الجمعة، 14 فبراير 2020

بالشكر تدوم النعم/2


الجمعة 14 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٦
(بالشكر تدوم النعم)

قصةٌ واقعيةٌ رواها صاحبها فقال: في شهر مارس الماضي كنتُ خارجاً من المسجد بعد صلاة العصر، وطئتُ بقدمي طوبةً صغيرةً فاختل توازن جسمي؛ فسقطتُ فانكسرت قدمي؛ ذهبتُ إلى المستشفى، وبعد عمل الأشعة تم تشخيص الحالة على أنها كسرٌ في قاعدة المشطية الخامسة بالقدم. تم تجبيس القدم والساق حتى الركبة، وأخبرني الطبيب أن الجبس سيستمر ما بين شهرٍ ونصف إلى شهرين! ما هذا الذي تقول؟ مستحيل، إنها مجرد طوبةٍ صغيرةٍ جاءت قدمي فوقها، فلم تصدمني سيارةٌ ولم أسقط من مكانٍ مرتفع!
مساء نفس اليوم، وبعد العودة إلى البيت بدأت تتكشف لي حقائق وتتتابع دروسٌ وعبرٌ ما كنت ألحظها ولا أُلقي لها بالاً؛ بدأتُ أكتشف أهمية قدمي للمرة الأولى في حياتي! وأكتشف عظيم ما تقدمه لي من خدماتٍ، وما تقوم به من أدوار لم أشعر بها قبل اليوم! صار دخول الحمام مهمةً تحتاج إلى تخطيطٍ وتنسيقٍ وترتيبٍ وتركيزٍ شديدٍ جداً، الوضوء والصلاة وقضاء الحاجة صارت مهام تحتاج إلى ترتيباتٍ خياليةٍ وصعوباتٍ بالغة!
فجر اليوم الأول بعد الحادث ذهبتُ إلى الحمام وبعدما توضأتُ سقطتُ سقطةً في الحمام، لا أعرف إلى الآن كيف نجوتُ منها، لكن الله سَلَّم.
صرتُ لا أستطيع المكوث بمفردي في البيت؛ فلابد من وجود مَن يقوم على خدمتي ورعايتي، ولم يعد بإمكان أفراد الأسرة اتخاذ قرارات خروجهم من البيت بمعزلٍ عن هذا التغيير الذي حدث. صار الحمام بعيداً جداً وشاقاً، وصار المطبخ في قارةٍ أخرى! لأول مرةٍ أستوعب مشاعر مَن أقعده المرض ومشاعر كبار السن، وأتخيل من يعيش وحده وتتوقف حياته حتى يأتي مَن يخدمه ويساعده ويرعاه! لم أكن أتخيل أبداً أهمية وخطورة قدمي إلى هذا الحد، فمجرد أن تعطلت قدمي تعطلت حياتي كلها وتبدلت تماماً!
في أحد الأيام كنتُ وحدي في البيت لوقتٍ قصيرٍ، فذهبتُ على مشّاية كبار السن على قدمٍ واحدةٍ إلى المطبخ، وصنعتُ لنفسي كوباً من الشاي ثم اكتشفتُ مفاجأةً لم تخطر ببالي: كيف سأعود بكوب الشاي لكي أشربه أمام التلفاز؟! لقد اكتشفتُ أن العودة سيراً على قدميّ بكوب الشاي في يدي نعمةٌ عظيمةٌ لم أنتبه إليها قط!
طوبةٌ صغيرةٌ تحت قدمي بدلت برنامج حياتي كله .. يا سبحان الله .. خرجتُ من بيتي في الصباح ماشياً، وعدتُ في المساء محمولاً على أكتاف أصحابي.
في مطلع شهر إبريل شعرتُ بألمٍ رهيبٍ في سمانة ساقي التي بها الكسر، فأسرعتُ في منتصف الليل إلى المستشفى، وبعد فك الجبس وإجراء الفحص بالموجات الصوتية تم تشخيص الحالة بأنها جلطةٌ في الأوردة العميقة، وهي تحصل في حالات الجبس أحياناً نتيجة عدم الحركة. كان يتم حقني بحقنةٍ في البطن، لم يمر عليّ في حياتي شيءٌ بهذا الرعب، كنتُ أفكر في الحقنة التالية، والحقنة الحالية لم تخرج من جلدي بعد!
تم حجزي بالمستشفى؛ فنتيجةً لنوبة سعالٍ أصابتني حصل شكٌ في أن الجلطة وصلت للرئة، فتم نقلي إلى العناية المركزة فوراً، وبدا أن طوبةً تحت قدمي أمام المسجد قد تحولت إلى كابوسٍ مرعب. تم عمل أشعةٍ بالصبغة على الصدر على أن نعرف نتائجها في صباح اليوم التالي، في الصباح كانت حياتي كلها متوقفةً على كلمة الطبيب الذي راجع الأشعة، دخل عليّ حاملاً الأشعة، وأنا في انتظار كلمةٍ فارقة! "الأشعة سليمةٌ والحمد لله" قالها الطبيب بكل بساطةٍ؛ فانتهت في عقلي سيناريوهاتُ مرعبةٌ محزنةٌ مؤلمة!
كانت المعضلة هي أن القدم ما زالت مكسورةً، لكن الجبس ممنوعٌ بسبب جلطة الساق، وأن علاج الجلطة مقدمٌ على علاج الكسر، مما يعني أن العودة للمشي عليها سيحتاج لوقتٍ أطول من الطبيعي. تورمت قدمي وتغير لونها بسبب عدم وجود الجبس، وبسبب الاعتماد على قدمٍ واحدةٍ أصبح هناك ألمٌ رهيبٌ في مفصل الحوض في القدم السليمة، وفي ركبة الساق السليمة، أصبحتْ يدي تؤلمني من ثقل الاعتماد عليها وزاد وزني! وبسبب عدم الحركة لمدة شهرٍ اختفت عضلة سمانة القدم المكسورة تقريباً.
مرَّ عليّ أكثر من شهر لم تمس جبهتي الأرض! فأنا أتوضأ وأُصلي في الفراش مستلقياً، لأني ممنوعٌ حتى من الجلوس العادي، أكاد أُجن من شوقي لصلاةٍ أسجد فيها لله على الأرض، وأقف وأركع وأجلس كما كنت من قبل بشكل طبيعيٍ وعادي! المرض الشديد الذي أقعدني عن الحركة عرفني معنى الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.

أحبتي في الله .. نعمةٌ واحدةٌ من نعم المولى عزَّ وجلَّ التي لا تُعد ولا تُحصى، أقعدت هذا الشخص لشهور طويلةٍ، لم يشعر بقيمتها إلا عندما فقدها، رغم أن فقدها كان مؤقتاً لكنه كان مؤثراً، فإذا علمنا أن (بالشكر تدوم النعم) فهل يا تُرى نقوم بشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه العظيمة كما ينبغي أن يكون الشكر؟
يقول أهل العلم إن الله أمر بالشكر ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله، وحارساً وحافظاً لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته. والشكر من العبادات العظيمة التي ينعم الناس بثمرتها في العاجل والآجل: شكر الله تعالى على ما أولى من نعم، و"الشكر نصف الدين" كما قال جماعةٌ من السلف، وكما قيل (بالشكر تدوم النعم). وقد امتلأ كتاب ربنا بكثيرٍ من الآيات عن الشكر والشاكرين؛ من ذلك: يقول الله تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾، ويقول كذلك: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، كما يقول: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه؛ فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: [أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟]. وقال لمعاذ: [أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ]، وكان مما يدعو صلى الله عليه وسلم: [رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا].

وعن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، يقول المفسرون: ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾، أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ، ﴿لَا تُحْصُوها﴾، أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا، ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾، أَيْ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعصية كافرٌ بربه فِي نِعْمَتِهِ. وَقِيلَ الظَّلُومُ الَّذِي يَشْكُرُ غَيْرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ، والكَفَّارٌ من يجحد منعمه.
جاء في الأثر أن داود عليه السلام قال: "ربِ، كيف أشكرك وشكري لك نعمةٌ منك علي؟"، فقال الله تعالى: {الآن شكرتني يا داود}، أي: إنك شكرتني حين اعترفتَ بالتقصير عن أداء شكر النعم.

