الجمعة، 26 أبريل 2019

يسارعون في الخيرات/1


الجمعة 26 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٤
(يسارعون في الخيرات)

وقفت امرأةٌ ثريةٌ على طريقٍ سريعٍ بعد أن تعطلت سيارتها فنزلت منها وتركتها بجانب الطريق حتى ترسل من يصلحها. ووقفت تُلَوِّح بيدها للسيارات المارة المسرعة، لكن لم تقف لها أية سيارة، مضى وقتٌ طويلٌ، تغير لون السماء وتلبدت الغيوم وبدأ رذاذٌ من مطرٍ خفيفٍ ينذر بهطول أمطار، وخشيت حلول الظلام. فجأةً، توقفت لها سيارةٌ قديمةٌ يسوقها شابٌ حنطي البشرة، نظرت إليه وإلى السيارة وترددت؛ هل تصعد معه أم تبقى تنتظر حافلةَ نقلٍ عامٍ أو سيارةً بها أسرةٌ أو سيارةَ أجرةٍ أو لو اقتضى الأمر سيارةً يقودها شخصٌ أكبر سناً؟ كانت تخشى أن يطمع فيها هذا الشاب خاصةً أن علامات غناها وثروتها باديةٌ عليها. حسمت أمرها وتوكلت على الله وقررت أن تصعد وتركب مع الشاب في سيارته القديمة. في الطريق سألته عن اسمه وعمله - وقد كانت تظهر عليه علامات الفقر والحاجة - فأخبرها بأن اسمه آدم، وأنه يعمل بوظيفةٍ متواضعةٍ؛ اطمأنت نوعاً ما، وعاتبت نفسها وأنّبها ضميرها لسوء ظنها به، خاصةً بعد أن لفت انتباهها أن الشاب كان مؤدباً ولم يلتفت إليها منذ أن صعدت إلى سيارته. وصلت إلى المدينة وهي تضمر في نفسها أن تعطيه ما يطلب من الأجرة؛ فطلبت النزول وتوقف، سألته: "كم حسابك؟"، قال: "لا شيء!!"، قالت له: "لا يمكن؛ أنت ساعدتني وأوصلتني"، رد آدم: "أجرتي أن تفعلي الخير مع غيري!". انصرفت مذهولةً مندهشةً من تصرفه. مشت قليلاً في طريقها ثم وقفت أمام مقهى فدخلت وطلبت كأساً من القهوة أتت العاملة به. لفت نظر المرأة الغنية شحوب وجه العاملة وكبر بطنها؛ فقالت لها: "أراكِ متعبة"، قالت: "إني على وشك الولادة"، قالت المرأة: "ولِمَ لا ترتاحين؟"، قالت العاملة: "مضطرةٌ للعمل كي أوفر ما يكفي تكاليف ولادتي". أعطت المرأة للعاملة ورقةً نقديةً تساوي عشرة أضعاف قيمة القهوة؛ فذهبت العاملة إلى المحاسب لتأتي لها بالباقي من الحساب، وعندما عادت بالباقي لم تجد المرأة، نظرت يميناً وشمالاً، فلم تجدها، لكنها وجدت ورقةً صغيرةً مكتوبٌ فيها: "تركتُ باقي الحساب هديةً لك". فرحت العاملة كثيراً، لكنها لاحظت عبارةً مكتوبةً بخطٍ صغيرٍ تحت العبارة السابقة: "اقلبي الورقة"، أسرعت بقلب الورقة فوجدت كلاماً آخر: "وتركتُ لك ما تحت غطاء الطاولة هديةً لمولودك". كادت تصرخ من الفرح وهي ترى مبلغاً يزيد عن ستة أضعاف مرتبها الشهري. دمعت عيناها من الفرح، ذهبت سريعاً واستأذنت من عملها، وسابقت الريح مشتاقةً لإفراح زوجها الذي يحمل همّ ولادتها. دخلت البيت مسرعةً تنادي زوجها الذي تعجب من عودتها من العمل قبل وقت انتهائه، وخشي أن يكون وقت الولادة قد حان، أو يكون صاحب العمل أنهى خدماتها، غير أنه سمع صوتها مخلوطاً بنغمة الفرح وبه نبرة شكرٍ وامتنانٍ وهي تقول وقد احتضنته: "أبشر يا آدم قد فرجها الله علينا وأكرمنا"!
سبحان الله؛ إنه آدم إذن! صاحب السيارة الذي أقل المرأة الثرية قبل قليل، إنه حقاً عالمٌ صغير! ويا لكرم المولى عزَّ وجلَّ مع من (يسارعون في الخيرات) فيرد لهم أعمالهم أضعافاً مضاعفة.

أحبتي في الله .. أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نكون من الذين (يسارعون في الخيرات) ويتسابقون إلى فعلها؛ قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
وعمل الخير لا يضيع أبداً، يعود حتماً إلى صاحبه، يعود أضعافاً مضاعفةً، محملاً ببركة الله سبحانه وتعالى.
مدح الله الذين (يسارعون في الخيرات)؛ قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿أُولئِكَ يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَهُم لَها سابِقونَ﴾، وقال في وصف الصالحين: ﴿يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحينَ﴾، وبيَّن أن المسارعة في الخيرات سببٌ لإجابة الدعاء؛ قال سبحانه: ﴿فَاستَجَبنا لَهُ وَوَهَبنا لَهُ يَحيى وَأَصلَحنا لَهُ زَوجَهُ إِنَّهُم كانوا يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَيَدعونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانوا لَنا خاشِعينَ﴾.



المسارعة إلى الخيرات دليلٌ على حب الله سبحانه وتعالى للعبد؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾.
وقد اختار الله سبحانه وتعالى الذين (يسارعون في الخيرات) وجعلهم مفاتيح للخير؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ].
وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي ...].
وبيَّن النبي عظم ثواب تنفيس الكرب والستر والتيسير وإعانة المسلم لأخيه المسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم : [مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ..].
وورد في وصف النبي صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. ولو تأملنا العبارة الأخيرة في وصف نبينا الكريم "أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" لوجدنا أنها أبلغ كلماتٍ يمكن أن يُعبر بها عن مدى مسارعته في الخيرات، وهو الأسوة الحسنة لنا جميعاً؛ قال تعالى: ﴿لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا﴾.

