الجمعة، 5 يوليو 2019

إنهم يحركون الوتد

الجمعة 5 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٤
(إنهم يحركون الوتد)

تقول الأسطورة أنه في ذات يومٍ أراد إبليس الرحيل من موقعٍ كان يسكن فيه مع أبنائه، فرأى أحد أولاده خيمةً فقال: "لا أُغادرن حتى أفعلن بهم الأفاعيل"، فذهب إلى الخيمة فوجد بقرةً مربوطةً بوتدٍ، ووجد امرأةً تحلب هذه البقرة، فقام فحرك الوتد؛ فخافت البقرة وهاجت، فانقلب الحليب على الأرض، فغضبت المرأة، فدفعت البقرة بشدةٍ؛ فسقطت البقرة وماتت، فجاء زوجها فرأى البقرة وقد ماتت، فضرب زوجته وطلقها؛ فجاء قومها فضربوه؛ فجاء قومه فاقتتلوا واشتبكوا. تعجب إبليس فسأل ولده: "ويحك ما الذي فعلت"؟! قال: "لا شيء، فقط حركت الوتد"!

وهكذا يظن أغلب الناس أنهم لا يفعلون شيئاً، وهم لا يعلمون أن بضع كلماتٍ فقط في الأُذن تُسمى وشايةً، وهي وقيعةٌ بين الناس تقلب الحال رأساً على عقبٍ، تُسبب الخلاف، وتُشعل المشاكل، وتقطع الأرحام، وتشحن الأجواء، وتخطف الفرحة، وتقضي على البهجة، وتكسر القلوب، ثم يظنون أنهم لم يفعلوا شيئاً؛ إنهم فقط قد حركوا الوتد!

أحبتي في الله .. إنها الوقيعة بين الناس، حيث يحدث (إنهم يحركون الوتد) فتقع المشاكل في الأُسر والعائلات، وبين الجيران، وبين الأصدقاء، وبين الزملاء في العمل!
نادراً ما يتم تحريك الوتد بغير قصدٍ، وكثيراً ما يكون تحريكه عن سبق إصرارٍ وترصدٍ وترقبٍ وتخطيط! إنها النفس الإنسانية الأمارة بالسوء التي تميل للشر وتجنح للإيذاء والتخريب. ولا عجب في أن يكون لمن يحرك الوتد قصدٌ وتكون له مصلحةٌ فيما خطط له، لكن العجيب أن تجد أشخاصاً يحركون الوتد وهم لن يستفيدوا شيئاً من وراء ذلك؛ هؤلاء الذين يحبون الشر للشر ذاته!

لقد حرص الإسلام على تهذيب اللسان وما يتبعه من جوارح فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾، كما حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على حفظ ألسنتنا فقال: [مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: [كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ]. فالنمام خائنٌ - ولو كان صادقاً - يستهين بالتعاليم الربانية التي ذَمَّت وتوعدت كل ﴿هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَميمٍ﴾؛ ففي الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: [إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ]. وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من ينقل كلام الناس قصد الإفساد بينهم، فقال: [لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّام]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ].

يقول أهل العلم أن من أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب أي مجتمعٍ بشرىٍ هو وجود تلك الفئة المتخصصة في إثارة المشاكل، والتعرض لأعراض الناس وخصوصياتهم وأمورهم الشخصية، فترى الذي يُصاب بهذه الآفة الخطيرة والمؤذية من الناس يتحول إلى إنسانٍ فاجرٍ بكل ما لهذه الكلمة من معنىً؛ فهو ينتهك كل المحرمات، ويعتدي على الناس الذين لا يتوافقون مع أفكاره، وكم من الأمثلة والشواهد التي نراها في حياتنا اليومية؛ فنرى مثلاً أناساً شرفاء كريمي النفس والخلق يتعرضون للأذى والنيل من سمعتهم وكرامتهم من آخرين أقل ما يُقال عنهم أنهم باعوا ضمائرهم وكرامتهم للشيطان؛ فتحولوا إلى كائناتٍ تحركهم النزوات وشهوة الانتقام والثأر المزعوم من أولئك الشرفاء الكرام. إن للظلم والعدوان على الآخرين - ولو بالإساءة المتعمدة إلى سمعتهم وكرامتهم - نهايةً مهما طال الأمد، وليتذكر الإنسان أن الله تعالى يراقب كل الأعمال، فهل يتذكر الأشرار والحاقدون من مثيري الفتن هذا الأمر أم لا؟! إن الفتنة نائمةٌ لعن الله من يريد إيقاظها، يكفيه أن حسابه سيكون عند ربٍ عزيزٍ ذي انتقام.
إن أكثر الوشاة يحاولون تزيين أقوالهم للوقيعة، وكأنهم يحاولون المحافظة على المعنى اللُغوي للفعل الذي اُشتقت منه الوشاية؛ لأن وَّشِيَ الثوب معناه طرَّزه وحلَّاه وحَسَّنه، فالواشون يستخدمون من أساليبهم الخسيسة ما يُحسِّنون به بضاعتهم السيئة الرديئة ومساعيهم المسمومة للدسِّ والخديعة، ويجعلون من ألسنتهم أداةً طَيِّعةً لمآربهم الدنيئة التي توعز الصدور وتُباعد بين الناس في مختلف مجالات الحياة، إنهم يوقعون بين الناس، (إنهم يحركون الوتد)!
فكم من كلمةٍ سيِّئةٍ أو خاطئةٍ أحدثَتْ بين قبيلةٍ أو جماعةٍ مُتَآلِفةٍ أعظمَ ممَّا تُحدثه النار في الحطب اليابس.
إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هذا بوجهٍ، وهذا بوجهٍ، وينقل كلام هذا لذاك على سبيل الإفساد بينهما، وقد يتقوّل على أحدهما ما لم يقل، فيجمع بين النميمة والبهتان؛ فنجد الواشي ساعياً بالغيبة والنميمة محاولاً الوقيعة بين الأصدقاء والإخوان، فلا يرتاح له بال، ولا يطمئن له حال، إلا إذا قطع الأوصال، وفرَّق بين الناس؛ فإذا بالصداقة تصبح عداوةً، وإذا بالتفاهم والوِد يتحول إلى حقدٍ وبغضاء، والتقارب والتعارف يصير تباعداً ونُكرانا.

وعن الوشاية يقول الشاعر:
دعْ الوشاةَ وما قالوا وما نقلوا
بيني وبينكم ما ليس ينفصلُ
رسائلُ الشوقِ عندي لو بعثتُ بها
إليكم لم تسعها الطرقُ والسبلُ
يا غائبين وفي قلبي أشاهدهم
وكلما انفصلوا عن ناظري اتصلوا
وعن الواشي يقول الشاعر:
لئنْ كنتَ قد بُلِّغتَ عني خِيانَةً
لَمُبْلغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذَبُ
ويقول المثل العربي: "من نقل إليك نقل عنك".

