الجمعة، 22 مارس 2019

شطر الإيمان


الجمعة 22 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٩
(شطر الإيمان)

يقول راوي القصة: سألني صاحبي وهو يحاورني: "كيف تتوضأ؟"، قلت ببرودٍ: "كما يتوضأ الناس!"، فأخذته موجةٌ من الضحك حتى اغرورقت عيناه بالدموع ثم قال مبتسماً: "وكيف يتوضأ الناس؟!"، ابتسمت ابتسامةً باهتةً وقلت: "كما تتوضأ أنت!"، قال في نبرةٍ جادةٍ: "أما هذه فلا؛ لأني أحسب أن وضوئي على شاكلةٍ أخرى غير شاكلة أكثر الناس"، قلت على الفور: "فصلاتك باطلةٌ إذن!"، فعاد إلى ضحكه، ولم أشاركه هذه المرة حتى الابتسام، سَكَتَ ثم قال: "يبدو أنك ذهبت بعيداً؛ أنا أعني، أنني أتوضأ وأنا في حالةٍ روحيةٍ شفافةٍ _ علمني إياها شيخي _ فأجد للوضوء متعة، ومع المتعة حلاوة، وفي الحلاوة جمال، وخلال الجمال سموٌ ورفعةٌ ومعانٍ كثيرةٌ لا أستطيع التعبير عنها!". ارتسمت علامات استفهامٍ كثيرةٍ على وجهي، لكنه لم يمهلني حتى أسأل وواصل: "أسوق بين يديك حديثاً شريفاً فتأمل جيداً كلمات النبوة الراقية السامية؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ]، وفي حديثٍ آخر  قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ]، وفي حديث ثالثٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [فَإِنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ]. سكت صاحبي لحظاتٍ وأخذ يسحب نفساً من الهواء العليل منتشياً بما كان يذكره من كلمات النبوة .. ثم حدَّق في وجهي وقال: "لو أنك تأملت هذه الأحاديث جيداً، فإنك ستجد للوضوء حلاوةً ومتعةً وأنت تستشعر أن هذا الماء الذي تغسل به أعضاءك، ليس في الحقيقة سوى نورٍ تغسل به قلبك!"، قلت: "سبحان الله، كيف فاتني هذا المعنى!؟ والله أنني أتوضأ منذ سنواتٍ طويلةٍ غير أني لم أستشعر هذا المعنى، إنما هي أعضاءٌ أغسلها بالماء ثم أنصرف، ولم أخرج من لحظات الوضوء بشيءٍ من هذه المعاني الراقية!"، قال صاحبي وقد تهلل وجهه بالنور: "وعلى هذا حين تجمع قلبك وأنت في لحظات الوضوء، تجد أنك تشحن هذا القلب بمعانٍ سماويةٍ كثيرةٍ، وكل ذلك ليس سوى تهيئةٍ للصلاة! فما بالك بالصلاة نفسها! المهم أن عليك أن تجمع قلبك أثناء عملية الوضوء وأنت تغسل أعضاءك"، قلت: "هذا إذن مدعاةٌ لي للوضوء مع كل صلاةٍ؛ أجدد الوضوء حتى لو كنت على وضوء .. نورٌ على نورٍ .. ومعانٍ تتولد من معانٍ!"، قال وهو يبتسم: "بل هذا مدعاةٌ لك أن تتوضأ كلما خرجت من بيتك لتواجه الحياة وأحداثها بقلبٍ مملوءٍ بهذه المعاني السماوية!"، قلت وأنا أشعر أن قلبي أصبح يرف ويشف ويسمو: "أتعرف يا صاحبي أنك بهذه الكلمات قد رسمت لي طريقاً جديداً في الحياة، ما كان يخطر لي على بال، وفتحت أمام عيني آفاقاً رائعةً كانت محجوبةً أمام بصري؛ فجزاك الله عني خير الجزاء".

يقول راوي القصة منذ ذلك اليوم كلما هممتُ أن أتوضأ، سرعان ما أستحضر كلمات صاحبي، فأجدني في حالةٍ روحيةٍ رائعةٍ وأنا أغسل أعضائي بالنور لا بالماء! يا الله كم من سنواتٍ ضاعت من حياتي، وأنا بعيدٌ عن هذه المعاني السماوية الخالصة .. يا حسرةً على العباد! لو وجد الناس دفقةً من هذه المعاني السماوية تنصب في قلوبهم، لوجدوا أُنساً ومتعةً وجمالاً وصقلاً واضحاً لقلوبهم أثناء عملية غسل أعضائهم بهذا النور الخالص.

وعن الوضوء يقول أحدهم: كان أخٌ مسلمٌ يتوضأ في أحد المغاسل في إحدى الدول الأوروبية فجاءه شخصٌ من الخلف وأمسك به في ازدراءٍ وقال له: "أنتم المسلمون قذرين؛ تضعون أقدامكم القذرة في مكانٍ نظيفٍ نغسل فيه وجوهنا وأيدينا!"، فرد عليه المسلم ببراعة: "قل لي، كم مرةً تغسل وجهك في اليوم؟"، أجابه: "مرةً في الصباح، وأحياناً أغسله مرةً أخرى في المساء"، فرد عليه أخونا المسلم: "نحن نغسل أقدامنا خمس مراتٍ في اليوم؛ فقل لي ما الأنظف قدمي أم وجهك؟"، فسكت ولم يرد!

أحبتي في الله .. إنه الوضوء (شطر الإيمان) الذي له - كما يقول العلماء - دورٌ كبيرٌ في حياة المسلم المؤمن؛ فهو يجعله دائماً في حيويةٍ وتألقٍ لأنه لا يُعتبر فقط تنظيفاً وتطهيراً للأعضاء الظاهرة من الجسم، بل هو تنظيفٌ للروح الداخلية للإنسان؛ فالروح تحتاج لطهارةٍ مثلما الجسد بالضبط.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾. وقال تعالى: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ. فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
يقول أهل العلم أنَّ للوضوء فضائل كثيرةً منها أنه سببٌ في مغفرة الذنوب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ غَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَامَ إِلَى صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا مَشَتْ إِلَيْهِ رِجْلَاهُ، وَقَبَضَتْ عَلَيْهِ يَدَاهُ، وَسَمِعَتْ إِلَيْهِ أُذُنَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ عَيْنَاهُ، وَحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ سُوءٍ].
ولا تصح صلاةٌ إلا بالوضوء؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لا تُقْبَلُ صَلاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ].
والوضوء نصف الإيمان؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ].
 وهو سبيلٌ إلى الجنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلالٍ عند صلاة الفجر: [يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ]، قال: "ما عملتُ عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طُهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ إلا صليتُ بذلك الطُّهور ما كُتب لي أن أصلِّي".
والوضوء يرفع درجات العبد في الجنَّة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟]، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: [إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخطى إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ].
 وهو يحُلُّ عُقَدَ الشيطانِ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ؛ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ].
كما أنه نورٌ للمسلم يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ].
وهو يُميِّز الأمة المحمدية عن غيرها يوم القيامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ].