وعن الشكر قال أحد العلماء: هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبةً، وعلى جوارحه انقياداً وطاعةً. والشكر مبنيٌ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.

يقول الشاعر:
إذا كانَ شكري نِعمةَ اللهِ نِعمةً
عليّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشكرِ إلا بفضلِه
وإنْ طالتْ الأيامُ واتصلَ العمرُ
إذا عَمَّ بالسراءِ عَمَّ سُرورُها
وإنْ خَصَّ بالضَراءِ أعقبَها الأجْرُ

ويقول آخر:
آلاءُ ربي لا يُحصيها عَددُ
وإنْ يجعلوا البحرَ في عَدِّها مَددُ
البحرُ ينفدُ والآلاءُ لا تُحصى
فسبحانُه ربٌ واحدٌ أحدُ
فمن مسَّتهُ نعماءُ يحمدُه
فشرُ الناسِ قد نَعِموا وما حَمدوا
والنِّعمُ في كلِ العبادِ تفاوتت
ليَمِيزَ ربّي مَنْ شَكروا ومَنْ حَسدوا

أحبتي .. عندما يعيش كلٌ منا حياةً عاديةً فليحمد الله سبحانه وتعالى عليها، فلا تمر لحظةٌ واحدةٌ ننسى فيها نعم الله علينا، أو ننسى فيها شكر الله على نعمه، أو ننسى أن (بالشكر تدوم النعم).
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لنا في ذرياتنا، إنا تبنا إليك، وإنا من المسلمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.

http://bit.ly/31TMSly


الجمعة، 7 فبراير 2020

يسارعون في الخيرات/2


الجمعة 7 فبراير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٥
(يسارعون في الخيرات)

شابٌ من البادية نزل بغداد للعلم والتجارة، واستأجر غرفةً ليسكن فيها. بعد صلاة الفجر يخرج للعمل، وبعد صلاة الظهر يذهب إلى دروس العلم والمعرفة. كان هذا الشاب يُقَّسِم أجر عمله إلى ثلاثة أقسام: ثلثٌ لأبيه، وثلثٌ لصاحب الغرفة، وثلثٌ لنفقته. مرت عليه ثلاثة أشهرٍ لا يستطيع أن يدفع إيجار سكنه، فقال له صاحب الغرفة: "أمامك ثلاثة أيام لدفع الإيجار وإلا سجنتك؛ لأني ما بنيتُ هذا البيت وقفاً للفقراء". خرج يبحث عن عملٍ في اليوم الأول فلم يجد، ذهب إلى ديوان الخراج يسألهم عن عمل فلم يجد، إلى أن جاء اليوم الثالث -يوم سجنه إذا لم يدفع إيجار الغرفة- فخرج من بيته حاملاً الدنيا فوق رأسه، يقول: أخذتُ في المشي إلى أن وجدتُ نفسي في أطراف بغداد، فوجدتُ بيتاً متهالكاً فقلتُ أستريح، ووضعتُ يدي على الباب فإذا الباب مفتوحٌ، وإذ بشيخٍ مسنٍ مضطجعٍ على سرير، فنادى علىّ وقال لي: "اسمع يا بنيّ: واللهِ ما ساقك إلىَّ إلا الله، وأنا الساعة أموت، وأشتهي عنباً"، فقلتُ له: "أبشر، وواللهِ لتأكلن اليوم عنباً". فانطلقتُ إلى السوق، وذهبتُ إلى بائعٍ يبيع العنب وسألتُه: "بكم هذا العنب؟"، فقال: "بدرهم"، فقلتُ له: "خُذ ثوبي هذا رهناً عندك إلى أن آتيك بالمال"، وأخذتُ العنب وأنا أجري به حتى ألحق الرجل قبل موته، وقدمتُ إليه العنب، مع أني في حاجةٍ إليه أكثر منه، وبعد أن أكل العنب قال لي: "اسمع يا بنىّ: هذا الركن في هذه الغرفة، احفر تحته وستجد شيئاً"، أخذتُ في الحفر إلى أن وجدتُ جرةً مليئةً بالمال والذهب، وقدمتُها له، فسكبها في ملابسي ثم قال لي: "هي لك، لكن لهذا المال قصةٌ يا بنيّ؛ كنتُ أنا وأخي تاجرين كبيرين نذهب للهند والسند، ونتاجر في الحرير والصوف، وكنا نخاف من اللصوص وقُطّاع الطرق، وفي يومٍ من الأيام نزلنا منزلاً فقلتُ لأخي: هذا المنزل يرتاده قُطّاع الطرق، وأنا أخشى على مالي ومالك، أعطني مالك كي أخفيه مع مالي في مكانٍ آمن، ثم أرجع إليك، فإن أصبحنا وسلمنا أخذنا مالنا ومشينا، وما كدتُ أدخل في النوم مع أخي إلا وجاء اللصوص وقتلوا مَن قتلوا، ونهبوا ما نهبوا، وما فقتُ إلا من حر الشمس في اليوم التالي، وأخذتُ أبحث عن أخي فلم أجده لا بين الأحياء ولا بين الأموات، فدخلتُ بغداد وبنيتُ هذا البيت، وأخفيتُ هذا المال الذي هو مال أخي منذ عشرين عاماً، فإن مِتُ فهو حلالٌ لك"، ثم نطق الرجل بالشهادتين ومات. يقول: فأخفيتُ المال وخرجتُ أبحث عمن يُعينني على دفن هذا الشيخ، وبعد دفنه عدتُ لآخذ جرة المال، فبعد أن كنت فقيراً معدماً أصبحتُ من أثرياء بغداد. أخذتُ المال وذهبتُ إلى بائع العنب وأعطيتُه ثمن العنب وأعطاني ثيابي، ثم أردتُ أن أركب مركباً لأنتقل إلى الناحية الثانية مِن نهر دجلة، فوجدتُ مراكب كثيرةً، لكنني وجدتُ مركباً صاحبه يبدو عليه الفقر والعوْز، فركبتُ معه وقد أحزنني حاله، وقد هممتُ أن أعطيه من هذا المال الذي معي، فبكى، ثم قال: "واللهِ ما كنتُ فقيراً في يومٍ من الأيام؛ فقد كنتُ تاجراً أذهب إلى الهند والسند، وأتاجر في الحرير والصوف، وكان لي أخٌ -لا بارك الله فيه- قد اتفق مع اللصوص كي يقتلوني ويأخذوا مالي، لكن الله نجاني، إلى أن آل بي المآل إلى بغداد".
يقول: فاسودت الدنيا في عينيّ مرةً ثانية، لقد أصبحت الجرة من نصيب صاحبها، ولابد للمال أن يعود إلى صاحبه، تدخل الشيطان وقال لي: "أعطه بعضه أو نصفه"، إلى أن توقفتُ وقلتُ: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وقلتُ لصاحب المركب: "هذا المال مالك"، فلم يصدق الرجل، وحكيتُ له ما حدث بيني وبين أخيه، وأنني قد دفنتُه من ساعةٍ فقط، فأخذ الرجل يبكي ويستغفر ربه لسوء ظنه بأخيه، ثم أراد أن يعطيني شيئاً من هذا المال فأبيتُ، لكنني طلبتُ منه أن يعذرني في درهم العنب. يقول: فرجعتُ إلى بغداد مرةً ثانيةً، فقيراً معدماً كما خرجتُ منها مِن قبل، وبينما أنا أسير إذ بالعسكر الذين يعملون في ديوان الخراج ينادون عليّ ويقولون لي: "نبحث عنك"، فقلتُ سيسجنونني لعدم دفعي إيجار الغرفة، ثم قالوا لي: "لقد مات بالأمس أحد الكتاب بالديوان ونبحث عنك كي تعمل بدلاً منه"؛ فأدخلوني عندهم وأعطوني مرتب شهر، فذهبتُ إلى صاحب الدار وأعطيتُه حقه في الإيجار، وظللت أعمل بالديوان إلى أن أصبحتُ وزيراً!

