الجمعة، 17 يناير 2020

دعاةٌ مجهولون


الجمعة 17 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٢
(دعاةٌ مجهولون)

قبل عدة سنواتٍ، كان صاحبنا السعودي في رحلةٍ إلى قرقيزيا "إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، تقع على الحدود مع الصين"، كتب يقول: دُعيت إلى زيارة شيخٍ كبيرٍ تجاوز السبعين من عمره، كان داعيةً من الجيل الأول، وكان يتكلم العربية الفصحى بلكنةٍ أعجميةٍ، إلا أنه ضليعٌ في علوم الشريعة، ذو باعٍ طويلٍ في الدعوة والإصلاح. كانت ضيافته كريمةً، حاول تدريبنا فيها على أكل الأرز بالأعواد الصينية، فكان لا يعلق بأعوادنا إلا الحبة والحبتين بعد عناءٍ، ثم تسقط في الطريق فلا تصل إلى أفواهنا إلا الأعواد الخالية، حتى اضطررنا لاستخدام الأيدي النجدية المحترفة في التعامل مع الأرز. انساب الحديث عذباً شيقاً مع هذا الشيخ الكريم عن جهودهم الدعوية، وجهادهم الإصلاحي الطويل، وتحت ضغط الفضول العارم سألتُه: "يا شيخ! كيف درَستَ كل هذه العلوم، وكوّنتَ كل هذه الحصيلة العلمية، وقد كنتم إلى عهدٍ قريبٍ في قرقيزستان تحت الحكم الشيوعي الغاشم الذي كان يقتل من ينطق العربية، أو يتسمى باسمٍ إسلامي، فضلاً عمّن يمارس شعائر الإسلام الظاهرة، وأنت يا شيخ وُلدتَ ونشأتَ تحت هذا الحكم، عشتَ صدر حياتك تحت هذا الحكم الشرس الذي انتهز فرصة سقوط الخلافة فطمس كل مظاهر الإسلام، وأعدم من المسلمين ما يزيد عن عشرين مليون مسلمٍ، وفرض الإلحاد، فلم يترك للمسلمين أية فرصةٍ لممارسة شعائر دينهم، فضلاً عن العمل في ميدان الدعوة والإصلاح"؟! تبسّم الشيخ الكبير، ورفع صدره إلى الأعلى، وكأنه يستنشق رائحة الظفر بعد الصبر، والانتصار بعد الانكسار، والفرج بعد الشدة والكرب، وقال: "نعم، كنّا تحت حكمهم، لكن لم نستسلم لهم!! كنّا أقوى منهم بإيماننا، وإصرارنا، وقدرتنا على التكيّف. كان آباؤنا يحفرون أنفاقاً تحت الأرض على عمقٍ بعيدٍ، وهذه الأنفاق تُفضي إلى أقبيةٍ وإلى فصولٍ ومدارس تستوعب عشراتِ وربما مئاتِ الأطفال، كلها تحت الأرض. وكان الوالدان المسلمان إذا تجاوز طفلهما الخامسة من عمره تسللوا به في جُنح الظلام، وساروا بحذرٍ خلف مرشد المدرسة حتى يبلغ الطفل فوهة النفق -وعادةً ما تكون هذه الفوهة في حجرةٍ من بيتٍ مهدوم، أو خرابةٍ مهجورةٍ- وهنا تستلمه المدرسة وتُدخله النفق لينضم مع رفاقه تحت طباق الأرض، ليغيب لمدة سنتين أو ثلاثٍ لا يظهر، ولا يتصل ولا حتى بوالديه، لكنه يخرج وقد حفظ القرآن أو أكثره، ومن الحديث ما قُدِّر له، ومن علوم العقيدة والفقه واللغة العربية"، سألتُ الشيخ عما درَسوه في العربية فقال: "حفظتُ ألفية ابن مالك"! ثم تحامل على نفسه ونهض متثاقلاً إلى كوّةٍ في الجدار ومد يده النحيلة إلى كتابٍ متهالكٍ، فجاء به وفتحه أمامي؛ فإذا هو نسخته الخاصة من شرح ابن عقيل، وكنتُ مأخوذاً بالدهشة والعَجب البالغ من شيءٍ أراه بعينيّ، وأسمعه بأذنيّ، لو حكاه لي الثقاة لشككت فيه!
كانت الشيوعية جاثمةً بكل جبروتها وعسفها وقسوتها على الناس حتى ظنت أنها قد قدرت عليهم، وقطعت صلتهم بالإسلام؛ لكنّ جيلاً كان يترعرع تحت الأرض، ويتشرب الإسلام من مصادره؛ الكتاب والسنة، ويتضلع من أعمق وأجمع مراجع الشريعة واللغة، كان تحت الأرض دعاةٌ ومصلحون نذروا حياتهم لله، فغابوا في جوف الأرض حيث لا شمس ولا هواء، ولا لهو، ولا لعب، وإنما عملٌ شاقٌ مضنٍ خطيرٌ ثمنه حياة أحدهم ومن معه لو افتضح أمره!
كانوا يبنون جيلاً جديداً في أقسى ظرفٍ يمكن أن يمر به مجتمع، ما يئسوا، وما ضعفوا، ولا استكانوا، ولا ألقوا السلاح، وما خضعوا لواقعهم المتوحش ولا استرهبتهم سطوته؛ فلما سقطت الشيوعية، وطوتها سُنة الله في الأشجار الخبيثة، خرجت طلائع ذلك الرعيل إلى الشمس لتعيد البلاد إلى هويتها، والعباد إلى دينهم، فما هي إلا بضع سنواتٍ حتى كانت حواضر تلك الولايات الشيوعية تضج بالأذان والصلاة من مساجدها التي لا تُحصى، وبأئمتها ودعاتها الذين نبتوا في تلك السنوات العجاف، وفِي أعماق الأرض!

أحبتي في الله .. يقول راوي القصة: هذا الدين مكينٌ، راسخٌ، أنزله الله ليبقى، ولينتصر، ولن تطمسه أية قوةٍ مهما بلغت قدرتها وشراستها؛ لكن قد يُبتلى الدعاة بأيامٍ شدادٍ، ليمتحن الله صدقهم وصبرهم، ليميز الله اليائسين الضعاف المهازيل من الأقوياء ذوي الصدق واليقين، فإذا ألقى الدعاة السلاح وأسلموا الثغور تحجّجاً بالظروف القاسية، وتذرعاً بالتغيرات الجارفة، إذا جلسوا يبكون على أبواب الدعوة التي أُقفلت، وتركوا خلفهم ألف بابٍ مفتوحٍ، وألف حيلةٍ ممكنةٍ، وألف وسيلةٍ متاحةٍ؛ فاعلم أنهم وقعوا في حبائل اليأس التي نصبها لهم الشيطان، وأنهم ما امتثلوا أمر ربهم بالتحرّف للدعوة، والانحياز إلى الممكن من برامجها، ومشروعاتها المتاحة، وإنما استكانوا للعذر المصنوع، والحجة المزيفة، وخسروا شرف الصمود وأجر الصبر، ويوشك الله أن يستبدلهم بغيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.

هؤلاء الدعاة في هذه القصة (دعاةٌ مجهولون) ليسوا عرباً، مارسوا عملهم في الكهوف بإخلاصٍ تامٍ، ولسنواتٍ طويلةٍ، واثقين في وعد الله ثقةً كاملةً، أحسنوا الظن به، وتحملوا من أجل الدعوة إلى دينه كل المشاق والصعوبات التي نتصورها والتي لا نتصورها. هؤلاء (دعاةٌ مجهولون) لا يعلم أحدٌ منا أسماءهم، ولا يعرف صورهم، وهبوا أنفسهم بغير حدودٍ لقضية العمر، يعيشون من أجلها، ويموتون دونها؛ فحفظوا دين الله ونقلوه إلى أبنائهم بكل إخلاصٍ وتفانٍ وصدق؛ امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾.
إنها الدعوة إلى الله أُمِرَ بها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام؛ بقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾. وشرَّفه الله بأن وصفه بأنه داعٍ إليه ينير طريق الهداية للبشرية جمعاء كما لو كان سراجاً منيراً؛ يقول تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾.
وهي الدعوة إلى الحق؛ يقول تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْئٍ﴾، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾، وهي الدعوة إلى الصراط المستقيم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾. كما أنها دعوة جميع الرسل؛ يقول تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾. وهي دعوةٌ إلى النجاة من النار وغفران الذنوب؛ قالها مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾، وقالها الجن: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.

