الجمعة، 1 نوفمبر 2019

قم للمعلم وفه التبجيلا


الجمعة 1 نوفمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١١
(قم للمعلم وفه التبجيلا)

قصةٌ حقيقيةٌ مؤثرةٌ حدثت لأحد المعلمين في السودان؛ كان يُدَرِّس للصف الثالث الابتدائي بمدرسةٍ للبنات، وكان يرى كل يومٍ خارج المدرسة بجوار نافذة الفصل بنتاً مسكينةً وجميلةً تكسوها البراءة تبيع الخبز في الصباح، وقد بلغت سن المدرسة لكنها لم تدخلها بسبب الوضع المادي لأسرتها، فلديها أربعة أخوةٍ صغارٍ، ووالدهم متوفٍ، وهي تسهم مع أمها في مصاريف معيشتهم ببيع الخبز بجوار المدرسة، فساعدت إخوتها بأن يدخلوا المدرسة ويكملوا تعليمهم. كان المعلم يشرح لتلميذاته دروس الرياضيات وبائعةُ الخبز تتابعه من نافذة الفصل وهي بالخارج.  في أحد الأيام سأل المعلم التلميذات سؤالاً صعباً وخصص له جائزةً، ولم تُجبه أية تلميذة، وتفاجأ ببائعة الخبز تؤشر بإصبعها من خارج النافذة وتصرخ: "أستاذ أعرف الإجابة!"، فأذن لها المعلم بالإجابة؛ فأجابت وكانت إجابتها صحيحة!! منذ ذلك اليوم راهن عليها المعلم، وتكفل برعايتها وبكل ما يلزمها من مصروفاتٍ مدرسيةٍ على نفقته ومن مرتبه، واتفق مع مدير المدرسة على أن يتم تسجيلها كتلميذةٍ بالمدرسة وتشارك بالاختبارات دون دخول الفصل لعدم قدرتها على تحمل مصاريف المدرسة، وأن يجعلها تبدأ من الصف الثالث كمستمعةٍ لتتعلم ولو الشيء البسيط من التعليم، واتفق مع جميع معلمي المواد الأخرى على أن تظل الفتاة تستمع من النافذة إلى حصصهم وهي خارج الفصل، فأجمعوا على الموافقة. أخبر المعلم والدة الفتاة بذلك واتفق معها على أنتترك ابنتها بيع الخبز وتتفرغ للتعليم ويتولى أحد إخوتها البيع بدلاً منها. عندما ظهرت نتائج اختبارات آخر العام كانت المفاجأة؛ فقد كانت الفتاة هي الأولى على المدرسة. استمرت الفتاة على هذا النحو برعاية المعلم وإشرافه اليومي إلى أن وصلت إلى الصف الأول بالمرحلة الثانوية، حينها فارق المعلم السودان للعمل بالخارج، ولم تكن هناك في ذلك الوقت هواتف لكي يتابع أخبارها. كبر أحد إخوة الفتاة وعمل بعربة كارو لبيع الماء واستمر في الصرف عليها، وانقطعت صلتها بالمعلم لمدة اثني عشر عاماً عاد بعدها إلى السودان، وكان لديه زميلٌ بالدولة التي كان يعمل فيها، ولزميله هذا ابنٌ يدرس بكلية الطب بجامعة الخرطوم، فطلب زميله منه أن يرافقه إلى الجامعة؛ فذهب مع صديقه، ومكث بعض الوقت في الكافتريا، فإذا بفتاةٍ على قدرٍ من الجمال تحدق فيه وقد تغيرت معالم وجهها عندما رأته، وهو لا يعلم لماذا تحدق فيه بهذا الشكل! فسأل ابن صاحبه إن كان يعرف هذه الفتاة، وأشار إليها خُفيةً، فأجابه: "نعم بالطبع؛ إنها بروفيسور تُدَرِّس طلاب دفعة السنة السادسة والأخيرة بكلية الطب"، ثم سأل الطالب المعلم إن كان يعرفها، فرد بالنفي. فجأةً، وبدون مقدماتٍ، جرت الفتاة نحو المعلم وعانقته وهي تبكي بحرقةٍ بصوتٍ لفت أنظار كل من كان بالكافتيريا، وظلت تحضنه لفترةٍ من الزمن دون مراعاةٍ لأي اعتبار، وظن الجميع أنه والدها، وأُجهشت بالبكاء حتى أُغمي عليها وتم إسعافها. عندما أفاقت وتمالكت أعصابها نظرت إلى المعلم وقالت له: "ألا تذكرني أستاذي؟ أنا تلميذتك، أنا البنت التي كانت حطام إنسانةٍ وصنعتَ حضرتك منها إنسانةً ناجحةً، أنا البنت التي كنتَ حضرتك السبب في دخولها المدرسة، وصرفتَ عليها من حُر مالك حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وذلك بفضل الله ثم رعايتك واهتمامك وموقفك الإنساني الفريد، أنا ابنتك بائعة الخبز ". ودعته والذين معه ومجموعةً من الزملاء إلى منزلها، وأخبرت أمها وإخوتها بالمعلم الإنسان الذي وقف معها وكان سبباً في تغيير مجرى حياتهم جميعاً. احتفلت به الأسرة احتفالاً كبيراً، وكانت مناسبة فرحٍ عظيم، وألقى المعلم كلمةً قال فيها: "لأول مرةٍ أحسُ أني معلمٌ وإنسان".

أحبتي في الله .. يعلم إخواننا في السودان اسم هذا المعلم، واسم تلميذته التي أصبحت أستاذةً جامعيةً معروفةً، والتي كانت بتصرفها مع معلمها تطبق حرفياً شعار (قم للمعلم وفه التبجيلا). لكن ما يستوقفنا من هذه القصة هو الدور الذي قام به هذا المعلم الرائع؛ حين زاوج بين عمله المهني كمعلمٍ ودوره التربوي والتزامه الأدبي وسلوكه الأخلاقي وتصرفه الإنساني، فكانت النتيجة مكسباً لكل أطراف العملية التربوية: المجتمع وقد كسب أستاذةً متخصصةً متميزةً في مجالها، التلميذة وقد شغلت منصباً مرموقاً ووظيفةً عالية المكانة، أسرة التلميذة وقد ارتقى وضعها الاجتماعي، المعلم وقد حظي بوفاءٍ نادرٍ من تلميذته وأسرتها وتقديرٍ من المجتمع.
هذا المعلم نموذجٌ للإنسان المسلم المؤمن الكَيْس الفطن، بحكمته ولباقته وحسن تصرفه، وبإحساسه الصادق ونظرته الثاقبة ورجاحة تقديره، إضافةً لكرمه وسخائه، واهتمامه بواجبه الإنساني قبل واجبه المهني.

لم يُعلِ من شأن التعليم والتعلم دينٌ كما فعل ديننا الإسلامي الحنيف؛ لقد رفعَ الله تعالى مكانةَ العلم وأهله، وعظَّم منزلتَهم وأعلَى شأنَهم، فقال عزَّ من قائل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وبيَّن سبحانه أن العالِمَ والجاهِلَ لا يستويان؛ قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وقال الرسول عليه السلام: [فضلُ العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي علَى أدناكم، إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ وملائِكتَهُ، وأهلَ السمواتِ والأرضِ، حتى النملةَ في جُحْرِها، وحتى الحوتَ، ليُصَلُّونَ على معلِّمِ الناسِ الخيرَ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ليس من أمَّتي مَن لم يُجِلَّ كبيرَنا ويرحَمْ صغيرَنا ويعرِفْ لعالِمِنا حقَّه]، كما قال: [إن الله لم يبعَثني مُعنِّتًا ولا مُتعنِّتًا، ولكن بعَثَني مُعلِّمًا مُيسِّرًا].

وفي وصف المعلم قال أحدهم: تعجز الحروف عن التّعبير وتتوه الكلمات على السّطور عندما يسألني شخصٌ عن فضل المعلّم، فما من عبارات مدحٍ ولا قصائد شكرٍ تفي حق هذا الشّخص الّذي كرّس أغلب أوقاته لينقل طلّابه وتلاميذه من ظُلمة الجهل إلى نور العلم والمعرفة، ليُمسي في آخر نهاره متعباً منهكاً منتظراً بشوقٍ فجر يومٍ جديدٍ يستكمل فيه مسيرة بناء جيلٍ واعٍ متعلّمٍ قادرٍ على التّمييز بين الصّواب والخطأ.
وقال آخر: المعلم هو منارة العلم التي تضيء الطريق أمام الطلاب بالعلم والمعرفة، يسهل لهم الطريق لمعرفة الحق، ويغرس فيهم العلم النافع الذي يرفع عنهم الجهل؛ فهو أبٌ وصديقٌ يسمع طلابه ويعاملهم كأبنائه يحنو عليهم فهو الأب الحاني، ويؤدبهم فهو المؤدب الذي يربيهم على الأخلاق الحميدة، وهو الصديق الذي يسمع شكواهم ويفهم مبتغاهم.
لذا يقول أهل العلم إن مهنة التعليم لها قداستها في المجتمعات التي تسعى إلى صنع التقدم والحضارة، ووظيفة المعلم تنال مكانةً رفيعةً في تلك المجتمعات. وإن فضل المعلم على المتعلم كفضل الرسل على سائر الناس؛ فهو يُميط الجهل عنهم ليبصروا بقلوبهم الحق فيزدادوا إيماناً بخالقهم وتمسكاً بدينهم. فالمعلم حريصٌ على توعية الطلاب بما ينفعهم ويقربهم من الله ويحذرهم مما يبعدهم عن رضاه. ولو كان العالَم دون معلمٍ لسادَ الجهلُ والتخلّف بين الناس.

