الجمعة، 8 مارس 2019

اللهم عليك توكلنا


الجمعة 8 مارس 2019م

خاطرة الجمعة/ ١٧٧
(اللهم عليك توكلنا)

امرأةٌ سُجن زوجُها، ومَرِض ابنُها وارتفعت حرارته جداً، وكانت في بيت أبيها وحالتهم من أفقر ما يمكن، فلم يكن لها ولابنها عونٌ إلا الله؛ فكانت تتوكل عليه وتدعوه عزَّ وجلَّ، وتضع في ذات الوقت الكمادات لابنها لتخفيض حرارته. في منتصف الليل يُطْرَق الباب، فإذا بالباب طبيبٌ يسأل: "أين المريض؟"، فأدخله أبوها؛ ففحص الولد، وكتب له الدواء، وطلب حسابه، وهم لا يدرون من استدعى الطبيب أصلاً! فقالوا له: "واللهِ ما نملك شيئاً"، فغضب وقال: "إذن لماذا تستدعونني في مثل هذا الوقت من الليل؟"، فقالوا له: "والله ما استدعيناك واستغربنا مجيئك!"، فسألهم: "أليس هذا منزل فلان؟"، فقالوا له: "إن منزله في الأعلى". فانتبه الطبيب إلى أن الله عز وجل أرسله إلى هؤلاء الفقراء؛ ليكون بإذنه تعالى سبباً في شفاء ابنهم، سألهم الطبيب عن أحوالهم وعرف منهم أن والد الطفل سجين؛ فقام جزاه الله خيراً بشراء الدواء، وخصص لهم مبلغاً شهرياً إلى أن يخرج عائلهم من السجن. فسبحان الرزاق الكريم الذي يدهشنا عندما نخلص التوكل عليه؛ فهؤلاء كان لسان حالهم يقول: (اللهم عليك توكلنا).

وهذه قصةٌ أخرى من قصص التوكل على الله؛ حيث يُحكى أنه كان هناك ملكٌ عنده وزيرٌ يتوكل على الله في جميع أموره، ويحمد الله على كل حال. في يومٍ من الأيام انقطع للملك أحد أصابع يده وخرج دمٌ غزيرٌ، وعندما رآه الوزير قال: "خير خير إن شاء الله"، فغضب الملك على الوزير، وقال له: أين الخير والدم يجري من إصبعي؟ وأمر بسجنه، فما كان من الوزير إلا أن قال كعادته: "خير خير إن شاء الله"، وذهب إلى السجن. وكعادة الملك في كل يوم جمعةٍ ذهب إلى النزهة وحط رحله قريباً من غابةٍ كبيرةٍ، وبعد استراحةٍ قصيرةٍ دخل الملك الغابة، وكانت المُـفاجأة أن الغابة بها ناسٌ يعبدون صنماً لهم، وكان ذلك اليوم هو يوم عيد الصنم، وكانوا يبحثون عن قربانٍ يقدمونه للصنم، وصادف أنهم وجدوا الملك فألقوا القبض عليه لكي يقدمونه قرباناً إلى صنمهم، لكن حين رأوا إصبعه مقطوعاً قالوا هذا فيه عيبٌ ولا يُستحسن أن نقدمه قرباناً، وأطلقوا سراحه. حينها تذكر الملك قول الوزير عند قطع إصبعه "خير خير إن شاء الله". عندما رجع الملك من الرحلة أطلق سراح الوزير من السجن، وأخبره بالقصة التي حدثت له في الغابة، وقال له فعلاً كان في قطع الإصبع خيرٌ لي، ولكن دعني اسألك سؤالاً: وأنت ذاهبٌ إلى السجن سمعتك تقول "خير خير إن شاء الله" فأين الخير وأنت ذاهبٌ إلى السجن؟ قال الوزير: أنا وزيرك ودائماً معك، ولو لم أدخل السجن لكنت معك في الغابة؛ ولقبض عليّ عَبَدَة الصنم وقدموني قرباناً لآلهتهم فأنا لا يوجد بي عيبٌ؛ لذلك كان دخولي السجن خيراً لي.
أنجاه الله سبحانه وتعالى لأنه من أهل (اللهم عليك توكلنا).

أحبتي في الله .. إنه التوكل على الله حق توكله؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَتوكّل عَلى الله فَهو حَسبهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾. بل وجعل الله التوكل شرطاً لصحة الإيمان؛ فقال سبحانه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وقال موسى عليه السلام لأتباعه: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم تتوكّلونَ على اللهِ حقَّ توكلهِ، لرزقكُم كما يرزقُ الطيرُ، تغدُو خماصًا، وتروحُ بطانا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَرَّه أنْ يَكُونَ أقْوَى النَاسِ فَلْيَتَوكلْ عَلَى اللهِ].
وظهر التوكل على الله في أروع صوره يوم الهجرة، عندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآنا، قال له النبي: [يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟].

التوكل لغةً هو إظهار العجز والاعتماد على الغير. يقال توكل فلانٌ بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلانٍ إذا اعتمدت عليه، ووكّل فلانٌ فلاناً إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه.
يقول أهل العلم أن التوكل على الله عز وجل هو سِمةُ العبد الصادق، وبه أمر الله الأنبياء والمؤمنين، والتوكل: هو صدق اعتماد قلب المسلم على الله سبحانه في استجلاب المصالح، ودفع الضرر من أمور الدنيا والآخرة، وتوكيل جميع أموره إليه، وإيمان العبد إيماناً جازماً بأنه لا يُعطي إلا الله، ولا يَمنع إلا الله، ولا يَنفع غيره سبحانه، ولا يَضر سواه. قيل: "التوكل قوام الإيمان"، وقيل: "غايةُ المؤمن القصوى التوكل"، وقيل: "معنى توكل العبد على الله أن يعلم العبد أنَّ الله هو ثقتهُ". وقيل: "التوكل على الله هو الثقةُ بهِ، والاستسلامُ لأمرهِ، ويقين العبدِ بأنَّ قضاءهُ عليهِ ماضٍ"؛ فالتوكل على الله دليلُ صحةِ إيمان العبدِ وصلاح قلبهِ، وهو اعتراف العبد الكامل بربوبية الله، وتسليمه كل أموره للخالقِ الواحد، المتصرف بجميعِ أمورهِ، والمدبر الوحيد لأحوالهِ، صغيرها وكبيرها. ويكون التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ وهو القادر على نصرة عباده المؤمنين من غير قتالٍ، لكنه مبدأ الأخذ بالأسباب. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رجلاً قد ترك ناقته ببابِ المسجد؛ فسأله رسول الله عنها فقال: أطلقتها وتوكّلت على الله. فقال عليه الصلاة والسلام له: [اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ]. يظن بعض الناس أن التوكل يعني تعطيل الأسباب، لكن تحقيق التوكل لدى العبد لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب، التي قدَّر الله عزّ وجل المقدورات بها، وجرت سنة الله في خلقهِ بذلك، فالله سبحانه وتعالى أمر العبد بالأخذ بالأسباب، كما أمرهُ بالتوكلِ عليه سبحانه، فالسعي في الأسباب يكون بالجوارحِ طاعةً لهُ، والتوكل على الله يكون بالقلبِ إيماناً بهِ سبحانه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾. والمتأمل في قصة موسى عليه السلام لما واجه البحر، وفي قصة مريم عليها السلام لما ولدت، يجد أنهما أُمرا بفعل أدنى سببٍ؛ فموسى أُمر بضرب الحجر، ومريم أُمرت بهز الجذع. ويغفل الكثير من الناس عن التوكل على الله سبحانه وتعالى، ويقفون على الأسباب الظاهرة المحيطة بهم، ويُتعبون أنفسهم بالأخذِ بالأسباب، ويجتهدون غايةَ الاجتهادِ، ومع هذا كله لا يأتيهم إلا ما كتبهُ الله وقدَّرهُ لهم، ولو أنَّهم إلى جانب أخذهم بالأسباب حققوا التوكل على الله سبحانه بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم، مع أدنى وأصغر سببٍ، كما يَسوق للطيور أرزاقها، بمجردِ الغدو والرواح وهو سعيٌ للرزقِ يسير.
يقول العلماء: ليكن عملك هنا ونظرك في السماء. وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيءٍ في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سبباً، ولا أحكم خطةً، ولا سد ثغرةً.
يقول العارفون بالله أن التوكل على الله يتحقق بإيمانِ العبد بأنَّ ما كتب الله سبحانه نافذٌ، وما قدّره الله له كائنٌ، وإن بدت الأمور بعكس ما يريد العبد فعليه الإيمان بأنَّ الله سبحانه قد اختارَ لهُ الأفضل. قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾. ويتحقق التوكل بمعرفةِ المسلم أنَّ بتوكلهِ هذا ينالُ رضا الله سبحانه ومحبته، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ويُجازى المتوكل بالجنة، والتي هي أسمى أماني المؤمن، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. ويتحقق التوكل بشعور العبد بضعفهِ، وفقرهِ، وحاجته لله سبحانه وتعالى، فمهما بلغ من أسباب القوة يبقى ضعيفاً، ويحتاج إعانة الله له في أمور حياته، وفي التغلب على مصائبهِ، وكروبهِ، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾. التوكل على الله يجلب الرزق التوكل على الله يجلب للمسلم الرزق الكثير، فهو يعلم أنَّه لا يضرُّ ولا ينفعُ إلا الله سبحانه، ولا يُعطي ولا يَمنع إلا الله سبحانه، فيتوكل عليه، ويأخذ بالأسبابِ التي تُعينه على ذلك.

