الجمعة، 8 أكتوبر 2021

الإبداع في عمل الخير

 

خاطرة الجمعة /312


الجمعة 8 أكتوبر 2021م

(الإبداع في عمل الخير)

 

وقف رجلٌ بسيارته في مكانٍ يتجمع فيه عمال اليومية، نزل من سيارته، وقال للعمال المتواجدين: "مَن يريد أن يعمل مقابل عشرين جنيهاً في اليوم فليركب معي السيارة"، اعترض معظم العمال على هذا المبلغ القليل؛ وقالوا له بغضبٍ: "أنت تستغل فقرنا وقلة فرص العمل"، وأخبروه أن أقل أجرٍ يوميٍ لأي عاملٍ لا يقل عن مائة جنيه، رفض الرجل وقال: "أنتم أحرارٌ، لن أدفع أكثر من عشرين جنيهاً". انصرف عنه العمال من الشباب والرجال الأشداء، وركب معه السيارة خمسة عمالٍ من كبار السن، يغلب على مظهرهم الفقر وشدة البؤس، انطلق بهم بسيارته. توقف الرجل عند متجرٍ كبير، ونزل من السيارة، واشترى لكل واحدٍ من العمال الخمسة: كيس دقيق 10 كيلو، وكيس سكر 5 كيلو، وكيس أرز 5 كيلو، وزجاجة زيت طعام 3 لتر، وأعطى كل واحدٍ منهم مبلغ مائة جنيهٍ، وقال لهم: "انتهى عملكم معي، وتستطيعون الآن العودة إلى بيوتكم". ثم انطلق بسيارته مسرعاً وسط دهشة العمال البائسين، الذين لم يُتِح لهم الرجل فرصة أن يشكروه!

 

أحبتي في الله .. كان غرض الرجل أن تصل صدقته لمن يستحقها بالفعل، إلى أكثر الناس احتياجاً، ممن لا يتسولون أو يسألون الناس إلحافاً، وإنما خرجوا متوكلين على الله، يعرضون جهدهم للإيجار اليومي لمن يحتاجه. لم يتواكلوا، بل بذلوا ما استطاعوا من جهدٍ بإخلاصٍ من غير ادعاءٍ ولا تَصَنُّع. هُم من المعدمين الذين خرجوا للعمل من أجل كسب أجرٍ حلالٍ حتى ولو كان أقل من القليل، مقابل أعمالٍ بدنيةٍ شاقةٍ لا يعلمون مُسبقاً إن كان مُقدَّراً لهم العمل أم لا، وإذا قُدِّر كيف وأين سيكون؟ ولمن سوف يعملون؟

كان ذلك موقفاً من مواقف (الإبداع في عمل الخير)؛ إذ فكر الرجل بذكاءٍ، وخطط للموقف بعنايةٍ، ونفذه بدقة.

وهناك مواقف أخرى تُبين أن (الإبداع في عمل الخير) قد يأتي بشكلٍ عفويٍ، بغير تخطيطٍ مسبقٍ ربما هو نتاج تفكير اللحظة أو هو فتحٌ من الله سبحانه وتعالى وإلهامٌ منه بحُسن التصرف؛ ومن ذلك ما حدث مع هذا الشاب الذي كتب يقول:

ذات يومٍ كنتُ في أحد المتاجر الاستهلاكية بمدينة «مكة»، وبعد أن انتهيتُ من انتقاء أغراضي ووضعتها في السلة ذهبتُ إلى المحاسب كي أسدد ثمنها، وقفتُ في الصف، وكان يقف أمامي شابٌ، تقف أمامه سيدةٌ معها بنتان صغيرتان، عندما وصلت السيدة في دورها إلى المحاسب أدخل بيانات مشترياتها إلى الحاسوب ثم قال لها: "حسابك 145ريالاً"؛ فمدت يدها في حقيبتها تبحث عن نقود، جمعت مائة ريالٍ عشرات، وأعطت البنتان لأمهما بعض ريالاتٍ أخرى إلى أن وصل المبلغ إلى 125ريالاً، حينها ظهر الارتباك على الأم؛ حاولت إرجاع بعض الأغراض حتى تُقلل الحساب. قالت لها إحدى بناتها: "أمي، هذه لا نحتاجها" وقالت الأخرى: "وهذه ليست مهمة"! فجأةً، رأيتُ الشاب الذي يقف خلفهم يرمي بورقةٍ من فئة 50 ريالاً تحت قدمي السيدة، ثم خاطبها بمنتهى الهدوء والأدب قائلاً: "يا أمي، انتبهي هذه النقود وقعت من حقيبتك"، وانحنى وأخذ الخمسين ريالاً من الأرض وأعطاها لها، شكرته السيدة وأخذت المبلغ وأكملت الحساب وانصرفت، لكنها وقفت للحظةٍ - وهي تهم بالخروج من باب المتجر- ونظرت إلى الشاب نظرةً تحمل كل معاني الشكر، عندما أحس الشاب بذلك أدار وجهه بسرعةٍ، كأنما لا يريد أن يتلقى منها مقابل عمله ولو كان نظرة شكر!

تركتُ دوري في الصف وتنحيتُ جانباً حتى أنهى الشاب حسابه وهَمّ بالمغادرة فلحقته مُسرعاً وقلت له: "انتظر يا أخي، أريد أن أتحدث معك"، وأخبرته أني شاهدتُ ما قام به منذ قليلٍ مع تلك السيدة، وأني معجبٌ بحُسن تصرفه وسرعة بديهته، وسألته: "بالله عليك، كيف واتتك الفكرة بهذه السرعة ونفذتها بهذا الاتقان؟"، في البداية حاول الإنكار، ولكن بعد أن أخبرته بأني لستُ من سكان «مكة» وأني أعتمر وسوف أرجع إلى مدينتي والأغلب أني لن أراه مرةً أخرى، اطمأن وقال لي: "واللهِ يا أخي إني كنتُ متحيراً على مدى الدقائق التي كانوا يجمعون فيها ما معهم من نقودٍ لدفع الحساب، لكن ربك سبحانه وتعالى ألهمني هذا التصرف حتى لا أُحرِج الأم أمام ابنتيها، لم تكن حيلةً مني ولا حُسن تصرف ولا سرعة بديهة، وبالله عليك لا تفتني واتركني أذهب"، قلتُ له: "يا أخي أرجو الله أن تكون ممن قال عنهم: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾"؛ فدمعت عيناه واستأذن ومشى إلى سيارته مُسرعاً.

 

كثيرٌ من الناس يقومون بعمل الخير، لكن قليلاً منهم من يُبدع في ذلك. يقول أهل الاختصاص عن الإبداع إنه "أن ترى ما لا يراه الآخرون"، أو "أن ترى المألوف بطريقةٍ غير مألوفة"، أو "هو تنظيم الأفكار وظهورها في بناءٍ جديدٍ انطلاقاً من عناصر موجودة بالفعل"، أو "هو القدرة على حل المشكلات بأساليب جديدةٍ غير مسبوقة".

إن (الإبداع في عمل الخير) ليست له صورةٌ واحدةٌ، وإلا ما كان إبداعاً، بل إن كانت هناك فكرةٌ تم تنفيذها بالفعل في هذا المجال فهي إبداعٌ عند تنفيذها لأول مرةٍ فقط، تتحول بعد ذلك عند تكرار تنفيذها إلى فكرةٍ طيبةٍ ومفيدةٍ لكنها تفقد صفة الإبداع.

(الإبداع في عمل الخير) إذن عمليةٌ مستمرةٌ متجددةٌ، وهي بهذا المعنى فرصةٌ للتنافس بين المسلمين توصلهم بإذن الله وبرحمته إلى جنات النعيم؛ يقول المولى عزَّ وجلّ: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.

إن من أهم صفات المبدعين في عمل الخير المسارعة إليه؛ ففيها اقتناص فرصةٍ قد لا تتكرر، فضلاً عن أن المسارعة في الخيرات من صفات الصالحين؛ يقول تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، وهي من صفات المؤمنين الذين يخشون ربهم؛ يقول تعالى عنهم: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، كما أنها من أسباب استجابة الدعاء؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾.

ومن صور (الإبداع في عمل الخير) الاهتمام بالصدقات الجارية أكثر من الصدقات العارضة، وفي كلٍ خير، لكن الصدقات الجارية تضمن استمرارية عمل الخير دون توقف، حتى أنه يستمر عقوداً وأحقاباً، وكثيراً ما يمتد إلى ما بعد وفاة المؤسسين فيكون ثواباً مستمراً لهم. ومن ذلك أيضاً الاتجاه من عمل الخير الفردي إلى عمل الخير المؤسسي الذي يكفل وصول الإعانات والمساعدات لمستحقيها الحقيقيين الذين ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾.

 

أحبتي .. أدعو الله أن يجعلنا ممن قال عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، وأسأل الله أن يجعلنا ممن يُنفقون في سبيله وابتغاء مرضاته، وممن يبذلون الجهد في (الإبداع في عمل الخير) كي يصل عملهم إلى الفقراء والمساكين المحتاجين بالفعل، المتعففين، وليس إلى من يدَّعون الفقر، وهُم للأسف كُثُر.

هدانا الله وأرشدنا إلى طريق الخير، وألهمنا سرعة البديهة وحُسن التصرف، ونزع من نفوسنا الشُح والبُخل والتقتير، وخلَّص صدقاتنا من المن والأذى، وتقبلها منا، وأبعدنا عن النفاق والمراءاة والعُجب بالنفس.

 

https://bit.ly/3iFpUrR

الجمعة، 1 أكتوبر 2021

ما نقصت صدقةٌ من مال

 

خاطرة الجمعة /311


الجمعة 1 أكتوبر 2021م

(ما نقصت صدقةٌ من مال)

 

يقول صاحب مطعمٍ في إحدى محافظات السودان الشرقية:

كنا في المطعم نستعد لتقديم وجبة العشاء في إحدى ليالي الخريف، وبعد تجهيز الطعام هطلت الأمطار بشدة، وأظلمت علينا السماء، وانقطعت الكهرباء، وبدأ أهل السوق في المغادرة، فأشعلنا الفوانيس واتفقنا على المغادرة بعد هدوء الأحوال، وعددنا الطعام الذي صنعناه من الخسائر، إذ لا توجد مبرداتٌ كافية، والمبردات الموجودة لن تنفع مع انقطاع الكهرباء.

