما حصل معه في المنام في تلك الليلة؛ فقال الأعرابي: "يا ولدي، لقد رفعتُ يديي إلى السماء وقلتُ: اللهم إني كريمٌ إذا جاءني ضيفٌ أكرمته، وأنت أكرم الأكرمين؛ اللهم أكرم ضيفك".

 

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: [رُبَّ أَشْعَثَ أغبرَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أَقسم على الله لَأَبَرَّهُ]. "أَشْعَث" مُلبّد الشعر غير مدهونٍ ولا معتنىً به. "أَغْبَر" لونه كلون الغبار لقلِّة تعاهده بالنظافة بسبب فقره وحاجته. "مَدْفُوعٌ بِالأَبْواب" لا قَدْر له عند الناس فهُم يدفعونه عن أبوابهم ويطردونه عنها احتقاراً له بسبب فقره ورثاثة ثيابه. "لَو أَقْسَمَ عَلَى الله" لو حلف يميناً بحصول أمرٍ ما. "لَأَبَرَّهُ" لأعطاه ما حلف عليه لكرمه عند الله -عزّ وجلّ- ومنزلته.

 

كم من (أشعث أغبر) تقيٍ يعيش بيننا وبالقرب منا، ربما لا نأبه له، ولا نشعر به، ولا نعرف عنه شيئاً لكن تقواه أوصلته إلى أن يكون من الفائزين بحب الله، الذين أشار إليهم رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قال: [إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: منْ عادى لي وَلِيّاً فقدْ آذنتهُ بالْحرْب، وَمَا تقرَّبَ إِلَيَ عبْدِي بِشْيءٍ أَحبَّ إِلَيَ مِمَّا افْتَرَضْت عليْهِ، وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه]. وقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيمَا يرْوِيهِ عنْ ربهِ عزَّ وجَلَّ: [إِذَا تَقَربَ الْعبْدُ إِليَّ شِبْراً تَقرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِراعاً، وإِذَا تقرَّب إِلَيَّ ذِرَاعاً تقرَّبْتُ مِنهُ بَاعاً، وإِذا أَتانِي يَمْشِي أَتيْتُهُ هرْوَلَة].

 

ويقول أهل العلم إن الميزان ليس ميزان المظهر ولا الغنى ولا الجاه، بل هو تقوى الله عزّ وجلّ؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فمن كان أتقى لله فهو أكرم عند الله، يُيَسر الله له الأمر، يُجيب دعاءه، ويكشف ضره، ويبر قسمه ما لم يُقسم بظلمٍ لأحد، ولا تألياً على الله، ولكنه يُقسم على الله في أمورٍ مباحةٍ تُرضي الله -عزّ وجلّ- ثقةً فيه، فليس شرطاً أن يكون المسلم بالضرورة (أشعث أغبر) حتى يبر الله له قسمه؛ بل إن هناك من هو (أشعث أغبر) لا يستجيب الله دعاءه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «... الرجل يُطِيلُ السفرَ أشعَثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماءِ، يا رب! يا رب! ومطعَمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، ومَلبَسُه حرامٌ، وغُذِّي بالحرامِ، فأنَّى يُستجَابُ لذلك؟»، فالأمر إذن مرتبط بالتقوى وما تتطلبه من البُعد عن الحرام والحرص على طيب المطعم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [... أطبْ مطعمَك تكُن مُستجابَ الدعوةِ ...]؛ فليست قيمة الإنسان بمظهره، ولا بغناه أو فقره، ولا بعشيرته ونسبه، ولا بما يتبوأ من مناصب، لكن العبرة بالتقوى ومكارم الأخلاق والعمل الصالح.

 

قال الشاعر:

كم مات قومٌ وما ماتت مكارمهم *** وعاش قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

الناسُ صنفان؛ موتى في حياتهمُ   ***   وآخرون ببطن الأرضِ أحياءُ

 

أحبتي .. علينا ألا نستخف بمن لا جاه له ولا منصب ولا مكانة اجتماعية، فقد يكون -ونحن لا ندري- من أكرم الناس عند الله بتقواه وعمله الصالح.

كما أن على كلٍ منا أن يحافظ محافظةً تامةً على الفروض، وأن يُكثر -قدر ما يستطيع- من النوافل؛ حتى يُحبه الله، فإذا أحبه استجاب لدعائه، وبره في قسمه إذا أقسم.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3EsztDK

الجمعة، 26 نوفمبر 2021

مكانة الأب

 

خاطرة الجمعة /319


الجمعة 26 نوفمبر 2021م

(مكانة الأب)

يقول أحد أساتذة الجامعة في سوريا: في عام 1972م دعا رئيس جامعة اللاذقية "تغير اسمها وصارت الآن جامعة تشرين" جميع أساتذة الجامعة آنذاك إلى العشاء في منزله بمناسبة مرور عام على تأسيس الجامعة، كان من بين المدعوين عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، والذي كان -وبرغم مشاغله وارتباطاته الكثيرة- قد قبل أن يأتينا من دمشق كل يوم أربعاء لتدريس مادة القرآن الكريم في قسم اللغة العربية، فكنّا نستضيفه تلك الليلة ليعود إلى دمشق بعد ظهر الخميس. كنتُ أعمل آنذاك في تأسيس مكتبة الجامعة، إذ لم تكن هذه المكتبة موجودةً قبل ذلك الوقت، وحدث أن زارني رئيس الجامعة في مكتبي وأنا أستضيف عميد كلية الشريعة عندي، فوجّه إلينا معاً الدعوة لحضور العشاء مساء يوم الخميس. أجبتُ من فوري بقبول الدعوة شاكراً، ولكن الدكتور العميد طلب بلطفٍ أن يستأذن والده في دمشق أولاً!

لا أدري أيّنا كان وقع المفاجأة عليه أكبر، أنا أم رئيس الجامعة؟ فأن يعتذر العميد بأي عذرٍ آخر سيبدو أمراً عادياً لا غبار عليه، أما أن يطلب أستاذٌ جامعيٌ كبيرٌ -كان في الأربعين من عمره وقتها، وأبناؤه طلابٌ في الجامعة، وهو عميدٌ لكليةٍ كبيرةٍ ككلية الشريعة، وفي جامعةٍ كبيرةٍ كجامعة دمشق، أن يطلب الإذن من والده لحضور عشاءٍ وتمديد زيارته للاذقية من مساء الخميس إلى صباح الجمعة، فهذا أمرٌ كان وقعه عليّ -وعلى رئيس الجامعة كما تؤكد ملامح الذهول في وجهه- وقع الصاعقة، ومع ذلك فقد استجمع رئيس الجامعة قواه وعدّل ملامح وجهه بسرعة الدبلوماسي الحكيم وتوجّه إليّ قائلاً : "اذهب يا بسّام مع الدكتور العميد إلى مكتبي ليتصل من هاتفي المباشر هناك بوالده في دمشق". المفاجأة لم تنتهِ بعد؛ ففي مكتب رئيس الجامعة أمسك الدكتور العميد بسماعة الهاتف، وسمعتُ منه وهو يحدث والده العبارات التالية التي أحاول أن أنقلها هنا حرفياً: "السلام عليكم أبي"، "السيد رئيس الجامعة دعاني مع بقية الأساتذة مساء غدٍ للعشاء في منزله، فهل أستطيع حضور المأدبة وأعود إلى دمشق صباح الجمعة؟"، "شكراً أبي ... السلام عليكم"، ووضع السماعة؛ فقلتُ له مجاملاً: "الحمد لله، هكذا أصبحت الأمور أسهل وتستطيعون الآن البقاء باطمئنان"، وكانت المفاجأة الثانية تنتظرني على لسان العميد: "لا والله، لا أستطيع؛ أبي ما وافق". لن تتصور أبداً معالم المفاجأة على وجهي، ولا على وجه رئيس الجامعة حين وصفتُ له بدقةٍ ما جرى على الهاتف قال: "هل هذا معقول؟! بغير نقاشٍ ولا حوارٍ ولا إلحاحٍ، ولا حتى كلمة رجاءٍ أو محاولة ثني والده عن رأيه!!".

الأغرب من هذا أنني حين قدّمتُ أستاذنا الدكتور العميد قبل سنواتٍ لجمهور الحاضرين في أكاديمية أوكسفورد، وهو يستعدّ لإلقاء محاضرته، وسمعني وأنا أقصّ عليهم هذه القصة، نظر إليّ نظرةً هادئةً كمن ينظر إليك متوقعاً بقيّة النكتة، وعيناه تقولان لي: "نعم؟ وماذا في هذا؟ أين وجه الغرابة في هذه القصة".

إنها (مكانة الأب) التي ينبغي أن يُحافظ عليها الأبناء.