أحبتي .. يلخص لنا أحد الصالحين أمر التوكل على الله بكلماتٍ بسيطةٍ؛ يقول: "على المسلم أن يتذكر أن ليس هناك تعارضٌ بين التوكّلِ والأخذ بالأسباب، وعليه أن يأخذ بالأسباب وإن كانت في نظرهِ ضعيفةً أو ليس لها تأثيرٌ، لكنه لا يعتمد بشكلٍ أساسي وقاطعٍ على الأسباب فقط وإنَّما يعتمدُ في البداية والنهاية على الله سبحانه، مع أخذهِ بالأسباب، فالله يُقدّر الأمور بأسبابها".
ونقول نحن: (اللهم عليك توكلنا) فاكتبنا من المتوكلين عليك، المنيبين إليك، الواثقين بقدرتك، الساعين لرضاك، الطامعين في جنتك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/oFVz5z

الجمعة، 1 مارس 2019

مخ العبادة


الجمعة 1 مارس 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٦
(مخ العبادة)


هذه قصةٌ حقيقيةٌ ترويها إخصائية اجتماعية في الشؤون الاجتماعية تقول:
وردني ذات يوم بلاغان أحدهما من مكة والآخر من جدة بالعثور على طفلين لقيطين بجوار مسجدين: واحدٌ في جدة وآخر في مكة. تزايد اللقطاء بدار مكة حتى عجزتْ عن الوفاء بخدماتها. وفي الوقت نفسه يسّر الله لأطفال دار جدة من الأسر الحاضنة ما يسمح لي بنقل أطفال مكة إلى جدة. لاحظتُ شبهاً كبيراً بين الطفل القادم من مكة وأحد الأطفال الموجودين في دار جدة؛ فعدتُ إلى تاريخ العثور عليهما، فكان في نفس اليوم مع فارقٍ زمنيٍ قرابة ساعتين! وكانت إسوارة الولادة مازالت على قدم الطفل. بحثنا في المستشفى عن رقم الطفل فوجدنا أنه توأم لآخر، وأمهما غادرت المستشفى مع زوجها.
أخذنا صورةً من الوثائق وعقد الزواج وعنوان الأم كونها غير سعودية. ثم طلبنا من المستشفى مطابقة بصمتي قدم الطفلين فكانت المفاجأة تطابقهما.
أجرينا التحاليل؛ فكانت النتيجة متطابقة. بدأنا رحلة البحث عن الأم فوجدناها شابةً تسكن مع أمها المشلولة وهي وحيدتها، وظهر لنا أن الأم زوّجتْها لرجلٍ من جنسيتهم يعمل في مكة لعدم وجود من يعيلهم. سألتُها: "ألم تنجبي؟"، قالت: "بلى؛ أنجبتُ توأماً من الذكور". فسألتْها: "أين هما؟"، قالت: "أخذهما والدهما لختانهما ولم يرجعهما. بحثتُ عن زوجي فلم أجده وقد أغلق هاتفه. واكتشفنا أن الأب قد غادر البلاد". أخبرنا الأم بوجود طفليها عندنا، وعندما حضرتْ لترى ولديها كانت تجهش بالبكاء وترتجف وتصيح "أولادي أولادي"! حاولتُ تهدأتها، لم تستطع الجلوس على الكرسي وجلستْ على الأرض. ويشهد الله أنه لم يبق أحدٌ في ذلك اليوم لم يبكِ لبكائها. والغريب أن الطفلين جلسا في حضنها بكل استكانةٍ وهدوء! وابتسامةٌ على وجهيهما. وبعد أن استردّت عافيتها سألتُها: "بالله عليكِ، ماذا دعوتِ به حتى حفظ الله لك وليديك وأعادهما إليكِ؟"، قالت: "عندما أخذهما أبوهما للختان قلتُ: استودعكما الله الذي لا تضيع ودائعه، وبعد أن تأخر وأغلق هاتفه أيقنت أنه هرب بهما لبلادنا فكنت أدعو الله قائلة: "يا جامع أم موسى بوليدها اجمعني بأولادي". كنت أبكي بين يدي الله بحُرقةٍ ولم أعلم أن هذا الأب الظالم سيلقي بأبنائي في المساجد في منطقتين متباعدتين"، قلت لها: "لم يخذلْك الله بهذا الدعاء؛ حفظ ولديك بحفظه وأقرّ عينيك بهما". غادرتْنا الأم ذات العشرين عاماً بطفليها وهي غير مصدقةٍ ما حدث!

أحبتي في الله .. كتب أحد العلماء يقول: للدعاء مكانةٌ ساميةٌ، يتجلى فيه إظهار العبودية والتذلل والافتقار إلى الله، وهو أساس العبادة وسر قوتها وروحها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله وهو عالمٌ يقيناً أنه لا أحد يستطيع أن يجلب له خيراً أو يدفع عنه ضراً إلا الله عز وجل. لقد أمرنا الله بالدعاء، حيث قال سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وقَال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾. وقال عز وجل في الحديث القدسي: {مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ}. يقول أهل العلم أن عطاء الله لا ينفد، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيزٌ عليه سبحانه وتعالى إذا أراد أن يحققه لك.
أما الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، فلنا معها وقفة تأملٍ؛ حيث نلاحظ أن كل الآيات التي وردت فيها كلمة "يسألونك" في القرآن الكريم يأتي بعدها فعل الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم "قُل"، إلا في هذه الآية؛ حتى لا تكون هناك واسطةٌ بين العبد وبين الله عز وجل، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن الدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ]، وقَال عليه الصلاة والسلام: [الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ]، وقال: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: [اللهُ أَكْثَرُ].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يردد دائماً هذا الدعاء: [اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي].

وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من الإعراض عن الدعاء؛ قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾، وقال سبحانه في بقية الآية التي أمرنا فيها بالدعاء ووعدنا بالاستجابة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

يقول العلماء أن الدعاء بابٌ عظيمٌ من أبواب الخير له عدة مفاتيح، منها: آداب الدعاء التي تكون سبباً للوصول لهذا الخير العظيم إذا اتبعناها ومنها الإخلاص والإلحاح في الدعاء وأن يكون القلب حاضراً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ]. وأن نرفع أيدينا ونبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ونختم بذلك؛ فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ]. وعلينا أن نكون موقنين بالإجابة، ولا نستعجلها حيث يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: [ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ]. ويتوجب علينا ألا نعلي صوتنا كثيراً في دعائنا بل نخفضه بحيث يكون بين المخافتة والجهر. كما أن علينا أن نخشع في دعائنا ونستحضر عظمة الله ورحمته. ومن المفضل أن نستقبل القبلة وأن نكون على طهارة. فضلاً عن أن يكون مطعمنا ومشربنا وملبسنا طيباً؛ فإن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.
ومن المفاتيح التي يكون الدعاء فيها سبيلاً لتحصيل الخير العظيم أوقاتٌ معينةٌ؛ منها: يوم الجمعة ففيه ساعة إجابة، وليلة القدر، وجوف الليل الأخير، والدعاء بين الأذان والإقامة وبعد كل صلاة، وعند نزول المطر.
كما أن دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مفتاحٌ من مفاتيح الخير؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ].
ومن الأدعية المستجابة بإذن الله؛ دعاء المظلوم، والمسافر، والإمام العادل، والصائم عند فطره، والولد البار بوالديه، والدعاء للمتوفى.
وهناك أماكن مباركةُ يستحب الإكثار من الدعاء فيها مثل: البيت الحرام، والروضة الشريفة. والدعاء عند شرب ماء زمزم، وعند الطواف بالكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، وفي مِنى.
من مفاتيح الخير تكرار الدعاء ثلاث مرات، والتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو بعملٍ صالحٍ يقوم به الداعي نفسه، أو بدعاء رجلٍ صالحٍ له.
ومن توجيهات نبينا الكريم الدعاء في الرخاء والشدة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ؛ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ]، والحرص على رد المظالم إلى أصحابها.

