الجمعة، 7 يونيو 2019

خُلُق الستر


الجمعة 7 يونيو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٠
(خُلُق الستر)

دخل رجلٌ غريبٌ على مجلس أحد الحكماء الأثرياء فجلس يستمع إلى الحكيم وهو يُعلّم تلامذته وجُلساءه، ولا يبدو على الرجل الغريب ملامح طالب العلم، ولكنه بدا للوهلة الأولى كأنه عزيزُ قومٍ ذلَّ! سلَّم، وجلس حيث انتهى به المجلس، وأخذ يستمع للشيخ بأدبٍ وإنصات، وفى يده قارورةٌ فيها ما يشبه الماء لا تفارقه. قطع الشيخ العالمُ الحكيم حديثه، والتفت إلى الرجل الغريب، وتفرّس في وجهه، ثم سأله: ألك حاجةٌ نقضيها لك؟ أم سؤالٌ فنجيبك عنه؟ فقال الغريب: لا هذا ولا ذاك، وإنما أنا تاجرٌ، سمعتُ عن علمك وخُلُقك ومروءتك، فجئتُ أبيعك هذه القارورةَ التي أقسمتُ ألّا أبيعَها إلا لمن يُقدِّر قيمتها، وأنت -دون ريبٍ- حقيقٌ بها وجدير، قال الشيخ: ناولنيها، فناوله إياها، فأخذ الشيخ يتأملها ويحرك رأسه إعجاباً بها، ثم التفت إلى الضيف: فقال له: بكم تبيعها؟ قال: بمئة دينارٍ، فرد عليه الشيخ: هذا قليلٌ عليها، سأعطيك مئةً وخمسين! فقال الضيف: بل مئةٌ كاملةٌ لا تزيد ولا تنقص، فقال الشيخ لابنه: ادخل عند أمك وأحضر منها مئةَ دينارٍ. وبالفعل تسلَّم الضيف المبلغ، ومضى في حال سبيله حامداً شاكراً، ثم انفضَّ المجلسُ وخرج الحاضرون، وجميعهم متعجبٌ من هذا الماء الذي اشتراه شيخُهم بمئة دينار! دخل الشيخ إلى مخدعه للنوم، ولكنّ الفضول دعا ولده إلى فحص القارورة ومعرفةِ ما فيها، حتى تأكد -بما لا يدع مجالاً للشك- أنه ماءٌ عاديّ! فدخل إلى والده مسرعاً مندهشاً صارخاً: يا حكيم الحكماء، لقد خدعك الغريب، فواللهِ ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمئة دينار، ولا أدري أأعجبُ من دهائه وخبثه، أم من طيبتك وتسرعك؟! فابتسم الشيخ الحكيم ضاحكاً وقال لولده: يا بني، لقد نظرتَ ببصرك فرأيتَه ماءً عاديّاً، أما أنا، فقد نظرتُ ببصيرتي وخبرتي فرأيتُ الرجل جاء يحمل في القارورة ماءَ وجهه الذي أبَتْ عليه عِزَّةُ نفسه أن يُريقَه أمام الحاضرين بالتذلُّل والسؤال، وكانت له حاجةٌ إلى مبلغٍ يقضي به حاجته لا يريد أكثر منه، والحمد لله الذي وفقني لفَهْم مراده وإجابته، وحِفْظِ ماء وجهه أمام الحاضرين، ولو أقسمتُ ألفَ مرّةٍ أنّ ما دفعتُه له فيه لقليل، لما كنتُ حانثاً في يميني.
يعقب كاتب هذه القصة بقوله: إن استطعتَ أن تفهم حاجةَ أخيك قبل أن يتكلم بها فافعل، فذلك هو الأجملُ والأمثل، تفقَّدْ على الدوام أهلك وجيرانك وأحبابك، فربما هُم في ضيقٍ وحاجةٍ وعَوَزٍ، ولكن الحياء والعفاف وحفظَهم لماء وجوههم قد منعهم من مذلة السؤال! فاقرأ حاجتهم قبل أن يتكلموا. وما أجملَ قولَ من قال: "إذا لم تستطع أن تقرأ صمْتَ أخيك، فلن تستطيع أن تسمع كلماتِه"، فما أجمل (خُلُق الستر)!