 

أحبتي في الله .. وعن البر بالأب أسوق لكم هذه القصة المؤثرة التي تُبين (مكانة الأب) في نفوس أبنائه: كان هناك رجلٌ عليه دَيْنٌ, وفي يومٍ من الأيام جاءه صاحب الدَيْن وطرق عليه الباب؛ ففتح له أحد الأبناء فاندفع الرجل بدون سلامٍ ولا احترامٍ وأمسك بتلابيب صاحب الدار وقال له: "اتقِ الله وسدد ما عليك من الديون فقد صبرتُ عليك أكثر من اللازم، ونفد صبري، ماذا تراني فاعلٌ بك يا رجل؟"، هنا تدخل الابن والدموع في عينيه، وهو يرى والده في هذا الموقف، وقال للرجل: "كم على والدي لك من الديون؟"، قال: "أكثر من تسعين ألف ريال"، فقال الابن: "اترك والدي واسترح وأبشر بالخير"، ودخل الشاب إلى غرفته حيث كان قد جمع مبلغاً من المال قدره سبعةٌ وعشرون ألف ريالٍ من راتبه ليوم زواجه الذي ينتظره، ولكنه آثر أن يفك به ضائقة والده ودَيْنه على أن يُبقيه في دولاب ملابسه. عاد إلى المجلس وقال للرجل: "هذه دفعةٌ من دَيْن الوالد قدرها سبعةٌ وعشرون ألف ريالٍ، وسوف يأتي الخير ونسدد لك الباقي في القريب العاجل إن شاء الله". هنا بكى الأب وطلب من الرجل أن يُعيد المبلغ إلى ابنه؛ فهو محتاجٌ له، ولا ذنب له في ذلك، فأصرّ الابن على أن يأخذ الرجل المبلغ، وودعه عند الباب طالباً منه عدم التعرض لوالده، وأن يُطالبه هو شخصياً ببقية المبلغ. ثم تقدم الابن إلى والده وقبّل جبينه وقال: "يا والدي قدرك أكبر من ذلك المبلغ، وكل شيءٍ يُعوض إذا أمد الله عمرنا ومتعنا بالصحة والعافية، فأنا لم أستطع أن أتحمل ذلك الموقف، ولو كنتُ أملك كل ما عليك من دَيْن لدفعته له ولا أرى دمعةً تسقط من عينيك على لحيتك الطاهرة". احتضن الشيخ ابنه وأُجهش بالبكاء وأخذ يُقبله ويقول: "الله يرضى عليك يا ابني، ويوفقك ويُحقق لك كل أمانيك". بعد يومين، وبينما كان الابن منهمكاً في أداء عمله الوظيفي زاره أحد الأصدقاء الذين لم يرهم منذ مدةٍ، وبعد سلامٍ وسؤالٍ عن الحال والأحوال قال له ذلك الصديق: "يا أخي؛ أمس كنتُ مع أحد كبار رجال الأعمال، وطلب مني أن أبحث له عن رجلٍ مخلصٍ وأمينٍ وذي أخلاقٍ عاليةٍ، ولديه طموحٌ وقدرةٌ على إدارة العمل، وأنا لم أجد شخصاً أعرفه تنطبق عليه هذه الصفات إلا أنت، فما رأيك أن نذهب سوياً لتقابله هذا المساء؟"، فتهلل وجه الابن بالبُشرى وقال: "لعلها دعوة والدي وقد أجابها الله"، فحمد الله كثيراً. وفي المساء كان الموعد فما إن شاهده رجل الأعمال حتى شعر بارتياحٍ شديدٍ تجاهه وقال: "هذا هو الرجل الذي أبحث عنه"، وسأله: "كم راتبك؟"، فقال: "ما يقارب الخمسة آلاف ريال"، فقال له: "اذهب غداً وقدم استقالتك، وراتبك خمسة عشر ألف ريالٍ، وعمولةٌ من الأرباح 10%، وراتبان: بدل سكن وسيارة، وراتب ستة أشهرٍ تُصرف لك لتحسين أوضاعك". وما أن سمع الشاب ذلك حتى بكى وهو يقول: "أبشر بالخير يا والدي"، فسأله رجل الأعمال عن سبب بكائه؟ فحدثه بما حصل له قبل يومين، فأمر رجل الأعمال فوراً بتسديد ديون والده، وكانت محصلة أرباح هذا الشاب في العام الأول لا تقل عن نصف مليون ريال.

 

وهذه قصةٌ واقعيةٌ تُبين (مكانة الأب) وحرص الابن على البر بأبيه، وتُبين في ذات الوقت ذكاء المؤمن وفطنته في التعامل مع المواقف الحياتية اليومية؛ ألم يَرِد في الأثر أنّ "الْمُؤْمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ"؟

تدور أحداث القصة حول رجلٍ عجوزٍ مُسنٍ يُقيم في فلسطين، تم اعتقال ابنه الوحيد من قِبل الإسرائيليين؛ ليعيش هذا الرجل العجوز وحيداً في منزله. وفي ذات يومٍ قرر هذا الرجل العجوز أن يقوم بزراعة أرضه الزراعية، ولكن هذا المسكين كان بمفرده، فتذكر ابنه وحزن لأنه كان يُساعده ويقوم بكل شيءٍ، فقام الأب بكتابة خطابٍ لولده قال له فيه أنه مشتاقٌ إليه كثيراً، وأنه يحبه كثيراً جداً، ويتمنى لو كان بجانبه ليعاونه على حرث الأرض تمهيداً لزراعتها. وصل الخطاب للابن في سجنه؛ فرد بخطابٍ مضمونه ألا يقوم الأب بحرث الأرض لأنه قد وضع بها أسلحة. لم يمر يومٌ واحدٌ إلا ووجد الأب العجوز القوات الإسرائيلية جاءت لتقوم بتقليب الأرض بحثاً عن تلك الأسلحة، لكنهم لم يجدوا شيئاً، ثم تلقى الأب خطاباً آخر من ابنه يقول له: "ها قد تم تقليب الأرض وحرثها وأصبحت جاهزةً للزراعة! لا تقلق أبي؛ سوف أساعدك في العام القادم أيضاً، حظاً موفقاً يا أبي".

 

وقد وردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تؤكد على أهمية البر بالوالدين، وللأب منها نصيب. أما ما ورد لبيان (مكانة الأب) والبر به بصفةٍ خاصةٍ فقد كانت قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، ثم قصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل خير مثالٍ على ذلك؛ فها هو سيدنا إبراهيم يُخاطب أباه المشرك بأرق وألطف الألفاظ فيقول له في أكثر من موضع ﴿يَآبَتِ﴾، ثم تدور الأيام، فيكون سيدنا إبراهيم هو الأب، ويكون ابنه إسماعيل عليه السلام هو الابن البار الذي يعرف (مكانة الأب) فيطيعه في أغرب أمر؛ ألا وهو أمر ذبحه؛ يقول تعالى على لسان إبراهيم الخليل: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فيكون رد الابن البار دون تردد: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة وردت في (مكانة الأب) وعظيم حقه العديد من الأحاديث النبوية منها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَجْزي وَلَدٌ والِدًا إلَّا أنْ يجِدْهُ مَمْلوكًا فَيَشْتَريَهُ فَيُعْتِقَهُ]، أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه. وقال عليه الصلاة والسلام: [الْوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوابِ الجَنَّةِ، فَإنَّ شِئْتَ فَأضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْه].

وقال صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ وَمالُكَ لِأَبيكَ]، واللام هنا للإباحة وليست للتمليك، أي أنه لا يأخذ من مال ابنه إلا بقدر الحاجة، والحديث كناية عن شدة البر بالآباء، ولا تعني أن مال الابن ملكٌ للأب يتصرف فيه كما يشاء، ولكن أن يبر الابن أباه ويُكرمه ولا يبخل عليه بشيء مع الحفاظ على الذمم المالية مستقلة.

كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يُفيد الحج عن الأب في حالة عدم الاستطاعة؛ إذ قال رجلٌ: يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ، لا يستطيعُ الحجَّ ولا العُمرةَ ولا الظَّعنَ قال: [فحُجَّ عَنْ أَبيكَ وَاعْتَمِرْ].

وقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ أبَرَّ البرِّ صِلَةُ الرَجُلِ أهْلَ وُدِّ أَبِيه]، بمعنى أن من أفضل أعمال البر أن يصل الابن من كان الأب حريصاً على صلتهم في حياته سواءً من رحمه أو أصدقائه.

