الجمعة، 11 ديسمبر 2020

البصر والبصيرة

 

خاطرة الجمعة /269


الجمعة 11 ديسمبر 2020م

(البصر والبصيرة)

 

جرت وقائع هذه القصة بين بعض العرب المقيمين بالمملكة المتحدة عام 2007م، يقول كاتبها:

دخلنا إلى أحد المطاعم العربية في لندن قبيل الغروب لتناول العشاء، جلسنا وجاء النادل لأخذ الطلبات، استأذنتُ من الضيوف لدقائق ثم عدتُ؛ فسألني أحدهم، قال: أين ذهبتَ دكتور لقد تأخرتَ علينا كثيراً أين كنت؟

قلتُ: أعتذر؛ كنت أصلي.

قال مبتسماً: هل مازلت تُصلي؟ يا أخي أنت صاحب فكرٍ قديم!

قلتُ مبتسماً: قديم؟! لماذا؟ وهل الله موجودٌ فقط في الدول العربية؟ ألا يوجد الله في لندن؟

قال: دكتور، أريد أن أسألك بعض الأسئلة ولكن أرجوك تحملني قليلاً برحابة صدرك المعهودة.

قلتُ: بكل سرورٍ، ولكن لديّ شرطٌ واحدٌ فقط.

قال: تفضل.

قلتُ: بعد أن تنتهي من أسئلتك، عليك أن تعترف بالنصر أو الهزيمة، موافق؟

قال: اتفقنا، وهذا وعدٌ مني.

قلتُ: لنبدأ المناظرة؛ تفضل.

قال: منذ متى وأنتَ تصلي؟

قلتُ: تعلمتها منذ أن كنتُ في السابعة من عمري، وأتقنتها وأنا في التاسعة من عمري، ولم أفارقها قط، ولن أفارقها إن شاء الله تعالى.

قال: وماذا لو أنك بعد الوفاة اكتشفتَ بأنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ، فماذا ستفعل؟

قلتُ: سأتحملك، وأُكمل المناظرة معك حسب فرضيتك؛ فلنفرض أنه لا توجد جنةٌ ولا توجد نارٌ، ولا يوجد ثوابٌ ولا عقابٌ، لن أفعل أي شيءٍ لأنني أصلاً كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن عبدتك لأنك أهلٌ للعبادة".

قال: وصلاتك التي واظبتَ عليها لعشرات السنين، ثم تجد أن من صلى ومن لم يصلِ سواء، ولا يوجد شيءٌ اسمه سقر؟

قلتُ: لن أندم عليها لأنها لم تأخذ مني سوى دقائق في اليوم، وسأعتبرها رياضةً جسديةً.

قال: وصومك، لا سيما وأنت في لندن، والصوم هنا يصل في بعض الأيام إلى أكثر من 18 ساعة في اليوم؟

قلتُ: سأعتبر صومي رياضةً روحيةً فهو ترويضٌ نفسيٌ وروحيٌ من الطراز الرفيع، وكذلك فيه منفعةٌ صحيةٌ كبيرةٌ أفادتني في حياتي، وتوجد تقارير دولية من جهاتٍ ليست إسلاميةً أصلاً أكدت أن الامتناع عن الطعام لفترةٍ فيه منفعةٌ كبيرةٌ للجسد.

قال: هل جربتَ شرب الخمر؟

قلتُ: لم أذق طعمه أبداً.

قال مستغرباً: أبداً؟!

قلتُ: أبداً.

قال: وماذا تقول عن حرمانك لنفسك في هذه الحياة من لذة الخمر ومتعته ومتعة جلوسه بعد أن تكتشف صدق فرضيتي؟

قلتُ: أكون قد منعتُ وحصنتُ نفسي من ضرر الخمر الذي هو أكثر من نفعه؛ فكم من مريضٍ بسبب الخمور، وكم من مدمرٍ لبيته وعياله من أثر الخمور، وانظر أيضاً إلى التقارير الدولية من جهاتٍ غير إسلاميةٍ تحذر من آثار الخمور وآثار الإدمان عليها.