أحبتي .. إن مَنْ يسعون بالوشاية في حاجةٍ لأن يمسكوا ألسنتهم عن الوقيعة وبث الضغينة بين الناس، أمَّا من يسمعون لمن يسعى بالوشاية فليراجعوا أنفسهم ويتفهموا قول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. ومن أروع ما قرأت عن مواجهة النميمة والوشاية والوقيعة بين الناس ما كان من عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - حين دخل عليه رجلٌ فذكر له عن رجلٍ شيئاً، فقال له عمر: "إن شئتَ نظرنا في أمرك، فإن كنتَ كاذباً فأنت من أهل هذه الآية ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، وإن كنتَ صادقاً فأنت من أهل هذه الآية ﴿هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَميمٍ﴾، وإن شئتَ عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً.
اللهم لا تجعلنا ممن يُقال عنهم (إنهم يحركون الوتد)، واجعلنا ممن لا يستمعون للواشين، ولا ينقلون عنهم ما يقولون.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2XrqRXp

الجمعة، 28 يونيو 2019

ثق بربك ذي اللطف الخفي


الجمعة 28 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٣
(ثق بربك ذي اللطف الخفي)

تعطلت إحدى السفن التجارية وهي في البحر من كثرة الحمل الذي فيها فأصبحت مهددةً بالغرق، فاقترح ربانها أن يتم رمي بعض المتاع والبضاعة في البحر ليخفف الحمل عن السفينة؛ فأجمع ركابها - وكان جميعهم تجاراً -  على أن يتم رمي كامل بضاعة أحدهم بحجة أنها كثيرة، فاعترض التاجر على أن تُرمى بضاعته هو وحده، واقترح أن يُرمىَ قسمٌ من بضاعة كل تاجرٍ بالتساوي حتى تتوزع الخسارة على الكل ولا تصيب شخصاً واحداً فقط؛ فثار عليه باقي التجار، ولأنه كان تاجراً جديداً ومستضعفاً تآمروا عليه ورموه في البحر هو وبضاعته وأكملوا طريق سفرهم! أخذت الأمواج تتلاعب بالتاجر، وهو موقنٌ بالغرق وخائفٌ حتى أُغمي عليه، وعندما أفاق وجد أن الأمواج ألقت به على شاطئ جزيرةٍ مجهولةٍ ومهجورةٍ. ما كاد التاجر يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه حتى جثا على ركبتيه رافعاً يديه نحو السماء متضرعاً إلى الله طالباً منه المعونة والمساعدة، سائلاً الله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم. مرت عدة أيامٍ كان التاجر يقتات خلالها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، ويشرب من جدول مياهٍ قريبٍ، وينام في كوخ ٍصغيرٍ بناه من أعواد الشجر ليحتمي فيه من برد الليل وحر النهار. وذات يومٍ وبينما كان يطهو طعامه هبت ريحٌ قويةٌ حملت معها بعض أعواد الخشب المشتعلة، وفي غفلةٍ منه اشتعل كوخه، حاول إطفاء النار لكنه لم يستطع فقد التهمت النار الكوخ كله بما فيه. أخذ التاجر يصرخ: "لماذا يا رب؟ لقد رُميتُ في البحر ظلماً وخسرتُ بضاعتي؟ والآن حتى هذا الكوخ الذي يؤويني احترق و لم يتبقَ لي شيءٌ في هذه الدنيا، وأنا غريبٌ في هذا المكان. لماذا يا ربِ كل هذه المصائب تأتي عليّ؟". نام ليلته وهو جائعٌ وحزين، لكن في الصباح كانت هناك مفاجأةٌ بانتظاره، إذ وجد سفينةً تقترب من الجزيرة، ويُنزل قبطانها قارباً صغيراً لإنقاذه. وعندما صعد التاجر على سطح السفينة لم يصدق عينيه - من شدة الفرح - وسأل القبطان كيف وجدوه؟ وكيف عرفوا مكانه؟ فأجابه: "لقد رأينا دخاناً فعرفنا أن شخصاً ما يطلب النجدة فجئنا لإنقاذه"، وعندما أخبر القبطانَ بقصته وكيف أنه رُميَ هو وبضاعته من سفينة التجار ظلماً أخبره القبطان بأن سفينة التجار قد أغار عليها القراصنة وقتلوا كل من كان فيها وسلبوا بضاعتهم؛ فسجد التاجر يبكي ويقول: "الحمد لله يا رب، أمرك كله خير".
سبحان الحكيم الذي أنجاه من القتل واختار له الخير. سبحان مدبر الأمور كلها من حيث لا ندري، ومن حيث لا نعلم.
إذا ساءت ظروفك فلا تخف؛ (ثق بربك ذي اللطف الخفي).



ويُحكى أن أرملةً كانت تعيش مع أبنائها الصغار وحيدةً في منزلٍ بسيطٍ آيلٍ للسقوط في إحدى القرى، لم يكن لديها مُعينٌ ولا مساعدٌ سوى الله عزَّ وجلَّ، وهو خير معين. كانت تهتم بأبنائها وتقدم لهم الرعاية والحنان والأمان والعطف، وكانت مؤمنةً صابرةً راضيةً بقضاء الله وقدره. ذات يومٍ شتويٍ شديد البرودة، وحينما حل الليل والأطفال نيامٌ، اشتدت الرياح وزادت الأمطار وكاد المنزل أن يسقط وينهار، ظلت الأم مستيقظةً طوال الليل خوفاً على أطفالها الصغار الذين اختبأوا في أحضانها للاحتماء من البرد القارس، في هذه اللحظة قامت الأم وأحضرت ورقةً صغيرةً كتبت فيها بعض الكلمات ثم وضعتَها في شق الحائط وأخفتها عن أنظار الأطفال. كان طفلها الأكبر مستيقظاً يراقب ما تفعله أمه دون أن تدري، فرآها وهي تضع شيئاً ما في شق الحائط. مرت السنوات وتغير حال الأسرة؛ كبر الأطفال وأصبحوا رجالاً أشداء أتقياء، وتركوا بيتهم القديم في القرية وانتقلوا إلى منزلٍ كبيرٍ في المدينة، تُوفيت بعد ذلك أمهم، وبعد انتهاء أيام العزاء، اجتمع الأبناء وأخذ كلٌ منهم يحكي ذكرياته الرائعة مع أمه الحنون، فجأةً تذكر أخوهم الأكبر أن أمه كانت قد وضعت شيئاً ما ذات ليلةٍ في شقٍ بحائط منزلهم القديم، أخبر إخوته بالأمر، وعلى الفور ذهبوا جميعاً إلى القرية باحثين عن الشيء الذي أخفته أمهم، نظر الابن إلى الحائط، والتقط الحجر الذي يغلق فتحة الشق، عندها وجد ورقةً بداخل الشق، سحبها فإذا بالمنزل يهتز بقوةٍ، خاف الأبناء أن يسقط البيت عليهم فخرجوا منه مسرعين، وبالفعل سقط المنزل بعد دقائق معدودة. حل الصمت بين الإخوة، ثم تحول إلى دهشةٍ وتعجبٍ علا وجوه الجميع حين فتح أحد الإخوة الورقة وقرأ ما بها بصوتٍ مرتفعٍ، لم تكن الورقة تحتوي إلا على بضع كلماتٍ بسيطةٍ هي: "اصمد بإذن رَبِك"!
ما أعظم تلك العبارة، وما أروع تلك المرأة، وما أصدق إيمانها. بكى الأبناء بحرارةٍ على أمهم التقية التي كانت شديدة الثقة بالله عزَّ وجلَّ وبلطفه الخفي.