في أثناء انشغالنا بالحديث رأيتُ في ظل الفوانيس شيئاً يتحرك في الجهة المقابلة للمطعم؛ فحملتُ فانوساً وعصا لظني أنه لصٌ يريد كسر أحد الدكاكين، اقتربتُ من ذلك الشيء، وعلى ضوء الفانوس الضعيف، رأيتُ امرأةً معها طفلان في غاية الضعف والتعب؛ فسألتها إن كانت تحتاج إلى شيءٍ فقالت: "أريد طعاماً لي ولأولادي" فقدّمتُ لها أحسن ما عندي من الطعام، وأعطيتها بعض المال؛ فبكت المرأة بكاءً شديداً؛ فقلتُ: "ما الذي يبكيكِ؟"، فقالت: "تُوُفِّيَ زوجي، وهذا ثالث يومٍ لا أجد فيه ما يسد جوعي وجوع أطفالي"، قلتُ لها: "خيراً" وتركتها؛ فسمعتُها تتمتم بكلماتٍ منها: "ربي يوسع عليك الليلة كما وسعتَ على أولادي"، قلتُ: "آمين".. وإن كنا خسرنا في تلك الليلة، فالأمر كله لله، والمؤمن لا يقنط من رحمة الله.

كانت الأمطار تهطل، والريح تعصف، وأنا أستعد لإغلاق المطعم وأحسب الخسائر، فرفعتُ رأسي فجأةً على صوت حافلةٍ تحمل مسافرين تقف أمام باب المطعم، لا أدري من أين جاءت، نزل سائق الحافلة وسأل: "هل عندكم طعام؟"، قلتُ: "نعم"؛ فنزل من الحافلة أكثر من أربعين مسافراً، واشتروا جميع ما لدينا من الطعام، وصنعنا لهم طعاماً آخر، وحتى بقايا الخبز الجاف بعناها عليهم مع الشوربة. وبعد ذهابهم جلستُ أحسب الأرباح ومعي العمال في عجبٍ من هذا التحول المفاجئ والربح السريع. قال أحد العمال: "ماذا عملتَ من عملٍ صالحٍ اليوم؟!"، فانتفضتُ كالملدوغ وأنا أتذكر دعوة المرأة وهي تقول: "ربي يوسع عليك الليلة كما وسعتَ على أولادي"؛ فحمدتُ الله، ثم خرجتُ تحت المطر أبحث عنها فلم أجدها، وتذكرتُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ]، ساق الله المطر لتَشبَع المرأة وصغارها، وساق الحافلة ليجزي المُنفق على إنفاقه، وهكذا الدنيا يُقَلِّبها الله بين عباده ليختبرهم ويبلو أخبارهم وينظر كيف يعملون ﴿ولَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذينَ آمَنوا وكانُوا يَتَّقُون﴾.

 

أحبتي في الله .. إنه ثواب الصدقة، لا يتأخر كثيراً، يأتي سريعاً ووفيراً بقدر إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، و(ما نقصت صدقةٌ من مال) وإنما هي تزكيه وتزيده نماءً في الدنيا، فضلاً عن ثواب الآخرة وما ينتظر المتصدق من أجرٍ عظيم.

لا شك في أنّ الصدقة أحد أكبر أبواب الخير والتَقرُب من الله تعالى، لذا فقد تكرر ذِكر الصدقة في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله وفي أوجه الخير وفي تقديم الصدقات: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.

ويقول تعالى مُبيناً عظم أجر الصدقة ومضاعفته عزَّ وجلَّ لها: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم﴾، ويقول سبحانه: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾.

ويقول تعالى مُذكراً بأن المال مال الله، وأنه إذا صُرف في الصدقات وأوجه الخير فهو يعود إلى المتصدق بالخير ويزيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

ويقول تعالى مُوضحاً أن الصدقة تُيسِّر على صاحبها أعمال الخير التي تكون سبباً في دخوله الجنة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.

ويقول تعالى مُنبهاً إلى أن الإنسان في لحظات الموت يتمنى لو يؤخر الله أجله حتى يزيد من صدقاته التي ترفع من درجته وتجعله من الصالحين: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.

 

ويحثنا الله سبحانه وتعالى على إخفاء الصدقات لتكون في السر قدر الإمكان؛ فذلك أدعى إلى الإخلاص، وأقرب إلى حفظ كرامة المتصدَق عليهم؛ فيقول تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ﴾.

وينهانا سبحانه وتعالى عن أن نُتبع صدقاتنا بالمنّ والأذى فتبطل ونكون من المنافقين، واعداً مَن يحرص على عدم المن والأذى بالأجر وعدم الخوف وعدم الحزن؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.

 

وعن فضل الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى]، وقال عليه الصلاة والسلام: [والصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ]، كما قال: [كلُّ امرئٍ في ظلِ صدقتِه حتَّى يُقضى بينَ النَّاسِ]. وذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا]، وقال أيضاً: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها ما بقي منها؟ قالت: ما بقى منها إلاّ كتفها، قال: [بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ].

وعن أفضل الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنْ تَصَدَّقَ وأنْت صحيحٌ شَحيحٌ تَخْشى الْفقرَ، وتأْمُلُ الْغنى، وَلاَ تُمْهِلْ حتَّى إِذَا بلَغتِ الْحلُقُومَ قُلت: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كَذَا، وقَدْ كَانَ لفُلان]، وعن أفضل الصدقة كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [جُهْدُ المُقِلِّ، وابدأْ بمن تَعُولُ].

 

صحيحٌ أنه (ما نقصت صدقةٌ من مال)، بل زادته ونمته وباركت فيه. ومن أهم أنواع الصدقات وأكثرها ثواباً الصدقة الجارية؛ فهي عملٌ صالحٌ يعود بالنفع على صاحبه في حياته وبعد موته، طالما أن عمله مازال الانتفاع به مستمراً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾. ومن أمثلة الصدقة الجارية ما ورد في قول النبي عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ].

 

قال الشاعر:

يا مَنْ تـَصَدَّقَ مالُ الله ِ تـَبْذلـُهُ

في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال ِ نـُقصانُ

كـَمْ ضاعَفَ اللهُ مالا ً جادَ صاحِبُهُ

إنَّ السَخاءَ بـِحُـكـْم ِاللـهِ رضــوانُ

الشـحُّ يُـفـْضي لِسُقم ٍ لا دَواءَ لـَهُ

مالُ البَخيل ِ غـَدا إرْثـا ً لِمَنْ عانوا

 

وصدق من قال: "ليس باستطاعتك أن تأخذ مالك معك للآخرة، لكن باستطاعتك أن تجعله يستقبلك".

 

ومن أجمل ما قرأت عن الصدقة: "إن الله الغني، خزائنه ملأى يُنفق كيف يشاء، ليس بحاجةٍ لأموالنا، ولو شاء لرزق الناس جميعاً وأغناهم، لكنه يختبرنا في هذه الدنيا بالمال الذي أعطانا إياه، قد لا يرجع علينا ما تصدقنا به، لكن ليكن في يقيننا أنه محفوظٌ، وما نفعل من خيرٍ لن ينساه الله لنا، وكل ذرة خيرٍ محفوظةٌ عند ربٍ لا يضل ولا ينسى".

 

وليست الصدقات كلها مالاً أو إطعاماً أو كسوة؛ فمن الصدقات ما لا يكلف الإنسان شيئاً؛ مثل: التسبيح، الاستغفار، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، التبسم في وجه الأخ المسلم وملاقاته بوجهٍ طلق، إفراغك من دَلْوِكَ في إناء أخيك، تسليمك على غيرك، رد السلام، عيادة المريض، إغاثة الملهوف، هداية المستدِل على الطريق، اتباع الجنائز، إعانة وإرشاد كل ذي حاجة، وغير ذلك؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ مَعْروفٍ صَدَقَةٌ]، حتى أن من لا يستطيع فعل شيءٍ من هذه الأفعال البسيطة يكفيه أن يُمسك شره عن الناس ويمنع نفسه عن أذاهم، فتكون له بذلك صدقة!

 

أحبتي .. الصدقة مفتاحٌ لكل خيرٍ؛ فلنُكثر من الصدقات، فهي كما قيل: "تُديم النّعم، تدفع النّقم، ترفع البلاء، تستنزل الشّفاء، تُنجي من الكرب، وتطفئ غضب الرّب". ولنُذَكِّر أنفسنا بأن الصدقة إن كانت بغير المال فهي سهلةٌ ميسورةٌ لا يتركها إلا غافلٌ، وإن كانت بالمال فإنه ليس مالنا، بل هو مال الله سبحانه وتعالى ونحن مستخلفون فيه، فإذا أمرنا صاحب المال بالصدقات فليس لنا أن نمتنع أو نتأخر بل علينا أن نسارع ونبادر؛ لننعم برضاه عزّ وجلّ، وننال ما وعدنا به من أجرٍ عظيمٍ وثوابٍ كبير، في الدنيا والآخرة. فلنُكثر من الصدقات خاصةً الصدقات الجارية، طهرةً للمال والنفس، ومرضاةً للرب، ونحن واثقون أنه (ما نقصت صدقةٌ من مال). واعلموا أحبتي أننا بحاجةٍ إلى ثواب الصدقة بأكثر من احتياج من نتصدق عليه إلى المال أو الإعانة.

اللهم قِحنا شُح أنفسنا، وأعنّا على أن نكون من المتصدقين، واجعلنا اللهم من أهل الجنة المكرمين الذين من أوصافهم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

 

https://bit.ly/3inm1rw

الجمعة، 24 سبتمبر 2021

يُمهل ولا يُهمل

 

خاطرة الجمعة /310


الجمعة 24 سبتمبر 2021م

(يُمهل ولا يُهمل)

 