صحيحٌ أن الدعاء هو (مخ العبادة)؛ فليكن دعاؤنا خالصاً خاشعاً لله سبحانه وتعالى، وليكن لسان حالنا يناجي المولى عز وجل ويقول:
بك أستجيرُ ومن يجيرُ سواكا
فأجِرْ ضعيفاً يحتمي بحماكا
إني ضعيفٌ أستعينُ على
قوى ذنبي ومعصيتي ببعضِ قواكا
أذنبتُ يا ربي وآذتني ذنوبٌ
ما لها من غافرٍ إلاكا
دنياي غرتني وعفوك غَرَّني
ما حيلتي في هذه أو ذاكا؟
رباه قلبٌ تائبٌ ناجاكا
حاشاك ترفضُ تائباً حاشاكا
فليرضَ عني الناسُ أو فليسخطوا
أنا لم أعدْ أسعى لغيرِ رضاكا

أحبتي .. اللهم أمرتنا بالدعاء بدعونا، ووعدتنا بالاستجابة فاستجب لدعواتنا. اللهم لا تكلْنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ، عليك اتكالنا واعتمادنا، ولا ملجأ ولا منجىً منك إلا إليك. اللهم ارزقنا الخشوع والإخلاص في الدعاء، وتقبل دعاءنا عبادةً خالصةً لك؛ فالدعاء كما قيل هو بحق (مخ العبادة).

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/Jwnj9N

الجمعة، 22 فبراير 2019

في العجلة الندامة


الجمعة 22 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٥
(في العجلة الندامة)

يقول أحد عمال المنازل: كنت أعمل خادماً لدى أحد الشخصيات المرموقة، وكان من عادته أن يستقل سيارته الفارهة كل يوم، وكان واجباً عليّ أن أحييه بالسلام عليه، وكان لا يرد التحية. وفي يومٍ من الأيام رآني وأنا ألتقط كيساً فيه بقايا طعامٍ؛ فقد كانت حالتنا صعبة؛ فنظر إليّ متجاهلاً وكأنه لم يرَ شيئاً. وفي اليوم التالي، وجدت كيساً بنفس المكان ولكن كان الطعام فيه مرتباً وطازجاً جاء من البائع لتوه، لم أهتم بالموضوع، أخذته وفرحت به. وكنت كل يومٍ أجد نفس الكيس وهو مليءٌ بالخضار وحاجيات البيت كاملةً؛ فكنت آخذه، حتى أصبح هذا الموضوع روتينياً. وكنا نقول أنا وزوجتي وأولادي مَنْ هذا الرجل التقي النقي الخفي الذي يتصدق علينا بكيسه كل يومٍ؟! كنت أدعو له وأوصي أولادي بالدعاء له. وفي يومٍ من الأيام شعرت بجلبةٍ في العمارة فعلمت أن السيد قد توفي؛ وكثر الزائرون في ذلك اليوم، ولكن كان أتعس ما في ذلك اليوم أن الرجل الصالح قد نسي الكيس، أو أن أحداً من الزوار قد سبقني إليه!! وفي الأيام التالية أيضاً لم أجد الكيس، وهكذا مرت الأيام دون أن أراه مما زاد وضعنا المادي سوءاً، وهنا قررت أن أطالب السيدة بزيادة الراتب أو أن أبحث عن عملٍ آخر؛ وعندما كلمتها قالت لي باستغراب: " كيف كان المرتب يكفيك وقد صار لك عندنا أكثر من سنتين ولم تشتكِ!! فماذا حدث الآن؟!"، حاولت أن أبرر لها ولكن لم أجد سبباً مقنعاً؛ فأخبرتها عن قصة الكيس، سألتني ومنذ متى لم تعد تجد الكيس؟ فقلت لها بعد وفاة سيدي. وهنا انتبهتُ لشيءٍ: لماذا انقطع الكيس بعد وفاة سيدي مباشرةً؟ فهل كان سيدي هو صاحب الكيس؟ ولكن تذكرتُ معاملته التي لم أرَ منها شيئاً سَيّئاً سوى أنه لا يرد السلام. فاغرورقت عينا سيدتي بالدموع وعلى الفور قررت بأن تصل ما انقطع بعد وفاة زوجها؛ وعاد كيس الخير إلينا مرةً أخرى إلى البيت بذاته، وأستلمه بيدي من ابن سيدي. وكنتُ أشكره فلا يرد علي!! فشكرته بصوتٍ مرتفعٍ فرد عليّ وهو يقول: "لا تؤاخذني فأنا ضعيف السمع كوالدي!".

وهذه قصة طفلةٌ كان لديها تفاحتان، وكانت تمسك كل تفاحةٍ بيد. جاءت أمها وطلبت منها أن تعطيها إحدى التفاحتين، فنظرت الطفلة لأمها بضعة ثوانٍ ثم قضمت إحدى التفاحتين، وبسرعةٍ قضمت التفاحة الثانية. نظرت الأم لابنتها بخيبة أملٍ حيث لم تتوقع هذه الحركة من ابنتها التي تحبها وترعاها. وعندما بدأت الأم بالتوجه بعيداً عن ابنتها فإذا بالبنت تناديها وتعطيها إحدى التفاحتين وهي تقول: "أمي، تفضلي هذه التفاحة؛ فهي الأحلى!".

أما هذه القصة فقد حدثت وقائعها في إحدى الليالي حين جلست سيدةٌ في المطار لعدة ساعاتٍ في انتظار رحلةٍ لها. وأثناء فترة انتظارها ذهبت لشراء كتابٍ وكيسٍ من الحلوى لتقضي بهما وقتها، فجأةً وبينما هي متعمقةٌ في القراءة أدركت أن هناك شابةً صغيرةً قد جلست بجانبها واختطفت قطعةً من كيس الحلوى الذي كان موضوعاً بينهما. قررت أن تتجاهلها في بداية الأمر، ولكنها شعرت بالانزعاج عندما كانت تأكل الحلوى وتنظر في الساعة بينما كانت هذه الشابة تشاركها في الأكل من الكيس أيضاً. حينها بدأت بالغضب فعلاً، ثم فكرت في نفسها قائلة: "لو لم أكن امرأةً متعلمةً وجيدة الأخلاق لمنحتُ هذه المتجاسرة عيناً سوداء في الحال". وهكذا في كل مرةٍ كانت تأكل قطعةً من الحلوى كانت الشابة تأكل واحدة أيضاً. وتستمر المحادثة المستنكرة بين أعينهما وهي متعجبةٌ بما تفعله، ثم إن الفتاة وبهدوءٍ وبابتسامةٍ خفيفةٍ قامت باختطاف آخر قطعة من الحلوى، وقسمتها إلى نصفين؛ فأعطت السيدة نصفاً بينما أكلت هي النصف الآخر! أخذت السيدة القطعة بسرعةٍ وفكرت قائلةً: "يا لها من وقحةٍ، كما أنها غير مؤدبةٍ حتى أنها لم تشكرني". بعد ذلك بلحظاتٍ سمعت السيدة الإعلان عن حلول موعد رحلتها فجمعت أمتعتها وذهبت إلى بوابة صعود الطائرة دون أن تلتفت وراءها إلى المكان الذي تجلس فيه تلك السارقة الوقحة. وبعدما صعدت إلى الطائرة ونعمت بجلسةٍ جميلةٍ هادئةٍ أرادت وضع كتابها الذي قاربت على الانتهاء من قراءته في الحقيبة، وهنا صُعقت بالكامل؛ فقد وجدت كيس الحلوى الذي اشترته موجوداً في تلك الحقيبة، بدأت تفكر: "يا إلهي! لقد كان كيس الحلوى ذاك ملكاً للشابة وقد جعلتني أشاركها به"، حينها أدركت وهي متألمةٌ بأنها هي التي كانت وقحةً غير مؤدبةٍ وسارقةً أيضاً!