أحبتي في الله .. إنها قصة العالم الفقيه الوزير ابن هُبَيْرَة، (499هـ - 560هـ) (1105م - 1165م). هو يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيبانيّ، أبو المظفر، عون الدين، من كبار الوزراء في الدولة العباسية، عالمٌ بالفقه والأدب، نُعتَ بالوزير العالم العادل، قام بشؤون الوزارة -حُكماً وسياسةً وإدارةً- أفضل قيام. قيل عنه: "خرج في جنازته ما لم يُرَ في جنازة غيره في عصره".

انظروا كيف أسرع إلى تلبية رغبة شخصٍ لا يعرفه، وكيف آثره على نفسه وهو المحتاج، ثم انظروا كيف أسرع إلى رد المال إلى صاحبه، وهو نفسه محتاجٌ إلى المال، مَن منا سمع عن هذا الشخص الورع، وعن شهامته وتقواه؟ إنه كان من الذين (يسارعون في الخيرات) فجزاهم الله في الدنيا خير الجزاء، ووعدهم في الآخرة ثواباً عظيماً. وُصِفوا بأنهم المجتهدون في الطاعة، الذين من دأبهم المسارعة إلى كل عملٍ صالحٍ، وهُم إلى الخيرات سابقون، تجدهم في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفةٌ فيما يُنجي من عذابه، فكل خيرٍ سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروا لفعله.

لقد وصف الله عزَّ وجلَّ الذين (يسارعون في الخيرات) بأنهم من الصالحين، وأنهم من المتقين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾. وجعل سبحانه المسارعة في الخيرات سبباً لاستجابة الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، وجعلها سبحانه من صفات عباده المصطفين، واعتبرها هي الفضل الكبير؛ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: [فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ].
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالمسارعة إلى ما ينفعنا؛ يقول تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وخصَّ هذه المسارعة بالخيرات فأمرنا باستباقها؛ يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، وجعل عزَّ وجلَّ المسارعة إلى الخيرات من صفات المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾، قال المفسرون: إنهم الذين يبادرون برغبةٍ وسرعةٍ إلى فعل الخيرات، وإلى الوصول إلى ما يُرضي الله سبحانه وتعالى ﴿وَهُمْ لَهَا﴾ أي: لهذه الخيرات وما يترتب عليها من فوزٍ وفلاحٍ ﴿سَابِقُونَ﴾ لغيرهم. ﴿يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ﴾ أي في الطاعات، كي ينالوا بذلك أعلى الدرجات. ﴿وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾ فهم يسبقون إلى أوقاتها؛ فالصلاة في أول الوقت أفضل، وكل مَن تقدم في شيءٍ فهو سابقٌ إليه، وكل مَن تأخر عنه فقد سبقه وفاته. إنهم يبادرون في الأعمال الصالحة، ويطلبون الزلفة عند الله بطاعته. أولئك المجتهدون في الطاعة، دأبهم المسارعة إلى كل عملٍ صالحٍ، وهُم إلى الخيرات سابقون.

وعن قوله سبحانه وتعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَهُمْ لَهَا سَٰبِقُونَ﴾ قال أحد العلماء: يقول تعالى "يُسَٰرِعُونَ" في الخيرات، ولم يقل "يسرعون" في الخيرات؛ حيث إن زيادة المبنى دليلٌ على زيادة المعنى، "يسرعون" ستة أحرف، و"يُسَٰرِعُونَ" سبعة، ويكون المعنى أنهم يسرعون إسراعاً كبيراً، تطير هممهم وتخف أجسامهم لفعل الخير وبذره وبذله. ثم إن المسارعة على وزن المفاعلة، والمفاعلة تعني المشاركة فكأنهم يتسابقون في المسارعة ويتشاركون فيها. لقد علَّمنا الإسلام المبادرة إلى الخير ودعانا للإسراع إليه؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا؛ هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَّرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ].
ثم إنه سبحانه وتعالى يقول يسارعون "فِي" الخيرات، ولم يقل يسارعون "إلى" الخيرات؛ حيث أنَّ أسرع "إلى" الشيء إذا كان خارجه واستعجل الوصول إليه، أما أسرع "فِي" الشيء إذا كان داخله وتعجل المضي فيه.
ويقول تعالى يسارعون في "الْخَيْرَاتِ" بصيغة الجمع، ولم يقل يسارعون في "الخير"؛ حيث دلالة ذلك أنهم يتفننون في الخيرات أشكالاً وألواناً، ويتنافسون فيها أعداداً وأنواعاً.

يقول أهل العلم إنَّ للمسارعة في الخير حظوةً عند المولى - جلَّ وعلا - تجعل المؤمن يقف إزاءها متدبراً لحاله، ساعياً في كماله؛ فهي سببٌ لرضا ربه عنه، كما قال موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾. وتلك المسارعة سبيلٌ لغفران الذنوب؛ وكان هذا مطمعَ سحرة فرعون حين آمنوا قالوا: ﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِين﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [التُّؤَدَةُ في كلِّ شيءٍ خيرٌ، إلا في عملِ الآخرةِ]. وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنها- قالت: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: [لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]. وقال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا]، وقال عليه الصلاة والسلام لرجلٍ وهو يعظه: [اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ]؛ فالمسارعة في الخيرات ينبغي أنْ تكون منهج حياةٍ لكل مسلم.

قال الشاعر:
سابِقْ إلى الخيرِ وبادِر بِهِ
فإنَّ مِنْ خَلفكَ ما تَعلمُ
وقَدِّم الخيرَ فُكُلُّ امرئٍ
على الذي قَدَّمَه يُقْدِمُ

وقال عارفٌ بالله: "إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل؛ فالمسابقة إلى الخيرات خُلُقٌ لا يتصف به إلا المؤمن الصادق، والمسارعة إلى أعمال البر طبعٌ لا يتخلق عليه إلا من وهبه الله تعالى رجاحةً في العقل وانشراحاً في الصدر وسلامةً في القلب".

ويصف واحدٌ من الذين (يسارعون في الخيرات) شعوره فيقول: شعورٌ لا يُوصف، تجده وقد غمرك كاملاً، حين تجد نفسك وقد أسرعتَ في تقديم الخير، مهما يكن نوعه، قولاً كان أو عملاً طيباً. وما ذاك الشعور الذي يسري بالنفس بعد عمل الخير إلا لأنه توافق مع فطرتك الطيبة المحبة للخير.

أحبتي .. لأهمية المسارعة في الخيرات قدمها الله سبحانه وتعالى على الدعاء، رغم ما نعلمه جميعاً عن أهمية الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا﴾، فماذا ننتظر؟ ألا شمرنا عن سواعد الجد وسعينا سعياً حثيثاً لنكون من الذين (يسارعون في الخيرات)؟ العمر مهما طال قصيرٌ، وعيشنا في الدنيا اختبارٌ وابتلاءٌ؛ فلنحرص على اكتساب ما استطعنا من أجرٍ وثوابٍ يُعلي من درجاتنا في دار القرار، في جنات النعيم، في الفردوس الأعلى من الجنة، جمعنا الله وإياكم وكل من نحب فيها بإذنه تعالى وبرحمته.
اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين الصالحين المتقين الذين (يسارعون في الخيرات)، وتقبل منا إنك أنت العزيز الحكيم.
http://bit.ly/2OQoWuj

الجمعة، 31 يناير 2020

يا جبار اجبر كسري


الجمعة 31 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٤
(يا جبار اجبر كسري)