قال: والذهاب للحج والعمرة بعد أن تكتشف بعد الوفاة أنه لا يوجد شيءٌ من هذا، وأن الله غير موجودٍ أصلاً.

قلتُ: سأسير حسب فرضيتك ووعدتك بأن أتحمل أسئلتك، سأعتبر الذهاب إلى الحج والعمرة سفرةً جميلةً شعرتُ فيها بمتعةٍ روحيةٍ راقيةٍ ساهمت في غسل وتنقية الروح كما تساهم سفراتٌ أنت قمتَ بها من أجل قضاء وقتٍ جميلٍ لطرد ضغوط العمل وقتل الروتين وساهمت في إنعاش الروح.

ظل ينظر إلى وجهي لثوانٍ صامتاً، ثم قال: شكراً لأنك تحملتني برحابة صدر، أسئلتي انتهت، وأعترف لكَ بالهزيمة.

قلتُ: ماذا تعتقد شعوري بعد أن اعترفتَ أنتَ بالهزيمة؟

قال: بالتأكيد أنت الآن سعيدٌ جداً.

قلتُ: لا أبداً؛ على العكس تماماً، أنا حزينٌ جداً.

قال مستغرباً: حزين؟! لماذا؟!

قلتُ: الآن جاء دوري لأن أسألك.

قال تفضل:

قلتُ: ليست لدي أسئلةٌ عديدةٌ مثلك، لكن هو سؤالٌ واحدٌ فقط لا غير وبسيط جداً.

قال: ما هو؟

قلتُ: بيّنتُ لك بأنني لن أخسر شيئاً في حال حصلت فرضيتك أنت، أما سؤالي الوحيد والبسيط هو: ماذا لو عكسنا فرضيتك؛ وأنك بعد الوفاة اكتشفتَ أن الله تعالى موجودٌ فعلاً، وأن جميع المشاهد التي وصفها الله تعالى في القرآن الكريم موجودةٌ حقاً؟ ماذا أنتَ فاعلٌ حينها؟

ظل ينظر إلى عينيّ، ولم ينبس ببنت شفة، وأطال النظر إليّ صامتاً، وقاطعنا النادل الذي أوصل الطعام إلى مائدتنا؛ فقلتُ له: لن أطلب الإجابة الآن، حضر الطعام، لنأكل وعندما تكون إجابتك جاهزةً من فضلك أخبرني بها.

أنهينا الطعام ولم أحصل منه على إجابةٍ، ولم أحرجه وقتها بطلبها، وغادرنا المطعم بصورةٍ طبيعيةٍ جداً.

بعد شهرٍ اتصل بي طالباً مني اللقاء في ذات المطعم؛ التقينا وتصافحنا، وإذا به يطوقني بين ذراعيه واضعاً رأسه على كتفي وأجهش بالبكاء. وضعتُ ذراعيّ على ظهره وقلتُ له: ماذا بك؟

قال: جئتُ لأشكرك، ودعوتك إلى هنا لأقول لك جوابي، لقد رجعتُ إلى الصلاة بعد أن قطعتها لأكثر من عشرين عاماً؛ كانت أجراس كلماتك ترن في ذهني ولم تتوقف، لم أذق طعم النوم، لقد أثرتَ بركاناً في روحي وفي نفسي وفي جسدي، وصدقني شعرتُ بأنني إنسانٌ آخر، وأن روحاً جديدةً بدأت تسري في هذا الجسد مع راحة ضميرٍ لا مثيل لها.

قلتُ له: ربما تلك الأجراس أيقظتْ بصيرتك بعد أن خذلك بصرك.

قال: هو ذاك تماماً، فعلاً أيقظتْ بصيرتي بعد أن خذلني بصري، شكراً لك من القلب أخي الحبيب.