يقول العلماء إن الدعوة إلى الله واجبةٌ على كل مسلمٍ ومسلمةٍ، كلٌ حسب قدرته وعلمه؛ يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾، وهذا النص عامٌ، مطلقٌ في الزمان: ليلاً ونهاراً، ومطلقٌ في المكان: شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ومطلقٌ في الجنس: العرب والعجم، ومطلقٌ في النوع: الرجال والنساء، ومطلقٌ في السن: الكبار والصغار، ومطلقٌ في اللون: الأبيض والأسود، ومطلقٌ في الطبقات: السادة والعبيد والأغنياء والفقراء. فالدعوة لهؤلاء جميعاً واجبةٌ لأن هذا الدين لكل الناس؛ قال الله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: [لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ]، كما قال: [بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً]، وقال أيضاً: [نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ].
إن مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبد؛ يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
ومن ثمرات الدعوة إلى الله مضاعفة الأجور؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ومن ثمارها الهداية واعتبار الداعي إلى الله من المحسنين؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

والدعوة إلى الله واجبٌ على مجموع الأمة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فكل واحدٍ منا يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجَز عنه لم يُطالب به.
ويحدد لنا الله سبحانه وتعالى منهج الدعوة وآدابها؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، فكل مسلمٍ مطالبٌ بأن يكون داعيةً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ فيبدأ بنفسه يصلح من نفسه ليكون قدوةً ونموذجاً ومثالاً طيباً للمسلم الصالح. ثم يكون مصلحاً لأسرته وعائلته وجيرانه وأصدقائه وزملائه، بالنصح والإرشاد والحكمة والموعظة الحسنة والصبر. ثم يكون سفيراً لدينه لغير هؤلاء من الناس؛ بسلوكه القويم ومعاملاته الراقية المتميزة التي تتسم بالصدق والأمانة والدقة والتواضع والبشاشة وعدم التحيز وسرعة الإنجاز.
ليست الدعوة إلى الله وظيفةً رسميةً، وليست قاصرةً على مؤسساتٍ بعينها ورجالٍ يعملون بها، وإنما هي واجبٌ علينا جميعاً.

أحبتي .. أولئك (دعاةٌ مجهولون) ضحوا بكل نفيسٍ وغالٍ من أجل الدعوة إلى الله الحق، وإلى الدين الذي أكمله لنا وأتمم به علينا نعمته؛ فماذا عنا نحن؟ ماذا قدمنا للدعوة؟ ليسأل كلٌ منا نفسه: "ماذا قدمتُ لديني؟" ثم يتصور للحظةٍ أنه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى يسأله: "ماذا قدمتَ لدينك؟".
أحبتي .. إن كان منا مَن يجيد الكلام أو الكتابة، أو استخدام التقنيات الحديثة، أو التعامل مع شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أو كان متميزاً في أي مجالٍ آخر، فليبادر إلى توظيف مواهبه وقدراته -وكلها من نعم الله عليه- في الدعوة إلى الله.
ما تزال الفرصة متاحةً أمامنا ونحن على قيد الحياة؛ أن يكون كلٌ منا داعياً إلى الإسلام قدر ما يستطيع؛ حَدِّد ما يمكن لك فعله، وابدأ بسرعةٍ في التنفيذ دون إبطاءٍ أو تسويفٍ، وحاسب نفسك بشدةٍ لا تراخيَ فيها، وبقسوةٍ لا لين معها، حتى تكون من المفلحين الفائزين.


الجمعة، 10 يناير 2020

الغافلون


الجمعة 10 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢١
(الغافلون)

كنت أتصفح بعض المجلات والدوريات الإسلامية فلفت انتباهي قصةٌ غريبةٌ وردت في إحدى المجلات الدينية التي تصدر في مونتريال بكندا. يقول كاتب القصة: صدف أن زرتُ إحدى العوائل المسلمة الميسورة هنا في كندا، وأصابتني الدهشة عندما وجدتُهم في سُباتٍ عميقٍ بعيدين عن الخالق عزّ وجلّ؛ حيث لا صلاة ولا دعاء ولا يعون شيئاً من الإسلام ولا السيرة، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً عن الدين في حياتهم. وعندما طلبتُ منهم إحضار مصحفٍ فوجئتُ بأنّه لا يوجد لديهم أية نسخةٍ من القرآن الكريم! وبما أن زيارتي لهم كانت من أجل حل مشكلةٍ اعترضتهم، فقد انتهزتُ الفرصة لنصحهم وإرشادهم، وقلتُ بأنّ الله -سبحانه وتعالى– عندما يحب عبداً يبتليه ليعود إليه، وأنتم فإنّ الله ابتلاكم لتنتبهوا وتستيقظوا من سُباتكم وغفلتكم عنه سبحانه وتعالى. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، فلابدّ أن تبدءوا بالصلاة وتحاولوا أن تقرءوا بعض الأدعية وتقرءوا القرآن الكريم لتكون حياتكم سعيدةً مع الله، ولا سعادة من دونه. فهل توجد غفلةٌ أكثر من هذه؟ مسلمون خلا بيتهم من القرآن الكريم! وإن وُجد فهو للحفظ والزينة لا للتعلم والتدبر والقراءة! ولا صلاة يؤدونها! وإن أُديت فهي لإسقاط الواجب لا أكثر! وقد صدق سبحانه وتعالى حين قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

أحبتي في الله .. نعم إنهم (الغافلون)، رأيتُ كثيراً منهم لكن ليس إلى هذه الدرجة من الغفلة؛ رأيتُ مِنَ الغافلين مَنْ يسعون بهمةٍ ونشاطٍ لمكاسب ومغانم الدنيا الفانية، وعندما يأتي وقت العمل للدار الباقية دار الخلود يكون الكسل وفتور الهمة، إن لم يكن النأي والإعراض! وجدتُهم مهتمين بأمر الرزق غافلين عن الرزاق ذي القوة المتين! الأولوية للعمل يخصصون له معظم وقتهم، أما الصلاة فلا وقت لها! يؤجلونها قليلاً ثم يؤجلونها كثيراً ثم يكتفون بصلاة الجمعة ثم يهملونها تماماً، وإن نصحتَ أحدَهم طلب منك أن تدعو له بالهداية! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد كل الوقت للهو وتوافه الأمور؛ ولا وقت لديه لتحصيل ثواب صلاة الجماعة بالمسجد، ولا لحفظ أو تلاوة ولو القليل من القرآن الكريم، ولا لقيام الليل وإنْ بركعتين، يترك ذلك ليشاهد فيلماً أو حلقةً من مسلسلٍ أو مباراةً للكرة، تراه مشغولاً بمواقع الإنترنت وواتس آب وفيس بوك وغيرها! ورأيتُ مِن الغافلين مَن يجد سعةً من المال لرحلةٍ سياحيةٍ أو امتلاكِ منزلٍ أوسع أو شراءِ سيارةٍ أحدث، ولا يفكر في أداء فريضة الحج ويتعلل بقوله تعالى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾؟! ورأيتُ مِن الغافلين مَن ينفق المال على تغيير هاتفه المحمول كلما ظهرت نسخةٌ حديثةٌ منه، أو ينفق المال على تربية قططٍ أو كلابٍ أو أسماكٍ أو طيورِ زينةٍ لمجرد المتعة، وكان الأولى إنفاق المال في إطعام الفقراء والمساكين ومساعدتهم أو كفالة الأيتام! أما أعجب حالات الغفلة التي رأيتُها فهم (الغافلون) عن ذِكر الله؛ فما أسهلها وما أيسرها من عبادةٍ عظيمةِ الثواب لا تُكلف شيئاً، لا تتطلب مالاً ولا تحتاج جهداً ولا تستهلك وقتاً، والكثير منا عنها غافلون!
أما تلك الأسرة المسلمة في كندا فلم أرَ في حياتي أكثر غفلةٍ منها!