تقول إحدى الأخوات: تزوجتُ ثم شاء الله أن أتطلق من زوجي؛ فعشتُ مع أمي وأبي، وكانا وحيدين بعد زواج إخوتي وأخواتي، واحتسبتُ الأجر وصبرتُ وكنتُ أقوم على خدمتهما فأشعر بلذةِ الطاعة.
في يومٍ من الأيام ذهب والداي إلى منطقةٍ أخرى لزيارة أحد أقاربنا، وشاء الله -سبحانه وتعالى- أن يُتوفيا في حادث مرور؛ فكانت فاجعة فقدان الوالدين هي أكبر الآلام التي عشتُها في حياتي. ثم انتقلتُ للعيش مع إخوتي، وكنتُ أتنقل بينهم؛ بين كل فترةٍ وفترةٍ أذهب إلى منزل أحدهم، ولكن زوجات إخوتي لم يكنّ يرغبن بوجودي معهن ويَرين أن وجودي يُقلل من راحتهن ويُقيد من حريتهن. ذهبتُ في مرةٍ إلى منزل أحد إخوتي، وكلما عاد من عمله نقلت له زوجته كلاماً عني وأنني أضايقها وأتدخل في شؤونها هي وأبنائها؛ فيقتنع أخي بكلامها ويغضب مني، وكم كنتُ أسمع من إهانةٍ وتجريحٍ بسبب ما يُنقل عني زوراً وبهتاناً. ويتكرر الأمر مع جميع زوجات إخوتي؛ أتنقل من منزلٍ إلى آخر لا أملك إلا دمعتي أمامهم. كنتُ أعاني من ظلم إخوتي وظلم زوجاتهم، ولم يكن لي إلا الدعاء وتفويض أمري إلى الله سبحانه وتعالى؛ فما كنتُ أجلس ولا أقوم ولا أعمل إلا وأنا أدعي بهذا الدعاء موقنةً به مفوضةً أمري إلى الله جلَّ شأنه: (يا جبار اجبر كسري).
انتقلتُ للعيش الدائم عند أحد إخوتي، فجعل لي غرفةً مخصصةً وحدوداً بمنزله لا أتعداها؛ فلا أرى أبناءه ولا أخالطهم! وكلما تذكرتُ مصيبتي أردد: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام طرق باب أخي رجلٌ يكبرني بعشرين عاماً -وكان متزوجاً وعنده سبعةٌ من الأبناء- طالباً يدي للزواج، وافق أخي على الفور دون أن يستشيرني؛ فقد أراد أن يتخلص مني لأني أصبحتُ ثقيلةً عليه، ولا أنسى ما قاله لي أخي يومها: "كفانا اللهُ شَرَّك"! كنتُ أبلع الكلام وأتحمل التجريح منه لأنني لو تكلمتُ فسيتم طردي من بيته ولا يهمه أين أذهب! كنتُ صابرةً محتسبةً، ودمعتي على خدي؛ فلا سندٌ لي سوى الله سبحانه، وكنتُ أردد دائماً: (يا جبار اجبر كسري).
تم عقد الزواج، ولم أرَ زوجي إلا مرةً واحدةً عندما ذهبنا إلى المحكمة الشرعية لإتمام العقد، واتفقنا على أن يتم الزواج بعد أسبوعين، لم يتكلف إخوتي عناء السؤال عن زوجي، فقد كان همهم الوحيد -هم وزوجاتهم كذلك- أن أتزوج، فقد كانوا كلهم يريدون فقط الخلاص مني. ذهب الرجل، ولم نكن نعرف عنه شيئاً سوى ذاك اليوم الذي أتى فيه، ومرَّت أيامٌ وأسابيع، ومرَّت شهورٌ دون أن نعلم عنه شيئاً. ازداد ظلم إخوتي لي، وكنتُ أسمع منهم كلماتٍ جارحةً؛ يقولون إن وجهي شؤمٌ، وعتبتي فقر. وظننتُ أن هذا الرجل الكبير قد غيَّر رأيه وتركني معلقةً، فلم أجد سوى الدعاء: (يا جبار اجبر كسري).
في أحد الأيام -بعد مرور أربعة أشهر- إذا بطارقٍ يطرق باب بيت أخي يسأل عني! كان شاباً في الثلاثين من عمره، عرَّف نفسه بأنه ابن زوجي الغائب، أدخله أخي إلى غرفة استقبال الضيوف، ثم ناداني وطلب مني أن أقابل ابن زوجي، ولما دخلتُ عليه بالغرفة أنا وأخي قام وسلم عليّ، وكان مظهره يدل على أنه شابٌ خلوقٌ ووقورٌ، تبدو عليه سمات الصالحين، ثم جلسنا، قال الشاب: "أنا ابن فلانٌ -وذكر اسم والده- وقد صار لوالدي حادثٌ تُوفي على إثره، ووجدنا بسيارته وثيقة عقد زواجٍ تثبت أنه قد تزوج منكِ، ولم أستطع القدوم إليك إلا بعد انتهاء واجب العزاء لوالدي"، سكت للحظات وكأنما يترحم على والده ثم قال: "كان والدي ثرياً، وبعد وفاته تم تقسيم أملاكه بعد أن حصرناها جميعها، وأنتِ من ضمن ورثة والدي، وقد ورثتِ عنه منزلاً فخماً ورصيداً في البنك بالملايين، وقد أتيتُ إليكِ اليوم كي أسلمك هذه الأمانة، وأسألك عمن سيكون وكيلاً لك على أملاكك"، أُصبنا بالذهول أنا وأخي، نظر أخي إليّ وكأنه يقول: "اجعليني وكيلك"، أعاد الشاب عليّ السؤال: "مَن ستوكلين حتى تستلمي نصيبك من الميراث؟"، قلتُ له دون تردد: "أنت، نعم أنت مَن سأوكله"، قلتُ ذلك وأنا مازلتُ في حالة صدمةٍ وذهول. انصرف الشاب بعد أن قال بأنه سيأتي اليوم التالي لأذهب معه إلى منزلي الجديد. تركنا الشاب وأنا وأخي مازلنا في ذهولٍ مما سمعنا منه. لمّا سمع باقي إخوتي وزوجاتهم بما جرى صاروا يتسابقون كلهم في الاتصال بي وتقديم التهاني لي؛ لقد تغيروا تماماً، سبحان الله؛ غيَّر المال نفوسهم!
حزمتُ أمتعتي وانتظرتُ في اليوم التالي، وعندما أتى الشاب ذهبتُ معه أنا وإخوتي، دخلتُ منزلي الجديد، واللهِ لم أصدق ما رأته عيناي، كان المنزل فخماً جداً، وكان مجاوراً لمنزل زوجته الأولى وأبنائه.
مرت عدة أيامٍ وإذا بزوجته تأتي لزيارتي وتقول: "أنا مريضةٌ، وأنا مَن طلبتُ منه أن يتزوج؛ فما عدتُ أستطيع أن ألبي احتياجاته، وقلتُ له تزوج امرأةً تصغرك سناً"، وقالت لي أيضاً: "سنكون أنا وأنتِ أخواتٍ من الآن، وأولادي هم أولادك، وابني الكبير اعتبريه أخاً لكِ".
فواللهِ ثم واللهِ إني أعيش في سعادةٍ معهم؛ أبدلني الله خيراً من منازل إخوتي، وعشتُ مع أسرتي الجديدة في سعادةٍ، وكان أبناؤه وبناته يغمرونني بحنانهم وبِرهم بي، بِراً بوالدهم المتوفى، وكانت زوجته نِعم الأخت لي، وتذكرتُ دعائي لربي: (يا جبار اجبر كسري). أراد الله أن يجبر كسري، فجبره بدعائي هذا، وهو يعلم مدى إخلاصي ويقيني.

أحبتي في الله .. إن اسم الله “الجبار” من أسماء التعظيم والتنزيه، يدل على معاني العظمة والكبرياء، وهو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار؛ فهو سبحانه جبارٌ يقهر الجبابرة؛ فكل جبارٍ هو تحت قهر الله عزَّ وجلَّ وجبروته وفي يده وقبضته. ومن بين معاني اسم الله "الجبار" أنه هو الذي يَجبُرُ الضعيف وكل قلبٍ منكسرٍ؛ فيَجبُر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسر على المعسر كل عسيرٍ، ويُجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوضه عن مصابه أعظم الأجر، وإذا دعا الداعي فقال: (يا جبار اجبر كسري) فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته دفع المكاره عنه.
وقد ورد اسم "الجبار" في القرآن الكريم في موضعٍ واحدٍ، هو قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده مسبحاً: [سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ]، وكان يدعو بين السجدتين يقول: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي].
و"الجبر" يكون مداواةً للكسر، وتأتي منه الجبيرة التي تداوي كسر العظام. إن كلمة "الجبر" من الجبيرة التي نضعها على العظم المكسور حتى يلتئم. و"الخاطر" هو القلب أو النفس؛ فيُقال "أخذ على خاطره" بمعنى حزن وتأثر قلبه.