أحبتي في الله .. يبين العلماء أن الثقة بالله سبحانه وتعالى تظهر واضحةً جليةً في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حَسبَكَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ﴾. إن الثقة بالله تكون باليقين الكامل بأنه هو وحده سبحانه وتعالى القادر على تفريج المحن والكربات، فالحياة مليئةٌ بالهموم والمشاكل التي لا يعلمها إلّا الله جلَّ في علاه، فإن صفت الحياة يوماً كدرت أياماً وتنغصت، وإن أضحكتنا الحياة ساعةً فإنها تبكينا أياماً، وهكذا فالحياة متقلبةٌ، ولا تدوم على حالٍ واحدٍ، وكلنا يعلم أن هذه البلايا لا يزيلها إلّا الله، ولذلك فالمسلم على ثقةٍ دائمةٍ بربه أنه لا بد من أن يأتي يومٌ تنتهي فيه كل الكروب والمشاكل، وتُفرج الهموم بعد الضيق والشدة. كما أن الثقة بالله تكون من خلال قطع التعلق بالعباد، فهم لا يملكون لأنفسهم، ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً. والثقة بالله في كل الأوقات تُظهر حقيقة اليقين بالله عزَّ وجلَّ في أحلك المواقف وأشدها، وكذلك في أكثر المواقف ضيقاً واجتماعاً للكربات والمحن والبلايا؛ وهذا ينبع من كون المسلم على أملٍ ورجاءٍ كبيرٍ بربه، فهو على يقينٍ دائمٍ بأن الخير فيما يختاره الله له، ولو كان هذا الخير خافياً عليه أو حتى لو كان يرى فيه شراً له، وهو يقول لنفسه ولمن حوله في كل موقف شدةٍ أو كرب: (ثق بربك ذي اللطف الخفي).

وهذه ثقة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بالله سبحانه وتعالى حين أُلقي في النار فقال: "حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وحين ترك أهله بوادٍ غير ذي زرعٍ، وحين أمره الله بذبح ابنه إسماعيل.
وهذه أم سيدنا موسى - عليه السلام -لولا كمال ثقتها بالله ما ألقت برضيعها وفلذة كبدها في اليم.
وهذا نبي الله موسى - عليه السلام - عاش حياته كلها واثقاً بالله؛ حتى عندما فرَّ ومن معه من المؤمنين، وتبعهم فرعون وجنوده، وتَراءَى الجمعان ﴿قالَ أَصحابُ موسى إِنّا لَمُدرَكونَ﴾، رد عليهم واثقاً بالله قائلاً: ﴿كَلّا إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهدينِ﴾.
وهذه ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله، عندما خاف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أن يُصاب النبي بأذىً وهما في الغار؛ فرد عليه بلسان الواثق بالله: ﴿لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾.
وهذه ثقة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بالله حين قال لهم النّاسُ إِنَّ النّاسَ قد جمعوا لكُم فاخشوهم ﴿فَزادَهُم إيمانًا وَقالوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكيلُ﴾.

عن الثقة بالله يقول الشاعر:
للهِ في الخلقِ ما اختارت مشيئتُهُ
ما الخيرُ إلا الذي اختارهُ اللهُ
إذا قضى اللهُ فاستسلم لقدرتِه
ما لامريءٍ حيلةٌ فيما قَضىَ اللهُ
تجري الأمورُ بأسبابٍ لها عِلَلٌ
تجري الأمورُ على ما قَدَّرَ اللهُ
إنَّ الأمورَ وإنْ ضاقت لها فرَجٌ
كم مِن أمورٍ شِدادٍ فَرَّج اللهُ
إذا اُبتليتَ فثقْ باللهِ وارضَ به
إنَّ الذي يكشفُ البلوىَ هو اللهُ
يا صاحبَ الْهَمِ إنَّ الْهَمَ مُنفَرجٌ
أبشر بخيرٍ فإنَّ الفاتحَ اللهُ
واللهِ مَالَكَ غيرُ اللهِ مِن أحَدٍ
ولا يُصيبُك إلا ما قَضَىَ اللهُ
الْيأْسُ يقطعُ أحياناً بصاحبِه
لا تيْأَسَنَ فإن الصانعَ اللهُ
اللهُ لي عُدةٌ في كلِ نائبةٍ
أقولُ في كُل حَالٍ: حسبيَ اللهُ
ثُم الصلاةُ على المُختارِ ما تُليَتْ
في مُحْكَم الذِكْرِ قدْماً "قُل هُو اللهُ"
والآلُ والصحْبُ ما طَابت حياتُهُمُ
ثُم اسْتقَامُواْ فقالوا: رَبُنا اللهُ

أحبتي .. إنها الثقة بالله بغير حدودٍ؛ يقول أحد العارفين بالله أنه قد يظن البعض منا بشيءٍ شراً فإذا هو خيرٌ، لقصر النظر وعدم معرفة الغيب: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾، وقال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وهذه سُنة الله التي لا تجد لها تبديلاً ولا تجد لها تغييراً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ لذلك أخي المسلم (ثق بربك وبلطفه الخفي)، وقوِ صلتك به، واعتمد عليه وتوكل عليه، واطلب منه القوة والمدد؛ فهو سبحانه وتعالى مالك القوة جميعاً، وهو الذي يمنح أسبابها من يشاء، ولا يجري في الكون إلا ما يريد، ولا يجري شيءٌ ولا يقع إلا لحكمةٍ يريدها سبحانه.

اللهم اهدنا، وقوِ إيماننا، واجعلنا نثق فيك وفي حكمتك أكثر من ثقتنا في أنفسنا، ودبر لنا أحوالنا، واكتب لنا الخير حيثما كان، وقَدِّره لنا، ورضِّنا به، وارزقنا القناعة به، وحُسن شكرك عليه.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2X4fqow

الجمعة، 21 يونيو 2019

اختر لنفسك


الجمعة 21 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٢
(اختر لنفسك)

هل يغضب النحل لو أنتج الذباب عسلاً؟! كان هذا السؤال عنواناً لمشاركةٍ تلقيتها من صديقٍ لي يراسلني بواسطة برنامج واتس آب، أحببتُ أن تشاركوني إياها. إجابة السؤال هي: كلا، ولكن الذباب لم ولن يُنتج العسل. 
إن النحل والذباب يجمعهما تصنيفٌ علميٌ واحدٌ هو صنف الحشرات، ولكن الفرق بينهما أن النحل قد تلقى وحياً وتعاليم من السماء ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعرِشونَ . ثُمَّ كُلي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا﴾ وعندما التزم النحل بهذه التعاليم ونفذها أصبح يأكل أفضل ما في الطبيعة؛ رحيق الأزهار، ثم يُعطي أفضل الأطعمة العسل، ضمن نظامٍ مترابطٍ ومتماسكٍ ومنظمٍ؛ من الملكة إلى الحضانات إلى الجند الذين يحرسون الخلية إلى العاملات اللاتي تصنعن محاضن العسل إلى النحل الذي يجمع العسل. كما أنه يعيش في مجتمعاتٍ متعاونةٍ يؤدي كلٌ دوره فيها بصمتٍ وتفانٍ في العمل ضمن بيئةٍ نظيفةٍ.
أما الذباب فلم يتلقَ تعاليم سماويةً فبقي يأكل أسوأ ما في الطبيعة، ويعيش في البيئة القذرة، ولا يعطي إلا الأمراض، ويزعج الناس، ويعيش الذباب في مجتمعٍ مفككٍ ليس بينه أية رابطةٍ، تتصرف فيه كل ذبابةٍ لوحدها.
والنحل يعطي العسل الذي فيه شفاءٌ للناس ﴿يَخرُجُ مِن بُطونِها شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾، بينما الذباب يقوم بالنهب والسلب؛ يسلب بشكلٍ مزعجٍ ﴿وَإِن يَسلُبهُمُ الذُّبابُ شَيئًا﴾.
وفي ذلك عبرةٌ للناس؛ فالإنسان الذي يلتزم بتعاليم الله هو إنسانٌ أشبه ما يكون بالنحلة التي تعطي دوماً بلا كللٍ ولا ملل، أما المتمرد الفوضوي المزعج المستغل فتنطبق عليه حياة الذبابة؛ (اختر لنفسك) في أي مجتمعٍ تريد أن تعيش: مجتمع النحل أم مجتمع الذباب؟