وهذه أبيات شعرٍ من أروع ما كُتب وصفاً لأحد الذين (يسارعون في الخيرات):
تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلاً
كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ
هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ
فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ
تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو أنَّه
ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ
لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ

قال العلماء: المسابقة إلى الخيرات خُلُقٌ لا يتصف به إلا المؤمن الصادق، والمسارعة إلى أعمال البر طبعٌ لا يتخلق عليه إلا من وهبه الله تعالى رجاحةً في العقل وانشراحاً في الصدر وسلامةً في القلب.
وقالوا: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل تكن من الفائزين المفلحين.
وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُم
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وكُنْ على الدّهرِ مِعْوَانًا لذي أملٍ
يرجو نَداكَ فإنّ الحُرَّ مِعْوانُ
من كان للخير منّاعًا فليس له
على الحقيقة إخوانٌ وأخْدانُ
من جاد بالمال مالَ النّاسُ قاطبةً
إليه والمالُ للإنسان فتّانُ

وهناك كثيرٌ من صور عمل الخير يحرص المسلمون على أدائها؛ منها على سبيل المثال: كفالة اليتيم، مساعدة الفقراء والمحتاجين، إماطة الأذى عن الطريق، إغاثة الملهوف، إكرام الضيف، التعاون والتكافل بين الأشخاص، الإصلاح بين المتخاصمين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تشجيع الناس على فعل الخيرات، تقديم النصيحة والكلمة الطيبة للآخرين، صلة الأرحام، الصلاة على الجنازة واتباعها، الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى بالحمد والتسبيح والتكبير والتهليل والاستغفار، قراءة القرآن الكريم، تقديم الرّعاية للمرضى، تعليم الناس، زيارة المرضى، البدء بالسلام على الناس، وغير ذلك كثير.
ولقد أكّد القرآن الكريم على أن من ينفقون أموالهم في سبيل الله تعالى وفي أعمال الخير سينالون الأجر العظيم منه سبحانه، وأن أجورهم ستتضاعف أضعافاً مضاعفة؛ قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
ويتضاعف ثواب عمل الخير والمسارعة فيه وفقاً للزمان الفاضل؛ مثل: شهر رمضان الكريم، وعشر ذي الحجة، ووفقاً للمكان الفاضل: كالحرمين، فإن الحسنات تُضاعف في مكة والمدينة مضاعفةً كبيرة. فلنحرص على المسارعة في عمل الخير دائماً كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

أحبتي .. أقتبس كلماتٍ أعجبتني يقول كاتبها: اتقوا الله وبادروا في اغتنام حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها؛ بفعل الخيرات والإكثار من الطاعات، فإن الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الإنسان وبين العمل كثيرةٌ وغير مأمونةٍ؛ فإذا سمعت بمشروعٍ خيريٍ أو عملٍ فيه صدقةٌ جاريةٌ فحاول أن تساهم فيه ولو بالقليل، ولا تجعل الخير يفوتك دون أن تشارك؛ فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: [أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ].
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلا
وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنْتَ اقْتَرَفْتَ بِالأَمْسِ إِسَاءَةً
فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
فَيَوْمُكَ إِنْ أَعْتَبْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ عَلَيْكَ
وَمَاضِي الأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ
وَلا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ
لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ

اللهم انفع بنا، واجعلنا سباقين إلى الخير من الذين (يسارعون في الخيرات)، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، وتقبلها اللهم قبولاً حسناً يا رب العالمين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2IMjmHB

الجمعة، 19 أبريل 2019

على نياتكم تُرزَقون

الجمعة 19 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٣
(على نياتكم تُرزَقون)

كتب لي يقول: سأقص عليك قصةً واقعيةٍ غريبةً كنت أنا شخصياً شاهداً من شهودها؛ أنا مغتربٌ مقيمٌ في إحدى الدول العربية، ولي جارٌ في السكن، كبيرٌ في السن، يعمل في هذه الدولة منذ قرابة أربعين سنة، يعيش مع زوجته التي لم ينجب منها إلا بنتين، أصابه فشلٌ في الكبد فنُصح بإجراء عملية زرع كبدٍ في الصين. لم تكن العملية مضمونة النتائج، ومع تقدمه في السن كان احتمال فشلها أكبر من احتمال أن تنجح، حجز لإجراء العملية، وقبل أن يسافر فكر في مصير أمواله السائلة في البنوك إذا تُوفي أثناء العملية - وكان له ثلاثة ملايين درهمٍ هي كل ما ادخره طوال حياته - فتملكته فكرة حرمان إخوانه الذكور من حقهم في الميراث، حيث لم يكن على وفاقٍ معهم. كاد أن يكتب أمواله باسم زوجته ثم تراجع حيث أن من السهل على إخوانه إثبات أن عملية نقل أمواله إليها كانت صوريةً وتمت أثناء مرض الموت فيحصلون على ميراثهم بحكم محكمة. ماذا يفعل إذن؟ بعد تفكيرٍ طويلٍ خلص إلى أن التصرف الآمن هو أن ينقل أمواله كلها لشخصٍ كبيرٍ في السن موثوقٍ فيه؛ فلما كانت والدته متوفاةً أحضر حماته من بلده، ونقل إليها أمواله كلها المودعة في البنوك فصارت باسمها. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن تموت حماته بأزمةٍ قلبيةٍ أثناء إجرائه العملية، وأن تنجح عمليته هو! أراد الرجل أن يستعيد أمواله ففوجئ بأن إخوان زوجته يقولون له لا أموال لك عندنا، هذه أموالٌ ورثناها عن أمنا؛ فضاع عليه كل ما كان ادخره طوال حياته، وعاد إلى نقطة الصفر من حيث كان قد بدأ، لا يملك درهماً، ولا يمكنه العمل في هذا العمر خاصةً مع حالته الصحية التي وصل إليها. يكاد يموت كمداً وهو يشاهد بأم عينيه إخوان زوجته يتمتعون بثروته وأمواله وينعمون بها؛ لقد ورثوه وما زال حياً!
إنها لقصةٌ عجيبةٌ .. سبحان الله .. كانت نيته أن يعاند شرع الله ويحرم إخوانه من ميراثٍ مستحقٍ شرعاً فعاقبه الله بحرمانه من كل أمواله، وبإحساسٍ مستمرٍ لا ينقطع بالحسرة والمرارة والندم! صدق القول المأثور (على نياتكم تُرزَقون).