وقد أكد بحثٌ علميٌ حديثٌ أن الوضوء، الذي هو (شطر الإيمان)، وسيلةٌ فعالةٌ للتغلب على التعب والإرهاق، كما أنه يجدد نشاط الإنسان، ويعيد توازن الطاقة التي تسري في مسارات جسم الإنسان، ويصلح ما بها من خللٍ بعد تنقية المرء من ذنوبه وخطاياه التي لها تأثيرٌ على الحالة النفسية والجسمية. كما ثبت أن عمليات التدليك لأعضاء الجسم أثناء الوضوء للصلاة تعيد للمرء حيويته ونضارته، بالإضافة إلى أنها تساعد خلايا المخ على التجدد والاستمرار في ضخ الدم. والوضوء يجدد كل خلايا الجسم ويمدها بالطاقة اللازمة التي تشع من أجسامنا، ويعمل على إعادة التوازن النموذجي للمجال الحيوي المحيط بالإنسان، ويصلح أي خللٍ في مسارات الطاقة، وفي ذلك حمايةٌ من الآثار السلبية للتكنولوجيا الحديثة وتلوث البيئة وغيرها من المجالات المختلفة المؤثرة على الطاقة الحيوية للإنسان.

أحبتي .. هذه دعوةٌ لاستحضار كل هذه المعاني السامية والفضائل عندما نتوضأ. كما أنها دعوةٌ لأن نحافظ على وضوئنا طوال اليوم على سبيل الاستحباب؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه: [... وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ].
وأختم ببشارةٍ غفل عنها البعض؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قال: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ].

اللهم نعوذ بك أن نكون من الغافلين، واجعلنا اللهم من التوابين ومن المتطهرين، واكتبنا من أصحاب الجنة يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.



الجمعة، 15 مارس 2019

أم الكتاب


الجمعة 15 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٨
(أم الكتاب)

اسمها فيكتوريا، كانت تعمل في أحد القصور في خدمة أميرٍ وأسرته، كتبت تقول: توقفت الممرضة عن الكلام وأخذت تنظر إلى نتيجة الفحص، تغيرت ملامح وجهها، أسرعت نحو الهاتف تستدعي الطبيب. شعرتُ بالخوف يتسلل إلى قلبي؛ لماذا بدا عليها القلق؟ هل نتيجة الفحص تستدعي حضور الطبيب بسرعة؟ كدت أن أصرخ بها. عدتُ أُطمئن نفسي؛ إنها آلامٌ بسيطةٌ، لا داعي للخوف، إنها عادة الممرضات يُظهرن المهارة، ويضخمن الأمور. حضر الطبيب، نظر في نتيجة الفحص؛ بدا عليه الذهول، ارتسمت في عينيه علامات الاستياء. أيقنتُ بالخطر، ترقرقت الدموع في عيني. "دكتور .. دكتور" .. وجدتُ صعوبةً بالغةً في النطق بها. التفت الطبيب نحوي، بدا حزيناً. سألتُه: "ما الذي تقوله الفحوصات؟" تحدث كثيراً، وبكيتُ أكثر، لم أعد أذكر من كلماته إلا تلك الجمل، والتي حشد لها الكثير والكثير من العبارات التي حاول بها أن يصبرني، ويُذهب عني الخوف والفزع .. "سرطانٌ في الرحم، يجب استئصاله .. لابد من إجراء العملية بأسرع وقت .. أي تأخير قد يتسبب في انتشار السرطان في جميع أجزاء الجسم". أجهشتُ ببكاءٍ رهيبٍ .. كلمة "ماما" أصبحت مستحيلةً .. طفلٌ صغيرٌ أقبله .. أضمه إلى صدري .. صار مستحيلاً. غربتي .. آلامي .. أحزاني .. أربعة أعوامٍ مضت .. وكل يومٍ يمضي أشعر بأنني أقترب من الحلم .. تناهى إلى سمعي حديثي مع زوجي: " غداً نعود إلى الوطن، ومعنا المال؛ سنعيش سعداء، سيكون لنا منزلٌ واسعٌ، الأطفال يلعبون من حولنا .. غداً .. غداً ..". آهـ .. غداً الذي أرقبه بشوقٍ ولهفةٍ لن يأتي بعد اليوم. بكيتُ بحرقة، غبتُ عن الوعي لحظاتٍ، وعندما أفقتُ وجدتُ زوجي بجانبي يحاول تهدئتي، أبصرتُ الحزن في عينيه، تساءلتُ في نفسي: "هل حزنه بسبب مرضي؟ أم بسبب الحلم الذي تلاشى ولم يعد هناك أملٌ في تحقيقه؟". أقبلت الممرضة، بدأت الفحوصات استعداداً للعملية، الوقت يمضي. جفت دموعي .. توقفتُ عن البكاء .. واستسلمتُ للأمر الواقع؛ جاء السرير أو جاء النعش ليحمل حلم حياتي إلى المقبرة. جاءت اللحظة التي لم أكن أتوقعها في يومٍ من الأيام، تمنيتُ لحظتها أن تُنتزع روحي مع رحمي الذي سينتزعونه مني، أتراهم لا يعلمون أن هذا الرحم هو سر سعادة النساء؟ هو نعمة الرب علينا، هو الذكرى الباقية والحياة الثانية، فيه نحفظ فلذات أكبادنا قبل أن نلقيهم إلى الأرض. مضى بي السرير إلى غرفة العمليات .. الخطوات .. صوت العجلات .. نغماتٌ حزينةٌ تشيعني .. أغمضتُ عينيّ .. جرت الدموع على خدي .. زوجي يمسحها بيديه .. يربت على رأسي .. شعرتُ بالأسى عليه ..اقتربنا من غرفة العمليات؛ فُتح الباب الكبير، وقف الجميع .. ممنوع الدخول .. دخلتُ لوحدي .. منظرٌ رهيبٌ؛ أجسادٌ تتحرك بشكلٍ مرعبٍ .. تلبس الرداء الأخضر .. الكمّامات تغطي وجوههم، تظهر العينان من خلال فتحتين صغيرتين وغالباً تختفي وراء النظارات الطبية، السرير في وسط الغرفة تحيط به الأجهزة المختلفة. أدوات التشريح تثير في النفس الخوف .. الكشافات الضوئية تسلط أشعتها على السرير .. رائحة البنج تقتحم جيوبي الأنفية .. لم أستطع تحمل تلك المناظر .. أغمضتُ عينيّ.
تذكرتُ الأميرة والأمير وأبناءهما .. تذكرتُ القصر الكبير .. تذكرتُ الأميرة وهي تصلي .. تذكرتُ سجادتها التي تبدأ بها كلما عادت من سفرٍ. .. تعودتُ على تلك الكلمات: "أحضروا لي السجادة لأصلي" .. تساءلتُ: "لماذا لا تؤجل الصلاة، خاصةً أنها مرهقة من أثر السفر؟" .. تذكرتُ ذلك اليوم عندما قلتُ لها: "ارتاحي قليلاً فأنت متعبةٌ"، غضبت حينها وقالت كلماتٍ لم أستوعبها جيداً لكنني فهمتُ أن الصلاة هي أهم أمرٍ بالنسبة لها. تذكرتُ الأمير ومحافظته على الصلاة، وكذلك الأبناء؛ إنها أسرةٌ كريمةٌ. تذكرتُ شهر رمضان .. تغييرٌ شاملٌ .. صيامٌ وصلاةٌ .. يتحول القصر إلى مسجدٍ كبيرٍ لا تسمع فيه سوى القرآن وصوت الأئمة وهم يرتلون القرآن. في هذا القصر لم أسمع صوت موسيقى أو غناء .. لم أشاهد أفلاماً ماجنةً .. لم أجد منهم سوى المعاملة الحسنة .. الرفق واللين.
تذكرتُ سورة الفاتحة، تلك السورة التي كانت تتكرر مراتٍ ومراتٍ في القصر، ومن خلال التلفاز أو المذياع .. ومن خلال المسجد القريب .. كنتُ أشعر بها تخاطبني .. تهزني .. تجعلني أعيش معها .. حتى حفظتها وأخذتُ أكررها بيني وبين نفسي .. وفي غرفتي كنتُ أرفع بها صوتي؛ فيتعجب زوجي مني ويسألني: "وهل تعرفين معناها؟"، فأقول له: "لا .. ولكنني أحبها .. أحبها كثيراً". تم نقلي إلى السرير الخاص بالعمليات، بدأ العد التنازلي للعملية .. طبيب التخدير يجهز أسلحته .. لحظاتٍ ويغرزها في جسدي فلا أشعر بشيء .. رفعتُ رأسي إلى السماء .. منظر الكشافات أرهبني .. أخذتُ أردد سورة الفاتحة .. وأدعو الله أن يشفيني بها؛ "يا رب لقد أحببتُ هذه السورة؛ فاجعل فيها شفائي" .. "يا رب بحبي لهذه السورة فَرِّج عني ما أجده".
بدأت العملية .. أقبل طبيب التخدير .. لم أستغرق وقتاً كي أنام .. غبتُ عن الوجود، وعندما أفقتُ من التخدير، كانت المفاجأة تنتظرني؛ الممرضة تناديني وعلى وجهها فرحٌ عظيمٌ: "فيكتوريا .. فيكتوريا" .. نظرتُ إليها .. "لقد أُزيل الخطر عنك يا فيكتوريا؛ لقد رفض الطبيب أن يستأصل الرحم، وضْعُه مستقرٌ، يمكن إزالة الورم بالأدوية" .. لم أصدق ما تقول .. أمعقول .. لا زال رحمي موجوداً .. حلم حياتي سيتحقق .. لم تتلاشَ آمالي .. سأسمع كلمة "ماما" .. سيكون لي أطفالٌ ؟! .. بكيتُ من الفرح .. الحمد لك يا رب .. الحمد لك يا رب .. لقد استجبتَ دعائي .. سورة الفاتحة أنقذت حياتي .. لقد رحم الله ضعفي .. لقد قبل الله دعائي وشفاني بسورة الفاتحة .. أخذتُ أردد سورة الفاتحة .. أُقَّبِلُ الكلمات التي تنطلق في فضاء الغرفة .. شعرتُ كأنني أعانقها. سوف أسلم .. سوف أعتنق هذا الدين .. من الآن أنا مسلمةٌ .. إنه الدين الحق .. لقد قبل الله دعائي بحبي للفاتحة .. طلبتُ من زوجي أن يذهب بي إلى قسم التوعية الدينية بالمستشفى؛ هتفتُ به:  "أريد أن أُسُلِم" .. "لا زلتِ متعبةً؛ نعود فيما بعد" .. "كلا ثم كلا .. أريد أن أعتنق الإسلام الآن .. أريد أن أشكر ربي الآن؛ لقد أنقذني .. لقد سمع ندائي واستجاب لدعائي .. أريد أن أصبح مسلمةً". وبين يديّ الشيخ نطقتُ بالشهادتين بعد أن لَقَّني إياها: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"، وعندما رأى زوجي حالتي .. نطق بالشهادتين أيضاً. عدتُ إلى القصر أحمل خبر إسلامي إلى الأميرة .. فرحت كثيراً، ثم قالت: "أنتِ اليوم ابنتي"، بكيتُ وأنا أسمع هذه الكلمات .. لقد زادت محبتي لها. أيقنتُ أن الإسلام عظيمٌ .. وأن المسلمين هم السعداء في هذه الحياة .. لقد أسلمتُ أنا وزوجي في يومٍ واحدٍ؛ فحمدتُ الله أن ساقني إلى العمل في هذا القصر ومع هذه الأسرة الفاضلة التي دعتني بأفعالها .. بأخلاقها .. بمحافظتها على الصلاة والصيام وسائر العبادات .. بما كان يصل إلى سمعي من آيات القرآن، وخاصةً سورة الفاتحة.