كتبت تقول: أنا زوجةٌ وأمٌ لابنٍ وبنت، ومنذ أن بدأتُ حياتي مع زوجي ونحن نعيش حياةً رغدة، وقد استعنتُ طوال حياتي الزوجية على تربية أولادي بمربياتٍ عديدات، وكانت كل واحدةٍ منهن لا تمكث عندي أكثر من شهرين ثم تفر من قسوة زوجي العدواني بطبعه، فقد كان يتفنن في تعذيب أية مربيةٍ تعمل عندنا، ولا أنكر أنني شاركته في بعض الأحيان جريمته. ولما صارت ابنتي في السابعة من عمرها وابني في المرحلة الإعدادية، جاءنا مزارعٌ من معارف زوجي يصطحب معه ابنته الطفلة ذات الأعوام السبعة قال المزارع البسيط إنه أتى بابنته لتعمل عندنا مقابل عشرين جنيهاً في الشهر، فوافقنا. وترك المزارع طفلته فانخرطت في البكاء وهي تُمسك بجلباب أبيها، وانصرف الرجل دامع العينين. بدأت الطفلة حياتها الجديدة معنا، فكانت تستيقظ في الصباح الباكر لتساعدني في إعداد الطعام لطفلي، ثم تحمل الحقائب المدرسية وتنزل بها إلى الشارع وتظل واقفةً مع ابنتي وابني حتى تحملهما حافلة المدرسة، وتعود إلى الشقة فتتناول إفطارها، وكان غالباً من فولٍ بدون زيت، وخبزٍ على وشك التعفن، ثم تبدأ في ممارسة أعمال البيت من تنظيفٍ ومسحٍ وشراء الخضر وتلبية النداءات والطلبات حتى منتصف الليل؛ فتسقط على الأرض كالقتيلة وتستغرق في النوم، وعند أية هفوةٍ أو نسيانٍ أو تأجيل أداء عملٍ مطلوبٍ ينهال عليها زوجي ضرباً بقسوةٍ شديدة، فتتحمل الضرب باكيةً صابرة، ورغم ذلك فقد كانت في منتهى الأمانة والنظافة والإخلاص لمخدوميها، تفرح بأبسط الأشياء. ورغم اعترافي بأني كنتُ شريكةً لزوجي في قسوته على الخادمات وتفننه في تعذيبهن، إلاَّ أنه كانت تأخذني الشفقة في بعض الأحيان بهذه الفتاة، لطيبتها وانكسارها فأناشد زوجي ألاَّ يضربها، فكان يقول لي: "إنَّ هذا الصنف من الناس لا تجدي معه المعاملة الطيبة". واستمرت الفتاة تتحمل العذاب في صمتٍ وصبر، وحتى حين يأتي العيد ويخرج طفلاي مبتهجين تبقى هذه الطفلة المسكينة تنظف وتغسل دون شفقة. أما أبوها فلم نره إلاَّ مراتٍ معدودة عندما يأتي لأخذ الأجرة. وأنا أبكي الآن كلما تذكرت قسوة عقابنا لها إذا أخطأت أي خطأٍ، فقد كان زوجي يصعقها بسلك الكهرباء!! وكثيراً ما حرمناها من وجبة عشاءٍ في ليالي البرد القاسية فباتت على الطوى جائعة، ولا أتذكر أنها نامت ليلةً، عدة سنواتٍ طويلةٍ، دون أن تبكي!!

وحين قاربتْ الفتاة سن الشباب خرجتْ ذات يومٍ لشراء الخضروات ولم تعد، فسأل زوجي البواب عنها وعرف أنها كانت تتحدث لفتراتٍ طويلةٍ مع شابٍ يعمل لدى جزارٍ بنفس الشارع، وأنه من المحتمل أن تكون قد اتفقت معه على الزواج حتى ينتشلها من هذه الحياة القاسية. ولكن لم يمضِ أسبوعٌ حتى كان نفوذ زوجي قد تكفل بإحضارها من مخبئها، واستقبلناها عند عودتها استقبالاً حافلاً بكل أنواع العذاب، فقام زوجي بصعقها بالكهرباء وتطوع ابني بركلها بعنف، إلاَّ ابنتي فإنها كانت تتألم بما يُفعل بهذه الخادمة المسكينة. وعادت المسكينة لحياتها الشقية معنا واستسلمتْ لمصيرها، فإذا أخطأتْ أو أجلتْ عملاً لبعض الوقت يضربها زوجي ضرباً مبرحاً، وكنا نستمتع ونخرج في الإجازات ونترك لها بقايا طعام الأسبوع، ثم شيئاً فشيئاً بدأنا نلاحظ عليها أن الأكواب والأطباق تسقط من يديها وأنها تتعثر كثيراً في مشيتها، فعرضناها على الطبيب فأكد لنا أن نظرها قد ضعف جداً وأنها لا ترى حالياً ما تحت قدميها أي أنها أصبحتْ شبه كفيفةٍ، ورغم ذلك لم نرحمها وظلت تقوم بكل أعمال البيت وتخرج لشراء الخضر من السوق، وكثيراً ما صفعتها إذا عادت من السوق بخضرواتٍ ليست طازجة، فأشفقتْ عليها زوجة البواب فكانت تشتري الخضروات لها حتى تنقذها من الإهانة والضرب. واستمر الحال هكذا لفترةٍ من الزمن، ثم خرجت الفتاة ذات يومٍ من البيت بعد أن أصبحت كفيفةً تقريباً ولم تعد مرةً أخرى، ولم نهتم بالبحث عنها هذه المرة. ومضت السنوات فأُحيل زوجي للتقاعد وفقد المنصب والنفوذ. وتخرَّج ابني من الجامعة وعمل وتزوج وسعدنا بزواجه، اكتملت سعادتنا حين عرفنا أن زوجته حامل، وبعد مرور شهور الحمل وضعتْ مولودها، فإذا بنا نكتشف أنه كفيفٌ لا يبصر، وكانت صدمةً قاسيةً علينا، وتحولت الفرحة إلى حزن، وعرضناه على الأطباء ولكن بلا فائدة. واستسلم ابني وزوجته للأمر الواقع، وأدخلنا حفيدنا حضانةً للمكفوفين، وقررتْ زوجة ابني ألاَّ تحمل خوفاً من تكرار الكارثة، ولكن الأطباء طمأنوها وشجعوها على الحمل وشجعناها نحن أيضاً، وحملت وأنجبت طفلةً جميلةً، وزف الطبيب إلينا البشرى بأنها ترى وتُبصر كالأطفال، وسعدنا بها سعادةً مضاعفةً، وبعد سبعة شهورٍ لاحظنا عليها أن نظرها مُركزٌ في اتجاهٍ واحدٍ لا تحيد عنه، فعرضناها على أخصائي عيون، فإذا به يصدمنا بحقيقةٍ أشد هولاً وهي أنها لا ترى إلاَّ مجرد بصيصٍ من الضوء وأنها معرضةٌ أيضاً لفقد بصرها، فأصيب زوجي بحالةٍ نفسيةٍ فسدت معها أيامه وكره كل شيءٍ، ونصحنا الأطباء بإدخاله مصحةً نفسيةً لعلاجه من الاكتئاب.

وانقبض قلبي وتذكرتُ فجأةً الكسيرة التي هربت من جحيمنا كفيفةً بعد أن أمضت معنا عشر سنواتٍ ذاقت خلالها أهوال الصعق بالكهرباء والضرب والهوان والحرمان، وساءت نفسي من الجزع، هل هذا عقاب السماء لنا على ما فعلناه بها؟! وأصبحتْ صورة هذه الفتاة اليتيمة التي أهملنا علاجها وتسببنا في كف بصرها تُطاردني في وحدتي، وتعلَّق أملي في عفو ربي عما جنينا في أن أجد هذه الفتاة وأُكفِّر عما فعلناه بها. وبعد البحث والسؤال عنها علمنا أنها تعمل خادمةً بأحد المساجد، فذهبتُ إليها وأحضرتها لتعيش معي ما بقي لي من أيامي، ورغم قسوة الذكريات، فقد فرحتْ بسؤالي عنها وسعيي إليها لإعادتها، وحفظتْ العشرة التي لم نحفظها، وعادت معي تتحسس الطريق وأنا أمسك بيدها، استقرت الفتاة معنا وأصبحتُ أرعاها بل وأخدمها هي وحفيدي الكفيفين وأملي ودعائي لربي أن يغفر لي ما كان.

قالت صاحبة القصة ختاماً لروايتها: "أقول لمن انعدمت الرحمة في قلوبهم: إن الله حيٌ لا ينام؛ فلا تقسوا على أحدٍ، فسوف يجيء يومٌ تندمون فيه على ما فعلتم وقت قوتكم وجبروتكم".

 

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم إن من السنن الإلهية أن الظلم مهما طال أمده واشتد، فإن فجر ونور العدل والنصر يأتي ولو بعد حينٍ؛ فالله سبحانه وتعالى العدل الحكم (يُمهل ولا يُهمل)، ونهاية الظالمين أليمةٌ يراها المظلوم في الدنيا قبل يوم الحساب، فسبحان الذي يقصم ظهور الظالمين ويُشدد العقوبة عليهم؛ وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: {اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا غَيْرِي}، والله تعالى يغضب في حق خلقه بما لا يغضب في حق نفسه فينتقم لعباده بما لا ينتقم لنفسه؛ يقول تعالى: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾. إن رب العالمين لا يُهمل أحداً، ولا يحنث في وعده، ولا يتخلى عن المظلومين أياً كانت ملتهم، فهذه سنته في خلقه، وقانونه بين البشر، إنَّ أمْره إذا جاء لا يرده أحد، ولا يقوى على منعه بشر، ولا يتأخر عقابه ممن ظَلم، وثأره ممن بغى وتجبر.

ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يُمهل الظالم لكنه لا يُهمل، ولا ينسى ولا يدع، يتركه في غيه سادراً لا يعي ولا يتدبر، يصبر عليه ويتركه، ويحلم في التعامل معه ولا يعاجله، لكن إذا جاء الوعد وحان الحين، فإن أخذ الله أليمٌ شديدٌ، فهل من متعظٍ أو مدّكر؟

والله بحكمته البالغة يُمهل الظالم ليعتبر به من في الأرض ويعرفون أنّ له قصاصاً دنيوياً بجانب قصاص الآخرة. قد يغتر الظالم بظلمه شهوراً وسنواتٍ، فيظلم عباد الله، والله يُمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له فيتمادى الظالم في غيه وجبروته وينسى أن الله (يُمهل ولا يُهمل)، وأنه سبحانه وتعالى يصبر على الظالمين رغم ظلمهم، ورغم كيدهم وطغيانهم، يُمهلهم ويُملي لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

إن الله يمهل الظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه لم يفلته: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والآخرة، وسيُعرض الخلائق كلهم عليه، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور فلا يعذب أحداً بغير ذنب: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾.

إنّ من لطف الله بعبده الظالم، أن يُمهله لعله يتوب، ويؤخره لعله يُقلع، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإذا استمر في ظلمه وتمادى فيه فربما أخَّره، ليزداد في الإثم، استدراجاً من الله المنتقم الجبار؛ يقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]. ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

وحتى نتصور هذا الألم وهذه الشدة دعونا نتفكر في قول الله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، تُوصف هذه الآية بأنها "أبلغُ ما يُتصور في النّهي عن الظلم والتهديدِ عليه"؛ فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه إذا كان حال الميل إلى من وُجد منه ظلمٌ يُفضي إلى مساس النّار، فما الظنّ بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ثم ما الظن إذن بالظالمين أنفسهم، كيف سيكون عقابهم؟ إنّ في قوله تعالى: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ نهيٌّ عن مجرد الركون، أي إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم بما هُم عليه من الظلم. قال المفسرون عن الركون إنه أفعالٌ بالقلب وأفعالٌ بالجوارح، أمّا أفعال القلب فمنها: الميل والمحبة والرضا، وأما أفعال الجوارح فمنها: السكون، والاشتراك بتزيين الظلم، والمداهنة للظالمين من زيارةٍ ومصاحبةٍ ومجالسةٍ والحديث عنهم بالفضل، والاعتماد عليهم. والمراد بالذين ظلموا هم مرتكبو الظلم فعلاً الذين جعل الله عقوبتهم معجلةً في الدنيا قبل الآخرة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ما مِن ذنبٍ أجدَرَ أنْ يُعجِّلَ اللهُ لصاحبِه العقوبةَ في الدُّنيا مع ما يدَّخِرُ له في الآخرةِ مِن البغيِ وقطيعةِ الرَّحمِ]، وعلى الباغي تدور الدوائر فيبوء بالخزي، ويتجرع مرارة الذل.