وهؤلاء أفرادٌ من الناس اختاروا لأنفسهم أن يتحولوا إلى مجتمع النحل فانظر كيف تبدل حالهم؛ فحين فتح خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بادية العراق وجد فيها كنيسةً تُسمى عين التمر فيها أربعون غلاماً يتعلمون الإنجيل ويتدارسونه لنشر النصرانية في الشرق، فأبقى عليهم ولم يدمر ولم يقتل، وكان بينهم ثلاثة: سيرين ويسار ونصير. بعد الفتح تعرف هؤلاء الثلاثة على الإسلام؛ فأسلم الأول وأنجب محمد بن سيرين الذي صار من أئمة التابعين في الحديث والفقه وتفسير الرؤى، وأسلم الثاني وأنجب أبو محمد إسحاق بن يسار صاحب كتاب السير والمغازي المعروف باسم سيرة ابن إسحاق، وأسلم الثالث وأنجب موسى بن نصير القائد الإسلامي الذي فتح الله على يديه الأندلس وشمال إفريقيا.
هؤلاء - وأمثالهم - اختاروا لأنفسهم أن يكونوا من مجتمع النحل الملتزم بتعاليم الله سبحانه وتعالى فأعانهم الله ووفقهم وأعلى شأنهم ويَسَّرَهُم الله لليسرى تحقيقاً لوعده: ﴿فَأَمّا مَن أَعطى وَاتَّقى . وَصَدَّقَ بِالحُسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرى﴾.

أحبتي في الله .. لا يستطيع الإنسان أن يختار لنفسه إلا بعد أن يقوم بمحاسبة نفسه، والمحاسبة المخلصة تكون نتيجةً للتأمل في مثل هذه الآيات القرآنية؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، ويقول سبحانه: ﴿يوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، ويبين لنا سبحانه المآل والمنتهى؛ فيقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، كما يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ] دان نفسه: أي حاسبها.
وورد في الأثر عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".

وقال الشاعر في محاسبة النفس:
إِذَا ما قالَ لِي رَبّي
"أَمَا استَحْيَيْتَ تَعْصِيني؟
وَتُخْفي الذَّنْبَ عَنْ خَلْقِي
وبِالعِصِيانِ تَأتيني؟!"
فَكَيْفَ اُجيبُ يا وَيْحي!
وَمَنْ ذَا سَوْفَ يَحْمِيني؟
كَأَنّي قَدْ ضَمِنْتُ العَيْشَ
لَيْسَ الموْتُ يَأتِيني!
سَاُسْأَلُ مَا الذي قَدَّمْتُ
في دُنيايَ يُنْجيني
فَكَيْفَ إِجَابَتِي مِنْ بَعْدُ
ما فَرَّطتُ في دِيني
وَيَا وَيْحِي! أَلَمْ أَسْمَعْ
كلامَ اللهِ يَدْعُوني
أَلَمْ أَسْمَعْ بِيَوْمِ الحَشْرِ
يَوْمِ الجَمْعِ والدِّينِ
أَلَمْ أَسْمَعْ مَنادي المَوْتِ
يَدْعُونِي، يُنادِيني؟!

والناس يتفاوتون في مواقفهم من تعاليم الله ﴿إِنَّ سَعيَكُم لَشَتّى﴾، فهلا حاسبت نفسك؟ ما هو موقفك أنت؟ في أي مجتمعٍ تود أن تكون؟ (اختر لنفسك) هل أنت مسلم بطاقة، وُلدتَ مسلماً لأبوين مسلمين فأصبحت مسلماً بالتبعية، وتحسب نفسك مسلماً من غير التزام تعاليم ربك من صلاةٍ، وزكاةٍ، وحجٍ للبيت الحرام، وصدقاتٍ، وصلة رحمٍ، وصدقٍ، وأمانةٍ، ومعاملةٍ للناس بالحسنى؟
هل أنت ممن يتكاسلون عن الصلاة بحجة التعب والإرهاق أو ضيق الوقت، ثم هم أنشط ما يكونون إذا كان الأمر يتعلق برحلةٍ أو سهرةٍ، بل وتراهم يجدون كل الوقت لمتابعة مباراةٍ في كرة القدم، أو للانشغال بالفيس بوك والواتس آب وسناب شات ويوتيوب وغيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
أم أنت من مجتمع النحل من الملتزمين بتعاليم الله؛ لا تفوتك صلاة جماعةٍ في مسجدٍ، تصلي بخشوعٍ الصلوات المفروضة والسنن الرواتب وغير الرواتب وتحرص على قيام الليل والتهجد وصلاوات النفل؟
هل أنت ممن يصوم رمضان عادةً وليس عبادةً، فيمتنع عن الأكل والشرب والجماع في النهار، ثم هو يلهو في المساء ما بين سهراتٍ وأفلامٍ ومسلسلاتٍ؟
أم أنك من مجتمع النحل ممن يصومون رمضان إيماناً واحتساباً؛ وتصوم صوم الخاصة فتمنع جوارحك كلها من الحرام، وتصوم تطوعاً الأيام البيض من كل شهرٍ هجريٍ، ويومي الإثنين والخميس من كل أسبوعٍ، وغير ذلك من صيام التطوع؟
هل أنت ممن يؤجل أداء فريضة الحج عاماً بعد عامٍ بزعم عدم توفر شرط الاستطاعة؛ فتقدم تجديد سيارتك أو تغيير منزلك أو شراء أثاثٍ جديدٍ على أداء الفريضة، زاعماً أنك لم تستطع للحج سبيلاً؛ فتمضي بك السنون سنةً بعد أخرى، وينقضي العمر ويحين الأجل ولم تحج حج الفريضة؟
أم أنت من مجتمع النحل الذين بادروا لأداء فريضة الحج حين توفرت الاستطاعة، أو ممن يخططون لأداء الفريضة ويعملون بإخلاص نيةٍ من أجل ادخار ما يعينهم على أدائها؟
حدد موقفك و(اختر لنفسك)؛ هل أنت ممن يتهربون من أداء حق الله في المال؛ زكاةً وصدقاتٍ وإنفاقاً في سبيل الله، بأية حجةٍ؛ كما لو كنت تقول بينك وبين نفسك: ﴿إِنَّما أوتيتُهُ عَلى عِلمٍ عِندي﴾؟
أم أنت من مجتمع النحل ممن يعرفون حق الله في المال الذي أنعم به عليهم فيخرجون زكاته، ويزيدون على الزكاة الصدقات للفقراء والمساكين، والإنفاق في جميع أوجه الخير؟
هل أنت ممن يقطعون صلة الرحم، ويسيئون إلى الجار، أو يكذبون على الناس، أو يخونون الأمانة، أو يأكلون أموال اليتامى، أو ممن يمنعون الماعون، أو يطففون في الميزان، أو يتجسسون على الناس أو يغتابونهم أو يبهتونهم ويفترون عليهم؟
أم أنت من مجتمع النحل ممن يلتزمون بحسن التعامل مع الغير - مسلمين وغير مسلمين - وفق ضوابط الشرع الحنيف وتعاليم الله سبحانه وتعالى؟
هل أنت ممن يهجرون القرآن، فيشتكي منهم الرسول ويقول: ﴿يا رَبِّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذوا هذَا القُرآنَ مَهجورًا﴾؟ هل بعد هذا العمر الذي وصلتَ إليه لم تختم القرآن ولو مرةً واحدةً بتلاوةٍ فيها خشوعٌ وتدبر؟!
أم أنت من مجتمع النحل ممن يداومون على تلاوة القرآن يومياً فلا يهجروه، وممن وفقهم الله لحفظه أو حفظ ما تيسر منه؟
هل أنت ممن يركنون إلى الذين ظلموا، ينافقونهم ويُزَيِّنون لهم سوء أعمالهم، فيبيعون دينهم بِدُنْيا غيرهم وهم لا يشعرون؟
أم أنت من مجتمع النحل الذين أنار الله بصائرهم، فلم يُعينوا ظالماً على ظلمه، وإنما نصروا كل مظلومٍ، والتزموا سبيل الرشاد، لا يخافون لومة لائم ﴿يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ﴾؟

