الجمعة، 15 يناير 2021

دعوة المظلوم

 

خاطرة الجمعة /274


الجمعة 15 يناير 2021م

(دعوة المظلوم)

 

وقعت أحداث هذه القصة العجيبة في «العراق» قبل عدة قرون، ولولا أن راويها من المحدثين الثقاة ما كنتُ صدقتُ نهايتها، قال الراوي:

أردتُ أن أسافر من بلدي «الموصل» إلى بلد «سامراء» لشراء بعض البضاعة، وكانت هناك سفنٌ تسير في نهر «دجلة» بين البلدين تنقل الركاب والبضاعة بالأجرة، فركبتُ إحدى هذه السفن، وسرنا في النهر متجهين نحو «سامراء». وكان في السفينة بعض البضاعة ونفرٌ من الرجال لا يتجاوز الخمسة، وكان النهار صحوًا والجو جميلًا، والنهر هادئًا، والربان يحدو حداءً جميلًا، والسفينة تسير على صفحة الماء سيرًا هادئًا، حتى أخذتْ أكثرنا غفوةٌ من النوم، أما أنا فكنتُ أمتَّع ناظري بمناظر الشطآن الجميلة على جانبي النهر، وفجأةً رأيتُ سمكةً كبيرةً تقفز من النهر إلى داخل السفينة؛ فهجمتُ عليها وأمسكتُ بها قبل أن تعود إلى النهر مرةً أخرى. وانتبه الرجال من غفوتهم بسبب الضجة التي حصلت، وعندما رأوا السمكة قال أحدهم: "هذه السمكة أرسلها الله تعالى إلينا، لِمَ لا ننزل بها إلى الشاطئ، فنشويها ونأكلها، وهي كبيرةٌ تكفينا جميعًا"؟ فأعجبنا رأيه، ووافق الربان على ذلك، فمال بنا إلى الشاطئ ونزلنا واتجهنا إلى دَغَلٍ من الشجر لنجمع الحطب ونشوي السمكة. وما أن دخلنا الدَّغَل حتى فوجئنا بمنظرٍ اقشعرت منه جلودنا، فوجئنا برجلٍ مذبوحٍ وإلى جانبه سكينٌ حادةٌ على الأرض، وبرجلٍ آخر مكتوفٍ بحبلٍ قويٍ وحول فمه منديلٌ يمنعه من الكلام والصراخ، فاندهشنا من هذا المنظر؛ فمن قتل القتيل ما دام الرجل مكتوفًا؟ أسرعنا أولًا فحللنا الحبل ورفعنا المنديل من فم الرجل، وكان في أقصى درجات الخوف واليأس، وعندنا تكلم قال: "أرجوكم أن تعطوني قليلًا من الماء أشربه أولًا"، فسقيناه وبعد أن هدأ قليلًا، قال: "كنتُ أنا وهذا الرجل القتيل في القافلة التي تسير من «الموصل» إلى «بغداد»، والظاهر أن هذا القتيل لاحظ أن معي مالًا كثيرًا، فصار يتودد إليّ ويتقرب مني ولا يفارقني إلا قليلًا، حتى نزلتْ القافلة في هذا المكان لتستريح قليلًا، وفي آخر الليل استأنفت القافلة السير، وكنتُ نائمًا فلم أشعر بها، وبعد أن سارت القافلة، استغل هذا الرجل نومي وربطني بالحبل كما رأيتم ووضع حول فمي منديلًا لكي لا أصرخ، وسلب مالي الذي كان معي، ثم رماني إلى الأرض وجلس فوقي يريد أن يذبحني وهو يقول: إن تركتك حيًا فإنك ستلاحقني وتفضحني لذلك لابد من ذبحك. وكان معه سكينٌ حادةٌ يضعها في وسطه، وهي هذه السكين التي ترونها على الأرض، وأراد سحب السكين من وسطه ليذبحني، لكنها علقتْ بحزامه، فصار يعالجها ثم نترها بقوةٍ، وكان حدها إلى أعلى فخرجتْ بقوةٍ واصطدمت بعنقه وقطعت الجلد واللحم والشريان فتدفق الدم منه، وخارت قواه ثم سقط ميتًا، وحتى بعد موته كنت موقنًا بأني سأموت لأن هذا المكان منقطعٌ لا يأتيه أحدٌ إلا قليلًا، فمن يفكني؟ من ينقذني؟ وصرتُ أدعو الله سبحانه وتعالى أن يرسل لي مَن يُنقذني مما أنا فيه، فأنا مظلومٌ ودعاء المظلوم لا يُرد، وإذا بكم تأتون وتنقذونني مما أنا فيه، فما الذي جاء بكم في هذه الساعة إلى هذا المكان المنقطع"؟ فقالوا له: "الذي جاء بنا هو هذه السمكة"، وحكوا له كيف قفزتْ من الماء إلى السفينة، فأتوا بها إلى هذا المكان لكي يشووها ويأكلوها، فتعجب من ذلك وقال: "إن الله سبحانه وتعالى قد أرسل هذه السمكة إليكم لكي يجعلكم تأتون إلى هذا المكان وتخلصونني مما أنا فيه، والآن إنني تعبٌ جدًا، أرجوكم أن تأخذونني إلى أقرب بلدة". فصرفوا النظر عن شي السمكة وأكلها وأخذوا الرجل بعدما حمل معه المال الذي سلبه الرجل الآخر منه، وعادوا به إلى السفينة، وما أن وصلوا السفينة حتى قفزتْ السمكة إلى الماء وعادت إلى النهر مرةً أخرى، فكأنما قد أرسلها الله سبحانه وتعالى حقًا لتكون سببًا في إنقاذ الرجل المظلوم، وهكذا إذا أراد الله تعالى شيئًا هيَّأ أسبابه.

 

أحبتي في الله .. إنها (دعوة المظلوم)؛ يقول الله سبحانه وتعالى عنها: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، قال المفسرون في معنى هذه الآية: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على مَن ظلمه مِن غير أن يعتدي ويتجاوز في الدعاء، وإن صبر فهو خيرٌ له.

وقال عنها النبي عليه الصلاة والسلام: [اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ]، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ].

قال العلماء إن (دعوة المظلوم) معناها إنه إذا ظلمك أحدٌ فدعوتَ الله عليه استجاب الله دعاءك؛ لأن الله حكمٌ عدلٌ، والمظلوم لابد أن يُنصَف له من الظالم، فالمظلوم دعوته مستجابةٌ، إذا دعا على ظالمه بمثل ما ظلمه أو أقل، أما إن تجاوز فإنه يكون معتدياً فلا يُستجاب له. وقالوا إن أثر (دعوة المظلوم) في حق الظالم قد لا يظهر في الحال، لكون المجيب سبحانه وتعالى حكيماً. كما قالوا إن من عواقب الظلم أن لكل ظالمٍ وإن أجَّل الله عقابه في الحياة الدنيا جزاءٌ يوم الحساب، يأتي به ويأتي بالمظلوم ويُقتص من الظالم شر القصاص، وجزاؤه نار جهنم حيث لا ينفعه مالٌ ولا بنون، فلا يتهاون الإنسان في ظلمه، وإن كان بشيءٍ بسيطٍ لكنه هو عند الله ظلمٌ كبيرٌ للنفس وللغير. كما أن انتشار الظلم سببٌ لهلاك الأمم؛ إذ يصبح الكل مشغولاً بأمر الظالم والمظلوم، الظالم يتمادى ويتكبر، والمظلوم يُصبح مغلوباً على أمره همه الشاغل هو الخلاص مما هو فيه من ظلم، أما نهضة الأمة فتبقى معلّقةً إلى أن يشاء الله ويحكم في الأمر. و(دعوة المظلوم) تعهد الله سبحانه وتعالى بقبولها؛ لأن الله عدلٌ لا يرضى على نفسه الظلم ولا يحبه لعباده. ومن عواقب انتشار الظلم حلول المصائب والبلاء الشديد في الدنيا؛ فالظالم الطاغي المتكبر إن لم يَتُبْ إلى الله ويعترف بذنبه ويُقلع عنه ويرد الحقوق إلى أصحابها، فإن الله يبتليه في ماله وأولاده وصحته، وكل ما يُنعم به عليه، علّه يتعظ ويتوب إلى الله. ورغم كل عواقب الظلم فإن باب التوبة مفتوحٌ للجميع، ولكن على الإنسان أن يلتزم بشروط التوبة النصوح ليعفو الله عنه ويتقبل توبته.

يقول الشاعر:

لا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا

فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَمِ

تَنَامُ عَيْنُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ

يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ

 

وعن تأخر إجابة (دعوة المظلوم) وغيرها مما يدعو به المسلم يقول أحد العلماء: على كل مسلمٍ إذا تأخرت إجابة دعائه أن يعلم أن الله عزَّ وجلَّ حكيمٌ عليمٌ؛ قد يؤخر الإجابة ليكثر دعاؤك، وليكثر إبداء حاجتك إلى ربك، ولتتضرع إليه، وتخشع بين يديه، فيحصل لك بهذا من الخير العظيم والفوائد الكثيرة وصلاح قلبك ورقة قلبك ما هو خيرٌ لك. وقد يؤجل الإجابة، فإذا تأجلت فلا تلم ربك ولا تقل: لماذا يا رب؟! ارجع إلى نفسك وانظر فلعل عندك شيئاً من الذنوب والمعاصي كانت هي السبب في تأخير الإجابة، عليك أن تنظر في أعمالك وسيرتك حتى تُصلح من شأنك؛ فتستقيم على أمر ربك، وتعبده على بصيرةٍ، وتمتثل أوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتقف عند حدوده. ثم اعلم أنه سبحانه قد يؤخر الإجابة لمدةٍ طويلةٍ كما أخر إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف عليه، وهو نبيٌ عليه السلام. وقد يؤخر سبحانه الإجابة ويدخرها لك إلى يوم الحساب، أو يصرف عنك من الشر مثلها؛ كما جاء في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قالوا: يا رسول الله، إذاً نُكثر، قال: [اللَّهُ أَكْثَرُ]، فعليك بحسن الظن بالله، وعليك أن تستمر في الدعاء وتُلح فيه. وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: [لا يزَالُ يُسْتَجَابُ لِلعَبْدِ مَا لَم يدعُ بإِثمٍ، أَوْ قَطِيعةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتعْجِلْ] قِيلَ: يَا رسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: [يَقُولُ: قَدْ دعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَم أَرَ يَسْتَجِيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْد ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ]، فلا ينبغي لك أن تستحسر، ولا ينبغي لك أن تَدَعْ الدعاء، بل الزم الدعاء واستكثر منه وألح على ربك وتضرع إليه، وحاسب نفسك، واحذر أسباب المنع من المعاصي والسيئات، وتحر أوقات الإجابة كآخر الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي آخر الصلاة قبل السلام، وفي السجود، كل هذه من أسباب الإجابة.