ذكَّرني هذا الموقف بقصةٍ كنت قد قرأتها منذ فترةٍ، ربما كانت من نسج الخيال، لكن المهم ما فيها من عبرةٍ وعظة. تقول القصة أنه كان هناك ساقٍ يتجول بجرته الطينية في الأسواق يبيع الماء للناس. أحبه الناس لحسن خلقه ونظافته ولطرائفه التي يحكيها لهم. سمع الملك عن هذا الساقي فطلب من وزيره أن يحضره له. ذهب الوزير ليبحث عنه في الأسواق إلى أن وجده وأتى به إلى الملك، قال الملك له: من اليوم لا عمل لك خارج هذا القصر، ستعمل هنا في قصري؛ تسقي ضيوفي وتجلس بجانبي تحكي لي طرائفك. قال الساقي: سمعاً وطاعةً يا مولاي. عاد الساقي إلى زوجته يبشرها بالخبر السعيد. وفي كل يومٍ يلبس أحسن ما عنده ويغسل جرته ويقصد قصر الملك، يدخل الديوان، ويبدأ في توزيع الماء على ضيوف الملك، وحين ينتهي يجلس بجانب الملك يحكي له الحكايات والطرائف المضحكة، وفي نهاية اليوم يقبض ثمن تعبه ويغادر إلى بيته. بقي على هذه الحال مدةً من الزمن، إلى أن جاء يومٌ شعر فيه الوزير بالغيرة من الساقي بسبب المكانة التي احتلها في قلب الملك، وحين كان الساقي في طريقه عائداً إلى بيته تبعه الوزير وقال له إن الملك يشتكي من رائحة فمك الكريهة. تفاجأ الساقي وسأله: وماذا أفعل حتى لا أؤذيه برائحة فمي؟ فقال الوزير: عليك أن تضع لثاماً حول فمك عندما تأتي إلى القصر. قال الساقي: حسناً سأفعل. عندما أشرق صباح اليوم التالي وضع الساقي لثاماً حول فمه وحمل جرته واتجه إلى القصر كعادته. فاستغرب الملك منه ذلك لكنه لم يعلق عليه، واستمر الساقي يلبس اللثام إلى أن جاء يومٌ وسأل الملك وزيره عن سبب وضع الساقي للثام؛ فقال الوزير: أخاف يا سيدي إن أخبرتك أن تقطع رأسي. فقال الملك: لك مني الأمان فقل ما عندك. قال الوزير: لقد اشتكى الساقي من رائحة فمك الكريهة يا سيدي. أرعد الملك وأزبد، وذهب عند زوجته فأخبرها بالخبر، قالت: من سولت له نفسه قول هذا تُقطع رأسه ليكون عبرةً لكل من تسول له نفسه الانتقاص منك. قال لها: ونعم الرأي. في اليوم التالي استدعى الملك الجلاد وقال له: من تراه خارجاً من باب القصر حاملاً باقةً من الورد فاقطع رأسه. حضر الساقي كعادته في الصباح وقام بتوزيع الماء وحين حان وقت عودته إلى بيته أعطاه الملك باقةً من الورد هديةً له، وعندما هَمَّ الساقي بالخروج التقى بالوزير فقال له الوزير: من أعطاك هذه الورود؟ قال الساقي: الملك. فقال له: أعطني إياها؛ أنا أحق بها منك. فأعطاه الساقي الباقة وانصرف. وعندما خرج الوزير حاملاً باقة الورد رآه الجلاد فقطع رأسه. في اليوم التالي حضر الساقي كعادته ملثماً حاملاً جرته وبدأ بتوزيع الماء على الحاضرين، استغرب الملك رؤيته لظنه أنه قد قُطعت رأسه بالأمس، فنادى عليه وسأله: ما حكايتك مع هذا اللثام؟ قال الساقي: لقد أخبرني وزيرك يا سيدي أنك تشتكي من رائحة فمي الكريهة وأمرني بوضع لثامٍ على فمي كي لا تتأذى. سأله مرة أخرى: وباقة الورد التي أعطيتك؟ قال الساقي: أخذها الوزير مني وقال لي أنه أحق بها مني. فابتسم الملك وقال حقاً هو أحق بها منك؛ فحسن النية والضغينة لا تلتقيان.
شتان ما بين النية الصادقة الطيبة للساقي، والنية الخبيثة للوزير، و(على نياتكم تُرزَقون).

أحبتي في الله .. إنها النية، إن صلحت وكانت نقيةً صلح العمل، وإن كانت فاسدةً تنطوي على بُغضٍ أو خُبثٍ أو خديعةٍ أو حسدٍ أو شرٍ انقلبت على صاحبها فبَطُل عمله وخاب مسعاه.
النِّيَّة لغةً هي عزْم القلب على الشيءِ، وعقْد القلب على إيجاد الفعل جزماً.
وفي الشَّرع: هي قصد الطَّاعة، والتَّقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل.
يُروى أنَّ رجلاً أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ الله، الرَّجل يُقاتِل للمَغْنَم، والرَّجل يُقاتِل ليُذْكَر، والرَّجل يُقاتِل ليُرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [مَن قاتل لِتَكونَ كَلمةُ اللَّهِ أَعْلَى فهو في سبيلِ اللَّهِ]. يقول أهل العلم أي أمرٍ فرَّق بين ما لهذا الأخير من ثواب الدُّنيا وحُسن المآل في الآخرة، وبين هؤلاء الذين ليس لهم إلاَّ ما قَصَدوا إلى تحصيله مِن مغانمَ، أو صِيتٍ وشهرةٍ، أو رياء وسُمعة، ممَّا لا ينفعهم في الآخرة؟ إنَّها النيَّة، المقصد، والغرض، والغاية التي حركت كلاً منهم من أجل تحقيقها، وهي الطَّاقةَ الدَّاخليَّة التي دفعت بكلٍ منهم إلى هدفه. إنَّها النيَّة، ذلك الفعل القلبيُّ، الذي لا يراه أحدٌ إلاَّ الله سبحانه وتعالى. إنَّها النيَّة، التي بمقتضاها يكون الجزاء: إمَّا ثوابٌ، وإمَّا عقابٌ. إنَّها النيَّة، التي يغفل عنها بعضنا في تعبُّدِنا وسائر أعمالنا. والنيَّة هي الحدُّ الفاصل بين العمل الخالص لوجه الله تعالى وبين العمل الذي يُقصد به غيرُ الله تعالى.
والعمل بغير نيةٍ ناقصٌ غير مكتملٍ؛ فالنية أول أركان العمل، ولكي يكون العمل مقبولاً ينبغي توفر شرطين: الأول- إخلاص النية لله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى . إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا﴾، وقال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»]، وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ]. والعبادات لا تصحُّ ولا تُجزئ إلاَّ مقترنةً بالنيَّة، ولا ثوابَ عليها إلاَّ على أساس النيَّة.
أما الثاني- فهو موافقة العمل للشرع الذي أمر الله تعالى ألا يُعبد إلا به، وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشرائع؛ فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليه أمرُنا هذا فهو رَدٌّ].