 

وقال الشاعر حاثاً على عدم الظلم:

لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مُقتدراً

فالظلمُ مرتعهُ يُفضي إلى الندمِ

تنامُ عينُك والمظلومُ منتبهٌ

يدعو عليكَ وعينُ الله لم تنمِ

 

أحبتي .. عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللهِ تَبَاركَ وتعالى أنَّهُ قَالَ: {يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا ... يَا عِبَادي، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ}. وقال عليه الصلاة والسلام: [... وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ]، وقال كذلك: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، فليتقِ كلٌ منا الله ويتوقف فوراً عن ظلم أي إنسانٍ؛ فالظلم ظلماتٌ، عواقبه وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى (يُمهل ولا يُهمل). أفلا يفيق الغافلون قبل فوات الأوان؟ ألا يعتبر الظالمون قبل نزول العقاب الإلهي؟

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غِرة، ولا تجعلنا من الظالمين، ولا ممن يركنون إلى الظالمين ولا حتى بقلوبهم، ولا من الغافلين.

 

https://bit.ly/3lSo8ol

الجمعة، 17 سبتمبر 2021

الإخلاص في العمل

 

خاطرة الجمعة /309


الجمعة 17 سبتمبر 2021م

(الإخلاص في العمل)

 

يحكي وكيل مدرسة ويقول: في عام 1414هـ في إحدى مدارس المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، وعندما كنتُ وكيلاً لهذه المدرسة، حصلت قصةٌ لم تغب عن ذاكرتي إلى هذه اللحظة، فقد اتصلت إحدى الأمهات بمدير المدرسة، وطلبت منه أن تتحدث إلى معلم الدراسات الاجتماعية لأمرٍ ضروريٍ، لكن المدير اعتذر منها وأخبرها أن المعلم في حصةٍ ولا يستطيع إخراجه من الفصل من أجل الرد عليها، عندها قالت الأم إنها سوف تتصل به لاحقاً. في اليوم الثاني اتصلت الأم مرةً أخرى وطلبت الحديث مع نفس المعلم، لكن مدير المدرسة اعتذر منها لنفس السبب أيضاً، وطلب منها إذا كان يستطيع مساعدتها أو إيصال رسالة إلى المعلم، قالت الأم: "نعم، أريد أن تُبلغه أني ولية أمر الطالب فلان بالصف الأول ثانوي، وأني أخذتُ عهداً على نفسي أن أدعو له في سجودي، وصلاتي، وفي قيام الليل، وفي الحج، وفي العمرة، وعند الملتزم؛ أدعو له بالجنة، والمغفرة، والرزق، وصلاح الأبناء". يُحدثني مدير المدرسة يقول: "واللهِ وهي تتكلم شعرتُ بأن شعر جسمي أصبح واقفاً من هول ما أسمع؛ ودفعني الفضول إلى أن أسألها: "ما هو الفضل الذي قام به المعلم حتى ينال هذا الجزاء العظيم؟"، قالت: "يا أستاذ، ابني كان لا يُصلي أبداً، وكنتُ مُتعبةً نفسياً لذلك، وأكاد لا أنام الليل بسبب التفكير في هذا الموضوع، وفجأة، وبدون مقدمات، لاحظتُ أن ابني انتظم في ذهابه إلى المسجد، ويُصلي جميع الفروض في مواعيدها مع جماعة المسلمين، حتى وقت صلاة الفجر، فقلتُ في نفسي ربما هي فترةٌ عابرةٌ. ظللتُ أراقبه أسبوعاً كاملاً وجدتُه محافظاً على الصلاة مع الجماعة في المسجد أشد المحافظة، عندها سألته: "ما الذي طرأ فغيرك؟"، قال: "معلم الدراسات الاجتماعية تكلم عن فضل الصلاة وأهميتها في بداية الحصة، وقد علمتُ منه فضل الصلاة وعقوبة تاركها. سأواظب عليها ولن أتركها بعد اليوم".

الغريب إخواني أن هذا المعلم لم يكن من الإخوة الذين يبدو من ظاهرهم الالتزام والاستقامة؛ فقد كان بدون لحية، لكن كان يتسم بالصلاح والصدق والأخلاق الطيبة. قام مدير المدرسة باستدعاء المعلم -وأنا موجودٌ- وبشره بهذه البشارة العظيمة، وواللهِ يا إخوة لم يتمالك المعلم نفسه وأُجهش بالبكاء من الفرحة، وجلس يحمد الله. موقفٌ لن أنساه ما حييت، لقد حفر في نفسي أن الإخلاص في العمل والصدق فيه من البركة على الإنسان الشيء الكثير.

فهنيئا للمعلمين الناصحين الصادقين الذين يدلّون طلابهم ويرشدونهم إلى ما ينفعهم ويرغبونهم فيما يُرضي الله تعالى ويحذرونهم مما يغضبه سبحانه، هنيئا لهم الحسنات الجارية.

 

أحبتي في الله .. إنه (الإخلاص في العمل) الذي يُعرِّفه أهل العلم بأنّه قيام الإنسان بالفعل ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، والتّقرب إليه وحده، مع الابتعاد عن طلب الرّياء، والشُّهرة بين النّاس، واكتساب حبّهم، وجلب المصالح الدّنيويّة. فحتّى يُقبَل عمل الإنسان يجب أن يتحقّق فيه شرطان؛ الأوّل: أن يكون القصد من الفعل رضا الله تعالى، والثّاني: أن يكون هذا الفعل مطابقاً للأحكام الشرعيّة وموافقاً لها.

يقول تعالى في الكثير من آيات القرآن الكريم قارناً العمل الصالح بالإيمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾، ويقول تعالى حاثاً على العمل الصالح: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً مكانة العمل وأهميته: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ].

والعمل الصالح هو العمل الذي يتسم بالإخلاص، وهو يحتاج بدايةً إلى تصحيح النية واستحضارها في بداية العمل؛ فإن عليها مدار قبول العمل أو رده. ومن مظاهر (الإخلاص في العمل) أن العبد لا يعمل إلا لله، لا من أجل أن يراه الناس أو يسمعوا به؛ فلا يتعلق قلبه بمدح الناس أو ذمهم له؛ فالمخلص يقوم بجميع أعماله على ما يُرضي الله تعالى ثم بعد ذلك لا يُبالي رضيَ الناس أم سخطوا، مدحوا أم ذموا. وأن يكون إخفاء العمل والإسرار به أحب إليه من إظهاره. وأن يكون حريصاً على البُعد عن مواطن الظهور والشُهرة، إلا أن يكون في ذلك مصلحة شرعية. وألا يزيد في العمل ويُحسنه لرؤية الناس. وألا يرى لنفسه فضلاً، ويعلم أن الفضل كله لله، ولولا الله تعالى لهلك. وأن يُكثِر من الاستغفار بعد العمل لشعوره بالتقصير. وأن يفرح بتوفيق الله له للعمل الصالح. فمن راعى ذلك في عمله عسى أن يكون من المخلصين. وأن يُسيء الظن بالنفس ويتهمها بالتقصير؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ عندما سألت عن هذه الآية: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: [لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يُخَافُ اللَّهَ].

 

أما القطع بكون (الإخلاص في العمل) مقبولاً أم لا فهذا لا سبيل إلى معرفته؛ لأن علم ذلك عند الله وحده، ولكن على العبد أن يأخذ بأسباب الإخلاص، ويسأل الله تعالى التوفيق إلى حُسن العمل، ولا يقطع به لنفسه، ولا لغيره.

 

أحبتي .. فليخلص كلٌ منا في عمله ما استطاع، في أعمال الدنيا كما في أعمال الآخرة. ومن كانت هذه حاله فليشكر الله ويسأله الثبات وزيادة الإيمان وقبول الأعمال. ومن كان غافلاً أو مقصراً فليتدارك نفسه ما دام في العمر متسع، ينوي الإخلاص في العمل لوجه الله سبحانه وتعالى، دون رياءٍ أو سعيٍ إلى سمعةٍ أو شهرةٍ، ثم يطلب المعونة من الله سبحانه وتعالى ويسعى بعزمٍ وهمةٍ، عسى أن يبلغ مراتب من سبقوه أو يزيد عنهم، بفضلٍ من الله ورحمة.

اللهم اجعل أعمالنا خالصةً لك وحدك، ونقها من كل شائبةٍ تحول دون قبولك لها. اللهم اكتبنا من المخلصين، وألهمنا التوفيق والسداد، وثبت أقدامنا على طريق الهداية والرشاد.

 

https://bit.ly/3nGPbp2

الجمعة، 10 سبتمبر 2021

الشكوى إلى الله

 

خاطرة الجمعة /308


الجمعة 10 سبتمبر 2021م

(الشكوى إلى الله)

 