يقول العلماء: لمن يذهب المكسور إلا لربه الجبار؟ ولمن يشتكي المظلوم إلا للجبار الرحيم؟ ولمن يلجأ اليتيم الضعيف إلا للجبار؟ ولمن يعود المريض الذي ضاقت به الحيل إلا إلى الجبار سبحانه؟! الحياة كلها آلامٌ وانكساراتٌ وابتلاءاتٌ وصراعاتٌ لكن "الجبار" سبحانه يرحم عباده، فيرأب الصدع ويلم الشمل ويُغني الفقير ويجبر الكسير ويُعطي المحروم، لذلك كلما جئناه من باب الخضوع والتذلل والانكسار جبر كسرنا ولمَّ شعثنا ورأب صدعنا وأعزنا؛ فهو المصلح إنْ جبَر الفقير أغناه، وإنْ جبَر المريض شفاه، وإنْ جبَر الذليل أعزه، وإنْ جبَر الضعيف قواه، وإنْ جبَر الخائف أمّنه، فالجابر هو المصلح و"الجبار" كثير الإصلاح. إذا انكسرتَ ولجأتَ إلى الله مخلصاً متذللاً فلن يُرجعك خائباً، قد يؤخر الجبر لحكمةٍ يعلمها، لكنه لن يُضيعك أبداً، لابد وأنْ يُجبرك، قد يكون ذلك تدريجياً، لكنه -سبحانه وتعالى- سيجبر خاطرك ويأخذ لك حقك ممن ظلمك ولو بعد حين؛ فهو جبارٌ للمظلومين والمنكسرين، جبارٌ على الظالمين.

وإذا كان الله -بقوته وقدرته- يُجبر كسر الضعيف منا، ألا يجدر بنا أن نجبر -نحن الضعفاء- كسر أنفسنا؟
يقول أحد العارفين: “ما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
ويقول آخر: ‏جبر الخواطر خلقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ وعظمة قلبٍ وسلامة صدرٍ ورجاحة عقلٍ، يُجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت وقلوباً فُطرت وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة وما أعظم أثرها؛ فجبر الخواطر يجعل القلوب تشرق من جديدٍ على بستان الحياة.
وليكن من جبرك للخواطر كلمةٌ طيبةٌ أو همسةٌ في أذنٍ؛ فكما قال الشاعر:
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ
فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ

يقول عالمٌ فاضلٌ: قد تكون العبادات قليلةً، قد تكون الطاعات غير كثيرةٍ، قد لا يكون هذا المسلم ممن يقوم الليل أو ممن يتهجد أو يصلي النوافل، قد لا يكون متحلياً بشيءٍ من ذلك، لكنه ممن وفقه الله عزَّ وجلَّ إلى أن يكون جباراً للخواطر الكثيرة، وماسحاً عن الأفئدة المكلومة قتام الحزن، يجلو عنها الشعور بالآلام والمصائب، مع قصده بذلك رضا الله، إذا كان كذلك فليعلم أنه محبوبٌ من قبل الله -سبحانه وتعالى- وأنه ذو حظٍ عظيم.

أحبتي .. إذا كنتم مظلومين فلا تنسوا هذا الدعاء (يا جبار اجبر كسري) ولن يُخيب الله سبحانه وتعالى ظنكم؛ فهو مَن يجبر كسر المظلومين. وإذا كنتم ظالمين -ولو ظلماً بسيطاً هيناً من وجهة نظركم- فلا تنسوا أن الجبار سبحانه وتعالى يتوعد كل ظالمٍ، يُمهل ولا يُهمل، وإن أخذه للظالمين ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾، فبادروا إلى رفع الظلم بالرجوع إلى جادة الصواب ورد المظالم إلى أهلها أو طلب إبرائكم منها. وإذا لم تكونوا مظلومين ولا ظالمين فاحمدوا الله أن عافاكم مما ابتلى به غيركم، واحرصوا على كسب المزيد من الأجر بعبادةٍ سهلةٍ ميسرةٍ ألا وهي جبر الخاطر لكل شخصٍ مكسورٍ ولو بكلمةٍ طيبة.
اللهم يا جبار السماوات والأرض اجبرنا جبراً يليق بك، جبراً أنت أهله ووليه. يا ناصر المستضعفين انصرنا، يا جابر المنكسرين اجبر كسرنا، الله أعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.


الجمعة، 24 يناير 2020

البر بالأب


الجمعة 24 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٣
(البر بالأب)

كتب أحدهم مقالاً تأثرتُ به حين قرأته، كتب عن الأب فقال: في صغرك، تلبس حذاءه فتتعثر من كبر حذائه وصغر قدمك، تلبس نظاراته فتشعر بالعظمة، تلبس قميصه فتشعر بالوقار والهيبة، يخطر ببالك شيءٌ تافهٌ فتطلبه منه فيتقبل منك ذلك بكل سرورٍ ويحضره لك دون مِنَةٍ، يعود إلى المنزل فيضمك إلى صدره ضاحكاً وأنت ﻻ تدري كيف قضى يومه وكم عانى في ذلك اليوم في عمله.
واليوم في كبرك، أنت ﻻ تلبس حذاءه فذوقه قديمٌ ﻻ يعجبك، تحتقر ملابسه العتيقة وأغراضه القديمة ﻷنها ﻻ تناسب ذوقك، أصبح كلامه ﻻ يلائمك، وسؤاله عنك هو تدخلٌ في شؤونك، وذلك ﻻ يروق لك، حركاته تصيبك بالحرج وكلامه يشعرك بالاشمئزاز، إذا تأخرتَ وقلِق عليك وعاتبك على التأخير حين عودتك تشعر أنه يضايقك، وتتمنى لو لم يكن موجوداً لتكون أكثر حريةً، رغم أنه يريد الاطمئنان عليك ليس إﻻ، ترفع صوتك عليه وتضايقه بردودك وكلامك فيسكت ليس خوفاً منك بل حباً فيك وتسامحاً معك، إن مشيَ بقربك محني الظهر ﻻ تمسك يده فلقد أصبحت أنت أطول منه. كنتَ باﻷمس القريب تتلعثم بالكلام وتخطئ في الحروف؛ فيضحك مبتسماً ويتقبل ذلك برحابة صدر، وأنت اليوم تتضايق من كثرة تساؤﻻته واستفساراته بعد أن ضعف سمعه ووهن نظره، لم يتمنَ أبوك لك الموت أبداً؛ ﻻ في صغرك وﻻ في كبرك، وأنت تتمنى له الموت فهو يضايقك في شيخوخته! تحملك أبوك في طفولتك، في جهلك، في سفهك، في رعونتك، في عوزك، في شدتك؛ تحملك في كل شيء، فهل فكرت يوماً أن تتحمله في شيخوخته ومرضه؟ وذلك هو (البر بالأب). أحسن إليه؛ فغيرك يتمنى رؤيته من جديد.