وعن مكانة المعلم وتقدير دوره، وعن التطبيق العملي لمبدأ (قم للمعلم وفه التبجيلا) قال أحد العلماء: “ما مَدَدتُ رِجلِي نحوَ دارِ أُستاذِي إجلالًا له، وما صلَّيتُ صلاةً مُنذ ماتَ إلا استغفَرتُ له مع والدَيَّ“.
أما الخليفة العباسي هارون الرشد فقد اتخذ “الكسائي” إمام الكوفة معلماً ومربياً لابنيه الأمين والمأمون، وكان يستشيره في كل أمور الدين والدنيا، وكان الأميران يتسابقان إلى إلباسه خُفيه عندما يهم بالخروج من عندهما. هذه مكانة العلم وهذا هو تقدير المعلمين.
قال الشاعر:
(قم للمعلمِ وفّهِ التبجيلا)
كاد المعلمُ أن يكون رسولا
أعلِمتَ أشرفَ أو أجَّلَ مِن الذي
يبني وينشئ أنفساً وعقولا؟
وقال آخر:
لولا المعلمُ ما قرأتُ كتاباً يوماً
ولا كتبَ الحروفَ يراعي
فبفضلِه جزتُ الفضاءَ محلقاً
وبعلمِه شقَ الظلامَ شعاعي
وقال ثالث:
رأيتُ الحقَ حقَ المعلمِ
وأوجبه حفظاً على كلِ مسلمِ
له الحقُ أن يُهدى إليه كرامةً
لتعليمِ حرفٍ واحدٍ ألفَ درهمِ

أحبتي .. حريٌ بكلٍ منا، أياً كان الدور المناط به معلماً كان أو غير معلم، أن يساعد في اكتشاف الموهوبين من أبنائنا، ويعينهم ويرشدهم ويتابعهم، ويسهم في صقل قدراتهم، ليهدي إلى المجتمع والوطن بل إلى الإنسانية جمعاء أشخاصاً متميزين وعلماء متخصصين في جميع مجالات الحياة.
وأدعو كل من يقرأ هذه الكلمات أن يتذكر معلميه ويدعو لهم بالخير، ويحاول أن يتواصل معهم -إن استطاع- برسالةٍ أو مكالمةٍ هاتفيةٍ أو زيارةٍ، أو بإشارةٍ إليهم وإشادةٍ بهم على مواقع التواصل الاجتماعي، يشكرهم ويقدر جهدهم عرفاناً بجميلهم؛ لنكون قد قمنا بجزءٍ من دورنا في تطبيق مبدأ (قم للمعلم وفه التبجيلا) وفاءً وامتناناً.
اللهم انفعنا، وانفع بنا، واهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، وارفع بنا شأن الأمة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2CeldA1

الجمعة، 25 أكتوبر 2019

العدالة الإلهية


الجمعة 25 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢١٠
(العدالة الإلهية)

قصةٌ حقيقةٌ وقعت أحداثها بدمشق منذ زمنٍ بعيد؛ امرأةٌ كان والدها مِنَ الوُجهاء الأثرياء، وتزوجها ابن أحد الولاة العثمانيين، من ذَوي الإقطاع والثراء، وكانتِ المرأة وحيدة أبويها، وكذا زوجها. تُوفِّي والدها فورثته، وتُوفِّي والد زوجها فورثه، ثم تُوفِّي زوجها دون أن يكونَ لها منه ولد، فورثتِه هو الآخر؛ فصار عندها أراضٍ، وإقطاعاتٌ شاسعة. ولما لم يكنْ لها مورد رزقٍ من عملٍ كانت تبيع جزءاً من أراضيها كل مدةٍ لتنفق على نفسها، وعندما يقلُّ ما في يدها تبيع أرضاً أخرى، وهكذا. ونظراً لوَحْدتها، وعدم وجود ذريةٍ تؤنسها، فقد قامتْ بكفالة إحدى الفتيات اليتيمات مدَّةً منَ الزمن، حتى تزوجت. كبرت المرأة وكان جيرانها يخدمونها في حاجياتها، وكان أسفل شقتها صاحب محل بقالةٍ تشتري منه، ويوصِّل لبيتها الأغراض. وذات يومٍ طلبتْ منَ المحل بعض الأغراض، فجاءَها صاحبُ المحل، ودخل بالأغراض، فقالتْ له: "اجلس حتى أُضَيّفَك فنجاناً منَ القهوة"، وقامتِ العجوز -وهي على عتبة التسعين منَ العمر - للمطبخ تُعِدُّ القهوة له، فلعب الشيطان بعقل البائع، ووسوس له أن ينتهزَ الفرصة ليسرقَ أموالها؛ فلحقها إلى المطبخ، وخنقها بطوق الذهب الذي ترتديه دون مقاوَمة، وفتَّش البيت، ولم يجدْ إلا مبلغاً زهيداً جدّاً مِنَ المال، فأخَذَهُ وانصرف. بعد يومٍ أو أكثر افتقد الجيران جارتهم العجوز، واستغربوا عدم إجابتها وفتحها الباب، وكان ذلك سبباً لكشف الجريمة، وتمَّ التحقيق مع الجيران، ولم يلبثْ أنِ انكشف المجرم، وتطابقتْ عليه الأدلة، واعترف. لكنه وكَّل أحد شياطين المحامين، فاستطاع تدبير تقريرٍ طبيٍّ للمجرم بأنَّه مختلٌّ عقليّاً بدرجةٍ خطيرة، وبعد جلساتٍ في المحكمة أُطلق سراحه؛ لكونه غير مسؤولٍ عن فعله؛ فرجع المجرم لحياته المعتادَة حرّاً طليقاً، وبقيَ على ذلك سنواتٍ. وعلمتْ بالقصة تلك اليتيمة التي ربَّتها المغدور بها، فتبنَّتِ الموضوع، وأعادت رفع القضيَّة على المجرِم بعد أنِ اطمأنَّ تلك المدة الطويلة، وكانت حجتها القوية: إن كان المجرمُ مجنوناً بتلك الدَّرجة المثبتة في التقرير، فمكانه ليس بين الناس العقلاء؛ حتى لا يرتكب الجرائم؛ بل في مستشفى المجانين، وإن كان عاقلاً فلا بُدَّ منَ القصاص، وفعلاً لم يكن أمام المجرم إلاَّ التشبُّث بالخيار الأول؛ فراراً منَ العقوبة، فتمَّ إيداعه مستشفى الأمراض العقلية.
وهناك كان المجانين باستقبال النَّزيل الجديد، وتحلَّقوا حوله يسألونه: "ما الذي أتى بك إلى هنا؟"، فقاللهم بكل صراحة: "أنا قتلتُ امرأةً عجوزاً، وقلتُ عن نفسي إنني مجنون؛ لأهرب من العقوبة، وبسبب ذلك جاؤوا بي عندكم، هذه قصتي". فاستغرب المجانين، واجتمعوا فيما بينهم، وإذا بهم يحيطون به، ويقولون: "أنت مجرمٌ قاتلٌ، ولا بد من محاكمتكَ، سنحاكمك الآن"؛ فشَكَّلُوا محكمةً فيما بينهم، وحكموا عليه بالإعدام شنقاً، وربطوا عنقه بالملابس، وهو لا يقدر على الفرار منهم، ولم يُجْدِ الصراخ والاستنجاد، وشنقوه. وفي اليوم التالي، لَمَّا أراد الممرضون توزيع الطعام، وجدوه مشنوقاً، فسألوا: "مَن قتله؟"، قال المجانين: "نحن شنقناه؛ لأنه مجرمٌ قاتلٌ"، فسألوا الحارس المناوب فقال: "لَمْ أميزْ صراخه عن الصراخ المعتاد لباقي المجانين".
وهكذا جاء للقاتل القصاص العادل من حيث لم يحتسبْ، ونشرت الجرائد خبره وقصته العجيبة.

أحبتي في الله .. إنها (العدالة الإلهية) لا تغيب حينما تغيب عدالة البشر. إنه الله سبحانه وتعالى العدل الذي لا يقبل الظلم على نفسه، والذي جعله بين الناس مُحَرَّماً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾، ويقول: ﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾، ويقول: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾، ويقول: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، ويقول: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ﴾، ويقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾، ويقول: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً﴾، ويقول: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾، ويقول: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.
وعَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنَّهُ قالَ: {يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا}.
إنها (العدالة الإلهية)، عدالةٌ لكل البشر حتى إنه يُقال: "لو كان المظلوم كافراً وظُلم ثم دعا الله؛ فإن الله يستجيب دُعاءه، لا حباً للكافر ولكن حباً للعدل".