وإليكم هذه الواقعة التي تحدثت بها كتب التراث:
قال أحد الصالحين: جاءتني امرأةٌ ببغداد، ليلةً من الليالي، فذكرتْ أنها من بنات الناس، وقالت: أسألك بالله أن تسترني، فقلت: وما محنتك؟!، قالت ُأكرهت على نفسي ـ أي يبدو أنها اُغتصبت، وأنا الآن حامل، وبما أنني أتوقع منك الخير والمعروف، فقد ذكرتُ لكل من يعرفني أنك زوجي، وأن ما بي من حملٍ إنما هو منك فأرجوك لا تفضحني، استرني سترك الله عز وجل. سمعتُ كلامها وسكتُ عنها، ثم مضتْ. وبعد فترةٍ وضعت مولوداً، وإذ بي أفاجأ بإمام المسجد يأتي إلى داري ومعه مجموعةٌ من الجيران يهنئونني ويباركون لي بالمولود؛ فأظهرتُ لهم الفرح والتهلل، ودخلتُ حجرتي وأتيت بمائة درهمٍ وأعطيتها للإمام قائلاً: أنت تعرف أنني قد طلقتُ تلك المرأة، غير أنني ملزمٌ بالنفقة على المولود، وهذه المائة أرجوك أن تعطيها للأم لكي تصرف على ابنها، هي عادةٌ سوف أتكفل بها مع مطلع كل شهر وأنتم شهودٌ على ذلك. واستمررتُ على هذا المنوال بدون أن أرى المرأة ومولودها. وبعدما يقارب من عامين تُوفي المولود، فجاءني الناس يعزونني، فكنت أُظهر لهم التسليم بقضاء الله وقدره، ويعلم الله أن حزناً عظيماً قد تملكني لأنني تخيلت المصيبة التي حلت بتلك الأم المنكوبة. وفي ليلةٍ من الليالي، إذ بباب داري يُقرع، وعندما فتحتُ الباب، فوجئتُ بتلك المرأة ومعها صرةٌ ممتلئةٌ بالدراهم، وقالت لي وهي تبكي: هذه هي الدراهم التي كنتَ تبعثها لي كل شهرٍ مع إمام المسجد، سترك الله كما سترتني. حاولتُ أن أرجعها لها غير أنها رفضت، ومضت في حال سبيلها. وما هي إلاّ سنةٌ وإذ بها تتزوج من رجلٍ مقتدرٍ وصاحب فضلٍ، أشركني معه في تجارته وفتح الله عليّ بعدها أبواب الرزق من حيث لا أحتسب.
إنها واقعةٌ فيها الكثير من الشهامة والرجولة وبيان فضيلة (خُلُق الستر).

ويُروى أن موسى عليه السلام خرج يوماً يستسقي، فلم يرَ في السماء قزعةً -أي سحابة- واشتد الحرُّ، فقال موسى: "يا ربِ، اللهم إنا نسألك الغيث فاسقِنا"، فقال الله جلَّ وعلاَّ: "يا موسى، إن فيكم عبداً يُبارِزُني بالذنوب أربعين عاماً، فصِحْ في القوم ونادِ إلى العباد: الذي بارز ربه بالذنوب والمعاصي أربعين عاماً أن اخرُج"، فقال موسى: "يا ربِ، القوم كثيرٌ، والصوت ضعيفٌ، فكيف يبلغهم النداء"؟! فقال الله: "يا موسى، قل أنتَ، وعلينا البلاغ"، فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصي -الذي علم أنه المقصودُ بالخطاب، المرقوم في الكتاب أنه يُنادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرِف وهُتك ستره، وانفضحت سريرته وكُشفت خبيئته. فما كان منه إلا أن أطرق برأسِه وأدخل رأسَه في جيب درعه أو قميصه، وقال: "يا ربِ، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني"، فما لبث موسى ومَن معه إلا أن أظَلَّهم الغيمُ، وانفتحت السماء بمطرٍ كأفواهِ القِرَب، فقال موسى: "يا ربِ، سقيتَنا وأغثتَنا ولم يخرج منا أحدٌ"، فقال الله: "يا موسى، إن مَن منعتُكم السقيا به تاب وسألني وأعطيته، وسقيتكم بعده"، فقال موسى: "يا ربِ، أرني ذلك الرجل"، فقال الله جلَّ وعلاَّ: "يا موسى، سترتُه أربعين عاماً وهو يعصيني، أفأفضحه وقد تاب إليَّ وبين يدي؟".
هذه القصة ذكَرها ابن قدامة المقدسي في كتابه "التوَّابين"، وفيها ستر الله لعبده التائب.

أحبتي في الله .. إنه (خُلُق الستر) .. يقول العلماء أن معنى الستر في اللغة هو من فِعْل سَتَرَ، أي غطّى الشيء، وأخفاه، ويُقال هذا رجل سِتّير، أو ستور، أي عنده خُلُق العفة. وأمّا الستر في الاصطلاح فمعناه التغطية على الأخطاء، والعيوب التي تظهر من المسلم، والتغاضي عن هناته، وزلّاته، فلا يُظهر المسلمُ قبيحاً رآه في مسلمٍ آخر للناس، وبما لا يتعارض مع الإنكار عليه.
والله سبحانه وتعالى سِتِّيرٌ يحب الستر، ويستر عباده في الدنيا والآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ تعالى يُدنِي المؤمنَ فَيضَعُ عليهِ كَنفَه وسِتْرَه من النَّاسِ، ويُقرِّرُه بذُنوبِه فيقولُ: أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا؟ أَتعرِفُ ذَنبَ كَذا فيقولُ: نعَم أَيْ رَبِّ، حتَّى إذا قَرَّرَهُ بذُنوبِه ورَأى في نَفسِه أَنَّه قد هَلكَ، قال: فإنِّي قد سَترتُهَا عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغفِرُهَا لكَ اليومَ].
وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. وقال أيضاً: [لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. كما قال: [مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]. وقال كذلك: [كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ، وإنَّ منَ المُجاهرةِ أن يعمَلَ الرَّجلُ باللَّيلِ عملًا، ثُمَّ يُصبِحَ وقد سترَه اللَّهُ، فيقولَ: يا فلانُ عمِلتُ البارحةَ كذا وَكذا وقد باتَ يسترُه ربُّهُ، ويصبِحُ يَكشِفُ سترَ اللَّهِ عنهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا].