كيف يغفل المسلم، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾، لقد ظلم (الغافلون) أنفسهم بغفلتهم التي كانوا فيها؛ فيقولون يوم القيامة: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾، فهل من مردٍ يومئذٍ أو عودةٍ أو سبيلٍ إلى توبةٍ؟ لا، فيومئذٍ يكون الأمر قد قُضي، فلا ينفعهم الندم ولا تفيدهم الحسرة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾، فمن هم (الغافلون)؟
وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾.
و(الغافلون) أشار إليهم رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم حين قال: [لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ]، وحين قال عليه الصلاة والسلام للمهاجرات: [عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْؤُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفَلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ].

يقول أهل العلم إن من أعظم أسباب الغفلة؛ الجهل بالله عزَّ وجلَّ وأسمائه وصفاته، والاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، وصحبة السوء، وحضور مجالس اللغو واللهو. وإن السبيل إلى وقاية النفس من الغفلة ومخاطرها يكون بذِكر الله تعالى؛ يقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾. وبقراءة القرآن؛ فبه تزكو النفوس، وتزول الغفلة والغشاوة عن القلوب، وتكون الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، فيه هدىً ونورٌ، وموعظةٌ وشفاءٌ لما في الصدور. وبحضور مجالس العلم والذكر ومجالسة من يذكّرك بالله؛ فيَحُثك على ذِكره ويُسْمِعك كلامه، ويُحدثك عن رسول الله. وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى؛ فما أحوجنا إلى أن ندعوَ الله أن يُذَكِّرنا إذا نسينا، وأن يُنبهنا إذا غفلنا، وأن يرزقنا قلوباً طاهرةً وألسُناً ذاكرة. وبالمحافظة على الصلوات الخمس في جماعةٍ؛ فالغفلة تكون بترك الصلاة وتضييعها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَن حافظَ على هؤلاءِ الصَّلَواتِ المَكتوباتِ لَم يكُن مِن الغافلينَ]. وبالحرص على قيام الليل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ]. وبالإكثار من ذكر الموت؛ فكفى بالموت واعظاً، وكفى به مُنبّهاً ومُذكراً.
يقول أحدهم: إن المرء لو نظر لأحوال الناس لوجدهم في غفلةٍ عظيمةٍ وجرأةٍ عجيبةٍ على الله، يسيرون في طريق المعاصي والشهوات، ويتهاونون بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وُعدوا بالنجاة من النار وكأنها خُلقت لغيرهم؟
يقول الشاعر:
يا مَنْ بدنياهُ اشتغلْ
وَغَرَّهُ طولُ الأَمَلْ
الموتُ يأتي بَغْتَةً
والقبرُ صُندوقُ العَمَلْ
ويقول آخر:
أما واللهِ لو عَلِمَ الأنامُ
لِمَ خُلقوا لَما غَفلوا وناموا
لقد خُلقوا لِما لو أبصرتْهُ
عيونُ قلوبِهم تاهوا وهاموا
مَماتٌ ثم قَبرٌ ثم حَشرٌ
وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظامُ
ويقول ثالث:
إنَّ للهِ عِباداً فُطُنا
طَلَّقوا الدُنيا وخافوا الفِتَنا
نَظَروا فيها فَلَمَّا علِموا
أنها ليستْ لِحيٍ وَطَنا
جَعَلوها لُجَّةً واتخَذوا
صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنا

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن بيَّن لنا سبيل الهدى والرجوع عن حالة الغفلة؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، كما فتح لنا النبي صلى اللهُ عليه وسلم باب الأمل بقوله: [مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ].

ليست هذه دعوةً إلى ترك الدنيا وعدم الانشغال بالرزق والتفرغ للعبادة، فهذا أمرٌ نهى عنه رسولنا الكريم، لكنها دعوةٌ للموازنة في الاهتمام ما بين: الدنيا مع الزهد فيها، والآخرة مع الاستعداد لها؛ ورد في الأثر قولهم: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، يقول العارفون إن في ذلك دعوةٌ إلى الأخذ بالأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق، والاهتمام بعمارة الأرض فيما يُرضي الله عزَّ وجلَّ، مع الحث على العمل للآخرة، ودوام الاستعداد لها، وللقاء الله بالعمل الصالح الخالص لوجهه الكريم، وحُضُور النّيَّة والقَلْب في العباداتِ والطاعات، والإكْثار منها، فإِنّ من يَعْلم أنه يموت غَداً يُكْثر من عبَادَته، ويُخْلِص في طاعتِه.

أحبتي .. كلنا غافلون بدرجةٍ أو أخرى، مقصرون في حق الله وفي حق أنفسنا. لذلك أقول لنفسي ولكم: أفيقوا يرحمكم الله، أنقذوا أنفسكم، تداركوا ما فاتكم من خيرٍ، وسارعوا إلى حجز أماكنكم في الجنة، التي يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: [أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ؛ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]، وينقل لنا وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بقوله: [قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾]. فلا تُضَيِّعوا أوقاتكم فيما لا يفيد. الدنيا مزرعةٌ للآخرة؛ اتعبوا الآن في الزراعة لتهنأوا وقت الحصاد، وأبشروا بما وعدكم الله به، ليس فقط بالعفو عن السيئات، بل وبتبديلها حسنات؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فلا تُفَوِّتوا على أنفسكم هذه الفرصة!
اللهم لا تجعلنا من الغافلين.

http://bit.ly/2NdlkRU

الجمعة، 3 يناير 2020

الصبر وقت الشدة/1


الجمعة 3 يناير 2020م

خاطرة الجمعة /٢٢٠
(الصبر وقت الشدة)