يُحكى أنه كانت هناك فتاةٌ يتيمةٌ ليس لها أحدٌ في الدنيا بعد الله تعالى سوى أمها. تزوجها ابن عمها، وكان ظالماً لها، شديد الظلم والجبروت؛ فقد كان يُسيء معاملتها هو وجميع أهله، وجعلوها كخادمةٍ تعمل ليل نهار، ومع هذا لم تكن تسلم من الأذية بالسب والشتم والضرب في كثيرٍ من الأحيان. وكانت هذه الفتاة كلما ضاقت بها الدنيا تلجأ لأدفأ مكانٍ وهو حضن أمها، وتشكو لها كل ما يحصل لها، ثم تبكيان سوياً، ثم تعود إلى زوجها. والأم ضعيفةٌ مقعدةٌ لا حول لها ولا قوة، لا تقدر سوى على أن تُشارك ابنتها ألمها بالبكاء معها. ظل الأمر عشر سنين، وكل يومٍ يسوء الوضع، حتى اقترب الأجل وحان وقت رحيل الأم إلي بارئها؛ فبكت البنت وانهارت وأمها في سكرات الموت قالت لها: "أمي، لمن أشكو بعد رحيلك؟ لمن أحكي مأساتي؟ أمي، لا تتركيني وحيدة"، فقالت لها الأم: "ابنتي، إن متُ وضاقت بك السُبل تعالي إلى هنا، إلى بيت أمك، افرشي سجادتك واسجدي لله واحكِ له كل ما يُعكر صفوك واشكِ له همك وبثي إليه حزنك". ماتت الأم، ومر أسبوعٌ وضاقت الدنيا على البنت فأخذت سجادتها وجرةً بها ماءٌ للوضوء، وذهبت إلى بيت أمها، وعملت بنصيحة أمها فأحست براحةٍ شديدةٍ، واستمر الأمر هكذا لمدة شهرٍ؛ كل أسبوعٍ تأخذ سجادة الصلاة وجرة الماء وتذهب إلى بيت أمها تمكث ساعاتٍ ثم تعود وهي مبتسمة. عندما لاحظ أهل زوجها ذلك أدخلوا الشيطان بينها وبين زوجها؛ فقالوا له: "من المؤكد أن زوجتك تخونك؛ فهي تذهب كل أسبوعٍ إلى بيت أمها ومعها جرة الماء وهي متكدرةٌ ثم تعود بعد ساعاتٍ وجرة الماء فارغةٌ وهي سعيدةٌ مبتسمة"؛ فقرر الزوج أن يُراقب زوجته، وذهب قبل الموعد إلى بيت أمها، واختبأ في مكانٍ هو يراها وهي لا تراه، وذهبت الزوجة كالعادة، وكان قد مرّ على وفاة أمها شهرٌ، فتوضأت ثم صلت ثم -وهي ساجدة- انفجرت باكيةً، وأخبرت ربها بكل همٍ يؤلم قلبها، وبما يفعل بها أهل زوجها، وتدعو لزوجها بالهداية، وتتوسل إلى الله أن يُصلح لها زوجها لأنها تُحبه رغم كل شيءٍ. وظلت تبكي وتبكي، وهو يسمع ويبكي معها متأثراً بما يرى ويسمع، ثم أنهت صلاتها، وإذا بها ترى زوجها يبكي ويحتضنها ويعتذر لها ويعدها أن يُعوضها عما فات، ويبشرها بأن الله استجاب لدعائها. في تلك الليلة لم يعودا إلى بيت أهله، وناما في بيت أمها، وإذا بهاتفٍ -وهي نائمة- يقول لها: "عشر سنواتٍ تشكين لأمك، وما نفعك شيءٌ، وشهرٌ واحدٌ فقط تشكين لله -سبحانه وتعالى- فغيَّر حالك من حالٍ إلى حالٍ".

 

أحبتي في الله .. كلنا نعلم قول الله تبارك وتعالى في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، لكن البعض منا فقط هو من يعلم خصوصية هذه الآية؛ فقد اشتمل القرآن الكريم على أربعة عشر سؤالاً، كلها تبدأ بـ﴿يَسْألُونَكَ﴾ أو ﴿وَيَسْألُونَكَ﴾ ثم يأتي الجواب بـ﴿قُلْ﴾ أو ﴿فَقُلْ﴾، إلا هذه الآية، فإنها بدأت بالجملة الشرطية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، وجاء جواب الشرط من دون الفعل قل أو فقل، بل يقول سبحانه: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، فكأن هذا الفاصل -﴿قُلْ﴾ أو ﴿فَقُلْ﴾- مع قصره، كأنه يُطيل المسافة أو الوقت بين الداعي وربه، أو بين الدعاء والإجابة؛ فجاء الجواب بدون واسطة: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ تنبيهاً على شدة قُرب العبد من ربه في مقام الدعاء، وهذه خصوصية (الشكوى إلى الله).

 

و(الشكوى إلى الله) هي من الدعاء الذي هو عبادةٌ من أعظم العبادات، وكانت دأب الأنبياء والرسل كلما حزبهم أمرٌ أو اشتد بهم إيذاء قومهم؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إلى الله حاله فقد رُوي عنه قوله: [اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك].

وهذا آدم -عليه السلام- وزوجته يقولان: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

وهذا موسى - عليه السلام- يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾، ويقول: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.

وهذا يونس - عليه السلام- يقول: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

وهذا نوح -عليه السلام- يقول: ﴿رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾، ويقول: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾.

وهذا يعقوب -عليه السلام- يقول: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.

وهذا داود -عليه السلام- يقول: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

وهذا زكريا - عليه السلام- يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾.

وهذا أيوب -عليه السلام- يقول: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

 

يقول العلماء إن الشكوى إلى المخلوقين شكوى عاجزٍ إلى عاجزين مثله، قد أرهقتهم همومهم وأعيتهم، فكان لهم منها شغلٌ عن سماع هموم الآخرين، وما تزال منزلة الشاكي عندهم في ضَعَةٍ ومهانةٍ، كذلك فإن مجلسه عندهم ثقيلٌ، وحديثه معهم مكروهٌ. أما (الشكوى إلى الله) وبثُّ الهمِّ له فهي على عكس ذلك؛ ففيها توحيدٌ خالص ٌحوى اليقين بأن الأمر كله لله، وأنه وحده القادر على كشف الضُر وتبديل الحال، وأنه السميع القريب المجيب، وأن من عداه عاجزٌ لا يملك من أمر نفسه شيئاً. و(الشكوى إلى الله) سبحانه فيها ضراعةٌ، وذلٌ، وانكسارٌ، وهي من قبيل الصبر الجميل؛ فهي من مجامع التوكل عليه، وحُسن الظن به، وتوقع الخير منه؛ فهي من أسباب رفع مكانة العبد إلى أرفع المقامات.

والشكوى إليه سبحانه لا تُنافي الصبر الجميل، والله تعالى يبتلي عبده؛ ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه، وقد ذمَّ سبحانه من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾.

 

قال الشاعر:

لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجا وَالناسُ قَدْ رَقَدوا

وَقُمْتُّ أَشْكو إِلَى مَوْلاي ما أَجِـدُ

وَقُلتُ يا أَمَلـي فـي كُـلِّ نائِبـةٍ

وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّـرِّ أَعْتَمِدُ

أَشْكو إِلَيْكَ أُمـوراً أَنْـتَ تَعْلَمُهـا

ما لي عَلى حَمْلِها صَبْرٌ وَلا جَلَـدُ

وقد مَدَدْتُ يدِي بالذُّلِّ مُبتهـلاً

إِلَيْكَ يا خَيْرَ مَنْ مُـدَّتْ إِلَيْـهِ يَـدُ

فَـلا تـرُدَّنَهـــا يـــا رَبِّ خـائِـبَــةً

فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوي كُلَ مَـنْ يَـرِدُ

 

ويجوز للمسلم أن يشتكي لغير الله؛ إذ أن في الشكوى تخفيفاً وتسليةً، شرط ألا تكون الشكوى على سبيل الـتَّسَخُّط وعدم الرضا، وإن كانت (الشكوى إلى الله) وحده أوجب؛ قال الشاعر:

ولا بُدّ مِن شَكوى لِذي مُروءةٍ

يُواسِيكَ أو يُسليكَ أو يتوجّعُ

فالمشروع للعبد أن يجعل شكواه إلى الله وحده، ولا بأس بالشكوى إلى المخلوق إن كانت لغرضٍ صحيحٍ كالاستعانة به على زوال الضرر، وأما الشكوى للمخلوق دون حاجةٍ فهي مكروهةٌ، وقد تصل إلى التحريم إن اقترن بها تسخطٌ من قدر الله.

 

وإن كان أكثر ما يشتكي منه الخلق: الغَمّ، والضُر، والخوف، ومكر الناس؛ فرحم الله من قال: عجبتُ لأربعٍ يغفلون عن أربعٍ: عجبتُ لمن ابتُلي بِغَمٍّ، كيف يغفل عن قول: ﴿لا إلهَ إلاّ أنتَ سُبْحَانَكَ إني كُنْتُ مِنَ الظَالِمِين﴾، والله يقول بعدها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ  وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. وعجبتُ لمن ابتُلى بِضُرٍّ، كيف يغفل عن قول: ﴿ربِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، والله يقول بعدها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾. وعجبتُ لمن ابتُلى بِخَوفٍ، كيف يغفل عن قول: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، والله يقول بعدها: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾. وعجبتُ لمن ابتُلى بمكرِ الناس، كيف يغفل عن قول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، والله يقول بعدها: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾.

 

أحبتي .. يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: [اللهُ أَكْثَرُ].

فلتكن شكاوانا لله وحده سبحانه، لا لمخلوقٍ غيره، كائناً من كان، إلا لحاجةٍ؛ فالشكوى إلى الناس -كما يُقال- لا تزيد المُصاب إلا شدةً وجزعاً، كالعطشان الذي يشرب ماء البحر فأنّى يُروى!

 

https://bit.ly/3A4HJr2

الجمعة، 3 سبتمبر 2021

المفسدون في الأرض

 

خاطرة الجمعة /307


الجمعة 3 سبتمبر 2021م

(المفسدون في الأرض)

 

يُحكى أن مدير مدرسةٍ في إحدى الدول العربية تزوج أخت فراشٍ يعمل عنده، وبُحكم النسب أصبح يرعاه على حساب المصلحة؛ فكلما كان يغيب معلمٍ يقول لنسيبه الفراش: "اذهب إلى الطلاب واعطهم حصةً بدلاً عنه"! ‏بعد مرور بعض الوقت، وبغياب الرقيب والحسيب، ثبته معلماً بالمدرسة!

مرت الأيام ودارت الأيام وارتقى مدير المدرسة وأصبح مديراً للتربية والتعليم؛ فرقى نسيبه الفراش فصار مديراً للمدرسة!

ودرات الأيام ومرت الأيام فأصبح مدير التربية نسيب الفراش وزيراً للتربية والتعليم، فرقى نسيبه الفراش فصار مديراً للتربية والتعليم! وصار له مكتبٌ فخمٌ، سياراتٌ، خدمٌ وحشمٌ، وأصبح حوله مفتشون ومدرسون يمسحون له الجوخ ويتملقونه. قهوة الصباح تدور، والجرائد اليومية على مكتبه يتصفحها كل يوم.

وأثناء تصفحه إحدى الصحف ذات يومٍ وقع نظره على عنوانٍ رئيسيٍ مكتوبٍ بخطٍ عريضٍ في الجريدة يقول إن "وزير التربية والتعليم قرر تشكيل لجان لتقييم شهادات العاملين والعاملات، وإعادة النظر بمواقعهم الوظيفية، بعد الاطلاع على مستوياتهم العلمية والثقافية بوزارة التربية". ارتبك الرجل وأصابه الذُعر من القرار، وخشي على نفسه، فهو فراشٌ، ولا شهادة لديه تؤهله للمنصب الذي هو فيه؛ فقام على الفور بالاتصال بنسيبه وزير التربية والتعليم الموقر وسأله مندهشاً: "يا نسيبي هل أغضبتك بشيء؟!"، رد عليه الوزير ضاحكاً: "لا"، قال: "إذاً ما هذا القرار الذي سيُدمر حياتي ويقلبها رأساً على عقب؛ فأنت تعلم أن لا شهادة لديّ؟!"، فضحك الوزير وقال له: "لا تخف، لقد وضعتك رئيساً للجان التقييم هذه!".