أحبتي في الله .. كانت تلك قصةً حقيقةً تبين فضل سورة الفاتحة (أم الكتاب) على غير المسلمين؛ فما بالنا بفضلها علينا نحن المسلمين!
تُسمى هذه السورة بالفاتحة لأنه يُفتتح بها القرآن العظيم، وتفتتح بها كل ركعة من ركعات الصلاة، وتُسمى (أم الكتاب)، وتُسمى سورة الحمد، والوافية، والكافية، ، وتُسمى السبع المثاني؛ قال الله تعالى عنها: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾. وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إذا قرأتم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فاقرءوا ﴿بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏﴾ إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني و﴿بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏﴾ إحدى آياتها]. ورُوِي عَن أبي سعيد بن المعلَّى رضي اللَّه عنه، قَال: كُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ حَتَّى صلّيت، قال: فأتيته، فَقَالَ: [مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟]، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: [ألم يقل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؟]، ثُمَّ قَالَ: [لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ]، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لأعلمنَّك أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: [نَعَمْ ﴿الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [﴿الْحَمْدُ لِلهِ﴾ أمُّ القرآنِ، وأمُّ الكتابِ، والسبعُ المثاني].
وسُميت "مثاني" لأنها تُقرأ في كل ركعةٍ، وكلمة "مثاني" لها معانٍ أخرى؛ منها اشتمال سورة الفاتحة على ثنائياتٍ كثيرةٍ حصرها أحد الباحثين فيما يلي:
- لفظ الجلالة ذكر مرتين: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين
- الرحمن الرحيم ذكر مرتين: في البسملة، وفي آية منفصلة
- صفات الله ذكرت مرتين: رب العالمين، ومالك يوم الدين
- "إياك" ذكرت مرتين: إياك نعبد، وإياك نستعين
- صفات الهالكين ذكرت مرتين: المغضوب عليهم، والضالين
- حرف العطف الواو ذكر مرتين: إياك نعبد وإياك نستعين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين
- أفعال المضارعة ذكرت مرتين: إياك نعبد، وإياك نستعين
- صفات الإضافة ذكرت مرتين: رب العالمين، مالك يوم الدين
- صفات الصراط ذكرت مرتين: الصراط المستقيم، وصراط الذين أنعمت عليهم
- ضمائر المتكلمين ذكرت مرتين: نعبد .. نستعين، واهدنا
- الضمائر المستترة ذكرت مرتين: بعد الأفعال المضارعة نعبد ونستعين، وبعد أنعمت
- الضمائر المنفصلة ذكرت مرتين: إياك نعبد، وإياك نستعين
- الضمائر المتصلة ذكرت مرتين: أنعمت، واهدنا
- الاستثناء ذكر مرتين: غير المغضوب عليهم، ولا الضالين
- لفظ "عليهم" ذكر مرتين: أنعمت عليهم، وغير المغضوب عليهم
- الفاعل ذكر مرتين: نعبد .. نستعين "ضمير مستتر تقديره نحن"، وأنعمت ..اهدنا "ضمير مستتر تقديره أنت"
- المفعول ذكر مرتين: إياك نعبد ..إياك نستعين "أي الله"، واهدنا .. الصراط
- أسلوب القصر ذكر مرتين: الحمد لله "قصر الحمد لله"، وإياك نعبد ..إياك نستعين "قصر العبادة والاستعانة على الله"
- الاسم المشتق ذكر مرتين: مالك "اسم فاعل"، والمغضوب "اسم مفعول"
- صيغ المبالغة ذكرت مرتين: صيغة فعلان "الرحمن" ذكر مرتين، صيغة فعيل "الرحيم" ذكر مرتين.