يقول العلماء إنه لا شك أن ما يحدث من أنواع المظالم العامة والخاصة لا يخفى على الله منها شيءٌ، ولا شك أيضاً أن الله تعالى لا يرضى بالظلم والعدوان. والناس بين ظالمٍ ومظلوم، فأما الظالم فإن الله تعالى إنما يُملي له ليزداد إثماً، ويؤخره ليومٍ تشخص فيه الأبصار، قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾، وهذا وعيدٌ شديدٌ للظالمين؛ يمهلهم الله، ويدرُّ عليهم الأرزاق، ويتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين، يُملي لهم ليزدادوا إثماً، حتى إذا أخذهم لم يُفلتهم: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
وأما المظلوم فإن الله تعالى يمتحنه تمييزاً وتمحيصاً، فإن آمن بالله واتقاه جُوزي على ذلك بالثواب الجزيل؛ يقول تعالى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، ويقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾. والدنيا ليست بدار جزاءٍ ووفاء، وإنما هي دار محنةٍ وبلاء، وهي لم تُخلق للدوام والبقاء، بل للزوال والفناء؛ فإن الله تعالى لم يخلقها إلا ليبتلي بها عباده ويمتحنهم فيها فينظر كيف يعملون. وإقامة العدل المطلق لا تكون في الدنيا بل تكون في الآخرة.
وحَريٌ بالمظلوم أن يقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" فلا يمسسه بإذن الله سوءٌ من الظالم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾. صدق من قال: ﺃﺗدﺭون ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻝ ﺍﻟﻤﻡ "ﺣﺴﺒﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻧﻌ ﺍﻟﻛﻴﻞ"؟ معنى ذلك أﻧﻪ ﻧﻘﻞ ﻣﻠﻒ ﺍﻟﻘﻀﻴﺔ ﻣ قاضي ﺍﻷﺭﺽ ﺇﻟﻰ ﻗﺎﺿﻲ ﺍﻟسماء، وهناك لمحكمة الآخرة قوانين أخرى غير محكمة الأرض: فالملفات معلنةٌ غير سرية؛ يقول تعالى: ﴿ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورًا﴾، والحضور تحت حراسةٍ مشددة؛ يقول تعالى: ﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾، والظلم مستحيل؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، وليس هناك محامٍ يدافع عنك؛ يقول تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾، والرشوة والواسطة مستحيلة؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ﴾، ولا يوجد تشابه أسماء أو التباس وقائع؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾،واستلام نتيجة الحكم باليد؛ يقول تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ﴾، ولا يوجد حكمٌ غيابي؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾، ولا يوجد نقضٌ أو استئناف؛ يقول تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ﴾، ولا يوجد شهود زور؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ولا توجد ملفاتٌ منسية؛ يقول تعالى: ﴿أحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾، وأما الأعمال فلها ميزانٌ دقيقٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسبين﴾. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الشاعر:
أمَا واللهِ إنَّ الظُّلمَ لؤمٌ
وما زالَ المسيءُ هو الظَّلومُ
إلىَ دياَّنِ يومِ الدّينِ نَمضي
وعندَ اللهِ تجتمعُ الخُصومُ
ستعلمُ في الحسابِ إذا التقينا
غداً عند الإلهِ مَنْ الملومُ
وقال آخر:
إذا جارَ الأميرُ وكاتباه
وقاضي الأرضِ داهنٌ في القضاء
فويلٌ ثمَّ ويلٌ ثمَّ ويلٌ
لقاضي الأرضِ مِنْ قاضي السماء

كلمتي إلى كل ظالمٍ .. اتقِ الله، ولا تأخذك العزة بالإثم. توقف فوراً عن الظلم. تُب إلى الله توبةً نصوحاً. أعد الحقوق إلى أصحابها فهذا أهون لك من أن تُحاسَب عليها في الآخرة. اعترف بما اقترفت يداك منظلمٍ، واطلب القصاص من نفسك في الدنيا، وسارع إلى التخلص من وزر ظلمٍ عقابه عند الله عظيمٌ، واستحضر في نفسك معنى الخلود في العذاب، أو اطلب العفو من أصحاب الحقوق الذين ظلمتهم.
أما من يَظلِم أو يشارك في الظلم ثم يقول إنه "عبد المأمور" فأقول له: اعلم أنك عبد الله وحده، لستَ عبداً لغيره، واعلم أن هذا القول يُدخِلك في دائرة الشرك والعياذ بالله، ثم إنه لن يُعفيك من المسئولية والحساب يوم تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى أن تقول: "قتلتُ أو عذبتُ أو اغتصبتُ أو سرقتُ أو شهدتُ بالزور أو كذبتُ وافتريتُ أو حكمتُ بغير الحق لأن رئيسي طلب مني ذلك"؛ فأنت تعلم أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق. صحيحٌ أنت مأمورٌ بطاعة رئيسك، لأنها من طاعة ولي الأمر، إلا في ظلم غيرك؛ فالظلم معصيةٌ لله، إذا ساعدك آمرك في الإفلات من عقابها في الدنيا فلن يساعدك في التخفيف من العقاب عليها في الآخرة. انتبه لنفسك، واقلع فوراً عن ظلم غيرك، وارجع إلى ربك بتوبةٍ صادقةٍ، وأنقذ نفسك من عذاب الآخرة فهو شديدٌ أليمٌ غليظٌ تظل خالداً فيه مُهانا.
أقول لكل ظالمٍ، ولكل من شارك في ظلمٍ، ولكل من أيَّد ظالماً أو أعانه، ولكل من مالَ إلى ظالمٍ ولو بقلبه: تذكر (العدالة الإلهية) وبادر بالتوبة والعمل الصالح، وأبشر بوعد ربك لك عندما تتوب؛ إنه لا يغفر لك ذنوبك وحسب، بل ويبدل لك سيئاتك حسنات؛ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾.
وأما المظلوم فأقول له: أنت مخيرٌ بين أن تقتص لنفسك في الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾، أو أن تعفو وتصفح فيغفر الله لك؛ يقول تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، أو أن تصبر وتحتسب فيكون لك الأجر العظيم؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾.

أحبتي .. فلنستعِّد جميعاً لوقفةٍ بين يدي الله سبحانه وتعالى في يومٍ عظيمٍ، يوم (العدالة الإلهية) المطلقة ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾، لنقابل المولى عزَّ وجلَّ بقلوبٍ صافيةٍ ونفوسٍ راضيةٍ، وأعمالٍ صالحة.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَذِل أو نُذَل، أو نَضِل أو نُضَل، أو نَظلِم أو نُظلَم، أو نَجهَل أو يُجهَل علينا.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/32MEuUz


الجمعة، 18 أكتوبر 2019

همة أحيت أمة


الجمعة 18 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٩
(همة أحيت أمة)

عام 1906م في إحدى قرى صعيد مصر اشترى أحد الشيوخ البسطاء صحيفةً وعندما قرأها لفت انتباهه خبرٌ غريبٌ هو أن رئيس وزراء اليابان "كاتسورا" أرسل خطاباتٍ رسميةً إلى دول العالم ليرسلوا إليهم العلماء والفلاسفة والمشرعين وكل أصحاب الديانات لكي يجتمعوا في مدينة طوكيو في مؤتمرٍ عالميٍ يتحدث فيه أهل كل دينٍ عن قواعد دينهم وفلسفته، ومن ثَمَّ يختار اليابانيون بعد ذلك ما يناسبهم من هذه الأديان ليكون ديناً رسمياً للإمبراطورية اليابانية بأسرها؛ وسبب ذلك أن اليابانيين بعد انتصارهم المدوي على الروس في معركة تسوشيما عام 1905م رأوا أن معتقداتهم الأصلية لا تتفق مع تطورهم الحضاري وعقلهم الباهر ورقيهم المادي والأدبي الذي وصلوا إليه فأرادوا أن يختاروا ديناً جديداً للإمبراطورية الصاعدة يكون ملائماً لهذه المرحلة المتطورة من تاريخهم. وقيل إن المؤتمر كان للحوار والتعاون بين الأديان. على أية حال أسرع هذا الصعيدي البطل إلى شيوخ الأزهر يستحثهم للتحرك السريع لانتهاز هذه الفرصة الذهبية لنقل دين محمدٍ إلى أقصى بقاع الأرض، فلم يسمع الشيخ إلا عبارات "إن شاء الله"، و"ربنا يسهل"! فكتب الشيخ في صحيفته الخاصة "الإرشاد" نداءً عاماً لعلماء الأزهر لكي يسرعوا بالتحرك قبل أن يفوتهم موعد المؤتمر، وسعى حثيثاً إلى الدعوة لتشكيل وفدٍمن العلماء المصريين يكون له سبقٌ في تمثيل الدين الإسلامي بالمؤتمر، وكتب يقول: "إن مسلمي مصر أولى بأن يحوزوا هذه الفضيلة لوجود الأزهر بين ظهرانيهم"، ولكن لا حياة لمن تنادي. ورغم هذا الإحباط لم يستسلم هذا الصعيدي البطل فحمل هَمَّ أمةٍ كاملةٍ على كتفيه وانطلق إلى قريته الصغيرة ليبيع خمسة أفدنةٍ من الأرض لينفق من حسابه الخاص على تكاليف تلك المغامرة العجيبة التي انتقل فيها على متن باخرةٍ من الإسكندرية إلى إيطاليا ومنها إلى عدن في اليمن ومنها إلى بومباي في الهند ومنها إلى كولمبو في جزيرة سيلان "سيريلانكا حالياً"، ومن هناك استقل باخرةً لشركةٍ إنجليزيةٍ متجهةً لسنغافورة ثم إلى هونج كونج ثم إلى سايغون في الصين ليصل أخيراً إلى ميناء يوكوهاما الياباني بعد مغامرةٍ بحريةٍ لاقى فيها هذا الصعيدي البطل ما لاقاه من الأهوال والمصاعب. في الميناء تفاجأ بوجود شيخٍ هنديٍ وشيخٍ صينيٍ من التركستان الشرقية وشيخٍ قوقازيٍ من مسلمي روسيا، جاءوا مثله على نفقتهم الخاصة ليجدوا أن الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني أرسل وفداً كبيراً من العلماء الأتراك ليجتمع أولئك الدعاة جميعاً ويكونوا وفداً إسلامياً ضخماً مكوناً من مسلمين من أقطارٍ مختلفةٍ ليحمل كل واحدٍمنهم رسالة محمد بن عبد الله في وجدانه ليوصلها إلى إمبراطور اليابان شخصياً، في حين أرسلت بقية الدول وفوداً من كل المذاهب المسيحية. بدأ المؤتمر في الأول من مارس عام 1906م وانتهى دون الاستقرار على دينٍ بعينه؛ إذ إن كل مجموعةٍ من اليابانيين استحسنت ديناً دون الاتفاق على واحدٍمنها، وإن كانت غالبية من حضروا المؤتمر من اليابانيين وجدوا في أنفسهم ميلاً للإسلام الذي أحسن علماؤه بيان ما فيه من قواعد ومبادئ يتفق معها العقل والمنطق. وأعلن الإمبراطور الياباني "الماكيدو" أن حرية الأديان مكفولةٌ لجميع المواطنين، وكاد الإمبراطور نفسه أن يُسْلِم على يد ذلك الشيخ بعد أن أبدى إعجابه بالإسلام، لولا خوفه من انشقاق أمّته على بعضها. اشترك الشيخ مع ثلاثةٍ من الدعاة هُم: سليمان إمباركد من الصين، ومخلص محمود من روسيا، وحسين عبد المنعم من الهند، في تأسيس جمعيةٍ في طوكيو للدَّعوة الإسلاميَّة، وانطلقوا إلى شوارع طوكيو ومعهم مترجم، يدعون المواطنين اليابانيين إلى الإسلام؛ فأسلم على أيديهم اثنا عشر ألف ياباني، أسلم نصفهم في فترة وجود الشيخ في اليابان. عاد الشيخ بعدها إلى مصر، وأصدر في عام 1907م كتاباً أسماه “الرحلة اليابانية” عرض فيه تفاصيل رحلته إلى اليابان، وفي العام ذاته أسس جريدة "الأزهر المعمور" واستمر بالعمل بها حتى وافته المنية عام 1961م. وهو يُعد بذلك أول داعيةٍ للإسلام في بلاد اليابان في العصر الحديث. قيل عنه: «لو ظل هذا الرجل في اليابان لاعتنق معظم أهلها الإسلام». هذا الشيخ اسمه: علي أحمد علي الجرجاوي، من قرية أم القرعان مركز جرجا محافظة سوهاج بصعيد مصر، فهل سمع أحدٌ منا عنه أو عرف قصته؟!