أحبتي .. فليراجع كلٌ منا نفسه، ويزن جميع أعماله وتصرفاته بميزان الشرع، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ فسنقف جميعاً بين يدي الله نُسأل عن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ حتى يقول المجرمون المقصرون في حق الله البعيدون عن تعاليمه: ﴿يا وَيلَتَنا مالِ هذَا الكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلّا أَحصاها وَوَجَدوا ما عَمِلوا حاضِرًا وَلا يَظلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾.
لتكن رسالتنا واضحةً لأنفسنا ولكل من نحب: صارح نفسك، وحدد موقفك بأمانة، (اختر لنفسك) طريق الصواب، الحياة الدنيا قصيرةٌ ولك فيها أن تختار أحد طريقين لا ثالث لهما؛ إما طريق الهدى والفلاح والنجاح ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى﴾ فتكسب رضا الله سبحانه وتعالى وتكون من الفائزين في الدنيا والآخرة، أو طريق الكبر والغرور والإعراض ﴿وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى﴾، فتخسر دنياك وآخرتك والعياذ بالله.
لا يغرنكم أحبتي طريق الباطل، ولو تزين بكل زينةٍ وازدان بكل ما يخطف الأنظار، لا يغرنكم ولو كثر رواده والماشون فيه والساعون إليه والمهرولون ليسلكوه. واسلكوا طريق الحق مهما بدا خالياً موحشاً لا يمشي فيه إلا القليل، واثبتوا عليه فهو الطريق المستقيم الذي ندعو الله في كل صلاةٍ أن يهدينا إليه حين نقرأ في فاتحة الكتاب ﴿اهدِنَا الصِّراطَ المُستَقيمَ﴾.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم أنر بصائرنا لنختار لأنفسنا ما فيه خيرنا في الدنيا والآخرة، فنسلك الطريق المستقيم، مبتعدين عن مجتمع الذباب، مسارعين في الالتحاق بمجتمع النحل؛ نتبع تعاليم ربنا وشريعة ديننا الذي أكمله لنا وأتمم به علينا نعمته وارتضاه لنا دينا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2WYUkfU


الجمعة، 14 يونيو 2019

البصر والبصيرة


الجمعة 14 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩١
(البصر والبصيرة)

يقول عن موقفٍ حقيقيٍ حدث معه: دخلنا إلى أحد المطاعم العربية في لندن لتناول العشاء، جلسنا وجاء النادل لأخذ الطلبات، استأذنتُ من الضيوف لدقائق ثم عدتُ فسألني أحدهم؛ قال: "أين ذهبتَ دكتور لقد تأخرتَ علينا كثيراً، أين كنت؟"، قلتُ: "أعتذر؛ كنتُ أصلي"، قال مبتسماً: "هل مازلتَ تُصلي؟ يا أخي أنت قديم!"، قلتُ مبتسماً: "قديم؟! لماذا؟ هل الله موجودٌ فقط في الدول العربية؟ ألا يوجد الله في لندن؟"، قال: "دكتور أريد أن أسألك بعض الأسئلة، ولكن أرجوك تحملني قليلاً برحابة صدرك المعهودة"، قلتُ: "بكل سرورٍ، ولكن لدي شرطٌ واحدٌ فقط"، قال: "تفضل"، قلتُ: "بعد أن تنتهي من أسئلتك عليك أن تعترف بالنصر أو الهزيمة، موافق؟"، قال: "اتفقنا، وهذا وعدٌ مني"، قلتُ: "لنبدأ المناظرة؛ تفضل"، قال: "منذ متى وأنتَ تصلي؟"، قلتُ: "تعلمتها منذ أن كنت في السابعة من عمري، وأتقنتها وأنا في التاسعة من عمري، ولم أفارقها قط، ولن أفارقها إن شاء الله تعالى"، قال: "طيب، وماذا لو أنك بعد الوفاة اكتشفت بأنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نار ٌ، ولا عقاب ولا ثواب فماذا ستفعل؟"، قلتُ: "سأتحملك وأكمل المناظرة معك حسب فرضيتك؛ فلنفرض أنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ، ولا يوجد ثوابٌ ولا عقابٌ، لن أفعل أي شيءٍ لأنني أصلاً كما قال علي بن أبي طالب {إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة}"، قال: "وصلاتك التي واظبتَ عليها لعشرات السنين؟ ستجد أن من صلى ومن لم يصلِ سواء، ولا يوجد شيءٌ اسمه سقر"، قلتُ: "لن أندم عليها لأنها لم تأخذ مني سوى دقائق في اليوم، وسأعتبرها كانت رياضةً جسديةً"، قال: "وصومك، لا سيما أنت في لندن والصوم هنا يصل إلى أكثر من 18 ساعة في اليوم كحد أقصى؟"، قلتُ: "سأعتبر أن صومي كان رياضةً روحيةً فهو ترويضٌ نفسيٌ وروحيٌ من الطراز الرفيع، وكذلك فيه منفعةٌ صحيةٌ كبيرةٌ أفادتني في حياتي؛ وكم من تقارير دوليةٍ من جهاتٍ ليست إسلاميةً أصلاً أكدت أن الامتناع عن الطعام لفترةٍ فيه منفعةٌ كبيرةٌ للجسد"، قال: "هل جربت الخمر؟"، قلتُ: "لم أذق طعمه أبداً"، قال مستغرباً: "أبداً؟!"، قلتُ: "أبداً"، قال: "وماذا تقول عن حرمانك لنفسك في هذه الحياة من لذة الخمر ومتعته بعد أن تكتشف صدق فرضيتي؟"، قلتُ: "أكون قد منعتُ وحصنتُ نفسي من ضرر الخمر الذي هو أكثر من نفعه؛ فكم من مريضٍ بسبب الخمور، وكم من مدمرٍ لبيته وعياله من آثار الخمور، وانظر أيضاً إلى التقارير الدولية من جهاتٍ غير إسلاميةٍ تحذر من آثار الخمور وآثار الإدمان عليها"، قال: "والذهاب للحج والعمرة بعد أن تكتشف بعد الوفاة أنه لا يوجد شيءٌ من هذا، وأن الله غير موجودٍ أصلاً؟"، قلتُ: "سأسير حسب فرضيتك، ووعدتك بأن أتحمل أسئلتك، سأعتبر الذهاب إلى الحج والعمرة كان سَفرةً جميلةً شعرت فيها بمتعةٍ راقيةٍ ساهمت في غسل وتنقية الروح، كما تساهم سفراتٌ أنت قمتَ بها من أجل قضاء وقتٍ جميلٍ لطرد ضغوط العمل وقتل الروتين وساهمت في إنعاش الروح". ظل ينظر إلى وجهي لثوانٍ صامتاً، ثم قال: "شكراً لأنك تحملتني برحابة صدر، أسئلتي انتهت، وأعترف لكَ بالهزيمة"، قلتُ: "الآن جاء دوري لأن أسألك"، قال: "تفضل"، قلت: "بيّنتُ لك بأنني لن أخسر شيئاً في حال حصلت فرضيتك أنت، ولكن سؤالي الوحيد والبسيط: ماذا لو عكسنا فرضيتك؛ وأنك بعد الوفاة اكتشفتَ بأن الله تعالى موجودٌ فعلاً، وأن جميع المشاهد التي وصفها الله تعالى في القرآن موجودةٌ حقاً، ماذا أنتَ فاعلٌ حينها؟". ظل ينظر إلى عيني، ولم يُحرك شفتيه، وأطال النظر إليّ صامتاً - وقاطعنا النادل الذي أوصل الطعام إلى مائدتنا -فقلتُ له: "لن أطلب الإجابة الآن، حضر الطعام، لنأكل وعندما تكون إجابتك جاهزةً من فضلك أخبرني بها".
أنهينا الطعام، ولم أحصل منه على إجابةٍ ولم أحرجه وقتها بطلب الإجابة؛ غادرنا بصورةٍ طبيعيةٍ جداً.
بعد شهرٍ اتصل بي طالباً مني اللقاء؛ التقينا، فإذا به يحتضني ويطوقني بذراعيه واضعاً رأسه على كتفي، وبدأ بالبكاء. وضعتُ ذراعي على ظهره وقلتُ له: "ماذا بك؟"، قال: "جئتُ لأشكرك، ودعوتك إلى هنا لأقول لك جوابي؛ لقد رجعتُ إلى الصلاة بعد أن قطعتها لأكثر من عشرين عاماً، كانت أجراس كلماتك ترن في ذهني ولم تتوقف، لم أذق طعم النوم، لقد أثرتَ بركاناً في روحي وفي نفسي وفي جسدي، وصدقني؛ شعرتُ بأنني إنسانٌ آخر، وأن روحاً جديدةً بدأت تسير في هذا الجسد مع راحة ضميرٍ لا مثيل لها"، قلتُ له: "ربما تلك الأجراس أيقظت بصيرتك بعد أن خذلك بصرك"، قال: "هو ذاك تماماً، فعلاً أيقظت بصيرتي بعد أن خذلني بصري، شكراً لك من القلب أخي الحبيب".