وفضائل سورة الفاتحة كثيرةٌ منها أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كان في مسيرٍ فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبِه، قال: فالتفت النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فقال: [ألا أخبِرُك بأفضلِ القرآنِ؟]، قال: بلى، فتلا ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾".
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: [لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ].
ومنها ما رواه ابنِ عباسٍ؛ قال: بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ. سمع نقيضًا من فوقِه. فرفع رأسَه. فقال: [هذا بابٌ من السماءِ فُتِحَ اليومَ. لم يُفتَح قط إلا اليومَ. فنزل منهُ ملكٌ]. فقال: [هذا ملكٌ نزل إلى الأرضِ. لم ينزل قط إلا اليومَ. فسلَّم وقال: أبشِرْ بنوريٍنِ أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك. فاتحةُ الكتابِ وخواتيمُ سورةِ البقرةِ. لن تقرأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه].

إنها فاتحة الكتاب، وهي الصلاة التي قال عنها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ].
يقول أهل العلم أن (أم الكتاب) اشتملت على أغراض عدة؛ وهي: الحمد لله وتمجيده في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، والثناء عليه بذكر أسمائه في قوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، وتنزيهه عن جميع النقائص، وإثبات البعث والجزاء في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وإفراده بالعبادة والاستعانة في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، والتوجه إليه بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، والتضرع إليه بتثبيتهم على الصراط المستقيم في قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، والإخبار عن قصص الأمم السابقين في قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
وسورة الفاتحة رغم قصرها قد اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. كما أنها تضمنت أنفع الدعاء. يقول بعض العلماء: "اُختزل القرآن في سورة الفاتحة، واُختزلت الفاتحة في آية ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾". وسورة الفاتحة ركنٌ عظيمٌ من أركان الصلاة؛ فالصلاة لا تصح إذا لم تُقرأ الفاتحة فيها.

أحبتي .. هذه هي (أم الكتاب)، التي يقرأها المسلم سبع عشرة مرةً كل يومٍ على الأقل في صلواته الخمس المفروضة، وهذه منزلتها العظيمة، أما قوتها الكامنة فيقول عنها أحد العلماء: "لسورةِ الفاتحة قوةٌ كامنةٌ تبعث في النفس طاقةً روحيةً عجيبةً على مدار اليوم والليلة، لو تدبر المسلمون هذه السورة ووقفوا على أسرارها وكنوزها لرأيت حال أمتنا غير هذا الحال"!
نفعنا الله بفاتحة الكتاب، وجعلها لنا نوراً ورحمةً وشفاءً من كل داء.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/CB2UmS

الجمعة، 8 مارس 2019

اللهم عليك توكلنا


الجمعة 8 مارس 2019م

خاطرة الجمعة/ ١٧٧
(اللهم عليك توكلنا)

امرأةٌ سُجن زوجُها، ومَرِض ابنُها وارتفعت حرارته جداً، وكانت في بيت أبيها وحالتهم من أفقر ما يمكن، فلم يكن لها ولابنها عونٌ إلا الله؛ فكانت تتوكل عليه وتدعوه عزَّ وجلَّ، وتضع في ذات الوقت الكمادات لابنها لتخفيض حرارته. في منتصف الليل يُطْرَق الباب، فإذا بالباب طبيبٌ يسأل: "أين المريض؟"، فأدخله أبوها؛ ففحص الولد، وكتب له الدواء، وطلب حسابه، وهم لا يدرون من استدعى الطبيب أصلاً! فقالوا له: "واللهِ ما نملك شيئاً"، فغضب وقال: "إذن لماذا تستدعونني في مثل هذا الوقت من الليل؟"، فقالوا له: "والله ما استدعيناك واستغربنا مجيئك!"، فسألهم: "أليس هذا منزل فلان؟"، فقالوا له: "إن منزله في الأعلى". فانتبه الطبيب إلى أن الله عز وجل أرسله إلى هؤلاء الفقراء؛ ليكون بإذنه تعالى سبباً في شفاء ابنهم، سألهم الطبيب عن أحوالهم وعرف منهم أن والد الطفل سجين؛ فقام جزاه الله خيراً بشراء الدواء، وخصص لهم مبلغاً شهرياً إلى أن يخرج عائلهم من السجن. فسبحان الرزاق الكريم الذي يدهشنا عندما نخلص التوكل عليه؛ فهؤلاء كان لسان حالهم يقول: (اللهم عليك توكلنا).

وهذه قصةٌ أخرى من قصص التوكل على الله؛ حيث يُحكى أنه كان هناك ملكٌ عنده وزيرٌ يتوكل على الله في جميع أموره، ويحمد الله على كل حال. في يومٍ من الأيام انقطع للملك أحد أصابع يده وخرج دمٌ غزيرٌ، وعندما رآه الوزير قال: "خير خير إن شاء الله"، فغضب الملك على الوزير، وقال له: أين الخير والدم يجري من إصبعي؟ وأمر بسجنه، فما كان من الوزير إلا أن قال كعادته: "خير خير إن شاء الله"، وذهب إلى السجن. وكعادة الملك في كل يوم جمعةٍ ذهب إلى النزهة وحط رحله قريباً من غابةٍ كبيرةٍ، وبعد استراحةٍ قصيرةٍ دخل الملك الغابة، وكانت المُـفاجأة أن الغابة بها ناسٌ يعبدون صنماً لهم، وكان ذلك اليوم هو يوم عيد الصنم، وكانوا يبحثون عن قربانٍ يقدمونه للصنم، وصادف أنهم وجدوا الملك فألقوا القبض عليه لكي يقدمونه قرباناً إلى صنمهم، لكن حين رأوا إصبعه مقطوعاً قالوا هذا فيه عيبٌ ولا يُستحسن أن نقدمه قرباناً، وأطلقوا سراحه. حينها تذكر الملك قول الوزير عند قطع إصبعه "خير خير إن شاء الله". عندما رجع الملك من الرحلة أطلق سراح الوزير من السجن، وأخبره بالقصة التي حدثت له في الغابة، وقال له فعلاً كان في قطع الإصبع خيرٌ لي، ولكن دعني اسألك سؤالاً: وأنت ذاهبٌ إلى السجن سمعتك تقول "خير خير إن شاء الله" فأين الخير وأنت ذاهبٌ إلى السجن؟ قال الوزير: أنا وزيرك ودائماً معك، ولو لم أدخل السجن لكنت معك في الغابة؛ ولقبض عليّ عَبَدَة الصنم وقدموني قرباناً لآلهتهم فأنا لا يوجد بي عيبٌ؛ لذلك كان دخولي السجن خيراً لي.
أنجاه الله سبحانه وتعالى لأنه من أهل (اللهم عليك توكلنا).