أحبتي في الله .. انظروا إلى همة هذا الرجل، إنها بحقٍ (همة أحيت أمة). لقد كانت همته في الدعوة إلى الله سبباً في تعريف أمةٍ كاملةٍ بدين الإسلام. لقد بادر الشيخ إلى تنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وكان شعاره: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فاستحق من الأجر بإذن الله ما لا يمكن إحصاؤه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]، وفاز بالخير كله مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ]،وذلك حينما حمل لواء: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً].
يقول أهل العلم إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من أعظم خصائص أمَّة الإسلام، فهي تهدي كلَّ أحدٍ إلى كل خيرٍ إلى قيام الساعة؛ فقد ختم الله بنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم الرسالات، وجعل دعوتَه عامةً إلى أمم الأرض كلها.
ودعوة الناس إلى الإسلام وهدايتهم إليه من أوجب الواجبات، لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً في وجوبها؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾، أي أن تكون هناك فرقةٌ من الأمة تقوم بواجب الدعوة إلى الله، وإن كان ذلك واجباً على كل فردٍ من الأمة بحسب قدرته واستطاعته؛ فمن يقدر على الدعوة بنفسه يجب عليه القيام بها، ومن لا يقدر فإنه قادرٌ على إعانة القادرين عليها، وإذا كان العامة غير قادرين على الدعوة بالأسلوب النظري والمناهج الدعوية المدروسة، فهم قادرون على الدعوة بالأسلوب العملي بالتزامهم بتعاليم الإسلام؛ فقد اهتدى إلى الإسلام كثيرون بسبب المعاملة الحسنة والسلوك الحميد من خواص المسلمين وعوامهم، إضافةً إلى أن عوام المسلمين قادرون أيضاً على إعانة القادرين على الدعوة بأموالهم، وتيسير وسائل الدعوة لهم. وإذا كان عامة المسلمين يحصل لهم من الفضل ما يحصل لغيرهم إن قاموا بالدعوة بأية صورةٍ من صورها، فإن كل مسلمٍ عليه تبعةٌ مقابل ذلك، فأي إهمالٍ من المسلم لواجباته تجاه دينه يجلب المعاناةَ للمسلمين كافةً، ويُعِين كثيراً ممن يسعون إلى تشويه الإسلام، وكثيرون هم الذين صدَّهم عن الإسلام معاملةٌ سيئةٌ، أو هضمُ حقوقٍ، أو إغلاظٌ في المعاملة من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فويلٌ للذين يصرفون الناس عن الإسلام، وينفرونهم عنه بسوء قولهم أو فعلهم.
إن كثيراً من الناس يجهل أهمية الدعوة الفردية رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بها خاصةً في أول مراحل الدعوة؛ فقد وضع عن طريقها اللبنات الأساسية للدولة الإسلامية؛ فهي التي أثّرت في الناس أيما تأثيرٍ فجعلت الأفراد المتمسكين بهذا الدين مضَّحين له بالغالي والنفيس.
لن يستقيم لهذه الأمة أمرٌ، ولن تُحفظ هويتُها إلا بالدعوة إلى الله وإلى الإسلام الذي هو الدين عند الله؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾.
إن الدعوة إلى الله دعوةٌ مباركةٌ، طيبة الثمار، تُنتج أفراداً ملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً، كما أنها من سُنن النبي صلى الله عليه وسلم يُثاب فاعلها.
يقول أحدهم ملخصاً موضوع الدعوة الفردية: "إن انتمائي إلى الإسلام يجب أن يجعل مني صاحب رسالةٍ في الحياة، ويفرض عليّ أن أعمل ليكون المجتمع الذي أعيش فيه مسلماً ملتزماً؛ فإنه لا يكفي أن أكون مسلماً وحدي دونما اهتمامٍ بمن حولي". وقال آخر: "أأسف كثيراً عندما أسمع من يستدل بضعفه وعجزه وتكاسله بقول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقد نسي أو تناسى أنه لم يبذل الوُسع بعد؛ فالآية تحث على البذل والعمل حسب الطاقة لا كما يظن، وكم منحنا الله من طاقاتِ مالٍ ووقتٍ وصحةٍ وعقلٍ نهدرها فيما لا يفيد، ثم نعتذر عن واجب الدعوة ونحن لم نبذل الوُسع الذي تفضل به الله علينا!".

أحبتي .. إن الشيخ علي الجرجاوي واحدٌ من الذين بادروا إلى رفع راية الدعوة إلى الله، والذين يصح القول في شأنهم إن رُبَّ (همة أحيت أمة). إن هؤلاء ينبغي أن تُدرَس قصصهم في المناهج الدراسية، وتُذاع حكاياتهم في وسائل الإعلام بمختلف أنواعها، وتُسمى بأسمائهم الشوارع والمدارس؛ ليتعرف الناس على جهودهم، وليكونوا قدوةً صالحةً لشبابنا الذين يبحثون الآن عن قدوةٍ فلا يجدونها إلا في نماذج مريضةٍ معيبةٍ مشوهة. إذا أردنا العزة والتمكين وتغيير الأحوال إلى الأصلح علينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأبنائنا وأهلينا ومجتمعنا؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾. فلنبدأ بأنفسنا؛ ولنا في نبينا عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة، أمَرَه ربُه تبارك وتعالى في بداية الدعوة بقوله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾.
على كلٍ منا أن يحافظ على عباداته، ويسمو بأخلاقه، ويرتقي بمعاملاته، وأن ينوي أن يكون ذلك في سبيل الدعوة إلى الله والتعريف بدين الإسلام؛ فيؤجَر على كل عبادةٍ يلتزم بأدائها، وكل عملٍ حسنٍ يقوم به، وكل كلمةٍ طيبةٍ يتفوه بها، حيث يكون وقتها داعيةً إلى الله بالتزامه وأخلاقه وسلوكه.
اللهم أعنا لنكون خير سفراء لديننا، وخير نماذج لما ينبغي أن يكون عليه المسلم المعاصر المتمسك بوعيٍ بكتاب الله وسُنة رسوله الكريم.
http://bit.ly/35FfPTX


الجمعة، 11 أكتوبر 2019

الراحمون يرحمهم الرحمن


الجمعة 11 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٨
(الراحمون يرحمهم الرحمن)

