الجمعة، 12 نوفمبر 2021

القول الحسن

 

خاطرة الجمعة /317


الجمعة 12 نوفمبر 2021م

(القول الحسن)

 

في إحدى المستشفيات كان هناك مريضان كبيران في السن، يقيمان في غرفةٍ واحدةٍ، كلاهما معه مرضٌ عضال؛ أحدهما كان مسموحاً له بالجلوس في سريره لمدة ساعةٍ يومياً بعد العصر، ولحُسن حظه فقد كان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مُستلقياً على ظهره طوال الوقت. كان المريضان يقضيان وقتهما في الكلام، وهما مُستلقيان على ظهرهما ناظران إلى السقف. تحدثا عن أهلهما، وعن بيتهما، وعن حياتهما، وعن كل شيءٍ. وفي كل يومٍ بعد العصر، كان الأول يجلس في سريره حسب أوامر الطبيب، وينظر في النافذة، ويصف لصاحبه العالم الخارجي، وكان الآخر ينتظر هذه الساعة كما ينتظرها الأول، لأنها تجعل حياته مفعمةً بالحيوية وهو يستمع لوصف صاحبه للحياة في الخارج؛ إذ يقول له إنّه توجد بجوار المستشفى حديقةٌ تتوسطها بحيرةٌ كبيرةٌ يسبح فيها البط، والأولاد صنعوا زوارق من مواد مختلفةٍ وأخذوا يلعبون بها داخل الماء. وأن هناك رجلاً يؤجِّر المراكب الصغيرة للناس يُبحرون بها في البحيرة، والنساء يتأبطن أذرع أزواجهن، ويتمشى الناس حول حافة البحيرة. وأن هناك آخرين يجلسون تحت ظلال الأشجار أو بجانب الزهور ذات الألوان الجذابة. وأن منظر السماء بديعٌ يسر الناظرين. وفيما يقوم الأول بعملية الوصف هذه يُنصت الآخر في ذهولٍ لهذا الوصف الدقيق الرائع، ثم يُغمض عينيه ويبدأ في تصور ذلك المنظر البديع للحياة خارج المستشفى. وفي أحد الأيام وصف الأول للثاني عرضاً عسكرياً، ورغم أنه لم يسمع عزف الفرقة الموسيقية إلا أنه كان يراها بعيني عقله من خلال وصف صاحبه لها.

مرت الأيام والأسابيع وكلٌ منهما سعيدٌ بصاحبه، وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحاً لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل، ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة عبر الهاتف وهي تطلب المساعدة لإخراجه من الغرفة؛ فحزن على صاحبه أشد الحزن. وعندما وجد الفرصة مناسبةً طلب من الممرضة أن تنقل سريره إلى جانب النافذة. ولما لم يكن هناك مانعٌ من ذلك فقد أجابت طلبه. ولما حانت ساعة بعد العصر وتذكر الحديث الشيق الذي كان يتحفه به صاحبه انتحب لفقده، لكنه قرر أن يحاول الجلوس ليعوض ما فاته في هذه الساعة؛ فتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويداً رويداً مُستعيناً بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه وأدار وجهه ببطءٍ شديدٍ تجاه النافذة لينظر إلى العالم الخارجي ويشاهد الحديقة وما بها من زهورٍ ملونةٍ وجميلةٍ والبحيرة وما بها من بطٍ وزوارق، وهنا كانت المفاجأة! لم يرَ أمامه إلا جداراً أصماً من جدران المستشفى؛ فقد كانت النافذة تُطل على ساحةٍ داخلية.

نادى الممرضة وسألها إن كانت هذه هي النافذة التي كان صاحبه ينظر من خلالها، فأجابت إنها هي؛ فالغرفة ليس فيها سوى نافذةٍ واحدة، ثم سألته عن سبب تعجبه، فقص عليها ما كان يرى صاحبه عبر النافذة وما كان يصفه له. كان تعجب الممرضة أكبر، إذ قالت له: "ولكن المتوفى كان أعمى، ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم، ولعله أراد أن يجعل حياتك سعيدةً حتى لا تُصاب باليأس فتتمنى الموت".

 

أحبتي في الله .. لقد صدق من أجاب على السؤال: "مَنْ أسعدُ الناسِ؟"، بقوله: "مَنْ أسعدَ الناسَ". بطل القصة السابقة كان أعمى البصر، لكن لم يكن أعمى البصيرة، كان همه إسعاد الآخر، حتى ولو لم يكن قريبه أو صديقه، جمعت الصدفة بينهما في تلك الغرفة من غرف المستشفى، ووجد فرصةً لإسعاد إنسانٍ يائسٍ؛ فحرص على ألا يفوته ثوابها، فظل يزرع في قلب جاره المريض الأمل ويُشعره بالبهجة والسعادة عن طريق (القول الحسن)، ثم مات، ليجد ثواب عمله لإسعاد غيره يُثَقِّل ميزان حسناته بإذن الله.

وهذا شخصٌ كان شعاره هو الآخر (القول الحسن) سبباً في إنقاذه من موتٍ محققٍ؛ فقد كان يعمل في أحد مصانع تجميد وحفظ الأسماك، وذات يومٍ وقبل نهاية الدوام دخل إلى ثلاجة حفظ الأسماك لينجز آخر عمل له في ذلك اليوم، وبينما كان ينجز عمله، حدث أن أُغلق باب الثلاجة وهو داخلها، حاول الرجل فتح الباب، ولم يستطع، أخذ يصرخ وينادي بأعلى صوته طالباً المساعدة من العمال الآخرين، ولكن كان الدوام قد انتهى ولم يبقَ أحد في المصنع. وبعد مرور قرابة خمس ساعات، وكان الرجل قد أوشك على الموت من شدة البرد، إذ بحارس المصنع يفتح باب الثلاجة وينقذه. وعندما قام مدير المصنع بسؤال حارس المصنع، كيف عرف أن ذلك العامل كان موجوداً داخل المصنع ولم يخرج مع باقي العمال؟ قال الحارس: "أنا أعمل ببوابة هذا المصنع منذ ثلاثين عاماً، يدخل ويخرج من المصنع مئات الموظفين والعمال يومياً، لم يكن أحدٌ منهم يلقي عليّ التحية يومياً ويسألني عن حالي إلا ذلك العامل، وعند نهاية هذا اليوم لم أسمعها منه وافتقدته عند خروج العمال، فعلمت أنه لا زال في المصنع فبحثت عنه حتى وجدته.

إنه (القول الحسن)، وهو الكلمة الطيبة؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، ويقول تعالى:

﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ‌ كَيْفَ ضَرَ‌بَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَ‌ةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْ‌عُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ‌بِّهَا ۗ وَيَضْرِ‌بُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُ‌ونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَ‌ةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْ‌ضِ مَا لَهَا مِن قَرَ‌ارٍ‌﴾، وعن هذه الآية يقول أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أهمية الكلمة الطيبة وعظيم أثرها واستمرار خيرها، وبيّن خطورة الكلمة الخبيثة وجسيم ضررها وضرورة اجتثاثها، وشَبّه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تُثمر العمل الصالح، والشجرة تثمر الثمر النافع.

 

وعن الكلمة الطيبة و(القول الحسن) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الفاحِشِ، وَلا البَذِيء]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ شَيءٍ في المِيزَانِ أثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَإنّ اللهَ يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيء]. كما قال: [الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ]، وقال أيضاً: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]، وقال كذلك: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: [إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ ، وَحُسْنَ الْكَلَامِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ في الجنَّةِ غرفًا يُرى ظاهرُها مِن باطنِها وباطنُها مِن ظاهرِها أعدَّها اللهُ لمَنْ أطعمَ الطَّعامَ وأفشى السَّلامَ وصلَّى بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ]، كما قال: [إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ]، وقال لمن سأل: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: [وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم؟].

 

لا شك في أن (القول الحسن) مفتاحٌ للقلوب، وسببٌ في كل خير؛ فربّ كلمةٍ طيبةٍ ﻻ نُلقي لها بالاً توقظ أملاً في نفس شخصٍ يائسٍ، أو تكون سبباً في إنقاذ حياة شخصٍ وهو ﻻ يعلم!

 

يُقال: "الكلمة الطيبة هي حياة القلب، وهي روح العمل الصالح". ويُقال: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو كان مجرد كلمةٍ طيبةٍ". ويُقال: "إذا جعلتَ الناس سعداء فستتضاعف سعادتك، ولكن إذا وزعتَ الأسى عليهم فسيزداد حزنك". ويُقال: "إن الناس في الغالب ينسون ما تقول، وفي الغالب ينسون ما تفعل، ولكنهم لن ينسوا أبداً الشعور الذي أصابهم من قِبلك؛ فهل ستجعلهم يشعرون بالسعادة؟".

 

أحبتي .. عن (القول الحسن) أختم بكلماتٍ أعجبتني يقول كاتبها: "البِرَ شيءٌ هيِّنٌ؛ وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ، فلنرطِّب ألسنتنا بالكلمة الطيبة التي تُزيل الجفاء، وتُذهب البغضاء والشحناء، وتُدخل إلى النفوس السرور والمحبة والمودّة والوئام والهناء. لتكن كلماتنا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، نبني حياتنا بوحيٍ من هداها، نتنسّم عبير شذاها مستجيبين لنداء رب العالمين ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾".

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، موافقةً لسُنة نبيك الرؤوف الرحيم، واقبلها ربنا قبولاً حسناً، يا عزيز يا حليم.

 

https://bit.ly/2YKLK6Q

الجمعة، 5 نوفمبر 2021

الصراط المستقيم

 

خاطرة الجمعة /316


الجمعة 5 نوفمبر 2021م

(الصراط المستقيم)

 

كاتبةٌ سعوديةٌ غيرت اتجاه فهمها للحياة مائةً وثمانين درجة، وكتبت تحت عنوان: "نبش الأسرار" تقول:

اليوم أقلد قلمي شرف نبش أسرار الضياع، لم تكن توبتي نتيجة ظروفٍ قاسيةٍ أو محنةٍ عارضةٍ، بل كنتُ أنعم بكل أشكال الترف والحرية في كل شيءٍ، وكنتُ أجسد العلمنة بمعناها الصحيح، وكانت أفكارها نهجي ودستوري، وكُتبها مرصوصةٌ في مكتبتي، ورميُ الحجاب حلمٌ يداعب خيالي، وقيادة السيارة قضيتي الأولى أنادي بها في كل مناسبةٍ، وأستغل ظروف من هُم حولي لإقناعهم بضرورتها. تمنيتُ أن أكون أول من يترجم فكرة القيادة إلى واقعٍ ملموسٍ، ولطالما سهرتُ الليالي أخطط فيها لتحقيق الحلم. أما تحرير المرأة السعودية من معتقدات وأفكار القرون البالية وتثقيفها، وزرع مقاومة الرجل في ذاتها، فلقد تشربْتُها وتشربَتْها خلايا عقلي، وسعيتُ إلى تسليط الضوء على جبروت الرجل السعودي وأنانيته، وقدمتُ الرجل المتحرر على طبقٍ من ذهبٍ على أنه يفهم المرأة واستخرج كنوز أنوثتها وقدمها معه جنباً إلى جنب. وشوهتُ صورة الرجل المتدين على أنه اكتسب الخشونة والرعونة من الصحراء، وتعامل مع الأنثى كما تعامل مع نوقه وهو يسوقها بين القفار. كانت الموسيقى غذاء روحي ونديمي من الصباح إلى فجر اليوم التالي، أما الرقص بكل أنواعه فقد جعلته رياضةً تعالج تخمة الهموم. ونظريات فرويد كنت أدعمها في كل حينٍ بأمثلةٍ واقعيةٍ؛ فأنسِب المشاكل الزوجية إلى الكبت، والعُقد إلى آثار أساليب التربية القديمة التي استعملها أهلنا معنا. وكانت أفكاري تجد بين المجتمع النسائي صيتاً عالياً ومميزاً، سرتُ عليها سنين عديدة.