 

وقد وصف بعض الفضلاء (مكانة الأب) وفضله فقالوا: إنه الصديق الصادق والأخ القريب، وهو الحاني؛ لا يمكنه تذوق طعم الراحة إلا براحة أبنائه. هو الرجل الشجاع يلتجئ إليه الأبناء في ضعفهم، ويستندون عليه في مصائبهم، هو المكافح الذي لا يعرف الكسل ولا التواكل في جني الرزق، وهو المقدام المناضل لا يعرف التعب من أجل تلبية رغبات أبنائه، وهو الصاحب الذي لا يكل من مرافقتهم في كل محلٍ ومرتحل. هو كالشجرةِ في العطاء؛ فهو يمنح بلا مقابل، وكالنهر في الحب والحنان؛ فهو دائم الحب متدفق المشاعر. هو عمود البيت، وسرّ استقراره، وهو صمام الأمان للأسرة؛ فهو يحمي أفراد أسرته من المخاطر التي تُحيط بهم، ويُحافظ على أسرته متماسكةً لا يفرقها شيءٌ. وهو المربي الصبور يُربي أبناءه ويصبر على أخطائهم، وهو المعلم الذي لا يمل من تعليمهم وإعطائهم النصائح المفيدة، كلامه يُريح القلوب ويُثلج الصدور، لا يتعب من الاستماع إلى أبنائه وإرشادهم، ولا يمل من دعمهم وتشجيعهم وإرشادهم؛ فهو طبيبهم الذي يقف على مشاكلهم ومعضلات أمورهم ويُعالجها بحكمةٍ وصبر.

 

أحبتي .. أعجبني من قال إننا مهما تحدثنا عن فضل الأب فلن نوفيه حقه ولن ننزله منزلته، فحب الأب أروع الهدايا من الله. فمن كان له أبٌ على قيد الحياة فليُقّبِل يديه، وليلزم قدميه، يُحسن صحبته، ويطلب منه الرضا، ويضعه تاجاً على رأسه. ومن كان أبوه ميتاً فليُحسن إليه بكل صنوف البِر بعد الموت، ولا يتذكره في المناسبات فقط بل في كل وقتٍ ويدعو له؛ فلا يجب ألا ينساه.

اللهم اجعلنا ممن يُحافظون على (مكانة الأب) حياً وميتاً، وألهمنا الدعاء له، ويسِّر لنا البر به.

 

https://bit.ly/30YxsAG

 

الجمعة، 19 نوفمبر 2021

البر بالأم

 خاطرة الجمعة /318


الجمعة 19 نوفمبر 2021م

(البر بالأم)

 

تقول راوية القصة: تقدّم أحدُهم لخطبتي وكان شرطه الوحيد للزواج هو الاعتناء بوالدته. أخبرني بأنه لن يطلب مني أكثر من ذلك، فقط أُراعي أمه وقت غيابه؛ فأُمه طريحة الفراش منذ عشرة أعوام، فبعد وفاة والده لم يبقَ له سواها من الحياة. قال لي: "فقط هذا شرطي: أمي، أعرف بأنكِ لستِ مُكّلفةً برعايتها أو خدمتها ولكن إذا وافقتِ فستعملين ذلك من باب إنسانيتك وطاعةً لي". كانت أمه قد تعرضت لحادث سيرٍ مُرعبٍ فقدت بعده التحكم في جسمها بالكامل وشُلت أطرافها، وكان هو القائم برعايتها، ولكن نظراً لدراسته وعمله، فإن هناك أوقاتاً يغيب عنها وهي بحاجةٍ إلى أدويةٍ واهتمام. فكّرتُ كثيراً وتحيّرتُ كثيراً؛ فهذا كأنه بحاجةٍ إلى خادمةٍ وليس زوجة. تكلّمتُ مع والدي الذي خفف من ضجيج تفكيري وقال لي: "اسمعي يا ابنتي، هذا مستقبلك، وليس لي حق التأثير عليكِ، ولكن طالما سألتيني رأيي فأنا أؤمن جيداً بأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وشخصٌ كهذا حريصٌ على والدته لن يُضيعك معه ولن يظلمك حقك؛ إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لن يظلمك، فإذا كنتِ ستُراعين أمه ليس بشكلٍ يُرضيه ولكن ستضعيها في مقام أمك فاقبلي ابنتي، وإذا كان الشيطان سيجد بابه إلى قلبك فيحملك على ظُلمها فقولك "لا" أسلم لكِ".

تزّوجنا، وفي أول ليلةٍ لي معه أخذني إلى غُرفة والدته، صُعقت من منظر الغرفة كانت كقطعةٍ من الجنة؛ ألوانها، ترتيبها، وسائل التدفئة فيها، كانت الغرفة مُختلفةً تماماً عن باقي غرف البيت. تركني واقترب من سرير أمه، كانت نائمةً أخذ يهز كتفها برفقٍ قائلاً: "ماما، لقد أحضرتُ هديتي لكِ؛ هذه زوجتي ألا تريدين رؤيتها؟!" فتحت عينيها برفقٍ ونظرت له بابتسامةٍ وادعةٍ ثم حوّلت نظرها إليّ، لا أستطيع وصف تلك اللحظة، عيناها مليئتان بألمٍ، وثغرها مبتسمٌ بحُزنٍ، كان وجهها كالقمر في ليلة تمامه، هادئٌ جداً بالنسبة لامرأة في السبعين من عمرها. قالت: "مُباركٌ عليكِ بُنيتي زفافك، وأدعو الله أن يهدي لكِ صغيري هذا، وأن يرزُقك ولداً باراً مثله، وألا تكوني ثقيلةً عليه مثلي"، ثم ذرفت عيناها دموعاً أشبه بفيضانٍ سُمح له بالجريان. سارع لمسح دموعها بكم بذلته وقال: "هذا الكلام يُغضبني وأنتِ تعلمين ذلك، أرجوكِ ماما لا تُعيديها"، واقتربتُ أنا منها وقبّلتُ يدها ورأسها وقلتُ: "آمين، ماما". مرت أيامي في هذا البيت ودهشتي فيه تزداد يوماً بعد يومٍ، كان هو من يُغيّر لها الحفّاض، وكان يُحممها في مكانها بفرشاة الاستحمام، وكان يُبلل لها شعرها ويُسرحه لها، وعندما تألمت من المشط أحضر لها مشطاً غريباً كان من الورق المُقوى الناعم من أجل فروة رأسها، كان قد رآه في أحد الإعلانات التجارية، أحضره لها، سُرّت جداً بذلك المشط، كان يُضّفر لها شعرها في جديلتين صغيرتين؛ فكانت تخجل عندما يفعل لها ذلك وتبتسم بحياءٍ وتقول: "لستُ صغيرةً لتفعل هذا أيها الولد، فلتُنهِ ذلك"، كان يرد: "عندما يُعجب أحدهم بكِ فستشكُريني"، عندها تغرق في ضحكٍ عميقٍ، كنتُ أرى زوجي من خلف ذلك الضحك ينظر إليها كطفلٍ ما زال في السادسة من عمره، حقاً كان يُحبها، بل ويُحبها جداً. لا أعرف ماذا قصد عندما أخبرني بأنه يُريدني أن أعتني بها، هو يفعل كل شيءٍ! أخبرني بأن وقت خروجه وعمله يستثقله عليها بأن تكون فيه وحيدةً، كنتُ أستغرب كيف يجد وقتاً لكل ذلك؟ فقط كنتُ أنا أساعدها في تناول وجباتها وأخذ أدويتها، هذا كل دوري. أحببتُ علاقته بها جداً، كان مُتعلقاً بها، وهي متعلقةٌ به أكثر؛ كان يستيقظ في الليل على الأقل ثلاث مراتٍ لينقلها من جانبٍ لآخر حتى لا تُصاب بقُرح الفراش وليطمئن عليها. كان مع كل مُناسبةٍ يُحضر لها ملابس جديدةً ويُشعرها بجو تلك المناسبة. وفي إحدى المرات كان قد نسي إحضار حفاضٍ لها، وعندما استيقظ ليلاً للاطمئنان عليها شم رائحة قذارةٍ فعرف أنها قد أطلقتها على نفسها، كانت تبكي بشدةٍ وتقول: "آسفة، حدث ذلك رغماً عني"، كان مُنهمكاً في تنظيفها وهي تبكي وتقول: "أنت لا تستحق مني ذلك، هذا ليس لائقاً بك، أدعو الله أن يُعجّل ما بقي لي من أيامٍ"، يرد قائلاً: "أفعل ذلك أمي بنفس درجة الرضا التي كنتِ تفعلينها بها في صغري". بكيتُ وتيقنتُ أن هذا الرجل فعلاً رِزْق. أنجبتُ منه ولداً تمنيتُ أن يكون مثله في كل شيءٍ؛ فحملته وذهبتُ به عند جدته ووضعته في حضنها وقلتُ لها: "أريده مثل ابنك"، فابتسمت وقالت: "صغيري هذا رزقٌ لي، والرزق بيد الله عزيزتي؛ فادعي الله أن يُربيه لكِ". كانت حياته كُلها بركةً وخيراً، لم يتذمر من والدته قط لا أمامي ولا أمام غيري، كانت رائحته تفوح بالبر بأمه حتى ظننتُ أنها تكفي جميع العاقين.