كتب على واحدٍ من مواقع التواصل الاجتماعي يقول إن أحد أصدقائه كان قد اتفق مع نجارٍ على تنفيذ عملٍ معينٍ بقيمة اثني عشر ألف جنيه، دفع له نصفهم كعربونٍ ليشتري به النجار الأخشاب والخامات المطلوبة ويبدأ في إنجاز العمل المطلوب. وكان موعد تسليم العمل واستلام باقي المبلغ المتفق عليه بعد أسبوعين. مر أسبوعان، وكلما اتصل الرجل بالنجار وجد هاتفه مغلقاً، فقرر أن يذهب إليه في منزله. أخذ معه باقي المبلغ وقيمته ستة آلاف جنيه، وذهب إلى منزل النجار كي يتسلم العمل الذي طلب تنفيذه ويعطي النجار ما تبقى له من إجمالي الثمن المتفق عليه، أو أن يجده لم يبدأ العمل بعد فيسترد منه ما سبق أن دفعه له كعربون. وصل إلى بيت النجار ودق الجرس ففتحت له الباب طفلةٌ صغيرةٌ سألها: "أين والدك؟"، أجابته الطفلة ببراءة: "أبي سافر عند ربنا"، صُدم الرجل لما سمع ذلك، وطلب من الطفلة أنتخبر أمها أن شخصاً بالباب يسأل عن والدها. ذهبت الطفلة وعادت معها أمها؛ سيدةٌ ترتدي ثياباً سوداء ويظهر الحزن على ملامحها، ولاحظ الرجل من خلفها بيتاً بسيطاً متواضعاً شبه خالٍ من الأثاث، سألته السيدة: "خير يا أستاذ؟"، قال لها: "يوجد اتفاق عملٍ بيني وبين زوجك، هل هو تُوفي؟"، قالت: "نعم، تُوفي من أسبوع، الله يرحمه، إذا لك ديْنٌ في ذمته أرجو أن تصبر علينا شهراً حتى أتمكن من بيع ما تبقى من أثاث البيت أو أقترض؛ اطمئن حقك لن يضيع"، سكت للحظة، ونظر إلى البنت الصغيرة وإلى أمها وهي تحمل رضيعاً على ذراعيها ثم قال: "لا، ليس الأمر كذلك؛ زوجك الله يرحمه كان قد انتهى من إنجاز عملٍ طلبتُه منه، وله عندي ستة آلاف جنيه"، وأعطى السيدة المبلغ فتفاجأت وحاولت رد المبلغ وقالت له: "لكن المرحوم كان ..."، قاطعها قائلاً: "صدقيني أنا تسلمت ما طلبتُه كاملاً، وهذا باقي الحساب"، وأعاد المبلغ إلى يدها وخرج مسرعاً وهو يردد: "رحمه الله وجعل مثواه الجنة".

ومن المواقف الواقعية المؤثرة هذا الموقف الذي يحكيه أحدهم؛ إذ كتب يقول: دخلتُ إلى إحدى الصيدليات لشراء مرهمٍ لعيني، وأثناء بحث الصيدلي لي عن المرهم كان صاحب الصيدلية واقفاً يستقبل الناس الذين يدخلون إلى الصيدلية لشراء أدوية، حين دخل رجلٌ كبيرٌ في السن أخرج وصفةً طبيةً نظر إليها صاحب الصيدلية وسأل الرجل: "تريدها علباً أم شرائط يا حاج"، رد الرجل متسائلاً: " كم ثمن الشرائط؟"، أجابه: "٣٧٥ جنيه"، مد الرجل يده وسحب الوصفة الطبية من يد صاحب الصيدلية وهَمَّ بالخروج. لاحظتُ وقتها أن صاحب الصيدلية نظر إلى المحاسِبة التي تستلم أثمان الأدوية نظرةً خاصةً لم أفهمها وقتها، لكني وجدتُها تقول بصوتٍ عالٍ وهي تشير إلى الرجل المسن قبل أن يغادر الصيدلية: "الحاج هو العميل رقم ٥٠٠٠؛ كسب من الصيدلية علاجاً بقيمة ألف جنيه"، أكد صاحب الصيدلية ما قالته المحاسبة للتو وخاطب الرجل قائلاً: "مبروك يا حاج! لك عندنا علاج بألف جنيه تستطيع أن تصرفه في أي وقت؛ ستحصل على جميع الأدوية التي بالوصفة الطبية علباً بقيمة ٧٥٠ جنيه ويتبقى لك عندنا٢٥٠ جنيه تشتري بهم أية أدوية أخرى أو تتسلمهم نقداً، كما تحب". سجد الرجل شكراً لله، ثم قال: "فقط أعطوني علاج ابنتي فاطمة، ولستُ بحاجةٍ إلى أية نقود"!

أحبتي في الله .. إنها الرحمة، هي التي حركت مشاعر هذا الصنف من الناس ففعلوا ما فعلوا.
يقول العلماء إن الرحمة معناها في اللغة الرأفة واللين والعطف، وهي من صفات الله سبحانه وتعالى التي ينبغي للعبد أن يتخلق بها، وقد وصف الله عزَّ وجلَّ بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ خلقَ الرَّحمةَ يومَ خلقَها مائةَ رحمةٍ، أنزلَ منْها رحمةً واحدةً فبِها يتراحمُ الخلقُ حتَّى إنَّ الدَّابَّةَ لترفعُ حافرَها عن ولدِها من تلكَ الرَّحمةِ، واحتبسَ عندَهُ تسعًا وتسعينَ رحمةً، فإذا كانَ يومُ القيامةِ جمعَ هذِهِ إلى تلكَ فرحِمَ بِها عبادَهُ].
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ]، يقول أهل العلم: قوله "الراحمون" لمن في الأرض من إنسانٍ وحيوانٍ، "يرحمهم الرحمن" أي يُحسن إليهم ويتفضل عليهم. "ارحموا مَن في الأرض" أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحم البَر والفاجر، والناطق وغير الناطق، والوحوش والطير. "يرحمكم من في السماء" تتنزل عليكم رحمات الله عزَّ وجلَّ. ويقولون إن أكثر ما يحتاج إليه الناس هو التراحم فيما بينهم، فالرحمة والتراحم أجمل شيءٍ في الحياة، لو دخلت قلوبنا وأدخلناها في حياتنا وبيوتنا صلُحت أمورنا كُلّها، وعشنا أسعد حياة. والتراحم هو وصفٌ للمجتمع المسلم، وصف الله به أهل الإيمان فقال عنهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاء بَينَهُم﴾. كما أنَّ فيه نجاةً من الهموم والمصائب والأزمات، وملجأً من الغموم والفتن والنكبات، فمَن أنعَمَ الله عليه به فإن ينابيع السعادة والطمأنينة تتفجر في نفسه؛ فيكون رحيم القلب. والرحيم هو أحب الناس إلى الناس، وهو أولاهم برحمة الله، وأحقهم بالجنة، لأن الجنّة لا يدخلها إلّا الرّاحمون.
ودين الإسلام دين الرحمة، وهو قائمٌ كله على طاعة الحق والإحسان إلى الخلق، فمن كان بالدين أعلم، كان بالخَلق أرحم، ومن كان للدين أعرف، كان بالخَلق ألطف. قال أحد العلماء: "الدين كله يدور على الإخلاص للحق، ورحمة الخلق". وقال آخر: "مجامع الطاعات: تعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله". وقال غيرهما: "من أحب أن يلحق بدرجة الأبرار ويتشبه بالأخيار، فَلْيَنوِ كل يومٍ تطلع فيه الشمس نفع الخلق".
ورحمة الخلق جميعاً ـ بشراً أو حيواناتٍ ـ من أعظم أسباب المغفرة، فقد غفر الله لبغيٍ سقت كلباً، وغفر الله لرجلٍ رأى كلباً يلهث من العطش فرَّق له فسقاه، فإذا كان هذا مع الحيوان، فكيف بالإنسان، وكيف برحمة الضعيف، وإغاثة الملهوف، ونُصرة المظلوم، والتفريج عن المكروب والمهموم والمغموم؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى]، وصدق حين قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
كتب عالِمٌ نصيحةً طيبةً قال فيها: ما أجمل أن يصبح الخير فيك سجيةً وطبعاً، فتجد نفسك تُحسن وتفعل الخير تلقائياً وأنت في أحرج الظروف، لأنك تعودت ألا تعيش لنفسك بل تعيش للناس ولخدمة دينك. ألم تر أن الله تعالى امتدح من يُؤثِر إخوانه على نفسه رغم فقره فقال في الأنصار: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، يعانون من بلاء الفقر ومع ذلك يُحسنون. ألم تر إلى قول النبي: [مَن نَفَّسَ عَن مُؤمِنٍ كُربة مِن كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربة مِن كُرَبِ يَومِ القيامة، ومَن يَسَّرَ عَلَى مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عليْه في الدُّنيا والآخِرة، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرة، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ].
ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، وحينئذ تغشاك رحمةٌ واسعةٌ من المولى عزَّ وجلَّ: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾.
وفي الحَديثِ: أنَّهُ - علَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: [لا تُنزَعُ الرَّحمة إلا مِن شَقي]، وقال أيضاً: [مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ].
وللرحمة صورٌ كثيرةٌ منها إنظار المعسر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن رجُلًا لم يعمَلْ خيرًا قطُّ، وكان يُدايِنُ النَّاسَ فيقولُ لرسولِه: خُذْ ما تيسَّر واترُكْ ما تعسَّر وتجاوَزْ لعلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنَّا، قال: فلمَّا هلَك قال اللهُ: هل عمِلْتَ خيرًا قطُّ؟ قال: لا.. إلَّا أنَّه كان لي غلامٌ وكُنْتُ أُدايِنُ النَّاسَ، فإذا بعَثْتُه ليتقاضى قُلْتُ له: خُذْ ما تيسَّر واترُكْ ما تعسَّر وتجاوَزْ لعلَّ اللهَ يتجاوَزُ عنَّا. قال اللهُ تعالى: قد تجاوَزْتُ عنك].
يقول الشاعر:
هـذا النـبيُ رؤوفُ قلـبٍ وصـفُـه
قـد كانَ يرحـمُ من يـراه يُقاسـي
خذها نصيحةَ صادقٍ في نصحِه
إن الذي يرجـو الجِنـانَ يُواسـي
فَرْقُ الغليـظِ عن الرحـيمِ عرفتُهُ
لا يســتوي تــربٌ مـع الألمـاسِ