 

أحبتي .. الأصل أن يبتعد كلٌ منا عن الظُلم أياً كان كثيراً أو قليلاً، فلا يَظلِم؛ فإن عاقبة الظلم وخيمة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾، ويقول: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم فيقول: [إيَّاكم والظُّلمَ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ].

فإذا كان أحدنا ظالماً فليبادر إلى التوبة، ويتوقف عن الظلم فوراً، ويرد المظالم إلى أهلها؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ]، وليتقِ الظالم (دعوة المظلوم). كما أن على كلٍ منا ألا يرضى الظلم لغيره، وألا يسكت على ظلمٍ يراه؛ يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم آمراً كل مسلم: [انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلومًا]، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنصرُه إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: [تَحْجِزُه، أو تَمْنَعُه مِنَ الظُلْمِ فَإنَّ ذَلِكَ نَصْرُه]، من يعلم؟ قد تكون أنت بنصرك لمظلومٍ كما كانت السمكة لذلك الرجل الذي ذكرناه في قصتنا!

اللهم لا تجعلنا من الظالمين، وأعِّنا على التوقف عن كل ظلمٍ اقترفناه، ويسِّر لنا أن نمنع الظلم عن أنفسنا وعن غيرنا، وألا نقبل بأن ينتشر بيننا.

اللهم اهدِ الظالمين منا ليتوبوا توبةً نصوحاً ويردوا المظالم إلى أهلها ﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، وإن لم يتوبوا وظلوا سادرين في غِيهم فاستجب اللهم لدعوات المظلومين، وأرنا في الظالمين عجائب قدرتك.

https://bit.ly/3oZNPUp

الجمعة، 8 يناير 2021

قصة «بلقيس»

 

خاطرة الجمعة /273


الجمعة 8 يناير 2021م

(قصة «بلقيس»)

 

«بلقيس» شابّةٌ نصرانيةٌ إفريقيةٌ، قدمت من بلادها «النيجر» إلى مدينة «جدة» مع عصابة لتهريب المخدرات تتكون من ثلاثة رجال وامرأتين. تم القبض – ولله الحمد – على هذه العصابة، وصدر الحكم القضائي بالقصاص للرجال الثلاثة، أما المرأتان بلقيس وزميلتها فقد صدر الحكم عليهما بالسجن لمدة عشرين سنة، والتفريق بينهما؛ أُودعت زميلتها في سجن «جدة» أما «بلقيس» فقد أُودعت في سجن «الرياض» لأمرٍ قد قُدِر! في سجن النساء كانت بلقيس تتصف بالعدوانية وسلاطة اللسان، الكل يتحاشاها، فعاشت منبوذةً من الجميع. كانت إدارة السجن تنقلها من مكانٍ إلى آخر عندما تتشاجر مع النزيلات حتى استقر بها المقام في قسم السيريلانكيات إذ أن هذه الجنسية تميل إلى الوداعة والهدوء والحِلم. ومن فضل الله سبحانه أن إدارة التوعية الإسلامية بالسجن قد وفرت كتب التعريف بالإسلام للسجينات بجميع اللغات تقريبًا. وفي يومٍ ما طلبت إحدى السجينات السيريلانكيات النصرانيات من المسؤولة الدينية في السجن كتبًا عن الإسلام بلغتها، وكالعادة تبقى الكتب الدينية مع السجينة يومين أو ثلاثة ثم تُعطى لأخرى وهكذا، لكن هذه السجينة رفضت إعادة الكتب، وبقيت عندها أسبوعًا كاملاً، وهي تقرأ وتعيد وكأن كنوز الأرض بين يديها، جاءت المسؤولة الدينية وطلبت تسليم الكتب، فرفضت للمرة الثانية؛ فما كان من المسؤولة إلا أن أخذت الكتب منها بالقوة. طوال الليل، وبكاء السجينة لا ينقطع، و«بلقيس» تُراقب الحدث، وقد عجبت من بكائها وإصرارها على بقاء الكتب عندها، وجال في خاطرها أنه لابد أن وراء هذه الكتب سرًا! ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾.

في الصباح طلبت «"بلقيس» من المسؤولة الدينية كتبًا عن الإسلام بلغتها؛ قرأت وقرأت وأحست بشعورٍ غريبٍ من الراحة والسعادة، والرغبة القوية في اعتناق الإسلام، تلك النفس الهائجة وجدت سكنًا لحيرتها، وريًّا لروحها المقفرة؛ فكانت المفاجأة!

أعلنت «بلقيس» إسلامها، وغيّرت اسمها القديم إلى هذا الاسم، فرح الجميع لها فرحًا عارمًا. سبحانه إذا أراد أمرًا هيأ له أسبابه! إنه تدبير العليم الحكيم؛ لقد قاد بكاء تلك السجينة السيريلانكية إلى قراءة «بلقيس» لكتب التعريف بالإسلام ثم اعتناقه!

وكَمْ للهِ منْ تدبيرِ أمرٍ

طَوَتْهُ عن المُشاهدةِ الغيوبُ

حدثٌ لا يستطيع القلم أن يسطّره، ولا اللسان أن يصفه. رحلةٌ من ظُلمة الكفر إلى نور الإسلام، من تيهٍ إلى أمان، من موتٍ إلى حياةٍ حقيقيةٍ وجنةٍ عاجلةٍ، تغيّرت طباع «بلقيس» وتحولت من امرأةٍ عدوانيةٍ إلى امرأةٍ مسالمةٍ هادئةٍ؛ فكما قال صلى الله عليه وسلم: [الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ].

التحقت «بلقيس» بمدرسة القرآن الكريم، وحفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم، وحرصت على تعلّم أحكام الدين، ذاقت طعم الحياة الحقيقية، ذاقت طعم السعادة، وصدق الله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وما أجمل ما قال ابن تيمية: المحبوس مَنْ حَبِسَ قلبه عن ربّه، والمأسور من أسره هواه. وقال صلى الله عليه وسلم: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]. لما أنقذ الله سبحانه «بلقيس» من ظلمات الكفر، وقد تجرّعت غصّته، وخاضت وَحْلَه؛ أشفقتْ على غير المسلمات في السجن، فبذلت جهدها في عرض صورة الإسلام وسماحته وعدله ورحمته عليهن، إضافةً إلى أنها تملكُ أُسلوبًا قويًا مؤثرًا جذّابًا؛ فأسلم على يديها الكثير.

قامت إدارة السجن بتكريم للمسلمات الجدُد اللاتي أسلمن على يد «بلقيس»، وداعيةٍ أخرى، عجبتُ من هذه المرأة المسلمة الوديعة كيف كانت عدوانيةً قبل إسلامها كما ذُكر لي، وكيف أصبحتْ الآن بفضل الله ثم بدخولها في هذا الدين العظيم. عجبتُ من سمتها وهديها وبهاء وجهها. ولا غرو؛ فنور الإيمان يُبدّد ظلمات الكفر، ويجلب الفلاح في الدين والدنيا.

وجاء العفو، كان الحكم القضائي على «بلقيس» عشرين عامًا، كانت أوائل سنوات سجنِها جحيمًا لا يُطاق: كفرٌ وضلالٌ، وعدوانيةٌ وظلمٌ ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾. جاء العفو الملكي وشمل «بلقيس» مع بعض السجينات، فقد أُعطيتْ نصف المحكومية عشر سنوات لحسن إسلامها وحفظها ستة أجزاء من القرآن وحُسن خلقها.

عادت «بلقيس» إلى بلادها (النيجر) داعيةً إلى الله، وافتتحت هناك مدرسةً لتحفيظ القرآن الكريم، سبحان مقلّب القلوب، ومُصرّف الأحوال، مدبّر الأمور، يهدي من يشاء بحكمته؛ لبثت في السجن بضع سنين؛ أسلمت وأسلم على يديها الكثير، وحفظت ستة أجزاء من القرآن الكريم، وتعلمت الكثير من أحكام الدين. يقول تعالى: ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾؛ لقد خرجت «بلقيس» من بلدها نصرانيةً مجرمةً بجريمة تهريب المخدرات، وعادت إلى بلادها مسلمةً وداعيةً إلى الله!

كانت هذه (قصة «بلقيس») نقلتها مختصرةً من كتاب "صالحات عرفتهن" للكاتبة السعودية/ شيخة القاسم.

 