 

أحبتي في الله .. هذه صورةٌ من صور الفساد، يمارسها (المفسدون في الأرض) ربما بغير أن يتبينوا وجه الفساد فيها. حدثت هذه القصة بالفعل في بلدٍ عربيٍ شقيقٍ، بينت شكلاً من أشكال الفساد المدمر؛ حين تُعطى الإدارة والمناصب وتُوسد لغير أهلها!

 

صور الفساد كثيرةٌ ومتعددةٌ، من ذلك ما وقع في دولةٍ عربيةٍ أخرى إذ تناقل الناس قصة رجلٍ فقيرٍ له أخٌ وزير، قالت زوجة الفقير له: "اذهب لأخيك الوزير ربما يساعدك ببعض المال"، ذهب الرجل الفقير إلى أخيه الوزير وقال له: "تعلم أن حالتي المادية صعبةٌ وأحتاج بعض المال؛ أرجو أن تتكرم عليّ وتساعدني"، رد عليه الوزير وقال: "لا بأس يا أخي، مُر عليّ غداً بالمكتب، ولا يصير إلا الخير". توجه الرجل الفقير إلى مكتب أخيه الوزير في اليوم التالي؛ فرحب به وقال له: "اجلس ولا تتكلم ولا بكلمةٍ واحدةٍ؛ عليك أن تظل صامتاً، أنا فقط من يتكلم"، ثم قام الوزير واتصل بأحد المقاولين، وقال له: "المناقصة التي وعدتك بها للأسف تم ترسيتها على مقاولٍ آخر"، رد المقاول وقال: "كيف يا معالي الوزير؟! أنت وعدتني بها، وأنا بأمس الحاجة لها"، قال الوزير: "من حُسن حظك أن المقاول الذي رست عليه المناقصة موجودٌ عندي الآن بالمكتب، تعالَ وتفاهم معه ربما يتنازل لك عنها". وصل المقاول وقال لأخِ الوزير: "أنا مستعدٌ أن أعطيك ما تطلبه مقابل أن تتنازل لي عن المناقصة"، ظل أخُ الوزير صامتاً، لم يرد عليه، ولم يفتح فمه ببنت شفة، رد نيابةً عنه الوزير وقال للمقاول: "أعطه 3 مليون دينار ويتركها لك"، فتح المقاول حقيبةً كانت معه، وأخرج منها 3 مليون دينار وضعها على الطاولة أمام معالي الوزير، ثم خرج من المكتب. أخذ الوزير مليوناً وأعطى أخاه مليونين. عندما عاد الرجل الفقير إلى بيته سألته زوجته: "بَشِّر، هل أعطاك أخوك شيئاً؟"، قال لها: "أخي سرق مني مليون دينار، عيني عينك!".

أليس هؤلاء وأمثالهم هُم (المفسدون في الأرض)؟

 

لقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الفساد ونهانا عنه: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، وأوضح لنا أن أعمال المفسدين مهما بدت للغافلين مفيدةً وكثيرةً ومبهرةً فإن الله يُبطلها: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾، وإن اختلط الأمر على بعض الناس فلم يستطيعوا التمييز بين من يُفسِد ومن يُصلِح، فإن الله يعلم ما لا يعلمه هؤلاء: ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾، ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾، ﴿فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾. وبيّن الله عاقبة المفسدين: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾، وأخبرنا بأنه يزيدهم عذاباً يوم الحساب: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾، ودعانا للاعتبار واستيعاب الدرس وأخذ العظة: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.

 

والفساد لا يتعلق فقط بالمصالح العامة والمبالغ الكبيرة، وإنما يبدأ وينشأ كقيمةٍ سلبيةٍ تُغرس للأسف في نفوس الأبناء من صغرهم -ولو بغير قصدٍ- ثم تنمو معهم حتى يتعايشوا معها فتكون جزءاً عادياً من حياتهم اليومية ومسلكهم المعتاد فيصبحون هُم وغيرهم عندما يكبرون أغلبيةً يُسميهم الناس (المفسدون في الأرض).

وفي ذلك المعنى تُروى طرفةٌ عن فتىً عاد من مدرسته وأخبر أمه أن إدارة المدرسة طلبت من الطلاب المقتدرين التبرع ببعض المال لتوزيعه على الطلاب اليتامى، فقالت له أمه: "انتظر حتى يعود أبوك من العمل وأعرض عليه الأمر". عندما عاد الأب أخبرته الأم بموضوع التبرع فأعطاها ٣٠٠ درهم للتبرع بها، ودخل إلى غرفة النوم ليرتاح قليلاً. نادت الأم على ابنها وأعطته ٢٠٠ درهم ليتبرع بها! مرت عدة أيام وتسلم الأب رسالةً من إدارة المدرسة تشكره فيها على التبرع بمبلغ ١٠٠ درهم!

 

وهذه طرفةٌ أخرى عن ذات الموضوع تقول إن أخوين فاشلين في الدراسة، تسلم كلٌ منهما شهادته آخر العام، مكتوبٌ فيها في خانة النتيجة "راسب"، تردد كلٌ منهما في عرض شهادته على والده خوفاً من عقابه، لكن الوالد -الذي يشغل وظيفةً حكوميةً بسيطةً في إحدى وزارات الخدمات- سألهما عن الشهادة، فلم يجدا مفراً من عرض شهادتيهما عليه. قدَّم الابن الأول شهادته لأبيه؛ فنال عقابه على الفور ضرباً وركلاً وشتماً وتأنيباً، أما الابن الآخر فعندما قدَّم شهادته لأبيه لم يضربه ولم يُعنفه وإنما اكتفى بقرصة أُذنٍ خفيفةٍ وهو يقول له: "هذه آخر مرةٍ أقبل فيها أن ترسب، اجتهد أكثر كي تنجح!". بعد أن ذهب الأب سأل الابن الأول أخاه: "ماذا فعلتَ كي تتجنب عقاب الوالد؟"، أجابه: "لقد وضعتُ تحت الشهادة -وأنا أسلمها له- ورقةً ماليةً من فئة ٢٠ جنيهاً!".

 

هكذا تنشأ النار من مستصغر الشرر؛ فيكبر الأبناء وهم يعتقدون أن مثل هذه الأمور عاديةٌ ولا شيء فيها، فيتفننون في أدائها، ويُبدعون في أساليبها وأشكالها، ويبرعون في التخطيط لها وتنفيذها. يكبر الأبناء في بيئةٍ تمارس الفساد وتتعايش معه، فتجدهم يُطلقون على الرشوة مرةً "الشاي"، ومرةً إكرامية، ومرةً هدية، بل والأدهى أنك تجدهم يُلبسون فسادهم ثوباً دينياً؛ فيقولون لمن يتظاهر بعدم قبول الرشوة "النبي قَبِل الهدية"! إلى هذا الحد زيّن لهم الشيطان أعمالهم، ويكبر وينمو حزب الشيطان؛ ألا إنهم هُم (المفسدون في الأرض)!

 

وقد اقترح أحد المهتمين بالأمر عدة مؤشراتٍ تُبين استعداد الشخص للفساد؛ فقال تحت عنوان: "محاربة الفساد تبدأ من الذات - الفحص الذاتي للفساد":

- إذا وضعتَ كميةً من السكر أو الحليب في الشاي وأنت في فندقٍ، أكثر مما تفعل في المنزل، فإن لديك استعداداً للفساد.

- إذا كنتَ تستخدم المزيد من المناديل الورقية أو الصابون أو العطور في المطعم أو المكان العام، أكثر مما تفعل في المنزل، فإنه إذا أُتيحت لك الفرصة للاختلاس فسوف تختلس.

- إذا كنتَ تُقدِّم لنفسك المزيد من الطعام الذي يُمكنك التهامه في الأفراح والبوفيهات المفتوحة لمجرد أن شخصاً آخر سيُسدد الفاتورة، فإذا أُتيحت لك فرصة أكل المال العام فستفعل.

- إذا كنتَ تتخطى الناس عادةً في الطوابير، فستكون لديك إمكانية التسلق على أكتاف غيرك للوصول إلى السلطة.

-إذا اعتبرتَ أن ما تلتقطه من الشارع من مالٍ وغيره هو حقك، فلديك بوادر لصوصية.

- إذا كنتَ تتجاوز إرشادات المرور، ولم يكن لديك أي اعتبارٍ لإشارات المرور، فإن لديك استعداداً لكل التجاوزات ولو سقط فيها أبرياء.

وختم بقوله: "فلنحاول أن نكون أشخاصاً يتمتعون بالتميز أينما وُجدنا. وتذكر أن الأمانة هي ما تفعله بينك وبين نفسك، وليس ما تفعله في حضور الناس".

 

أحبتي .. يجب علينا أن نعترف بأن معظمنا -إلا من رحم ربي- فاسدون ومفسدون بدرجةٍ أو أخرى، في الكثير من مجالات الحياة: داخل الأسرة، في علاقاتنا مع الآخرين، في أعمالنا ووظائفنا، والأسوأ أننا ناقلون ثقافة الفساد لأبنائنا من غير أن نشعر.

علينا أن نفيق ونُحاسب أنفسنا، ونتوقف عن ممارسة جميع أشكال الفساد والإفساد، ولا نكون ممن قال عنهم المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اجعلنا من المصلحين، ولا تجعلنا ممن يُقال عنهم أنهم هُم (المفسدون في الأرض).

 

https://bit.ly/3kTPDx8

الجمعة، 27 أغسطس 2021

يرزق من يشاء

 

خاطرة الجمعة /306


الجمعة 27 أغسطس 2021م

(يرزق من يشاء)

قضى أكثر من عشرين عاماً إماماً لمسجدٍ بإحدى دول الخليج، قرر بعدها العودة إلى قريته المصرية البسيطة، اشترى قطعة أرضٍ ليبني عليها مسجداً لأهل القرية بما أفاض الله عليه من مال. بدأ العمال في بناء المسجد، وبينما كان هو يشاركهم في الإشراف على البناء أحس بالتعب؛ فجلس على الرصيف المقابل للمسجد، بجلبابه الملطخ بالغبار والصبغ، واضعاً رأسه بين يديه ليستريح قليلاً. مرت به امرأةٌ عجوزٌ وضعت في يده جنيهاً معدنياً، رفع رأسه مذهولاً فرآها سيدةً سبعينيةً باليةَ الثوب، رسمت سنوات الفقر على ملامحها علاماتٍ واضحةً وعميقةً، ناداها بسرعةٍ: "ما هذا يا حاجة؟!"؛ أراد أن يخبرها إنه لا يتسول، وأنه .... لكن المرأة العجوز بادرته معتذرةً: "واللهِ يا ابني هذا الجنيه هو كل ما معي! كنتُ سأركب به للوصول إلى البيت، سامحني يا ابني!!"، يا الله؛ ظنتْ أنه يستقل الجنيه، وتعتذر له لأنها لم تُعطه أكثر! لم يستطع الكلام فنادى على سائقه وأمره أن يصطحب هذه السيدة العجوز إلى بيتها ويأتيه بتفاصيل حياتها كاملةً. رجع السائق إليه بما رآه؛ هي أرملةٌ لديها أربع بناتٍ، تزوجت إحداهن وماتت هي وزوجها في حادثٍ وتركت لها أربعة أطفالٍ فصارت الأسرة سبعة أفراد، تخرج هي للعمل من أجل النفقة عليهن!