أحبتي في الله .. يذكرني هذا بما كتب أحد الآباء فقال: الغريب أن الأبناء لا يكتشفون حبّهم الجارف لآبائهم إلا متأخراً، إما بعد الرحيل، وإما بعد المرض وفقدان الشهية للحياة، وهذا حبٌ متأخرٌ كثيراً حسب توقيت الأبوة.
الآن كلما تهتُ في قرارٍ، أو ضاقت عليّ الحياة، أو ترددتُ في حسم مسألةٍ تنهّدتُ وقلتُ: أين أنت يا أبي؟ لو كنتُ أعرف أن العمر قصيرٌ إلى هذا الحد لكنتُ أكثر قرباً من أبي. نحن نعرف قيمة الملح عندما نفقده في الطعام، وقيمة الأب عندما يموت ويشغر مكان جلوسه في البيت؛ إذ عندما يموت يفتقد الأبناء وجود ذلك البطل في حياتهم، فهو الذي كان يقودهم بثباتٍ إلى بر الأمان؛ فالأسرة كلها مع الأب في رحلة الحياة كراكبي قطارٍ في سفرٍ طويلٍ لا يعرفون قيمة قائد القطار إلا عندما يتعطل بهم، ويبدأ قائده في التفاني لإصلاحه وإعادة تشغيله رغم ضخامته. الأب وحده هو الذي لا يحسد ابنه على موهبته وتفوقه بل يتباهى به ويفرح ويفاخر، والأب وحده هو الذي يُخفي أخطاء ابنه ويتسامح معه وينساها، والأب وحده الذي يريد لنفسه أن يكون أفضل الناس يتمنى أن يكون ابنه أفضل منه، تأنيب الأب لابنه مؤلمٌ في حينه لكنه دواءٌ ناجعٌ حلو المذاق بعد التعلم منه، تأنيب الأب يصدر من جوار قلبه لا من جدار قلبه إذ يتألم وهو يؤنب ابنه؛ فقلب الأب هبة الله الرائعة لأبنائه.

أمرنا الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين وبرهما؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾، ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.

فلا حق على الإنسان أعظم ولا أكبر -بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم- من حقوق الوالدين وبرهما، والحديث عن بر الوالدين ارتبط لدى البعض ببر الأم حتى كاد يُنسيهم أن للأب حقاً هو الآخر من البر، وإن كان حق الأم مقدماً على حقه، فلا ننسى أبداً (البر بالأب)، ولا ننسى أن نقدمه للأم مضاعفاً.
ومن أعظم صور بر الابن بأبيه ما ورد مفصلاً في القرآن الكريم عن: بر إبراهيم عليه السلام بأبيه رغم كفره، وعن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه إبراهيم.

ولقد خصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم، (البر بالأب) بأحاديث منها:
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ‏]، كما قال: [ثلاثُ دعَواتٍ مُستَجاباتٌ لا شَكَّ فيهِنَّ دَعوةُ الوالِدِ، ودَعوَةُ المسافِرِ، ودعوَةُ المَظلومِ]، وقال كذلك: [الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوِ احْفَظْهُ].
يقول أهل العلم إن للأب عليك حقاً في البر لأنه هو سبب وجودك في الحياة، وما أنت إلا بَضْعةٌ منه، وهو مبعث الاستقرار، وهو ملاذك بعد الله. به تقوى قلوب الأبناء، وتزهو نفوسهم، وتحل الطمأنينة في حياتهم، وهو الذي يكد ويكدح من أجل تحقيق حياةٍ آمنةٍ حافلةٍ بالاطمئنان والاستقرار المادي والمعنوي لأولاده، وهو خبرة الحياة التي يحتاجها الأبناء لحل ما يواجهونه، وما يقابلونه من مشكلاتٍ وصعوباتٍ. وللأب حق البر والتكريم مهما بلغ سنه، ويتحتم ذلك ويزداد عند كبر سنه وشيخوخته؛ اخفض له جناح الذل من الرحمة، فللأب حق الإحسان والطاعة، وله حُسن الصحبة والعِشرة، والأدب في الحديث، وطيب المعاملة، إن تحدث فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمشِ بين يديه ولا أمامه، حيّه بأحسن تحية، وقبّل رأسه ويديه، وتلزمك النفقة عليه إذا احتاج إلى ذلك؛ تذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام: [أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ].

يقول أحدهم: أزعم أني كنتُ باراً وطائعاً لأبي، ولا أتذكَّر أني عصيتُه أو أحزنتُه، لكني اليوم -وبعد أن فارقَنا والدي- أشعر بالندم عندما كنتُ أعرِضُ عليه خدمةً أو منفعةً أو هديةً فيعتذر ويقول: "شكراً" فأُصدِّقُهُ، وكنتُ أعتقد أنه لو أراد شيئاً لأخبرني بذلك. اليوم عندما كبرتُ، وأصبحتُ أباً عرفتُ كذِبَ الآباء عندما يقولون "شكراً"! وتنبَّهتُ لغباء الأبناء عندما يصدقون آباءهم حين يقولون "شكراً"؛ فيعتبر الأبناء أن آباءهم لا يريدون حقاً. أيها الأبناء والبنات؛ لا تصدِّقوا آباءكم حين يقولون لكم إذا عرضتم عليهم أو قدمتم لهم شيئاً "شكراً" إنما يقولونها ذوقاً وتَعفُّفاً ومراعاةً لظروفكم، وخجلاً من إتعابكم وإرهاقكم. أيها الأبناء أسعدوا آباءكم دون إذنٍ، ولا تكونوا بخلاء ولا أغبياء، ولا تحرموا أنفسكم الخير الكثير الذي يأتيكم نتيجة (البر بالأب). سامحني يا أبي فكم كنتُ غبياً!

وصدق من قال: الأب هو الرجل الوحيد في العالم الذي يأخذ من نفسه ووقته وعمره وسعادته ليعطيك كل ما تريد، قد لا يكون أعطاك كل ما تتمناه، لكن تأكد أنه أعطاك كل ما يستطيع وكل ما يملك، ولو أنّ الأماني تُعيد لنا ميتاً رحل، لقبلتُ أقدام الأماني حتىٰ يعود أبي؛ فجازوا آباءكم بالإحسان إحساناً، وكونوا بارين بهم أحياءً، وأشد براً بهم أمواتاً.

ومن مظاهر (البر بالأب) في حياته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ]، ومن مظاهر ذلك بعد موته؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ].

أحبتي .. هذا هو مقام الأب ومكانته في الإسلام. وكلمتي أوجهها لكل أب: كُن صالحاً يُصلح الله لك أبناءك؛ يقول تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ صلاحك لنفسك ولأبنائك، فلا تكن معاملتك لهم سبباً في عقوقهم لك وعدم برهم بك. وكلمتي أوجهها لكل ابنٍ وبنت: عليكم ببر آبائكم واحترامهم -وإن جفوا أو قصروا- تقصيرهم لأنفسهم أما بركم فهو لكم، بروهم وأقسطوا إليهم، وأكرموهم قبل أن يأتي يومٌ تندمون فيه وتقولون يا ليت. وورد في الأثر: "برُّوا آباءَكم، تبرُّكم أبناؤكم".
اللهم سامحنا إن قصَّرنا فيما مضى، ووفقنا لبر آبائنا فيما بقي من أعمارنا وأعمارهم. اللهم احفظ الأحياء من آبائنا، وارحم الموتى منهم واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة يا رب العالمين.


الجمعة، 17 يناير 2020

دعاةٌ مجهولون


الجمعة 17 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٢
(دعاةٌ مجهولون)

قبل عدة سنواتٍ، كان صاحبنا السعودي في رحلةٍ إلى قرقيزيا "إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، تقع على الحدود مع الصين"، كتب يقول: دُعيت إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين من عمره، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، ذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، حاول تدريبنا فيها على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكان لا يعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتين بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية، حتى اضطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز. انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل، وتحت ضغط الفضول العارم سألتُه: "يا شيخ! كيف درَستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية، وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في قرقيزستان تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلامي، فضلاً عمّن يمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا الحكم الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد، فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح"؟! تبسّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى، وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشدة والكرب، وقال: "نعم، كنّا تحت حكمهم، لكن لم نستسلم لهم!! كنّا أقوى منهم بإيماننا، وإصرارنا، وقدرتنا على التكيّف. كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشراتِ وربما مئاتِ الأطفال، كلها تحت الأرض. وكان الوالدان المسلمان إذا تجاوز طفلهما الخامسة من عمره تسللوا به في جُنح الظلام، وساروا بحذرٍ خلف مرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفوهة في حجرةٍ من بيتٍ مهدوم، أو خرابةٍ مهجورةٍ- وهنا تستلمه المدرسة وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن أو أكثره، ومن الحديث ما قُدِّر له، ومن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية"، سألتُ الشيخ عما درَسوه في العربية فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك"! ثم تحامل على نفسه ونهض متثاقلاً إلى كوّةٍ في الجدار ومد يده النحيلة إلى كتابٍ متهالكٍ، فجاء به وفتحه أمامي؛ فإذا هو نسخته الخاصة من شرح ابن عقيل، وكنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثقاة لشككت فيه!
كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعسفها وقسوتها على الناس حتى ظنت أنها قد قدرت عليهم، وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره؛ الكتاب والسنة، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة، كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله، فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمس ولا هواء، ولا لهو، ولا لعب، وإنما عملٌ شاقٌ مضنٍ خطيرٌ ثمنه حياة أحدهم ومن معه لو افتضح أمره!
كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يمكن أن يمر به مجتمع، ما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش ولا استرهبتهم سطوته؛ فلما سقطت الشيوعية، وطوتها سُنة الله في الأشجار الخبيثة، خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العجاف، وفِي أعماق الأرض!