هل كنت معزيةً اليوم؟! تحت هذا العنوان كتبتْ أختٌ فاضلةٌ عن موقفٍ أثر فيها كثيراً، كتبتْ تقول:
ذهبتُ اليوم معزيةً أم الطالب الذي توفاه الله قبل يومين في حادث سيارة، دخلتُ عليها -وهي صديقةٌ قديمةٌ- معزيةً؛ فاستقبلتني استقبالها الذي لم تُطفئ حرارته عشر سنواتٍ فرقتنا، ولم تخبته لوعتها على ابنها الأوسط، درة عِقْد حياتها، الذي فارق الحياة في الأمس القريب! احتضنتني مبتسمةً ابتسامة الرضى التي ما فارقت مُحياها أبداً، ورددتْ بصوتٍ عالٍ سمعَته كل مَن كنّ في مجلس العزاء، وكأنها تُسمعنا جميعاً: "لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيءٍ عنده بمقدار، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها"! ثم رافقتني أنا وزميلتي إلى صدر المجلس، وأجلستنا في وسطه! لم تُفقدها المصيبة التي حلّت بها أن تقوم بواجب استقبالنا على أكمل وجه، ولم تُنسها الفاجعة أن تحافظ على ابتسامة الرضى التي عرفتُها بها دوماً يوم كنا زميلاتٍ في العمل! ثم ابتدأت فصلا آخر من فصول صبرها واحتسابها! جلستْ لتعطينا درساً واقعياً في الصبر عند الابتلاء! وأي ابتلاءٍ؟! ابتلاء فقد الابن! بدأتْ بذِكر الله، بنفسٍ راضيةٍ محبةٍ، ثم قامت تصف لنا مشهد تلقيها خبر الوفاة عن طريق الهاتف، فكانت كلمتها التي صدحت بها: "إنا لله وإنا إليه راجعون"! كلنا يقولها ويرددها، لكنها كانت تقولها بقلبٍ راضٍ مستسلمٍ لقضاء الله وقدره! وأخذتْ تصف مناقب الابن البار الذي لم يكن من أهل الدنيا -على حد تعبيرها- فقد كان من أهل الآخرة! وبذلك شهد كل من عرفه من أصدقائه وأساتذته! ثم أخذتْ تصف اللحظات الأخيرة، قبل خروجه من المنزل، وكيف كان يرد الأمانات التي أخذها، وقبل أن يودعها بَشَّرها بأنه سينجح بامتيازٍ في مادتين! تقولها الأم وهي فخورةٌ بابنها الذي لم يُمهله الأجل أن يرى نتائج اختباراته لهذا الفصل! ثم انتقلتْ لتصف لنا لحظة وداعها له في المستشفى وصفاً أبكى كل من كُن في المجلس إلا هي! ظلت مبتسمةً راضيةً وكأن الله أنزل سكينته على قلبها، وربط عليه! وبعدها أردفتْ تصف السماء يوم خروجها من المسجد بعد الصلاة عليه، تقول: "كانت السماء مليئةً بالغيوم، ونسمات الهواء تهب باردةً عليلةً، فرفعتُ يديَّ للسماء وقلتُ ما أجمل يومك يا بني! ثم أمطرتْ في تلك الليلة فابتسمتُ وقلتُ ما أجمل ليلتك الأولى في قبرك يا بني"! تقولها بإحساس المؤمن الذي يعلم أنَّ له رباً رحيماً! تقولها بقلب المؤمن ويقينه بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأننا وإنْ فرقتنا الدروب إلا أنَّ إيماننا يقينٌ بأن لقاءنا الأبدي سيكون هناك عند رب العزة! ثم ختمتْ قولها البليغ بعبارة: "أحتسبه عند الله شهيداً"! وقبل أن نقوم من مجلسنا ذكرتْ أن رفاقه أخبروها بأنه وصديقه الذي تُوفيَ معه -رحمة الله عليهما- كان آخر عملٍ لهما قبل الحادث أنهما حجزا للعمرة يوم الخميس! تقول: "اشتاق ابني حبيبي لزيارة بيت الله فأكرمه الله بالجنة"!
لا أخفيكم أنني شعرتُ بضآلتي أمام إيمانها بالله! وشعرتُ بتقصيري تجاه ربي أمام صبرها، وسألتُ الله أن يُسبغ على قلبي الراحة التي يجدها أولياؤه وأصفياؤه! الإيمان ليس ادعاءً ندعيه، ثم نرتدّ عند أول ابتلاء! الإيمان ليس هيئةً نرتديها، ثم نجحد على محكّ الأزمات! إنما الإيمان ثباتٌ في المحن، ويقينٌ بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى!
لم تنتهِ قصتي مع أم الفقيد، فقد أصرتْ أن ترافقنا مودعةً حتى باب الخيمة، وكأنها أم العريس الذي زُفّ بالأمس إلى السماء! ودَّعَتْنا بابتسامتها المعهودة وهي تقول: "زورونا دايماً"! ودَّعْتُها - بعينيَّ اللتين لم يجف دمعهما - على وعدٍ بدخول بيتها مهنئةً في المرة القادمة!! وهل كنت معزيةً اليوم؟!

أحبتي في الله .. هذه الأم نموذجٌ للصبر عند الابتلاء، و(الصبر وقت الشدة) وأي صبرٍ؟ إنه الصبر عند فقدان الابن، ويا له من صبر، لربما كان من أعلى درجات الصبر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ "قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي" فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ "قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ" فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ "مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟" فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ "ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ"]، ويقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسيّ: {ما لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ}. وكأني بأم الفقيد تسترشد بقول نبينا الكريم: [إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى].
فالصبر من عزم الأمور؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾. وهو من صفات الصادقين المتقين؛ يقول تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾. والصبر سبيل الفلاح؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. والصابرون لهم أجرٌ عظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. ويبشر الله تعالى الصابرين بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويعدهم عُقبى الدار؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾، ويقول: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾، وهم الفائزون بالجنة؛ يقول تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ويقول: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾، ويقول: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾، ويقول: ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، ويقول: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. والصابرون والصابرات يشملهم قوله تعالى: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾
لكل ما سبق يأمرنا الله بالاستعانة بالصبر؛ يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، ويقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
يكفي الصابرين أنهم في معية الله؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وأنه يحبهم؛ يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.

إن للصبر على البلاء جزاءٌ عظيم؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]، ويقول: [إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلاَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ]. والصبر- خاصةً (الصبر وقت الشدة) - دليلٌ على قوة وصدق الإيمان؛ يقول النبي صلّى الله عليه وسلم: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]، ويقول: [وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ].

يقول أهل العلم إنّ الصبر على المصائب والشدائد من أبرز الصّفات التي دعا الإسلام للالتزام بها، وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام أنّ الصبر إنما يكون في ابتداء المصيبة، ويكون (الصبر وقت الشدة)، فهو ابتلاءٌ، والابتلاء سُنَّة الله في خلقه، وهي سُنةٌ لا تتغيّر ولا تتبدل، فالعاقل من يَصبر وينتظر الفرج من الله ولا يطلبه من غيره، وهو يعي أن أصل البلاء إنّما أراده الله سبحانه وتعالى له ليختبر صبره وشكره من جحوده وكفره.

أحبتي .. الدنيا دار ابتلاء؛ لا يوجد منا من لا يُبتلى، والفائزون هم الصابرون. فلنصبر على كل ابتلاءٍ صبراً جميلاً؛ وهو الصبر بغير شكوى ولا جَزع. اللهم ألهمنا (الصبر وقت الشدة) وثبتنا عند الصدمة الأولى، واجعلنا من المحتسبين الذين يقولون عند نزول المصائب: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. اللهم ﴿تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ وأدخلنا الفردوس الأعلى من الجنة من باب الصبر، بغير حسابٍ ولا سابقة عذاب. واحفظ اللهم أبناءنا واكلأهم بعنايتك، وابعد عنا وعنهم وعن كل مسلمٍ السوء والأذى.

http://bit.ly/36jqQKA

الجمعة، 27 ديسمبر 2019

زهوة الانتصار


الجمعة 27 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٩
(زهوة الانتصار)