عن (البصر والبصيرة) تذكرتُ قصةً بعنوان "بلد العميان" للكاتب "هيربرت ويلز". يقول من أعاد نشر ملخصٍ لها على مواقع التواصل الاجتماعي أن كاتبها يحدثنا فيها عن مرضٍ غريبٍ انتشر في قريةٍ نائيةٍ معزولةٍ عن العالم بجبال الإنديز فأصاب سكان القرية بالعمى فانقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، تكيفوا مع العمى، وأنجبوا أبناء عُمياناً جيلاً بعد جيلٍ حتى أصبح كل سكان القرية من العميان، ولم يبقَ بينهم مبصرٌ واحد. وذات يومٍ وبينما كان أحد متسلقي الجبال يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى القمة إلى القرية، لم يُصب الرجل بأذىً، إذ سقط على عروش أشجار القرية، لاحظ أن البيوت بدون نوافذ وأن جدرانها مطليةٌ بألوان صارخةٍ وبطريقةٍ فوضوية؛ فحدث نفسه قائلاً: "لا بُد أن الذي بنى هذه البيوت شخصٌ أعمى". وعندما توغل إلى وسط القرية بدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرون بالقرب منه ولا أحد يلتفت إليه، هنا عرف أنه في بلد العُميان؛ فذهب إلى مجموعةٍ وبدأ يعرف بنفسه؟ من هو؟ وماهي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم؟ وكيف أن الناس في بلده يبصرون؟ وما أن نطق بهذه الكلمة حتى انهالت عليه الأسئلة: ما معنى يبصرون؟ وكيف؟ وبأية طريقةٍ يبصر الناس؟ سخر القوم منه وبدأوا يقهقهون، بل وصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون وقرر بعضهم إزالة عيونه فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه. لم ينجح بطل القصة في شرح معنى البصر، وكيف يُفَهِّم من لا يبصر معنى البصر؟ فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه، وهو يتساءل كيف يصبح العَمى صحةً ويصير البصر مرضاً؟!
علق ناشر هذا الملخص بالقول أن بلد العميان هي كل مجتمعٍ منغلقٍ على ما لديه من أفكار وتصورات، رافضاً لكل فكرةٍ غير ما أَلِفَ وعَرَف. بلد العميان كل مجتمعٍ متعصبٍ لكل فكرٍ قديمٍ درج عليه، ولهج به آباؤه وأجداده ﴿إِنّا وَجَدنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِم مُقتَدونَ﴾. العمى ألا تؤمن بالتجديد. العمى ألا تفارق ما زرعه في عقلك الباطن الأقدمون. العمى أن تعيش الحاضر بفكر الأمس. العمى أن تعالج كل مآسيك ومآسي بلدك بنفس الأسلوب العقيم الذي استخدمته من قبل. ليس العمى عمى الأبصار إنما العمى عمى القلوب والعقول؛ عمى البصيرة.

أحبتي في الله .. يقولون أن (البصر والبصيرة) معجزتا العين والقلب:
أما البصر فأداته العين؛ فهي نافذةٌ نرى بها الأشياء، صغيرٌ حجمها، لكنها تسع الكون بما فيه، وبها تُكشف الأسرار، وتُدفع الشرور، وتُدرك المعارف والعلوم.
يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْن﴾، إنها معجزة الخالق في جسم الإنسان، هى أداة التفكر؛ قال سبحانه: ﴿قُلْ اُنْظُرُوا مَاذَا فِي السَمَوَاتِ وَاَلْأَرْضِ﴾؛ فالبصر هو نظر العين الذي يمتلكه كل مبصرٍ، نرى به ظاهر الأشياء، وهو حاسّةٌ يُمْكِنُ خِداعُهَا؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ﴾، ويقول تعالى: ﴿لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾، كما أنّه مَحدودُ المَجالِ؛ يقول سبحانه: ﴿يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئَاً وَهُو حَسيرٌ﴾. والعينُ نعمةٌ عظيمةٌ من نعم الله، وهي أداةٌ محايدةٌ يستخدمها صاحبها إما في الخيرِ أو الشر، وطوبى لمن استخدمها في طاعةِ ربه؛ فهي التي تبيت تحرس في سبيل الله، وهي التي تبكي من خشية الله. وهي في ذات الوقت، أداةُ الحسد، ونظرتُها سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليس.
وأمّا البصِيرةُ فهي الإدْراكُ وفهمُ الأشياءِ عَلى حقيقتِها ومعرفةُ النتائج الناجمةِ عنها، وتكونُ هذه البصيرةُ عن طريقِ الفكرِ، وهي التي يُصيبُها العَمَهُ؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصارَهُم كَما لَم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُم في طُغيانِهِم يَعمَهونَ﴾. ولكلِّ إنسانٍ بصيرةٌ على نفسِه، ولا عُذر له في عدم إدراكِ وفَهْمِ أمُورِ الحياةِ؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَاَ تَعْمَىَ اَلْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَىَ اَلْقُلُوُبُ اَلَّتِيِ فِيِ اَلْصُّدُوُرِ﴾، وورد عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم في معرض ذكر هذه الآية قوله: [لَيْسَ الْأَعْمَى مَنْ يُعْمَى بَصَرُهُ، إِنَّمَا الْأَعْمَى مَنْ تُعْمَى بَصِيرَتُهُ]؛ فهُناك من ينظُر بِالبصرِ لكنَّه لا يرى بِالبصيرةِ: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُوُنَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُوُنَ﴾. فالبصيرةُ هي نورُ القلبِ، ندركُ بها ما وراء الأشياء: ﴿بَلِ الِإنْسَانُ عَلَىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾. والبصيرةُ هي المعيارُ والمقياسُ لإنسانيّةِ الإنسانِ، فبدونِ البصيرةِ لا يكونُ الإنسانُ إنْساناً؛ قال تعالى واصفاً الكثير من الجِنِّ والإنْس بأن: ﴿(لَهُمْ قُلُوبٌ لَاَ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لَاَ يُبْصِرُوُنَ بِهَا ولَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعونَ بِهَا﴾.
باجتماع (البصر والبصيرة) معاً تصبح العين أداة صلاحٍ وهدايةٍ، وبدون البصيرة قد تنقلب العين لتصبح أداة غوايةٍ وضلالٍ؛ فإن إطلاق البصر سببٌ لأعظم الفتن، ومع غض البصر يغض القلب شهوته، فغض البصر هو مدرسة تهذيب النفس في الإسلام، وهو يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العينين، والوجه، والجوارح.