وبينما كان الشيخ يفكر في كيفية مساعدة هذه المرأة مالياً إذا باتصالٍ هاتفيٍ من أحد الأمراء كان يصلي خلفه في الدولة الخليجية، قال الشيخ: "مرحباً سمو الأمير"، قال الأمير للشيخ: "حان وقت إخراجنا زكاة المال، أنا وإخوتي، فهل لديك في بلدك فقراء تعرفهم؟!"، دارت رأس الشيخ من هول المفاجأة، وعلى الفور قصَّ على الأمير قصة صاحبة الجنيه! قال له الأمير: "اشترِ قطعة أرضٍ كبيرةً، وابنِ لها ولبناتها وحفيداتها بيتاً كبيراً، وضع لها رصيداً في البنك تُنفق منه طول عمرها، وتُزوج أولادها وأحفادها!".

سبحان الله.... دفعتْ كل ما تملك لله؛ فأراد الله أن يجعل ثمرة نيتها الطيبة بيتاً كبيراً لها، وستراً منه سبحانه لها ولذريتها من بعدها، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال: [سَبَقَ دِرْهَمٌ مائةَ ألْفٍ]. هي صدقت وأخلصت في صدقتها، والله كريمٌ فأكرمها.

 

أحبتي في الله .. هذا رزق الله للمؤمنين المتوكلين عليه الذين يُحسنون الظن به سبحانه؛ فيوقنون أنه رازقهم لا رازق إلا هو، وأنه هو ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وأنه ﴿هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾، وأنه هو وحده (يرزق من يشاء) ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

 

وكما يرزق الله سبحانه وتعالى المؤمنين يرزق الكفار والمشركين، والذين يفترون على الله الكذب، ويرزق المغضوب عليهم، ويرزق الضالين؛ فهذه واقعةٌ حدثت منذ عدة سنواتٍ في الفلبين، جميع أطرافها من غير المسلمين؛ إذ كان هناك سائقٌ يعمل لدى سيده الملياردير لأكثر من عشرين عاماً، يعيش السائق وحيداً في غرفةٍ صغيرةٍ مخصصةٍ له بجوار بوابة القصر العظيم الفخم الذي يملكه الملياردير ويعيش فيه هو وزوجته وسط أراضٍ شاسعةٍ ورثها عن أبيه. يموت الملياردير فجأةً، فتتزوج أرملته من السائق الذي يتحول بين ليلةٍ وضحاها من أجيرٍ إلى سيد! وصار السائق سيد القصر، يعيش فيه ويتنعم، كما آلت الثروة الضخمة إلى أرملة الملياردير، وأصبح السائق بعد زواجه منها هو المتصرف في جميع هذه الأموال!

سبحان الله (يرزق من يشاء) من حيث لم يكن يعلم أو يتوقع؛ يقول السائق: "عشتُ عمري كله أعمل في خدمة سيدي، ولم أكن أعلم أبداً أن سيدي هو الذي كان يعمل لأجلي!".

 

سبحانه (يرزق من يشاء)، يقول أهل العلم إن الله جعل في تقسيم الأرزاق على البشر حكمةً لا يعلمها إلا هو سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾، فهو سبحانه قدَّر الأرزاق كما قَدَّر الآجال، فلا تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ]. وقد جعل الله تعالى للرزق أسباباً حسيةً ماديةً، وأسباباً شرعيةً. فالأسباب المادية كالعمل والتجارة والاجتهاد في ذلك وإتقان العمل، ونحو هذا. وهذه الأسباب يستوي فيها جميع الناس، المؤمن والكافر، فكل من عمل واجتهد رزقه الله، إلا أن يمنعه الله عقوبةً على معصيةٍ أو اختباراً، أو لسببٍ آخر تقتضيه حكمة أحكم الحاكمين. وأما الأسباب الشرعية، كالإيمان والتقوى وبر الوالدين وصلة الرحم والدعاء، فيدعو العبد ربه أن يرزقه، وأن يزيده في رزقه، ويبارك له فيه، فيستجيب الله له، فينمو رزقه، ويزداد، ويبارك الله له فيه. وقد يرزق الله بعض الناس، مؤمناً كان أو كافراً، بدون سببٍ فعله العبد، بل بمحض مشيئته سبحانه وتعالى؛ فكل مخلوقٍ لابد أن يصل إليه رزقه المقدَّر له، بسببٍ أو بغير سببٍ، يقول الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.

ولما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزق المؤمنين من أهل مكة من الثمرات، أخبره الله تعالى أنه لن يجعل رزقه خاصاً بالمؤمنين، بل سيرزق المؤمنين والكافرين؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ قال المفسرون: دعا إبراهيم لهذا البيت، أن يجعله الله بلداً آمناً، ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين، فلما دعا لهم بالرزق، وقيده بالمؤمن، وكان رزق الله شاملاً للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ أي: أرزقهم كلهم، مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلاً ﴿ثُمَّ أَضْطَرُّهُ﴾ أي: ألجئه وأخرجه مُكرهاً ﴿إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.

وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ]. وقد يبذل العبد الأسباب، الحسية أو الشرعية، التي من شأنها أن توصل إلى المطلوب المعين؛ ثم لا يُقدِّر الله تعالى له مثل ذلك المطلوب؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا . كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا . انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾، أي كلاًّ نعطي من الدنيا: البرّ والفاجر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى قَسَم بينكم أخلاقَكم، كما قَسَم بينَكم أرزاقَكم، وإنَّ اللهَ يُعْطِي الدنيا مَن يُحِبُّ ومَن لا يُحِبُّ، ولا يُعْطِي الدِّينَ إلا مَن أَحَبَّ، ...] فيحصل الكافر على رزقه في الدنيا كما يحصل المؤمن على رزقه، ولكن المؤمن يطلب رزقه من الحلال الطيب، ويؤدي شكره، ويستعين به على طاعة الله. وأما الكافر فيطلب رزقه من أي وجهٍ كان، ولا يؤدي شكره، ولا يستعين به على طاعة الله، بل قد يستعين به على معصية الله. والأمر كله بيد الله (يرزق من يشاء).

 

قد يتساءل المسلم: "لماذا يرزق الله الكفار بسخاءٍ، ويحرم المؤمن في الدنيا؟ ولماذا يُعطي العاصي وهو مقيمٌ على معصيته، ويحرم الطائع وهو مقيمٌ على طاعته؟"، للإجابة عن هذين السؤالين كتب أحد العلماء يقول إنّ في ذلك دلالةً على هوان الدنيا على الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ]. والحق سبحانه وتعالى بيّن في العديد من الآيات أنه (يرزق من يشاء)، يرزق المؤمن والكافر، والصالح والطالح؛ لأن متاع الدنيا قليل، فليس معنى العطاء الرضا، وليس معنى الحرمان السخط؛ يقول جلَّ شأنه: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ﴾، ويقول الحق سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.

 

أحبتي .. ما لنا نرى تكالب الناس على الدنيا، ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾؟ أيخافون ألا يدركوا أرزاقهم؟ ألم يعلموا أنها مقدرةٌ لهم وستدركهم أينما كانوا؟ وأن ليس عليهم إلا التوكل على الله ثم السعي؟ ما لهم يقدمون أوامر رؤسائهم في العمل على أوامر الله عزَّ وجلَّ، كما لو كان رؤساؤهم هم الذين يرزقونهم؟ ألا يستحيون من أنفسهم وهم لا يُقيمون وزناً لأوامره سبحانه وهو القائل: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾؟ أي خُسرانٍ هم فيه ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾؟

أما آن الأوان لنا جميعاً أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، ونُعيد النظر في أولوياتنا؟ ففي قضية الرزق؛ علينا أن نوقن بأنه لا رازق إلا الله؛ يقول تعالى: ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ نعبده بصدقٍ وإخلاصٍ كما أمرنا، فيُدهشنا بعطاءٍ كريمٍ متجددٍ، وبرزقٍ مباركٍ كافٍ ووافٍ غير منقوص. إن اتقينا الله حق تُقاته حقق لنا وعده؛ فهو القائل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾؛ فليحافظ كلٌ منا على الصلاة -وخاصةً صلاة الفجر- على وقتها وفي مكانها، كما يُحافظ على الحضور في الوقت المحدد إلى مقر العمل، فالله الذي تُصلي من أجله هو الكافل والضامن لك، يُثيبك على التزامك ووفائك بعهده في الدنيا والآخرة، وتأكد أن الله الذي (يرزق من يشاء) والذي ضمن للكافر رزقه، هو الضامن لرزقك، ولن يُعجزه أن يزيده ويُبارك لك فيه كلما زدت اقتراباً منه، ولا يعني ذلك أبداً إهمال العمل والتفرغ للعبادة، إنما علينا الوفاء بعباداتنا التي أمرنا الله بها، في أوقاتها وبشروطها، مع إجادة العمل والارتقاء بمستوى أدائه والتميز والإبداع فيه. أقولها صراحةً بقلب المحب لمن يُقدم عمله على صلاته: "أنت في خطرٍ عظيم، راجع نفسك، أعد ترتيب أولوياتك، هدانا وهداك الله".

اللهم حَبِّب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكَرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا اللهم من الراشدين.

https://bit.ly/3DqSlm6

الجمعة، 20 أغسطس 2021

أليس منكم رجلٌ رشيد؟

 

خاطرة الجمعة /305


الجمعة 20 أغسطس 2021م

(أليس منكم رجلٌ رشيد؟)

 

قرأتُ مقالاً نُشر قبل حوالي أسبوعين عن حال شريحةٍ من الشباب في بلدٍ عربيٍ الغالبية العُظمى من مواطنيه مسلمون. هزني المقال هزاً عنيفاً؛ فالمقال يتضمن معلوماتٍ مُروعةً تُدلي بها شاهدة عيانٍ -هي ذاتها الصحفية التي كتبت المقال ونشرته في واحدةٍ من أهم صُحف ذلك البلد- كتبت تقول:

ما يفعله الشباب في الساحل الشمالي شيءٌ يُثير الخوف والحزن والاشمئزاز والذهول! أيّامٌ قليلةٌ أمضيتها في قريةٍ سياحيةٍ حرصتُ خلالها على التجول في مختلف القرى الأخرى الممتدة على طول الساحل فرأيتُ العجب العُجاب! شيءٌ لا يصدقه عقل! انحرافٌ لا مثيل له في العالم! شبابٌ ضائعٌ، صايعٌ، غير مسؤولٍ، فهل هؤلاء الشباب هُم مَن نُعَوِّل عليه لحمل راية الوطن والدفاع عنه؟!