أحبتي .. راق لي ما كتبه أحد العلماء حيث قال: كُن رحيماً مع جميع الخلق، لطيفاً مع كل عباد الله، وإن لم تستطع نفع إنسانٍ فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه، وإن لم تقف معه فلا تُعن عليه، وإن لم تفرح بنعمته فلا تحسده، وإن لم تمنحه الأمل فلا تحبطه. لا تكن جاف المشاعر، بخيل اليد، قاسي القلب، ولكن كُن رحيماً فـ(الراحمون يرحمهم الرحمن).
اللهم اجعلنا متراحمين فيما بيننا، واجعلنا من المحسنين أهل الآية الكريمة: ﴿إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ﴾.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.
http://bit.ly/2M7JGN6

الجمعة، 4 أكتوبر 2019

فتنة المال


الجمعة 4 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٧
(فتنة المال)

كان أغنى رجلٍ عربيٍ على الإطلاق، وكان يُلقب بقارون العصر؛ كان يسكن في قصرٍ معلقٍ يتكون من أربعة طوابق في ناطحة سحاب. أجرى معه أحد الصحافيين مقابلةً قبل ثلاثين سنة، وكان مذهولاً بما رآه في بيت هذا الثري من البذخ والتقنية الحديثة السابقة لعصرها وأوانها، والتي لم يرَ مثلها في قصور الأمراء والملوك والرؤساء الذين قابلهم من قبل؛ فقد كان كل شيءٍ في بيته يعمل بالريموت. تاجر هذا الملياردير في السلاح وله عدة صفقات أسلحةٍ مشهورة. تزوج بزوجته الأولى ثم طلقها مقابل تعويضٍ قدره 548 مليون جنيه استرليني. كان لديه يختٌ من أكبر اليخوت؛ على سطحه مطارٌ يتسع لهبوط أربع طائرات، ولديه 610 ملّاحاً وخادماً.
اشتهت ابنته ذات يومٍ لآيسكريم من باريس، وشوكولاتة من جنيف، فأقلعت طائرته الخاصة بكامل طاقمها في رحلةٍ لمدة سبع ساعاتٍ لجلب الآيسكريم والشوكولاتة! كل هذه الثروة والأموال الطائلة كان يوزعها على نفسه وأهله فقط، ويستنكف أن يساعد فقيراً أو مسكيناً أو مريضاً أو محتاجاً، بل ويبخل حتى على عُمّاله الفقراء وخدمه المحتاجين. وكان يردد عبارته الشهيرة: "أنا لستُ وكيل آدم على ذريته".
أفلس في آخر عمره إفلاساً عجيباً، وأصبح فقيراً كأي إنسانٍ مغلوبٍ على أمره. ويُقال إن رجلاً مغترباً كان يعمل خادماً عنده دعا عليه حين احتاج مبلغاً من المال ليرسله لأهله في بلاده لعلاج زوجته المريضة؛ فذهب وطلب المبلغ من الملياردير كمساعدةٍ أو قرضٍ يتم تقسيطه من راتبه الشهري، فوبّخهُ الملياردير وأذلهُ، وطرده من قصره ليلاً شرّ طردة؛ فقال له الخادم مقهوراً: "أسأل الله العلي العظيم ألا يميتني حتى أراك ذليلاً تمدّ يدك للناس"، فغضب الملياردير من هذه الدعوة وقام بفصل العامل وطرده من العمل. ولما افتقر هذا الملياردير قيّض الله له أحد رجال الأعمال الكبار في بلده فاشترى له تذكرةً سياحيةً للسفر إلى بلدٍ آخر، وأعطاه مبلغاً من المال لاستئجار شقة، وقال له: "أنا لم أتفضل عليك، ولكن الله أمرني أن أدفع لك، وكل شهرٍ سيأتيك مصروفك مني محولاً على البنك". وذات يومٍ وهو في البلد الغريب سألته زوجته عن أسوأ لحظةٍ مرّت به في حياته؛ فحكى لها قصته مع خادمه الذي أذله وطرده فدعا عليه، ثم قصته مع رجل الأعمال الذي اشترى له تذكرة السفر وساعده بالمال، ثم قال: "وقبل سفري ذهبتُ إلى رجل الأعمال لاستلام المال الذي وعدني به، فاتصل بأحد العاملين لديه ليحضر لي المال؛ فكانت أسوأ لحظةٍ عشتها في حياتي عندما دخل العامل الذي أعطاني المال؛ فقد كان خادمي الذي طردته وفصلته من العمل!! وقد نظر إليّ مذهولاً مفزوعاً عندما رآني وكأنه لا يصدّق ما يرى، ورأيته خرج وعيناه مبللةٌ بالدموع".

أحبتي في الله .. لأن هذا الملياردير قد صار الآن بين يدي ربه، فنحن لا نحكم عليه بالكلية، ولا على جميع تصرفاته، وإنما نحكم فقط على موقفٍ واحدٍ من مواقفه، فلا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى على أيحالٍ مات؛ فعسى أن يكون اعتبر واتعظ مما حدث معه وما آل إليه حاله فتاب وأناب قبل موته؛ فأحسن الله إليه وبدَّل سيئاته حسنات. ثم من أدرانا عن الوجه الآخر له، ربما عَمِل عَمَل خيرٍ واحداً استحق عليه غفران الله كما غفر سبحانه وتعالى لبغيٍ من بغايا بني إسرائيل حينما سقت كلباً كاد يقتله العطش.
وللعبرة فإن موقف هذا الملياردير من خادمه يذكرني بالآية الكريمة: ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾، وكأني به يقول عن ماله كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾، فيكون قد سقط في الابتلاء، ولم ينجُ من (فتنة المال).
وأتصور أن الكثير من الناس كانوا -وهم يطالعون أخبار هذا الرجل- يقولون كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا عندما رأوا قارون في زينته: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
وكأني بالعامل المغترب الذي أذله ذلك الرجل وأهانه وطرده شر طردة يتمثل قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، ويتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ].
يقول أهل العلم عما ورد بالآية الكريمة على لسان قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ إن فعل "أوتيته" مبنيٌ للمجهول، أي أن قارون أغفل عن عمدٍ ذِكر الفاعل، ولم يُرد أن يعترف أن الله هو الذي أنعم عليه بهذا المال، بل ادعى أنه عليمٌ يعرف كيف يكسب المال، وكيف يستثمره، وأنه قد كسبه بعلمه وبجهده، وأنه حرٌ في إنفاقه كيفما شاء.
لقد فات قارون -وكل من يشبهه في تصرفاته- أن يدرك أن للمال حظاً من اسمه: ما.. لك.. أي ليس لك، ما.. له.. أي ليس له!
إن قصة قارون -ومن قبله ومن بعده كثيرون مماثلون له- تجعلنا نفكر في مصيره ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾. لقد استحق هذا المصير حينما لم يستمع إلى خمس نصائح وجهها له الصالحون من قومه حين قالوا له: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾. لم ينسب قارون الفضل لله سبحانه وتعالى، ولم يقم بحق المال الذي هو في الأصل مال الله؛ هكذا وصف عزَّ وجلَّ المال: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾.
يقول العلماء أن من دروس وعبر قصة قارون أنَّ المال يكون وبالاً وحسْرةً على صاحبِه إذا لَم يستخْدِمْه في طاعة الله، وأنَّ كثرة المال ليستْ دلِيلاً على محبَّة الله ورضاه عن العبد، وأنَّ المعاصي قد تُعجَّل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، وأنَّ الله تعالى يبسط الرِّزق لِمَن يشاء ويُضيِّق على مَن يشاء لحكمةٍ بالغةٍ، وأنَّ هذا المال عرَضٌ زائلٌ. وأن مما يهلك الإنسان الفرح بالدنيا فرح زهوٍ وكِبرٍ وغرور. وأن مقياس السعادة في الدنيا هو طاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده وليس الغنى وكثرة المال. وأن أهل الفساد ممقوتون بعيدون من محبة الله. وأن على أهل العلم أن يقوموا بواجب النصيحة لكل ظالمٍ طاغٍ باغٍ متكبرٍ سادرٍ في غيه.
إنها (فتنة المال) التي وصفها الشاعر بقوله:
رأيتُ الناسَ قد مالــوا
إلى مَن عنــده مــــالُ
ومَن لا عنــده مـــــالُ
فعنه الناسُ قد مـالوا
رأيتُ الناسَ قد ذهبوا
إلى مَن عنــده ذهـبُ
ومن لا عنــده ذهــبُ
فعنه الناسُ قد ذهبوا
رأيتُ الناسَ منفضــة
إلى مَن عنــده فضـة
ومَن لا عنــده فضــة
فعنه الناسُ منفضــة

أحبتي .. لنأخذ العبر والدروس والمواعظ من قصة قارون، ومن موقف ذلك الملياردير؛ كيف كانت حياتهما، وما صار إليه مآلهما حينما أخذتهما العزة بالإثم وتغلبت عليهما (فتنة المال).
ليس منا من لا يدعو الله سبحانه وتعالى أن يوسع عليه رزقه ويغنيه، فإذا منَّ الله علينا بوفرة المال فالحذر من أن نكون ممن وصفهم سبحانه بقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ . فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
أذكر نفسي وأذكركم أحبتي أن نتقي الله فيما آتانا من مالٍ- قلَّ أو كثُر- فنخرج حقه من زكاةٍ وصدقةٍ ونفقةٍ في وجوه الخير والبر. ولا نتكبر، ولا نطغى ولا ننسى أبداً أن المال مال الله وأننا مستخلفون فيه، مسئولون عنه سؤالين: من أين اكتسبناه، وفيما أنفقناه؛ فلنكسبه من حلالٍ، ولنصرفه بغير إسرافٍ ولا تقتيرٍ ولا سفهٍ في مصارفه الشرعية ابتغاء وجه الله.
هدانا الله وإياكم إلى ما فيه رضاه، وأبعدنا عن كل ما يكون سبباً في سخطه وغضبه، ونجانا من (فتنة المال).
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/3348FXg