تحكي إحدى السيدات قصتها فتقول: منذ ثلاثين عاماً كنتُ فتاةً غريرةً وزوجةً حديثةً أرفع شعارات تحرير المرأة، وأرى الزواج مجرد إجراءٍ اجتماعيٍ لا يترتب عليه أية واجبات، وشاء الله أن أقيم مع حماتي حتى يوفر لي زوجي سكناً مستقلاً بالمواصفات التي أريدها، وكانت السنوات التي عشتها مع حماتي هي أسوأ سنواتٍ عاشتها تلك السيدة الصابرة، وكنتُ أنا للأسف سر هذا السوء؛ فقد أعطيتُ أذني لنصائح الصديقات بأن أُظهر لها العين الحمراء منذ البداية، ولذلك قررتُ أن أحدد إقامة حماتي داخل حجرتها، وأتسيد بيتها وأعاملها كضيفةٍ ثقيلة! كنت أضع ملابسها في آخر الغسيل، فتخرج أقذر مما كانت، وأُنظف حجرتها كل شهرٍ مرة، ولا أهتم بأن أُعد لها الطعام الخاص الذي يناسب مرضها، وكانت كجبلٍ شامخٍ تبتسم لي برثاءٍ، وتقضي اليوم داخل حجرتها تُصلي وتقرأ القرآن، ولا تغادرها إلا للوضوء، أو أخذ صينية الطعام التي أضعها لها على منضدةٍ بالصالة وأطرق بابها بحدةٍ لتخرج وتأخذها! وكان زوجي مشغولاً في عمله؛ لذلك لم يلاحظ شيئاً، ولم تشتكِ هي له، بل كانت تجيبه حين يسألها عن أحوالها معي بالحمد، وهي ترفع يديها إلى السماء داعيةً لي بالهداية والسعادة. ولم أُجهد نفسي كثيراً في تفسير صبرها وعدم شكايتها مني لزوجي، بل أعمتني ( زهوة الانتصار) عن رؤية الحقيقة حتى اشتد عليها المرض، وأحست هي بقرب الأجل فنادتني وقالت لي وأنا أقف أمامها متململةً: "لم أشأ أن أرد لك الإساءة بمثلها حفاظاً على استقرار بيت ابني، وأملاً في أن ينصلح حالك، وكنت أتعمد أن أُسمعكِ دعائي لكِ بالهداية لعلك تراجعين نفسك، دون جدوى، ولذلك أنصحك – كأم – بأن تكفي عن قسوتك، على الأقل في أيامي الأخيرة لعلي أستطيع أن أسامحك". قالت كلماتها وراحت في غيبوبة الموت، فلم تر الدموع التي أغرقت وجهي، ولم تحس بقبلاتي التي انهالت على وجهها الطيب، ماتت قبل أن أريها الوجه الآخر، وأكفر عن خطاياي نحوها، ماتت وزوجي يظن أنني خدمتها بعيني.
وكبر ابني وتزوج ولم يستطع توفير سكنٍ خاصٍ فدعوته للعيش معي في بيتي الفسيح الذي أعيش فيه وحدي بعد وفاة أبيه فاستجاب؛ ودارت عجلة الزمن فعاملتني زوجته بمثل ما كنت أعامل حماتي من قبل، فلم أتضجر، لأن هذا هو القصاص العادل والعقاب المعجل، بل ادخرتُ الصبر ليعينني على الإلحاح في الدعاء بأن يغفر الله لي، ويكفيني شر جحيم الآخرة لقاء جحيم الدنيا الذي أعيش فيه مع زوجة ابني، ويجعلني أتحمل غليان صدري بسؤالٍ لا أملك له إجابةً: هل سامحتني حماتي الراحلة؟ أم أنها علقت هذا السماح على تغيير معاملتي لها، هذا التغيير الذي لم يمهلني الله لأفعله؟

أحبتي في الله .. ليست هذه السيدة هي وحدها التي أعمت (زهوة الانتصار) بصيرتها .. فكم من قويٍ غرته قوته فاعتدى على ضعيف، وكم من غنيٍ أكل مال فقير، وكم من صاحب سطوةٍ ونفوذٍ استولى على حق مسكين، وكم من رجلٍ حرم امرأةً من إرثها، وكم من زوجٍ تلذذ بقهر زوجته، وكم من مديرٍ تمادى في ظلم مرؤوسيه، وكم من مسئولٍ شقَّ على مراجعيه، هؤلاء جميعهم وأمثالهم غرتهم (زهوة الانتصار) وأدارت نشوة النصر - كما الخمر - رؤوسهم، وأعمت بصائرهم فظنوا أن الحياة دانت لهم، وأنهم الأعلى والأعلم والأقوى والأذكى والأغنى والأفضل، وأن لا رقيب عليهم، ولا حسيب يرصد أعمالهم ليحاسبهم عليها؛ لقد ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾، فنسوا ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، ونسوا الحكمة المأثورة "إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".
كم من ظالمٍ أعمته (زهوة الانتصار) فظلم وطغى وبطش ونكَّل وخاصم وفجر واستعلى وعاث في الأرض فساداً، وتمادى في ظلمه، وهو يظن أنه على الحق المبين! وأن ما يفعله هو عين العدل! لم يدرِ بأن الأيام دُوَلٌ، ولم يدرِ أن الله سبحانه وتعالى يُمهل ولا يُهمل، ولم يدرِ أن دعوة المظلوم تشق عنان السماء وليس بينها وبين الله حجاب، وأن ما يرزقه الله به من مزيد قوةٍ وسلطةٍ ما هو إلا استدراجٌ يأتي من بعده الأخذ ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. ولم يدرِ مَن أعان الظالم على ظلمه ولو بكلمةٍ، ومَن ركن إليه فمال له بقلبه، أنهم مشمولون بوعيد الله لهم بأن تمسهم النار؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
أين هؤلاء جميعاً من فرعون حينما غرته قوته فقال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾! بل وحث قومه على ألا يتبعوا دين الإسلام الحق الذي كان يدعو إليه موسى عليه السلام؛ فقال عنه: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾! ووصلت (زهوة الانتصار) به إلى ذروتها حين قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾!. تعامل فرعون مع قومه باستعلاءٍ واستخفاف ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ لماذا أطاعوه؟ لأنهم ﴿كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾، فماذا كانت النتيجة؟ ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾. أين هؤلاء من فرعون وجنوده وهم يطاردون موسى ومن آمن معه من المسلمين يدفعونهم دفعاً نحو البحر، ألم تتملكهم (زهوة الانتصار) حتى من قبل أن يحققوه ظانين أنهم هم الغالبون لا محالة؟ فماذا كان مصيرهم؟ يقول تعالى: ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. هل نفعت فرعون قوته وكثرة عتاده وجنوده؟ هل نفعه الملأ المنافقون من حوله؟ هل نفعه القوم الفاسقون الذين استخف بهم فاتبعوه؟ لا واللهِ لم ينفعه من ذلك شيءٌ حينما جاء أمر الله.
إن انتصار القوي على الضعيف بالقهر والإذلال والطغيان بغير حقٍ، هو انتصارٌ زائفٌ، أبعد ما يكون عن النبل، وأقرب ما يكون من الخسة والدناءة.

ولعل من أكثر حالات الظلم إيلاماً ظلم ذوي القربى؛ حينما يظلم الأب أبناءه، أو يظلم الابن أباه أو أمه، أو يظلم الأخ إخوانه وأخواته؛ يقول الشاعر:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

ألا يخشى الظالمون عذاب الله؟ ألا يخشون توعده لهم بالعذاب الأليم؟ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ويقول سبحانه واصفاً لحظات احتضارهم بعذاب الهون: ﴿وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ﴾.
ويقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محذراً من عقاب الظالمين في الآخرة: [اتقوا الظلمَ، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ]، ويقول صلّى الله عليه وسلّم عن عقابهم في الدنيا: [بابانِ مُعجَّلانِ عُقوبتُهما في الدنيا: البَغْيُ، والعقُوقُ].

أحبتي .. سيأتي - لا محالة - يومٌ يتجرع فيه الظالم من ذات الكأس التي كان يُجبر مَن ظَلمهم على الشرب منها. فإلى متى الغفلة؟! كم من مثالٍ من أمثلة الظلم والظالمين ضربه الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وكم من مرةٍ دعانا فيها للاتعاظ مما آل إليه مصيرهم، وكم من دعوةٍ لنا للاعتبار ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى﴾، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
إن الذين غرتهم الحياة الدنيا، وتملكتهم (زهوة الانتصار) فذهبت بعقولهم، يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾، فهل من متعظ؟
اللهم لا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يعينونهم ويؤيدونهم، ولا ممن يرضون بأفعالهم ويتغاضون عن الظلم فقط لأنه وقع بغيرهم! وأعنا اللهم على رد المظالم إلى أصحابها كلما استطعنا ذلك.
اللهم لا تجعل الدنيا في قلوبنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعلها كل همنا، واجعلها اللهم مزرعةً لنا لآخرتنا، التي فيها معادنا، وإليها إيابنا، وبها خلودنا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