وفي يومٍ من الأيام كنتُ جالسةً في ساحة أحد الأسواق لفت نظري شابٌ متدينٌ بهيئته التي تدل على ذلك؛ ثوبٌ قصيرٌ وسيرٌ هادئٌ وعيونٌ مغضوضةٌ، أظنه في سن ما فوق العشرين، أعجبني هدوءه، وطرأت عليّ بعدها أفكارٌ غريبةٌ جداً! علامات الرضى باديةٌ على مُحياه، خطواته ثابتةٌ رغم أن قضيته في نظري خاسرةٌ، هو والقلة التي ينتمي إليها؛ يتحدون مارداً جباراً اسمه التقدم ولا يزالون يناضلون! سخرتُ بداخلي منه ومنهم، لكنني لم أنكر إعجابي بثباته، فقد كنتُ أحترم من يعتنق الفكرة ويثبت عليها. حاولتُ أن أحلل الموضوع فقلتُ في نفسي: "ربما هؤلاء الملتزمون تدينوا نتيجة الفشل فأخذوا الدين شعاراتٍ ليُشار إليهم بالبنان، لكن منهم العلماء والدكاترة، ولديهم ماضٍ عريقٌ حين ملكوا الدنيا من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، أو ربما هو الترفع عن الرغبات!". وعند هذه النقطة بالذات اختلطت عليّ الأمور؛ فالترفع عن الرغبات معناه الكبت، والكبت لا يُنتج حضارة! حاولتُ أن أتناسى هذا الحوار مع نفسي لكن عقلي أبى عليّ ولم يصمت، ومنذ ذلك الوقت وأنا في حيرةٍ فقدتُ معها اللذة التي كنتُ أجدها بين كتبي، ومع أنواع الموسيقى والرقص، ومع الناس كافةً، علمتُ أني فقدت شيئاً، لكن ما هو؟! لستُ أدري! اختليتُ بنفسي لأعرف؛ طرقتُ أبواب الطب النفسي دون جدوى، فقدتُ الإحساس السابق بل لم أعد أشعر بأي شيء! كل شيءٍ بلا طعمٍ وبلا لون؛ فعدتُ مرةً أخرى لنقطة البداية عندما حصل التغيير بعد ذلك الحوار! تساءلتُ: "كل ما أتمنى أستطيع أخذه، ما الذي يحدث لي إذاً؟! أين ضحكاتي المجلجلة؟ وحواراتي التي ما خسرتُ فيها يوماً؟ أين جلسات الرقص والسمر؟". وكلما حاولتُ أن أكتب أجدني أسير بقلمي بشكلٍ عشوائيٍ لأملأ الصفحة البيضاء بخطوطٍ وأشكالٍ لا معنى لها غير أن بداخلي إعصاراً من حيرةٍ! بدأتُ أتساءل! لماذا لم أعد أشعر بروعة الموسيقى المنسابة إلى مسمعي؟! لو كانت غذاء الروح كما كنتُ أدّعي لكانت روحي الآن روضةً خضراء. وأين مني تلك الكتب التي احترمتُ كتّابها وصدقتهم؟ لماذا تخذلني الآن كلماتهم ولا تُشعل حماسي كما كانت؟! وهنا لاح سؤالٌ صاعقٌ: هل هؤلاء الغربيون فعلاً أفضل منا؟ وبماذا هم أفضل؟ تكنولوجياً؟ وبماذا خدمت التكنولوجيا المرأة عندهم؟ خدمت الرجل الغربي، ولكن المرأة أين مكانها؟ معه في العمل، وأخرى في النوادي تتراقص على أنغام الآلات التي اخترعها الرجل، وأخرى ساقيةٌ ونادلةٌ له في الأماكن التي صنعها الرجل لتسليته! اكتشفتُ حقيقةً أمَّر من العلقم؛ الرجل تقدم وضمن رفاهيته وتملص من الحقوق والواجبات وجعل المرأة صالة عرضٍ لكل ما خطر على خياله، واخترع لها أثواب بكل الأشكال. اشتهاها راقصةً؛ فرقصت شرقي وغربي وڤالس وباليه، كما اشتهاها العازف. اشتهاها ممثلةً، فمثلت كل الأدوار التي تحاكي رغباته من المحرمات والعلاقات والاعتداءات، أي دورٍ وكل دور! اشتهاها على الشاطئ؛ فأوجد لها ملابس البحر، وأظهر منها ما أراد أن يرى على أنه موضةٌ وحداثة!

اكتشفتُ الخديعة الكبرى في شعار حرية المرأة؛ فالرجل قد نادى به، وهدفه هو الوصول إلى المرأة! ثم ماذا يريدون بتحرير المرأة من الحجاب؟ إنه عبادةٌ كالصلاة والصوم، وقد كنتُ سأحرم نفسي منه لولا أن تداركتني رحمة ربي! يريدون أن يحرروني من طاعة الأب والزوج، إنهم حُماتي بعد الله. يريدون أن يحرروني من الكبت، كيف سميتم العفة والطهارة كبتاً؟ كيف؟ ما الذي جنوه من الحرية غير الأمراض والضياع؟! حرروا المرأة كما يزعمون! أخرجوها من بيتها تكدح كالرجل فضاع الأطفال، واليوم يدرسون ضياع الأطفال! تباً لهم وتباً لعقلي الصغير كيف صدقتهم؟ كيف لم أرَ تقدمنا والمرأة متمسكةٌ بحجابها؟

عرفتُ علتي وعلة الشباب جميعاً؛ مشكلتنا الأساسية أننا لا نعرف عن الإسلام إلا اسمه، وعاداتٍ ورثناها عن أهلنا، كأنه واقعٌ فُرض علينا. كما أننا لم ندرك طريقة الغزو الحقيقية؛ خدرونا بالرغبات، شغلونا عن القرآن وعلوم الدين، فهي خطةٌ محكمةٌ؛ تخديرٌ ثم بترٌ، ونحن لا نعلم.

اتجهتُ إلى الإسلام من أول نقطةٍ؛ من كتب التوحيد إلى الفقه، ومع إعجاز القرآن، اللغوي والتصويري والعلمي والفلكي وغيره، عدتُ إلى الله، وندمتُ على كل لحظةٍ ضيعتُها أقلب فيها ناظري في كتبٍ كتبتها عقولٌ مسخها الله وطمس بصيرتها. كانت المعجزة أمامي؛ وهو القرآن الكريم، لم أحاول يوماً أن أفهم ما فيه أو أحاول تفسيره! لكن وبعد أن أخرجتُ من منزلي ومن قلبي كل آلات الضياع والغفلة، وعندما خرج حب اللحن من قلبي، وجدتُ حلاوة الشَهد تنبع من قراءة آيات القرآن، وعرفتُ أعظم حبٍ؛ أحببتُ الله تعالى، لبستُ الحجاب الإسلامي الصحيح بخشوعٍ وطمأنينةٍ واقتناعٍ بعد تسليمٍ أشعرني برضا الله عني، ثم عرفتُ قول الله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾، أصبحتُ في سكناتي وحركاتي وطعامي وشرابي أستشعر معناه العظيم. أصبحت أنتظر الليل بشوقٍ إلى مناجاة الحبيب؛ أشكو إليه شدة شوقي إلى لقائه، وإلى لقاء المصطفى محمد ﷺ، وحنيني إلى صحابته الكرام، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ، ونسائه الطاهرات.

وأخيراً؛ كلمةٌ إلى كل من سمع قصتي: لا ترفضوا دينكم قبل أن تتعرفوا عليه جيداً لأنكم إذا عرفتموه لن تتخلوا عنه، فداه الأهل والمال والبنون والنفس.

 

أحبتي في الله .. كانت هذه اعترافات فتاة ليبرالية عادت إلى (الصراط المستقيم) بعد أن قطعت شوطاً طويلاً في معاداته، هي وغيرها من الليبراليين والعلمانيين، فماذا حقق هؤلاء للمرأة؟ لقد جعلوها فريسةً سهلةً للقاصي والداني، وأبعدوها عن دينها، وصوروا لها الإسلام على أنه دين تخلفٍ ورجعيةٍ، وأنه ينتقص من حقوقها، ولم يُكرّمها. رغم أنه لم تُكرّم المرأة -على مدى التاريخ كله- كما كرمها الإسلام!

 

ومن صور تكريم الإسلام للمرأة أن بالقرآن الكريم سورةً اسمها سورة «النساء»، كما أن من بين سور القرآن سورةً اسمها على اسم امرأة؛ وهي سورة «مريم»، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن النساء: [إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ]، وأوصى بهن خيراً حين قال في خطبة حجة الوداع: [استَوْصوا بالنِّساءِ خيرًا فإنَّهنَّ عَوانٌ في أيديكُم أخذتموهنَّ بأمانةِ اللهِ واستحللْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ]. وتُكرّم المرأة في الإسلام كوالدة؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. وتُكرّم كأم؛ فعندما سأل صحابيٌ النبي صلى الله عليه وسلم: من أولى الناس بحُسن صحابتي؟ قال: [أُمُك]، قال ثم من؟ قال: [أُمُك]، قال ثم من؟ قال: [أُمُك]، قال ثم من؟ قال: [أَبُوك]. وتُكرّم كزوجة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وهي راعيةٌ وسيدةٌ في بيتها؛ قال صلى الله عليه وسلم: [والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا]. وتُكرّم بنتاً وأختاً؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لا يَكُونُ لأَحَدِكُمْ ثَلاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلاثُ أَخَوَاتٍ فَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ]. وجعل الإسلام للمرأة حقوقاً، وأوجب عليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها؛ يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾. ولم يكن للمرأة قبل الإسلام حق الإرث، وجاء الإسلام فأقر لها حقاً في الميراث؛ يقول تعالى: ﴿للرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾. ولم يكن للزوجة صداقٌ ولا مهرٌ عند بعض القبائل فجعل لها الإسلام مهراً وصداقاً من حقها لا يأخذ أحدٌ منه شيئاً إلا بطيب نفسٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾. كما لم يكن للمرأة على زوجها أي حقٍ، وليس للطلاق عددٌ محدود، وليس لتعدد الزوجات حدٌ معين، وكانوا إذا مات الرجل، وله زوجةٌ وأولادٌ من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثًا كبقية أموال أبيه!