وعن نية الإنسان قال رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [... إنَّما الدُّنيا لأرْبعَةِ نَفَرٍ: عبدٍ رَزقَهُ اللَّهُ مالاً وَعِلْمًا، فهو يَتَّقِي فيه رَبَّهُ، وَيَصِلُ فيه رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فَهذا بِأَفْضلِ المَنازِلِ، وعَبْدٍ رَزقَهُ اللَّهُ عِلْمًا، ولمْ يَرْزُقْهُ مالاً، فهو صادِقُ النيَّة، يقولُ: لو أَنَّ لي مالاً لَعَمِلْتُ بِعَملِ فُلانٍ، فهو بِنِيَّتِهِ، فأَجْرُهما سواءٌ، وعَبْدٍ رَزقَهُ اللَّهُ مالاً ولمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فهو يَخْبِطُ في مالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لا يَتَّقِي فيه رَبَّه، ولا يَصِلُ فيه رَحِمَهُ، ولا يَعْلَمُ لِلَّهِ فيه حَقًّا، فهذا بِأَخْبثِ المنازِلِ، وعَبْدٍ لم يَرْزُقْهُ اللَّهُ مالاً ولا عِلْمًا، فهو يقولُ: لو أَنَّ لي مالاً لَعَمِلْتُ فيه بِعَملِ فُلانٍ، فهو بِنِيَّتِهِ؛ فَوِزْرُهما سواءٌ]. وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّما يُبْعَثُ النَّاسُ على نِيَّاتِهم]. فلا ينبغي أن يفهم أحدٌ من عموم قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] أن المعصية تنقلب طاعةً بالنية، كالذي يغتاب إنساناً مجاراةً لهوى غيره، أو يطعم فقيراً من مالٍ ليس ماله، أو يبني مدرسةً أو مسجداً أو يقيم موائد للإطعام بمالٍ حرامٍ، وقصده الخير، فهذا كله جهلٌ، والنية لا تغير في كونه معصيةً.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بالمسلمين أن يتعدد الأجر بتعدد النية في العمل الواحد، و(على نياتكم تُرزَقون)؛ يقول العلماء أن المسلم إذا توضأ وصلى ركعتين ينويهما سنة الوضوء، يحصل له أجر سنة الوضوء، وإذا دخل المسجد بعد الوضوء صلى ركعتين ينويهما سنة الوضوء وتحية المسجد، يحصل له أجر سنة الوضوء وأجر تحية المسجد، وإذا توضأ ودخل المسجد ونوى سنة الظهر وسنة الوضوء وتحية المسجد حصل له ذلك كله، والحمد لله.
كما يغفل الكثير منا عن استحضار النية في المباحات لتكون طاعاتٍ وقرباتٍ، كأن نأكل ونشرب وننام بغير نية الاستقواء بذلك على الطاعة؛ قال أحد الصالحين: "أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"؛ فكان يحتسب الأجر في النوم، كما يحتسبه في قيام الليل، لأنه أراد بالنوم التقوّي على العبادة والطاعة.
والنية محلها القلب؛ يقول العلماء أن الجهر بالنية لا يجب ولا يُستحب، بل الجاهر بالنية مبتدعٌ مخالفٌ للشريعة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر" ولم يقل شيئاً قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أُصَلي صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعاتٍ إماماً أو مأموماً، ولا قال: أداءً ولا قضاءً. لم ينقل عنه أحدٌ قط بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا مسندٍ ولا مرسلٍ لفظةً واحدةً منها، بل ولا عن أحدٍ من أصحابه، ولا استحسنه أحدٌ من التابعين، ولا الأئمة الأربعة.

أحبتي .. النية أمرها عظيم، ومع ذلك فهي سهلة الأداء لا تكلف مالاً ولا تتطلب جهداً ولا تحتاج إلا لقلبٍ ذاكرٍ غير لاهٍ ولا منشغلٍ بسفاسف الأمور. فلنواظب على استحضار النية في قلوبنا لكل عملٍ مباحٍ، حتى ولو لم يكن في ظاهره أنه عبادةٌ، ولنعدد نوايانا على العمل الواحد ما استطعنا تعظيماً للثواب، ولنحسن نوايانا ونجعلها دائماً طيبةً نقيةً خالصةً من أي خبثٍ أو سوءٍ أو شر.

اللهمَّ أَصلحْ نيَّاتِنا، ويسِّر لنا تذكرها عندَ كلِّ عملٍ من أعمالنا، وارزقْنا الإخلاص فيها، والعمل بها على سُنة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2PlgOAG

الجمعة، 12 أبريل 2019

الحياء من الإيمان


الجمعة 12 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٢
(الحياء من الإيمان)

لفت انتباهي وأنا أقرأ في أسباب نزول بعض آيات القرآن الكريم، سبب نزول الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾؛ فقد قيل في سبب نزولها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مع ضيوفه عندما تزوج السيدة زينب بنت جحش بأمرٍ من الله، وصنع وليمة العرس لأصحابه ودعاهم إلى طعامه، فمكث بعض الصحابة بعد الفراغ من الطعام مستمتعين بوجود النبي، ولكن النبي يريد أن يقوم إلى زوجه المنتظرة داخل البيت، والنبي يستحيي أن يأمرهم بالانصراف؛ فخرج من البيت متعللاً بالمرور على باقي زوجاته للاطمئنان عليهن، ثم يعود لعل الضيوف يدركون إشارته اللطيفة، حين يترك المنزل، والحياء يمنع النبي أن يطلب منهم الانصراف. وبعد فترةٍ أدركوا وفطنوا أنهم يجب عليهم الانصراف فانصرفوا، فنزلت تلك الآية.