أحبتي في الله .. كفاني التعليق على هذه القصة المؤثرة، ما كتبه أحد العلماء عن أربعة أسباب لاعتناق غير المسلمين للإسلام، كتب يقول: ننظر أحيانًا لكثيرٍ من النعم التي رزقنا الله إياها على كونها أمورًا مسلَّمًا بها، وربما يكون على رأسها إسلامنا، ثم لا يلبث يتذكر بعضنا هذه النعمة ويشكرها حين يسمع قصة أحد المسلمين الجدد، ويحمد الله عليها، فالواقع أننا ﴿مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾. بيد أنه من المثير للرثاء من جهةٍ أخرى، أن نجد مسلمين يتغافلون عن تطبيق بعض أحكام الدين، بل وأحيانًا يقومون بشن الهجوم على الأمور التي أدت إلى إسلام الملايين من غير المسلمين حول العالم! إن البحث عن النفس من أكثر الأسباب شيوعًا لإسلام غير المسلمين؛ ويبدو ذلك في رغبة معظمهم معرفة الهدف وراء الحياة، فأسلوب حياتهم المادي في الغرب، والغرق في ملذات الدنيا يبعث في نفوسهم ــ مع الوقت ـ شعورًا بالتعاسة والحيرة، والرغبة في عيش حياةٍ لها معنىً وهدفٌ ورسالة. ومع بحثٍ دؤوبٍ ومستمرٍ، يجد معظمهم هذا في الإسلام. وفي المقابل، نجد كثيرًا من المسلمين، بلا هويةٍ ولا هدفٍ، وحين يلجأ بعضهم للبحث، نراهم يلجأون لفلسفات ومراجع الغرب في النفس والحياة، والتي دحضها الإسلام بدليلٍ مقنعٍ، وجاء بخيرٍ منها. سببٌ آخر هو الطمأنينة عند سماع القرآن؛ ويحدث هذا الأمر مع غير المسلمين بشكلٍ ملحوظٍ سواءً صدفةً أو عمدًا. فبعضهم يقرأ في القرآن خصيصًا ليهاجم به المسلمين، ولكن سرعان ما ينقلب السحر على الساحر، وتكون النتيجة أن يعتنق هذا الشخص الإسلام. والمؤسف في المقابل أن نجد العديد من المسلمين، الذين يحرصون على سماع الأغاني والألحان بصورةٍ يوميةٍ ولوقتٍ طويلٍ، من باب إراحة النفس والبال وتجديد النشاط والفكر! سببٌ ثالثٌ، الصلاة؛ تجد فتاةً أسلمت حين رأت مسلمةً تُصلي، مبررةً ذلك بأنها رغبت هي الأخرى في الصلاة، لتتمكن من الحديث مع الله جلَّ وعلا بصورةٍ مباشرة! كما تجد أحد المسلمين الجدد وقد علق على صلاة الجماعة، بكونها أمرًا خارقًا؛ فما إن يكبر الإمام للصلاة حتى يصبح جميع المصلين مصطفين جنبًا إلى جنبٍ بصورةٍ تلقائيةٍ شديدة التنظيم، وكل هذا في ثوانٍ معدودة! وهنا يتيقن ذك الرجل غير المسلم أنّ هذا الدين الذي يجمع الناس من كافة الطبقات الاجتماعية، ومن مختلف الأجناس والأعراق والألوان، لا ريب أنه دينٌ مميزٌ ورائع! فكان أن أعلن إسلامه. والسؤال المؤلم الذي يطرح نفسه هو: تُرى كم عدد المسلمين الذين ما عادوا يحرصون على أن يكونوا جزءًا من ذلك الصف المُعْجِز؟! أما السبب الرابع فهو حجاب المرأة وإنصاف الإسلام لها؛ إذ أثبتت الكثير من الدراسات والإحصائيات أن العدد الأكبر من معتنقي الإسلام خاصةً في الولايات المتحدة وبريطانيا هم من النساء، وأن الحجاب يُعتبر من الأسباب الرئيسية وراء إسلام الكثير منهن في الغرب؛ حيث يرجع هذا الأمر للاستغلال الذي تتعرض له المرأة، نتيجة العُري والتبرج. وتكمن المشكلة حقيقةً في الكم الهائل من النساء والرجال المسلمين، الذين يُعدون في أحيانٍ كثيرةٍ من الطبقة المثقفة، فيتشدقون بحرية المرأة في الغرب، والكبت الذي تعاني منه المرأة في ظل الدين الإسلامي! حتى إن أحدنا ليجد نفسه عاجزًا عن الرد، لا جهلًا بالجواب، ولكن استخفافًا بعقلية المتكلَّم الرجعية غير العالمة بما تهذي! ونُصدم بحال كثيرٍ من المسلمات في عالمنا العربي اللاتي يهاجمن الحجاب ويصمونه بالرجعية، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة النساء والفتيات اللاتي يخلعن الحجاب بعد سنين من ارتدائه دون أية أسباب وجيهة، في الوقت الذي تعاني فيه المسلمات الجدد الأمرَّين في مجتمعاتهن وأوساط عملهن بسبب ارتدائهن للحجاب، ومع ذلك يأبين خلعه!

 

من المؤكد أن (قصة «بلقيس») لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة بإذن الله، فالإسلام ينتشر بين كثيرٍ من الغربيين؛ يقول أحد المختصين إنه ضمن حوالي مائة ألف أوروبي اعتنق الإسلام، نجد مجموعةً من المثقفين، بما يُفيد أن الإسلام لم يعد مقتصراً على الدوائر الضيقة من بعض الفئات الاجتماعية العادية، بل صار يتغلغل داخل أوساط النخبة الغربية المثقفة. فخلال العقود الثلاثة المنصرمة دخل الإسلام العديد من المفكرين والمثقفين من أدباء وفنانين وفلاسفة ومفكرين وأساتذة جامعات وسياسيين، منهم على سبيل المثال: الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، العالم والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، الكاتب النمساوي محمد أسد، الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان، المغني الإنكليزي السابق كات ستيفن «يوسف إسلام»، الداعية الإسكتلندي عبد القادر الصوفي، الكاتبة الأمريكية مريم جميلة، الدبلوماسي الإنكليزي غي إيتون، المستشرق الإنكليزي مارتن لنغز، الباحث البلجيكي عمر فان دنبروك، المحامي الكاتب أحمد ثومسون، الباحثة الإنجليزية هدى خطاب، الكاتبة الإنجليزية عايشة بويلي، الكاتبة الأسترالية جميلة جونز، الأنثروبولوجي الألماني أحمد فون دينفر، أستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ، الكاتبة الأمريكية بربارا براون، الإنكليزية سوزان حنيف، الباحثة الإنكليزية رقية وارث مقصود، الباحث الهولندي هندريك خيل، الكاتبة الهولندية ساجدة عبد الستار، الإعلامي والكاتب الهولندي عبد الواحد فان بومل، وآخرون كثيرون ينتشرون على امتداد القارة الأوروبية. ويُلاحظ أن مجمل هؤلاء يساهمون في تطوير الفكر الإسلامي عموماً من خلال كتاباتهم ومقالاتهم ومحاضراتهم وندواتهم التي يقيمونها ويتحدثون فيها بلغاتهم الأوروبية إلى جمهور أوروبي أو مسلم. ويناقشون ويكتبون في مختلف القضايا والعلوم الإسلامية كالسيرة والحديث والتفسير والسنة والفقه الإسلامي. واللافت أن بعض هؤلاء يعترضون على عبارة “اعتناق” ويفضلون بدلها لفظة العودة إلى الإسلام؛ لأنهم يعتقدون أنهم رجعوا إلى الحالة الإنسانية الأصلية أي الفطرة السليمة؛ فالإنسان يولد على الفطرة السليمة أي الإسلام ولكن البيئة والتربية تجعله يؤمن بدين والديه ومجتمعه.

 

أحبتي .. في الختام، دعونا نشارك أهل العلم الرأي في أنه من الواجب علينا كمسلمين، حين نسمع إحدى قصص المسلمين الجدد، مثل (قصة «بلقيس») أن نضيف إلى شعورنا بالغبطة، ورغبتنا في الشكر والدعاء والحمد على نعمة الإسلام، مرحلة التطبيق العملي؛ من خلال الأمر بالمعروف قولًا، وتطبيق الفرائض فعلًا، كيلا نغدو [غُثَاء كَغُثَاءِ اَلْسَيْل] كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ينتهي معظمنا إلى أن نكون مسلمين بالاسم فحسب!

وعلينا - كما تقول كاتبة (قصة «بلقيس») - ألّا نيأس من هداية أحد، ولا نقنط من روح الله، فالقلوب بيد الله وحده، قال صلى الله عليه وسلم [إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ].

اللهم رُدنا إلى دينك رداً جميلاً، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، واهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://bit.ly/38qjgB9

 

الجمعة، 1 يناير 2021

الاشتغال بالدنيا

 

خاطرة الجمعة /272


الجمعة 1 يناير 2021م

(الاشتغال بالدنيا)

 

هذه قصةٌ من أعجب القصص التي سمعتُها في حياتي .. حقيقةً، هذه قصةٌ غريبةٌ ولولا صدق راويها لظننتُ أنها محض خيالٍ، لكنها ظريفةٌ ممتعةٌ، لهذا حكيتها لكم.

هكذا كتب ناشر القصة، واستطرد يقول: يخبرنا الشيخ علي الطنطاوي بأن في هذه القصة من الطرافة أكثر من المنفعة منها، وهي واقعةٌ يعرف أشخاصها وظروفها؛ فقال رحمه الله تعالى:

هي قصة شابٍ فيه تقىً وفيه غفلةٌ، في آنٍ واحد؛ طلبَ العلم، حتى أصاب منه حظاً، قال الشيخ له ولرفاقه: لا تكونوا عالةً على الناس، فإن العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ، فليذهب كل واحدٍ منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتق الله فيها. ذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك ذهب إلى رحمة الله، فما لك وللصنعة التي كان يشتغل بها؟ اذهب وتعلم أية صنعةٍ ودعك من صنعة أبيك. فألح عليها وهي تتملَّص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام أخبرته وهي كارهةٌ إن أباه كان لصاً. فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كلٌّ بصنعة أبيه ويتقي الله فيها. قالت الأم بحسرة: ويحك! وهل في السرقة تقوى؟ وكان في الولد ـ كما قلتُ - غفلةٌ، فقال لها: هكذا قال الشيخ. ثم ذهب فسأل وسأل وتابع السؤال ودرس وراقب والتقط الأخبار حتى عرف الطرق والوسائل التي يسرق بها اللصوص، فأعد عدة السرقة، وصلى العشاء، وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ. فبدأ بدار جاره، ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى إيذاء الجار، فتخطى هذه الدار. ومر بأخرى فقال لنفسه: هذه دار أيتام، واللهُ حذَّر من أكل مال اليتيم. ومازال يمشي حتى وصل إلى دار تاجرٍ غنيٍ ليس له إلا بنتٌ واحدةٌ، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته. فقال: ها هنا، وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها ففتح ودخل، فوجد داراً واسعةً وغرفاً كثيرةً، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهَّم بأخذه، ثم قال: لا، لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤدِ زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً. وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح يراجع الدفاتر ويحسب ـوكان ماهراً في الحساب خبيراً بإمساك الدفاترـ فأحصى الأموال وحسب زكاتها فأزاح مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعاتٌ، فنظر فإذا هو الفجر، فقال: تقوى الله تقضي بالصلاة أولاً وخرج إلى صحن الدار، فتوضَّأ من البِركة وأقام الصلاة، فسمع رب البيت، فنظر فرأى عجباً، فانوساً مضيئاً، ورأى صندوق أمواله مفتوحاً ورجلاً يقيم الصلاة فقالت له امرأته: ما هذا؟ قال والله لا أدري! ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضأْ ثم تقدمْ فصلِّ بنا، فإن الإمامة لصاحب الدار!! فخاف صاحب الدار أن يكون مع اللص سلاحٌ ففعل ما أمره به، والله أعلم كيف صلى!! فلما قُضيت الصلاة قال له التاجر: أخبرني من أنت وما شأنك؟ قال: لص. قال: وما تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تُخرجها من ست سنين، وقد حسبتها وفرزتها لتضعها في مصاريفها. فكاد الرجل يُجَنُّ من العجب، وقال له: ويلك، ما خبرك؟ هل أنت مجنون؟ فأخبره خبره كله. فلما سمعه التاجر ورأى جمال صورته وضبط حسابه، ذهب إلى امرأته فكلمها، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوجتك ابنتي وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأمك في داري، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبلُ. وأصبح الصباح فدُعي بالمأذون وبالشهود وعُقد العقد!