لقد جعل الإسلام التفاضل بين جميع الناس -رجالاً ونساءً- بالتقوى والعمل الصالح؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. وكرّم الإسلام المرأة؛ فأسقط عنها النفقة، فلا تُنفق على ولدها ولا والديها ولا زوجها، بل لا تنفق حتى على نفسها هي، ويُلزم زوجها بالنفقة عليها. ورحمها فأسقط عنها حضور الجُمَع والجماعات لاشتغالها بزوجها وبيتها. وأسقط عنها الشهادة في الدماء والجنايات تقديراً لضعفها، ورعايةً لمشاعرها عند رؤية هذه الحوادث. وأسقط عنها فريضة الجهاد. وأسقط عنها فريضة الحج إذا لم يكن معها محرم يحرسها ويخدمها حتى ترجع. وحرَّم نكاحها بلا وليٍ ولا شهودٍ؛ حتى لا تُتَّهَمَ في عِرضها ونسب أولادها. وحَرَّم طلاقَها وهي حائضٌ مراعاةً لحالها، وحتى لا تطول عليها العدة. وأجاز لها الخُلع إذا كرهت زوجها وأبى طلاقها. وأوجب على مَنْ قَذَفَها في عِرْضِهَا جَلْدَ ثمانينَ جلدةً، ويُشَهَّر به في المجتمع ولا تُقبلُ شهادته أبداً. وجعل من يُقتل في سبيلها ليحافظ على عرضه شهيداً. وكرمها حتى بعد موتها فلا يُغسِّلها إلا زوجها أو نساءٌ مثلها، وجعل كفنها أكثر من كفن الرجل فتُكفَن في خمسة أثواب رعايةً لحرمتها.

 

أحبتي .. البُعد عن الإسلام سببٌ في كل مشاكلنا، وحل تلك المشاكل لن يكون إلا بالعودة إلى ديننا الحنيف الذي يقول سبحانه وتعالى عنه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، فهو منهج حياةٍ متكامل يكفل للمسلمين العيش في الدنيا بعزةٍ وكرامةٍ، والفوز في الآخرة برضى الرحمن. إنه (الصراط المستقيم) الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباعه؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وعدم الاستقامة على هذا الصراط تترك الإنسان يتخبط في اتباع الهوى فيضل عن سبيل الله؛ يقول تعالى مخاطباً داوود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾، وأي هوىً أكثر من البُعد عن تطبيق شرع الله والالتزام به في جميع مجالات حياتنا؟

هدانا الله إلى اتباع شرعه وسُنة نبيه، وردنا إليه رداً جميلاً، وأبعدنا -رجالاً ونساءً- عن اتباع الهوى الذي فيه ضلالٌ عن سبيل الله.

https://bit.ly/3BUIjIk

الجمعة، 29 أكتوبر 2021

سوء الظن

 

خاطرة الجمعة /315


الجمعة 29 أكتوبر 2021م

(سوء الظن)

 

في «القاهرة» اتصل صديقٌ بصديقه قائلاً له: "أنا قادمٌ مع زوجتي لنسهر عندكم"، قال الصديق: "أهلاً وسهلاً، عندي طلبٌ منك"، قال: "ما هو؟"، قال الصديق: "أريد أن تشتري لي قالب حلوى من أفخر المحلات عندكم مع كذا وكذا"، قال: "لماذا؟ أمن أجلنا؟"، قال الصديق: "لا، اليوم عيد ميلاد ابني، ولم يتسنَّ لي الخروج، وأريد أن أفاجئه بالاحتفال دون أن يشعر". قام الصديق بشراء ما يلزم، ودفع مبلغاً كبيراً من المال، وعندما وصل إلى بيت صديقه تم الاحتفال، وتمت السهرة بكل بهجةٍ وفرح، وفي نهاية السهرة قال له صديقه: "بقيت قطعةٌ كبيرةٌ من قالب الحلوى، أرجوك لا ترد لي طلباً؛ خذها لأولادك"، وأعطاه العلبة وودعه دون أن يدفع له ثمن قالب الحلوى. ظل الصديق طوال الطريق يسب صديقه، ويلعن الوقت الذي قال له فيه إنه سيأتي ليسهر عنده، حاولت زوجته -وهما في السيارة- أن تُخفف عنه بأن صديقه ربما نسي أن يدفع له وبأنه سيتذكر غداً بالتأكيد، فيرد عليها ويقول: "بل هذا استغلالٌ مقيتٌ، وقلة أدبٍ وعدم احترام". وصل إلى البيت وهو لا يزال غاضباً، ونادى أولاده ليعطيهم من قطعة الحلوى، فتح العلبة، وإذا به يجد فيها رسالة شكرٍ مع المبلغ كاملاً، وعبارة: "أعرف أنك كنتَ لن تأخذ النقود مني؛ لذلك وضعتُ المبلغ دون علمك في العلبة"! أُصيب الرجل بالصدمة والخجل، ولم يدرِ ما يفعل؛ سأل زوجته: "هل أطلب منه أن يُسامحني لسوء ظني؟"، قالت له: "الأفضل ألا تطلب؛ هو كان يظن أنك لن تأخذ منه المبلغ، فدعه على حُسن ظنه بك".

 

أما في «لندن» فكانت سيدةٌ شابةٌ تنتظر طائرتها في المطار، ولأنها كانت ستنتظر كثيراً اشترت كتاباً لتقرأ فيه، واشترت أيضاً علبة بسكويت. بدأت تقرأ كتابها أثناء انتظارها للطائرة، وكان يجلس بجانبها رجلٌ يقرأ هو الآخر في كتابٍ، عندما بدأت في قضم أول قطعة بسكويت كانت موضوعةً على الكرسي بينها وبين الرجل فوجئت بأن الرجل بدأ في قضم قطعة بسكويتٍ من نفس العلبة التي كانت تأكل منها، فكرت أن تلكمه لكمةً في وجهه لقلة ذوقه، ثم تراجعت عن فكرتها، لكنها فوجئت بأنه مع كل قضمةٍ كانت تأكلها هي من علبة البسكويت كان الرجل يأكل قضمةً أيضاً! فتعصبت، لكنها كتمت في نفسها. وعندما بقي في كيس البسكويت قطعةٌ واحدةٌ فقط نظرت إليها وسألت نفسها: "ماذا سيفعل هذا الرجل قليل الذوق الآن؟"، لدهشتها قسّم الرجل القطعة إلى نصفين، أكل النصف وترك لها النصف! قالت في نفسها: "هذا لا يُحتمل!" ومع ذلك كظمت غيظها، وأخذت كتابها، وبدأت بالصعود إلى الطائرة. عندما جلست في مقعدها بالطائرة فتحت حقيبتها لتأخذ نظارتها، ففوجئت بوجود علبة البسكويت الخاصة بها كما هي مغلفةً بالحقيبة!! صُدمت، وشعرت بالخجل الشديد، أدركت الآن فقط أن علبتها كانت في حقيبتها وأنها كانت تأكل مع الرجل من علبته هو!! أدركت متأخرةً بأن الرجل كان كريماً جداً معها وقاسمها ما كان في علبة البسكويت الخاصة به حتى آخر قطعةٍ بدون أن يتذمر أو يشتكي!! وزاد من شعورها بالعار والخجل أنها لم تجد الوقت ولا الكلمات المناسبة لتعتذر للرجل عما حدث من قلة ذوقها!

 

أحبتي في الله .. عن (سوء الظن) يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اجْتَنِبُوا كثيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾.

وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: [إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ]، ورُوِيَ أنّه لمّا نظر النبي عليه الصّلاة والسّلام إلى الكعبة قال: [مَرْحَباً بِكِ مِنْ بَيْتٍ مَا أَعْظَمَكِ وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنْكِ وَاحِدَةً، وَحَرَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثاً: دَمَهُ، وَمَالَهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ].

 

يقول أهل العلم عن (سوء الظن) إنّه مَظنّة جانب الشرّ وتغليبه على جانب الخير في حين أنّ الموضوع الذي وقع فيه سوء الظنّ قد يَحتمل الجانبين معاً دون تغليبٍ لأحدهما، وهو امتلاء القلب بالظّنون السّيئة بالنّاس حتى يطفح على اللسان والجوارح، كما إنه تُهمةٌ في غير محلها وتخوينٌ للأهل والأقارب والنّاس.

ويُعتبر من أسوأ ما قد يتصف به الإنسان، نهانا الله سبحانه وتعالى عنه واعتبره من الأخلاق المذمومة، كما أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم نهانا عنه فهو من أسوأ أمراض القلوب؛ لأن صاحبه يُجزم بما في نفسه حتى وإن لم يصل إلى درجة اليقين؛ فترى صاحب الظن السيء يغضب بشدةٍ من تصرفٍ يبدو له ظاهره أن فيه إساءةً له، فيوغر ذلك صدره تجاه الشخص الذي صدر منه هذا التصرف، لاعتقاده أن ذلك الشخص تصرف عن عمدٍ، وقد يصل الأمر إلى حد القطيعة، على الرغم من أن التصرف قد يحتمل شيئاً آخر، على خلاف الظن.

وهذا يُعلمنا أن نلتمس الأعذار للآخرين، وألا نتصيد لهم أخطاءهم وزلاتهم، فنحن لسنا معصومين من الزلل والخطأ، وغيرنا كذلك، نحن جميعاً بشرٌ نُصيب ونُخطئ، هكذا جُبلنا؛ لذا فعلينا أن نحسن الظن بالناس وألا نسيء الظن بهم، لئلا تمتلئ قلوبنا بالحقد والكراهية.

 

والتماس الأعذار هو دأب الصالحين، الذين يُحسنون الظن، ويلتمسون المعاذير. إن (سوء الظن) بالآخرين يجلب الشك والكراهية والحقد بين الناس وغيرها الكثير من الأمراض الاجتماعية السيئة التي تؤثر سلباً على الإنسان المسيء الظن بالناس، بحيث تؤدي به إلى فقدان الثقة بكل الناس من حوله إلى أن ينتهي به المطاف إلى الشعور بالوحدة؛ لأن جميع الناس ينفرون من هذه الشخصية المسيئة للآخرين المشككة في نواياهم مهما كانت طيبةً وسليمة. ناهيك عن أن (سوء الظن) بالآخرين هو سببٌ في حدوث الكثير من المشاكل والقطيعة بين الناس سواءً كان ذلك بين العائلات أو بين الأصدقاء.

 

يقول أحدهم: ما لي أرى (سوء الظن) منتشراً ومتفشياً كتفشي النار بالهشيم؟

ما لي أرى الناس يُسيئون الظن ببعضهم البعض، فإن ابتسم الأخ لأخيه ظنّ أنه ابتسم لا محبةً له ولكن طمعاً في الحصول على شيءٍ ما، وإن نصحه في أمرٍ ما ظنّ أن النصيحة هي للإساءة أو لتعكير مزاجه أو للتقليل من شأنه!

ما لي أرى (سوء الظن) قد انتشر حتى بين أقرب الأقارب، حتى داخل الأسر وبين الأزواج. كم من قصةٍ مأساويةٍ سمعنا عنها أو شاهدناها كانت نتيجة سوء ظن الناس ببعضهم؟ وكم من تفرقٍ وقطيعةٍ بين الأهل والأحباب والأصحاب كان سببه (سوء الظن)؟

 

أحبتي .. أحد رجال الاختصاص كتب نصيحةً للتخلي عن (سوء الظن) قال فيها: لنتجنب (سوء الظن) بعضنا ببعضٍ؛ فمسيء الظن لا يُعاني فقط من الغيرة والحسد والبغضاء، بل إنه يوقع نفسه في الحرام والشُبهات؛ فينظر إليه الآخرون نظرة ازدراءٍ لسوء ظنه فهو لا يراعي الآداب والأخلاق الإسلامية التي دعانا إليها ديننا الحنيف، فلنتجنب (سوء الظن) حتى نحافظ على علاقاتنا الإنسانية سليمةً معافاةً من كل شوائب الأخلاق السيئة المذمومة؛ ونحافظ على مجتمعاتنا صالحةً متماسكة؛ لذا، فقبل أن يبدأ الشيطان بالوسوسة لنا بإساءة الظن بالآخرين علينا أن نحاول التماس الأعذار لهم؛ فلعلنا بسوء ظننا بهم نظلمهم ونخسر قربهم ومحبتهم واهتمامهم بنا. فلنضع (سوء الظن) جانباً حتى ننعم بحياةٍ هنيةٍ هادئةٍ مستقرةٍ، تخلو من تكدّر النفوس الذي ينشأ من جرّاء الظن السيء.