أحبتي في الله .. إنه خُلُق الحياء الذي  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه: [إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ]. وقال - عليه الصلاة والسلام - للرجل الذي استوصاه: [أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ]. وهو الذي قال - صلى الله عليه وسلم - عنه ذات يومٍ لأصحابه: [استَـحيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ]. قالوا: إنا نستحي يا رسول الله. قال: [لَيسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِستِحيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَن تَحفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى، وَلتَذكُرِ المَوتَ وَالبِلَى؛ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ، تَرَكَ زَينَةَ الدُّنيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ استَحيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ]. وحينما مر - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي. حتى كأنه يقول: قد أضرَّ بك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: [دَعْهُ، فإِنَّ الحياءَ مِنَ الإِيمانِ]. إنه خُلُق الحياء الذي قرنه - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان فقال: [إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ]. ‌هو الحياء الذي قال عنه - عليه الصلاة والسلام-: [مَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ].
كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة وكان هو المعلم الأول فأخذ عنه الصحابة الكرام والمسلمون الأوائل هذه الصفة الطيبة التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه ونبيه، وعلموا أن (الحياء من الإيمان) فعملوا بما علموا.
فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خطب مرةً فعرض لغلاء المهور، فقالت له امرأةٌ: أيعطينا الله وتمنعنا يا عمر؟ ألم يقل الله عز وجل: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾؛ فلم يمنعها الحياء أن تدافع عن حق النساء، ولم يمنع الحياء عمر أن يقول معتذراً: "كل الناس أفقه منك يا عمر".
وفي خطبةٍ أخرى له – رضي الله عنه – أمر بالسمع والطاعة، وكان عليه ثوبان، فقال أحد المسلمين: لا سمع ولا طاعة يا عمر؛ عليك ثوبان وعلينا ثوبٌ واحدٌ. فنادى عمر بأعلى صوته: "يا عبد الله بن عمر"؛ فأجابه ولده: لبيك يا أبتاه، فقال له: "أنشدك بالله أليس أحد ثوبيَّ هذين هو ثوبك أعطيتنيه؟"، قال: بلى والله. فقال الرجل: الآن نسمع ونطيع يا عمر؛ لم يمنع الحياء الرجل أن يقول ما قال، ولم يمنع عمر أن يعترف بحقيقة الثوب الثاني.
وخُلُق الحياء هو من أخلاق الفطرة السليمة، فكان صفةً لازمةً للأنبياء والرسل؛ فهذا سيدنا موسى – عليه السلام – وجد امرأتين من مدين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، ولا يلتفت لهما أحدٌ، والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة أن تسقي المرأتان بأغنامهما أولاً وأن يفسح لهما الرجال؛ فتقدم للمرأتين ليسألهما عن أمرهما الغريب فأطلعتاه على السبب، إنه الحياء من مزاحمة الرجال، فالمرأة الحيية، عفيفة الروح، نظيفة القلب، لا تستريح لمزاحمة الرجال، فثارت نخوة موسى فتقدم وسقى لهما ثم تركهما. وجاءه الفرج عندما جاءته إحدى الفتاتين على استحياءٍ في غير ما تَبَذُّلٍ ولا تبرجٍ وفي هذا قال تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.
يقول العلماء أننا إذا تأملنا في قوله تعالى: ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾؛ نجد أن الحياء وكأنه قد تمكن منها، وتمكنت منه، وهو تعبيرٌ قرآنيٌ يصور حالة المرأة وما هي عليه من أدبٍ جمٍ، وخُلُقٍ فاضلٍ، وسَمْتٍ كريمٍ، وأعظم ما في خُلُق المرأة حياؤها، وهكذا تكون المرأة المسلمة. ولبى موسى الدعوة، وقال لها: امشِ خلفي فإن أخطأتُ الطريق فأشيري إليه بحجرٍ تلقينه فيه، لأصحح المسار وأسلكه، حتى انتهى إلى بيت أبيها. وهكذا يكون الشاب المسلم حيياً ضابطاً إيقاع حياته كلها، سلوكياته وعلاقاته ومعاملاته، على قاعدة (الحياء من الإيمان).
وكان العرب - حتى في جاهليتهم - يؤثرون خُلُق الحياء على الكذب ولو كانت مصلحتهم ظاهرةً جليةً في أن يكذبوا! فهذا أحد صناديد كفار قريش أبو سفيان بن حربٍ يمنعه الحياء من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذهب ومعه بعض القريشيين إلى الشام للتجارة، فأرسل إليهم هرقل ملك الروم يطلب حضورهم، فلما جاءوا إليه قال لهم: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً، فقال هرقل: أدنوه مني واجعلوا أصحابه خلفه، ثم قال لهم: إني سائلٌ هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: لولا الحياء أن يروا عليَّ كذباً لكذبت. فأخذ هرقل يسأله عن صفات النبي ونسبه وأصحابه وأبو سفيان لا يقول إلا صدقاً حياءً!
وعن الحياء يقول أهل العلم أنه خُلُقٌ عظيمٌ يرفع من قدر المرء فيهذب نفسه، ويبعثها على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
إن من استحيا من الناس لا يفعل ما يخجله إذا عُرف منه أنه فعله، فكان من أعظم بركة الحياء من الناس تعويد النفس ركوب الخصال المحمودة ومجانبتها الخلال المذمومة وتلك حقيقة الإيمان، ومن استحى من الناس أن يروه بقبيحٍ دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه تعالى أشد فلا يضيع فريضةً ولا يرتكب خطيئةً، لأن المؤمن يعلم بأن الله يرى كل ما يفعله فيلزمه الحياء منه لعلمه بذلك وبأنه لابد أن يقرره على ما عمله فيخجل فيؤديه إلى ترك ما يخجل منه.
يقول الشاعر:
وَإِذَا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلمَةٍ
وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغيَانِ
فَاستَحْيِ مِن نَظرِ الإِلَهِ وَقُل لَهَا
إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي
وكان الفاروق عمر - رضي الله عنه - يقول: "مَن قَلَّ حَيَاؤُه قَلَّ وَرَعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ". ويقول أيضاً: "من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقي". وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: "لَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ النَّاس". وقال الأصمعي - رحمه الله تعالى -: "مَنْ كَساهُ ثَوبُ الحيَاءِ، لم يَرَ النّاسُ عُيُوبَهُ". وقال الحسن - رضي الله عنه -: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان كاملاً، ومَن تعلّق بواحدةٍ منهنّ كان مِن صالحي قومه: دينٌ يُرشِدُه، وعقلٌ يُسَدِّدُهُ، وحَسَبٌ يَصُونهُ، وحَيَاءٌ يَقُودُهُ". وقال الحكماء: "القناعةُ دَليلُ الأمَانةِ، والأمَانةُ دَليلُ الشُّكرِ، والشُّكرُ دَلِيلُ الزّيادةِ، والزّيادةُ دليلُ بقاءِ النّعمةِ، والحياءُ دَليلُ الخَيرِ كُلِّهِ".