 

أحبتي في الله .. كأن هذه القصة هي تفصيلٌ لموقفٍ مرَّ به أحد الدعاة؛ حين سأله ملحدٌ: "ما شعورك لو متَ واكتشفتَ أن الآخرة كذب؟! فقال: ليس أسوأ من شعورك إذا متَ واكتشفتَ أن الآخرة حقيقة"!

ما لفت انتباهي في هذه القصة العبارة

التي انتهت بها: "ربما تلك الأجراس أيقظتْ بصيرتك بعد أن خذلك بصرك"،

فهل هناك فرق بين (البصر والبصيرة)؟

 

يقول أهل الاختصاص إن البصر هو أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم من حولنا، والإبصار هو رؤية الأشياء وإدراكها والتعرف عليها بواسطة العين التي هي أداة النظر؛ يقول تعالى: ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ . وكم رأينا من عيونٍ تدور في مَحجرها وتتجه نحو الشيء المنظور إليه لكنها لا تراه؛ إذ عملية الإبصار لم تتم؛ يقول تعالى: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾، فالأمر يبدأ بالنظر ثم يتبعه البصر وينتهي بالرؤية. أما في مشهد البعث والحشر، حينما يقف المشرك بين يدي الله فإنه يرى الحقيقة التي لا مفرّ منها رأيَ العين؛ إذ كان بصره مغطىً بغشاوةٍ في الحياة الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ تم كشفها يوم الحساب؛ يقول تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾.

 

وعن (البصر والبصيرة) يقولون إن البصر -وأداته العين- يريك ظاهر الأشياء، والبصيرة -وأداتها القلب- تريك حقائق الأشياء؛ ففي اللحظة التي تتحقق فيها البصيرة لا تكون العين هي التي تُبصر، وإنما يكون القلب هو الذي يدرك. يمكنا القول إذن إن البصر هو للآفاق أما البصيرة فهي للأعماق؛ فيكون نظر القلب أصدق من نظر العين، فبالعين نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً قد يكون فيه التباسٌ وغموض، لا يرفعه إلا ضوءٌ يكشف لنا حقيقة الأشياء، هذا الضوء هو البصيرة، وهي هامةٌ حتى قيل إن الشيء الأسوأ من العمى، هو أن يمتلك الإنسان البصر ويفتقد البصيرة.

 

وعن (البصر والبصيرة) يقول أحد العلماء إن البصيرة، هي قدرة القلب على إدراك الأشياء وسبر أغوارها، وهي القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه. وقد يكون الإنسان صاحب بصرٍ قويٍ لكنه ذو بصيرةٍ ضعيفةٍ؛ يقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظلام -حيث تتشابه الأشياء فلا يمكن تمييز بعضها عن بعض- فكذلك إذا فقدنا البصيرة؛ فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسانٍ صاحب بصيرةٍ، وآخر يفتقدها. إن عمل البصيرة في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوءٍ منيرٍ في وسط ظلمةٍ حالكةٍ، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زُينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس لذوي الأنفس الضعيفة. فالبصيرة نورٌ ربانيٌ يهتدي به المؤمن؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾.

 

وعن أعمى البصيرة قال الشاعر:

يُمسي ويصبحُ في عَشواءَ يخبِطها

أعمى البَصيرةِ والآمالُ تَزرَعُه

يَغترُ بالدَهرِ مَسروراً بصحبتهِ

وقد تيقّنَ أنَّ الدَّهرَ يَصرَعُه

ويجمعُ المالَ حِرصاً لا يفارقُه

وقد درى أنه للغَيرِ يَجْمعُه

تراه يشفقُ مِن تَضييعِ درهمِه

وليسَ يشفِقُ مِن دِيِنٍ يُضيِّعُه

وأسوأُ الناسِ تدبيراً لعاقبِةٍ

مَن أنفقَ العُمرَ فيما ليسَ ينفعُه

 

أحبتي .. بالعين ننظر وبالدماغ نبصر ونرى، لكننا بالقلب وحده تكون لدينا بصيرة، ولا يعوض فقد البصر سوي البصيرة، فاللهم نسألك تمام حفظ البصر وكمال سلامة البصيرة.