اللهم إنّا نعوذ بك من (سوء الظنّ) ومن الحقد والغل والحسد والشحناء والبغضاء والكُرْه، ومن أن نحمل في قلوبنا سوءاً نحو غيرنا، ونسألك اللهم قلوباً رحيمةً رقيقةً نظيفةً هيّنةً ليّنةً، تخشاك وتحبّك وتتقيك، وتُحسن الظن بخلقك، وطهّر اللهم قلوبنا، وأعنّا على العفو والتماس الأعذار.

 

https://bit.ly/3vWNgPk

الجمعة، 22 أكتوبر 2021

كفران نعم الله

 

خاطرة الجمعة /314


الجمعة 22 أكتوبر 2021م

(كفران نعم الله)

 

تقول صاحبة القصة: سأحكي لكم قصتي، خذوا منها العظة والعبرة، أكتب لكم قصتي ودموعي على خديّ، دموع الألم، دموع الندم والحسرة، ودموع الفراق. أراد ربي لي أن أكون عبرةً للكثير من النساء اللاتي ينعمن في حياتهن بنعم كثيرةٍ لا يشكرن الله عليها، رغم علمهن بأنه بالشكر تدوم النعم.

أنا امرأةٌ عصبيةٌ جداً، تزوجتُ في سنٍ مبكرةٍ، وأنجبت سارة وخالد، كانا كبقية الأطفال يلعبان ويجريان ويتشاجران ويخربان، لكني ما كنتُ أحتملهما؛ أصرخ عليهما وأضربهما كثيراً، وكنتُ دائماً أقول: "ليتني ما تزوجتُ، ليتني ما حملتُ بهما، ليتني ما أنجبتهما، أنا دفنتُ شبابي"، وأنا وأنا وأنا…. كنتُ إنسانةً جاهلةً بمعنى الكلمة، ولا أحمد الله تعالى، ما قدّرتُ هذه النعم التي أنعم بها عليّ؛ فقد كان عندي زوجٌ حنونٌ في الوقت الذي حُرمت الكثير من النساء نعمة الزواج، وإذا تزوجن فربما لا يكون أزواجهن بحنية زوجي، وعندي طفلان جميلان ومتعافيان في الوقت الذي حُرم فيه الكثير من نعمة الأطفال. ما كنتُ أدعو لابني وابنتي بالهداية والصلاح، بل على العكس، كنتُ أدعو عليهما بالموت؛ وأقول: "الله يأخذكما، الله يلعنكما، ذبحتماني، جننتماني" وغير ذلك من هذه الكلمات القبيحة، أستغفر الله وأتوب إليه.

وفي أحد الأيام زادت شقاوتهما ولعبهما ولم يناما حتى صرختُ عليهما وضربتهما ودعوتُ عليهما: "إلهي تناما ولا تستيقظان"، دعوتُ عليهما بالموت، لا زالت كلماتي ترن في أُذنيّ، وأغلقتُ عليهما الباب ونسيتُ الدفاية مشتعلةً. كنتُ كل يومٍ أتفقدهما وأغطيهما وأُقبِلهما وأندم على ضربي لهما وصراخي عليهما وأُغلق الدفاية، إلا في ذلك اليوم، سبحان الله، نسيتُ أن أطفئ الدفاية؛ كنتُ متعبةً، نمتُ ولم أشعر بشيءٍ، ولم أستيقظ إلا على رائحة الدخان، أيقظتُ زوجي وخرجنا من الغرفة مفجوعين، الدخان في كل مكانٍ والنار في غرفة أولادي تلتهمهم دون رحمةٍ أو شفقةٍ، وأنا أصرخ مستغيثةً بالجيران. حضر رجال الدفاع المدني، وأخرجوا جثتيّ الطفلين متفحمتين أمام عينيّ، لن أنسى منظرهما ما حييتُ، تذكرتُ ضربي لهما وكلماتي الأخيرة عندما دعوتُ عليهما. يا ربِ ليتهما يعودان للحياة، ليتهما يعودان للعب والشقاوة والكتابة على الجدران والصراخ. لحظاتٌ صعبةٌ مررتُ بها أنا وزوجي. لم أكن أحمد الله على هذه النعم، ولم أتعامل بالحسنى مع ابني وابنتي .. ندمتُ ولكن وقت لا ينفع الندم. لي سنةٌ ونصف أتلقى علاجاً نفسياً. وحتى يكتمل عقابي -الذي أستحقه- فقد ضعفت لدي إمكانية الحمل بسبب مضادات الاكتئاب التي أتناولها، ولا أستطيع العيش بدونها.

أحكي لكم قصتي وألمي وندمي، والدموع لا تفارق خدي.

عيشوا مع أبنائكم كل تفاصيل حياتهم، العبوا معهم، شاركوهم أفراحهم وهمومهم الصغيرة، وحنوا عليهم، واحتضنوهم واصبروا على شقاوتهم فإنها أجمل اللحظات التي افتقدتها وحُرمتُ منها.

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ عن (كفران نعم الله) والجحود بها، ورغم أن نعم الله كثيرةٌ؛ ظاهرةً وباطنةً، وتعم جميع الناس، إلا أنهم يتفاوتون في شكرها وحمد الله عليها؛ منهم من هو دائم الشكر عليها، ومنهم المقتصد، ومنهم من ألِفَ النعم وتعوَّد عليها فهو إما نادر الشكر أو لا يقوم بواجب الشكر أبداً، ومنهم من يتلقى نعم الله بالسُخط والتأفف والشكوى من قلتها أو تأخرها أو لأنها لم تكن كما يريد! أما أسوأ الناس فهو من يكفر هذه النعم ويجحد بها، ويُزين له الشيطان أنه لو تخلص منها لارتاح وسعد في حياته وهنأ في معيشته؛ فتراه يدعو الله أن يحرمه منها! لقد عميت بصريته، وعندما يستجيب الله دعواته تراه نادماً وقت لا ينفع الندم.

 

وعن (كفران نعم الله)، قصّ لنا الله سبحانه وتعالى القصص في كتابه الكريم لنعتبر؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، فمن الأقوام الذين كفروا بنعم الله وجحدوا بها قوم سبأ؛ يقول تعالى عنهم: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ . وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ . فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾.

ومنهم كذلك بني إسرائيل؛ أنعم الله عليهم بالكثير، فلما لم يوفوا حقه في شكر تلك النعم كان الجزاء تبديل هذه النعم إلى نقمٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. ومن هؤلاء الأقوام كفار قريش؛ يقول تعالى عنهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾. وهذه قرية كفرت بأنعم الله يقول عنها تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ فقد مضت سنة الله في خلقه أن من كفر نعمة الله ولم يشكر الله عليها؛ يسلبها الله منه ويذيقه ضدها.

 

ومِن الأفراد مَن كفر بنعم الله وجحد بها، مثل أصحاب الجنة يوم الحصاد؛ علموا أنّ في مالهم وثمارهم حقاً لله عليهم، لكنهم بخلوا وخططوا لمنع المساكين؛ يقول تعالى عنهم: ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ . فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ﴾، فماذا وجدوا؟ وجدوا عقاب الله قد سبقهم إلى جنتهم؛ لعلم الله بسوء نيتهم وبمكرهم؛ يقول تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ أي صارت جنتهم كالليل الأسود، أو مثل الزرع إذا حُصِد صار هشيماً يبساً، فكان ندمهم وكانت حسرتهم، وأخذ كلٌ منهم يلوم الآخر؛ يقول تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾.

ومثل صاحب الجنة؛ يقول تعالى عنه: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾؛ فقاده غروره وكفره إلى غضب الله عزّ وجلّ عليه واستحق العقاب وتبدل حاله؛ فما كان منه إلا أن أظهر ندمه وقت لا ينفع الندم؛ يقول تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾.

 

يقول أهل العلم لا يظنن أحدٌ أن كُفر النعمة وعدم شكر الله عليها يتعلق باللسان فقط، كأن يمتنع عن قول: الحمد لله، الشكر لله، بل إن معنى كُفر النعمة أن يستعمل النعمة في غير الحكمة التي أريدت بها، ومن ذلك: البغي بالمال، والترفع به على خلق الله والتعاظم عليهم، والتجبر بهم، والفساد فيهم؛ كما فعل قارون الذي كان من قوم موسى فأهلكه البغي لكثرة ماله. ومن كُفر النعمة استعمالها في معصية الله؛ فمن استخدم ماله وتقوَّى به على ارتكاب المعاصي، وامتنع عن أداء زكاته وتعامل بالربا كان ذلك كفرًا بنعمة المال، فكان ذلك سببًا في زوال هذه النعمة والإصابة بضدها وهو الفقر. وقد يغدق الله عزَّ وجلَّ على عبدٍ بالنعم الكثيرة ولا يكون ذلك لمحبة الله له ورضاه عنه وأنه أهلٌ لهذه النعم ومستحقٌ لها، فقد يكون ذلك استدراجاً واختباراً له أيشكر أم يكفر؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.

 

إن نعم الله علينا كثيرةٌ لا تُعد ولا تُحصى؛ يقول تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. و(كفران نعم الله) يُغضب الله سبحانه وتعالى، أما شكرها فهو موصلٌ لمرضاته؛ يقول تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾. وبالشكر تدوم النعم وتزداد، أما عدم الشكر فهو مدعاةٌ لغضب الله وعذابه؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. وفي الشكر أمانٌ من عذاب الله؛ يقول تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾.

وعن شكر النعم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا].

 

أحبتي .. الشكر حافظٌ للنعم الموجودة وجالبٌ للنعم المفقودة؛ فإن النعمة إذا شُكرت قرَّت ونمت وزادت وإذا كُفرت فرَّت وغابت وبارت. فلنحرص على شكر ربنا على نعمائه وحمده على فضله وعطائه، ولنسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمه، وأن يعيذنا من تبديل النعمة كفراً، ولنأخذ العِظة والعبرة مما قصّ الله علينا من أخبار السابقين، فإن السعيد من وُعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره. لنتقي الله، ولنحذر شديد الحذر من (كفران نعم الله) بأي صورةٍ من الصور، وليعلم من كفر بنعم الله أنه إن لم يبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله فلا مناص له من أحد أمرين: إما عقوبةٌ معجلةٌ تزول بها النعمة وتتحول فيها العافية وتحل النقمة، أو أن يُمَد له في الإنعام على وجه الاستدراج؛ يقول تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

‏اللهم اجعلنا من الشاكرين، وألهمنا الحمد والشكر لك على جميع أنعمك وأفضالك، واجعل قلوبنا وألسنتنا تلهج بالثناء عليك، ولا تحرمنا ربنا من نعمك وآلائك بغفلتنا وقلة شكرنا، وأدم اللهم علينا نعمك ظاهرةً وباطنةً، وأعنا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

 

https://bit.ly/2Zciwy1

الجمعة، 15 أكتوبر 2021

من صور البر بالوالدين

 

خاطرة الجمعة /313


الجمعة 15 أكتوبر 2021م

(من صور البر بالوالدين)

 

للبر بالوالدين صورٌ كثيرةٌ منها ما يرويها هذا الزوج؛ كتب يقول:

أم زوجتي كبيرةٌ في السنّ، وهي أميةٌ لا تقرأ ولا تكتب، ومنذ أن تزوجتُ وزوجتي في كل رمضان، تتصل على أمها بالهاتف -لبُعد المسافة بيننا- قرابة الساعة 12 ليلاً، وتقرأ زوجتي القرآن كلمةً كلمةً، وأمها تُردّد خلفها كلمةً كلمةً، حتى تُنهي معها جزءاً کاملاً، ويستغرق هذا الجهد من الوقت قُرابة الساعة والنصف. وهذه حالهما ما شاء الله كل ليلةٍ، وفي ختام التلاوة تَغمر الأم ابنتها بالدعوات الطيبات المباركات، التي وأنتَ تسمعها لا تتمنى إلا أن تكون أنت المدعو له بها! فإذا جاءت آخر ليلةٍ من رمضان، تختم زوجتي وأمها القرآن كاملاً؛ فلا أستطيع أن أُحدّثك عن شدة تلك المشاعر الإيمانية، وذلك البكاء والفرح الذي لا تقوم له الدنيا بأسرها، لختمهما القرآن، وكأنك ترى معنى قول الله عز وجل يتمثل أمامك واقعاً حياً: ﴿قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾ أي وربي فبذلك فليفرحوا حق الفرح!!