وهذا أحد العارفين يقول: "أدركت أقواماً كانت لهم عيوبٌ فسكتوا عن عيوب الناس فستر اللّه عيوبهم".
وهذا آخر يقول: "إذا رأى الإنسان من أخيه في الله معصيةً فلا يفضحه ولا ينشرها بين الناس، بل يستر عليه وينصحه، ويوجهه إلى الخير، ويدعوه إلى التوبة إلى الله من ذلك، ولا يفضحه بين الناس، ومن فعل هذا وستر على أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل".
وقال الشاعر:
ومن لم يُقِمْ سِتْرًا على غيرِه
يعِشْ مُسْتَباحَ العرضِ مُنْهَتك السِّترِ
وقال آخر:
إذا أنت عِبْتَ النَّاس عابوا وأكثروا
عليك وأبدوا منك ما كان يُسْتَرُ

أحبتي .. أستعير لكم كلماتٍ قالها من أحسبه من الصالحين؛ كتب يقول: سبحانك يا رب! ما أعظمك وأكرمك! فبالرغم من ذنوب عبادك، وتفريطهم في جنبك وحدودك وأوامرك تأبى إلا أن تُسبل سِترك عليهم فلا تفضحهم على أعين الأشهاد، فاللهم استرنا في الدنيا والآخرة. ولنتخلق أحبتي بهذا الخُلق الرفيع (خُلُق الستر)؛ حتى تشيع الفضيلة والعفة، ونحفظ أنفسنا ونحفظ إخواننا، ونسمو بأخلاق أمة خير الأنام محمدٍ عليه الصلاة والسلام.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2QX1hYW

الجمعة، 31 مايو 2019

صيام مُوَدِّع


الجمعة 31 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٩
(صيام مُوَدِّع)

لم يتبقَ من أيام شهر رمضان المبارك إلا أيامٌ محدودةٌ وساعاتٌ قليلةٌ معدودةٌ، فماذا يفعل المقصرون؟ ومَنْ منا لم يُقَصِّر؟ ضيعنا أوقاتاً ثمينةً، وأهدرنا ساعاتٍ غاليةً ذهبت ولن تعود، فهل من مجالٍ لتدارك ما فات؟
وجدتُ الإجابة عن هذا التساؤل في منشورٍ يتم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ يقول المنشور: "أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً"، إنها حكمةٌ صالحةٌ في كل العصور، وفي كل مواقف الحياة، "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً"؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ فمهما بلغت ذنوبك يتقبل الله توبتك، ومهما تأخرت فبإمكانك أن تصل، وتذكر: "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً"، لا تقل: رمضان فات، ومن سبق وصل، وأنا المتأخر لن أصل، تذكر "أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً"، وأزيد عليها: "ولعل المتأخر يصل قبل الذي وصل باكراً"؛ تأمل كيف أن سيدنا/ عمر  ابن الخطاب - رضي الله عنه - أسلم في نهاية السنة الخامسة للبعثة، ورغم أنه أسلم متأخراً مقارنةً بالسابقين من الصحابة، إلا أنه كان ثاني الخلفاء الراشدين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وأن آياتٍ من القرآن الكريم نزلت موافقةً لآرائه، وإذا هو من أقوى الناس في كلمة الحق، ومن أخشع الناس قلباً، ومن أشد الناس إيماناً. "أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً" لها شاهدٌ آخر؛ أنه أبو هريرة - رضي الله عنه - وهو أكثر الصحابة الكرام روايةً للحديث الشريف، وصل متأخراً عن غيره؛ فلم يُسْلِم وقت البعثة، بل بعد الهجرة بسبع سنين، ولكن عندما وصل لزم الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، وروى ما يزيد عن خمسة آلاف حديث.
تأخر إسلام عمر - رضي الله عنه - إلى نهاية السنة الخامسة، لكنه صار ثاني الخلفاء الراشدين! وتأخر إسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - لكنه أصبح أكثر من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
"أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي مطلقاً، ولعل من يأتي متأخراً يصل قبل من حضر باكراً". هناك أمل، نعم هناك أمل؛ فبما أن أنفاسك لم تنقطع، ورمضان لم ينتهِ بعد فهناك أمل. عُد إلى الله، وعودي إلى الله، ولو كان الوقت متأخراً فبإمكانك الوصول، وليكن شعارك "لئن أدركتُه لأُرِيَن اللهَ ما أصنع". وشد همتك وأرِ الله ما ستصنع.

أحبتي في الله .. يقول الشاعر عن قُرب انتهاء الشهر الفضيل:
إن كان شطرٌ قد ذهبْ
يا قوم فالباقي ذهبْ
بل إنه أغلى ففيه
أعزُّ ما ربي وهبْ
القَدْرُ والعشر الأخيرة
والجوائز والرُّتبْ
وقوافل العُتَقاء في
مِسك الختام المحتسَبْ
يا ربِ هبنا منك
أفضل ما يُنال ويُكتسبْ
العتقَ والرضوانَ والتقوى
وتفريجَ الكُربْ

وهذا شاعرٌ يقول:
أيها الناس إن شهركم قد انتصف
فهل فيكم من قهر نفسه وانتصف؟
وهل فيكم من قام فيه بما عرف؟
وهل تشوقت هممكم إلى نيل الشرف؟
أيها المحسن فيما مضى منه استمر ودُم
وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولُم

أما أهل العلم فيقولون إن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، من فاته الكثير من رمضان فليحسن فيما بقي من أيامه؛ قال أحد الصالحين: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون".
وقال آخر: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق؛ فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم؛ فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع!".
وقال ثالثٌ: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات!".
وقال رابعٌ: "أحسِن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تُدْرَك رحمةُ الله!".
وقال خامسٌ: "الليالي والأيام الفاضلة لا يصلح أن يُغفل عنهنّ؛ لأنه إذا غفل التاجر عن موسم الربح، فمتى يربح؟".
صدق من قال: ﻻ ﺘﺄﻟﺮﺣ ﺍﻟﺸﻬ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ؛ فهو حتماً ﻴﻌﺩ، ﻭﻟﻜ ﺘﺄﻟ ونندم ﺃﻥ ﺩ ﻭﻠﻨﺎ ولم نحصد شيئاً أو حصدنا القليل؛ فليكن ﺻﻮﻣﻨﺎ (صيام مُوَدِّع) ﻭﻗﻴﺎﻨﺎ ﻗﻴﺎﻡ ﻣﻮﺩِﻉٍ. ما زال في رمضان ﻘﻴﺔٌ ﻟكعةٍ، لصدقةٍ، ﻟةٍ، ﻟﺪﻣﻌﺔٍ، لصلةِ رحم، لتلاوةِ قرآن، ولغير ذلك من أعمالٍ تقربنا إلى الله رب العالمين. إنها واللهِ للحظاتٌ أغلى من كنوز الدنيا ﻗ تُغَيِّر مجرى حياتك كلها، وتنقلك من نار الجحيم إلى جنات النعيم، أو ترفع درجتك في الجنة فاغتنمها، وتذكر أن تصوم فيما بقي من رمضان (صيام مُوَدِّع).

كتب أحدهم يقول: شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبقَ منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرَّط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقيَ من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحيةٍ وسلام.
ويذكرنا أحد الصالحين بقوله: السباق قد اشتد، والجنة تزينت لمن جَد؛ فليكن شعارنا في هذه الأيام "لن يسبقني إلى الله تعالى أحد". أحسنوا فيما بقي يُغفر لكم ما قد سلف، والعبرة بالخواتيم.
إن من أعظم الجُرم، ومن أكبر الخسران، أن يعود المرء بعد الفوز بالغنيمة خاسراً، وأن يبدد المكاسب التي يَسَّرَها الله عزَّ وجلَّ في هذا الشهر الكريم، وأن يرتد بعد الإقبال على الطاعات مُدْبراً، وبعد المسارعة إلى الخيرات مُهاجراً، وبعد عمران المساجد بالصلوات والتلاوات مُعرضاً.
قبل رحيل رمضان علينا تذكر زكاة الفطر، نخرجها على هيئتها وفي توقيتها كما ورد في السُنة الشريفة؛ فهي فرضٌ على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، وقد فُرضت طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، وشكراً لله على ما أنعم به من صيام شهر رمضان وقيامه. كما علينا أن نتذكر أنه إذا رحل رمضان بصيام الفريضة فقد ترك لنا صيام التطوع، وأول صيام التطوع بعد رمضان صيام ستة أيامٍ من شوال؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ].

يقول الشاعر في وداع رمضان:
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا
وقدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتةً
فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا
بخيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمضانِ
ويقول غيره:
رمضان كأنه بالأمس حل .. واليوم أكثر من نصفه قد رحل .. وستمضي أيامه على عجل .. فطوبى لمن قدم فيه لنفسه، وأحسن العمل .. شهر التُقى إذا رحل .. ترقرقت منا المُقل ..
ومن أجمل ما قيل في رحيل رمضان:
ها هو ذا رمضان يمضي، وقد شهدت لياليه أنين المذنبين، وقصص التائبين، وعبرات الخاشعين، وأخبار المنقطعين. وشهدت أسحاره استغفار المستغفرين، وشهد نهاره صوم الصائمين وتلاوة القارئين، وكرم المنفقين. إنهم يرجون عفو الله، علموا أنه عفوٌ كريمٌ يحب العفو فسألوه أن يعفو عنهم. يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفةً للوداع أن تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبةٍ وإقلاعٍ أن ترفو من الصيام ما تخرق، عسى منقطعٍ عن ركب المقبولين أن يلحق، عسى أسير الأوزار أن يُطلَق، عسى من استوجب النار أن يُعتَق، عسى رحمة المولى لها العاصي يُوفَق.

وأختم بهذه الأبيات المعبرة المؤثرة:
بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً
كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ
ها قد رحلت أيا حبيبُ، وعمرنا
يمضي ومن يدري أَأَنتَ ستقبلُ
فعساكَ ربي قد قبلت صيامنا
وعساكَ كُلَّ قيامنا تتقبَّلُ
بكت المساجدُ تشتكي عُمَّارها
كم قَلَّ فيها قارئٌ ومُرتِّلُ
إن كانَ هذا العامَ أعطى مهلةً
هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟
لا يستوي من كان يعملُ مخلصاً
هوَ والذي في شهره لا يعملُ
رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ
ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ
رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي
في قادم الأيامِ أم نتقابلُ!!
فالقلبُ غايةَ سعدِهِ سيعيشُها
والعين في لقياكَ سوف أُكحِّلُ