يقول الشيخ: وهذه قصةٌ واقعيةٌ ليت للكثير فقه هذا اللص دون غفلته، فالمشكلة أن للكثيرين الغفلة من غير تقوى، والله مصيبة!

 

أحبتي في الله .. إلى جانب ما في هذه القصة من طرافةٍ، فإن بها معنىً جميلاً لخصته عبارة الشيخ حينما قال: "العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ"؛ ذلك أن همه صار الانشغال و(الاشتغال بالدنيا) والركون إليها كما لو كانت هي الحياة، والله سبحانه وتعالى ينبهنا في غير موضعٍ إلى عكس ذلك تماماً؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، وفي وقت الندم يوم الحساب يقول المقصر: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ فالآخرة هي الحياة الأزلية الدائمة ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

و"العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ" لأنه اعتمد في أمر معيشته على أبناء الدنيا، يدور في فلكهم، ويواكب هواهم، فيفقد استقلاليته وينتقص من كرامته، ويصبح من الصعب عليه أن يقول قولة حقٍ. يصير خوفه من انقطاع رزقه من أبناء الدنيا أكبر من خوفه من انقطاع صلته برب الدنيا وما فيها! يسعى لتأمين رزقه، وينسى -أو يتناسى- أن يؤمن نفسه مع الرزاق ذو القوة المتين! يهتم برضا الناس في كل لحظةٍ أما رب الناس فهو غفورٌ رحيم! ولو أن العالِم التقي الورع اعتمد في كسب معاشه على نفسه لصار نزيهاً لا تحركه المصالح ولا الأهواء، ولتغير حال أمتنا؛ فبصلاح العلماء يكون صلاح الأمة كلها.

 

بالطبع؛ ليس كل عالِم يعمل في وظيفة يتقاضى عنها أجراً هو من هذا النوع الذي أشرنا إليه، لكن البعض -وإن كانوا قلةً- يسعى لدنيا يصيبها؛ فيفقد استقلاليته وحريته وقدرته على التعبير والتغيير، وقد يكون سبباً في فساد الكثيرين من العامة. بعض هؤلاء العلماء يتم شراؤه بمنصب، وبعضهم بمرتبٍ عالٍ وبدلات وعلاوات، وبعضهم كل أمله أن يحصل على رضا المسئولين ونظرة عطفٍ منهم، وربما أصبح غاية مناه أن يسمع ممن يعمل لديهم أو لحسابهم مجرد كلمة ثناءٍ عليه. هذا النوع من العلماء مد يده إلى أبناء الدنيا، باع كرامته وفقد مصداقيته حين صارت الدنيا هي شغله الشاغل وربط مصلحته الدنيوية بمصالح غيره من البشر على حساب الأنفة وعزة النفس التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء حتى يستطيعوا أن يقولوا كلمة الحق لا يمنعهم عنها سلطانٌ جائرٌ ولا يخافون في الله لومة لائم.

العالِم الذي يمدُّ يده إلى أبناء الدنيا لا يكون فيه خيرٌ؛ لأنه الأكثر علماً والأفضل فهماً والأعلى مقاماً من غيره؛ يسمع العامة لكلامه ويتبعونه، ويتلمسون أفعاله وتصرفاته لتكون قدوةً لهم، من هنا كانت مسئوليته أشد وحسابه أدق.

 

وماذا عنا نحن، المسلمون العاديون ونحن لسنا علماء، هل يتوجب علينا ترك الدنيا بالكلية؟ هل ينبغي علينا عدم (الاشتغال بالدنيا)؟ قرأتُ تعليقاً كتبه أحد الأفاضل فيه إجابةٌ عن هذا السؤال جاء فيه: (الاشتغال بالدنيا) من أسباب مرض القلوب، عندما يكون هذا الاشتغال مقدماً على الدين؛ فنحن لا نقول الدنيا حرام، ولا نقول للناس لا تبنوا بيوتاً ولا تشتروا سياراتٍ ولا تتزوجوا، هذا لا يقوله أحدٌ من العلماء، وإنما نقول: يا أيها المسلمون أعدوا العدة للقاء الله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾. أترضى أخي المسلم أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زادٍ؟ فما هو زادك عند الله عزَّ وجلَّ؟ إن غلبة الانصراف إلى الدنيا، وإعطاؤها كل الاهتمام والساعات الطويلة ليل نهار، وجعل دقائق معدودةً للدين، هذا من أسباب مرض القلوب -والعياذ بالله- وحين يُصبح القلب مريضاً، تجد صاحبه لا يرتاح للذكر في المجالس، يريد أن تحدثه عن العقار، عن البيع والشراء، عن الشركات السياحية، عن الصرافة، عن الأسعار، عن الأشجار، وعن الأخبار، لكن الدين لا يريدك أن تحدثه عنه، وهذا من غفلة القلب ومن الإقفال عليه ومن إعراضه عن مولاه سبحانه وتعالى؛ يقول تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.

يقول أهل العلم إن طريق الدنيا والآخرة طريقٌ واحد، وأن طريق العبد المؤمن في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة، فلا تعارض بين الدنيا والآخرة؛ إن مسألة الكسب وتحصيل المال لإنفاقه على النفس وسد الحاجة مطلبٌ شرعيٌ، وليست قضيةً دنيويةً مجردةً، إذ يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة أجرٌ وثوابٌ في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.

مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ] وفي الحديث فضل الغرس، والزرع، والحض على عمارة الأرض.

لقد قدم لنا الصحابة رضي الله عنهم نموذجاً عملياً للجمع بين الدنيا والآخرة، كانوا في قمة الدِين، وكانوا يُحصِّلون الدنيا في ذات الوقت.

والنية أمرٌ في منتهى الأهمية هنا؛ فلو أن تاجراً يقصد بتجارته وجه الله، لا الأشر ولا البطر، ولا التفاخر، ولا التكاثر، ويقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والإنفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله، يكون قد أصاب خيري الدنيا والآخرة. بل إن الإنسان إذا لم ينوِ بعمله الدنيوي وجه الله، فإنه يفقد أجراً عظيماً كان يمكنه تحصيله لو أنه احتسب الأجر على أعمال الدنيا وأراد بطعامه ونومه وإتيانه اللذات المباحة التقَوّي على أعمال الآخرة.

الفارق في الموضوع هو النية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ].

والآيات التالية تلخص هذا الأمر بوضوح؛ يقول تعالى: ﴿.. فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.

 

أحبتي .. (الاشتغال بالدنيا) ليس خطأً في حد ذاته، إنما الخطأ أن تشغلنا الدنيا عن الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، كما يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. إنه الفهم الصحيح للحياة، والموازنة الدقيقة بين أعمال الدنيا وأعمال الآخرة، وعقد النية بإخلاصٍ على أن تكون أعمالنا للدنيا سبيلاً إلى رضا الله سبحانه وتعالى، واعتبار الدنيا مزرعةً للآخرة.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنّة هي دارنا وقرارنا. اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.

 

https://bit.ly/3mYL0kw

الجمعة، 25 ديسمبر 2020

إِلْف النعم

 

خاطرة الجمعة /271


الجمعة 25 ديسمبر 2020م

(إِلْف النعم)

 

حكى لي أحد أقاربي -وكان يشغل منصباً عسكرياً كبيراً- فقال: كنتُ أتردد على موسكو زمن الاتحاد السوڤييتي للتدريب وكنتُ أجيد اللغة الروسية، وكان امتلاك مصحفٍ في ذلك الزمن جُرماً يُعاقَب عليه المسلم بالإعدام، كما كان يُمنع دخول المصحف مع المسافرين القادمين من الخارج إلا إذا كان للاستعمال الشخصي، ويُسجَل على جواز السفر لضمان أن يرجع مع صاحبه، لكني بحكم منصبي العسكري كنتُ آخذ معي عدة مصاحف أغلفها بورقٍ على أنها قواميس لغةٍ وأموهها.

في أحد الأيام دخلتُ إلى أحد الأسواق بموسكو فرأيتُ رجلاً، يبدو من شكله أنه قوقازيٌ بلحيته الخفيفة الطويلة، وواضحٌ أنه فلاحٌ بسيطٌ يبيع الملفوف "الكرمب"، فشعرتُ بانجذابٍ كبيرٍ للحديث معه! ولما جلستُ قبالته قلتُ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فتلفتْ الرجل يميناً وشمالاً ثم رد السلام بخوفٍ وحذرٍ ممزوجان بفرحٍ وسعادةٍ ما رأيتها في وجه غيره! سألني: هل أنت مسلم؟ قلتُ: نعم، وسألته: هل عندك قرآن؟ فتعوَّذ وبسمَّل ثم قرأ بخشوعٍ سورة الإخلاص والمعوذتين! قلتُ له: أقصد هل لديك مصحف؟ قال: لا، ثم سألني: هل عندك أنت؟ قلتُ: نعم، حجم وسط، وأخرجتُ المصحف من جيبي؛ فأشار إليّ أن خبئه! ثم مد يده إلى إحدى ثمرات الملفوف الكبيرة وضربها بأصابع يده بحركةٍ تشبه حركات الكاراتيه ففتح فيها حفرةً عميقةً ثم حسَّنها بالسكين، وأخذ المصحف وأدخله فيها ثم سد الفتحة بأوراقها وغطاها بثيابه! قلتُ: عندي عدد كذا، قال: موعدنا غداً بإذن الله! في اليوم التالي أحضرتُ المصاحف، ووجدتُ بجانب الرجل -بعدد المصاحف- رجالٌ أمام كل واحدٍ منهم ملفوفةٌ منقورةٌ؛ فأخذوا مني المصاحف وخبأوها في الملفوف وهم يشكرونني، ولا يعلم إلا الله عزَّ وجلَّ مدى سعادتهم.