الجمعة، 27 سبتمبر 2019

خيانة الأمانة


الجمعة 27 سبتمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٦
(خيانة الأمانة)

تقول القصة أن أحمد وأنس، صديقان اجتمعا -والعياذ بالله- على معصية الله سبحانه وتعالى وارتكاب الفواحش بشتّى أنواعها. ذات يومٍ قال أنسٌ لأحمد: "لقد تعرّفتُ على زوجة إمام المسجد القريب منّا، فَقَبِلَت أن أحضر عندها للبيت، لكنني أخاف أن يأتي زوجها ويجدني معها، فما رأيك أن تساعدني بأن تجلس مع الإمام بعد الصّلاة وتشغله بالأسئلة لأطول فترةٍ ممكنةٍ، وعند انتهائك من ذلك، وقبل رجوع الإمام إلى بيته تقوم بالاتصال بي لأخرج قبل مجيئه؟". نفذ أحمد ما طلبه منه صديقه أنس. وظلّ أحمد على هذا الحال لمُدّةٍ طويلةٍ، يجلس مع الإمام بعد الصّلاة يسأله عن أمورٍ ومسائل فقهيةٍ وشرعيةٍ، ثم بعد أن يتلقى الإجابة يتصل بصديقه ليعلمه بأن إمام المسجد عائدٌ إلى بيته. ومع مرور الأيام وكثرة جلوس أحمد مع الإمام، تغير أحمد وهداه الله إلى الصّراط المستقيم، وبدأ ضميره يُؤنّبه؛ فقرّر أن يُخبر الإمام عن كل شيء، وفعلاً ذهب إليه وأخبره بأن زوجته تخونه مع رجلٍ آخر، وبأنه كان يساعد ذلك الرجل ويتعمد إطالة الجلوس مع الإمام ليلهيه عن العودة إلى بيته، فردّ عليه الإمام قائلاً: "لكني لستُ مُتزوّجاً!!".

هل عرفتم أين كان يذهب أنس صديق أحمد؟! لم يكن أنس يذهب عند زوجة الإمام بل إلى كان يذهب إلى زوجة صديقه أحمد!

أحبتي في الله .. (خيانة الأمانة) نوعٌ من الغدر يتسم بالخسة، يُخلِّف إحساساً بالمرارة خاصةً إذا كان من شخصٍ قريبٍ أو من حبيبٍ أو صديقٍ.
هكذا هم الخائنون دائماً لا تحركهم إلا نفوسهم الضعيفة وشهواتهم ورغباتهم في تملك ما في أيدي الغير، حتى لو كانوا من أقرب الناس إليهم؛ فيخسرون أنفسهم كما يخسرون أقاربهم وأصدقاءهم وأحبابهم.
الغريب أنك تجد خائن الأمانة أكثر اقتراباً ممن يخونه وقت خيانته؛ يتعمد بأن يثبت -بشكل مبالغٍ فيه- كم هو أمينٌ وشريفٌ وصديقٌ صدوق! وإذا تمت مواجهته بما قد يُقال عن خيانته تراه يقسم بالله بأنه برئٌ وأن ما يُقال هو مجرد إشاعاتٍ وكذبٍ وافتراء!

تمتد (خيانة الأمانة) لمجالاتٍ أبعد من الاستيلاء على المال أو الممتلكات أو الزوجة لتصل إلى خيانة العهد، والحنث بالقسم، وعدم الوفاء بالوعد، والتزوير، والتدليس، والكذب المتعمد، والافتراء على الغير. كما تتجاوز (خيانة الأمانة) المستوى الشخصي كخيانة الابن أو الصديق أو الزوج إلى المستوى العام كخيانة صحفيٍ أو إعلاميٍ لأمانة الكلمة، أو خيانة موظفٍ لجهة عمله، أو خيانة شخصٍ لوطنه خيانةً تصل إلى مستوى الخيانة العظمى.
في كل الأحوال يكون خائن الأمانة بعيداً عن الطريق المستقيم، لا يستحضر مخافة الله في قلبه، ولا يفكر في يوم الحساب، نظرته ضيقةٌ، تسيطر عليه أهواؤه الشخصية، ولا يقيم وزناً لأي اعتبار سوى مصلحته الشخصية.
وعندما يجتمع أكثر من خائنٍ للأمانة في موقفٍ واحدٍ تتفق فيه مصالحهم، فسيأتي اليوم -لا محالة- الذي يخونون فيه بعضهم بعضاً، فهذه سُنةٌ من السنن التي نشاهدها في حياتنا الدنيا، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، وكما ورد في الأثر: [مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ].

(خيانة الأمانة) أمرٌ مذمومٌ ومنهيٌ عنه شرعاً؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿لا تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ أي: لا يحب من عباده من اتصف بهذا، وهو الخيانة في العهود والمواثيق، وعدم الوفاء بالوعود.
ويقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: [أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ]، كما أنّ الرسول-عليه الصلاة والسلام- ذمّ خائن الأمانة وعدّه من المنافقين، وذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام-: [آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ]؛ لهذا فإنّ خائن الأمانة يُعد من المنافقين الذين ينالهم الإثم وغضب الله سبحانه وتعالى.

أحبتي .. ما أجمل أن نعيش جميعنا في مجتمعٍ يتسم أفراده بالأمانة بكل أشكالها، فليتق الله كلٌ منا فيما هو مؤتمنٌ عليه؛ فلا نخون الأمانة ولا نفرط فيها أبداً. إذا كان من بيننا من قد فرط في أمانةٍ فليسارع إلى تصحيح وضعه، ويعيد الحقوق المغتصبة إلى أهلها، ويعزم ألا يعود إلى (خيانة الأمانة) مرةً أخرى، وليعلم ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾. ولو أن بيننا من توسوس له نفسه ويزين له شيطانه أن يخون الأمانة فليكن حازماً مع نفسه وليتوقف فوراً عما يفكر فيه. وإن كان ممن نعرفهم من غلبه شيطانه فوقع في هذه المعصية فلننصحه ونأخذ بيده إلى طريق الخير وجادة الصواب. وفي كل الأحوال علينا أننغرس في نفوس أبنائنا خلق الأمانة وننفرهم من خيانتها ونحكي لهم قصص النهايات المخزية لخائني الأمانة.
اللهم اجعلنا ممن يبتعدون عن (خيانة الأمانة)، وممن يؤدون ﴿الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، ولا يخونوا ولا يغدروا ولا يحنثوا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

http://bit.ly/2n80N7j

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

الطريق إلى الجنة


الجمعة 20 سبتمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٥
(الطريق إلى الجنة)