http://bit.ly/35ZFoyQ



الجمعة، 20 ديسمبر 2019

المال مال الله


الجمعة 20 ديسمبر 2019م 

 خاطرة الجمعة /٢١٨ 
(المال مال الله) 
 وقف صاحب أحد المطاعم الفاخرة وسط صالة الطعام شبه الفارغة، في توقيتٍ عُرف بأنه وقت الذروة، لم يكن الحال كذلك أبداً إلى أن تغير تدريجياً منذ بضعة أيام؛ الزبائن تنحسر عن المطعم بلا سببٍ واضحٍ، رغم أنه لم يُقَصِّر في جودة الطعام أو يزيد في الأسعار. خرج إلى الشارع الذي كان يزدحم بالمارة في هذا الحي الراقي التجاري، يبحث عن سببٍ لانحسار الزبائن عن مطعمه؛ مع أنه المطعم الوحيد الذي يقدم أصنافاً مختلفةً وأكثر تنوعاً من المطاعم الأخرى حوله، بل هذا ما يميزه عن غيره، بالإضافة إلى شهرته بحفاوة استقبال العملاء، وسرعة تلبية طلباتهم، الأمر الذي جعله مقصداً أساسياً للزبائن من كل طيف! عاد صاحب المطعم إلى مكتبه الصغير داخل المطعم يفكر في القيام بأي إجراءٍ يجذب به الزبائن مرةً أخرى؛ هل أقدم خصومات؟ أم وجباتٍ جديدةٍ بأسعار مخفضة؟، لا، بل سوف أقدم وجباتٍ مجانيةٍ للمحتاجين. توقف فجأةً عن التفكير عندما تذكر الوجبات المجانية، لينادي على كبير الطهاة بالمطعم، الذي حضر سريعاً فسأله: "هل حضرت «أم أمل» اليوم لتأخذ الطعام؟"، مطَّ كبير الطهاة شفتيه بلا مبالاةٍ وردَّ: "لا لم تأتِ، كما لم تأتِ في الأيام السابقة أيضاً"! اندهش صاحب المطعم من إجابة كبير الطهاة، فسأله مرةً أخرى: "منذ متى؟"، فأجابه: "منذ عدة أيامٍ حين كان المطعم مزدحماً، وأقبلتْ لتأخذ الطعام كعادتها، لكنك حينها صرختَ في وجهها ونهرتها وقلتَ لها أن هذا ليس الوقت المناسب للتسول!". بُهت وجه صاحب المطعم وهو يتذكر تلك الواقعة التي قد نساها تماماً، ولم يهتم منذ حدثت أن يسأل عن تلك السيدة المسنة التي ترمّلت وهي في الأربعين من عمرها، فاضطرت للعمل عدة أعمالٍ شاقةٍ حتى أعياها المرض وأصبحت لا تستطيع العمل كالسابق واكتفت بجلستها لتبيع الخضروات في السوق تتكسب قليلاً من المال لا يكاد يسد رمق أطفالها الثلاثة، وفي أحد الأيام مرَّ بها صاحب المطعم فدعته أن يشتري منها بعض الخضروات، فجلس أمامها بعد أن جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم برغم الآلام التي تشعر بها، وحكت له قصتها، ومنذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يومياً على مطعمه ليعطيها بعض الطعام لها ولأطفالها، وظلت على ذلك شهوراً طويلةً دون أن تنقطع يوماً واحداً. تذكر صاحب المطعم أنه منذ ذلك الوقت وأعمال مطعمه في رواجٍ ورخاءٍ، تذكر أيضاً دعوات «أم أمل» الصادقة وعيونها الشاكرة وهي تأخذ الطعام مغلفاً كما يُعامَل غيرها من الزبائن بالضبط. خرج صاحب المطعم من مطعمه قاصداً المكان الذي كانت تجلس فيه «أم أمل» في السوق، ليجد المكان مشغولاً بسيدةٍ أخرى، بحث عنها في الأماكن المجاورة في السوق فلم يعثر لها على أثر، فوقف شارداً يفكر كيف يجدها وهو لا يعلم أين تسكن، لينتبه على صوت إحدى البائعات تطلب منه أن يشتري منها، فاقترب في هدوءٍ وعلى وجهه ابتسامة بسيطةٌ سألها: "هل تعرفين «أم أمل» التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق؟"، ردت السيدة وهي ترفع يديها داعيةً: "اللهم خفف عنها واشفها يا رب، إنها حبيبتي وحبيبة الجميع هنا"، فزع صاحب المطعم عندما سمع الدعاء؛ فسألها بذعرٍ واضحٍ: "ماذا حدث لها؟"، ردت السيدة بعد أن زفرت الهواء بقوةٍ: "لقد عادت إلى منزلها في إحدى الليالي خاوية اليدين لا تحمل عشاءً لأطفالها كما اعتادت، فأصيبت بحزنٍ شديدٍ أفقدها وعيها وسقطت، لولا أن أنقذها بعض الناس الطيبين". كاد قلب صاحب المطعم أن ينخلع من مكانه؛ فهو يعرف أنه السبب فيما حدث، فعاد وسأل السيدة، والكلمات بالكاد تخرج من فمه: "هل تعرفين أين تسكن؟"، ردت السيدة بالإيجاب، ووصفت له مكان المنزل؛ فرجع مسرعاً إلى المطعم وأمر كبير الطهاة بتجهيز طلبٍ من أشهى مأكولات المطعم ليحمله ويذهب به إلى ذلك العنوان. لم تمر دقائق حتى كان صاحب المطعم يقف أمام بيت «أم أمل» في ذلك الحي العشوائي، وهو يسمع دقات قلبه تكاد تحطم ضلوعه، قبل أن يطرق الباب ويسمع صوت طفلةٍ تسأل من قبل أن يجيبها: "أنا صاحب المطعم .."، لم يُكمل كلماته لينفتح الباب ويرى تلك الطفلة، التي بعمر ابنته، وعلى وجهها ابتسامةٌ صافيةٌ تشبه ابتسامة أمها، وهي ترحب به وتدعوه للدخول. كان ظنه وهو يدلف من الباب أنه سيدخل أولاً إلى الصالة وتكون «أم أمل» في إحدى غرف البيت، لم يكن يعلم أن البيت هو غرفةٌ واحدةٌ بها كل شيءٍ، ليتفاجأ على يساره ب«أم أمل» تجلس على فراشٍ، تتطلع في عينيه بنظراتٍ ملأتها لوماً وعتاباً، وصبيين يجلسان بجوارها، عيونهما معلقةٌ باللفافة التي يحملها بعد أن ملأت روائح الطعام الغرفة. لم يعرف مِن أين يبدأ وكيف يعتذر، وهل هناك كلماتٌ تداوي جرح كلماتٍ؟ اقترب منها بخطواتٍ ثقيلةٍ حتى شعرت بمعاناته، وحنَّ قلبها الرحيم؛ فابتسمت وأشارت إليه ليجلس على طرف الفراش، فجلس وتطلع في وجهها الذي أشرق بابتسامة رضىً وترحيبٍ استقبلها باستحياءٍ قبل أن يبادرها بقوله: "أردتُ أن أتناول طعامي معكم، فهل تسمحين لي أن نتشارك الطعام؟"، هربت دمعةٌ من مقلتها كادت تحرق وجدانه الذي يئن من الإحساس بالذنب، لترد عنها ابنتها «أمل»: "أمي لا تتكلم منذ عدة أيام، ولا تكف عن البكاء". أحس بغُصةٍ في صدره قبل أن يحاول تصنع المرح وهو يفتح لفافات الطعام ويهتف: "دعونا إذاً نُطعمها ونحاول أن نسعدها". بدأوا في تناول الطعام وهو يحاول نشر البهجة في جنبات الغرفة الحزينة، ليبدأ أطفالها تبادل الضحكات، و«أمل» تطعم أمها التي ابتسمت في عدة مناسباتٍ قليلةٍ، وحين جاء وقت الانصراف وقف أمام «أم أمل» يستجديها: "سيدتي، لا أملك أن أستعيد كلمةً خرجت من لساني دون وعيٍ مني، ولكني أملك الشجاعة للاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة، وأعرف أنك كبيرة القلب لن تبخلي عليّ بالصفح"، أشاحت بوجهها عنه وعادت تبكي بكاءً صامتاً، ليقف لثوانٍ طويلةٍ منتظراً عفوها دون جدوى، ليطرق رأسه حزناً ويلتفت ناحية الباب مغادراً، قبل أن يتوقف فجأةً على صوتها وهي تنطق بضعف: "أشكرك، ربنا يسعدك ويسترك وينور طريقك". كلماتٌ بسيطةٌ كانت - بالنسبة له - تساوي الدنيا وما فيها، السعادة والستر والهداية، فهو لا يحتاج أكثر من ذلك. غادرهم وهو مفعمٌ بالبهجة، ووعدهم أنه سوف يعودهم حتى تتعافى أمهم، بعد أن أعطاهم من مال الله قدراً، وفي الطريق عرج مرةً أخرى على المطعم، وما أن وصل هناك حتى هاله ما وجد؛ زحاماً شديداً بصالة الطعام، وزبائن على قائمة الانتظار، والعاملين كخلية النحل لا يكادون يستطيعون تلبية كافة الطلبات. اندفع إلى داخل المطعم، وما أن قابل كبير الطهاة حتى استفسر منه عن سبب ما حدث فرد عليه: "هل تعرف «فلاناً»؟"، "نعم، إنه أشهر ناقد طعامٍ في البلد"، "كان هنا، وطلب عدة أنواعٍ من الأطعمة، وصور تجربته مباشرةً على صفحته الخاصة على فيس بوك، ووصف تجربته بأنها رائعةٌ؛ مما دفع الزبائن للحضور كما ترى"، سأله بلهفة: "ومتى كان ذلك؟"، "كان منذ ساعتين تقريباً"، نظر في ساعته وعرف أنه نفس توقيت وصوله عند «أم أمل»، ليتعلم الدرس؛ ويعرف أن (المال مال الله) هو الرزاق العاطي يُعطيِنا من كرمه لنعطي نحن عباده، وأن الكلمة تُحيي وتميت، وأن لا مال ينقص من صدقةٍ، وأن الفقير هو من يتصدق على الغني حين يرضى ويقبل عطفه وإحسانه. 