 قالوا عن (البصر والبصيرة):
"الشيء الوحيد الأسوأ من أن تكون أعمى، هو أن تمتلك البصر وتفتقد البصيرة".
"البصر للآفاق، والبصيرة للأعماق".
"كلما تقدمنا بالعمر يضعف بصرنا وتقوى بصيرتنا، إلا من ران الصدأ على قلبه فيضعف بصره وتضعف بصيرته".
"البصر يريك ظاهر الأشياء، والبصيرة تريك حقائق الأشياء".
"دائماً ما أغلق عيني؛ حتى أتمكن من الرؤية بوضوح".
"أَبْصَرُ الناسِ من أبصر عيوبه، وأقلع عن ذنوبه".

ويقول الشاعر:
عجبتُ للمرءِ في دنياهُ تطمعهُ
وفي العَيش والأجل المحتوم يقطعهُ
يُمسي ويصبحُ في عَشواءَ يخبِطها
أعمى البَصيرةِ والآمالُ تَزرَعهُ
وأسوأُ الناسِ تدبيراً لعاقبِةٍ
مَنْ أنفقَ العُمرَ فيما ليس يَنفعهُ

ويقول آخر:
فَرُبَّ ضَريرٍ قادّ جيلاً إلى العُلا
وقائدُه في السيرِ عُودٌ مِنَ الشجرْ
إذا حَلَّ نورُ اللهِ في قلبِ عبدِه
فما فاتَه مِنْ نورِ عَينيه مُحتقَرْ
فلا تحسب العينَ البصيرةَ مغنماً
لمن ليس ذا قلبٍ، وإنْ زانها الحورْ

أحبتي .. يقول أحد العارفين: "ما أن يُخبت قلب العبد لرب العالمين، وتذوق جوارحه لذة العبادة حتى يفيض الكريم الوهاب على صاحب هذا القلب بنور البصيرة، هذا النور الذي يرافقه في سَيره إلى الله تعالى، يهديه به إلى مسالك الرشد، فيفرق به بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والسُنة والبدعة، إلى أن يرزقه الله عزَّ وجلَّ حُسن الخاتمة".
فكم من مبصرٍ بيننا حُرم البصيرة أو حرم نفسه منها بعدم التبصر؛ فاكتفى بما يراه البصر فقط فاتبع الباطل وظن أنه على حق. اللهم ارزقنا نعمة البصيرة مع نعمة البصر، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. نسألك يا سميع يا عليم، يا خبير يا بصير أن تحفظ لنا البصر، وتتم نعمتك علينا بسلامة البصيرة، ونسألك اللهم حُسن الخاتمة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2XKOPhh

الجمعة، 7 يونيو 2019

خُلُق الستر


الجمعة 7 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٠
(خُلُق الستر)

دخل رجلٌ غريبٌ على مجلس أحد الحكماء الأثرياء فجلس يستمع إلى الحكيم وهو يُعلّم تلامذته وجُلساءه، ولا يبدو على الرجل الغريب ملامح طالب العلم، ولكنه بدا للوهلة الأولى كأنه عزيزُ قومٍ ذلَّ! سلَّم، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأخذ يستمع للشيخ بأدبٍ وإنصات، وفى يده قارورةٌ فيها ما يشبه الماء لا تفارقه. قطع الشيخ العالمُ الحكيم حديثه، والتفت إلى الرجل الغريب، وتفرّس في وجهه، ثم سأله: ألك حاجةٌ نقضيها لك؟ أم سؤالٌ فنجيبك عنه؟ فقال الغريب: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا تاجرٌ، سمعتُ عن علمك وخُلُقك ومروءتك، فجئتُ أبيعك هذه القارورةَ التي أقسمتُ ألّا أبيعَها إلا لمن يُقدِّر قيمتها، وأنت -دون ريبٍ- حقيقٌ بها وجدير، قال الشيخ: ناولنيها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ يتأملها ويحرك رأسه إعجاباً بها، ثم التفت إلى الضيف: فقال له: بكم تبيعها؟ قال: بمئة دينارٍ، فرد عليه الشيخ: هذا قليلٌ عليها، سأعطيك مئةً وخمسين! فقال الضيف: بل مئةٌ كاملةٌ لا تزيد ولا تنقص، فقال الشيخ لابنه: ادخل عند أمك وأحضر منها مئةَ دينارٍ. وبالفعل تسلَّم الضيف المبلغ، ومضى في حال سبيله حامداً شاكراً، ثم انفضَّ المجلسُ وخرج الحاضرون، وجميعهم متعجبٌ من هذا الماء الذي اشتراه شيخُهم بمئة دينار! دخل الشيخ إلى مخدعه للنوم، ولكنّ الفضول دعا ولده إلى فحص القارورة ومعرفةِ ما فيها، حتى تأكد -بما لا يدع مجالاً للشك- أنه ماءٌ عاديّ! فدخل إلى والده مسرعاً مندهشاً صارخاً: يا حكيم الحكماء، لقد خدعك الغريب، فواللهِ ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمئة دينار، ولا أدري أأعجبُ من دهائه وخبثه، أم من طيبتك وتسرعك؟! فابتسم الشيخ الحكيم ضاحكاً وقال لولده: يا بني، لقد نظرتَ ببصرك فرأيتَه ماءً عاديّاً، أما أنا، فقد نظرتُ ببصيرتي وخبرتي فرأيتُ الرجل جاء يحمل في القارورة ماءَ وجهه الذي أبَتْ عليه عِزَّةُ نفسه أن يُريقَه أمام الحاضرين بالتذلُّل والسؤال، وكانت له حاجةٌ إلى مبلغٍ يقضي به حاجته لا يريد أكثر منه، والحمد لله الذي وفقني لفَهْم مراده وإجابته، وحِفْظِ ماء وجهه أمام الحاضرين، ولو أقسمتُ ألفَ مرّةٍ أنّ ما دفعتُه له فيه لقليل، لما كنتُ حانثاً في يميني.
يعقب كاتب هذه القصة بقوله: إن استطعتَ أن تفهم حاجةَ أخيك قبل أن يتكلم بها فافعل، فذلك هو الأجملُ والأمثل، تفقَّدْ على الدوام أهلك وجيرانك وأحبابك، فربما هُم في ضيقٍ وحاجةٍ وعَوَزٍ، ولكن الحياء والعفاف وحفظَهم لماء وجوههم قد منعهم من مذلة السؤال! فاقرأ حاجتهم قبل أن يتكلموا. وما أجملَ قولَ من قال: "إذا لم تستطع أن تقرأ صمْتَ أخيك، فلن تستطيع أن تسمع كلماتِه"، فما أجمل (خُلُق الستر)!