أحبتي في الله .. إنه التوكل على الله حق توكله؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَتوكّل عَلى الله فَهو حَسبهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾. بل وجعل الله التوكل شرطاً لصحة الإيمان؛ فقال سبحانه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وقال موسى عليه السلام لأتباعه: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم تتوكّلونَ على اللهِ حقَّ توكلهِ، لرزقكُم كما يرزقُ الطيرُ، تغدُو خماصًا، وتروحُ بطانا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَرَّه أنْ يَكُونَ أقْوَى النَاسِ فَلْيَتَوكلْ عَلَى اللهِ].
وظهر التوكل على الله في أروع صوره يوم الهجرة، عندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآنا، قال له النبي: [يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟].

التوكل لغةً هو إظهار العجز والاعتماد على الغير. يقال توكل فلانٌ بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلانٍ إذا اعتمدت عليه، ووكّل فلانٌ فلاناً إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه.
يقول أهل العلم أن التوكل على الله عز وجل هو سِمةُ العبد الصادق، وبه أمر الله الأنبياء والمؤمنين، والتوكل: هو صدق اعتماد قلب المسلم على الله سبحانه في استجلاب المصالح، ودفع الضرر من أمور الدنيا والآخرة، وتوكيل جميع أموره إليه، وإيمان العبد إيماناً جازماً بأنه لا يُعطي إلا الله، ولا يَمنع إلا الله، ولا يَنفع غيره سبحانه، ولا يَضر سواه. قيل: "التوكل قوام الإيمان"، وقيل: "غايةُ المؤمن القصوى التوكل"، وقيل: "معنى توكل العبد على الله أن يعلم العبد أنَّ الله هو ثقتهُ". وقيل: "التوكل على الله هو الثقةُ بهِ، والاستسلامُ لأمرهِ، ويقين العبدِ بأنَّ قضاءهُ عليهِ ماضٍ"؛ فالتوكل على الله دليلُ صحةِ إيمان العبدِ وصلاح قلبهِ، وهو اعتراف العبد الكامل بربوبية الله، وتسليمه كل أموره للخالقِ الواحد، المتصرف بجميعِ أمورهِ، والمدبر الوحيد لأحوالهِ، صغيرها وكبيرها. ويكون التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ وهو القادر على نصرة عباده المؤمنين من غير قتالٍ، لكنه مبدأ الأخذ بالأسباب. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رجلاً قد ترك ناقته ببابِ المسجد؛ فسأله رسول الله عنها فقال: أطلقتها وتوكّلت على الله. فقال عليه الصلاة والسلام له: [اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ]. يظن بعض الناس أن التوكل يعني تعطيل الأسباب، لكن تحقيق التوكل لدى العبد لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب، التي قدَّر الله عزّ وجل المقدورات بها، وجرت سنة الله في خلقهِ بذلك، فالله سبحانه وتعالى أمر العبد بالأخذ بالأسباب، كما أمرهُ بالتوكلِ عليه سبحانه، فالسعي في الأسباب يكون بالجوارحِ طاعةً لهُ، والتوكل على الله يكون بالقلبِ إيماناً بهِ سبحانه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾. والمتأمل في قصة موسى عليه السلام لما واجه البحر، وفي قصة مريم عليها السلام لما ولدت، يجد أنهما أُمرا بفعل أدنى سببٍ؛ فموسى أُمر بضرب الحجر، ومريم أُمرت بهز الجذع. ويغفل الكثير من الناس عن التوكل على الله سبحانه وتعالى، ويقفون على الأسباب الظاهرة المحيطة بهم، ويُتعبون أنفسهم بالأخذِ بالأسباب، ويجتهدون غايةَ الاجتهادِ، ومع هذا كله لا يأتيهم إلا ما كتبهُ الله وقدَّرهُ لهم، ولو أنَّهم إلى جانب أخذهم بالأسباب حققوا التوكل على الله سبحانه بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم، مع أدنى وأصغر سببٍ، كما يَسوق للطيور أرزاقها، بمجردِ الغدو والرواح وهو سعيٌ للرزقِ يسير.
يقول العلماء: ليكن عملك هنا ونظرك في السماء. وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيءٍ في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سبباً، ولا أحكم خطةً، ولا سد ثغرةً.
يقول العارفون بالله أن التوكل على الله يتحقق بإيمانِ العبد بأنَّ ما كتب الله سبحانه نافذٌ، وما قدّره الله له كائنٌ، وإن بدت الأمور بعكس ما يريد العبد فعليه الإيمان بأنَّ الله سبحانه قد اختارَ لهُ الأفضل. قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾. ويتحقق التوكل بمعرفةِ المسلم أنَّ بتوكلهِ هذا ينالُ رضا الله سبحانه ومحبته، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ويُجازى المتوكل بالجنة، والتي هي أسمى أماني المؤمن، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. ويتحقق التوكل بشعور العبد بضعفهِ، وفقرهِ، وحاجته لله سبحانه وتعالى، فمهما بلغ من أسباب القوة يبقى ضعيفاً، ويحتاج إعانة الله له في أمور حياته، وفي التغلب على مصائبهِ، وكروبهِ، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾. التوكل على الله يجلب الرزق التوكل على الله يجلب للمسلم الرزق الكثير، فهو يعلم أنَّه لا يضرُّ ولا ينفعُ إلا الله سبحانه، ولا يُعطي ولا يَمنع إلا الله سبحانه، فيتوكل عليه، ويأخذ بالأسبابِ التي تُعينه على ذلك.