بكيتُ كثيراً وحمدتُ الله ورجوته أن يبارك لي في أجرها، ثم صرتُ أحضر له مصاحف من الحجم الكبير في كل مرةٍ أحضر فيها. اللهم لك الحمد على كل نعمك وآلائك.

 

أحبتي في الله .. هل استشعرتم النعمة التي تعيشون فيها؟ معكم مصاحفكم تحملونها في كل مكانٍ دون خوف، وتقرأون فيها علانيةً في وسائل النقل العام بغير وَجَل!

للأسف؛ لأننا ألفنا وجود المصحف معنا دون أية مشاكل، فقدنا الإحساس بأن مجرد وجوده معنا نعمةٌ كبيرةٌ تستوجب الشكر لله سبحانه وتعالى، على الأقل في كل مرةٍ نخرج فيها مصحفنا من جيبنا أو حقيبتنا ونحن آمنون من أي عقابٍ؛ لا نخاف حكماً بالإعدام!

لماذا لا نشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة؟ لأننا -ببساطة- ألفناها وتعودنا عليها، حتى صارت أمراً اعتيادياً مألوفاً، وهكذا الحال مع كثيرٍ من نعم المولى عزَّ وجلَّ؛ توالي الليل والنهار على سبيل المثال، يكاد كثيرٌ من الناس لا يُحسون بأن ذلك نعمةٌ من الله تستوجب الشكر، مع مطلع الشمس كل يومٍ ومع غروبها، لا لسببٍ إلا (إلف النعم) والتعود عليها؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.

وكذلك الحال مع العديد من النعم الربانية؛ كتغير الفصول، وهطول المطر، وزراعة الأرض، وهبوب الريح، ووجود السماء والهواء والبحار والأنهار والأنعام المسخرة للإنسان، وغير ذلك كثيرٌ وكثيرٌ وكثيرٌ؛ يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. ألفنا وجود هذه النعم لاستمرارها وتكرارها وانتظامها، حتى كدنا لا نستشعر أنها نعمٌ تستوجب الشكر حتى تدوم، فبالشكر تدوم النعم.

 

يقول العلماء إن (إِلْف النعم) آفةٌ خطيرةٌ تصيب الناس؛ فالإنسان قد يألف النعمة التي أنعمها الله تعالى عليه بحيث لا يعود يشعر بها ولا يؤدي حقها وهو شكر الله تعالى وحمده على نعمه. كما فعل كفّار قريش الذين ألفوا رحلتا الشتاء والصيف وغاب عنهم أن الله هو الذي سهّل لهم هاتين الرحلتين ومهّد الطريق ووفّر التجارة وأنعم عليهم بنعمة الأمن وعدم الجوع والفقر؛ يقول تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾.

 

إن (إِلْف النعم) وتعوّدها مرضٌ خفيٌ إذا أصابنا أفقدنا بركة القليل وزيادة الكثير، والضمان والكفيل لحفظ هذه النعم وزيادتها إنما هو شكرها؛ يقول تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، والشكر يتجاوز النطق باللسان فكم من شاكرٍ لسانه ومنطق قلبه وحاله في نكرانٍ وجحود، بل يتجاوز الأمر ذلك ليبلغ المرء مرحلة من العتو والبطر والجحود ألا يستشعر أساساً بالنعم التي أمده الله بها ابتداءً، وما ذلك إلا لأنها صارت جزءاً روتينياً في حياته اعتادها ومن شدة اعتيادها فَقَدَ الشعور بوجودها.

أعجبني قول أحدهم: إن اعتيادنا على النعم وملازمتها لنا بشكلٍ دائمٍ أوقعنا في إشكالين؛ الأول: أننا ألفنا هذه النعم وصارت جزءاً أصيلاً من حياتنا لشدة اعتيادنا عليها وملازمتها لنا ملازمة جلودنا لأجسامنا وأنفاسنا لصدورنا وكأننا أوتينا ميثاقاً غليظاً على دوامها، فما تألفه وتعتاد عليه عادةً يؤدي إلى الغفلة عن عظيم الفضل علينا، فلا نتذكره إلا بفقدانه ومكابدة الحياة بغيابه، وقتها ندرك الهوة والفرق بين وجوده وعدمه. الإشكال الثاني: أننا بتنا نشعر باستحقاقنا لهذه النعم وكأنه حقٌ لنا نكتسبه من الله سبحانه وتعالى لا تفضلاً ومَنّاً منه تعالى علينا ابتداءً، وهذا يؤدي إلى البطر وعدم الشكر والنكران والجحود، بل وعدم استخدام هذه النعم في الوجهة الصحيحة وفق مراد الله تعالى.

ولنا في رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ؛ فها هو يداوم على حمد الله على نعمةٍ تتجدد كل يومٍ فيقول وقت الاستيقاظ من النوم: [الحَمْدُ لله الذِي أحْيَانا بَعْدَمَا أمَاتَنَا، وإلَيْهِ النَشُور]، ويقول: [الحَمْدُ لله الذِي عَافَانِي في جَسَدِي ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وأَذِنَ لي بِذِكْرهِ].

 

يقول الشاعر:

أأَقْدِرُ شُكْرَ ربِّي أن اُكِنَّهْ

وشُكْرُ العَبْدِ من مولاهُ مِنَّهْ؟!

فإمَّا يهْدِني لِلشُّكْرِ ربِّي

فإنِّي ما حييتُ لأشْكُرَنَّهْ

فكيفَ أضِنُّ عنهُ وقال رَبِّي:

لئِنْ شكرَ العُبَيْدُ لأُعْطِيَنَّهْ!

 

أحبتي .. كم من نعمٍ كنا نتقلب بها آناء الليل وأطراف النهار، ما أدركنا عِظَمها إلا عندما فقدناها. نعمٌ كالصحة، والعمل، ووجود الأم والأب، والزوجة الصالحة، والأبناء البررة، والسكن المريح، والأمن، وغيرها نعمٌ تستوجب أن نحمد الله ليل نهار على وجودها؛ سواءً في ذلك ما يستجد منها، أو المتجدد مهما تكرر وانتظم وأصبح مألوفاً لنا، إن لم نستشعر هذه النعم، ونشكر المولى عزَّ وجلَّ عليها، فقد تضيع منا، أما إذا وفقنا الله إلى شكره فقد هدانا إلى طريق صيانة النعم والحفاظ عليها وزيادتها وطرح البركة فيها؛ ألا يستحق الله الخالق المنعم الشكر منا ليل نهار؟

اللهم ألهمنا رشدنا، واجعلنا ممن لا يغفلون عن خطورة (إِلْف النعم) بأن نكون من الشاكرين الحامدين، لكل نعمةٍ وكل فضلٍ، وتقبل اللهم الشكر والحمد منا قبولاً حسناً.

 

https://bit.ly/2WMKOu1

 

الجمعة، 18 ديسمبر 2020

بركة اتباع السُنة

 

خاطرة الجمعة /270


الجمعة 18 ديسمبر 2020م

(بركة اتباع السُنة)

 

كتب يقول: قبل أن أشتري سيارة كان يقابلني أحد جيراني في المنطقة بسيارته فيوصلني بالرغم من عدم وجود علاقةٍ بيننا، وفي كل مرةٍ يقول لي: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ، فَلْيعُدْ بِهِ عَلَى منْ لا ظَهر لَهُ، ومَنْ كانَ لَهُ فَضلُ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا زَادَ لَهُ]». وفي مرةٍ سألته: «هل تفعل ذلك دائماً؟»، فقال: «منذ سمعتُ هذا الحديث قلتُ سأجعله باباً لي من أبواب الخير»، ثم قال: «وسأخبرك ببركة هذا الأمر؛ نجاني الله من حوادث موتٍ محققٍ، وأنا أعتقد أن ذلك بفضل العمل بهذا الحديث. وفي مرةٍ مررتُ بأزمةٍ شديدةٍ كادت تدمر حياتي، لم تقدر كل علاقاتي على مساعدتي فيها. مرت عليّ الأيام لا آكل ولا أنام ولا أتحدث إلى أهل بيتي، وفي يومٍ كنتُ عائداً من المزرعة، وكنت دائماً وأنا راجعٌ أوصل امرأةً عجوزاً تبيع الجبن على الطريق، في وقت خروجي تكون قد انتهت وتتأهب للعودة إلى منزلها، فآخذ منها الطبق الذي تبيع فيه وأضعه في شنطة السيارة، وأوصلها إلى مبتغاها. في ذلك اليوم لاحظتْ العجوز أنني كئيبٌ على غير العادة، ودار هذا الحوار:

-مالك يا ابني؟

-عندي كربٌ شديدٌ يا أمي، ما لم ينتهِ اليوم سأضيع.

فتحركتْ العجوز إلى الأمام، ونظرتْ من زجاج السيارة الأمامي إلى السماء وقالت: "يارب تفكله كربه اليوم .. واللهِ لتفكله كربه"! هزني الموقف، وكدتُ أقول لها: "كيف تتكلمين مع الله هكذا؟!"، ثم تذكرتُ سريعاً حديث [رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ]، من ساعتها انشرح صدري وكأن شيئاً لم يكن؛ عدتُ إلى البيت أضحك وأمزح وأكلتُ مع أسرتي فسألتني زوجتي: "هل من جديد؟"، فقلتُ: "لا، لكني متأكدٌ من أن الله لن يضيعني"، وبعد منتصف الليل اتصل بي أحد الأصدقاء الذين كانوا يسعون في حل المشكلة بلا فائدة، وأخبرني أنه قضى لي حاجتي وحُلت المشكلة».

 

 

‏ أحبتي في الله .. هذه (بركة اتباع السُنة) المشرفة؛ رجلٌ تَعلَّم حديثاً واحداً، وعَمِل به بإخلاصٍ فلم يتأخر ثوابه، فيالها من بركةٍ، ويا له من ثوابٍ في الدنيا، ثم الأجر في الآخرة بإذن الله. وما زال بعض المسلمين -للأسف- بعيدين عن سُنن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، رغم أن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِن هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾، ويقول تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، كما يقول: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  [لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ لاَ نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ]، وقال عليه الصلاة والسلام:[أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ القُرآنَ وَمِثلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبعَان عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيكُم بِهَذَا القُرآنِ، فَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدتُم فِيهِ مِن حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلاَّ مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ، أَلاَ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ؛ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ ..]، وقال عليه الصلاة والسلام: [ .. فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ ..].