قصةٌ حقيقيةٌ رائعةٌ، عجيبةٌ ومؤثرةٌ، حدثت في هولندا؛ ففي كل يوم جمعة، وبعد الصلاة، كان الإمام وابنه البالغ من العمر إحدى عشرة سنةً يتوجهان إلى إحدى ضواحي أمستردام ويوزعان على الناس كتيباتٍ صغيرةً بعنوان (الطريق إلى الجنة). في إحدى الجمع وكان الجو بارداً جداً وماطراً؛ ارتدى الصبي الكثير من الملابس حتى لا يشعر بالبرد، وقال: "حسنا يا أبي، أنا مستعد"، سأله والده: "مستعدٌ لماذا؟!"، قال الابن: "يا أبي، لقد حان الوقت لكي نخرج لتوزيع الكتيبات"، أجابه أبوه: "الطقس اليوم ممطرٌ وشديد البرودة في الخارج"، أدهش الصبي أباه بالإجابة حين قال: "ولكن يا أبى لا يزال هناك أناسٌ يذهبون إلى النار"، قال الأب: "لن أخرج في هذا الطقس"، قال الصبي: "هل يمكنني أن أذهب لتوزيع الكتيبات؟"، تردد والده للحظةٍ ثم قال: "يمكنك الذهاب"، وأعطاه بعض الكتيبات". مشى الصبي في شوارع المدينة في هذا الطقس البارد الممطر لكي يوزع الكتيبات على من يقابله من الناس، وظل يتردد من بابٍ إلى بابٍ حتى يوزع الكتيبات الإسلامية. بعد ساعتين من المشي تحت المطر، تبقى معه آخر كتيبٍ وظل يبحث عن أحد المارة في الشارع لكي يعطيه له، ولكن كانت الشوارع مهجورةً تماماً بسبب الطقس السيء؛ فاستدار إلى الرصيف المقابل لكي يذهب إلى أول منزلٍ يقابله حتى يعطيهم الكتيب، دق جرس الباب، فلم يُجب أحد، ظل يدق الجرس مراراً وتكراراً، بلا جدوى، كأن شيئاً ما يمنعه من ترك المنزل، مرةً أخرى، التفت إلى الباب ودق الجرس وأخذ يطرق على الباب بقبضته بقوةٍ، وهو لا يعلم ما الذي جعله ينتظر كل هذا الوقت، وظل يطرق فإذا بالباب يُفتح ببطءٍ، وكانت تقف عند الباب امرأةٌ كبيرةٌ في السن تبدو عليها علامات الحزن الشديد، فقالت له: "ماذا أستطيع أن أفعل لك يا بُني؟!"، نظر إليها الصبي بعينين متألقتين وعلى وجهه ابتسامةٌ أضاءت لها العالم وقال: "سيدتي، أنا آسف إذا كنتُ أزعجتك، ولكن فقط أريد أن أقول لك إن الله يحبك حقاً ويعتني بك، وجئتُ أعطيك آخر كتيبٍ معي والذي سوف يخبرك كل شيءٍ عن الله، والغرض الحقيقي من الخَلق، وكيفية تحقيق رضوانه". أعطاها الكتيب وأراد الانصراف، فقالت له: "شكرا لك يا بني!". بعد أسبوعٍ، وبعد صلاة الجمعة، حيث كان الإمام قد أنهى درساً له في المركز الإسلامي، وقفت سيدةٌ عجوزٌ تقول: "لا أحد في هذا الجمع يعرفني، ولم آتِ إلى هنا من قبل، وحتى يوم الجمعة الماضي لم أكن مسلمةً، ولم أفكر أن أكون كذلك. لقد تُوفي زوجي منذ أشهرٍ قليلةٍ، وتركني وحيدةً تماماً في هذا العالم. ويوم الجمعة الماضية كان الجو بارداً جداً وكانت السماء تمطر، وقد قررتُ أن أنتحر لأنني لم يبقَ لدي أي أملٍ في الحياة؛ لذا أحضرتُ حبلاً وكرسياً وصعدتُ إلى الغرفة العلوية في بيتي، ثم قمتُ بتثبيت الحبل جيداً في إحدى عوارض السقف ووقفتُ فوق الكرسي وثَبَّتُ طرف الحبل الآخر حول عنقي، وقد كنتُ وحيدةً يملؤني الحزن، وكنتُ على وشك أن أقفز، وفجأةً سمعتُ صوت جرس الباب في الطابق السفلي، فقلتُ سوف أنتظر لحظاتٍ ولن أجيب، وأياً كان من يطرق الباب فسوف يذهب بعد قليل، انتظرتُ ثم انتظرتُ حتى ينصرف مَنْ بالباب، ولكن كان صوت الطرق على الباب ورنين الجرس يرتفع ويزداد. قلتُ لنفسي مرةً أخرى: مَن يكون؟! رفعتُ الحبل مِن حول رقبتي وذهبتُ لأرى مَنْ يطرق الباب بكل هذا الإصرار، عندما فتحتُ الباب لم أصدق عيني فقد كان صبياً صغيراً وعيناه تتألقان وعلى وجهه ابتسامةٌ لم أرَ مثلها من قبل، حتى لا يمكنني أن أصفها لكم. الكلمات التي جاءت من فمه مست قلبي الذي كان ميتاً فقفز إلى الحياة مرةً أخرى، وقال لي بصوتٍ حانٍ: "سيدتي، لقد أتيت الآن لكي أقول لك إن الله يحبك حقيقة ويعتني بك!"، ثم أعطاني هذا الكتيب الذي أحمله (الطريق إلى الجنة)، فأغلقت بابي، وبتأنٍ شديدٍ قمتُ بقراءة الكتاب، ثم ذهبتُ إلى الأعلى وقمتُ بإزالة الحبل والكرسي لأنني لن أحتاج إليهما بعد الآن. أنا الآن سعيدةٌ جداً لأنني تعرفت إلى الإله الواحد الحقيقي. عنوان هذا المركز الإسلامي مطبوعٌ على ظهر الكتيب، جئتُ إلى هنا بنفسي لأقول: "الحمد لله وأشكركم على هذا الملاك الصغير الذي جاءني في الوقت المناسب تماماً؛ فأنقذ روحي من الخلود في الجحيم".
دمعت العيون في المسجد وتعالت صيحات التكبير "الله أكبر". نزل الإمام الأب من المنبر، وذهب إلى الصف الأمامي حيث كان يجلس ابنه واحتضنه وأُجهش في البكاء أمام الناس دون تحفظ. ربما لم يكن بين هذا الجمع أبٌ فخورٌ بابنه مثل هذا الأب.

أحبتي في الله .. كم من أناسٍ يعيشون حولنا لم تصلهم الدعوة إلى الله فلم يعرفوا (الطريق إلى الجنة) فكان مصيرهم نار جهنم والعياذ بالله، وهذا تقصيرٌ منا نحن المسلمين في مسئوليتنا وواجبنا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى التي تفتح (الطريق إلى الجنة) أمام غير المسلمين، وترفع من درجة المسلمين في جنات النعيم، أمر الله بها في آياتٍ ورغَّب فيها سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ثم يقول: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
يرى أهل العلم أن أحسن الناس قولاً من دعا إلى الله وأرشد إليه، وعلم العباد دينهم وفقههم فيه، وصبر على ذلك، وعمل بدعوته، ولم يخالف قوله فعله ولا فعله قوله، هؤلاء هم أحسن الناس قولاً، وهم أصلح الناس وأنفع الناس للناس؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. 
وأخبر سبحانه أن الدعوة إلى الله على بصيرةٍ هي سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي سبيل أتباعه من أهل العلم؛ كما في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾.
ويأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله فيقول: [بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً]، ومن لطيف ما قال العلماء عن هذا الحديث: "بلغوا": تكليف، "عني": تشريف، "ولو آية": تخفيف.
وعن الثواب العظيم للدعوة إلى الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]؛ يوضح علماؤنا في شرح هذا الحديث أنك لو دعوتَ كافراً فأسلم يكون لك مثل أجره، ولو دعوتَ مبتدعاً فترك البدعة يكون لك مثل أجره، ولو دعوتَ إنساناً عاقاً لوالديه فأطاعك وبر والديه يكون لك مثل أجره، ولو دعوتَ إنساناً يغتاب الناس فترك الغيبة يكون لك مثل أجره، وهكذا. ويقول عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا] فإن دعوتَ إلى خيرٍ فلك مثل أجور المهتدين على يديك، وإن دعوتَ إلى شرٍ فعليك مثل أوزارهم وآثامهم. وقال صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم].
وعن أسلوب الدعوة يقول أحد العلماء: ليعلم كل من يدعو إلى الله وإلى (الطريق إلى الجنة) أن الخطاب الديني الذي يصدر عنه هو خطاب تحريرٍ وتنوير؛ تحريرٍ للعقول والقلوب من الزيغ والهوى لتستنير بنور الهُدى والتُقى. وهو خطاب تبصيرٍ وتذكيرٍ وسماحةٍ ورفقٍ ورحمةٍ ولينٍ ودفعٍ بالتي هي أحسن. هو خطاب تسامحٍ وتعايشٍ وسلامٍ وتعاونٍ على البر والتقوى. خطابٌ ينبذ التعصب والتزمت والانغلاق والتحجر، يقاوم الفُرقة والفتنة، خطابٌ يدفع إلى تحقيق الخيرية الفعلية لأمة الإسلام: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس ِتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾.
يوضح أحد العاملين في مجال الدعوة أن من الأمور التي تختلط في أذهان الكثيرين تصور أنَّ الدعوة إلى الله هي أن تعتلي المنابر وتُلقي الدروس والمحاضرات، والحقيقة أن الأمر أيسر من ذلك، يكفي أنتقول كلمةً أو تكتب عبارةً يستفيد منها غيرك، أو تفعل فعلاً طيباً يقتدي به الآخرون. ومن الشبهات قول بعضهم: إنك كمن يحرث البحر، إنك لن تغير الكون بكلامك، لن تستطيع أن تصنع شيئاً، لن تجد استجابةً من الناس والفساد يحيط بهم من كل جهة. هؤلاء أذكرهم بقول الله سبحانه: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾. وأضيف إلى ذلك أن الدعوة إلى الله لا تقتصر على تلاوة آيةٍ وقراءة حديثٍ نبويٍ شريف بعد انتهاء صلاة الجماعة في المسجد، وإنما هي منظومةٌ متكاملةٌ أهم ما فيها أن يكون الداعي قدوةً صالحةً لغيره يعمل بما يقول بغير انفصامٍ بين الأقوال والأفعال.

أحبتي .. الدعوة إلى الله ليست وظيفة واعظٍ، ولا واجب إمامٍ فقط، وإنما هي مسئولية كل مسلمٍ، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، فقيراً أو غنياً، كلٌ حسب قدرته واستطاعته؛ فلا ينبغي أن يتخلف أحدٌ من المسلمين عن هذا الواجب. ليسأل كلٌ منا نفسه ماذا قدَّم للدعوة إلى الله؟ وليحاسب نفسه حتى لا يُفَوِّت على نفسه ثواباً عظيماً لا يُحسب له حساباً بسيطاً وإنما حساباً مركباً يتضاعف كل حين، ينتفع به في حياته وبعد مماته. وهذه دعوةٌ مني، خاصةً للشباب وغيرهم ممن يجيد استخدام التقنيات الحديثة، استخدموا هذه التقنيات من إنترنت وبرامج تواصل اجتماعي وهواتف ذكية في الدعوة إلى الله بنشر آية، أو شرحٍ أو تفسيرٍ لها، أو حديثٍ نبويٍ شريف، أو قصةٍ من سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أو من سير الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين أو الصحابة أو التابعين، أو من قصص الحضارة الإسلامية العظيمة وعلماء المسلمين. كذلك فإن المسارعة إلى تصحيح ما يُنشر من أخطاء أو مزاعم أو افتراءاتٍ أو أحاديث موضوعةٍ وباطلةٍ لا يقل في أهميته عن الاهتمام بنشر ما يفيد، بل قد يكون هو الأولىٰ في كثيرٍ من الحالات.   
وفقنا الله جميعاً إلى الإخلاص في الدعوة إلى سبيله القويم وطريقه المستقيم عسى أن يكون في عملنا إنقاذٌ للبعض من النار، وإرشادٌ لآخرين بتعريفهم (الطريق إلى الجنة) فنكون نحن وهم رفقاء فيها بإذن الله.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2msSv9X