ساقتني الصدفة لحضور حفلٍ -لمطربٍ شعبيٍ- لم أستطع البقاء فيه لأكثر من خمس عشرة دقيقة، لم تكن المفاجأة من حضور هذا العدد الضخم من الشباب، ولكن من سلوك هؤلاء الشباب؛ الكل -بلا استثناء- يرفع يده حاملاً كؤوس الخمر وفي حالة سُكرٍ غير عاديةٍ، ويتمايل يميناً وشمالاً، ويرقص بلا وعيٍ على إيقاع موسيقى تصم الآذان. هذا بخلاف مَنْ تلمحه عن بُعدٍ يختلس قبلةً ساخنةً دون اكتراثٍ بمن حوله، وكأننا في ماخور! ناهيك عن المظهر غير اللائق والعُري المُستباح، والتزاحم والتدافع وسط زحامٍ هائلٍ وكأننا في يوم الحشر! شيءٌ حقاً لا يُحتمل! لقد تفوقنا على المجتمعات الأجنبية في الانحلال والتمزق الاجتماعي؛ ما هذه العادات الغريبة الوافدة إلينا من الشيطان!؟ تُرى إلى أي طبقةٍ ينتمي هذا الشباب غير المسؤول، خاصةً بعد أن تعرف أن تذكرة الدخول للحفل كانت بألف جنيه، هذا إضافةً إلى المشروبات الكحولية والمزات والطعام والذي منه! أما إذا نزلتَ في الصباح أو ساعة العصاري على شواطئ بعض القرى السياحية على الساحل، فترى صورةً قبيحةً من الفتيات اللاتي يتجولن بالمايوهات البكيني والتكيني دون حياءٍ ولا كسوف! شيءٌ حقاً يُثير الذهول والقرف. هل هذا هو شباب الطبقة الأرستقراطية في بلدنا؟! هل هؤلاء الشباب -الذي من المفترض أنه ينتمي إلى عائلاتٍ راقيةٍ- هُم مَن سيتحمل المسؤولية؟! أين ذهبت أعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا؟! أين ذهبت الأسرة المتماسكة المترابطة؟! أين الآباء والأمهات الذين يُلقنون أبناءهم الأدب والأصول والأخلاق؟! حقاً، حزنتُ كثيراً على هؤلاء!

 

أحبتي في الله .. نقلتُ لكم المقال بتصرفٍ يسير؛ لنرى معاً صورةً واقعيةً لحال بعض الشباب في بلدنا المسلمة، ونسأل هؤلاء (أليس منكم رجلٌ رشيد؟).

لقد ذكرني هذا المقال بمقالٍ آخر نشره أحدهم منذ فترةٍ قال فيه:

كان الموقف مؤثراً ومثيراً للشفقة في ذات الوقت، مع احتراق القلب لما آل إليه حال الشباب محط آمال المستقبل، وذخيرة الغد، وعدة الأمة لملاقاة الأعادي، لقد كان المشهد لصبيٍ في مقتبل شبابه يبكي من كل قلبه، وبمنتهى الأسى والأسف لأن الفريق الذي يُشجعه خسر إحدى مبارياته، حتى لقد انعقد لسانه عن الرد على المذيع الذي لفت انتباهه شدة بكاء الصبي فأسرع ليعرف سبب هذا البكاء المرير، ويُحاول ترضيته بأنها ليست النهاية، ولكن الصبي لم يستطع أن يُتم الحديث وترك المُحاور وذهب وهو يبكي بكاءً مُراً.

يُذكرنا كاتب المقال بواقعةٍ حدثت عندما كان الصليبيون يخططون لإخراج المسلمين من الأندلس؛ إذ بعث الصليبيون أحد جواسيسهم إلى أرض الأندلس المسلمة ليعرف ما إذا كان الوقت مناسباً لإخراج المسلمين منها أم لا، وبينما الجاسوس يتجول في أراضي المسلمين إذا به يرى غلاماً يبكي وبجواره شابٌ يُطيِّب خاطره، فسأل الجاسوس الشاب: "ما الذي يُبكي صاحبك؟"، فقال: "يبكي لأنه كان يُصيب عشرة أسهمٍ من عشرةٍ في الرمي، لكنه اليوم أصاب تسعةً من عشرة"؛ فأرسل الجاسوس إلى الصليبيين يُخبرهم: «لن تستطيعوا هزيمة هؤلاء القوم فلا تغزوهم». ومرت الأعوام وتغيرت الأحوال وتبدلت معها الهمم والهموم، وجاء الجاسوس الصليبي إلى أرض المسلمين مرةً أخرى، فرأى شابين أحدهما يبكي والآخر يُطيِّب خاطره، فسأله الجاسوس: "ما الذي يُبكي صاحبك؟"، فأجابه: "إنه يبكي لأن فتاته التي يُحبها قد هجرته إلى غيره"؛ فأرسل الجاسوس إلى قومه: «أن اغزوهم الآن فإنهم مهزومون».

 

وإذا كان للأمر علاقةٌ بالتطور، فالتطور أمرٌ لا اعتراض عليه، إنه سُنة الحياة، وهو مقبولٌ من الجميع، لكن لا يستقيم أن يكون التطور بغير ضوابط ولا مرجعية، وإلا نكون قد فقدنا بوصلتنا، وفقدنا الاتجاه الصحيح.

إنّ ضوابطنا ومرجعيتنا في جميع مجالات الحياة -نحن المسلمين- هي الشريعة التي ارتضاها الله لنا؛ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم عرفة من فوق جبل الرحمة: [... تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ ...]. فأين نحن من كتاب الله؟ وهل التطور والحداثة يعنيان البُعد عن الدين وعن شرع الله؟ هل يجب على المسلمين أن يتخلوا عن عقيدتهم وأحكام دينهم حتى لا يوصفوا بأنهم متخلفون؟ لماذا نقبل الدنية في ديننا وقد أخبرنا المولى عزَّ وجلَّ بأننا الأعلون شرط أن نكون مؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾؟

هل من الحضارة والتقدم والمدنية والحداثة مجاراة أصحاب العقائد الباطلة فنكون كما وصفنا نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، حين قال: [لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ]؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: [فَمَن؟!].

هل اعتبرنا النهي عن المنكر من مخلفات الماضي؟ ألم نتعظ بما حدث لبني إسرائيل واستحقوا عليه لعنة الله؛ يقول تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

هل تاهت خطانا؟ هل أضعنا الطريق؟ أما آن لنا أن نستشعر مسئوليتنا عن حفظ الدين من الضياع؟ ثم ماذا نحن فاعلون إزاء كل ما نراه بأم أعيننا؟ هل نظل في حالة السلبية التي نحن عليها؟ أم يدفعنا الواقع المتردي -والذي يزداد كل يومٍ رداءةً وسوءاً- إلى أن نكون إيجابيين؟

هؤلاء الشباب -المشار إليهم في المقالين- أليس لهم أهل؟ ألا يوجد أبٌ يُوجه وأمٌ تُربي؟ أليس لهم إخوةٌ كبارٌ يرشدونهم؟ أليس لهم أخوالٌ وأعمامٌ يهتمون بأمرهم؟ أليس لهم أصدقاء صالحون يهدونهم إلى الهدى يقولون لهم: ﴿إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ﴾؟ أليس لهم ولي أمرٍ سمع بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، ...]. ألم يتعلم هؤلاء الشباب في مدارسهم شيئاً عن الحلال والحرام؟ ألم يسمعوا شيئاً عن المعلوم من الدين بالضرورة؟ ثم أين هو دور الجهات المسئولة لمواجهة مثل هذه التصرفات؟ هل هم راضون عن ذلك ويعتبرون كل هذه المخالفات الدينية الصارخة نوعاً من الحرية الشخصية؟ ألم تأخذهم الغيرة على دين الله؟ ألم يسمعوا بالأثر المعروف عن الخليفة الراشد عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حين قال: «إنَّ اللهَ يَزَعُ بالسلطانِ ما لَا يَزَعُ بالقُرآن»؟

أسأل هؤلاء جميعاً: (أليس منكم رجلٌ رشيد؟).

 

أليس ما نراه منكراً؟ ألم يسمع البعض منا -أو أحدنا على الأقل- بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ]؟ وإذا كان قد سمع فماذا فعل؟

يقول أهل العلم إنه قد يكون الرجل صالحاً في نفسه، ويكون الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مُتعيناً عليه، ومع ذلك يُقصِّر فيه، فيقع ما ورد في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ، أَنْزَلَ اللهُ بَأسَهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَالِحُونَ؟ قَالَ: [نَعَمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِم صَالِحُونَ، يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ]، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بأن فيهم صالحين.

يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قال المفسرون: إذا كثُر المفسدون وقَلَّ الصالحون هلك المفسدون والصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف. واللهِ إني لأخشى إنْ قصَّرنا وتقاعسنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنْ يشملنا قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

 

أحبتي .. نقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، و«حسبنا الله ونعم الوكيل». ومع ذلك ينبغي علينا -ونحن نرى ما نرى- ألا نظل سلبيين كأن الأمر لا يخصنا أو يعنينا، إنه ديننا الذي أوشك أن يضيع منا، علينا أن نبدأ بأنفسنا، نُصلح أحوالنا وأحوال أبنائنا، ونُعلمهم ونُوجههم ونُرشدهم؛ نُعلمهم دينهم وسُنة نبيهم، ونُوجههم بأن نكون لهم قدوةً عمليةً يتمثلونها في حياتهم، ونُرشدهم إلى صحيح الدين في كل صغيرةٍ وكبيرة، وليكن ذلك باللين والحُسنى؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، ولنعلم جميعاً أننا محاسبون عن تقصيرنا.

علينا أحبتي أن نتحول جميعاً من مسلمين إلى مؤمنين، ومن صالحين إلى مُصلحين، وأن نفتح باب الحوار مع أبنائنا، ونرشدهم لاختيار أصدقائهم بعنايةٍ؛ فالصاحب ساحب.

كلمةٌ أخيرةٌ أوجهها إلى كل شابٍ غرته الحياة الدنيا فترك دينه، وإلى كل مسئولٍ عن هؤلاء الشباب، أقول كما قال لوطٌ عليه السلام لقومه الذين كانوا يعملون السيئات: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾. لا خير فينا إن لم نقلها لهم، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها منا.

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم اهدنا إلى طريق الرشد لا نضل بعده أبداً. اللهم اهدنا سواء السبيل، ولا تؤاخذنا -ربنا- بما فعل السفهاء منا.

 

https://bit.ly/3AXNln3