 

هذه قصةٌ عن (البر بالأم) رأينا فيها بر الابن بأمه. وإليكم قصةً أخرى عن بر زوجةٍ بأم زوجها، وكيف كان ذلك سبباً في إسلام ممرضةٍ أمريكية؛ كتبت الممرضة تقول:

أول مرةٍ سمعتُ فيها كلمة «الإسلام» كانت أثناء متابعتي لبرنامجٍ تليفزيوني، فضحكتُ من المعلومات التي سمعتها يومها. بعد عامٍ من سماعي لكلمة «الإسلام» استمعتُ لها مرة أخرى، ولكن أين؟ في المستشفى الذي أعمل فيه؛ حيث أتى زوجان وبصحبتهما امرأةٌ مريضةٌ. جلست الزوجة أمام المقعد الذي أجلس عليه لمتابعة عملي، وكنتُ ألاحظ عليها علامات القلق، وكانت تمسح دموعها. من باب الفضول سألتها عن سبب ضيقها، فأخبرتني أنها أتت من بلدٍ بعيدٍ مع زوجها الذي أحضر أمه باحثاً لها عن علاجٍ لمرضها العضال. كانت المرأة تتحدث معي وهي تبكي وتدعو لوالدة زوجها بالشفاء والعافية، فتعجبتُ لأمرها كثيراً! تأتي من بلدٍ بعيدٍ مع زوجها من أجل أن يُعالج أمه؟! تذكرتُ أمي وقلتُ في نفسي: "أين أمي؟ قبل أربعة أشهرٍ أهديتها زجاجة عطرٍ بمناسبة عيد الأم ولم أفكر منذ ذلك اليوم بزيارتها! هذه هي أمي فكيف لو كانت أم زوجي؟!". لقد أدهشني أمر هذين الزوجين، لا سيما أن حالة الأم صعبةٌ، وهي أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. أدهشني أكثر أمر الزوجة؛ ما شأنها وأم زوجها؟! أتُتعب نفسها وهي الشابة الجميلة من أجل أم زوجها؟ لماذا؟ لم يعد يشغل بالي سوى هذا الموضوع. تخيلتُ نفسي لو أني مكان هذه الأم، يا للسعادة التي سأشعر بها، يا لحظ هذه العجوز، إني أغبطها كثيراً. كان الزوجان يجلسان طيلة الوقت معها، وكانت مكالماتٌ هاتفيةٌ تصل إليهما من الخارج يسأل فيها أصحابها عن حال الأم وصحتها. دخلتُ يوماً غرفة الانتظار فإذا بزوجة الابن جالسة، فانتهزتها فرصةً لأسألها عما أريد، حدثتني كثيراً عن حقوق الوالدين في الإسلام؛ وأذهلني ذلك القدر الكبير الذي يرفع الإسلام إليه الوالدين ويُوصي بهما ويأمر بالإحسان إليهما. بعد أيامٍ تُوفيت العجوز، فبكى ابنها وزوجته بكاءً حاراً وكأنهما طفلين صغيرين. بقيتُ أفكر في هذين الزوجين، وبما علمته عن حقوق الوالدين في الإسلام، وأرسلتُ إلى أحد المراكز الإسلامية بطلب كتابٍ عن حقوق الوالدين، ولما قرأته عشتُ بعده في أحلام يقظةٍ أتخيل خلالها أني أمٌ ولي أبناءٌ يحبونني ويسألون عني ويُحسنون إليّ حتى آخر لحظةٍ من عمري، ودون مقابل. دمعت عيناي؛ هذا دينٌ علّم الأبناء بر الآباء والأمهات، وأن يعيشوا معهم حتى الممات، وأن يرحموهم في الكبر؛ إنه الدين العظيم. اعتنقتُ الإسلام، والحمد لله تزوجتُ من رجلٍ مسلمٍ، وأنجبتُ طفلاً وسميته عبد الملك، أدعو له بالهداية والصلاح، وأن يرزقني الله بره.

 

أحبتي في الله .. ذُكرت الأم في القرآن الكريم في عدة مواضع توصينا بضرورة (البر بالأم)؛ منها: عن الحمل والولادة والرضاعة؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾. وعن أم موسى؛ يقول تعالى: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ويقول كذلك: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾. وعن أهوال يوم القيامة؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾. وعن البيوت التي يأكل فيها الإنسان بغير حرج؛ يقول تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ ...﴾.

 

كما ورد ذِكر الأم في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين أهمية (البر بالأم)؛ منها: أن رجلاً أتى النبيَ – صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: “إني أشتهي الجهاد، وإني لا أقدر عليه، قال: [هل بَقِي أحدٌ مِن والديك؟] قال: أمي، قال: [فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا؛ فإنَّك إذا فعلتَ ذلك، فأنتَ حاجٌّ ومُعتمر ومُجاهد، إذا رضيتْ عنك أُمُّك، فاتقِ اللهَ في برِّها]. {فَأَبْلِ اللَّهَ عُذْرًا فِي بِرَّهَا أي أعطه وأبلغ العذر فيها إليه، المعنى: أحسن فيما بينك وبين الله تعالى ببرك إياها}. وجاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: [هل لَكَ مِن أمٍّ؟]، قالَ: نعَم، قالَ: [فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها]. وقالتْ أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما -: قَدِمَتْ عليّ أُمِّي وهي مُشرِكة في عهْدِ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فاستفتيتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قلتُ: إنَّ أمي قَدِمتْ وهي راغِبة أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قال: [نعم، صِلِي أُمَّكِ]. وقال رجلٌ: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: [أُمُّك، ثم أُمك، ثم أُمك، ثم أبوك]، يقول أهل العلم إن في الحديثُ إشارةٌ إلى أنَّ الأمَّ تفضَّلت على الأب بثلاثِ درجاتٍ، نظراً لحملها ووضعها وإرضاعها، فلزِم أن يكون حبُّها وبرُّها ثلاثة أضعاف برِّ الأب. كما أن الأمُّ أضعفُ وأعجزُ من الأبِ جسدياً، فكانَ مقدَّماً برُّها عليه. وكذلك فإن المشقَّة على الأمِّ في إنجابِ الولد ورعايته اضطرارية، أمَّا مشقَّة الأبوَّة فاختياريَّة، إذ تُضحّي الأمُّ بصحَّتها وراحة جسدها، فتقدّمت في البرِّ وفي وجوبِ الإنفاق عليها عند الحاجة.

 

أما عن الآداب التي تُراعى في مجال (البر بالأم) فمنها كما يشير العلماء: تقديمُ طاعتها على سائِر البشر. الإحسانُ إليها بالقولِ والعمل. خفض الجناح لها بالتواضعِ والانكسارِ وعدم التكبُّر عليها. ملاطفتها بالكلام وعدم نهرها أو رفع الصَّوت عليها أو التأفّف من شيءٍ فَعَلته. الإصغاء إلى كلامها، وعدم مقاطعتها فيه أو إقامة الحُجَّة عليها. الفرح بأداءِ طلباتها وترك التضجُّر منها. التودُّد لها وتعظيم شأنها في المجالس وتقبيل يدها ورأسها بين الفينة والأخرى. الابتعاد عن إزعاجها بالأخبار السيّئة. الاستئذانُ منها وطلب مشورتها في أمورِ الحياة. انتظارها لتناولِ الطَّعام وعدم البدء بذلك قبلها. البقاءُ عندها في حال مرضِها والسَّهر على راحتها وشفائها. الإنفاقُ عليها في حال الحاجة. الترويح عنها وإدخال السرور على قلبها. كثرة الاستغفار لها في حياتها وبعد مماتها. والصَّدقة عنها بعد موتها.

 

أحبتي .. (البر بالأم) من أعظم القربات لله سبحانه وتعالى. فمن كان منا يوقر أمه ويحترمها ويُقدم لها كل فروض الطاعة والولاء دون أي شكوى أو تذمر فهنيئاً له ما قدم لنفسه من خيرٍ له ثوابٌ عظيمٌ في الدنيا والآخرة. أما من كان مقصراً في ذلك فليراجع نفسه، ويسارع إلى تدارك ما فاته، عسى أن يُمهله ربه فيُعوِّض ما قد مضى ويحمد الله أن هداه ووفقه.