يعلق ناشر هذه القصة قائلاً: هل أتعجب من صبر البنت وإحسانها لأمها، كنوعٍ فريدٍ من البرّ؟ أم من صبر الأم ومكابدتها لتنال أجر تلاوة القرآن بالرغم من أنها أُمية؟ أم من صبر الزوج وإكرامه لهما بوقته وتشجيعه لزوجته على أن تبرّ بأمها بهذا الأسلوب؟ أم أتعجب من توفيق الله لهم جميعاً في فعل مثل هذا الخير، والمسارعة إلى الطاعات، مثل هذه الطاعة التي هي (من صور البر بالوالدين).

 

وفي قصةٍ أخرى معبرةٍ -رغم أن صاحبها انتبه لنفسه متأخراً جداً- يقول صاحب القصة:

بعد 21 سنة من زواجي، وجدتُ بريقاً جديداً من الحب؛ قبل فترةٍ خرجتُ مع امرأةٍ غير زوجتي، وكانت تلك فكرة زوجتي، حيث بادرتني بقولها: "أعلم جيداً كم تحبها"! المرأة التي أرادت زوجتي أن أخرج وأقضي وقتاً معها كانت أمي التي ترملت منذ 19 سنة، ولكن مشاغل العمل، وحياتي اليومية، ومسئولية رعاية زوجة وثلاثة أطفالٍ، ومسؤولياتٍ أخرى مختلفةً، جعلتني لا أزورها إلا نادراً! في يومٍ اتصلتُ بها ودعوتها للخروج معي والعشاء في أحد المطاعم؛ سألتني: "هل أنت بخير؟!"؛ لأنها غير معتادةٍ على مكالماتٍ متأخرةٍ وتقلق منها، فقلت لها: "نعم؛ أنا بخيرٍ والحمد لله، ولكني أريد أن أقضي وقتاً معكِ يا أمي"، قالت: "نحن -أنا وأنتَ- فقط؟!". قلتُ: "نعم"، فكرتْ قليلاً ثم قالت: "أحب ذلك كثيراً"، واتفقنا على موعدٍ يوم الخميس التالي. في ذلك اليوم وبعد العمل، مررتُ عليها وأخذتها، كنتُ مضطرباً، وعندما وصلتُ وجدتها هي أيضاً قلقة. كانت تنتظر عند الباب؛ مرتديةً ملابس جميلةً، ويبدو أن الفستان الذي ترتديه هو آخر فستانٍ قد اشتراه أبي لها قبل وفاته. ابتسمت أمي وقالت: "أخبرتُ جميع صديقاتي وجيراني أنني سأخرج اليوم مع ابني، وهُم فرحون لفرحي، ومتلهفون لاستماع الأخبار التي سأقصها عليهم بعد عودتي!". ذهبنا إلى مطعمٍ عاديٍ، ولكنه جميلٌ وهادئ، تمسكت أمي بذراعي وكأنها السيدة الأولى. بعد أن جلسنا؛ بدأتُ أقرأ لأمي قائمة الطعام؛ حيث أنها لا تستطيع أن تقرأ إلا الأحرف الكبيرة لضعف نظرها. وبينما كنتُ أقرأ كانت تنظر إليّ بابتسامةٍ عريضةٍ على شفتيها المجعدتين، وقاطعتني قائلةً: "كنتُ أنا من أقرأ لك وأنت صغير!"، أجبتها: "حان الآن موعد تسديد شيءٍ من دَيني، ارتاحي أنت يا أمي". تحدثنا كثيراً أثناء العشاء، لم يكن هناك أي شيءٍ غير عاديٍ؛ قصصٌ قديمةٌ، وقصصٌ جديدةٌ، لدرجة أننا نسينا الوقت وجلسنا بالمطعم إلى ما بعد منتصف الليل! عندما رجعنا، ووصلنا إلى باب بيتها أعربتُ لها عن سعادتي وسروري لهذه السهرة الجميلة، شكرتها وطلبتُ منها أن نكرر ذلك ونلتقي مرةً أخرى في سهرةٍ مماثلةٍ؛ قالت: "أوافق أن نخرج سوياً مرةً أخرى، ولكن على حسابي"، قبّلتُ يدها وودعتها. بعد أيامٍ قليلةٍ؛ تُوفيت أمي بنوبةٍ قلبيةٍ. حدث ذلك بسرعةٍ كبيرةٍ، حتى إني لم أتمكن من عمل أي شيءٍ لها. وبعد عدة أيامٍ وصلتني عبر البريد من المطعم الذي تعشينا به أنا وهي -رحمها الله- دعوةٌ للعشاء لشخصين، مع ملاحظةٍ مكتوبةٍ بخط يد أمي: "دفعتُ الفاتورة مقدماً، كنتُ أعلم أنني لن أكون موجودةً. هذا العشاء لشخصين؛ لك ولزوجتك؛ لأنك لن تقدّر ما معنى تلك الليلة بالنسبة لي ... أحبك يا ولدي". إنها صورةٌ أخرى (من صور البر بالوالدين).

 

وهذه قصةٌ من قصص البر بالوالدين أيضاً؛ إذ قضى الله سبحانه وتعالى أن ينشأ الطفل محمدٌ يتيم الأب، غير أن رحمة الله أدركت هذا الغلام؛ فحنن عليه قلب أمه فكانت له أماً وأباً، وعملت في مهنة خياطة الثياب؛ كي تصرف على نفسها وعلى ولدها. تمر السنون ويكبر الصغير ويدخل الجامعة ويتخرج منها ويلتحق بوظيفةٍ مرموقةٍ. في الشهر الأول من وظيفته لملمت أمه أدوات الخياطة وأهدتها إلى جارتها المحتاجة، أما محمدٌ فيعد الأيام لاستلام أول راتبٍ وقد غرق في التفكير: كيف يرد جميل أمه؟! لكن القدر لم يُمهله لذلك؛ إذ تُوفيت أمه؛ فعزم بينه وبين نفسه على أن يرد جميلها حتى وهي تحت التراب؛ أخذ يقتطع ربع راتبه شهرياً ويجعله صدقةً جاريةً لوالدته، حفر لها عشرات الآبار، وبالغ في البر والمعروف، ولم يقطع هذا الصنيع أبداً، حتى بعد أن تزوج وأنجب وكبر ولده وصار في المرحلة الثانوية، فما يزال ربع دخله موقوفاً لأمه، وكانت أكثر صدقاته في برادات الماء عند أبواب المساجد. وفي يومٍ من الأيام وجد عاملاً يقوم بتركيب براد ماءٍ عند باب المسجد الذي يُصلي فيه، تعجب محمدٌ من نفسه كيف غفل عن مسجد الحي حتى فاز به هذا المحسن؟! قطع تداعي أفكاره صوت إمام المسجد وهو يشكره على التبرع للمسجد بهذا المبرد، قال محمدٌ: "لكني لم أفعل ذلك!"، قال له الإمام: "بلى؛ جاءني ابنك عبد الله وأعطاني مبلغاً من المال وطلب مني شراء براد ماءٍ للمسجد، قائلاً إنه سيوقفه صدقةً جاريةً لأبيه". عاد محمدٌ لابنه عبد الله مسروراً بصنيعه، وسأله كيف جئتَ بالمبلغ؟ ليتفاجأ بأن ابنه مضى عليه خمس سنواتٍ يجمع الريال إلى الريال حتى استوفى قيمة براد الماء! وقال: "رأيتك يا أبي -منذ خرجتُ إلى الدنيا- تفعل هذا مع والدتك، فأردتُ أن أفعل ذلك معك"، ثم بكى عبد الله وبكى محمدٌ، ولو نطقت دموع عيونهما لقالت: "إن بركة بر الوالدين تُرى في الدنيا قبل الآخرة! بروا آباءكم، ولو ماتوا، يبركم أبناؤكم".

 

أحبتي في الله .. أوصانا المولى عزّ وجلّ بالإحسان إلى والدينا؛ يقول تعالى في أربع مواضع في القرآن الكريم: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وعندما سُئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: [الصَّلاةُ لوقتِها]، قيل: ثمَّ أيُّ؟ قال: [بِرُّ الوالدَيْنِ]. كما أن الله سبحانه وتعالى يزيد في رزق البارّ بوالديه ويمدّ في عمره؛ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [من سرَّه أن يُعظِمَ اللهُ رزقَه، وأن يُمِدَّ في أجَلِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه]. وتُكتب الاستجابة لدعاء الوالد لابنه البارّ؛ قال الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-: [ثَلاثُ دَعَواتٍ لا تُرَدُّ] منها [دَعْوةُ الوالِدِ لِولدِه]. كما أن البرّ بالوالدين هو من السعي في سبيل الله؛ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [... وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...].

 

يقول العلماء إنّ البر هو الخضوع والطّاعة، وهو عكس العقوق والعصيّان. وبر الوالديّن من أسبابِ دخول الناس الجنّة. وإنّ أقل ما يمكن للإنسان فعلهُ لوالديه، تقديراً لتعبهما وجهدهما تجاهه؛ هو برّهما وطاعتّهما ومساعدتهما في كل ما يحتاجانه خاصةً عند تقدمهما بالعمر. وإنّ (من صور البر بالوالدين) الدعاء لهما، والترويح عنهما، والمبالغة في توقيرهما واحترامهما، ومدحهما وذكر فضلهما، وحُسن الاستماع إليهما، وإعطاؤهما الاهتمام إذا تكلّما، وإشعارهما بالتفاعل بما يناسب كلامهما، وزيارتهما، والاتصال بهما إن كانت الزيارات صعبةً، وإجابة ندائهما دون تراخٍ.

ومن البر بهما بعد وفاتهما: الدعاء والاستغفار لهما؛ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ] منها [... أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وأداء بعض العبادات عنهما بعد وفاتهما؛ كالحجّ، أو قضاء الصيام، كما أنه من حق الوالدين بعد موتهما: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما. و(من صور البر بالوالدين) إنشاء وقفٍ خيريٍ باسمهما، أو حفر آبارٍ، أو بناء مساجدٍ، أو طباعة مصاحف وتوزيعها، وما إلى ذلك، من نشرٍ للخير والعلم، وبذلك ينال الوالدان الأجور المستمرّة حتى بعد وفاتهما.