أحبتي .. شارف رمضان على الرحيل، فلنتقِ الله فيما بقي من ساعاته ودقائقه المعدودة ونصوم (صيام مُوَدِّع) كما لو كان رمضان هذا آخر رمضان نشهده؛ فمن لم تصم جوارحه، ومن قَصَّر في صلواته فيما مضى من الشهر فليتدارك أمره ويحسن ويلتزم فيما بقي، من لم يقرأ القرآن في شهر القرآن فليقرأ ما تيسر منه، من لم يُطعم فقيراً أو يتصدق على محتاجٍ فالفرصة ما تزال سانحةً لاكتساب الأجر والثواب.
أمامنا عدة أيامٍ متبقيةٍ في شهر رمضان، وقد يكون في إحدى لياليها ليلة القدر؛ وهي كما وصفها المولى ﴿خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ فاقتصد في راحتك، قلّل نومك، اجتهد في الطاعة، تزوّد لآخرتك؛ فالدنيا بكل ما فيها ملحوقةٌ، وأمّا رمضان فأيامه ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾.
أما بعد رمضان فلنتقِ جميعاً الله سبحانه وتعالى كما لو كنا مازلنا في رمضان، ولنخشع له في صلواتنا خشوعنا في رمضان، ولا نترك أبداً تلاوة القرآن، ولا نُقَّصِر في أعمال الخير والبر كصلة الأرحام ورعاية حقوق الجيران والعطف على الفقراء والمساكين. لا نتكاسل عن أداء العبادات من صلاةٍ وزكاةٍ، ولا نهمل النوافل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
رحل الكثير وبقي القليل منك يا رمضان، وسيمضي يومك الأخير وتودعنا، سبحان من وصفك بأيامٍ معدوداتٍ، اللهم اجعلنا من عتقاء هذا الشهر الكريم. اللهم تقبل منا ما مضى، وبارك لنا فيما بقي، واغفر لنا تقصيرنا وارحمنا، وبلغنا اللهم ليلة القدر. اللهُمّ إنك عَفوٌ تُحِبُ العَفو فاعفُ عنا.
لا نقول رمضان رحل، وإنما نقول اللهم لا تدعنا نودعه ومازال فينا ذنبٌ لم يُغفر، وخطيئةٌ لم تمحَ، ودعوةٌ لم تُرفع. اللهم أعده علينا وأنت راضٍ عنا. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2HMQxJo

الجمعة، 24 مايو 2019

سلاح المؤمن


الجمعة 24 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٨
(سلاح المؤمن)

قصةٌ واقعيةٌ حدثت بحق لتلك المرأة. هي من أرض نجد بالمملكة العربية السعودية، كانت تجمع أطفالها قبل الإفطار في كل يومٍ من أيام شهر رمضان وتدعو فتقول: "يا رب أعطنا بيت مِلْكٍ أمامه نهر"؛ فكان أطفالها يرددون خلفها ويقولون كما تقول: "يا رب أعطنا بيت مِلْكٍ أمامه نهر"! وكان زوجها يضحك من فعلها ويقول: "بيتٌ مِلْكٌ واقتنعنا، أما أمامه نهرٌ فكيف ونحن في بلدٍ صحراوية؟!" فكانت تجيبه بقولها: "قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؛ سأدعو الله بما أشتهي وأريد وسيعطيني فهو كريم". دعت ودعت وأطفالها يؤمنون على دعائها ويدعون معها طيلة الشهر. وانتهى رمضان؛ فأتى زوجها يضحك منها ساخراً يقول: "أين البيت؟ وأين النهر؟"، فكانت ترد: "سيعطيني ربي، ولن يخيب رجائي فيه". تقول: ما أن انتهيت من صيام الست من شوالٍ إلا وقد حدث أمرٌ عجيبٌ؛ فبينما زوجي يهم بالخروج من المسجد بعد صلاة العصر، إذ أتاه رجلٌ لا يعرفه من أثرياء مدينة الرياض، سلَّم عليه وقال: "إنني أملك منزلاً نصفه لوالدي، والنصف الباقي منه مستغنون عنه أنا وعائلتي؛ فقد وسع الله علينا من فضله، وقررت أن أعطيه أول رجلٍ أراه؛ فخذه بدون مقابل، وإن أردت أن تدفع فادفع ما تستطيع أن تدفعه"! تقول المرأة: استحيينا أن نأخذ البيت بلا مقابلٍ؛ فجمعنا المال من هنا وهناك حتى حصلنا سبعة آلاف ريالٍ فقط سلمناها للرجل. تقول: فعلاً من صدق الله صدقه، ومن تيقن بالإجابة وجد. بعد رمضان أصبحنا نملك منزلاً في حيٍ راقٍ من أحياء الرياض. ثم استدركت تقول: أنه لفت نظري أمرٌ هو أننا كنا نسأل الله أن نملك منزلاً أمامه نهرٌ، ها هو البيت فأين النهر؟ تقول: حدَّثت حينها أحد المشايخ وقلت له: أليس الله عز وجل يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾؟ قال: بلى، قالت: سألتُ الله يا شيخ شهراً كاملاً أن يهبني منزلاً أمامه نهرٌ، وها هو المنزل قد وهبني الله إياه ولكن أين النهر؟! استعجب الشيخ من دعائها، وازداد عجباً ليقينها بالله بأنه معطيها ما دعت، سألها: ماذا يوجد الآن أمام باب منزلكم؟ نظرت المرأة فقالت: يوجد مسجد؛ فضحك الشيخ وقال لها: هذا هو النهر مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟]، قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا]!
إن الله قادرٌ على أن يُفَجِّر لهذه السيدة نهراً في صحراء هذه الأرض، لكنه أبدلها بخير أنهار الدنيا: الصلاة؛ فهي النهر العذب لكل مؤمنٍ يستريح بها من وَصَبِ الدنيا وتعبها.