هدانا الله سواء السبيل لنيل رضا أمهاتنا؛ فإن كُنّ ما زلنّ على قيد الحياة، فهذه والله لفرصةٌ عظيمةٌ، محظوظٌ صاحبها، لا يُضيعها إلا أحمق. وإن كُنّ قد توفين فواجبنا تجاههن لم ينقطع؛ علينا أن ندعو لهن ونستغفر لهن ونسأل المولى عزَّ وجلّ أن يجمعنا بهن في الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم ارحم أمهاتنا أحياءً وأمواتاً.

https://bit.ly/3nxAuUY

الجمعة، 12 نوفمبر 2021

القول الحسن

 

خاطرة الجمعة /317


الجمعة 12 نوفمبر 2021م

(القول الحسن)

 

في إحدى المستشفيات كان هناك مريضان كبيران في السن، يقيمان في غرفةٍ واحدةٍ، كلاهما معه مرضٌ عضال؛ أحدهما كان مسموحاً له بالجلوس في سريره لمدة ساعةٍ يومياً بعد العصر، ولحُسن حظه فقد كان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مُستلقياً على ظهره طوال الوقت. كان المريضان يقضيان وقتهما في الكلام، وهما مُستلقيان على ظهرهما ناظران إلى السقف. تحدثا عن أهلهما، وعن بيتهما، وعن حياتهما، وعن كل شيءٍ. وفي كل يومٍ بعد العصر، كان الأول يجلس في سريره حسب أوامر الطبيب، وينظر في النافذة، ويصف لصاحبه العالم الخارجي، وكان الآخر ينتظر هذه الساعة كما ينتظرها الأول، لأنها تجعل حياته مفعمةً بالحيوية وهو يستمع لوصف صاحبه للحياة في الخارج؛ إذ يقول له إنّه توجد بجوار المستشفى حديقةٌ تتوسطها بحيرةٌ كبيرةٌ يسبح فيها البط، والأولاد صنعوا زوارق من مواد مختلفةٍ وأخذوا يلعبون بها داخل الماء. وأن هناك رجلاً يؤجِّر المراكب الصغيرة للناس يُبحرون بها في البحيرة، والنساء يتأبطن أذرع أزواجهن، ويتمشى الناس حول حافة البحيرة. وأن هناك آخرين يجلسون تحت ظلال الأشجار أو بجانب الزهور ذات الألوان الجذابة. وأن منظر السماء بديعٌ يسر الناظرين. وفيما يقوم الأول بعملية الوصف هذه يُنصت الآخر في ذهولٍ لهذا الوصف الدقيق الرائع، ثم يُغمض عينيه ويبدأ في تصور ذلك المنظر البديع للحياة خارج المستشفى. وفي أحد الأيام وصف الأول للثاني عرضاً عسكرياً، ورغم أنه لم يسمع عزف الفرقة الموسيقية إلا أنه كان يراها بعيني عقله من خلال وصف صاحبه لها.

مرت الأيام والأسابيع وكلٌ منهما سعيدٌ بصاحبه، وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحاً لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل، ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة عبر الهاتف وهي تطلب المساعدة لإخراجه من الغرفة؛ فحزن على صاحبه أشد الحزن. وعندما وجد الفرصة مناسبةً طلب من الممرضة أن تنقل سريره إلى جانب النافذة. ولما لم يكن هناك مانعٌ من ذلك فقد أجابت طلبه. ولما حانت ساعة بعد العصر وتذكر الحديث الشيق الذي كان يتحفه به صاحبه انتحب لفقده، لكنه قرر أن يحاول الجلوس ليعوض ما فاته في هذه الساعة؛ فتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويداً رويداً مُستعيناً بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه وأدار وجهه ببطءٍ شديدٍ تجاه النافذة لينظر إلى العالم الخارجي ويشاهد الحديقة وما بها من زهورٍ ملونةٍ وجميلةٍ والبحيرة وما بها من بطٍ وزوارق، وهنا كانت المفاجأة! لم يرَ أمامه إلا جداراً أصماً من جدران المستشفى؛ فقد كانت النافذة تُطل على ساحةٍ داخلية.

نادى الممرضة وسألها إن كانت هذه هي النافذة التي كان صاحبه ينظر من خلالها، فأجابت إنها هي؛ فالغرفة ليس فيها سوى نافذةٍ واحدة، ثم سألته عن سبب تعجبه، فقص عليها ما كان يرى صاحبه عبر النافذة وما كان يصفه له. كان تعجب الممرضة أكبر، إذ قالت له: "ولكن المتوفى كان أعمى، ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم، ولعله أراد أن يجعل حياتك سعيدةً حتى لا تُصاب باليأس فتتمنى الموت".

 

أحبتي في الله .. لقد صدق من أجاب على السؤال: "مَنْ أسعدُ الناسِ؟"، بقوله: "مَنْ أسعدَ الناسَ". بطل القصة السابقة كان أعمى البصر، لكن لم يكن أعمى البصيرة، كان همه إسعاد الآخر، حتى ولو لم يكن قريبه أو صديقه، جمعت الصدفة بينهما في تلك الغرفة من غرف المستشفى، ووجد فرصةً لإسعاد إنسانٍ يائسٍ؛ فحرص على ألا يفوته ثوابها، فظل يزرع في قلب جاره المريض الأمل ويُشعره بالبهجة والسعادة عن طريق (القول الحسن)، ثم مات، ليجد ثواب عمله لإسعاد غيره يُثَقِّل ميزان حسناته بإذن الله.

وهذا شخصٌ كان شعاره هو الآخر (القول الحسن) سبباً في إنقاذه من موتٍ محققٍ؛ فقد كان يعمل في أحد مصانع تجميد وحفظ الأسماك، وذات يومٍ وقبل نهاية الدوام دخل إلى ثلاجة حفظ الأسماك لينجز آخر عمل له في ذلك اليوم، وبينما كان ينجز عمله، حدث أن أُغلق باب الثلاجة وهو داخلها، حاول الرجل فتح الباب، ولم يستطع، أخذ يصرخ وينادي بأعلى صوته طالباً المساعدة من العمال الآخرين، ولكن كان الدوام قد انتهى ولم يبقَ أحد في المصنع. وبعد مرور قرابة خمس ساعات، وكان الرجل قد أوشك على الموت من شدة البرد، إذ بحارس المصنع يفتح باب الثلاجة وينقذه. وعندما قام مدير المصنع بسؤال حارس المصنع، كيف عرف أن ذلك العامل كان موجوداً داخل المصنع ولم يخرج مع باقي العمال؟ قال الحارس: "أنا أعمل ببوابة هذا المصنع منذ ثلاثين عاماً، يدخل ويخرج من المصنع مئات الموظفين والعمال يومياً، لم يكن أحدٌ منهم يلقي عليّ التحية يومياً ويسألني عن حالي إلا ذلك العامل، وعند نهاية هذا اليوم لم أسمعها منه وافتقدته عند خروج العمال، فعلمت أنه لا زال في المصنع فبحثت عنه حتى وجدته.

إنه (القول الحسن)، وهو الكلمة الطيبة؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، ويقول تعالى:

﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ‌ كَيْفَ ضَرَ‌بَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَ‌ةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْ‌عُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ‌بِّهَا ۗ وَيَضْرِ‌بُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُ‌ونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَ‌ةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْ‌ضِ مَا لَهَا مِن قَرَ‌ارٍ‌﴾، وعن هذه الآية يقول أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أهمية الكلمة الطيبة وعظيم أثرها واستمرار خيرها، وبيّن خطورة الكلمة الخبيثة وجسيم ضررها وضرورة اجتثاثها، وشَبّه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تُثمر العمل الصالح، والشجرة تثمر الثمر النافع.

 

وعن الكلمة الطيبة و(القول الحسن) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الفاحِشِ، وَلا البَذِيء]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ شَيءٍ في المِيزَانِ أثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَإنّ اللهَ يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيء]. كما قال: [الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ]، وقال أيضاً: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]، وقال كذلك: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: [إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ ، وَحُسْنَ الْكَلَامِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ في الجنَّةِ غرفًا يُرى ظاهرُها مِن باطنِها وباطنُها مِن ظاهرِها أعدَّها اللهُ لمَنْ أطعمَ الطَّعامَ وأفشى السَّلامَ وصلَّى بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ]، كما قال: [إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ]، وقال لمن سأل: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: [وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم؟].

 

لا شك في أن (القول الحسن) مفتاحٌ للقلوب، وسببٌ في كل خير؛ فربّ كلمةٍ طيبةٍ ﻻ نُلقي لها بالاً توقظ أملاً في نفس شخصٍ يائسٍ، أو تكون سبباً في إنقاذ حياة شخصٍ وهو ﻻ يعلم!

 

يُقال: "الكلمة الطيبة هي حياة القلب، وهي روح العمل الصالح". ويُقال: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو كان مجرد كلمةٍ طيبةٍ". ويُقال: "إذا جعلتَ الناس سعداء فستتضاعف سعادتك، ولكن إذا وزعتَ الأسى عليهم فسيزداد حزنك". ويُقال: "إن الناس في الغالب ينسون ما تقول، وفي الغالب ينسون ما تفعل، ولكنهم لن ينسوا أبداً الشعور الذي أصابهم من قِبلك؛ فهل ستجعلهم يشعرون بالسعادة؟".