وهذا رسّامٌ عجوزٌ كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ، وكان يرسم لوحاتٍ غايةً في الجمال ويبيعها بسعرٍ جيّد. في يومٍ من الأيام أتاه فقيرٌ من أهل القرية وقال له: "أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، لماذا لا تساعد الفقراء في القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزّع كل يومٍ قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء"، لم يردّ عليه الرسام وابتسم بهدوء. خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ ولكنّه بخيلٌ، فنقم عليه أهل القرية. بعد مدّةٍ مرض الرسّام العجوز ولم يُعره أحدٌ من أبناء القرية اهتماماً ومات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجّانياً. وعندما سألوه عن السبب، قال: بأنّ الرسّام العجوز الذي كان يعطيني كل شهر مبلغاً من المال لأرسل لحماً للفقراء، مات فتوقّف ذلك بموته!

وأما هذه القصة فقد حدثت في أحد القطارات؛ حيث يُروى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً مع ابنٍ له يبلغ من العمر 25 سنةً في القطار. وبدا على وجه الشاب الذي كان يجلس بجانب النافذة الكثير من البهجة والفضول؛ أخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي انظر إلى الأشجار تسير وراءنا!"، فتبسم الرجل العجوز متماشياً مع صرخة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتعرف شابٌ في هذا العمر كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً أخرى: "أبي انظر إلى البِركة وما فيها من حيوانات. أبي انظر الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجان من حديث الشاب مرةً أخرى: "أبي إنها تمطر، والماء لمس يدي، انظر يا أبي!"، وفي هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت؛ فسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المستشفى حيث أن ابني قد استرد بصره بعد سنواتٍ طويلةٍ من إصابته بالعمى".

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصص وتلك المواقف بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾، فإذا كنا مطالبين بالتبين والتثبت إذا جاءنا فاسقٌ بنبأٍ فنحن مطالبون من باب أولى بالتبين والتثبت مما نراه نحن بأنفسنا وبأم أعيننا. فالمسلم لا يتسرع في الحكم على الناس، ولا يجعل من المظاهر سنداً للحكم عليهم أو تصنيفهم؛ فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فسألهم النبي: [مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟] قَالُوا: نقول هذا من أشرف الناس، هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ أَنْ يخطب، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لقوله. فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّ رَجُلٌ آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟] قَالُوا: نقول والله يا رسول الله هذا من فقراء المسلمين هذا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ لمَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: [لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا].

قال أحد العلماء: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عذراً، فإن لم تجد فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". وقال غيره: "المؤمن وقَّافٌ حتى يتبين". وقال ثالثٌ: "ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هَمَّ بشيءٍ مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعةٍ من غير تأملٍ للعواقب، كان الغالب عليه الندم".

أما علماء النفس فيقولون أنّ الشخصيّة المتسرّعة بالحكم، من دون النّظر إلى الموضوع بشيءٍ من التروّي، تتّصف بالاندفاع، وعادةً ما يندم المتّصفون بالتسرّع بالأحكام، ويقعون في حرجٍ دائمٍ، ما يجعلهم كثيري الاعتذار إلى الآخرين، رغم أن النبي حذرنا من ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ].

كتب أحدهم يقول: كم نسيء الظن بالآخرين ونحن ﻻ نشعر ولا نسأل ولا نستفسر؛ لكي نعرف لماذا يتصرف البعض بطريقةٍ لا نحبها؟ لعل معهم العذر ولا نعرفه. مهما كان حجم خبرتك وعلمك، ومهما كان موقعك ووجهة نظرك، احرص على عدم الاستعجال بالحكم على الأمور، واعطِ الآخرين الفرصة لتوضيح مقاصدهم. كم مرةً حكمنا على آخرين بغير العدل بسبب التسرع في الحكم عليهم أو على أفعالهم؟ علينا أن نفكر مرتين قبل أن نحكم على الآخرين. دعونا دوماً نعطي الآخرين فرصاً كافيةً قبل أن نحكم عليهم بطريقةٍ سيئة. هناك دائماً سببٌ خلف كل شيءٍ غريبٍ، ودائماً سؤالنا "لماذا؟" أفضل من معاتبتنا قبل أن نعرف.

يقول أهل العلم إن العبد ليصعب عليه معرفة نيته في عمله فكيف يتسلط على نيات الخلق؟! في أغلب الأحيان أنت لا ترى سوى جزء من الصورة فتخيل الجزء الآخر بشكل إيجابي كي لا تظلم الناس أو تبخسهم حقوقهم؛ ففتاةٌ تركب بجوار سائق التاكسي والمقاعد الخلفية فارغةٌ، قد تكون زوجة سائق التاكسي، ورجلٌ بلحيةٍ طويلةٍ يمر من أمام المسجد والناس يصلون فيمضي دون أن يدخل للصلاة قد يكون صلى في مسجدٍ آخر، ورجلٌ جلستَ بجانبه في القطار ألقيتَ عليه التحية فلم يرد عليك السلام قد يكون ببساطة لم يسمعك! في أغلب الأحيان أنت لا ترى سوى جزءٍ من الصورة، فتخيل الجزء الآخر بشكلٍ إيجابيٍ لكيلا تظلم الناس ولا تبخسهم حقوقهم.
قال أحد الصالحين: لو رأيتُ أحد إخواني ولحيته تقطر خمراً لقلتُ ربما سُكبت عليه! ولو وجدته واقفاً على جبلٍ وقال: أنا ربكم الأعلى لقلتُ أنه يقرأ آيةً من القرآن الكريم!
أحبتي .. صدق من قال (في العجلة الندامة)، لا نقصد بالطبع السرعة في قيادة السيارات فحسب، بل نتجاوز ذلك إلى أن السرعة في كل شيء غير مرغوبةٍ، إلا بوجود مقتضىً خاصٍ يتطلبها، أما إذا لم يكن هناك مبررٌ منطقيٌ وموضوعيٌ وصحيحٌ لنكون مسرعين فإن الندامة غالباً ما تكون مآل تسرعنا، خاصةً في الحكم على الناس والمواقف. علينا ألا نتسرع في الحكم على الناس فقد نظلم عزيزاً، وقد نرفع رخيصاً. في التأني السلامة و(في العجلة الندامة)؛ فالحق يتأكد بالبحث والتأني، والباطل بالتسرع وعدم اليقين.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الذين يتبينوا ويتثبتوا ولا يتسرعوا ويتعجلوا في الحكم على الناس أو أفعالهم حتى لا نصبح نادمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/nsVZBJ

الجمعة، 15 فبراير 2019

حصنوا أموالكم


الجمعة 15 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٤
(حصنوا أموالكم)