 أحبتي في الله .. يقول العلماء إن الله سبحانه وتعالى جعل من نوافل الطاعات طريقاً لنيل رضاه ومحبته، ومن أعظم تلك النوافل: الصدقة؛ يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾. وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه عن رب العزة: {إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ... يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ ...}. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ]، "والفلو: المُهر"؛ فالصدقة تقع في يد الله، يحفظها وينميها لصاحبها؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. 
ولا طريق لتحصيل ثمار المال بعد الموت إلا بالصدقة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مالِي - قَالَ - وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ]. نعم (المال مال الله)، وما يأكله ابن آدم يفنى، وما يلبسه يبلى، وما يتصدق به هو فقط ما يبقى؛ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّهم ذبحوا شاةً فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: [ما بَقَيَ مِنْها؟] قلتُ: ما بقيَ منْها إلَّا كتفُها. قالَ: [بَقَيَ كُلُّها غَيْرَ كَتِفِها]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ]. 

والمتصدق يستفيد من صدقته أكثر من الفقير؛ فثمار الصدقة التي يقطفها المتصدق كثيرةٌ: إنها تطفئ الخطيئة؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ]، وهي تقي صاحبها ميتة السوء؛ يقول الرسول الكريم: [إن الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ]، وهي ظلٌ لصاحبها يوم القيامة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ]، وفيها شفاءٌ للمرضى؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالْصَّدَقَةِ]، كما أنها تعالج قسوة القلب؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ]، وهي إلى جانب ذلك كله تطهر المال مما علق به من آثام؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ، إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ]. فمن تمعّن في ثمار الصدقة يجد أن ما يجنيه المتصدق من صدقته أكثر وأكبر مما يجنيه الفقير من تلك الصدقة. وصدق من قال: لو علم الموسرون وأهل الدور والقصور والأرصدة والتجارات والثروات أنهم يكسبون أكثر وأعظم مما يعطون في الصدقات لكانوا أسرع إلى البحث عن الفقراء والمحتاجين من هؤلاء إليهم، ولكان الواحد منهم يتودد ويتوسل إلى الفقير لكي يقبل منه عوناً يعود على صاحبه بالخير والبركة ورضى الرزاق الكريم. وقد كان في الأمة رجالٌ يدفعون إلى الفقراء وكأنهم يأخذون منهم، رجالٌ كان أحدهم يتودد ويتوسل إلى الفقير: "يا أخي أكرمني وتصدق عليّ بقبول هذه الهدية البسيطة ولك الفضل"! ولا يسميها صدقة. قال شيخٌ لتجار مدينته: "أنتم السعداء حقاً إذا قبل الفقراء وتصدقوا عليكم بالأخذ"! وعلى المتصدق ألا يفسد صدقته بإتباعها بالمن والأذى أو بالرياء؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾. 

 أحبتي .. نخطئُ إن ظننا أن الفقير هو الذي يحتاج إلينا، ونخطئُ أكثر إذا سعى إلينا الفقير فأعرضنا عنه؛ فالصحيح أننا نحن من نحتاج إلى الفقير والمحتاج والمسكين والأرملة وابن السبيل والغارمين وغيرهم ممن تجوز عليهم الصدقات، ذلك أن ما يترتب على صدقاتنا لهم أكبر بكثيرٍ مما يتصور البعض منا؛ فثواب الصدقة نشاهده ونلمسه في الدنيا، أما في الآخرة فإن ربك يضاعف الثواب أضعافاً مضاعفة. ابحثوا أحبتي عن الفقراء والمساكين واسعوْا لهم وتوددوا إليهم حتى يقبلوا منكم هداياكم، فهم مفاتيح أبواب الرزق والسعادة وراحة البال في الدنيا، وهم أصحاب بابٍ من أبواب الجنة اسمه باب الصدقة. هيا أحبتي نخلع عن أنفسنا ثوب شُح النفس، ونتشح بثياب الكرم، ولنتذكر أن (المال مال الله) ما نحن إلا مستخلفين فيه، مسئولون عنه ومحاسَبون عليه، وأننا لسنا برازقين، ما نحن إلا ناقلي رزقٍ للآخرين، ومن رحمة الله بنا وتفضله علينا وكرمه أنه يُجازينا ويُثيبنا على مجرد أننا ننقل ماله ورزقه سبحانه وتعالى إلى غيرنا.

 http://bit.ly/35JzbGZ

الجمعة، 13 ديسمبر 2019

الدعاء يرد القضاء


الجمعة 13 ديسمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٧
(الدعاء يرد القضاء)

امرأةٌ سعوديةٌ تحكي قصةً غريبةً عن زوجها فتقول: كان زوجي شاباً يافعاً مليئاً بالحيوية والنشاط، وسيماً جسيماً ذا دينٍ وخلقٍ باراً بوالديه. تزوجنا وسكنتُ معه في بيت والده كعادة الأسر السعودية، ورأيتُ من بره بوالديه ما جعلني أتعجب منه وأحمد الله أن رزقني هذا الزوج. رُزقنا ببنتٍ بعد زواجنا بعامٍ واحدٍ، ثم انتقل عمله إلى المنطقة الشرقية، فكان يذهب لعمله أسبوعاً ويمكث عندنا أسبوعاً، وأكمل على ذلك ثلاث سنين. في أحد أيام شهر رمضان المبارك، وكانت ابنتنا قد بلغت سن الرابعة، تعرض زوجي لحادث سيارةٍ، وهو في طريقه إلينا في الرياض، أُدخل على إثرها المستشفى، ودخل في غيبوبةٍ، أعلن بعدها الأطباء المختصون المعالجون له وفاته دماغياً وتلف ما نسبته 95% من خلايا المخ. كانت الواقعة أليمةً جداً علينا جميعاً، وخاصةً على أبويه المسنين، وكانت تزيدني حرقةً أسئلة ابنتنا "أسماء" عن والدها الذي شُغفت به شغفاً كبيراً وتعلقت به.
بعد مرور خمس سنين على وجود زوجي في المستشفى في حالة موتٍ دماغيٍ ميئوسٍ من علاجها؛ أشار عليّ بعضهم بأن أطلب الطلاق منه بواسطة المحكمة، حيث أفتى بعض المشايخ لي بجواز الطلاق فيهذه الحالة، لكنني رفضتُ ذلك الأمر رفضاً قاطعاً، وقلتُ لهم: "لن أطلب الطلاق طالما أنه موجودٌ على ظهر الأرض، فإما أن يُدفن كباقي الموتى، أو أن يتركوه لي حتى يفعل الله به ما يشاء".
ظللنا نتناوب على زيارته في المستشفى يومياً، طوال خمسة عشر عاماً، وهو لا يزال على حاله لا يتغير منه شيء. كنت خلال هذه السنوات قد وجهتُ اهتمامي لابنتي الصغيرة، وأدخلتها مدارس تحفيظ القرآن حتى حفظت كتاب الله كاملاً وهي لم تتجاوز العاشرة، أخبرتها وقتها بتفاصيل حالة والدها؛ فكانت تذكره حيناً بالبكاء وأحياناً بالصمت. كانت "أسماء" ذات دينٍ؛ تصلي كل فرضٍ في وقته، وتقوم الليل؛ فأحمد الله أن وفقني لتربيتها، وكانت عندما تذهب معي لرؤية والدها تقرأ عليه ما تيسر من القرآن الكريم وتتصدق عنه بين الحين والآخر.