 

أحبتي .. عن (القول الحسن) أختم بكلماتٍ أعجبتني يقول كاتبها: "البِرَ شيءٌ هيِّنٌ؛ وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ، فلنرطِّب ألسنتنا بالكلمة الطيبة التي تُزيل الجفاء، وتُذهب البغضاء والشحناء، وتُدخل إلى النفوس السرور والمحبة والمودّة والوئام والهناء. لتكن كلماتنا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، نبني حياتنا بوحيٍ من هداها، نتنسّم عبير شذاها مستجيبين لنداء رب العالمين ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾".

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، موافقةً لسُنة نبيك الرؤوف الرحيم، واقبلها ربنا قبولاً حسناً، يا عزيز يا حليم.

 

https://bit.ly/2YKLK6Q

الجمعة، 5 نوفمبر 2021

الصراط المستقيم

 

خاطرة الجمعة /316


الجمعة 5 نوفمبر 2021م

(الصراط المستقيم)

 

كاتبةٌ سعوديةٌ غيرت اتجاه فهمها للحياة مائةً وثمانين درجة، وكتبت تحت عنوان: "نبش الأسرار" تقول:

اليوم أقلد قلمي شرف نبش أسرار الضياع، لم تكن توبتي نتيجة ظروفٍ قاسيةٍ أو محنةٍ عارضةٍ، بل كنتُ أنعم بكل أشكال الترف والحرية في كل شيءٍ، وكنتُ أجسد العلمنة بمعناها الصحيح، وكانت أفكارها نهجي ودستوري، وكُتبها مرصوصةٌ في مكتبتي، ورميُ الحجاب حلمٌ يداعب خيالي، وقيادة السيارة قضيتي الأولى أنادي بها في كل مناسبةٍ، وأستغل ظروف من هُم حولي لإقناعهم بضرورتها. تمنيتُ أن أكون أول من يترجم فكرة القيادة إلى واقعٍ ملموسٍ، ولطالما سهرتُ الليالي أخطط فيها لتحقيق الحلم. أما تحرير المرأة السعودية من معتقدات وأفكار القرون البالية وتثقيفها، وزرع مقاومة الرجل في ذاتها، فلقد تشربْتُها وتشربَتْها خلايا عقلي، وسعيتُ إلى تسليط الضوء على جبروت الرجل السعودي وأنانيته، وقدمتُ الرجل المتحرر على طبقٍ من ذهبٍ على أنه يفهم المرأة واستخرج كنوز أنوثتها وقدمها معه جنباً إلى جنب. وشوهتُ صورة الرجل المتدين على أنه اكتسب الخشونة والرعونة من الصحراء، وتعامل مع الأنثى كما تعامل مع نوقه وهو يسوقها بين القفار. كانت الموسيقى غذاء روحي ونديمي من الصباح إلى فجر اليوم التالي، أما الرقص بكل أنواعه فقد جعلته رياضةً تعالج تخمة الهموم. ونظريات فرويد كنت أدعمها في كل حينٍ بأمثلةٍ واقعيةٍ؛ فأنسِب المشاكل الزوجية إلى الكبت، والعُقد إلى آثار أساليب التربية القديمة التي استعملها أهلنا معنا. وكانت أفكاري تجد بين المجتمع النسائي صيتاً عالياً ومميزاً، سرتُ عليها سنين عديدة.

وفي يومٍ من الأيام كنتُ جالسةً في ساحة أحد الأسواق لفت نظري شابٌ متدينٌ بهيئته التي تدل على ذلك؛ ثوبٌ قصيرٌ وسيرٌ هادئٌ وعيونٌ مغضوضةٌ، أظنه في سن ما فوق العشرين، أعجبني هدوءه، وطرأت عليّ بعدها أفكارٌ غريبةٌ جداً! علامات الرضى باديةٌ على مُحياه، خطواته ثابتةٌ رغم أن قضيته في نظري خاسرةٌ، هو والقلة التي ينتمي إليها؛ يتحدون مارداً جباراً اسمه التقدم ولا يزالون يناضلون! سخرتُ بداخلي منه ومنهم، لكنني لم أنكر إعجابي بثباته، فقد كنتُ أحترم من يعتنق الفكرة ويثبت عليها. حاولتُ أن أحلل الموضوع فقلتُ في نفسي: "ربما هؤلاء الملتزمون تدينوا نتيجة الفشل فأخذوا الدين شعاراتٍ ليُشار إليهم بالبنان، لكن منهم العلماء والدكاترة، ولديهم ماضٍ عريقٌ حين ملكوا الدنيا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، أو ربما هو الترفع عن الرغبات!". وعند هذه النقطة بالذات اختلطت عليّ الأمور؛ فالترفع عن الرغبات معناه الكبت، والكبت لا يُنتج حضارة! حاولتُ أن أتناسى هذا الحوار مع نفسي لكن عقلي أبى عليّ ولم يصمت، ومنذ ذلك الوقت وأنا في حيرةٍ فقدتُ معها اللذة التي كنتُ أجدها بين كتبي، ومع أنواع الموسيقى والرقص، ومع الناس كافةً، علمتُ أني فقدت شيئاً، لكن ما هو؟! لستُ أدري! اختليتُ بنفسي لأعرف؛ طرقتُ أبواب الطب النفسي دون جدوى، فقدتُ الإحساس السابق بل لم أعد أشعر بأي شيء! كل شيءٍ بلا طعمٍ وبلا لون؛ فعدتُ مرةً أخرى لنقطة البداية عندما حصل التغيير بعد ذلك الحوار! تساءلتُ: "كل ما أتمنى أستطيع أخذه، ما الذي يحدث لي إذاً؟! أين ضحكاتي المجلجلة؟ وحواراتي التي ما خسرتُ فيها يوماً؟ أين جلسات الرقص والسمر؟". وكلما حاولتُ أن أكتب أجدني أسير بقلمي بشكلٍ عشوائيٍ لأملأ الصفحة البيضاء بخطوطٍ وأشكالٍ لا معنى لها غير أن بداخلي إعصاراً من حيرةٍ! بدأتُ أتساءل! لماذا لم أعد أشعر بروعة الموسيقى المنسابة إلى مسمعي؟! لو كانت غذاء الروح كما كنتُ أدّعي لكانت روحي الآن روضةً خضراء. وأين مني تلك الكتب التي احترمتُ كتّابها وصدقتهم؟ لماذا تخذلني الآن كلماتهم ولا تُشعل حماسي كما كانت؟! وهنا لاح سؤالٌ صاعقٌ: هل هؤلاء الغربيون فعلاً أفضل منا؟ وبماذا هم أفضل؟ تكنولوجياً؟ وبماذا خدمت التكنولوجيا المرأة عندهم؟ خدمت الرجل الغربي، ولكن المرأة أين مكانها؟ معه في العمل، وأخرى في النوادي تتراقص على أنغام الآلات التي اخترعها الرجل، وأخرى ساقيةٌ ونادلةٌ له في الأماكن التي صنعها الرجل لتسليته! اكتشفتُ حقيقةً أمَّر من العلقم؛ الرجل تقدم وضمن رفاهيته وتملص من الحقوق والواجبات وجعل المرأة صالة عرضٍ لكل ما خطر على خياله، واخترع لها أثواب بكل الأشكال. اشتهاها راقصةً؛ فرقصت شرقي وغربي وڤالس وباليه، كما اشتهاها العازف. اشتهاها ممثلةً، فمثلت كل الأدوار التي تحاكي رغباته من المحرمات والعلاقات والاعتداءات، أي دورٍ وكل دور! اشتهاها على الشاطئ؛ فأوجد لها ملابس البحر، وأظهر منها ما أراد أن يرى على أنه موضةٌ وحداثة!

اكتشفتُ الخديعة الكبرى في شعار حرية المرأة؛ فالرجل قد نادى به، وهدفه هو الوصول إلى المرأة! ثم ماذا يريدون بتحرير المرأة من الحجاب؟ إنه عبادةٌ كالصلاة والصوم، وقد كنتُ سأحرم نفسي منه لولا أن تداركتني رحمة ربي! يريدون أن يحرروني من طاعة الأب والزوج، إنهم حُماتي بعد الله. يريدون أن يحرروني من الكبت، كيف سميتم العفة والطهارة كبتاً؟ كيف؟ ما الذي جنوه من الحرية غير الأمراض والضياع؟! حرروا المرأة كما يزعمون! أخرجوها من بيتها تكدح كالرجل فضاع الأطفال، واليوم يدرسون ضياع الأطفال! تباً لهم وتباً لعقلي الصغير كيف صدقتهم؟ كيف لم أرَ تقدمنا والمرأة متمسكةٌ بحجابها؟

عرفتُ علتي وعلة الشباب جميعاً؛ مشكلتنا الأساسية أننا لا نعرف عن الإسلام إلا اسمه، وعاداتٍ ورثناها عن أهلنا، كأنه واقعٌ فُرض علينا. كما أننا لم ندرك طريقة الغزو الحقيقية؛ خدرونا بالرغبات، شغلونا عن القرآن وعلوم الدين، فهي خطةٌ محكمةٌ؛ تخديرٌ ثم بترٌ، ونحن لا نعلم.