قصةٌ حقيقيةٌ وقعت أحداثها في المملكة العربية السعودية؛ حين اتخذت إدارة إحدى كليات البنات قراراً بأن يتم تفتيشٌ مفاجئٌ لحقائب الطالبات داخل القاعات. وبالفعل شُكلت لجنةٌ للتفتيش، وبدأ التفتيش عن كل ما هو ممنوعٌ كالهواتف المتحركة، كاميرات التصوير، الصور، الرسائل، وغير ذلك من ممنوعات. كان الأمن مستتباً، والوضع يتسم بالهدوء، والطالبات يتقبلن هذا التفتيش بتفهمٍ ورحابة صدر. أخذت اللجنة تجوب القاعات بكل ثقةٍ وتخرج من قاعةٍ لتدخل أخرى، وحقائب الطالبات مفتحةً أمامهم، وكانت خاليةً إلا من بعض الكتب والأقلام والأدوات اللازمة للكلية. انتهى التفتيش من كل القاعات، ولم تبقَ إلا قاعةٌ واحدةٌ، حيث كانت هي موقع الحدث؛ حيث دخل أعضاء اللجنة إلى هذه القاعة بكل ثقةٍ كما هي العادة، استأذنوا الطالبات في تفتيش حقائبهن، وبدأ التفتيش. كان في طرفٍ من أطراف القاعة طالبةٌ جالسةٌ، وكانت تنظر للجنة التفتيش بطرفٍ عينها ويدها على حقيبتها، وكان قلقها يزداد كلما اقترب دورها، فماذا كانت تخبئ داخل الحقيبة يا ترى؟ ما هي إلا لحظاتٌ وإذا باللجنة تريد تفتيش الطالبة، التي أمسكت حقيبتها بشدة، وكأنها تقول: "والله لن تفتحوها". طلبت المفتشة منها فتح حقيبتها، فرفضت الطالبة وضمت الحقيبة إلى صدرها. حاولت المفتشة سحب الحقيبة بالقوة، والطالبة تصرخ ويزداد تمسكها بحقيبتها. بدأ عراكٌ وتشابكت الأيادي والحقيبة لا تزال بعيدةً عن يد المفتشة. دهشت الطالبات واتسعت أعينهن، ووقفت المحاضرة ويدها على فمها. ساد صمتٌ عجيبٌ في القاعة. يا إلهي ماذا يحدث؟ ما هو الشيء الذي تحاول الطالبة إخفاءه داخل الحقيبة؟ بعد مداولاتٍ بين أعضاء اللجنة اتفقوا على اصطحاب الطالبة وحقيبتها إلى إدارة الكلية لاستئناف التفتيش والتحقيق مع الطالبة. دخلت الطالبة إلى مقر الإدارة ودموعها تنهمر كالمطر، أخذت تنظر في أعين الحاضرات نظراتٍ مليئةٍ بالخوف والغضب لأنهن سيفضحنها أمام الملأ. أجلستها المديرة، وهدأت الموقف، وعندما هدأت الطالبة سألتها المديرة: "ماذا تخبئين يا ابنتي؟"، هنا، وفي لحظةٍ صعبةٍ عصيبةٍ فتحت الطالبة حقيبتها. يا إلهي ..... ما هذا؟! لم يكن في الحقيبة أية ممنوعات أو أشياء محرمة؛ لا جوالات ولا صور. لم يكن فيها إلا بقايا من السندوتشات! نعم هذا هو كل ما كان موجوداً بحقيبة الطالبة! وبعد سؤال الطالبة عن هذه البقايا، قالت بعد أن تنهدت: "هذه بقايا ساندوتشات زميلاتها التي يرمين بها بعد فطورهن؛ حيث يتبقى من الساندوتش نصفه أو ربعه، فأجمع هذه البقايا وأفطر ببعضها، وأحمل الباقي إلى أهلي؛ إلى أمي وأخواتي في البيت ليكون لهم الغداء والعشاء؛ لأننا أسرةٌ فقيرةٌ ومعدومةٌ، ليس لنا أحدٌ، ولا يسأل عنا أحدٌ، وكنت مضطرةً لمنع لجنة التفتيش من فتح حقيبتي كي لا أُحرج أمام زميلاتي في القاعة؛ فعذراً على سوء الأدب معكن". في هذه الأثناء انفجر الجميع بالبكاء، وطال البكاء أمام هذه الطالبة المسكينة.

أحبتي في الله .. هذا الموقف الصعب والمشهد المؤلم ما كان يمكن أن يحدث لو أن كلاً منا أخرج زكاة ماله، ما كان لفقيرٍ أن يقتات على بقايا طعام غيره، ولا كان لمسكينٍ أن يبيت هو وأسرته من غير عشاءٍ، ولا لمتسولٍ أن يجوب الشوارع يمد يده يسأل الناس إلحافاً. إنه مشروعٌ تعبديٌ اقتصاديٌ اجتماعيٌ ينبغي ألا يتخلف أي مسلمٍ عن المشاركة الطوعية فيه، يتم تنفيذه تحت شعار (حصنوا أموالكم).
ليس هذا اجتهاداً فكرياً ولا هو تصورٌ نظريٌ، بل هو مشروعٌ يمكن إعادة تنفيذه حيث كان قد سبق تطبيقه بالفعل في عهد الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز، فبعد أن تولى الخلافة بسنتين وخمسة أشهرٍ وخمسة أيامٍ فقط، كتب إلى واليه بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم -ما يستحقونه من زكاة-، فكتب إليه الوالي: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه عمر: أن انظر كل من أدان في غير سفهٍ ولا سرفٍ فاقضِ عنه، قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن زوِّج كل شابٍ يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر من كانت عليه جزيةٌ - من أهل الكتاب - فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه.
هذا ما حدث حين عرف كل مسلمٍ ما له وما عليه؛ فأدى الجميع حقوق الفقراء ودفعوا زكاة أموالهم ليكفلوا غيرهم من الفقراء وذوي الحاجة حتى اختفى الفقر من دولة الإسلام. إنه مشروعٌ نرى أننا في أشد الاحتياج إليه.

يقول أهل العلم أن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام الخمسة،‏ وعمودٌ من أعمدة الدين التي لا يقوم إلا بها، ‏يُقاتَلُ مانعها، ‏ويُكَّفَر جاحدها، ‏فُرضت في العام الثاني من الهجرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ].
تتضح أهمية الزكاة بأن الله عزّ وجلّ أمر بوجوبها وقرنها مع الصلاة في مواقع كثيرةٍ في القرآن الكريم للدلالة على عظم منزلتها؛ منها قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ﴾.

وللترغيب في أداء الزكاة وتأكيد وجوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، وَاسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلاءِ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ].
وللترهيب من منع الزكاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَانِعُ الزَّكاةِ يَومَ القِيامَةِ في النَارِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [ما منَعَ قَومٌ الزَّكاةَ إلاّ ابتلاهُم اللهُ بالسِّنين]. وفي روايةٍ: [وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ].

والزكاة في اللغة تعني البركة والطهارة والنماء والصلاح‏.‏ وسميت الزكاة لأنها تزيد في المال الذي أُخرجت منه،‏ وتقيه الآفات‏.
والحكمة من مشروعيتها أنها تُصلح أحوال المجتمع مادياً ومعنوياً فيصبح جسداً واحداً متماسكاً، ‏وتطهر النفوس من الشح والبخل، ‏وهي صمام أمانٍ في النظام الاقتصادي الإسلامي ومدعاةٌ لاستقراره واستمراره، وهي من أعلى درجات التكافل الاجتماعي، ‏كما أنها عبادةٌ ماليةٌ، ‏وهي سببٌ لنيل رحمة الله تعالى‏؛ ‏ قال تعالى‏: ﴿‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏﴾‏،‏ وشرطٌ لاستحقاق نصره سبحانه‏؛ ‏ قال تعالى‏:‏ ‏﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ‏﴾،‏ وصفةٌ من صفات المؤمنين الذين يرثون الفردوس؛ ‏قال تعالى‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ‏﴾.
وصدق الشاعر حين قال:
لا تخزنوا المالَ لقَصْدِ الغنى
وتطلبـوا اليسـرى بعسـراكمْ
فـذاكَ فــقـرٌ لـكمْ عـاجـلٌ
أعـاذنـا اللّـهُ وإِيــــاكـمْ
ما قــالَ ذو العـرشِ اخزنـوا
بـل أنفـقـوا ممـا رُزَقْــناكم

أحبتي .. لو أن الزكاة أصبحت مشروع كل مسلم، ما وُجد إنسانٌ مسلمٌ محتاج. فليسارع كلٌ منا إلى إخراج زكاته في موعدها وفي مصارفها الشرعية؛ بذلك نرضي ربنا. أحبتي (حصنوا أموالكم) بالزكاة؛ فبها تطهر أموالنا؛ وتربو وتزداد أرزاقنا. كما أننا اليوم نساعد غيرنا ونحن قادرون، ومن يعلم ربما أصبحنا غداً مثلهم واحتجنا لمن يساعدنا؛ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. ولنعلم أيها الأحبة أن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه، ومحاسبون عليه. والزكاة ليست منةً منا ولا تفضلاً ولا هي إحسان، وإنما هي حقٌ لمستحقيها؛ علينا أن نؤديه بحبٍ وإخلاصٍ ورضا نفسٍ، كما أن علينا أن نحس تجاه متلقي زكاة أموالنا بالشكر والامتنان أن كانوا سبباً في حصولنا على الأجر والثواب بإذن الله.
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعوا وَأَطيعوا وَأَنفِقوا خَيرًا لِأَنفُسِكُم وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾؛ اللهم قنا شح أنفسنا لنكون من المفلحين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/PM46FB



الجمعة، 8 فبراير 2019

التعود على النعمة


الجمعة 8 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٣
(التعود على النعمة)

هذه قصةٌ واقعيةٌ حدثت مع خير البشر؛ مع النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومع اثنين من أقرب الصحابة إليه: أبي بكرٍ الصديق، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: [مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟] قالا: الجوعُ يا رسول الله. قال: [وَأَنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما، قُوما] فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَيْنَ فُلانٌ؟] قالت: ذهب يستعذبُ لنا الماء، إذ جاء الأنصاريُ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمدُ لله، ما أحدٌ اليوم أكرمَ أضيافاً مني. فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسْرٌ وتمرٌ ورطبٌ، فقال: كلوا، وأخذ المُدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ] فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْقِ وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما: [وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ].