 

أحبتي .. إنّ والدينا أحسنا إلينا في ضعفنا، وربيانا حتى بلغنا أشدنا، فلنُحسن إلى من أحسن إلينا. والوالدان بابان للخير مفتوحان أمامنا فلنغتنم الفرصة قبل أن يُغلقا، ولنعلم أننا مهما فعلنا (من صور البر بالوالدين) فلن نرد شيئاً من جميلهما علينا. ولنتذكر أنّ مَن قال أفٍ فقد عقَّ والديه، فكيف بمن قال أعظم من ذلك، وكيف بمن قاطعهما أو أساء إليهما، إنّ كل معصيةٍ تؤخَر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة، إلا العقوق؛ فإنّه يُعجَل له بعقوبتها في الدنيا، وكما تدين تُدان.

اللهم إنا نسألك الهداية لأنفسنا ولأبنائنا حتى نكون جميعاً من البررة بوالدينا، عسى أن ننال رضاك ربنا، ونُبعد أنفسنا عن غضبك وسخطك. ولا حول ولا قوة إلا بك.

 

https://bit.ly/3FSCGgE

الجمعة، 8 أكتوبر 2021

الإبداع في عمل الخير

 

خاطرة الجمعة /312


الجمعة 8 أكتوبر 2021م

(الإبداع في عمل الخير)

 

وقف رجلٌ بسيارته في مكانٍ يتجمع فيه عمال اليومية، نزل من سيارته، وقال للعمال المتواجدين: "مَن يريد أن يعمل مقابل عشرين جنيهاً في اليوم فليركب معي السيارة"، اعترض معظم العمال على هذا المبلغ القليل؛ وقالوا له بغضبٍ: "أنت تستغل فقرنا وقلة فرص العمل"، وأخبروه أن أقل أجرٍ يوميٍ لأي عاملٍ لا يقل عن مائة جنيه، رفض الرجل وقال: "أنتم أحرارٌ، لن أدفع أكثر من عشرين جنيهاً". انصرف عنه العمال من الشباب والرجال الأشداء، وركب معه السيارة خمسة عمالٍ من كبار السن، يغلب على مظهرهم الفقر وشدة البؤس، انطلق بهم بسيارته. توقف الرجل عند متجرٍ كبير، ونزل من السيارة، واشترى لكل واحدٍ من العمال الخمسة: كيس دقيق 10 كيلو، وكيس سكر 5 كيلو، وكيس أرز 5 كيلو، وزجاجة زيت طعام 3 لتر، وأعطى كل واحدٍ منهم مبلغ مائة جنيهٍ، وقال لهم: "انتهى عملكم معي، وتستطيعون الآن العودة إلى بيوتكم". ثم انطلق بسيارته مسرعاً وسط دهشة العمال البائسين، الذين لم يُتِح لهم الرجل فرصة أن يشكروه!

 

أحبتي في الله .. كان غرض الرجل أن تصل صدقته لمن يستحقها بالفعل، إلى أكثر الناس احتياجاً، ممن لا يتسولون أو يسألون الناس إلحافاً، وإنما خرجوا متوكلين على الله، يعرضون جهدهم للإيجار اليومي لمن يحتاجه. لم يتواكلوا، بل بذلوا ما استطاعوا من جهدٍ بإخلاصٍ من غير ادعاءٍ ولا تَصَنُّع. هُم من المعدمين الذين خرجوا للعمل من أجل كسب أجرٍ حلالٍ حتى ولو كان أقل من القليل، مقابل أعمالٍ بدنيةٍ شاقةٍ لا يعلمون مُسبقاً إن كان مُقدَّراً لهم العمل أم لا، وإذا قُدِّر كيف وأين سيكون؟ ولمن سوف يعملون؟

كان ذلك موقفاً من مواقف (الإبداع في عمل الخير)؛ إذ فكر الرجل بذكاءٍ، وخطط للموقف بعنايةٍ، ونفذه بدقة.

وهناك مواقف أخرى تُبين أن (الإبداع في عمل الخير) قد يأتي بشكلٍ عفويٍ، بغير تخطيطٍ مسبقٍ ربما هو نتاج تفكير اللحظة أو هو فتحٌ من الله سبحانه وتعالى وإلهامٌ منه بحُسن التصرف؛ ومن ذلك ما حدث مع هذا الشاب الذي كتب يقول:

ذات يومٍ كنتُ في أحد المتاجر الاستهلاكية بمدينة «مكة»، وبعد أن انتهيتُ من انتقاء أغراضي ووضعتها في السلة ذهبتُ إلى المحاسب كي أسدد ثمنها، وقفتُ في الصف، وكان يقف أمامي شابٌ، تقف أمامه سيدةٌ معها بنتان صغيرتان، عندما وصلت السيدة في دورها إلى المحاسب أدخل بيانات مشترياتها إلى الحاسوب ثم قال لها: "حسابك 145ريالاً"؛ فمدت يدها في حقيبتها تبحث عن نقود، جمعت مائة ريالٍ عشرات، وأعطت البنتان لأمهما بعض ريالاتٍ أخرى إلى أن وصل المبلغ إلى 125ريالاً، حينها ظهر الارتباك على الأم؛ حاولت إرجاع بعض الأغراض حتى تُقلل الحساب. قالت لها إحدى بناتها: "أمي، هذه لا نحتاجها" وقالت الأخرى: "وهذه ليست مهمة"! فجأةً، رأيتُ الشاب الذي يقف خلفهم يرمي بورقةٍ من فئة 50 ريالاً تحت قدمي السيدة، ثم خاطبها بمنتهى الهدوء والأدب قائلاً: "يا أمي، انتبهي هذه النقود وقعت من حقيبتك"، وانحنى وأخذ الخمسين ريالاً من الأرض وأعطاها لها، شكرته السيدة وأخذت المبلغ وأكملت الحساب وانصرفت، لكنها وقفت للحظةٍ - وهي تهم بالخروج من باب المتجر- ونظرت إلى الشاب نظرةً تحمل كل معاني الشكر، عندما أحس الشاب بذلك أدار وجهه بسرعةٍ، كأنما لا يريد أن يتلقى منها مقابل عمله ولو كان نظرة شكر!

تركتُ دوري في الصف وتنحيتُ جانباً حتى أنهى الشاب حسابه وهَمّ بالمغادرة فلحقته مُسرعاً وقلت له: "انتظر يا أخي، أريد أن أتحدث معك"، وأخبرته أني شاهدتُ ما قام به منذ قليلٍ مع تلك السيدة، وأني معجبٌ بحُسن تصرفه وسرعة بديهته، وسألته: "بالله عليك، كيف واتتك الفكرة بهذه السرعة ونفذتها بهذا الاتقان؟"، في البداية حاول الإنكار، ولكن بعد أن أخبرته بأني لستُ من سكان «مكة» وأني أعتمر وسوف أرجع إلى مدينتي والأغلب أني لن أراه مرةً أخرى، اطمأن وقال لي: "واللهِ يا أخي إني كنتُ متحيراً على مدى الدقائق التي كانوا يجمعون فيها ما معهم من نقودٍ لدفع الحساب، لكن ربك سبحانه وتعالى ألهمني هذا التصرف حتى لا أُحرِج الأم أمام ابنتيها، لم تكن حيلةً مني ولا حُسن تصرف ولا سرعة بديهة، وبالله عليك لا تفتني واتركني أذهب"، قلتُ له: "يا أخي أرجو الله أن تكون ممن قال عنهم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾"؛ فدمعت عيناه واستأذن ومشى إلى سيارته مُسرعاً.

 

كثيرٌ من الناس يقومون بعمل الخير، لكن قليلاً منهم من يُبدع في ذلك. يقول أهل الاختصاص عن الإبداع إنه "أن ترى ما لا يراه الآخرون"، أو "أن ترى المألوف بطريقةٍ غير مألوفة"، أو "هو تنظيم الأفكار وظهورها في بناءٍ جديدٍ انطلاقاً من عناصر موجودة بالفعل"، أو "هو القدرة على حل المشكلات بأساليب جديدةٍ غير مسبوقة".

إن (الإبداع في عمل الخير) ليست له صورةٌ واحدةٌ، وإلا ما كان إبداعاً، بل إن كانت هناك فكرةٌ تم تنفيذها بالفعل في هذا المجال فهي إبداعٌ عند تنفيذها لأول مرةٍ فقط، تتحول بعد ذلك عند تكرار تنفيذها إلى فكرةٍ طيبةٍ ومفيدةٍ لكنها تفقد صفة الإبداع.

(الإبداع في عمل الخير) إذن عمليةٌ مستمرةٌ متجددةٌ، وهي بهذا المعنى فرصةٌ للتنافس بين المسلمين توصلهم بإذن الله وبرحمته إلى جنات النعيم؛ يقول المولى عزَّ وجلّ: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

إن من أهم صفات المبدعين في عمل الخير المسارعة إليه؛ ففيها اقتناص فرصةٍ قد لا تتكرر، فضلاً عن أن المسارعة في الخيرات من صفات الصالحين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وهي من صفات المؤمنين الذين يخشون ربهم؛ يقول تعالى عنهم: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، كما أنها من أسباب استجابة الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾.

ومن صور (الإبداع في عمل الخير) الاهتمام بالصدقات الجارية أكثر من الصدقات العارضة، وفي كلٍ خير، لكن الصدقات الجارية تضمن استمرارية عمل الخير دون توقف، حتى أنه يستمر عقوداً وأحقاباً، وكثيراً ما يمتد إلى ما بعد وفاة المؤسسين فيكون ثواباً مستمراً لهم. ومن ذلك أيضاً الاتجاه من عمل الخير الفردي إلى عمل الخير المؤسسي الذي يكفل وصول الإعانات والمساعدات لمستحقيها الحقيقيين الذين ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾.

 

أحبتي .. أدعو الله أن يجعلنا ممن قال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، وأسأل الله أن يجعلنا ممن يُنفقون في سبيله وابتغاء مرضاته، وممن يبذلون الجهد في (الإبداع في عمل الخير) كي يصل عملهم إلى الفقراء والمساكين المحتاجين بالفعل، المتعففين، وليس إلى من يدَّعون الفقر، وهُم للأسف كُثُر.

هدانا الله وأرشدنا إلى طريق الخير، وألهمنا سرعة البديهة وحُسن التصرف، ونزع من نفوسنا الشُح والبُخل والتقتير، وخلَّص صدقاتنا من المن والأذى، وتقبلها منا، وأبعدنا عن النفاق والمراءاة والعُجب بالنفس.

 

https://bit.ly/3iFpUrR

الجمعة، 1 أكتوبر 2021

ما نقصت صدقةٌ من مال

 

خاطرة الجمعة /311


الجمعة 1 أكتوبر 2021م

(ما نقصت صدقةٌ من مال)

 

يقول صاحب مطعمٍ في إحدى محافظات السودان الشرقية:

كنا في المطعم نستعد لتقديم وجبة العشاء في إحدى ليالي الخريف، وبعد تجهيز الطعام هطلت الأمطار بشدة، وأظلمت علينا السماء، وانقطعت الكهرباء، وبدأ أهل السوق في المغادرة، فأشعلنا الفوانيس واتفقنا على المغادرة بعد هدوء الأحوال، وعددنا الطعام الذي صنعناه من الخسائر، إذ لا توجد مبرداتٌ كافية، والمبردات الموجودة لن تنفع مع انقطاع الكهرباء.