 

يقول أهل العلم إن السُنة هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، وهي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي أُنزِل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقسم الآخر من الوحي هو القرآن الكريم. وتأتي السنة موافقةً لما في القرآن، وتأتي مُقيدةً لمطلقه، ومُخصصةً لعمومه، ومُفسرةً لمجمله، وناسخةً لحكمه، ومُنشئةً لحكمٍ جديد؛ ومن ذلك بيان المجمل في الكتاب العزيز، كالصلوات الخمس في مواقيتها وسجودها وركوعها وسائر الأحكام، وزيادة حكمٍ على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها.

وكون النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله تعالى، يقتضي تصديقه في كل ما يُخبر به، وطاعته في كل ما يأمر به. ولا بد من التنبه إلى أن الفرق بين الأحاديث الشريفة وبين آيات القرآن الكريم يكمن في أن القرآن كلام الله تعالى، نزل بلفظه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأحاديث الشريفة فقد لا تكون من كلام الله تعالى، بل من وحيه فقط، ثم لا يلزم أن تأتي بلفظها، بل بالمعنى والمضمون. إن التمسك بالسنة النبوية أمرٌ حثنا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأمرنا بالتمسك به وعدم التفريط فيه؛ فهو سفينة النجاة وبر الأمان، وحين يكثر الشر والفساد، وتظهر البدع والفتن، يكون أجر التمسك بالسنة أعظم، ومنزلة أصحاب السُنة أعلى وأكرم، وتعمنا جميعاً وتشملنا (بركة اتباع السُنة).

وبعض السنن من الواجبات، وبعضها من المستحبات، وقد تكون من الآداب والأخلاق، فعلى المسلم أن يعمل بكل سُنةٍ يستطيعها؛ احتساباً للأجر وطلباً للثواب، وكلما سمع حديثاً فإنه يسارع إلى تطبيقه، ويحرص على العمل به، ويحرص أن يكون في جميع أعماله وعباداته متبعاً السُنة حتى تكون أعماله مقبولةً عند الله تعالى.

 

أحبتي .. ليبدأ كل واحدٍ منا، ولو بحديثٍ شريفٍ واحدٍ من أحاديث المعاملات؛ فيتبسم في وجه أخيه، أو يُفشي السلام على من يعرف ومن لا يعرف، أو يُميط الأذى عن الطريق، أو يصل رحمه ولو قطعوه، أو يربت على رأس يتيم، أو يتصدق على فقير، أو يمشي في حاجة غيره، أو غير ذلك من الأمور، ينوي بذلك التمسك بسُنة النبي عليه الصلاة والسلام، مع الحرص على عدم المراءاة أو التفاخر أو المن أو العُجب بالنفس. إذا فعل كل واحدٍ منا ذلك، واستمر على الالتزام بما ورد في حديثٍ شريفٍ واحدٍ سهل عليه أن يزيد من مساحة التزامه بتطبيق حديثٍ آخر ثم حديثٍ آخر وهكذا حتى يصل إلى أقصى حدود استطاعته؛ فيُثاب ثواباً عظيماً، ويُضاعَف له أجره، ويحظى برضا الله سبحانه وتعالى، وينال (بركة اتباع السُنة).

تخيلوا معي أحبتي لو أن كل مسلمٍ طبق حديثاً نبوياً واحداً، ماذا سيكون حال أمتنا الإسلامية؟ ولو طبق أكثر من حديث ألن نكون أفضل؟ وماذا لو طبقنا جميعاً أحاديث رسولنا الكريم كلها؟ ثم ماذا لو أن كلاً منا طبق آيةً قرآنيةً أو عدة آيات؟ كيف سيكون وضع المسلمين لو التزموا جميعاً بتطبيق الشريعة والأحكام والتوجيهات الواردة بالقرآن والسُنة؟ سيعود المسلمون مرةً أخرى إلى مراكز الصدارة، وتعود حضارتهم التي بُنيت على التمسك بالشريعة السمحاء وتطبيق أحكامها، والتي جعلتهم خير أمةٍ أُخرجت للناس، لن تنالنا فقط (بركة اتباع السُنة) بل بركاتٍ لا تنتهي من الله سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾.

فليكن القرآن الكريم هادينا ومرشدنا، والسُنة الشريفة منهجنا، ورسولنا المصطفى قدوتنا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون أعمالنا مقبولةً عنده، إنه سميعٌ مجيب.

 

https://bit.ly/2IZOy83

الجمعة، 11 ديسمبر 2020

البصر والبصيرة

 

خاطرة الجمعة /269


الجمعة 11 ديسمبر 2020م

(البصر والبصيرة)

 

جرت وقائع هذه القصة بين بعض العرب المقيمين بالمملكة المتحدة عام 2007م، يقول كاتبها:

دخلنا إلى أحد المطاعم العربية في لندن قبيل الغروب لتناول العشاء، جلسنا وجاء النادل لأخذ الطلبات، استأذنتُ من الضيوف لدقائق ثم عدتُ؛ فسألني أحدهم، قال: أين ذهبتَ دكتور لقد تأخرتَ علينا كثيراً أين كنت؟

قلتُ: أعتذر؛ كنت أصلي.

قال مبتسماً: هل مازلت تُصلي؟ يا أخي أنت صاحب فكرٍ قديم!

قلتُ مبتسماً: قديم؟! لماذا؟ وهل الله موجودٌ فقط في الدول العربية؟ ألا يوجد الله في لندن؟

قال: دكتور، أريد أن أسألك بعض الأسئلة ولكن أرجوك تحملني قليلاً برحابة صدرك المعهودة.

قلتُ: بكل سرورٍ، ولكن لديّ شرطٌ واحدٌ فقط.

قال: تفضل.

قلتُ: بعد أن تنتهي من أسئلتك، عليك أن تعترف بالنصر أو الهزيمة، موافق؟

قال: اتفقنا، وهذا وعدٌ مني.

قلتُ: لنبدأ المناظرة؛ تفضل.

قال: منذ متى وأنتَ تصلي؟

قلتُ: تعلمتها منذ أن كنتُ في السابعة من عمري، وأتقنتها وأنا في التاسعة من عمري، ولم أفارقها قط، ولن أفارقها إن شاء الله تعالى.

قال: وماذا لو أنك بعد الوفاة اكتشفتَ بأنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ، فماذا ستفعل؟

قلتُ: سأتحملك، وأُكمل المناظرة معك حسب فرضيتك؛ فلنفرض أنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ، ولا يوجد ثوابٌ ولا عقابٌ، لن أفعل أي شيءٍ لأنني أصلاً كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة".

قال: وصلاتك التي واظبتَ عليها لعشرات السنين، ثم تجد أن من صلى ومن لم يصلِ سواء، ولا يوجد شيءٌ اسمه سقر؟

قلتُ: لن أندم عليها لأنها لم تأخذ مني سوى دقائق في اليوم، وسأعتبرها رياضةً جسديةً.

قال: وصومك، لا سيما وأنت في لندن، والصوم هنا يصل في بعض الأيام إلى أكثر من 18 ساعة في اليوم؟

قلتُ: سأعتبر صومي رياضةً روحيةً فهو ترويضٌ نفسيٌ وروحيٌ من الطراز الرفيع، وكذلك فيه منفعةٌ صحيةٌ كبيرةٌ أفادتني في حياتي، وتوجد تقارير دولية من جهاتٍ ليست إسلاميةً أصلاً أكدت أن الامتناع عن الطعام لفترةٍ فيه منفعةٌ كبيرةٌ للجسد.

قال: هل جربتَ شرب الخمر؟

قلتُ: لم أذق طعمه أبداً.

قال مستغرباً: أبداً؟!

قلتُ: أبداً.

قال: وماذا تقول عن حرمانك لنفسك في هذه الحياة من لذة الخمر ومتعته ومتعة جلوسه بعد أن تكتشف صدق فرضيتي؟

قلتُ: أكون قد منعتُ وحصنتُ نفسي من ضرر الخمر الذي هو أكثر من نفعه؛ فكم من مريضٍ بسبب الخمور، وكم من مدمرٍ لبيته وعياله من أثر الخمور، وانظر أيضاً إلى التقارير الدولية من جهاتٍ غير إسلاميةٍ تحذر من آثار الخمور وآثار الإدمان عليها.

قال: والذهاب للحج والعمرة بعد أن تكتشف بعد الوفاة أنه لا يوجد شيءٌ من هذا، وأن الله غير موجودٍ أصلاً.

قلتُ: سأسير حسب فرضيتك ووعدتك بأن أتحمل أسئلتك، سأعتبر الذهاب إلى الحج والعمرة سفرةً جميلةً شعرتُ فيها بمتعةٍ روحيةٍ راقيةٍ ساهمت في غسل وتنقية الروح كما تساهم سفراتٌ أنت قمتَ بها من أجل قضاء وقتٍ جميلٍ لطرد ضغوط العمل وقتل الروتين وساهمت في إنعاش الروح.

ظل ينظر إلى وجهي لثوانٍ صامتاً، ثم قال: شكراً لأنك تحملتني برحابة صدر، أسئلتي انتهت، وأعترف لكَ بالهزيمة.

قلتُ: ماذا تعتقد شعوري بعد أن اعترفتَ أنتَ بالهزيمة؟

قال: بالتأكيد أنت الآن سعيدٌ جداً.

قلتُ: لا أبداً؛ على العكس تماماً، أنا حزينٌ جداً.

قال مستغرباً: حزين؟! لماذا؟!

قلتُ: الآن جاء دوري لأن أسألك.

قال تفضل:

قلتُ: ليست لدي أسئلةٌ عديدةٌ مثلك، لكن هو سؤالٌ واحدٌ فقط لا غير وبسيط جداً.