وفي روايةٍ: قال صلى الله عليه وسلم: [هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسألون عَنْهُ].
وفي روايةٍ: مرّ عليه الصلاة والسلام حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: [أطْعِمْنا بُسْرًا]، فجاء بعذقٍ فوضعه، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم دعا بماءٍ باردٍ فشرب، فقال: [لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ]، فأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر، ثم قال: يا رسول الله، إنا لمسئولون عن هذا؟ قال: [نَعَمْ، إلا مِنْ كِسْرَةٍ يُسَدُّ بِها جَوْعَةٌ، أوْ حُجْرٌ يُدْخَلُ فِيه مِنَ الحَرِّ والقَرِّ]. وفي روايةٍ: [نَعَمْ، إلا مِنْ ثَلاثَةٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِها عَوْرَتَهُ، أو كِسْرَةٍ سَدُّ بِها جَوْعَتَةُ، أوْ جُحْرٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِنَ الحَرِّ والقَرّ].
ولما نزلت الآية: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ قالت الصحابة: يا رسول الله، وأي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: [أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ].

أحبتي في الله .. تصوروا أن هذا كان حال هذا سيد الخلق أجمعين؛ الذي عرض عليه كفار قريش أن يجمعوا له مالاً كثيراً ليكون أغنى الناس، وعرضوا عليه مُلكاً ليكون أعز الناس، على أن يترك أمر الرسالة فرفض، وقال لهم قولته المشهورة: [وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته]. تخيلوا للحظاتٍ أن هذا كان حال أعظم من أنجبتهم البشرية منذ الأزل وإلى الأبد؛ النبي الكريم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين، يعانون من الجوع ولا يجدون ما يسد رمقهم!
قارنوا بين حياة هؤلاء الذين عانوا شظف العيش والجوع والعطش والبطش والتكذيب والتهجير وكل صنوف العذاب، وبين حياتنا نحن الآن حيث الإسراف والتبذير في كل شيئٍ من: مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ ووسائل نقلٍ وأدوات ترفيهٍ وأمنٍ ونعمٍ كثيرةٍ لا تُعد ولا تُحصى.
هل أحسسنا بكل هذه النعم الظاهرة؟ هل شعرنا بكل النعم الباطنة؟ هل شكرنا المنعم على جميع نعمه وأفضاله؟

يقول أحد الصالحين هناك مرضٌ صامتٌ من أشد الأمراض فتكاً، لا تُرى له ملامح، ولا تشعر له بأية أعراض. إذا تمكن منك فسوف يضرك ضرراً شديداً.
هذا المرض الخطير هو مرض (التعود على النعمة)، وله مظاهر منها: أن تألف نِعمَ اللهِ عليك وكأنها ليست بِنِعَم، وتفقد الإحساس بها، كأنها حقٌ مكتسب. وأن تتعود الدخول على أهل بيتك وتجدهم بخيرٍ وفي أحسن حال، فلا تحمد الله. وأن تذهب للتسوق، وتضع ما تريد في العربة وتدفع التكلفة وتعود لمنزلك دون أدنى إحساسٍ بالمنعم وشكره، لأن هذا شيئٌ عاديٌ. وأن تستيقظ كل يومٍ وأنت في أمانٍ وصحتك جيدةٌ لا تشكو من شيءٍ، دون أن تحمد الله. انتبه! فأنت في هذه الحالات والله في خطر!
إذا أَكلتَ وهناك من بات جائعاً، أو من يملك طعاماً ولا يستطيع أن يأكله، فاحمد الله وأشكره كثيراً. أن تدخل بيتك وقد أنعم الله عليك بالستر والمودة، بوجود أمٍ أو أبٍ أو زوجةٍ وأطفالٍ بصحةٍ وفي أفضل حالٍ، فاحمد الله واشكره كثيراً.
لا تجعل الحياة تُرغمك أن تألف النعم، بل ارغم أنت حياتك أن تألف الْحَمْد والشكر لهذا الإله العظيم؛ فإذا سُئِلت عن حالك؟ لا تقل: لا جديد؛ فأنت في نعمٍ كثيرةٍ لا تحصيها، قد جدَّدها الله لك في يومك هذا، وواجبٌ عليك حمده وشكره؛ فغيرك قد حُرِمها في يومه ذاك!
فكم من آمنٍ أصبح خائفاً، وكم من صحيحٍ أصبح سقيماً، وكم من عاملٍ أصبح عاطلاً، وكم من غَنيٍ أصبح محتاجاً، وكم من مبصرٍ أصبح أعمى، وكم من متحركٍ أصبح عاجزاً. وأنت جُدِّدَت لك كل تلك النعم، فَقُل الحمد لله على ما أعطى وأبقى.

يقول أهل العلم أنه ورد في القرآن الكريم ما يُذَكِّر النّاس بفضل ربّهم ونِعمه عليهم، وكثُرت الآيات الكريمة التي عدّدت تلك الفضائل والنعم، وبعد فيض النِّعم التي ذُكرت في القرآن جُملةً أو مُفصّلةً قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدّوا نِعمَةَ اللهِ لا تُحصوها إِنَّ اللهَ لَغَفورٌ رَحيمٌ﴾؛ فنِعم الله سبحانه وتعالى على عباده عظيمةٌ وجليلةٌ لا يُحصيها من أراد ذكرها وتعدادها، وقد أوجب الشكر عليها ومَدَح الشّاكرين، وذَمَّ جحود النّعم وكفرانها، حيث قال: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ وقال أيضاً: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

وأخبر الله تعالى عباده أنّهم محاسبون يوم القيامة عن كلّ نِعمة تقلّبوا فيها في الحياة الدّنيا، حيث قال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، فكان ذلك الإخبار حُجّةً على الإنسان أنّه سيُسأل عن النّعم التي أوتيها في الحياة الدنيا. يقول المفسرون لهذه الآية الكريمة إن الله سبحانه وتعالى يسأل كل ذي نعمةٍ عما أنعم عليه من كل أنواع النعيم الذي تَنَعَّم به في دار الدنيا، هل قام بشكره، وأدى حق الله فيه، ولم يستعن به على معاصيه، فينعمه نعيماً أعلى منه وأفضل؟ أم اغتر به، ولم يقم بشكره؟ بل ربما استعان به على معاصي الله فيعاقبه على ذلك، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾.
والمراد بالنعيم: ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مالٍ وولدٍ، ومن طعامٍ وشرابٍ، ومن متعةٍ وشهوةٍ. قيل أن النعيم هو ما يُسَد به الجوع، وما يُدفَع به العطش، وما يُستَكَن فيه من الحر، وتُستَر به العورة. وقيل أن النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار. وقيل هو الأمن والرزق والمال والفراغ. وقيل أنه شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخُلُق، ولذة النوم، والتلذّذ حتى عن شَربةِ عسل. هو بالإجمال كل لذةٍ من لذات الدنيا.
ثم إننا سنُسأل يوم القيامة عن ألوان النعم التي منحنا الله تعالى إياها، فمن أدى ما يجب عليه نحوها، من شكر الله تعالى عليها كان من السعداء، ومن جحدها وشغلته عن طاعة ربه، وتباهى وتفاخر بها، وربما استعان بها على معصية الله كان من الأشقياء. الكل سيُسأل، ولكن سؤال المؤمن سؤال تشريفٍ لأنه شكر، وسؤال الكافر سؤال توبيخٍ لأنه قد ترك الشكر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أولَ ما يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقَالَ لَهُ: ألَم نُصِحَّ لَك جِسْمَكَ، وَتُروَ مِنَ الماءِ البارِدِ؟].
وقال صلى الله عليه وسلم: [النَّعِيم المَسْئُولُ عَنْهُ يَوْمَ القِيامَةِ: كِسْرَةٌ تُقَوّيهِ، وَماءٌ يُرْوِيهِ، وَثَوْبٌ يُوَارِيهِ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ].