أحبتي في الله .. استجاب الله سبحانه وتعالى دعاء هذه المرأة، التي كانت تُخلص في الدعاء وتُلح فيه، وكان دعاؤها في خير شهور العام؛ شهر رمضان المبارك. لقد استخدمت (سلاح المؤمن) الذي هو الدعاء، وهي موقنةٌ بالإجابة، فكان عطاء الله مدهشاً.
يقول أهل العلم أن الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه وما يكشف ضُرَّه. وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله عزَّ وجلَّ وإضافةِ الجود والكرم إليه. ويقولون إن الدعاء من العبادات العظيمة الجليلة على سهولته ويُسره؛ فهو ليس شاقاً ولا يحتاج لبذل جهدٍ، لا يتقيد بزمانٍ أو مكانٍ، ولا يُشترط لصحته الوضوء أو استقبال القبلة، ولا يكلف مالاً، وهذا كله من فضل الله على عباده.
أمر الله تعالى عباده بالدعاء؛ قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وهو سلامةٌ من الكبر؛ ففي ذات الآية يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. والدعاءُ أكرمُ شيءٍ على الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ]. وفيه خصوصيةٌ بين العبد وربه، وهو سببٌ لدفع غضب الله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ]، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
لا تسألن بني آدم حاجةً
وسلِ الذي أبوابُه لا تُحجبُ
الله يغضبُ إن تركتَ سؤاله
وبني آدم حين يُسأل يَغضبُ
والدعاء سلامةٌ من العجز؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلامِ]. وهو أيضاً دليلٌ على التوكل على الله، وسببٌ لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور، كيف لا وهو (سلاح المؤمن)؛ يقول الشاعر:
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ عليَّ
فما ينفك أن يتفرّجا
ورُبَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ
أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا

ومن فضائل الدعاء أن ثمرته مضمونةٌ بإذن الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصُبُ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يَسْأَلُهُ مَسْأَلَةً، إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا؛ إِمَّا عَجَّلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا ذَخَرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مَا لَمْ يَعْجَلْ]، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَجَلَتُهُ؟ قَالَ: [يَقُولُ: دَعَوْتُ وَدَعَوْتُ، وَلا أُرَاهُ يُسْتَجَابُ لِي].
والدعاءَ دليلٌ على الإيمان بالله، والإقرار له بالربوبية، والألوهية، وهو عبادةٌ له؛ فقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الدُّعَاءُ هُوَ اَلْعِبَادَةُ]. وهو سببٌ لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمَا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ لَيَلْقَى الْبَلاءَ، فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]، ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان؛ فالدعاء هو حقاً (سلاح المؤمن).

ومن آداب الدعاء: الإخلاص لله تعالى وعدم إشراك أيٍ من مخلوقاته معه والاستعانة به وحده عزَّ وجلَّ، تحري المطعم والمشرب والملبس الحلال والابتعاد عن الحرام، استحضار القلب عند الدعاء وعدم الغفلة، التيقن من الإجابة والإيمان الخالص بأنّ الله تعالى لن يرد الدعاء، بدء الدعاء بالحمد والثناء على الله تعالى والصلاة على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، دعاء الله بأسمائه الحسنى المناسبة للدعاء، التوسل في الدعاء لله تعالى بصفاته مثل: أستغيث برحمتك وألوذ بكرمك، الاستمرار في الدعاء ومواصلته وعدم الانقطاع واليأس والقنوط بل الإصرار على الدعاء والإلحاح فيه، والتزام البساطة وعدم التكلف وتَقَصُّد السجع. ومن المستحب - وإن لم يكن شرطاً - أن يكون المسلم وقت الدعاء طاهراً مستقبلاً القبلة.

يقول العلماء إذا كان الدعاء سُنَّةً مشروعةً عموماً، فإنه في أوقاتٍ مخصوصةٍ وأماكن معلومةٍ يكون أكثر أهميةً وأشد طلباً. ومن الأوقات التي يُلتمس فيها الدعاء ويُرجى فيها القبول والإجابة أيام شهر رمضان ولياليه؛ قال تعالى عقب آيات فرضيَّة الصيام: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾؛ ففي الآية إيماءٌ إلى أن الصائم مرجوَ الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مستجابةٌ دعواته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ؛ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ..].
ومن الأدعية المأثورة في رمضان، ما جاء عند رؤية هلال رمضان: [اللَّهُمَّ أَهِّلِهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ]. ومنها ما علَّمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دُعينا للإفطار أن ندعوَ للداعي بهذا الدعاء: [أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلائِكَةُ]. ومنها ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم عند فطره: [ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ].
يقول العارفون أن على الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه.
وتُعد أفضل أوقات استجابة الدعاء في الثلث الأخير من الليل، وعند الآذان، والوقت بين الأذان وإقامة الصلاة، ووقت السجود، وبعد الانتهاء من الصلاة. كما أن وقت الإفطار من الصيام، من أكثر أوقات إجابة الدعاء.