اتجهتُ إلى الإسلام من أول نقطةٍ؛ من كتب التوحيد إلى الفقه، ومع إعجاز القرآن، اللغوي والتصويري والعلمي والفلكي وغيره، عدتُ إلى الله، وندمتُ على كل لحظةٍ ضيعتُها أقلب فيها ناظري في كتبٍ كتبتها عقولٌ مسخها الله وطمس بصيرتها. كانت المعجزة أمامي؛ وهو القرآن الكريم، لم أحاول يوماً أن أفهم ما فيه أو أحاول تفسيره! لكن وبعد أن أخرجتُ من منزلي ومن قلبي كل آلات الضياع والغفلة، وعندما خرج حب اللحن من قلبي، وجدتُ حلاوة الشَهد تنبع من قراءة آيات القرآن، وعرفتُ أعظم حبٍ؛ أحببتُ الله تعالى، لبستُ الحجاب الإسلامي الصحيح بخشوعٍ وطمأنينةٍ واقتناعٍ بعد تسليمٍ أشعرني برضا الله عني، ثم عرفتُ قول الله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾، أصبحتُ في سكناتي وحركاتي وطعامي وشرابي أستشعر معناه العظيم. أصبحت أنتظر الليل بشوقٍ إلى مناجاة الحبيب؛ أشكو إليه شدة شوقي إلى لقائه، وإلى لقاء المصطفى محمد ﷺ، وحنيني إلى صحابته الكرام، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ، ونسائه الطاهرات.

وأخيراً؛ كلمةٌ إلى كل من سمع قصتي: لا ترفضوا دينكم قبل أن تتعرفوا عليه جيداً لأنكم إذا عرفتموه لن تتخلوا عنه، فداه الأهل والمال والبنون والنفس.

 

أحبتي في الله .. كانت هذه اعترافات فتاة ليبرالية عادت إلى (الصراط المستقيم) بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في معاداته، هي وغيرها من الليبراليين والعلمانيين، فماذا حقق هؤلاء للمرأة؟ لقد جعلوها فريسةً سهلةً للقاصي والداني، وأبعدوها عن دينها، وصوروا لها الإسلام على أنه دين تخلفٍ ورجعيةٍ، وأنه ينتقص من حقوقها، ولم يُكرّمها. رغم أنه لم تُكرّم المرأة -على مدى التاريخ كله- كما كرمها الإسلام!

 

ومن صور تكريم الإسلام للمرأة أن بالقرآن الكريم سورةً اسمها سورة «النساء»، كما أن من بين سور القرآن سورةً اسمها على اسم امرأة؛ وهي سورة «مريم»، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن النساء: [إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]، وأوصى بهن خيراً حين قال في خطبة حجة الوداع: [استَوْصوا بالنِّساءِ خيرًا فإنَّهنَّ عَوانٌ في أيديكُم أخذتموهنَّ بأمانةِ اللهِ واستحللْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ]. وتُكرّم المرأة في الإسلام كوالدة؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. وتُكرّم كأم؛ فعندما سأل صحابيٌ النبي صلى الله عليه وسلم: من أولى الناس بحُسن صحابتي؟ قال: [أُمُك]، قال ثم من؟ قال: [أُمُك]، قال ثم من؟ قال: [أُمُك]، قال ثم من؟ قال: [أَبُوك]. وتُكرّم كزوجة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وهي راعيةٌ وسيدةٌ في بيتها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا]. وتُكرّم بنتاً وأختاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَكُونُ لأَحَدِكُمْ ثَلاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلاثُ أَخَوَاتٍ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ]. وجعل الإسلام للمرأة حقوقاً، وأوجب عليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها؛ يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. ولم يكن للمرأة قبل الإسلام حق الإرث، وجاء الإسلام فأقر لها حقاً في الميراث؛ يقول تعالى: ﴿للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾. ولم يكن للزوجة صداقٌ ولا مهرٌ عند بعض القبائل فجعل لها الإسلام مهراً وصداقاً من حقها لا يأخذ أحدٌ منه شيئاً إلا بطيب نفسٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾. كما لم يكن للمرأة على زوجها أي حقٍ، وليس للطلاق عددٌ محدود، وليس لتعدد الزوجات حدٌ معين، وكانوا إذا مات الرجل، وله زوجةٌ وأولادٌ من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثًا كبقية أموال أبيه!

لقد جعل الإسلام التفاضل بين جميع الناس -رجالاً ونساءً- بالتقوى والعمل الصالح؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. وكرّم الإسلام المرأة؛ فأسقط عنها النفقة، فلا تُنفق على ولدها ولا والديها ولا زوجها، بل لا تنفق حتى على نفسها هي، ويُلزم زوجها بالنفقة عليها. ورحمها فأسقط عنها حضور الجُمَع والجماعات لاشتغالها بزوجها وبيتها. وأسقط عنها الشهادة في الدماء والجنايات تقديراً لضعفها، ورعايةً لمشاعرها عند رؤية هذه الحوادث. وأسقط عنها فريضة الجهاد. وأسقط عنها فريضة الحج إذا لم يكن معها محرم يحرسها ويخدمها حتى ترجع. وحرَّم نكاحها بلا وليٍ ولا شهودٍ؛ حتى لا تُتَّهَمَ في عِرضها ونسب أولادها. وحَرَّم طلاقَها وهي حائضٌ مراعاةً لحالها، وحتى لا تطول عليها العدة. وأجاز لها الخُلع إذا كرهت زوجها وأبى طلاقها. وأوجب على مَنْ قَذَفَها في عِرْضِهَا جَلْدَ ثمانينَ جلدةً، ويُشَهَّر به في المجتمع ولا تُقبلُ شهادته أبداً. وجعل من يُقتل في سبيلها ليحافظ على عرضه شهيداً. وكرمها حتى بعد موتها فلا يُغسِّلها إلا زوجها أو نساءٌ مثلها، وجعل كفنها أكثر من كفن الرجل فتُكفَن في خمسة أثواب رعايةً لحرمتها.

 

أحبتي .. البُعد عن الإسلام سببٌ في كل مشاكلنا، وحل تلك المشاكل لن يكون إلا بالعودة إلى ديننا الحنيف الذي يقول سبحانه وتعالى عنه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فهو منهج حياةٍ متكامل يكفل للمسلمين العيش في الدنيا بعزةٍ وكرامةٍ، والفوز في الآخرة برضى الرحمن. إنه (الصراط المستقيم) الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباعه؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وعدم الاستقامة على هذا الصراط تترك الإنسان يتخبط في اتباع الهوى فيضل عن سبيل الله؛ يقول تعالى مخاطباً داوود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾، وأي هوىً أكثر من البُعد عن تطبيق شرع الله والالتزام به في جميع مجالات حياتنا؟

هدانا الله إلى اتباع شرعه وسُنة نبيه، وردنا إليه رداً جميلاً، وأبعدنا -رجالاً ونساءً- عن اتباع الهوى الذي فيه ضلالٌ عن سبيل الله.

https://bit.ly/3BUIjIk

الجمعة، 29 أكتوبر 2021

سوء الظن

 

خاطرة الجمعة /315


الجمعة 29 أكتوبر 2021م

(سوء الظن)

 

في «القاهرة» اتصل صديقٌ بصديقه قائلاً له: "أنا قادمٌ مع زوجتي لنسهر عندكم"، قال الصديق: "أهلاً وسهلاً، عندي طلبٌ منك"، قال: "ما هو؟"، قال الصديق: "أريد أن تشتري لي قالب حلوى من أفخر المحلات عندكم مع كذا وكذا"، قال: "لماذا؟ أمن أجلنا؟"، قال الصديق: "لا، اليوم عيد ميلاد ابني، ولم يتسنَّ لي الخروج، وأريد أن أفاجئه بالاحتفال دون أن يشعر". قام الصديق بشراء ما يلزم، ودفع مبلغاً كبيراً من المال، وعندما وصل إلى بيت صديقه تم الاحتفال، وتمت السهرة بكل بهجةٍ وفرح، وفي نهاية السهرة قال له صديقه: "بقيت قطعةٌ كبيرةٌ من قالب الحلوى، أرجوك لا ترد لي طلباً؛ خذها لأولادك"، وأعطاه العلبة وودعه دون أن يدفع له ثمن قالب الحلوى. ظل الصديق طوال الطريق يسب صديقه، ويلعن الوقت الذي قال له فيه إنه سيأتي ليسهر عنده، حاولت زوجته -وهما في السيارة- أن تُخفف عنه بأن صديقه ربما نسي أن يدفع له وبأنه سيتذكر غداً بالتأكيد، فيرد عليها ويقول: "بل هذا استغلالٌ مقيتٌ، وقلة أدبٍ وعدم احترام". وصل إلى البيت وهو لا يزال غاضباً، ونادى أولاده ليعطيهم من قطعة الحلوى، فتح العلبة، وإذا به يجد فيها رسالة شكرٍ مع المبلغ كاملاً، وعبارة: "أعرف أنك كنتَ لن تأخذ النقود مني؛ لذلك وضعتُ المبلغ دون علمك في العلبة"! أُصيب الرجل بالصدمة والخجل، ولم يدرِ ما يفعل؛ سأل زوجته: "هل أطلب منه أن يُسامحني لسوء ظني؟"، قالت له: "الأفضل ألا تطلب؛ هو كان يظن أنك لن تأخذ منه المبلغ، فدعه على حُسن ظنه بك".