قال أهل العلم أن المؤمن يعيش دائماً وأبداً مع المنعم، ويعيش الكافر دائماً وأبداً مع النعمة، يستغرق فيها، وينغمس فيها، ويفعل فيها الحرام، هي كل دنياه، إلهه شهوته، لكن المؤمن يعيش مع المنعم، مع خالق النعمة، مع الذي سخرها له، مع الذي أعطاه إياها.
إن في حياة الإنسان نعماً كثيرةً قد لا ينتبه إليها، بحكم (التعود على النعمة). من بين هذه النعم نعمة الصحة، وسوف تُحاسب عنها، أنت بكامل أعضائك، وبكامل حواسك، وبكامل تفكيرك، تتحرك، وتنام، وتستيقظ، وتنظف نفسك بيدك، لستَ بحاجةٍ إلى أحد، ترى، وتسمع، وتفكر، وتعقل، وتشم، وتنطق، وتتكلم. جوارحك كلها سليمةٌ: فهذه العين؛ كيف استخدمتَها؟ هل نظرتَ إلى ما حرَّم الله أم نظرتَ إلى آيات الله؟ هل غضضتَ بصرك عن محارم الله أم نظرتَ إلى الحرام؟ وهذه الأذن؛ إلى ماذا استمعتَ بها؟ هل استمعتَ إلى ما لا يرضي الله؟ أم استمعتَ إلى الحق؟ وهذا اللسان؛ كيف يتحرك؟ بالغيبة، بالنميمة، بالكذب، بالبهتان، بالسخرية؟ أم بقول الحق، ونشر العلم، وذِكر الله عز وجل؟
ومن النعم المغبون فيها الإنسان نعمة الفراغ؛ عندك وقت فراغٍ كيف أمضيتَه؟ في اللهو واللعب، في القيل والقال، في إيذاء الناس؟ أم أمضيتَ هذا الوقت الثمين في مجلس علمٍ، مجلس ذكرٍ، في طاعةٍ، في عملٍ صالحٍ، في توفيقٍ بين اثنين، في كلمةٍ طيبةٍ تلقيها على الناس، في خدمةٍ لإنسانٍ ضعيف، في معونةٍ لإنسانٍ فقير، في معاونة أرملةٍ أو مسكينٍ؟ ونعمة الكفاية؛ عندك ما تأكل، عندك بيتٌ تسكنه، عندك زوجةٌ تحصنك، عندك ولدٌ يعينك. هذه كلها، وغيرها من نعيم الدنيا سوف تُسأل عنها يوم القيامة.

أحبتي ..  انتبهوا حتى لا تصابوا بمرض (التعود على النعمة). حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكَيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

اللهم أَدِمْ علينا نِعَمك ظاهرةً وباطنةً، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء. اللهم لك الحمد حمداً يوافي نعمك ويدفع نقمك ويكافئ مزيدك.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. اللهم إنك قلت وقولك الحق: ﴿لئِن شكرتمْ لأزيدنَّكُم﴾.
اللهم كما رزقتنا النعم، فارزقنا شكرها، واجعلنا حامدين شاكرين فضلك علينا، واجعلنا ممن قلت فيهم: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾. اللهُم اجعلنا جميعاً من عبادك الشاكرين الذاكرين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/1rXHC3

الجمعة، 1 فبراير 2019

إياكم والظلم


الجمعة 1 فبراير 2019م

خاطرة الجمعة /١٧٢
(إياكم والظلم)

بدأ الرجل يروي لنا قصته بهذه العبارة: "من رآني فلا يظلمن أحداً"، يقول الرجل وهو يبكي أنه كان جباراً من الجبابرة، يساعد الظالمين على ظلمهم للناس، وكان أكثرهم ظلماً، وذات يومٍ وبينما هو يتمشى على شاطئ بحيرةٍ رأى صياداً حالفه الحظ في اصطياد سمكةٍ كبيرةٍ جداً، رأى الظالم السمكة فأُعجب بها واندهش من حجمها الكبير، يقول إنه لم يرَ مثلها من قبل، توجه إلى الصياد وقال له بأسلوبٍ غير لائقٍ: "أعطني هذه السمكة يا رجل؛ لأنه ليس من حقك أن تصطاد هنا"، فقال الصياد: "هذا قوت أبنائي الصغار، وليس لدي شيءٌ آخر أقوم به غير عملي هذا" ، فقام الرجل الظالم بضربه، وأخذ السمكة منه بالقوة، وألقاه في البحيرة ومضى في طريقه، وبينما هو عائدٌ إلى البيت فتحت السمكة، بقدرة الله، فمها وعضت يده عضةً قويةً، وعندما وصل إلى البيت ألقى بها من يده؛ فضربت  إبهامه وتسببت له في جرحٍ خطيرٍ وألمٍ شديدٍ جداً لدرجة أنه لم ينم ليلتها نتيجة الألم، وعندما حل الصباح  ذهب الرجل إلى الطبيب يشكو إليه، فقال له الطبيب : "هذه بداية الآكلة؛ ولا بد من قطع الإبهام فوراً، وإذا لم نقطع الإبهام في أقل من يومين من الممكن أن نضطر إلى قطع ذراعك بالكامل!". عاد الرجل إلى بيته محتاراً في أمره لا يدري ماذا يصنع، وبعد مرور الساعات بدأت يده تؤلمه بشدة، بعدها بدأ الألم ينتشر في جسمه بأكمله فتوجه الرجل للمستشفى يستغيث بالطبيب؛ فنصحه الطبيب بقطع يده إلى أعلى الكتف، وبالفعل قَبِل الرجل هذه المرة ما قرره الطبيب، فقام بقطع يده إلى الكتف. وحينما كان الناس يسألونه ما الذي حصل له حتى قُطعت يده، كان يرد وهو يبكي: "إنه صاحب السمكة!". وذات يومٍ حكى الرجل قصته لأحد الشيوخ فقال له: "لو كنتَ بحثتَ عن الصياد صاحب السمكة وتحللتَ منه لما قُطعت يدك"، ونصحه بالبحث عن الرجل وطلب عفوه ومسامحته حتى لا يزيد الألم بالنشر في جسمه بالكامل. وبالفعل خرج الرجل يبحث عن الصياد صاحب السمكة في جميع أرجاء المدينة حتى وجده، فانكب على قدميه يقبلها، ويبكي بحرقةٍ، وأخد يستحلفه بالله أن يسامحه ويعفو عنه، استغرب الصياد من الأمر وسأله: "من أنت؟"، فقال له الرجل: "أنا الذي أخذتُ منك سمكتك منذ وقتٍ بعيدٍ"، وقصَّ له ما وقع له بسبب السمكة من البداية للنهاية، فأخذ الصياد يبكي لما وقع للظالم من بلاءٍ، وقال له أنه قد سامحه، فسأله: "أستحلفك بالله؛ ما قلتَ فيّ يوم أخذتُ منك السمكة بالقوة؟"، أجاب الصياد: "قلت فيك وقتها يا ربِ إن هذا الظالم ظلمني وأخد مني رزق أولادي وتغلب عليّ بقوته، فأرني قوتك فيه يا رب العالمين“.