أحبتي .. يلخص لنا أحد الصالحين أمر التوكل على الله بكلماتٍ بسيطةٍ؛ يقول: "على المسلم أن يتذكر أن ليس هناك تعارضٌ بين التوكّلِ والأخذ بالأسباب، وعليه أن يأخذ بالأسباب وإن كانت في نظرهِ ضعيفةً أو ليس لها تأثيرٌ، لكنه لا يعتمد بشكلٍ أساسي وقاطعٍ على الأسباب فقط وإنَّما يعتمدُ في البداية والنهاية على الله سبحانه، مع أخذهِ بالأسباب، فالله يُقدّر الأمور بأسبابها".
ونقول نحن: (اللهم عليك توكلنا) فاكتبنا من المتوكلين عليك، المنيبين إليك، الواثقين بقدرتك، الساعين لرضاك، الطامعين في جنتك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/oFVz5z

الجمعة، 1 مارس 2019

مخ العبادة


الجمعة 1 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٦
(مخ العبادة)


هذه قصةٌ حقيقيةٌ ترويها إخصائية اجتماعية في الشؤون الاجتماعية تقول:
وردني ذات يوم بلاغان أحدهما من مكة والآخر من جدة بالعثور على طفلين لقيطين بجوار مسجدين: واحدٌ في جدة وآخر في مكة. تزايد اللقطاء بدار مكة حتى عجزتْ عن الوفاء بخدماتها. وفي الوقت نفسه يسّر الله لأطفال دار جدة من الأسر الحاضنة ما يسمح لي بنقل أطفال مكة إلى جدة. لاحظتُ شبهاً كبيراً بين الطفل القادم من مكة وأحد الأطفال الموجودين في دار جدة؛ فعدتُ إلى تاريخ العثور عليهما، فكان في نفس اليوم مع فارقٍ زمنيٍ قرابة ساعتين! وكانت إسوارة الولادة مازالت على قدم الطفل. بحثنا في المستشفى عن رقم الطفل فوجدنا أنه توأم لآخر، وأمهما غادرت المستشفى مع زوجها.
أخذنا صورةً من الوثائق وعقد الزواج وعنوان الأم كونها غير سعودية. ثم طلبنا من المستشفى مطابقة بصمتي قدم الطفلين فكانت المفاجأة تطابقهما.
أجرينا التحاليل؛ فكانت النتيجة متطابقة. بدأنا رحلة البحث عن الأم فوجدناها شابةً تسكن مع أمها المشلولة وهي وحيدتها، وظهر لنا أن الأم زوّجتْها لرجلٍ من جنسيتهم يعمل في مكة لعدم وجود من يعيلهم. سألتُها: "ألم تنجبي؟"، قالت: "بلى؛ أنجبتُ توأماً من الذكور". فسألتْها: "أين هما؟"، قالت: "أخذهما والدهما لختانهما ولم يرجعهما. بحثتُ عن زوجي فلم أجده وقد أغلق هاتفه. واكتشفنا أن الأب قد غادر البلاد". أخبرنا الأم بوجود طفليها عندنا، وعندما حضرتْ لترى ولديها كانت تجهش بالبكاء وترتجف وتصيح "أولادي أولادي"! حاولتُ تهدأتها، لم تستطع الجلوس على الكرسي وجلستْ على الأرض. ويشهد الله أنه لم يبق أحدٌ في ذلك اليوم لم يبكِ لبكائها. والغريب أن الطفلين جلسا في حضنها بكل استكانةٍ وهدوء! وابتسامةٌ على وجهيهما. وبعد أن استردّت عافيتها سألتُها: "بالله عليكِ، ماذا دعوتِ به حتى حفظ الله لك وليديك وأعادهما إليكِ؟"، قالت: "عندما أخذهما أبوهما للختان قلتُ: استودعكما الله الذي لا تضيع ودائعه، وبعد أن تأخر وأغلق هاتفه أيقنت أنه هرب بهما لبلادنا فكنت أدعو الله قائلة: "يا جامع أم موسى بوليدها اجمعني بأولادي". كنت أبكي بين يدي الله بحُرقةٍ ولم أعلم أن هذا الأب الظالم سيلقي بأبنائي في المساجد في منطقتين متباعدتين"، قلت لها: "لم يخذلْك الله بهذا الدعاء؛ حفظ ولديك بحفظه وأقرّ عينيك بهما". غادرتْنا الأم ذات العشرين عاماً بطفليها وهي غير مصدقةٍ ما حدث!

أحبتي في الله .. كتب أحد العلماء يقول: للدعاء مكانةٌ ساميةٌ، يتجلى فيه إظهار العبودية والتذلل والافتقار إلى الله، وهو أساس العبادة وسر قوتها وروحها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله وهو عالمٌ يقيناً أنه لا أحد يستطيع أن يجلب له خيراً أو يدفع عنه ضراً إلا الله عز وجل. لقد أمرنا الله بالدعاء، حيث قال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وقَال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾. وقال عز وجل في الحديث القدسي: {مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ}. يقول أهل العلم أن عطاء الله لا ينفد، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيزٌ عليه سبحانه وتعالى إذا أراد أن يحققه لك.
أما الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، فلنا معها وقفة تأملٍ؛ حيث نلاحظ أن كل الآيات التي وردت فيها كلمة "يسألونك" في القرآن الكريم يأتي بعدها فعل الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم "قُل"، إلا في هذه الآية؛ حتى لا تكون هناك واسطةٌ بين العبد وبين الله عز وجل، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن الدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ]، وقَال عليه الصلاة والسلام: [الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ]، وقال: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: [اللهُ أَكْثَرُ].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يردد دائماً هذا الدعاء: [اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي].

وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الإعراض عن الدعاء؛ قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾، وقال سبحانه في بقية الآية التي أمرنا فيها بالدعاء ووعدنا بالاستجابة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

يقول العلماء أن الدعاء بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير له عدة مفاتيح، منها: آداب الدعاء التي تكون سبباً للوصول لهذا الخير العظيم إذا اتبعناها ومنها الإخلاص والإلحاح في الدعاء وأن يكون القلب حاضراً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]. وأن نرفع أيدينا ونبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ونختم بذلك؛ فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ]. وعلينا أن نكون موقنين بالإجابة، ولا نستعجلها حيث يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ]. ويتوجب علينا ألا نعلي صوتنا كثيراً في دعائنا بل نخفضه بحيث يكون بين المخافتة والجهر. كما أن علينا أن نخشع في دعائنا ونستحضر عظمة الله ورحمته. ومن المفضل أن نستقبل القبلة وأن نكون على طهارة. فضلاً عن أن يكون مطعمنا ومشربنا وملبسنا طيباً؛ فإن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.
ومن المفاتيح التي يكون الدعاء فيها سبيلاً لتحصيل الخير العظيم أوقاتٌ معينةٌ؛ منها: يوم الجمعة ففيه ساعة إجابة، وليلة القدر، وجوف الليل الأخير، والدعاء بين الأذان والإقامة وبعد كل صلاة، وعند نزول المطر.
كما أن دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مفتاحٌ من مفاتيح الخير؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ].
ومن الأدعية المستجابة بإذن الله؛ دعاء المظلوم، والمسافر، والإمام العادل، والصائم عند فطره، والولد البار بوالديه، والدعاء للمتوفى.
وهناك أماكن مباركةُ يستحب الإكثار من الدعاء فيها مثل: البيت الحرام، والروضة الشريفة. والدعاء عند شرب ماء زمزم، وعند الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، وفي مِنى.
من مفاتيح الخير تكرار الدعاء ثلاث مرات، والتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو بعملٍ صالحٍ يقوم به الداعي نفسه، أو بدعاء رجلٍ صالحٍ له.
ومن توجيهات نبينا الكريم الدعاء في الرخاء والشدة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ؛ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ]، والحرص على رد المظالم إلى أصحابها.