قال: ما هو؟

قلتُ: بيّنتُ لك بأنني لن أخسر شيئاً في حال حصلت فرضيتك أنت، أما سؤالي الوحيد والبسيط هو: ماذا لو عكسنا فرضيتك؛ وأنك بعد الوفاة اكتشفتَ أن الله تعالى موجودٌ فعلاً، وأن جميع المشاهد التي وصفها الله تعالى في القرآن الكريم موجودةٌ حقاً؟ ماذا أنتَ فاعلٌ حينها؟

ظل ينظر إلى عينيّ، ولم ينبس ببنت شفة، وأطال النظر إليّ صامتاً، وقاطعنا النادل الذي أوصل الطعام إلى مائدتنا؛ فقلتُ له: لن أطلب الإجابة الآن، حضر الطعام، لنأكل وعندما تكون إجابتك جاهزةً من فضلك أخبرني بها.

أنهينا الطعام ولم أحصل منه على إجابةٍ، ولم أحرجه وقتها بطلبها، وغادرنا المطعم بصورةٍ طبيعيةٍ جداً.

بعد شهرٍ اتصل بي طالباً مني اللقاء في ذات المطعم؛ التقينا وتصافحنا، وإذا به يطوقني بين ذراعيه واضعاً رأسه على كتفي وأجهش بالبكاء. وضعتُ ذراعيّ على ظهره وقلتُ له: ماذا بك؟

قال: جئتُ لأشكرك، ودعوتك إلى هنا لأقول لك جوابي، لقد رجعتُ إلى الصلاة بعد أن قطعتها لأكثر من عشرين عاماً؛ كانت أجراس كلماتك ترن في ذهني ولم تتوقف، لم أذق طعم النوم، لقد أثرتَ بركاناً في روحي وفي نفسي وفي جسدي، وصدقني شعرتُ بأنني إنسانٌ آخر، وأن روحاً جديدةً بدأت تسري في هذا الجسد مع راحة ضميرٍ لا مثيل لها.

قلتُ له: ربما تلك الأجراس أيقظتْ بصيرتك بعد أن خذلك بصرك.

قال: هو ذاك تماماً، فعلاً أيقظتْ بصيرتي بعد أن خذلني بصري، شكراً لك من القلب أخي الحبيب.

 

أحبتي في الله .. كأن هذه القصة هي تفصيلٌ لموقفٍ مرَّ به أحد الدعاة؛ حين سأله ملحدٌ: "ما شعورك لو متَ واكتشفتَ أن الآخرة كذب؟! فقال: ليس أسوأ من شعورك إذا متَ واكتشفتَ أن الآخرة حقيقة"!

ما لفت انتباهي في هذه القصة العبارة

التي انتهت بها: "ربما تلك الأجراس أيقظتْ بصيرتك بعد أن خذلك بصرك"،

فهل هناك فرق بين (البصر والبصيرة)؟

 

يقول أهل الاختصاص إن البصر هو أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم من حولنا، والإبصار هو رؤية الأشياء وإدراكها والتعرف عليها بواسطة العين التي هي أداة النظر؛ يقول تعالى: ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ . وكم رأينا من عيونٍ تدور في مَحجرها وتتجه نحو الشيء المنظور إليه لكنها لا تراه؛ إذ عملية الإبصار لم تتم؛ يقول تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾، فالأمر يبدأ بالنظر ثم يتبعه البصر وينتهي بالرؤية. أما في مشهد البعث والحشر، حينما يقف المشرك بين يدي الله فإنه يرى الحقيقة التي لا مفرّ منها رأيَ العين؛ إذ كان بصره مغطىً بغشاوةٍ في الحياة الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ تم كشفها يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.

 

وعن (البصر والبصيرة) يقولون إن البصر -وأداته العين- يريك ظاهر الأشياء، والبصيرة -وأداتها القلب- تريك حقائق الأشياء؛ ففي اللحظة التي تتحقق فيها البصيرة لا تكون العين هي التي تُبصر، وإنما يكون القلب هو الذي يدرك. يمكنا القول إذن إن البصر هو للآفاق أما البصيرة فهي للأعماق؛ فيكون نظر القلب أصدق من نظر العين، فبالعين نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً قد يكون فيه التباسٌ وغموض، لا يرفعه إلا ضوءٌ يكشف لنا حقيقة الأشياء، هذا الضوء هو البصيرة، وهي هامةٌ حتى قيل إن الشيء الأسوأ من العمى، هو أن يمتلك الإنسان البصر ويفتقد البصيرة.

 

وعن (البصر والبصيرة) يقول أحد العلماء إن البصيرة، هي قدرة القلب على إدراك الأشياء وسبر أغوارها، وهي القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه. وقد يكون الإنسان صاحب بصرٍ قويٍ لكنه ذو بصيرةٍ ضعيفةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظلام -حيث تتشابه الأشياء فلا يمكن تمييز بعضها عن بعض- فكذلك إذا فقدنا البصيرة؛ فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسانٍ صاحب بصيرةٍ، وآخر يفتقدها. إن عمل البصيرة في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوءٍ منيرٍ في وسط ظلمةٍ حالكةٍ، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زُينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس لذوي الأنفس الضعيفة. فالبصيرة نورٌ ربانيٌ يهتدي به المؤمن؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾.

 

وعن أعمى البصيرة قال الشاعر:

يُمسي ويصبحُ في عَشواءَ يخبِطها

أعمى البَصيرةِ والآمالُ تَزرَعُه

يَغترُ بالدَهرِ مَسروراً بصحبتهِ

وقد تيقّنَ أنَّ الدَّهرَ يَصرَعُه

ويجمعُ المالَ حِرصاً لا يفارقُه

وقد درى أنه للغَيرِ يَجْمعُه

تراه يشفقُ مِن تَضييعِ درهمِه

وليسَ يشفِقُ مِن دِيِنٍ يُضيِّعُه

وأسوأُ الناسِ تدبيراً لعاقبِةٍ

مَن أنفقَ العُمرَ فيما ليسَ ينفعُه

 

أحبتي .. بالعين ننظر وبالدماغ نبصر ونرى، لكننا بالقلب وحده تكون لدينا بصيرة، ولا يعوض فقد البصر سوي البصيرة، فاللهم نسألك تمام حفظ البصر وكمال سلامة البصيرة.

 

https://cutt.ly/6hIdECh

الجمعة، 4 ديسمبر 2020

النفس المطمئنة

 

خاطرة الجمعة /268


الجمعة 4 ديسمبر 2020م

(النفس المطمئنة)

 

حدثت هذه القصة لطفلةٍ صغيرةٍ تقيةٍ نقيةٍ صالحةٍ، رغم صغر سنها، روى لنا أبوها قصتها، وهو لبنانيٌ عمل في السعودية فترةً من الزمن، قال: عشتُ في الدمام عشر سنين، ورُزقت فيها بابنةٍ واحدةٍ أسميتها ياسمين، وكان قد وُلد لي قبلها ابنٌ واحدٌ أسميته أحمد، وكان يكبرها بثمان سنواتٍ، وكنتُ أعمل في مهنةٍ هندسيةٍ؛ فأنا مهندسٌ وحائز على درجة الدكتوراة. كانت ياسمين آيةً من الجمال لها وجهٌ نورانيٌ زاهر. ومع بلوغها تسع سنواتٍ رأيتها من تلقاء نفسها تلبس الحجاب وتُصلي وتُواظب على قراءة القرآن بصورةٍ ملفتةٍ للنظر؛ فكانت ما إن تنتهي من أداء واجباتها المدرسية حتى تقوم على الفور وتفترش سجادة صلاتها الصغيرة وتأخذ مصحفها وترتل القرآن ترتيلاً طفولياً ساحراً، كنتُ أقول لها: "قومي العبي مع صديقاتك"، فكانت تقول: "صديقي هو قرآني، وصديقي هو ربي، ونعم الصديق" ثم تُواصل قراءة القرآن.

وذات يومٍ اشتكت من ألمٍ في بطنها عند النوم؛ فأخذتها إلى المستوصف القريب وأعطاها الطبيب بعض المسكنات فهدأت آلامها يومين ثم عاودتها، وهكذا تكررت الحالة، ولم أعطِ الأمر حينها أي جدية. وشاء الله أن تفتح الشركة التي أعمل بها فرعاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وعرضوا عليّ منصب المدير العام هناك فوافقت، ولم ينقضِ شهرٌ واحدٌ حتى كنا في أمريكا أنا وزوجتي وأحمد وياسمين. بعد مُضيّ قُرابة الشهرين على وصولنا عاودت الآلام ياسمين فأخذتها إلى طبيبٍ باطنيٍ متخصصٍ؛ فقام بفحصها وقال: "ستظهر النتائج بعد أسبوعٍ ولا داعي للقلق". أدخل كلام الطبيب الاطمئنان إلى قلبي، وسرعان ما حجزتُ لنا مقاعد على أقرب رحلةٍ إلى مدينة الألعاب ديزني لاند بأورلاندو وقضينا وقتاً ممتعاً مع ياسمين بين الألعاب والتنزه هنا وهناك. وبينما نحن في قمة المرح رنّ هاتفي النقال؛ فوقع قلبي، لا أحد في أمريكا يعرف رقمي، عجباً، أكيد الرقم خطأ، ترددتُ قليلاً، ثم ضغطتُ على زر الإجابة.

- آلو .. من المتحدث؟

- أهلا يا حضرة المهندس، معذرةً على الإزعاج، أنا الدكتور ستيفن، طبيب ياسمين، هل يمكنني لقاؤك في عيادتي غداً؟

- وهل هناك ما يُقلق في النتائج؟

- في الواقع نعم؛ لذا أود رؤية ياسمين، وطرح عددٍ من الأسئلة قبل التشخيص النهائي.

- حسناً سنكون عصر غدٍ عند الخامسة في عيادتك، إلى اللقاء.

اختلطت المخاوف والأفكار في رأسي، ولم أدرِ كيف أتصرف، فقد بقي في برنامج الرحلة يومان، وياسمين في قمة السعادة لأنها المرة الأولى التي تخرج فيها للتنزه منذ وصولنا إلى أمريكا. أخيراً أخبرتهم بأن الشركة تريد حضوري غداً إلى العمل لطارئٍ ما، وهي فرصةٌ جيدةٌ لمتابعة تحاليل ياسمين، فوافقوا جميعاً على العودة بشرط أن نرجع إلى أورلاندو في العطلة الصيفية. في العيادة استهل الطبيب ستيفن حديثه لياسمين بقوله:

- مرحباً ياسمين، كيف حالك؟

- بخير ولله الحمد، ولكني أحس بآلامٍ وضعفٍ، لا أدري ما السبب؟

بدأ الطبيب يطرح الأسئلة الكثيرة، وأخيراً طأطأ رأسه وقال لي:

- تفضل في الغرفة الأخرى.