أحبتي .. حذارِ أن نتهاون في شأن الدعاء بصفةٍ عامةٍ، وفي شهر رمضان بصفةٍ خاصةٍ، وفي العشر الأواخر منه تحديداً. فكم من الفضائل تضيع علينا إذا تغافلنا عن الدعاء، وكم من الأجر والثواب نحرم أنفسنا منه إذا تكاسلنا عن الدعاء، وكم من قَدَرٍ كان يمكن كتابته لنا أو رده عنا بإخلاص الدعاء والإلحاح فيه واليقين الكامل في استجابة المولى عزَّ وجلَّ له. أحبتي .. إذا كان الدعاء (سلاح المؤمن) فهو نعمةٌ وهِبةٌ وفضلٌ من الله سبحانه وتعالى علينا؛ ومن باب شكر النعم أن نُحسن الدعاء، ونجتهد فيه متضرعين خاشعين متذللين موقنين بالإجابة، ونغتنم هذه الأيام الطيبة المباركة لنستزيد منه، عسى أن يستجيب رب العالمين. ولنحذر من ترك الدعاء جهلاً أو تكاسلاً أو نسياناً أو غروراً وكِبراً، ولنتذكر قول المولى تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون﴾، وقوله سبحانه: ﴿قُل ما يَعبَأُ بِكُم رَبّي لَولا دُعاؤُكُم﴾.
نسأل الله سبحانه أن يلهمنا خير الدعاء، وأن يستجيب لنا، ويحقق أمانينا، ويكتب لنا الخير حيثما كان.
وفقنا اللهم لصالح الأعمال وتقبلها منا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


http://bit.ly/2W1Cw3j

الجمعة، 17 مايو 2019

مدرسة الصوم


الجمعة 17 مايو 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٧
(مدرسة الصوم)

كتب يقول: حدثني شخصٌ أسلم عن قصة إسلامه، وأنها كانت بسبب رمضان، قال إنه تعجَّب من حال المسلمين، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّب في السماء خلال الشهر السابق لشهر الصوم، كأنهم ينتظرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ بعدها، فلما رأوْا هلال رمضان، فرحوا فرحاً عظيماً، كأنهم بُشـِّروا بأعظم البشرى، ولم أتوقّع أن يكون فرحهم بأنهم سيمتنعون عن الشهوات في النهار كلِّه طيلة شهرٍ كاملٍ! هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها، وتُخاض الحروب التي تفتك بالملايين من أجلها. وزاد تعجبي حين وجدتهم يفرحون بأنهم سيقفون معظم ساعات الليل على أقدامهم يُصلُّون مناجاةً لربهم وطلباً للرحمة والمغفرة! فأخذ هذا منهم بلُبِّي، واستحوذ على قلبي، فصُمتُ معهم، وأنا لا أعرف الإسلام، ولم أنطق بالشهادتين، بل أكتفي بالامتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلمون لصلاة الصبح، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغرب، وأذهب فأصلي معهم في الليل صلاة التروايح وأصنع مثل ما يصنعون، قياماً وركوعاً وسجوداً، غير أنني لا أتكلم بشيء، فأجد راحةً عجيبةً وسكينةً لم تعرفها روحي من قبل وأنا أستمع للقرآن، حتى إذا انتصف الشهر، لاحظ أحدهم أنني غريبٌ عن القوم، فسألني عن نفسي وأحوالي، فدُهش من قصتي اندهاشاً حمله على أن يجمع الناس ليسمعوا مني، فلما سمعوا قصتي علموني الإسلام، فنطقت بالشهادتين، فكبروا وقالوا أنت أسلمت على يد رمضان؛ فسموني رمضان!

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن حِكْمة الحقِّ تبارك وتعالى اقْتَضَتْ أن يُفَضِّلَ بعض الشهور على بعض، فَفَضَّلَ شهر رمضان على سائر الشُّهور، واخْتَصَّه بِمَزايا مُتَعدِّدة، حيث أنزل فيه القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، وجَعَل فيه ليلةَ القدر، وهي ﴿خيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر﴾، واخْتَصَّهُ بِفَريضةٍ عظيمةِ الشأن، وهي فريضةُ الصِّيام. ولو نَظَرْنا إلى الصِّيام، نَجِد أنَّه يختلف عَنْ سائرِ العِبَادات في خاصيةٍ هامَّةٍ، وهي خُلُوُّه منَ الرِّياء، فقد يدخل الرِّياء في الصَّلاة، أوِ الزكاة، أوِ الحج؛ لأنَّها عِباداتٌ تُؤَدَّى بأفعالٍ ظاهريَّة، يراها الناس، أمَّا الصَّوم فإنه لا يُؤَدَّى بِفِعْلٍ، ولكن بالكَفِّ عن فعلٍ، وهو الامتناعُ عَنْ تناوُل المفطرات، ومِن هنا فإنَّ الصَّائمَ لا يعلم حَقِيقة صَوْمه إلاَّ اللهُ سبحانه المُطَّلِع على سَرِيرَتِه وقَلْبه؛ لذا يقول الله تعالى في الحديث القُدسي الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ}.
ويقولون إنه من عجائب آيات الله في رمضان، أنه لو بذل فلاسفة البشرية ومفكروهم - كلهم مجتمعون - طلاع الأرض ذهباً على أن يجعلوا سُدس سكان الكرة الأرضية، يجتنبون الشهوات، ويتنزهون عن متاع الدنيا، ويتركون بطونهم خاويةً، ويلتفتون إلى أرواحهم ليطهروها من التعلق بعالم المادة، إلى السمو الأخلاقي الذي يصل إليه المسلم بالصيام، يوماً واحداً وليس شهراً كاملاً، لأعلنوا عجزهم عما نجح فيه هذا الدين العظيم.
حقاً؛ فرمضان (مدرسة الصوم)، يقولون أن العبد يتعلم فيها ويتدرب على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيءٍ، والتسليم لحكمه في كل شيءٍ، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيءٍ. فهو مدرسةٌ متميزةٌ للتربية العملية يتعلم منها الناس القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنم الفرصة وصام كما أمر الله وشرع فقد نجح في الامتحان، ومن تكاسل وخالف فهو الخاسر ولا يضر الله شيئاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: [مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ]. رمضان مدرسةٌ للتقوى يعيش بها ضمير المسلم حياً تفرحه الطاعة وتؤذيه المعصية. رمضان مدرسةٌ يتعلم فيها العبد الصبر فلا جزع، ويتعلم التواضع فلا كبر، ويتعلم الكرم فلا شح، ويتعلم الإخلاص فلا رياء.