صحيحٌ أن الدعاء هو (مخ العبادة)؛ فليكن دعاؤنا خالصاً خاشعاً لله سبحانه وتعالى، وليكن لسان حالنا يناجي المولى عز وجل ويقول:
بك أستجيرُ ومن يجيرُ سواكا
فأجِرْ ضعيفاً يحتمي بحماكا
إني ضعيفٌ أستعينُ على
قوى ذنبي ومعصيتي ببعضِ قواكا
أذنبتُ يا ربي وآذتني ذنوبٌ
ما لها من غافرٍ إلاكا
دنياي غرتني وعفوك غَرَّني
ما حيلتي في هذه أو ذاكا؟
رباه قلبٌ تائبٌ ناجاكا
حاشاك ترفضُ تائباً حاشاكا
فليرضَ عني الناسُ أو فليسخطوا
أنا لم أعدْ أسعى لغيرِ رضاكا

أحبتي .. اللهم أمرتنا بالدعاء بدعونا، ووعدتنا بالاستجابة فاستجب لدعواتنا. اللهم لا تكلْنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ، عليك اتكالنا واعتمادنا، ولا ملجأ ولا منجىً منك إلا إليك. اللهم ارزقنا الخشوع والإخلاص في الدعاء، وتقبل دعاءنا عبادةً خالصةً لك؛ فالدعاء كما قيل هو بحق (مخ العبادة).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/Jwnj9N

الجمعة، 22 فبراير 2019

في العجلة الندامة


الجمعة 22 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٥
(في العجلة الندامة)

يقول أحد عمال المنازل: كنت أعمل خادماً لدى أحد الشخصيات المرموقة، وكان من عادته أن يستقل سيارته الفارهة كل يوم، وكان واجباً عليّ أن أحييه بالسلام عليه، وكان لا يرد التحية. وفي يومٍ من الأيام رآني وأنا ألتقط كيساً فيه بقايا طعامٍ؛ فقد كانت حالتنا صعبة؛ فنظر إليّ متجاهلاً وكأنه لم يرَ شيئاً. وفي اليوم التالي، وجدت كيساً بنفس المكان ولكن كان الطعام فيه مرتباً وطازجاً جاء من البائع لتوه، لم أهتم بالموضوع، أخذته وفرحت به. وكنت كل يومٍ أجد نفس الكيس وهو مليءٌ بالخضار وحاجيات البيت كاملةً؛ فكنت آخذه، حتى أصبح هذا الموضوع روتينياً. وكنا نقول أنا وزوجتي وأولادي مَنْ هذا الرجل التقي النقي الخفي الذي يتصدق علينا بكيسه كل يومٍ؟! كنت أدعو له وأوصي أولادي بالدعاء له. وفي يومٍ من الأيام شعرت بجلبةٍ في العمارة فعلمت أن السيد قد توفي؛ وكثر الزائرون في ذلك اليوم، ولكن كان أتعس ما في ذلك اليوم أن الرجل الصالح قد نسي الكيس، أو أن أحداً من الزوار قد سبقني إليه!! وفي الأيام التالية أيضاً لم أجد الكيس، وهكذا مرت الأيام دون أن أراه مما زاد وضعنا المادي سوءاً، وهنا قررت أن أطالب السيدة بزيادة الراتب أو أن أبحث عن عملٍ آخر؛ وعندما كلمتها قالت لي باستغراب: " كيف كان المرتب يكفيك وقد صار لك عندنا أكثر من سنتين ولم تشتكِ!! فماذا حدث الآن؟!"، حاولت أن أبرر لها ولكن لم أجد سبباً مقنعاً؛ فأخبرتها عن قصة الكيس، سألتني ومنذ متى لم تعد تجد الكيس؟ فقلت لها بعد وفاة سيدي. وهنا انتبهتُ لشيءٍ: لماذا انقطع الكيس بعد وفاة سيدي مباشرةً؟ فهل كان سيدي هو صاحب الكيس؟ ولكن تذكرتُ معاملته التي لم أرَ منها شيئاً سَيّئاً سوى أنه لا يرد السلام. فاغرورقت عينا سيدتي بالدموع وعلى الفور قررت بأن تصل ما انقطع بعد وفاة زوجها؛ وعاد كيس الخير إلينا مرةً أخرى إلى البيت بذاته، وأستلمه بيدي من ابن سيدي. وكنتُ أشكره فلا يرد علي!! فشكرته بصوتٍ مرتفعٍ فرد عليّ وهو يقول: "لا تؤاخذني فأنا ضعيف السمع كوالدي!".

وهذه قصة طفلةٌ كان لديها تفاحتان، وكانت تمسك كل تفاحةٍ بيد. جاءت أمها وطلبت منها أن تعطيها إحدى التفاحتين، فنظرت الطفلة لأمها بضعة ثوانٍ ثم قضمت إحدى التفاحتين، وبسرعةٍ قضمت التفاحة الثانية. نظرت الأم لابنتها بخيبة أملٍ حيث لم تتوقع هذه الحركة من ابنتها التي تحبها وترعاها. وعندما بدأت الأم بالتوجه بعيداً عن ابنتها فإذا بالبنت تناديها وتعطيها إحدى التفاحتين وهي تقول: "أمي، تفضلي هذه التفاحة؛ فهي الأحلى!".

أما هذه القصة فقد حدثت وقائعها في إحدى الليالي حين جلست سيدةٌ في المطار لعدة ساعاتٍ في انتظار رحلةٍ لها. وأثناء فترة انتظارها ذهبت لشراء كتابٍ وكيسٍ من الحلوى لتقضي بهما وقتها، فجأةً وبينما هي متعمقةٌ في القراءة أدركت أن هناك شابةً صغيرةً قد جلست بجانبها واختطفت قطعةً من كيس الحلوى الذي كان موضوعاً بينهما. قررت أن تتجاهلها في بداية الأمر، ولكنها شعرت بالانزعاج عندما كانت تأكل الحلوى وتنظر في الساعة بينما كانت هذه الشابة تشاركها في الأكل من الكيس أيضاً. حينها بدأت بالغضب فعلاً، ثم فكرت في نفسها قائلة: "لو لم أكن امرأةً متعلمةً وجيدة الأخلاق لمنحتُ هذه المتجاسرة عيناً سوداء في الحال". وهكذا في كل مرةٍ كانت تأكل قطعةً من الحلوى كانت الشابة تأكل واحدة أيضاً. وتستمر المحادثة المستنكرة بين أعينهما وهي متعجبةٌ بما تفعله، ثم إن الفتاة وبهدوءٍ وبابتسامةٍ خفيفةٍ قامت باختطاف آخر قطعة من الحلوى، وقسمتها إلى نصفين؛ فأعطت السيدة نصفاً بينما أكلت هي النصف الآخر! أخذت السيدة القطعة بسرعةٍ وفكرت قائلةً: "يا لها من وقحةٍ، كما أنها غير مؤدبةٍ حتى أنها لم تشكرني". بعد ذلك بلحظاتٍ سمعت السيدة الإعلان عن حلول موعد رحلتها فجمعت أمتعتها وذهبت إلى بوابة صعود الطائرة دون أن تلتفت وراءها إلى المكان الذي تجلس فيه تلك السارقة الوقحة. وبعدما صعدت إلى الطائرة ونعمت بجلسةٍ جميلةٍ هادئةٍ أرادت وضع كتابها الذي قاربت على الانتهاء من قراءته في الحقيبة، وهنا صُعقت بالكامل؛ فقد وجدت كيس الحلوى الذي اشترته موجوداً في تلك الحقيبة، بدأت تفكر: "يا إلهي! لقد كان كيس الحلوى ذاك ملكاً للشابة وقد جعلتني أشاركها به"، حينها أدركت وهي متألمةٌ بأنها هي التي كانت وقحةً غير مؤدبةٍ وسارقةً أيضاً!