أحبتي في الله .. يقول راوي القصة: هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى، ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبتلى الدعاة بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، ليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين، فإذا ألقى الدعاة السلاح وأسلموا الثغور تحجّجاً بالظروف القاسية، وتذرعاً بالتغيرات الجارفة، إذا جلسوا يبكون على أبواب الدعوة التي أُقفلت، وتركوا خلفهم ألف بابٍ مفتوحٍ، وألف حيلةٍ ممكنةٍ، وألف وسيلةٍ متاحةٍ؛ فاعلم أنهم وقعوا في حبائل اليأس التي نصبها لهم الشيطان، وأنهم ما امتثلوا أمر ربهم بالتحرّف للدعوة، والانحياز إلى الممكن من برامجها، ومشروعاتها المتاحة، وإنما استكانوا للعذر المصنوع، والحجة المزيفة، وخسروا شرف الصمود وأجر الصبر، ويوشك الله أن يستبدلهم بغيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.

هؤلاء الدعاة في هذه القصة (دعاةٌ مجهولون) ليسوا عرباً، مارسوا عملهم في الكهوف بإخلاصٍ تامٍ، ولسنواتٍ طويلةٍ، واثقين في وعد الله ثقةً كاملةً، أحسنوا الظن به، وتحملوا من أجل الدعوة إلى دينه كل المشاق والصعوبات التي نتصورها والتي لا نتصورها. هؤلاء (دعاةٌ مجهولون) لا يعلم أحدٌ منا أسماءهم، ولا يعرف صورهم، وهبوا أنفسهم بغير حدودٍ لقضية العمر، يعيشون من أجلها، ويموتون دونها؛ فحفظوا دين الله ونقلوه إلى أبنائهم بكل إخلاصٍ وتفانٍ وصدق؛ امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾.
إنها الدعوة إلى الله أُمِرَ بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾. وشرَّفه الله بأن وصفه بأنه داعٍ إليه ينير طريق الهداية للبشرية جمعاء كما لو كان سراجاً منيراً؛ يقول تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾.
وهي الدعوة إلى الحق؛ يقول تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْئٍ﴾، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾، وهي الدعوة إلى الصراط المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. كما أنها دعوة جميع الرسل؛ يقول تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾. وهي دعوةٌ إلى النجاة من النار وغفران الذنوب؛ قالها مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾، وقالها الجن: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

يقول العلماء إن الدعوة إلى الله واجبةٌ على كل مسلمٍ ومسلمةٍ، كلٌ حسب قدرته وعلمه؛ يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، وهذا النص عامٌ، مطلقٌ في الزمان: ليلاً ونهاراً، ومطلقٌ في المكان: شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ومطلقٌ في الجنس: العرب والعجم، ومطلقٌ في النوع: الرجال والنساء، ومطلقٌ في السن: الكبار والصغار، ومطلقٌ في اللون: الأبيض والأسود، ومطلقٌ في الطبقات: السادة والعبيد والأغنياء والفقراء. فالدعوة لهؤلاء جميعاً واجبةٌ لأن هذا الدين لكل الناس؛ قال الله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ]، كما قال: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً]، وقال أيضاً: [نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ].
إن مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبد؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
ومن ثمرات الدعوة إلى الله مضاعفة الأجور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ومن ثمارها الهداية واعتبار الداعي إلى الله من المحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

والدعوة إلى الله واجبٌ على مجموع الأمة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فكل واحدٍ منا يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجَز عنه لم يُطالب به.
ويحدد لنا الله سبحانه وتعالى منهج الدعوة وآدابها؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، فكل مسلمٍ مطالبٌ بأن يكون داعيةً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ فيبدأ بنفسه يصلح من نفسه ليكون قدوةً ونموذجاً ومثالاً طيباً للمسلم الصالح. ثم يكون مصلحاً لأسرته وعائلته وجيرانه وأصدقائه وزملائه، بالنصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة والصبر. ثم يكون سفيراً لدينه لغير هؤلاء من الناس؛ بسلوكه القويم ومعاملاته الراقية المتميزة التي تتسم بالصدق والأمانة والدقة والتواضع والبشاشة وعدم التحيز وسرعة الإنجاز.
ليست الدعوة إلى الله وظيفةً رسميةً، وليست قاصرةً على مؤسساتٍ بعينها ورجالٍ يعملون بها، وإنما هي واجبٌ علينا جميعاً.

أحبتي .. أولئك (دعاةٌ مجهولون) ضحوا بكل نفيسٍ وغالٍ من أجل الدعوة إلى الله الحق، وإلى الدين الذي أكمله لنا وأتمم به علينا نعمته؛ فماذا عنا نحن؟ ماذا قدمنا للدعوة؟ ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا قدمتُ لديني؟" ثم يتصور للحظةٍ أنه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يسأله: "ماذا قدمتَ لدينك؟".
أحبتي .. إن كان منا مَن يجيد الكلام أو الكتابة، أو استخدام التقنيات الحديثة، أو التعامل مع شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أو كان متميزاً في أي مجالٍ آخر، فليبادر إلى توظيف مواهبه وقدراته -وكلها من نعم الله عليه- في الدعوة إلى الله.
ما تزال الفرصة متاحةً أمامنا ونحن على قيد الحياة؛ أن يكون كلٌ منا داعياً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ حَدِّد ما يمكن لك فعله، وابدأ بسرعةٍ في التنفيذ دون إبطاءٍ أو تسويفٍ، وحاسب نفسك بشدةٍ لا تراخيَ فيها، وبقسوةٍ لا لين معها، حتى تكون من المفلحين الفائزين.


الجمعة، 10 يناير 2020

الغافلون


الجمعة 10 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢١
(الغافلون)

كنت أتصفح بعض المجلات والدوريات الإسلامية فلفت انتباهي قصةٌ غريبةٌ وردت في إحدى المجلات الدينية التي تصدر في مونتريال بكندا. يقول كاتب القصة: صدف أن زرتُ إحدى العوائل المسلمة الميسورة هنا في كندا، وأصابتني الدهشة عندما وجدتُهم في سُباتٍ عميقٍ بعيدين عن الخالق عزّ وجلّ؛ حيث لا صلاة ولا دعاء ولا يعون شيئاً من الإسلام ولا السيرة، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً عن الدين في حياتهم. وعندما طلبتُ منهم إحضار مصحفٍ فوجئتُ بأنّه لا يوجد لديهم أية نسخةٍ من القرآن الكريم! وبما أن زيارتي لهم كانت من أجل حل مشكلةٍ اعترضتهم، فقد انتهزتُ الفرصة لنصحهم وإرشادهم، وقلتُ بأنّ الله -سبحانه وتعالى– عندما يحب عبداً يبتليه ليعود إليه، وأنتم فإنّ الله ابتلاكم لتنتبهوا وتستيقظوا من سُباتكم وغفلتكم عنه سبحانه وتعالى. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، فلابدّ أن تبدءوا بالصلاة وتحاولوا أن تقرءوا بعض الأدعية وتقرءوا القرآن الكريم لتكون حياتكم سعيدةً مع الله، ولا سعادة من دونه. فهل توجد غفلةٌ أكثر من هذه؟ مسلمون خلا بيتهم من القرآن الكريم! وإن وُجد فهو للحفظ والزينة لا للتعلم والتدبر والقراءة! ولا صلاة يؤدونها! وإن أُديت فهي لإسقاط الواجب لا أكثر! وقد صدق سبحانه وتعالى حين قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