 

أما في «لندن» فكانت سيدةٌ شابةٌ تنتظر طائرتها في المطار، ولأنها كانت ستنتظر كثيراً اشترت كتاباً لتقرأ فيه، واشترت أيضاً علبة بسكويت. بدأت تقرأ كتابها أثناء انتظارها للطائرة، وكان يجلس بجانبها رجلٌ يقرأ هو الآخر في كتابٍ، عندما بدأت في قضم أول قطعة بسكويت كانت موضوعةً على الكرسي بينها وبين الرجل فوجئت بأن الرجل بدأ في قضم قطعة بسكويتٍ من نفس العلبة التي كانت تأكل منها، فكرت أن تلكمه لكمةً في وجهه لقلة ذوقه، ثم تراجعت عن فكرتها، لكنها فوجئت بأنه مع كل قضمةٍ كانت تأكلها هي من علبة البسكويت كان الرجل يأكل قضمةً أيضاً! فتعصبت، لكنها كتمت في نفسها. وعندما بقي في كيس البسكويت قطعةٌ واحدةٌ فقط نظرت إليها وسألت نفسها: "ماذا سيفعل هذا الرجل قليل الذوق الآن؟"، لدهشتها قسّم الرجل القطعة إلى نصفين، أكل النصف وترك لها النصف! قالت في نفسها: "هذا لا يُحتمل!" ومع ذلك كظمت غيظها، وأخذت كتابها، وبدأت بالصعود إلى الطائرة. عندما جلست في مقعدها بالطائرة فتحت حقيبتها لتأخذ نظارتها، ففوجئت بوجود علبة البسكويت الخاصة بها كما هي مغلفةً بالحقيبة!! صُدمت، وشعرت بالخجل الشديد، أدركت الآن فقط أن علبتها كانت في حقيبتها وأنها كانت تأكل مع الرجل من علبته هو!! أدركت متأخرةً بأن الرجل كان كريماً جداً معها وقاسمها ما كان في علبة البسكويت الخاصة به حتى آخر قطعةٍ بدون أن يتذمر أو يشتكي!! وزاد من شعورها بالعار والخجل أنها لم تجد الوقت ولا الكلمات المناسبة لتعتذر للرجل عما حدث من قلة ذوقها!

 

أحبتي في الله .. عن (سوء الظن) يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اجْتَنِبُوا كثيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾.

وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ]، ورُوِيَ أنّه لمّا نظر النبي عليه الصّلاة والسّلام إلى الكعبة قال: [مَرْحَباً بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً، وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثاً: دَمَهُ، وَمَالَهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ].

 

يقول أهل العلم عن (سوء الظن) إنّه مَظنّة جانب الشرّ وتغليبه على جانب الخير في حين أنّ الموضوع الذي وقع فيه سوء الظنّ قد يَحتمل الجانبين معاً دون تغليبٍ لأحدهما، وهو امتلاء القلب بالظّنون السّيئة بالنّاس حتى يطفح على اللسان والجوارح، كما إنه تُهمةٌ في غير محلها وتخوينٌ للأهل والأقارب والنّاس.

ويُعتبر من أسوأ ما قد يتصف به الإنسان، نهانا الله سبحانه وتعالى عنه واعتبره من الأخلاق المذمومة، كما أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم نهانا عنه فهو من أسوأ أمراض القلوب؛ لأن صاحبه يُجزم بما في نفسه حتى وإن لم يصل إلى درجة اليقين؛ فترى صاحب الظن السيء يغضب بشدةٍ من تصرفٍ يبدو له ظاهره أن فيه إساءةً له، فيوغر ذلك صدره تجاه الشخص الذي صدر منه هذا التصرف، لاعتقاده أن ذلك الشخص تصرف عن عمدٍ، وقد يصل الأمر إلى حد القطيعة، على الرغم من أن التصرف قد يحتمل شيئاً آخر، على خلاف الظن.

وهذا يُعلمنا أن نلتمس الأعذار للآخرين، وألا نتصيد لهم أخطاءهم وزلاتهم، فنحن لسنا معصومين من الزلل والخطأ، وغيرنا كذلك، نحن جميعاً بشرٌ نُصيب ونُخطئ، هكذا جُبلنا؛ لذا فعلينا أن نحسن الظن بالناس وألا نسيء الظن بهم، لئلا تمتلئ قلوبنا بالحقد والكراهية.

 

والتماس الأعذار هو دأب الصالحين، الذين يُحسنون الظن، ويلتمسون المعاذير. إن (سوء الظن) بالآخرين يجلب الشك والكراهية والحقد بين الناس وغيرها الكثير من الأمراض الاجتماعية السيئة التي تؤثر سلباً على الإنسان المسيء الظن بالناس، بحيث تؤدي به إلى فقدان الثقة بكل الناس من حوله إلى أن ينتهي به المطاف إلى الشعور بالوحدة؛ لأن جميع الناس ينفرون من هذه الشخصية المسيئة للآخرين المشككة في نواياهم مهما كانت طيبةً وسليمة. ناهيك عن أن (سوء الظن) بالآخرين هو سببٌ في حدوث الكثير من المشاكل والقطيعة بين الناس سواءً كان ذلك بين العائلات أو بين الأصدقاء.

 

يقول أحدهم: ما لي أرى (سوء الظن) منتشراً ومتفشياً كتفشي النار بالهشيم؟

ما لي أرى الناس يُسيئون الظن ببعضهم البعض، فإن ابتسم الأخ لأخيه ظنّ أنه ابتسم لا محبةً له ولكن طمعاً في الحصول على شيءٍ ما، وإن نصحه في أمرٍ ما ظنّ أن النصيحة هي للإساءة أو لتعكير مزاجه أو للتقليل من شأنه!

ما لي أرى (سوء الظن) قد انتشر حتى بين أقرب الأقارب، حتى داخل الأسر وبين الأزواج. كم من قصةٍ مأساويةٍ سمعنا عنها أو شاهدناها كانت نتيجة سوء ظن الناس ببعضهم؟ وكم من تفرقٍ وقطيعةٍ بين الأهل والأحباب والأصحاب كان سببه (سوء الظن)؟

 

أحبتي .. أحد رجال الاختصاص كتب نصيحةً للتخلي عن (سوء الظن) قال فيها: لنتجنب (سوء الظن) بعضنا ببعضٍ؛ فمسيء الظن لا يُعاني فقط من الغيرة والحسد والبغضاء، بل إنه يوقع نفسه في الحرام والشُبهات؛ فينظر إليه الآخرون نظرة ازدراءٍ لسوء ظنه فهو لا يراعي الآداب والأخلاق الإسلامية التي دعانا إليها ديننا الحنيف، فلنتجنب (سوء الظن) حتى نحافظ على علاقاتنا الإنسانية سليمةً معافاةً من كل شوائب الأخلاق السيئة المذمومة؛ ونحافظ على مجتمعاتنا صالحةً متماسكة؛ لذا، فقبل أن يبدأ الشيطان بالوسوسة لنا بإساءة الظن بالآخرين علينا أن نحاول التماس الأعذار لهم؛ فلعلنا بسوء ظننا بهم نظلمهم ونخسر قربهم ومحبتهم واهتمامهم بنا. فلنضع (سوء الظن) جانباً حتى ننعم بحياةٍ هنيةٍ هادئةٍ مستقرةٍ، تخلو من تكدّر النفوس الذي ينشأ من جرّاء الظن السيء.

اللهم إنّا نعوذ بك من (سوء الظنّ) ومن الحقد والغل والحسد والشحناء والبغضاء والكُرْه، ومن أن نحمل في قلوبنا سوءاً نحو غيرنا، ونسألك اللهم قلوباً رحيمةً رقيقةً نظيفةً هيّنةً ليّنةً، تخشاك وتحبّك وتتقيك، وتُحسن الظن بخلقك، وطهّر اللهم قلوبنا، وأعنّا على العفو والتماس الأعذار.

 

https://bit.ly/3vWNgPk