في أثناء انشغالنا بالحديث رأيتُ في ظل الفوانيس شيئاً يتحرك في الجهة المقابلة للمطعم؛ فحملتُ فانوساً وعصا لظني أنه لصٌ يريد كسر أحد الدكاكين، اقتربتُ من ذلك الشيء، وعلى ضوء الفانوس الضعيف، رأيتُ امرأةً معها طفلان في غاية الضعف والتعب؛ فسألتها إن كانت تحتاج إلى شيءٍ فقالت: "أريد طعاماً لي ولأولادي" فقدّمتُ لها أحسن ما عندي من الطعام، وأعطيتها بعض المال؛ فبكت المرأة بكاءً شديداً؛ فقلتُ: "ما الذي يبكيكِ؟"، فقالت: "تُوُفِّيَ زوجي، وهذا ثالث يومٍ لا أجد فيه ما يسد جوعي وجوع أطفالي"، قلتُ لها: "خيراً" وتركتها؛ فسمعتُها تتمتم بكلماتٍ منها: "ربي يوسع عليك الليلة كما وسعتَ على أولادي"، قلتُ: "آمين".. وإن كنا خسرنا في تلك الليلة، فالأمر كله لله، والمؤمن لا يقنط من رحمة الله.

كانت الأمطار تهطل، والريح تعصف، وأنا أستعد لإغلاق المطعم وأحسب الخسائر، فرفعتُ رأسي فجأةً على صوت حافلةٍ تحمل مسافرين تقف أمام باب المطعم، لا أدري من أين جاءت، نزل سائق الحافلة وسأل: "هل عندكم طعام؟"، قلتُ: "نعم"؛ فنزل من الحافلة أكثر من أربعين مسافراً، واشتروا جميع ما لدينا من الطعام، وصنعنا لهم طعاماً آخر، وحتى بقايا الخبز الجاف بعناها عليهم مع الشوربة. وبعد ذهابهم جلستُ أحسب الأرباح ومعي العمال في عجبٍ من هذا التحول المفاجئ والربح السريع. قال أحد العمال: "ماذا عملتَ من عملٍ صالحٍ اليوم؟!"، فانتفضتُ كالملدوغ وأنا أتذكر دعوة المرأة وهي تقول: "ربي يوسع عليك الليلة كما وسعتَ على أولادي"؛ فحمدتُ الله، ثم خرجتُ تحت المطر أبحث عنها فلم أجدها، وتذكرتُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ]، ساق الله المطر لتَشبَع المرأة وصغارها، وساق الحافلة ليجزي المُنفق على إنفاقه، وهكذا الدنيا يُقَلِّبها الله بين عباده ليختبرهم ويبلو أخبارهم وينظر كيف يعملون ﴿ولَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذينَ آمَنوا وكانُوا يَتَّقُون﴾.

 

أحبتي في الله .. إنه ثواب الصدقة، لا يتأخر كثيراً، يأتي سريعاً ووفيراً بقدر إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، و(ما نقصت صدقةٌ من مال) وإنما هي تزكيه وتزيده نماءً في الدنيا، فضلاً عن ثواب الآخرة وما ينتظر المتصدق من أجرٍ عظيم.

لا شك في أنّ الصدقة أحد أكبر أبواب الخير والتَقرُب من الله تعالى، لذا فقد تكرر ذِكر الصدقة في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله وفي أوجه الخير وفي تقديم الصدقات: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.

ويقول تعالى مُبيناً عظم أجر الصدقة ومضاعفته عزَّ وجلَّ لها: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم﴾، ويقول سبحانه: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾.

ويقول تعالى مُذكراً بأن المال مال الله، وأنه إذا صُرف في الصدقات وأوجه الخير فهو يعود إلى المتصدق بالخير ويزيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

ويقول تعالى مُوضحاً أن الصدقة تُيسِّر على صاحبها أعمال الخير التي تكون سبباً في دخوله الجنة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.

ويقول تعالى مُنبهاً إلى أن الإنسان في لحظات الموت يتمنى لو يؤخر الله أجله حتى يزيد من صدقاته التي ترفع من درجته وتجعله من الصالحين: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.

 

ويحثنا الله سبحانه وتعالى على إخفاء الصدقات لتكون في السر قدر الإمكان؛ فذلك أدعى إلى الإخلاص، وأقرب إلى حفظ كرامة المتصدَق عليهم؛ فيقول تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ﴾.

وينهانا سبحانه وتعالى عن أن نُتبع صدقاتنا بالمنّ والأذى فتبطل ونكون من المنافقين، واعداً مَن يحرص على عدم المن والأذى بالأجر وعدم الخوف وعدم الحزن؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.

 

وعن فضل الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى]، وقال عليه الصلاة والسلام: [والصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ]، كما قال: [كلُّ امرئٍ في ظلِ صدقتِه حتَّى يُقضى بينَ النَّاسِ]. وذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا]، وقال أيضاً: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها ما بقي منها؟ قالت: ما بقى منها إلاّ كتفها، قال: [بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ].

وعن أفضل الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنْ تَصَدَّقَ وأنْت صحيحٌ شَحيحٌ تَخْشى الْفقرَ، وتأْمُلُ الْغنى، وَلاَ تُمْهِلْ حتَّى إِذَا بلَغتِ الْحلُقُومَ قُلت: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كَذَا، وقَدْ كَانَ لفُلان]، وعن أفضل الصدقة كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [جُهْدُ المُقِلِّ، وابدأْ بمن تَعُولُ].

 

صحيحٌ أنه (ما نقصت صدقةٌ من مال)، بل زادته ونمته وباركت فيه. ومن أهم أنواع الصدقات وأكثرها ثواباً الصدقة الجارية؛ فهي عملٌ صالحٌ يعود بالنفع على صاحبه في حياته وبعد موته، طالما أن عمله مازال الانتفاع به مستمراً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾. ومن أمثلة الصدقة الجارية ما ورد في قول النبي عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ].

 

قال الشاعر:

يا مَنْ تـَصَدَّقَ مالُ الله ِ تـَبْذلـُهُ

في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال ِ نـُقصانُ

كـَمْ ضاعَفَ اللهُ مالا ً جادَ صاحِبُهُ

إنَّ السَخاءَ بـِحُـكـْم ِاللـهِ رضــوانُ

الشـحُّ يُـفـْضي لِسُقم ٍ لا دَواءَ لـَهُ

مالُ البَخيل ِ غـَدا إرْثـا ً لِمَنْ عانوا

 

وصدق من قال: "ليس باستطاعتك أن تأخذ مالك معك للآخرة، لكن باستطاعتك أن تجعله يستقبلك".

 

ومن أجمل ما قرأت عن الصدقة: "إن الله الغني، خزائنه ملأى يُنفق كيف يشاء، ليس بحاجةٍ لأموالنا، ولو شاء لرزق الناس جميعاً وأغناهم، لكنه يختبرنا في هذه الدنيا بالمال الذي أعطانا إياه، قد لا يرجع علينا ما تصدقنا به، لكن ليكن في يقيننا أنه محفوظٌ، وما نفعل من خيرٍ لن ينساه الله لنا، وكل ذرة خيرٍ محفوظةٌ عند ربٍ لا يضل ولا ينسى".

 

وليست الصدقات كلها مالاً أو إطعاماً أو كسوة؛ فمن الصدقات ما لا يكلف الإنسان شيئاً؛ مثل: التسبيح، الاستغفار، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، التبسم في وجه الأخ المسلم وملاقاته بوجهٍ طلق، إفراغك من دَلْوِكَ في إناء أخيك، تسليمك على غيرك، رد السلام، عيادة المريض، إغاثة الملهوف، هداية المستدِل على الطريق، اتباع الجنائز، إعانة وإرشاد كل ذي حاجة، وغير ذلك؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ مَعْروفٍ صَدَقَةٌ]، حتى أن من لا يستطيع فعل شيءٍ من هذه الأفعال البسيطة يكفيه أن يُمسك شره عن الناس ويمنع نفسه عن أذاهم، فتكون له بذلك صدقة!

 

أحبتي .. الصدقة مفتاحٌ لكل خيرٍ؛ فلنُكثر من الصدقات، فهي كما قيل: "تُديم النّعم، تدفع النّقم، ترفع البلاء، تستنزل الشّفاء، تُنجي من الكرب، وتطفئ غضب الرّب". ولنُذَكِّر أنفسنا بأن الصدقة إن كانت بغير المال فهي سهلةٌ ميسورةٌ لا يتركها إلا غافلٌ، وإن كانت بالمال فإنه ليس مالنا، بل هو مال الله سبحانه وتعالى ونحن مستخلفون فيه، فإذا أمرنا صاحب المال بالصدقات فليس لنا أن نمتنع أو نتأخر بل علينا أن نسارع ونبادر؛ لننعم برضاه عزّ وجلّ، وننال ما وعدنا به من أجرٍ عظيمٍ وثوابٍ كبير، في الدنيا والآخرة. فلنُكثر من الصدقات خاصةً الصدقات الجارية، طهرةً للمال والنفس، ومرضاةً للرب، ونحن واثقون أنه (ما نقصت صدقةٌ من مال). واعلموا أحبتي أننا بحاجةٍ إلى ثواب الصدقة بأكثر من احتياج من نتصدق عليه إلى المال أو الإعانة.

اللهم قِحنا شُح أنفسنا، وأعنّا على أن نكون من المتصدقين، واجعلنا اللهم من أهل الجنة المكرمين الذين من أوصافهم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

 

https://bit.ly/3inm1rw

الجمعة، 24 سبتمبر 2021

يُمهل ولا يُهمل

 

خاطرة الجمعة /310


الجمعة 24 سبتمبر 2021م

(يُمهل ولا يُهمل)

 

كتبت تقول: أنا زوجةٌ وأمٌ لابنٍ وبنت، ومنذ أن بدأتُ حياتي مع زوجي ونحن نعيش حياةً رغدة، وقد استعنتُ طوال حياتي الزوجية على تربية أولادي بمربياتٍ عديدات، وكانت كل واحدةٍ منهن لا تمكث عندي أكثر من شهرين ثم تفر من قسوة زوجي العدواني بطبعه، فقد كان يتفنن في تعذيب أية مربيةٍ تعمل عندنا، ولا أنكر أنني شاركته في بعض الأحيان جريمته. ولما صارت ابنتي في السابعة من عمرها وابني في المرحلة الإعدادية، جاءنا مزارعٌ من معارف زوجي يصطحب معه ابنته الطفلة ذات الأعوام السبعة قال المزارع البسيط إنه أتى بابنته لتعمل عندنا مقابل عشرين جنيهاً في الشهر، فوافقنا. وترك المزارع طفلته فانخرطت في البكاء وهي تُمسك بجلباب أبيها، وانصرف الرجل دامع العينين. بدأت الطفلة حياتها الجديدة معنا، فكانت تستيقظ في الصباح الباكر لتساعدني في إعداد الطعام لطفلي، ثم تحمل الحقائب المدرسية وتنزل بها إلى الشارع وتظل واقفةً مع ابنتي وابني حتى تحملهما حافلة المدرسة، وتعود إلى الشقة فتتناول إفطارها، وكان غالباً من فولٍ بدون زيت، وخبزٍ على وشك التعفن، ثم تبدأ في ممارسة أعمال البيت من تنظيفٍ ومسحٍ وشراء الخضر وتلبية النداءات والطلبات حتى منتصف الليل؛ فتسقط على الأرض كالقتيلة وتستغرق في النوم، وعند أية هفوةٍ أو نسيانٍ أو تأجيل أداء عملٍ مطلوبٍ ينهال عليها زوجي ضرباً بقسوةٍ شديدة، فتتحمل الضرب باكيةً صابرة، ورغم ذلك فقد كانت في منتهى الأمانة والنظافة والإخلاص لمخدوميها، تفرح بأبسط الأشياء. ورغم اعترافي بأني كنتُ شريكةً لزوجي في قسوته على الخادمات وتفننه في تعذيبهن، إلاَّ أنه كانت تأخذني الشفقة في بعض الأحيان بهذه الفتاة، لطيبتها وانكسارها فأناشد زوجي ألاَّ يضربها، فكان يقول لي: "إنَّ هذا الصنف من الناس لا تجدي معه المعاملة الطيبة". واستمرت الفتاة تتحمل العذاب في صمتٍ وصبر، وحتى حين يأتي العيد ويخرج طفلاي مبتهجين تبقى هذه الطفلة المسكينة تنظف وتغسل دون شفقة. أما أبوها فلم نره إلاَّ مراتٍ معدودة عندما يأتي لأخذ الأجرة. وأنا أبكي الآن كلما تذكرت قسوة عقابنا لها إذا أخطأت أي خطأٍ، فقد كان زوجي يصعقها بسلك الكهرباء!! وكثيراً ما حرمناها من وجبة عشاءٍ في ليالي البرد القاسية فباتت على الطوى جائعة، ولا أتذكر أنها نامت ليلةً، عدة سنواتٍ طويلةٍ، دون أن تبكي!!