وهذا رسّامٌ عجوزٌ كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ، وكان يرسم لوحاتٍ غايةً في الجمال ويبيعها بسعرٍ جيّد. في يومٍ من الأيام أتاه فقيرٌ من أهل القرية وقال له: "أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، لماذا لا تساعد الفقراء في القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزّع كل يومٍ قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء"، لم يردّ عليه الرسام وابتسم بهدوء. خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ ولكنّه بخيلٌ، فنقم عليه أهل القرية. بعد مدّةٍ مرض الرسّام العجوز ولم يُعره أحدٌ من أبناء القرية اهتماماً ومات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجّانياً. وعندما سألوه عن السبب، قال: بأنّ الرسّام العجوز الذي كان يعطيني كل شهر مبلغاً من المال لأرسل لحماً للفقراء، مات فتوقّف ذلك بموته!

وأما هذه القصة فقد حدثت في أحد القطارات؛ حيث يُروى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً مع ابنٍ له يبلغ من العمر 25 سنةً في القطار. وبدا على وجه الشاب الذي كان يجلس بجانب النافذة الكثير من البهجة والفضول؛ أخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي انظر إلى الأشجار تسير وراءنا!"، فتبسم الرجل العجوز متماشياً مع صرخة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتعرف شابٌ في هذا العمر كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً أخرى: "أبي انظر إلى البِركة وما فيها من حيوانات. أبي انظر الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجان من حديث الشاب مرةً أخرى: "أبي إنها تمطر، والماء لمس يدي، انظر يا أبي!"، وفي هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت؛ فسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المستشفى حيث أن ابني قد استرد بصره بعد سنواتٍ طويلةٍ من إصابته بالعمى".

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصص وتلك المواقف بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾، فإذا كنا مطالبين بالتبين والتثبت إذا جاءنا فاسقٌ بنبأٍ فنحن مطالبون من باب أولى بالتبين والتثبت مما نراه نحن بأنفسنا وبأم أعيننا. فالمسلم لا يتسرع في الحكم على الناس، ولا يجعل من المظاهر سنداً للحكم عليهم أو تصنيفهم؛ فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فسألهم النبي: [مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟] قَالُوا: نقول هذا من أشرف الناس، هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ أَنْ يخطب، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لقوله. فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّ رَجُلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟] قَالُوا: نقول والله يا رسول الله هذا من فقراء المسلمين هذا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ لمَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: [لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا].

قال أحد العلماء: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". وقال غيره: "المؤمن وقَّافٌ حتى يتبين". وقال ثالثٌ: "ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هَمَّ بشيءٍ مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعةٍ من غير تأملٍ للعواقب، كان الغالب عليه الندم".

أما علماء النفس فيقولون أنّ الشخصيّة المتسرّعة بالحكم، من دون النّظر إلى الموضوع بشيءٍ من التروّي، تتّصف بالاندفاع، وعادةً ما يندم المتّصفون بالتسرّع بالأحكام، ويقعون في حرجٍ دائمٍ، ما يجعلهم كثيري الاعتذار إلى الآخرين، رغم أن النبي حذرنا من ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ].

كتب أحدهم يقول: كم نسيء الظن بالآخرين ونحن ﻻ نشعر ولا نسأل ولا نستفسر؛ لكي نعرف لماذا يتصرف البعض بطريقةٍ لا نحبها؟ لعل معهم العذر ولا نعرفه. مهما كان حجم خبرتك وعلمك، ومهما كان موقعك ووجهة نظرك، احرص على عدم الاستعجال بالحكم على الأمور، واعطِ الآخرين الفرصة لتوضيح مقاصدهم. كم مرةً حكمنا على آخرين بغير العدل بسبب التسرع في الحكم عليهم أو على أفعالهم؟ علينا أن نفكر مرتين قبل أن نحكم على الآخرين. دعونا دوماً نعطي الآخرين فرصاً كافيةً قبل أن نحكم عليهم بطريقةٍ سيئة. هناك دائماً سببٌ خلف كل شيءٍ غريبٍ، ودائماً سؤالنا "لماذا؟" أفضل من معاتبتنا قبل أن نعرف.

يقول أهل العلم إن العبد ليصعب عليه معرفة نيته في عمله فكيف يتسلط على نيات الخلق؟! في أغلب الأحيان أنت لا ترى سوى جزء من الصورة فتخيل الجزء الآخر بشكل إيجابي كي لا تظلم الناس أو تبخسهم حقوقهم؛ ففتاةٌ تركب بجوار سائق التاكسي والمقاعد الخلفية فارغةٌ، قد تكون زوجة سائق التاكسي، ورجلٌ بلحيةٍ طويلةٍ يمر من أمام المسجد والناس يصلون فيمضي دون أن يدخل للصلاة قد يكون صلى في مسجدٍ آخر، ورجلٌ جلستَ بجانبه في القطار ألقيتَ عليه التحية فلم يرد عليك السلام قد يكون ببساطة لم يسمعك! في أغلب الأحيان أنت لا ترى سوى جزءٍ من الصورة، فتخيل الجزء الآخر بشكلٍ إيجابيٍ لكيلا تظلم الناس ولا تبخسهم حقوقهم.
قال أحد الصالحين: لو رأيتُ أحد إخواني ولحيته تقطر خمراً لقلتُ ربما سُكبت عليه! ولو وجدته واقفاً على جبلٍ وقال: أنا ربكم الأعلى لقلتُ أنه يقرأ آيةً من القرآن الكريم!
أحبتي .. صدق من قال (في العجلة الندامة)، لا نقصد بالطبع السرعة في قيادة السيارات فحسب، بل نتجاوز ذلك إلى أن السرعة في كل شيء غير مرغوبةٍ، إلا بوجود مقتضىً خاصٍ يتطلبها، أما إذا لم يكن هناك مبررٌ منطقيٌ وموضوعيٌ وصحيحٌ لنكون مسرعين فإن الندامة غالباً ما تكون مآل تسرعنا، خاصةً في الحكم على الناس والمواقف. علينا ألا نتسرع في الحكم على الناس فقد نظلم عزيزاً، وقد نرفع رخيصاً. في التأني السلامة و(في العجلة الندامة)؛ فالحق يتأكد بالبحث والتأني، والباطل بالتسرع وعدم اليقين.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الذين يتبينوا ويتثبتوا ولا يتسرعوا ويتعجلوا في الحكم على الناس أو أفعالهم حتى لا نصبح نادمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/nsVZBJ