في أحد الأيام - بعد خمس عشرة سنة - قالت لي "أسماء": "يا أماه، اتركيني عند أبي، سأنام عنده الليلة"، وبعد ترددٍ وافقت، وكانت ليلةً عجيبةً لا تُنسى أخبرتني عنها ابنتي فقالت: "جلستُ بجانب أبي أقرأ سورة البقرة حتى ختمتها، ثم غلبني النعاس فنمت؛ فوجدتُ كأن ابتسامةً علت محياي، واطمأن قلبي لذلك؛ فقمتُ من نومتي وتوضأت وصليتُ ما شاء الله أن أصلي، ثم غلبني النعاس مرةً أخرى. وأنافي مصلاي سمعتُ كأن شخصاً يقول لي: «انهضي، كيف تنامين والرحمن يقظان؟ كيف وهذه ساعة الإجابة التي لا يرد الله عبداً يسأله فيها؟» فنهضتُ كأنما تذكرتُ شيئاً غائباً عني، فرفعتُ يديَّ ونظرتُ إلى أبي وعيناي تغرورقان بالدموع، وقلت: «ربِ يا حي يا قيوم يا عظيم يا جبار يا كبير يا متعال يا رحمن يا رحيم .. هذا والدي عبدٌ من عبادك أصابته الضراء فصبرنا.. وحمدناك وآمنا بما قضيته له.. اللهم إنه تحت مشيئتك ورحمتك.. اللهم يا من شفيتَ أيوب من بلواه، ورددتَ موسى إلى أمه، وأنجيتَ يونس في بطن الحوت، وجعلتَ النار برداً وسلاماً على إبراهيم .. اشفِ أبي مما حل به.. اللهم إنهم زعموا أنه ميئوسٌ منه.. اللهم - ولك القدرة والعظمة - الطف به وارفع البأس عنه». ثم غلب النوم عينيّ فنمت قُبيل الفجر، وإذ بصوتٍ خافتٍ يناديني: «من أنتِ؟ وماذا تفعلين هنا؟»، فنهضتُ على الصوت .. اِلتفَّتُ يميناً وشمالاً فلم أرَ أحداً، ثم سمعتُ نفس الصوت مرةً أخرى فإذا بصاحب الصوت أبي! فما تمالكتُ نفسي؛ قمتُ واحتضنته فرِحةً مسرورةً .. وهو يُبعدني عنه ويستغفر ويقول: «اتقِ الله؛ لا تحلين لي»، قلتُ له: «أنا ابنتك أسماء» فسكتَ .. وخرجتُ إلى الأطباء أخبرهم فأتوا ولما رأوه تعجبوا؛ فقال الطبيب الأمريكي بلكنةٍ عربيةٍ متكسرةٍ: «سبحان الله»، وقال طبيبٌ آخر مصريٌ: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم» .. وأبي لا يعلم ما الخبر حتى أخبرناه بما حدث له، وبما كانت عليه حالته؛ فبكى وقال: «الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين .. واللهِ ما أذكر إلا أنني قُبيل الحادث نويتُ أن أتوقف لصلاة الضحى، فلا أدري أصليتها أم لا؟»". 
تقول الزوجة: فرجع إلينا أبو "أسماء" كما عهدته، وقد قارب عمره ستةً وأربعين عاماً، ورُزقت منه بولدٍ بلغ عمره الآن سنتين ولله الحمد، فسبحان الله الذي رده لنا بعد خمسة عشر عاماً، وحفظ ابنته، ووفقني للوفاء وحسن الإخلاص له حتى وهو مغيبٌ عن الدنيا.



أحبتي في الله .. تقول هذه الزوجة: لا تتركوا الدعاء؛ (الدعاء يرد القضاء)، ومَن حَفظ الله حفظه الله. ولا تنسوا البر بوالديكم. ولنعلم أن الله عزَّ وجلَّ بيده تصريف الأمور وتقديرها، وليس لأحدٍ سواه فعل ذلك. إنها قصةٌ للعبرة؛ لعل الله أن ينفع بها. فإلى من ضاقت به السبل، وعظمت عليه الكُرَب، وأُقفلت من دونه الأبواب، وتقطعت به الأسباب: اقرع باب السماء بالدعاء، واستيقن بالإجابة، لا تيأس، ما دام ربك الله، عليك أن تدعو، وأنت تُحسن الظن بالله سبحانه، وتيقن بقرب الفرج والإجابة.                

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾، كما يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾، ويقول كذلك: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾،ويقول: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. ويقول على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾، ويقول: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾.

وقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: [إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ]، وفي روايةٍ: [الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]. يقول العلماء إن معنى "مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ" أي: يغلب على ظنكم أن الله تعالى يتقبل دعاءكم، ويحقق مرادكم، وهذا من إحسان الظن بالله تعالى، وقد جاء في الحديث القدسي: {أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ}.

يقول أهل العلم إن لقبول الدعاء شروطاً منها: الدعاء لله وحده لا شريك له، بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى، بصدقٍ وإخلاصٍ. ومنها: ألا يدعو المرء بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ أو يستعجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قيل: يا رسول اللَّه مَا الاستعجال؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]. وفي هذا الحديث أدبٌ من آداب الدعاء، وهو الإلحاح وملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة؛ لما فيذلك من الانقياد والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: "لأنا أشد خشيةً أن أُحرم الدعاء من أن أُحرم الإجابة". وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

وينبغي للداعي أن يدعو بقلبٍ حاضرٍ، وأن يتحرى أوقات الإجابة؛ كالثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وعند الإفطار من الصيام، ووقت المطر. وليعلم أن (الدعاء يرد القضاء)؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [... وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، كما يدل على ذلك حديث القنوت الذي جاء فيه: [وَقِنِي شَرَّ مَا قْضَيْتَ].

أحبتي .. أوصيكم ونفسي بالإكثار من الدعاء؛ فهو عبادةٌ سهلةٌ لا مشقة فيها، لا تُكلف مالاً ولا جهداً، ولا تستلزم وضوءً ولا طهارةً ولا استقبال قبلةٍ ولا سفراً، ولا تستغرق وقتاً .. إنها عبادةٌ ميسرةٌ لمن يسرها الله له. فلندعو الله دائماً - خاصةً في أوقات الاستجابة - ولنكن موقنين بالإجابة، فمن ذا الذي يرفع يديه للكريم مؤمناً مخلصاً خاشعاً منيباً موقناً فيردهما صفراً خائبتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ].

اللهم إنا ندعوك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيتَ به أجبت، وإذا سُئلتَ به أعطيت، وإذا اُسترحمتَ به رحمت، وإذا اُستجرتَ به أجرت، وإذا اُستغفرتَ به غفرت، أن تكفر عنا سيئاتنا، وتغفر لنا ذنوبنا، وتقبل منا أعمالنا، وتتوفنا وأنت راضٍ عنا.

http://bit.ly/34ixA9N