يقول الشاعر:
أتى رمضانُ مدرسةَ العبادْ
لتطهيرِ القلوبِ من الفسادْ
فأدِّ حقوقَه قولاً وفعلاً
وزادُك فاتخذه للميعادْ
فمن زرعَ الحبوبَ وما سَقاها
تأوهَ نادِماً يومَ الحصادْ
وقال آخر:
الصَومُ مدرسةُ التعفُّف والتُّقى
وَتَقارُبِ البُعَداءِ والأغرابِ
الصّومُ رابِطَةُ الإخاءِ قوِيّةً
وَحِبالُ وُدِّ الأهْلِ والأَصْحابِ
الصّومُ دَرسٌ في التّساوي حافِلٌ
بالجودِ والإيثارِ والتَّرحْابِ
شهرُ العَزيمةِ والتَصبُّرِ والإبا
وصفاءِ روحٍ واحتمالِ صعابِ
أما حال شهر رمضان (مدرسة الصوم) الآن فيصفه الشاعر في هذه الأبيات:
الصوم مدرسةٌ قلّت نظائرها
قد خرّجت سالف الأزمان فرسانا
مالي أرى اليوم طلاباً بها درسوا
شتان أخلاقهم واللهِ شتانا
الصوم صبرٌ ونحن اليوم نفقده
إذا غضبنا فعلنا الشر ألوانا
الصوم عطفٌ فأين اليوم رحمتنا
أين الشعور بجارٍ بات جوعانا


فاللهَ اللهَ فيما بقي لنا من أيام هذا الشهر الفضيل .. اللهَ اللهَ في أيامه ولياليه لا تدعوها تضيع منا فيما لا ينفع، فما لا ينفع يضر؛ نخسر في كل دقيقةٍ نفوتها بغير عبادةٍ أو نافلةٍ أو ذكرٍ لله أو عملِ خيرٍ وبر ما لا يمكن تعويضه في غير رمضان. انظروا كم كان الصالحون يحرصون على ألا يضيع منهم رمضان؛ هذا واحدٌ منهم قيل له: إنك شيخٌ كبيرٌ وإنَّ الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفرٍ طويلٍ، والصبرُ على طاعة الله أهونُ من الصبر على عذابه، ولما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش والظمأ، أفرد لهم باباً من أبواب الجنة وهو باب الريان، من دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً.
وهذا آخر كتب يقول: ‏عندما يأتي رمضان أكتشف أنني كنت أستطيع الصوم كل اثنين وخميس خلال السنة، وأن الصوم ليس بهذه الصعوبة التي كنت أتصورها! وأجد أنني أستطيع أن أقلع عن التدخين نهائياً لكني لم أحاول! ويتضح لي أن الختمة الشهرية للقرآن ليست صعبةً ولا هي من المعجزات كما كان الشيطان يوهمني بذلك! وأتعجب من نفسي حين أستيقظ للسحور في رمضان قبل الفجر، وأعجز عن القيام لصلاة الفجر في غير رمضان! ويتبين لي أن الفقير موجودٌ طوال العام بينما أنا لا أراه إلا في رمضان!

أحبتي .. إذا كان شق تمرةٍ يبعدنا عن النار، وصدقةٌ تطفئ غضب الرب، وكلمتان تثقلان ميزان أعمالنا، ووضوءٌ يزيل من جوارحنا الخطايا، وحسنةٌ تتضاعف لعشرة أضعاف .. إذاً لماذا نعتقد أن الجنة بعيدة المنال؟! ورمضان جاء فرصةً لنا ليقربنا إلى جنة ربنا ورضاه؛ فاستثمروا رمضان لجنةٍ عرضها السموات والأرض.
رمضان أحبتي (مدرسة الصوم) نتعلم فيها دروساً عظيمةً في الإخلاص والصبر والعزيمة فلا مجال للوهن والخمول والكسل؛ دعونا إذن نقول لأنفسنا حي على العبادة، حي على الإكثار من أعمال الخير والبر، ولنشمر سواعد الجد ونسرع ونبادر ونتسابق في أداء العبادات وفعل الخيرات في هذه الأيام الطيبة المباركة؛ فهي أيامٌ لا تُعوض وأوقاتٌ لو وُزنت بالذهب لرجحت كفتها.  
اللهم سامحنا على ما فرطنا فيما مضى وأعنا على ما بقي، واجعلنا ممن يصومون رمضان قياماً واحتساباً لوجهك الكريم، وارحمنا واغفر لنا واعتق رقابنا من النار.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2HKFsHV