وحين قاربتْ الفتاة سن الشباب خرجتْ ذات يومٍ لشراء الخضروات ولم تعد، فسأل زوجي البواب عنها وعرف أنها كانت تتحدث لفتراتٍ طويلةٍ مع شابٍ يعمل لدى جزارٍ بنفس الشارع، وأنه من المحتمل أن تكون قد اتفقت معه على الزواج حتى ينتشلها من هذه الحياة القاسية. ولكن لم يمضِ أسبوعٌ حتى كان نفوذ زوجي قد تكفل بإحضارها من مخبئها، واستقبلناها عند عودتها استقبالاً حافلاً بكل أنواع العذاب، فقام زوجي بصعقها بالكهرباء وتطوع ابني بركلها بعنف، إلاَّ ابنتي فإنها كانت تتألم بما يُفعل بهذه الخادمة المسكينة. وعادت المسكينة لحياتها الشقية معنا واستسلمتْ لمصيرها، فإذا أخطأتْ أو أجلتْ عملاً لبعض الوقت يضربها زوجي ضرباً مبرحاً، وكنا نستمتع ونخرج في الإجازات ونترك لها بقايا طعام الأسبوع، ثم شيئاً فشيئاً بدأنا نلاحظ عليها أن الأكواب والأطباق تسقط من يديها وأنها تتعثر كثيراً في مشيتها، فعرضناها على الطبيب فأكد لنا أن نظرها قد ضعف جداً وأنها لا ترى حالياً ما تحت قدميها أي أنها أصبحتْ شبه كفيفةٍ، ورغم ذلك لم نرحمها وظلت تقوم بكل أعمال البيت وتخرج لشراء الخضر من السوق، وكثيراً ما صفعتها إذا عادت من السوق بخضرواتٍ ليست طازجة، فأشفقتْ عليها زوجة البواب فكانت تشتري الخضروات لها حتى تنقذها من الإهانة والضرب. واستمر الحال هكذا لفترةٍ من الزمن، ثم خرجت الفتاة ذات يومٍ من البيت بعد أن أصبحت كفيفةً تقريباً ولم تعد مرةً أخرى، ولم نهتم بالبحث عنها هذه المرة. ومضت السنوات فأُحيل زوجي للتقاعد وفقد المنصب والنفوذ. وتخرَّج ابني من الجامعة وعمل وتزوج وسعدنا بزواجه، اكتملت سعادتنا حين عرفنا أن زوجته حامل، وبعد مرور شهور الحمل وضعتْ مولودها، فإذا بنا نكتشف أنه كفيفٌ لا يبصر، وكانت صدمةً قاسيةً علينا، وتحولت الفرحة إلى حزن، وعرضناه على الأطباء ولكن بلا فائدة. واستسلم ابني وزوجته للأمر الواقع، وأدخلنا حفيدنا حضانةً للمكفوفين، وقررتْ زوجة ابني ألاَّ تحمل خوفاً من تكرار الكارثة، ولكن الأطباء طمأنوها وشجعوها على الحمل وشجعناها نحن أيضاً، وحملت وأنجبت طفلةً جميلةً، وزف الطبيب إلينا البشرى بأنها ترى وتُبصر كالأطفال، وسعدنا بها سعادةً مضاعفةً، وبعد سبعة شهورٍ لاحظنا عليها أن نظرها مُركزٌ في اتجاهٍ واحدٍ لا تحيد عنه، فعرضناها على أخصائي عيون، فإذا به يصدمنا بحقيقةٍ أشد هولاً وهي أنها لا ترى إلاَّ مجرد بصيصٍ من الضوء وأنها معرضةٌ أيضاً لفقد بصرها، فأصيب زوجي بحالةٍ نفسيةٍ فسدت معها أيامه وكره كل شيءٍ، ونصحنا الأطباء بإدخاله مصحةً نفسيةً لعلاجه من الاكتئاب.

وانقبض قلبي وتذكرتُ فجأةً الكسيرة التي هربت من جحيمنا كفيفةً بعد أن أمضت معنا عشر سنواتٍ ذاقت خلالها أهوال الصعق بالكهرباء والضرب والهوان والحرمان، وساءت نفسي من الجزع، هل هذا عقاب السماء لنا على ما فعلناه بها؟! وأصبحتْ صورة هذه الفتاة اليتيمة التي أهملنا علاجها وتسببنا في كف بصرها تُطاردني في وحدتي، وتعلَّق أملي في عفو ربي عما جنينا في أن أجد هذه الفتاة وأُكفِّر عما فعلناه بها. وبعد البحث والسؤال عنها علمنا أنها تعمل خادمةً بأحد المساجد، فذهبتُ إليها وأحضرتها لتعيش معي ما بقي لي من أيامي، ورغم قسوة الذكريات، فقد فرحتْ بسؤالي عنها وسعيي إليها لإعادتها، وحفظتْ العشرة التي لم نحفظها، وعادت معي تتحسس الطريق وأنا أمسك بيدها، استقرت الفتاة معنا وأصبحتُ أرعاها بل وأخدمها هي وحفيدي الكفيفين وأملي ودعائي لربي أن يغفر لي ما كان.

قالت صاحبة القصة ختاماً لروايتها: "أقول لمن انعدمت الرحمة في قلوبهم: إن الله حيٌ لا ينام؛ فلا تقسوا على أحدٍ، فسوف يجيء يومٌ تندمون فيه على ما فعلتم وقت قوتكم وجبروتكم".

 

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم إن من السنن الإلهية أن الظلم مهما طال أمده واشتد، فإن فجر ونور العدل والنصر يأتي ولو بعد حينٍ؛ فالله سبحانه وتعالى العدل الحكم (يُمهل ولا يُهمل)، ونهاية الظالمين أليمةٌ يراها المظلوم في الدنيا قبل يوم الحساب، فسبحان الذي يقصم ظهور الظالمين ويُشدد العقوبة عليهم؛ وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: {اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا غَيْرِي}، والله تعالى يغضب في حق خلقه بما لا يغضب في حق نفسه فينتقم لعباده بما لا ينتقم لنفسه؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾. إن رب العالمين لا يُهمل أحداً، ولا يحنث في وعده، ولا يتخلى عن المظلومين أياً كانت ملتهم، فهذه سنته في خلقه، وقانونه بين البشر، إنَّ أمْره إذا جاء لا يرده أحد، ولا يقوى على منعه بشر، ولا يتأخر عقابه ممن ظَلم، وثأره ممن بغى وتجبر.

ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يُمهل الظالم لكنه لا يُهمل، ولا ينسى ولا يدع، يتركه في غيه سادراً لا يعي ولا يتدبر، يصبر عليه ويتركه، ويحلم في التعامل معه ولا يعاجله، لكن إذا جاء الوعد وحان الحين، فإن أخذ الله أليمٌ شديدٌ، فهل من متعظٍ أو مدّكر؟

والله بحكمته البالغة يُمهل الظالم ليعتبر به من في الأرض ويعرفون أنّ له قصاصاً دنيوياً بجانب قصاص الآخرة. قد يغتر الظالم بظلمه شهوراً وسنواتٍ، فيظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له فيتمادى الظالم في غيه وجبروته وينسى أن الله (يُمهل ولا يُهمل)، وأنه سبحانه وتعالى يصبر على الظالمين رغم ظلمهم، ورغم كيدهم وطغيانهم، يُمهلهم ويُملي لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

إن الله يمهل الظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه لم يفلته: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والآخرة، وسيُعرض الخلائق كلهم عليه، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور فلا يعذب أحداً بغير ذنب: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.

إنّ من لطف الله بعبده الظالم، أن يُمهله لعله يتوب، ويؤخره لعله يُقلع، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإذا استمر في ظلمه وتمادى فيه فربما أخَّره، ليزداد في الإثم، استدراجاً من الله المنتقم الجبار؛ يقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]. ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

وحتى نتصور هذا الألم وهذه الشدة دعونا نتفكر في قول الله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، تُوصف هذه الآية بأنها "أبلغُ ما يُتصور في النّهي عن الظلم والتهديدِ عليه"؛ فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه إذا كان حال الميل إلى من وُجد منه ظلمٌ يُفضي إلى مساس النّار، فما الظنّ بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ثم ما الظن إذن بالظالمين أنفسهم، كيف سيكون عقابهم؟ إنّ في قوله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ نهيٌّ عن مجرد الركون، أي إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم بما هُم عليه من الظلم. قال المفسرون عن الركون إنه أفعالٌ بالقلب وأفعالٌ بالجوارح، أمّا أفعال القلب فمنها: الميل والمحبة والرضا، وأما أفعال الجوارح فمنها: السكون، والاشتراك بتزيين الظلم، والمداهنة للظالمين من زيارةٍ ومصاحبةٍ ومجالسةٍ والحديث عنهم بالفضل، والاعتماد عليهم. والمراد بالذين ظلموا هم مرتكبو الظلم فعلاً الذين جعل الله عقوبتهم معجلةً في الدنيا قبل الآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ما مِن ذنبٍ أجدَرَ أنْ يُعجِّلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ في الدُّنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرةِ مِن البغيِ وقطيعةِ الرَّحمِ]، وعلى الباغي تدور الدوائر فيبوء بالخزي، ويتجرع مرارة الذل.

 

وقال الشاعر حاثاً على عدم الظلم:

لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مرتعهُ يُفضي إلى الندمِ

تنامُ عينُك والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ الله لم تنمِ

 

أحبتي .. عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللهِ تَبَاركَ وتعالى أنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا ... يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ}. وقال عليه الصلاة والسلام: [... وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ]، وقال كذلك: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، فليتقِ كلٌ منا الله ويتوقف فوراً عن ظلم أي إنسانٍ؛ فالظلم ظلماتٌ، عواقبه وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى (يُمهل ولا يُهمل). أفلا يفيق الغافلون قبل فوات الأوان؟ ألا يعتبر الظالمون قبل نزول العقاب الإلهي؟

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غِرة، ولا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يركنون إلى الظالمين ولا حتى بقلوبهم، ولا من الغافلين.

 

https://bit.ly/3lSo8ol