أحبتي .. صدق من قال:
وَرُبَّ قَبِيْحَةٍ مَا حَالَ بَينِي
وَبَيْنَ رُكُوْبِهَا إِلَّا الحَيَاءُ
فَكَانَ هُوَ الدَّوَاءَ لَهَا وَلَكِنْ
إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ
فلنتمسك جميعنا - رجالاً ونساءً - بخُلُق الحياء، نمارسه في كل موقفٍ ممكنٍ، ونعلمه أبناءنا، موقنين بأن (الحياء من الإيمان)، ولا نسير وراء من يقول أن الحياء هو سمةٌ قاصرةٌ على النساء دون الرجال.
اللهم زَيِّنَا بزينة الحياء، واجعلنا اللهم ممن يستحي منك سبحانك سراً وجهراً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2Za9DAa

الجمعة، 5 أبريل 2019

سهم إبليس


الجمعة 5 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨١
(سهم إبليس)

شابٌ عربيٌ كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، ركب ذات يومٍ مع مجموعةٍ من الناس المصعد إلى طابقٍ مرتفعٍ في إحدى ناطحات السحاب. نزل جميع الأشخاص في طوابق مختلفة وبقيَ هذا الشاب وحده إلى جانب فتاةٍ أمريكيةٍ جميلةٍ جداً تلبس لباساً متبرجاً كباقي النساء في الولايات المتحدة الأمريكية، لما وجدت أنها بقيت لوحدها مع الشاب شعرت بالخوف منه لكنها لاحظت أن الشاب لم يحاول أن يتحرش بها بل ويتحاشى أن ينظر إليها؛ فبقيت متعجبةً لاستمراره في عدم النظر إليها، استغربت كثيراً لذلك. عندما وصل المصعد إلى الطابق الذي يريد الشاب النزول فيه غادر المصعد، ونزلت معه الشابة ثم أوقفته وسألته: "ألست جميلةً؟"، قال: "لا أدري؛ أنا لم أنظر إليك"، قالت: "كنا وحدنا في المصعد ولم تحاول أن تتحرش بي، حتى أنك لم تنظر إليّ؛ لماذا؟"، قال: "أعوذ بالله؛ إني أخاف الله"، فقالت: "أين الله هذا الذي تخشاه وتخافه إلى هذه الدرجة؟ أدينك هو الذي يمنعك من التحرش بي أو النظر إليّ؟"، قال: "نعم"، فقالت له: "أتقبل أن تتزوجني؟"، قال: "أنا مسلمٌ، ما دينك أنت؟"، قالت: "لست مسلمةً، هل تتزوجني إذا دخلت دينك هذا؟"، فقال: "نعم"، قالت: "ماذا أفعل كي أكون مسلمة؟".
شرح لها الشاب المسلم التقي كيفية اعتناقها الإسلام، وقيل إنه بعد زواجه منها فتح الله عليه أوسع أبواب الرزق.
لقد جعل الله هذا الشاب سبباً في إسلامها وهدايتها بعملٍ لم يكن ليخطر على باله أبداً؛ فقط بغض بصره عما حرم الله، واتقائه (سهم إبليس).

وعلى العكس؛ هذا شابٌ آخر ينظر دائماً إلى الفتيات، فتقدم إلى شيخٍ وسأله: "أي شيخ، إني شابٌ صغيرٌ ورغباتي كثيرةٌ ولا أستطيع منع نفسي من النظر إلى الفتيات في الأسواق فماذا أفعل؟"، رد الشيخ بتجربةٍ عمليةٍ؛ أعطى هذا الشاب كوباً من الحليب وأوصى أحد تلامذته أن يرافقه، وقال للتلميذ اذهب معه إلى المكان الفلاني مروراً بالسوق الفلاني وإذا انسكبت قطرةٌ من الحليب على الأرض اضربه بقوةٍ أمام الناس ولا ترحمه. مضى الشاب إلى وجهته حتى أوصل الكأس دون أن ينسكب منه شيءٌ، ثم عاد فسأله الشيخ: "كم فتاةً رأيت في السوق؟"، أجاب الشاب: "واللهِ ما كنتُ أرى إلا أن ينسكب شيءٌ من الحليب فيضربني مرافقي أمام الناس، وهذا ذلٌ وخزيٌ لي أمامهم فكان تركيزي كله على الكأس"، قال له الشيخ: "كذلك حال المؤمن؛ إنه دائم التركيز على الآخرة وذلها وخزيها، وبمراقبته لله عزَّ وجلَّ في سكناته وحركاته يجتنب ما يغضب الجبار فينشغل بما ينفعه ويكون من الفائزين بإذن الله".

أحبتي في الله .. إنه غض البصر؛ قال عنه الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ﴾، وسبب نزول هذه الآية أنّ رجلاً - على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - مرّ في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائطٍ، وهو ينظر إليها، إذ استقبله الحائط فشقّ أنفه، فقال: واللهِ لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أمري، فأتاه، فقصّ عليه قصته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: [هذا عُقُوبَةُ ذَنْبِك]، وأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ﴾. يقول العلماء عن هذه الآية أن الله يأمر نبيه أن يحث المؤمنين على أن يغضوا أبصارهم عمّا لا يحل، ويحفظوا فروجهم عن المحرمات، ويبيّن لهم أن ذلك أطهر لأخلاقهم. ونلحظ هنا أن الله تعالى قد جعل الأمر بغض البصر مقدماً على حفظ الفرج، لأن كل الحوادث مبدؤها من النظر؛ قال الشاعر:
كلُّ الحَوادِثِ مَبدَأُها من النظَرِ
ومُعظمُ النارِ من مُستَصغرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتكَت في قلبِ صاحبِها
فَتكَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وتر
والعبدُ مادامَ ذا عينٍ يقلِّبُها
في أعيُنِ الغيدِ موقوفٌ على الخطرِ
يسُرُّ مُقلَته ما ضرَّ مهجتَه
لا مرحباً بسرورٍ عادَ بالضررِ

يقول أهل العلم إنَّ إطلاق البصر في الحرام هو (سهم إبليس)؛ فمن أطلق بصره في الحرام جرّه ذلك إلى أنواع الفواحش؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ]؛ فالنظرةُ تولِّدُ خَطْرةً، والخطرةُ تولد فِكرةً، والفِكرةُ تولِّد شهوةً، والشهوةُ تولد إرادةً، ثم تشتدّ الإرادةُ فتصيرُ عزيمةً جارفةً؛ فيقعُ الفِعلُ ما لم يمنع من ذلك مانعٌ؛ فالصبر على غضِّ البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعدَه. لقد جعل الله سبحانه وتعالى في الرجالِ شهوةً تجاه النساء، وهي تعلو شهوةَ النساء في النظر إلى الرجال، لذا أمر الله النساء بالحجابِ وأمرهُنَّ بسترِ الزينةِ ولم يأمر الرجال بذلك؛ لأن الداعي في قلبِ الرجل بنظرهِ للمرأةِ أقوى من الداعي في قلب المرأةِ بنظرها للرجل، وعندما ينظر الرجل إلى أيّ امرأةٍ سواءً كانت مسلمةً أو كافرةً أو صالحةً أو فاجرةً فإنّ الشيطانَ يثيرُ في قلبهِ ويوسوسُ والحلُّ هو غضُّ البصر؛ ومع ذلك فإن غض البصر ليس قاصراً على الرجال فقط، فالنساء كذلك مأموراتٌ بغض البصر؛ قال الله عز وجل: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾.