هذه قصةٌ يتداولها الناس عن الظلم، أما الواقع الذي نعايشه ويجعلنا نقول بأعلى صوتٍ لكل من نعرفه ومن لا نعرفه (إياكم والظلم) فهو شاهدٌ حيٌ على أن عاقبة الظلم وخيمةٌ؛ فهذا ظالمٌ لم يمت إلا بعد أن أذله الله، وهذا نهش جسمه المرض العضال قبل أن يموت، وذلك غرق وهو يسبح في مصيفه، والآخر انقلبت به سيارته، وغيرهم كثيرٌ وكثيرٌ؛ علَّ الظالم يتعظ، وعسى المفتونين بقوة أي ظالمٍ وجبروته أن يعتبروا.

أحبتي في الله .. إن الله سبحانه وتعالى لا يَظلم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ﴾، ولا يرضى الظلم لعباده؛ قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلمًا لِلعالَمينَ﴾، بل وحرَّم الظلم على نفسه وجعله بيننا مُحَرَّماً؛ يقول تعالى في الحديث القدسي: {يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا}.

ووردت في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تنهى عن الظلم وتحذر من عواقبه الوخيمة؛ من ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَرسَلنا عَلَيهِم رِجزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانوا يَظلِمونَ﴾ وقوله: ﴿وَأَخَذنَا الَّذينَ ظَلَموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ﴾، وقوله: ﴿وَلَقَد أَهلَكنَا القُرونَ مِن قَبلِكُم لَمّا ظَلَموا﴾، وقوله: ﴿وَتِلكَ القُرى أَهلَكناهُم لَمّا ظَلَموا﴾، وقوله: ﴿فَتِلكَ بُيوتُهُم خاوِيَةً بِما ظَلَموا إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَعلَمونَ﴾، وقوله كذلك: ﴿فَكُلًّا أَخَذنا بِذَنبِهِ فَمِنهُم مَن أَرسَلنا عَلَيهِ حاصِبًا وَمِنهُم مَن أَخَذَتهُ الصَّيحَةُ وَمِنهُم مَن خَسَفنا بِهِ الأَرضَ وَمِنهُم مَن أَغرَقنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظلِمَهُم وَلكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ﴾.

ووصف سبحانه الظالمين بأنهم لا يفلحون؛ قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّالِمونَ﴾، وبَيَّن لنا أن الظالم من الخاسرين الخائبين؛ قال تعالى: ﴿وَعَنَتِ الوُجوهُ لِلحَيِّ القَيّومِ وَقَد خابَ مَن حَمَلَ ظُلمًا﴾، وتوعد الذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿فَوَيلٌ لِلَّذينَ ظَلَموا مِن عَذابِ يَومٍ أَليمٍ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذينَ يَظلِمونَ النّاسَ وَيَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَظلِم مِنكُم نُذِقهُ عَذابًا كَبيرًا﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا عَذابًا دونَ ذلِكَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَقولُ لِلَّذينَ ظَلَموا ذوقوا عَذابَ النّارِ الَّتي كُنتُم بِها تُكَذِّبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ قيلَ لِلَّذينَ ظَلَموا ذوقوا عَذابَ الخُلدِ﴾. ويصف سبحانه أحوالهم يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿فَيَومَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذينَ ظَلَموا مَعذِرَتُهُم وَلا هُم يُستَعتَبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا ما فِي الأَرضِ جَميعًا وَمِثلَهُ مَعَهُ لَافتَدَوا بِهِ مِن سوءِ العَذابِ يَومَ القِيامَةِ وَبَدا لَهُم مِنَ اللَّهِ ما لَم يَكونوا يَحتَسِبونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَلَو أَنَّ لِكُلِّ نَفسٍ ظَلَمَت ما فِي الأَرضِ لَافتَدَت بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ وَقُضِيَ بَينَهُم بِالقِسطِ وَهُم لا يُظلَمونَ﴾.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اتَّقوا دعوةَ المظلومِ فإنَّها تصعدُ إلى السَّماءِ كأنَّها شرارةٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ].

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنْ وعد الذين يتوبون عن الظلم، ويستغفرون الله، ويُصلحون، ويُبَدِّلون حُسناً بعد سوءٍ وعدهم بالمغفرة والرحمة؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يَعمَل سوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفورًا رَحيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿فَمَن تابَ مِن بَعدِ ظُلمِهِ وَأَصلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتوبُ عَلَيهِ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، وقال تعالى: ﴿إِلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسنًا بَعدَ سوءٍ فَإِنّي غَفورٌ رَحيمٌ﴾. وهذا نبي الله موسى عليه السلام ظلم نفسه واستغفر الله فغفر له؛ قال تعالى: ﴿قالَ رَبِّ إِنّي ظَلَمتُ نَفسي فَاغفِر لي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾.

ومن حِلم الله بعباده أنه يمهلهم كي يتوبوا عن الظلم فيغفر لهم؛ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى  فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.

النصوص عن الظلم في القرآن والسُنة المشرفة كثيرةٌ، وواضحةٌ وضوحاً يغني عن شرحها. المهم أن نفتح قلوبنا لكلام الله سبحانه وتعالى. هلا استشعرنا بصدقٍ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِموْنَ﴾؟ واللهِ لو استشعرناها بصدقٍ وحقٍ لبكينا وندمنا على كل لحظةٍ ظلمنا فيها غيرنا بالفعل أو القول أو الظن.
على أنه من المهم التأكيد على معنىً يغفل عنه الكثيرون؛ ألا وهو أن عذاب الله سبحانه وتعالى لا يقتصر على الظالمين فقط، بل يمتد ليشمل غير الظالمين؛ الذين يركنون إلى الظالمين فيدعمونهم أو يؤيدونهم أو يرضون بقلوبهم ما يفعل الظالمون. يحذرهم الله سبحانه وتعالى ويتوعدهم بأن النار ستمسهم، ويُذَّكِرهم بأنه شديد العقاب؛ قال تعالى: ﴿وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقوا فِتنَةً لا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَموا مِنكُم خاصَّةً وَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾.

ولنا في قصة ثمود قوم سيدنا صالح عبرةٌ وعظةٌ؛ حيث يتضح أن من مكرَ وخطط، ومن ساعد وأَذِن، ومن مول وجهَّز، ومن سكت وتغافل عن قتل الناقة، حاق به العذاب نفسه والوعيد نفسه، واشترك في الذنب نفسه؛ فالقاتل الذي تعاطى وعقر واحدٌ فقط، والمحرضون رهطٌ قليل، وباقي القوم الذين لم يسعوْا لنصرة الحق ولا هم أخذوا على يد القاتل ولا هم تصدوا لمن يحرض على الظلم، اشتركوا جميعاً في العذاب؛ يقول الحق سبحانه: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا . إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا . وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾.

أحبتي .. نداءٌ أوجهه للظالمين؛ أقول لهم: (إياكم والظلم)، توقفوا عنه وتوبوا يرحمكم الله ويغفر لكم. وكلمةٌ من القلب للغافلين الذين ما يزالون يركنون إلى الذين ظلموا؛ أقول لهم: أفيقوا من قبل أن تُحاسَبوا على ظلمٍ لم تقترفه أيديكم، وإنما حرضتم عليه أو مكَّنتم له أو وافق هوى قلوبكم فسكَّتُم، ولم تعملوا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: [انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: [تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ]، وفي روايةٍ: [تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ]. انتبهوا أحبتي فالحديث يوجهكم إلى فعلٍ إيجابيٍ تُثابون على القيام به، والظالمون، كما هو ظاهرٌ لكم، لا عهد لهم حتى مع أقرب الناس إليهم؛ ألا يكفي أنهم قد خانوا الله من قبل، فهل أنتم أعز عندهم من الله؟! ألا تعقلون؟ كم من الذين خالفوا قول الله وركنوا إلى الظالمين صاروا الآن بين يديه سبحانه وتعالى ينتظرون أن تمسهم النار، هؤلاء أغلقوا عيونهم وصموا آذانهم وأماتوا الفطرة السليمة في قلوبهم؛ فلم يأبهوا بتحذير الله لهم ووعيده؛ فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم! أفلا تتعظون؟

اللهم أرنا قوتك في الظالمين، ولا تجعلنا منهم، وتُب علينا واغفر لنا وارحمنا إن نحن تبنا وندمنا وتوقفنا عن الظلم، ولا تجعلنا ربنا للظالمين أعواناً، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيرا لننصرهم ونأخذ على أيديهم ونحجزهم ونمنعهم من الظلم، أنت ولينا ومولانا.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/sVhsWR