أحبتي في الله .. نعم إنهم (الغافلون)، رأيتُ كثيراً منهم لكن ليس إلى هذه الدرجة من الغفلة؛ رأيتُ مِنَ الغافلين مَنْ يسعون بهمةٍ ونشاطٍ لمكاسب ومغانم الدنيا الفانية، وعندما يأتي وقت العمل للدار الباقية دار الخلود يكون الكسل وفتور الهمة، إن لم يكن النأي والإعراض! وجدتُهم مهتمين بأمر الرزق غافلين عن الرزاق ذي القوة المتين! الأولوية للعمل يخصصون له معظم وقتهم، أما الصلاة فلا وقت لها! يؤجلونها قليلاً ثم يؤجلونها كثيراً ثم يكتفون بصلاة الجمعة ثم يهملونها تماماً، وإن نصحتَ أحدَهم طلب منك أن تدعو له بالهداية! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد كل الوقت للهو وتوافه الأمور؛ ولا وقت لديه لتحصيل ثواب صلاة الجماعة بالمسجد، ولا لحفظ أو تلاوة ولو القليل من القرآن الكريم، ولا لقيام الليل وإنْ بركعتين، يترك ذلك ليشاهد فيلماً أو حلقةً من مسلسلٍ أو مباراةً للكرة، تراه مشغولاً بمواقع الإنترنت وواتس آب وفيس بوك وغيرها! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد سعةً من المال لرحلةٍ سياحيةٍ أو امتلاكِ منزلٍ أوسع أو شراءِ سيارةٍ أحدث، ولا يفكر في أداء فريضة الحج ويتعلل بقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾؟! ورأيتُ مِن الغافلين مَن ينفق المال على تغيير هاتفه المحمول كلما ظهرت نسخةٌ حديثةٌ منه، أو ينفق المال على تربية قططٍ أو كلابٍ أو أسماكٍ أو طيورِ زينةٍ لمجرد المتعة، وكان الأولى إنفاق المال في إطعام الفقراء والمساكين ومساعدتهم أو كفالة الأيتام! أما أعجب حالات الغفلة التي رأيتُها فهم (الغافلون) عن ذِكر الله؛ فما أسهلها وما أيسرها من عبادةٍ عظيمةِ الثواب لا تُكلف شيئاً، لا تتطلب مالاً ولا تحتاج جهداً ولا تستهلك وقتاً، والكثير منا عنها غافلون!
أما تلك الأسرة المسلمة في كندا فلم أرَ في حياتي أكثر غفلةٍ منها!

كيف يغفل المسلم، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾، لقد ظلم (الغافلون) أنفسهم بغفلتهم التي كانوا فيها؛ فيقولون يوم القيامة: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، فهل من مردٍ يومئذٍ أو عودةٍ أو سبيلٍ إلى توبةٍ؟ لا، فيومئذٍ يكون الأمر قد قُضي، فلا ينفعهم الندم ولا تفيدهم الحسرة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، فمن هم (الغافلون)؟
وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾.
و(الغافلون) أشار إليهم رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حين قال: [لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ]، وحين قال عليه الصلاة والسلام للمهاجرات: [عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفَلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ].

يقول أهل العلم إن من أعظم أسباب الغفلة؛ الجهل بالله عزَّ وجلَّ وأسمائه وصفاته، والاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، وصحبة السوء، وحضور مجالس اللغو واللهو. وإن السبيل إلى وقاية النفس من الغفلة ومخاطرها يكون بذِكر الله تعالى؛ يقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾. وبقراءة القرآن؛ فبه تزكو النفوس، وتزول الغفلة والغشاوة عن القلوب، وتكون الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، فيه هدىً ونورٌ، وموعظةٌ وشفاءٌ لما في الصدور. وبحضور مجالس العلم والذكر ومجالسة من يذكّرك بالله؛ فيَحُثك على ذِكره ويُسْمِعك كلامه، ويُحدثك عن رسول الله. وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى؛ فما أحوجنا إلى أن ندعوَ الله أن يُذَكِّرنا إذا نسينا، وأن يُنبهنا إذا غفلنا، وأن يرزقنا قلوباً طاهرةً وألسُناً ذاكرة. وبالمحافظة على الصلوات الخمس في جماعةٍ؛ فالغفلة تكون بترك الصلاة وتضييعها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن حافظَ على هؤلاءِ الصَّلَواتِ المَكتوباتِ لَم يكُن مِن الغافلينَ]. وبالحرص على قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ]. وبالإكثار من ذكر الموت؛ فكفى بالموت واعظاً، وكفى به مُنبّهاً ومُذكراً.
يقول أحدهم: إن المرء لو نظر لأحوال الناس لوجدهم في غفلةٍ عظيمةٍ وجرأةٍ عجيبةٍ على الله، يسيرون في طريق المعاصي والشهوات، ويتهاونون بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وُعدوا بالنجاة من النار وكأنها خُلقت لغيرهم؟
يقول الشاعر:
يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ
وَغَرَّهُ طولُ الأَمَلْ
الموتُ يأتي بَغْتَةً
والقبرُ صُندوقُ العَمَلْ
ويقول آخر:
أما واللهِ لو عَلِمَ الأنامُ
لِمَ خُلقوا لَما غَفلوا وناموا
لقد خُلقوا لِما لو أبصرتْهُ
عيونُ قلوبِهم تاهوا وهاموا
مَماتٌ ثم قَبرٌ ثم حَشرٌ
وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظامُ
ويقول ثالث:
إنَّ للهِ عِباداً فُطُنا
طَلَّقوا الدُنيا وخافوا الفِتَنا
نَظَروا فيها فَلَمَّا علِموا
أنها ليستْ لِحيٍ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً واتخَذوا
صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن بيَّن لنا سبيل الهدى والرجوع عن حالة الغفلة؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، كما فتح لنا النبي صلى اللهُ عليه وسلم باب الأمل بقوله: [مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ].

ليست هذه دعوةً إلى ترك الدنيا وعدم الانشغال بالرزق والتفرغ للعبادة، فهذا أمرٌ نهى عنه رسولنا الكريم، لكنها دعوةٌ للموازنة في الاهتمام ما بين: الدنيا مع الزهد فيها، والآخرة مع الاستعداد لها؛ ورد في الأثر قولهم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، يقول العارفون إن في ذلك دعوةٌ إلى الأخذ بالأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، مع الحث على العمل للآخرة، ودوام الاستعداد لها، وللقاء الله بالعمل الصالح الخالص لوجهه الكريم، وحُضُور النّيَّة والقَلْب في العباداتِ والطاعات، والإكْثار منها، فإِنّ من يَعْلم أنه يموت غَداً يُكْثر من عبَادَته، ويُخْلِص في طاعتِه.

أحبتي .. كلنا غافلون بدرجةٍ أو أخرى، مقصرون في حق الله وفي حق أنفسنا. لذلك أقول لنفسي ولكم: أفيقوا يرحمكم الله، أنقذوا أنفسكم، تداركوا ما فاتكم من خيرٍ، وسارعوا إلى حجز أماكنكم في الجنة، التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ؛ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]، وينقل لنا وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بقوله: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾]. فلا تُضَيِّعوا أوقاتكم فيما لا يفيد. الدنيا مزرعةٌ للآخرة؛ اتعبوا الآن في الزراعة لتهنأوا وقت الحصاد، وأبشروا بما وعدكم الله به، ليس فقط بالعفو عن السيئات، بل وبتبديلها حسنات؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فلا تُفَوِّتوا على أنفسكم هذه الفرصة!
اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

http://bit.ly/2NdlkRU