وعندما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوسِ في الطرُقات، قال الصحابة: يا رسول الله هيَ مجالسُنا ما لنا منها بُدٌّ نتحدثُ فيها، قال عليه الصلاةُ والسلام: [إنْ أبَيتُم إلّا ذلك فأعطوا الطريقَ حقَّهُ]، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: [غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذَى، ورَدُّ السَلامِ].

وقد يسير الإنسان في طريقٍ أو يكون في مكانٍ فيقع بصره على ما حرم الله تعالى بغير قصدٍ منه، وهذا ما يُسمى بنظرة الفجاءة، والواجب في هذه الحالة أن يصرف الإنسان بصره؛ قال أحد الصحابة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفُجاءةِ؛ فأمرني أن أصرفَ بصري. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ]؛ فالنظرة الأولى الواقعة دون قصدٍ أنت غيرُ مؤاخذٍ عليها لأنك لم تتعمد، لكنَّ النظرة التي بعدها أنت مؤاخذٌ عليها، فحذَّره أن يُتبع النظرة النظرة. وهذا الخطاب لعليٍ رضي الله عنه، مع علمه عليه الصلاة والسلام بزهد عليٍ وورعه، فما بال الواحد منا يطيل النظر ويدعي الأمن من الفتنة ويظن أنه قادرٌ على أن يعصم نفسه من (سهم إبليس)!

قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ هو الرجلُ يكونُ في القومِ فتمُرُّ بهم المرأةَ فيُريهم أنَّه يغُضُّ بصرَه عنها، فإذا انشغلوا عنهُ رفعَ بصرَه فنظرَ إليها، وقد اطلع الله سبحانه وتعالى من قلبه أنه وَدَّ لو ينظرُ إليها.

وقالوا عن عواقبِ النظرِ الحرامِ أنه يحرِمُ المرءَ من العلم؛ فهذا أحدُ طُلابِ وكيعٍ القاضي نظر يوماً إلى امرأةٍ حسناءَ فتتبَّعها ببصرِه ثم انصرف، فلاحظَ أنَّ فهمَه وحِفظهُ تشتّتَ؛ فاشتكى أمرَه إلى وكيعٍ، فقال له: غُضَّ بصرَك عن الحرام.
 فقال هذا الطالبُ، ويُقال إنه الإمام الشافعي:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حِفظي
فأرشَدني إلى تَركِ المعاصي
وأخبَرني بأنَّ العِلمَ نورٌ
ونورُ اللهِ لا يُؤتاهُ عاصي

أما من غضَّ بصره عن محاسن امرأةٍ وهو قادرٌ على أن ينظر إليها أورَثَه اللهُ إيماناً يجدُ حلاوتَه في قلبه. ومن حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته. وقيل إن غض البصر يخلص القلب من ألم الحسرة، ويورثه نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، ويزيده سروراً وفرحةً وانشراحاً ولذةً أعظم من اللذة التي تحصل بالنظر؛ فلذة العفة أعظم من لذة الذنب. وغض البصر يقوي العقل ويزيده ويثبته، ويفتح طرق العلم وأبوابه، ويسهل أسبابه، فضلاً عن أنه يسد عن العبد باباً من أبواب جهنم، فإن النظر المحرم باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض الإنسان بصره سلم من الوقوع في الفاحشة، ومتى أطلقه كان هلاكه أقرب؛ فالنظر المحرم هو (سهم إبليس).

وغض البصر سببٌ لدخول الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ].

أحبتي .. في زمنٍ أصبح السفور مباحاً، والاختلاط مألوفاً، صار غض البصر صعباً، لكنه يبقى دليل سلامة المعتقد وقوة الإيمان ويقظة الضمير ونظافة القلب وإخلاص الجوارح؛ فيكون الصبر على غض البصر مع المشقة سبباً في زيادة الثواب والأجر بإذن الله.
علينا أحبتي أن ننتبه إلى أن غض البصر يكون كذلك بترك النظر إلى الصور إجمالاً سواءً في الأفلام أو المسلسلات، في دور العرض والمسارح والتلفزيون، في المطبوعات من الكتب والصحف والمجلات والإعلانات، في شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وبرامج الحاسوب والهواتف الذكية؛ حيث اعتاد الناس للأسف إطالة النظر، وكأن لسان حالهم يقول إنها مجرد صور!
تذكروا أحبتي أن أبصارنا نعمةٌ مِن الله، فلا نعصه بنعمه، ولنحذر أن تكون عقوبة العصيان والنظر المحرم سلب تلك النعمة. قيل أن كل زمن الجهاد في غض النظر لحظة، فان فعلتَ نلتَ الخير وسلمتَ من الشر، فنحن مسئولون عن جميع نعم المولى عزَّ وجلَّ - ومن بينها نعمة البصر - ومحاسبون عليها؛ كيف استخدمناها هل في حلالٍ أم في حرامٍ والعياذ بالله؛ يقول تعالى: ﴿وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا﴾.

اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم وفِّقنا لفِعل الخيرات وتركِ المنكرات. اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وفروجنا من الفاحشة وأموالنا من الربا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2FSFcW6

الجمعة، 29 مارس 2019

مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب



خاطرة الجمعة /١٨٠
 (مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب)

في طابورٍ طويلٍ من طوابير مصلحةٍ حكوميةٍ سأل أحدهم: "هل مع أحدٍ منكم قلم؟"، رد البعض - وأنا منهم - معتذرين، والتزم آخرون الصمت، فكرر السؤال مرةً ثانيةً بصوتٍ أعلى علَّ أحد الواقفين في الطابور يكون معه قلم يفيده في تعبئة نموذجٍ يمسك به في يده، لم يرد عليه أحد. وجدتُه ينظر إليّ نظرةً تجمع بين اللوم والرجاء، وقال موجهاً كلامه لي: "ممكن القلم لو سمحت؟"، كان ردي عفوياً: "آسف؛ ليس معي قلم"، تحولت نظرته لي إلى استنكارٍ يشوبه غضبٌ وقال: "أليس ما في جيبك هذا قلم؟!"، وقتها فقط فهمتُ لماذا خصني أنا شخصياً دون غيري بالسؤال الأخير، تبسمتُ وأخرجتُ من جيبي ما اعتقد صاحبنا أنه قلم، فتحتُ الغطاء فظهر له أنه مسواكٌ موضوعٌ داخل علبةٍ بلاستيكيةٍ على هيئة قلم! اعتذر وقال لي بنبرة خجلٍ لا يخطئها السمع: "لا تؤاخذني؛ ظننتُه قلماً".

أحبتي في الله .. كان ذلك المسواك بعلبته البلاستيكية التي تشبه القلم هديةً من صديقٍ عزيزٍ أهداني إياه بعد عودته من رحلة عُمرة. وهذه العلبة رغم صغر حجمها إلا أنها كبيرةٌ في نفعها؛ فقد قطعت الطريق على كل من كان لا يستعمل السواك بحجة "أنني كأني أضع فرشاة أسنانٍ في جيبي"، وحجة "أنه معرضٌ للتلوث باستمرار". لم تعد هذه الحجة قائمةً بعد اليوم.
هو ذات المسواك الذي رآني أحد المصلين بالمسجد أستخدمه عند كل صلاةٍ؛ فسألني ذات يومٍ متعجباً: "أهو من السنن الصحيحة المؤكدة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟!"، فكان ردي بالإيجاب، وقلت له - من الذاكرة - أن النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: [السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ].
أحسست أن إجابتي لم تكن كافيةً له؛ فعزمتُ على البحث عن موضوع السواك لأقوم بعرض ما أصل إليه من معلوماتٍ مفصلةٍ عليه في لقاءٍ لاحقٍ؛ فهو من مرتادي مسجدنا المواظبين بتوفيق الله على صلاة الجماعة.
وفيما يلي خلاصة ما قاله أهل العلم في موضوع السواك:

السِواكُ لغةً مِن سَاكَ فمه بالعود يسوكه سوكاً أي: دلكه. والمِسْواكُ: ما يُدلَك به الفم من العيدان. والسواك اصطلاحاً سُنةٌ من السنن المؤكَّدة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين﴾، وقال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: [السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ]. "المَطْهَرَةُ": كل إناءٍ يُتَطَهَر به، وشُبه السِّواك بِه لأنه ينظف الفم. وهو "مرضاةٌ للرب" بمعنى أنه سببٌ لرضا الله سبحانه وتعالى.

يتأكد السواك كسُنةٍ في مواضع عديدةٍ منها:
عند كل صلاةٍ فرضًا كانت أم نفلًا، لحَدِيثِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم: [لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاة].
وعند كل وضوءٍ لِقَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: [لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ].
وعند القيام من نوم الليل؛ فقد ثبت أن رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كان إِذَا قَامَ مِنَ الليلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. "الشَّوْص": الدَّلْك. قال أحد الصحابة أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم كَانَ لاَ يَنَامُ إِلاَّ وَالسِّوَاكُ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ.
وعند دخول البيت؛ فعندما سُئلت السيدة عائشة: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسِّوَاكِ.
وعند تغير رائحة الفم مطلقًا لعموم قَولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم: [السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ].
وعند قراءة القرآن الكريم؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [إِنَّ العَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ، فَيْسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُو مِنْهُ-أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ إِلاَّ صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ].

وكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُكثِرُ استِعمَالَ السِّوَاكِ وَهُوَ صَائِمٌ؛ روى أحد الصحابة قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي وَلَا أَعُدُّ.
ومما يدلُّنا على عظم فضل السِّواك أنه من سُنن الفطرة؛ قَالَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: [عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ المَاءِ، وَقَصُّ الأظْفَارِ، وَغَسْلُ البَرَاجِمِ، وَنَتف الإبْطِ، وَحَلْقُ العَانَةِ، وَانْتِقَاصُ المَاءِ]، "انْتِقَاصُ المَاءِ": أي الاسْتِنْجَاءِ. قَالَ الراوي: وَنَسِيْتُ العَاشِرَةَ إِلاَّ أنْ تَكُونَ المَضمَضَةُ.

ويدلنا على عظم فضل السواك كذلك قوله صلى اللهُ عليه وسلم: [أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [لَقَدْ أُمِرْتُ بِالسِّواك حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيَّ فِيهِ قُرْآنٌ أَوْ وَحْيٌ]، وفي روايةٍ: [لَقَدْ أُمِرْتُ بِالسِّواك حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ]. كما قَالَ: [أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ].
وكان النبي صلى اللهُ عليه وسلم يحرص على السواك في كل وقتٍ حتى عند احتضاره؛ قالت السيدة عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: "دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِالرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم بَصَرَهُ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَاسْتَنَّ بِهِ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى".

أحبتي .. هذا هو السواك الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه (مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرب). هو السواك الذي قال عنه أحد الصالحين: قد ذُكر فيه زيادةً على مائة حديثٍ، فَوَاعَجَبًا لِسُنَّةٍ تأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثيرٌ من الناس. هو السواك الذي أثبتت البحوث العلمية فوائده لصحة الفم والأسنان واللثة. هو السواك الذي من السُنة أن يستخدمه الجميع رجالاً ونساءً. هو السواك الذي من السهل استعماله؛ لا يتطلب وضوءاً ولا استقبال قبلةٍ ولا نبذل فيه جهداً ولا كثير مالٍ. هو السواك نُثاب على حرصنا على استخدامه ليس كواجبٍ وإنما كسُنةٍ حكمها أن يُثاب فاعلها ولا يُعاقَب تاركها. هو السواك الذي حرص على استخدامه دوماً سيد البشر؛ فكيف بمحبي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوا سُنةً من سُننه ويستغنون عنها؟!

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لاستخدام السواك ما استطعنا؛ نحي به سُنة رسولنا ونطهر به أفواهنا ونرضي به ربنا.

اللهم ألهمنا الصواب والسداد، وألزمنا طريق الهدى وسبيل الرشاد.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/cMM2PV