وإليكم هذه الواقعة التي تحدثت بها كتب التراث:
قال أحد الصالحين: جاءتني امرأةٌ ببغداد، ليلةً من الليالي، فذكرتْ أنها من بنات الناس، وقالت: أسألك بالله أن تسترني، فقلت: وما محنتك؟!، قالت ُأكرهت على نفسي ـ أي يبدو أنها اُغتصبت، وأنا الآن حامل، وبما أنني أتوقع منك الخير والمعروف، فقد ذكرتُ لكل من يعرفني أنك زوجي، وأن ما بي من حملٍ إنما هو منك فأرجوك لا تفضحني، استرني سترك الله عز وجل. سمعتُ كلامها وسكتُ عنها، ثم مضتْ. وبعد فترةٍ وضعت مولوداً، وإذ بي أفاجأ بإمام المسجد يأتي إلى داري ومعه مجموعةٌ من الجيران يهنئونني ويباركون لي بالمولود؛ فأظهرتُ لهم الفرح والتهلل، ودخلتُ حجرتي وأتيت بمائة درهمٍ وأعطيتها للإمام قائلاً: أنت تعرف أنني قد طلقتُ تلك المرأة، غير أنني ملزمٌ بالنفقة على المولود، وهذه المائة أرجوك أن تعطيها للأم لكي تصرف على ابنها، هي عادةٌ سوف أتكفل بها مع مطلع كل شهر وأنتم شهودٌ على ذلك. واستمررتُ على هذا المنوال بدون أن أرى المرأة ومولودها. وبعدما يقارب من عامين تُوفي المولود، فجاءني الناس يعزونني، فكنت أُظهر لهم التسليم بقضاء الله وقدره، ويعلم الله أن حزناً عظيماً قد تملكني لأنني تخيلت المصيبة التي حلت بتلك الأم المنكوبة. وفي ليلةٍ من الليالي، إذ بباب داري يُقرع، وعندما فتحتُ الباب، فوجئتُ بتلك المرأة ومعها صرةٌ ممتلئةٌ بالدراهم، وقالت لي وهي تبكي: هذه هي الدراهم التي كنتَ تبعثها لي كل شهرٍ مع إمام المسجد، سترك الله كما سترتني. حاولتُ أن أرجعها لها غير أنها رفضت، ومضت في حال سبيلها. وما هي إلاّ سنةٌ وإذ بها تتزوج من رجلٍ مقتدرٍ وصاحب فضلٍ، أشركني معه في تجارته وفتح الله عليّ بعدها أبواب الرزق من حيث لا أحتسب.
إنها واقعةٌ فيها الكثير من الشهامة والرجولة وبيان فضيلة (خُلُق الستر).

ويُروى أن موسى عليه السلام خرج يوماً يستسقي، فلم يرَ في السماء قزعةً -أي سحابة- واشتد الحرُّ، فقال موسى: "يا ربِ، اللهم إنا نسألك الغيث فاسقِنا"، فقال الله جلَّ وعلاَّ: "يا موسى، إن فيكم عبداً يُبارِزُني بالذنوب أربعين عاماً، فصِحْ في القوم ونادِ إلى العباد: الذي بارز ربه بالذنوب والمعاصي أربعين عاماً أن اخرُج"، فقال موسى: "يا ربِ، القوم كثيرٌ، والصوت ضعيفٌ، فكيف يبلغهم النداء"؟! فقال الله: "يا موسى، قل أنتَ، وعلينا البلاغ"، فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصي -الذي علم أنه المقصودُ بالخطاب، المرقوم في الكتاب أنه يُنادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرِف وهُتك ستره، وانفضحت سريرته وكُشفت خبيئته. فما كان منه إلا أن أطرق برأسِه وأدخل رأسَه في جيب درعه أو قميصه، وقال: "يا ربِ، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني"، فما لبث موسى ومَن معه إلا أن أظَلَّهم الغيمُ، وانفتحت السماء بمطرٍ كأفواهِ القِرَب، فقال موسى: "يا ربِ، سقيتَنا وأغثتَنا ولم يخرج منا أحدٌ"، فقال الله: "يا موسى، إن مَن منعتُكم السقيا به تاب وسألني وأعطيته، وسقيتكم بعده"، فقال موسى: "يا ربِ، أرني ذلك الرجل"، فقال الله جلَّ وعلاَّ: "يا موسى، سترتُه أربعين عاماً وهو يعصيني، أفأفضحه وقد تاب إليَّ وبين يدي؟".
هذه القصة ذكَرها ابن قدامة المقدسي في كتابه "التوَّابين"، وفيها ستر الله لعبده التائب.

أحبتي في الله .. إنه (خُلُق الستر) .. يقول العلماء أن معنى الستر في اللغة هو من فِعْل سَتَرَ، أي غطّى الشيء، وأخفاه، ويُقال هذا رجل سِتّير، أو ستور، أي عنده خُلُق العفة. وأمّا الستر في الاصطلاح فمعناه التغطية على الأخطاء، والعيوب التي تظهر من المسلم، والتغاضي عن هناته، وزلّاته، فلا يُظهر المسلمُ قبيحاً رآه في مسلمٍ آخر للناس، وبما لا يتعارض مع الإنكار عليه.
والله سبحانه وتعالى سِتِّيرٌ يحب الستر، ويستر عباده في الدنيا والآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى يُدنِي المؤمنَ فَيضَعُ عليهِ كَنفَه وسِتْرَه من النَّاسِ، ويُقرِّرُه بذُنوبِه فيقولُ: أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا؟ أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا فيقولُ: نعَم أَيْ رَبِّ، حتَّى إذا قَرَّرَهُ بذُنوبِه ورَأى في نَفسِه أَنَّه قد هَلكَ، قال: فإنِّي قد سَترتُهَا عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغفِرُهَا لكَ اليومَ].
وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. وقال أيضاً: [لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. كما قال: [مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]. وقال كذلك: [كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يُصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا].

وهذا أحد العارفين يقول: "أدركت أقواماً كانت لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوب الناس فستر اللّه عيوبهم".
وهذا آخر يقول: "إذا رأى الإنسان من أخيه في الله معصيةً فلا يفضحه ولا ينشرها بين الناس، بل يستر عليه وينصحه، ويوجهه إلى الخير، ويدعوه إلى التوبة إلى الله من ذلك، ولا يفضحه بين الناس، ومن فعل هذا وستر على أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل".
وقال الشاعر:
ومن لم يُقِمْ سِتْرًا على غيرِه
يعِشْ مُسْتَباحَ العرضِ مُنْهَتك السِّترِ
وقال آخر:
إذا أنت عِبْتَ النَّاس عابوا وأكثروا
عليك وأبدوا منك ما كان يُسْتَرُ

أحبتي .. أستعير لكم كلماتٍ قالها من أحسبه من الصالحين؛ كتب يقول: سبحانك يا رب! ما أعظمك وأكرمك! فبالرغم من ذنوب عبادك، وتفريطهم في جنبك وحدودك وأوامرك تأبى إلا أن تُسبل سِترك عليهم فلا تفضحهم على أعين الأشهاد، فاللهم استرنا في الدنيا والآخرة. ولنتخلق أحبتي بهذا الخُلق الرفيع (خُلُق الستر)؛ حتى تشيع الفضيلة والعفة، ونحفظ أنفسنا ونحفظ إخواننا، ونسمو بأخلاق أمة خير الأنام محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2QX1hYW