وفي الحجرة أنزل الطبيب على رأسي صاعقةً تمنيتُ عندها لو أن الأرض انشقت وبلعتني، قال الطبيب:

- منذ متى وياسمين تُعاني من المرض؟

قلتُ: منذ سنةٍ تقريباً، وكنا نستعمل المهدئات وتتعافى.

فقال الطبيب: ولكن مرضها لا يتعافى بالمهدئات؛ إنها مصابةٌ بسرطان الدم في مراحله الأخيرة جداً، ولم يبقَ لها من العمر إلا ستة أشهرٍ، وقبل مجيئكم تم عرض التحاليل على أعضاء لجنة مرضى السرطان في المنطقة وقد أقروا جميعاً بذلك من واقع التحاليل. لم أتمالك نفسي وانخرطتُ في البكاء، وقلتُ: مسكينةٌ، واللهِ مسكينةٌ ياسمين هذه الوردة الجميلة، كيف ستموت وترحل عن الدنيا؟ سمعت زوجتي صوت بكائي فدخلت الغرفة، ولما علمت بالأمر أُغمى عليها، وهنا دخلت ياسمين و‏ابني أحمد، وعندما علم أحمد بالخبر احتضن أخته، وقال: "مستحيل أن تموت ياسمين"؛ فقالت ياسمين ببراءتها المعهودة: "أموت؟ ماذا يعني أموت؟"، فتلعثم الجميع من هذا السؤال، فقال الطبيب: "يعني سترحلين إلى الله"، فقالت ياسمين: "حقاً سأرحل إلى الله؟ وهل هو سيئٌ الرحيل إلى الله؟ ألم تعلماني يا والديّ بأن الله أفضل من الوالدين والناس وكل الدنيا؟ وهل رحيلي إلى الله يجعلك تبكي يا أبي ويجعل أمي يُغمى عليها؟"، فوقع كلامها البريء الشفاف مثل صاعقةٍ أخرى؛ فياسمين ترى في الموت رحلةً شيقةً فيها لقاءٌ مع الحبيب.

قال الطبيب:

- علينا الآن أن نبدأ العلاج.

فقالت ياسمين: إذا كان لابد لي من الموت فلماذا العلاج والدواء والمصاريف؟

- نعم يا ياسمين، نحن الأصحاء أيضاً سنموت؛ فهل يعني ذلك أن نمتنع عن الأكل والعلاج والسفر والنوم وبناء مستقبل؟ لو فعلنا ذلك لتهدمت الحياة ولم يبقَ على وجه الأرض كائنٌ حي. تعلمين يا ياسمين بأن في جسد كل إنسانٍ أجهزةً وآلاتٍ كثيرةً هي كلها أماناتٌ من الله أعطانا إياها لنعتني بها، فأنتِ مثلاً إذا أعطتك صديقتك لعبةً هل ستقومين بتكسيرها أم ستعتنين بها؟

ياسمين: بل سأعتني بها وأحافظ عليها.

الطبيب: وكذلك هو الحال لجهازك الهضمي والعصبي والقلب والمعدة والعينين والأذنين، كلها أجهزةٌ ينبغي عليك الاهتمام بها وصيانتها من التلف، والأدوية والمواد الكيميائية التي سنقوم بإعطائك إياها إنما لها هدفان؛ الأول تخفيف آلام المرض، والثاني المحافظة قدر الإمكان على أجهزتك الداخلية من التلف حتى عندما تلتقين بربك وخالقك تقولين له لقد حافظتُ على الأمانات التي جعلتني مسئولةً عنها، ها أنا ذا أعيدها إليك سليمةً، إلا ما تلف من غير قصدٍ مني.

ياسمين: إذا كان الأمر كذلك، فأنا مستعدةٌ لأخذ العلاج حتى لا أقف أمام الله كوقوفي أمام صديقتي إذا كسرتُ لعبها وحاجياتها.

مضت الشهور الستة ثقيلةً وحزينةً بالنسبة لنا كأسرةٍ ستفقد ابنتها المدللة والمحبوبة، وعكس ذلك كان بالنسبة لابنتي ياسمين؛ فكان كل يومٍ يمر يزيدها إشراقاً وجمالاً وقرباً من الله تعالى؛ قامت بحفظ سورٍ من القرآن، وسألناها لماذا تحفظين القرآن؟ قالت: علمتُ بأن الله يحب القرآن؛ فأردتُ أن أقول له يا ربِ حفظتُ بعض سور القرآن لأنك تحب من يحفظه.

وكانت كثيرة الصلاة وقوفاً، وأحياناً كثيرةً كانت تصلي على سريرها، فسألتها عن ذلك فقالت: سمعتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [جُعلت قرة عيني في الصلاة] فأحببتُ أن تكون لي الصلاة قرة عين.

وحان يوم رحيلها، وأشرق بالأنوار وجهها، وامتلأت شفتاها بابتسامةٍ واسعةٍ، وأخذت تقرأ سورة «يس» التي حفظتها، وكانت تجد مشقةً في قراءتها، إلى أن ختمت السورة، ثم قرأت سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ثم آية الكرسي، ثم قالت: الحمد لله العظيم الذي علمني القرآن وحفظنيه، وقوى جسمي للصلاة، وساعدني وأنار حياتي بوالدين مؤمنين مسلمين صابرين، حمداً كثيراً أبداً، وأشكره لأنه لم يجعلني كافرةً أو عاصيةً أو تاركةً للصلاة، ثم قالت: "تنح يا والدي قليلاً، فإن سقف الحجرة قد انشق، وأرى أُناساً مبتسمين، لابسين البياض، وهم قادمون نحوي ويدعونني لمشاركتهم في التحليق معهم إلى الله تعالى"، وما لبثت أن أغمضت عينيها وهي مبتسمةٌ، ورحلت إلى الله رب العالمين.

اللهم ارحم هذه الطفلة الصالحة وارحمنا برحمتك وأحسن خاتمتنا.

 

 

أحبتي في الله .. لم أجد وصفاً لياسمين؛ الطفلة البريئة النقية التقية، رحمها الله، إلا أنها كانت صاحبة نفسٍ مطمئنة.

يقول أهل العلم:

إن نفس الإنسان واحدةٌ ولكن لها صفاتٍ، فتُسمى باعتبار كل صفةٍ؛ فهي الأمارة بالسوء، وهي اللوامة، وهي المطمئنة:

النفس الأمارة بالسوء مذمومةٌ؛ فهي التي تأمر بكل سوءٍ، وهذا من طبيعتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحدٌ من شر نفسه إلا بتوفيق الله له؛ كما يقول تعالى حاكياً عن امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ َلأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

أما النفس اللوامة فهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾. قيل إن اللوم من التلوم، وهو التردد؛ فهي نفسٌ كثيرة التقلب والتلون لا تثبت على حالٍ واحدة. وقيل إنها نفس المؤمن تلوم صاحبها دائماً. وقيل بل هي نفس كل واحدٍ، مؤمناً كان أو غير مؤمنٍ؛ فالمؤمن تلومه نفسه على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، وغير المؤمن تلومه على فوات حظها وهواها!

وأما (النفس المطمئنة) فهي النفس المؤمنة، الآمنة، المخلصة، المصدقة بالثواب، الساكنة لما علمت من رضى ربها عنها. طمأنينتها إلى ربها تكون في محبته وعبوديته وكثرة ذِكره والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه والتسليم بقضائه وحُسن الظن به؛ فترى صاحب (النفس المطمئنة) يستغني بمحبة ربه عن حب مَن سواه، وبذِكره عن ذِكر من سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى من سواه؛ ولا يحصل ذلك إلا بذِكر الله؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

والنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذِكره وأنابت إليه، اشتاقت إلى لقائه، وأنِست بقربه، سكنت إلى ربها وطاعته وذِكره، واطمأنت إلى محبته وعبوديته، وإلى أمره ونهيه، وإلى لقائه ووعده، وإلى قضائه وقدره، وإلى كفايته وحسبه وضمانه، وإلى أنه هو وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.

إن (النفس المطمئنة) واحدةٌ من درجات النفس الإنسانية، ترتقي من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ثم تصل إلى درجة الاطمئنان، فتسكن إلى الله وترضى بما رضي الله به؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، هي النفس التي أيقنت أن الله ربها، وأخبتت له، فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ قبضها اطمأنت إليه، واطمأن إليها، ورضيت عنه، ورضي عنها، فجعلها من عباده، وأدخلها جنته.

لقد امتحن الله سبحانه وتعالى الإنسان بالنفسين: الأمارة بالسوء، واللوامة، وأكرمه بالمطمئنة، وهي غاية كمالها وصلاحها.

ومن وسائل إصلاح النفس حتى ترتقي إلى هذه الغاية؛ المحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل، وتلاوة القرآن العظيم وتدبره، ومداومة ذِكر الله عز وجل، وشهود مجالس العلم، ومحاسبة النفس على ما تدعوه إليه من الشهوات والمعاصي، ومصاحبة الصالحين، والإكثار من دعاء الله أن يكفينا شر أنفسنا.

يقول أحد العارفين: «استعصت عليّ نفسي قيام ليلةٍ فصوَّمتُها سنة»؛ فالنفس كالفرس الجموح تحتاج إلى مَن يُروِّضها، فإذا نجح في ترويضها سيصل حتماً إلى (النفس المطمئنة) الراضية بقضاء الله وقدره، البسيطة الرقيقة والمتواضعة دائماً.

 

أحبتي .. كلٌ منا يُصيب ويُخطئ، لكن علينا أن نُحاسب أنفسنا حساباً عسيراً، ونتهمها دائماً بالنقص كي نصل إلى الكمال. على كلٍ منا أن يتصدى دائماً بنفسه اللوامة لوسوسات نفسه الأمارة بالسوء، ويُكثر من ذِكر الله بعباداتٍ خالصةٍ لوجهه الكريم؛ فيمُّن سبحانه وتعالى عليه بالوصول إلى مرحلة (النفس المطمئنة) فيكون من الفائزين بالرضا وراحة البال في الدنيا، ومن الداخلين في زمرة عباد الله أصحاب الجنة في الآخرة.

ولنحذر أن تطمئن نفوسنا بالحياة الدينا وترضى بها فنغفل عن آيات الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

 

https://bit.ly/3ogiJXI