 

https://cutt.ly/6hIdECh

الجمعة، 4 ديسمبر 2020

النفس المطمئنة

 

خاطرة الجمعة /268


الجمعة 4 ديسمبر 2020م

(النفس المطمئنة)

 

حدثت هذه القصة لطفلةٍ صغيرةٍ تقيةٍ نقيةٍ صالحةٍ، رغم صغر سنها، روى لنا أبوها قصتها، وهو لبنانيٌ عمل في السعودية فترةً من الزمن، قال: عشتُ في الدمام عشر سنين، ورُزقت فيها بابنةٍ واحدةٍ أسميتها ياسمين، وكان قد وُلد لي قبلها ابنٌ واحدٌ أسميته أحمد، وكان يكبرها بثمان سنواتٍ، وكنتُ أعمل في مهنةٍ هندسيةٍ؛ فأنا مهندسٌ وحائز على درجة الدكتوراة. كانت ياسمين آيةً من الجمال لها وجهٌ نورانيٌ زاهر. ومع بلوغها تسع سنواتٍ رأيتها من تلقاء نفسها تلبس الحجاب وتُصلي وتُواظب على قراءة القرآن بصورةٍ ملفتةٍ للنظر؛ فكانت ما إن تنتهي من أداء واجباتها المدرسية حتى تقوم على الفور وتفترش سجادة صلاتها الصغيرة وتأخذ مصحفها وترتل القرآن ترتيلاً طفولياً ساحراً، كنتُ أقول لها: "قومي العبي مع صديقاتك"، فكانت تقول: "صديقي هو قرآني، وصديقي هو ربي، ونعم الصديق" ثم تُواصل قراءة القرآن.

وذات يومٍ اشتكت من ألمٍ في بطنها عند النوم؛ فأخذتها إلى المستوصف القريب وأعطاها الطبيب بعض المسكنات فهدأت آلامها يومين ثم عاودتها، وهكذا تكررت الحالة، ولم أعطِ الأمر حينها أي جدية. وشاء الله أن تفتح الشركة التي أعمل بها فرعاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وعرضوا عليّ منصب المدير العام هناك فوافقت، ولم ينقضِ شهرٌ واحدٌ حتى كنا في أمريكا أنا وزوجتي وأحمد وياسمين. بعد مُضيّ قُرابة الشهرين على وصولنا عاودت الآلام ياسمين فأخذتها إلى طبيبٍ باطنيٍ متخصصٍ؛ فقام بفحصها وقال: "ستظهر النتائج بعد أسبوعٍ ولا داعي للقلق". أدخل كلام الطبيب الاطمئنان إلى قلبي، وسرعان ما حجزتُ لنا مقاعد على أقرب رحلةٍ إلى مدينة الألعاب ديزني لاند بأورلاندو وقضينا وقتاً ممتعاً مع ياسمين بين الألعاب والتنزه هنا وهناك. وبينما نحن في قمة المرح رنّ هاتفي النقال؛ فوقع قلبي، لا أحد في أمريكا يعرف رقمي، عجباً، أكيد الرقم خطأ، ترددتُ قليلاً، ثم ضغطتُ على زر الإجابة.

- آلو .. من المتحدث؟

- أهلا يا حضرة المهندس، معذرةً على الإزعاج، أنا الدكتور ستيفن، طبيب ياسمين، هل يمكنني لقاؤك في عيادتي غداً؟

- وهل هناك ما يُقلق في النتائج؟

- في الواقع نعم؛ لذا أود رؤية ياسمين، وطرح عددٍ من الأسئلة قبل التشخيص النهائي.

- حسناً سنكون عصر غدٍ عند الخامسة في عيادتك، إلى اللقاء.

اختلطت المخاوف والأفكار في رأسي، ولم أدرِ كيف أتصرف، فقد بقي في برنامج الرحلة يومان، وياسمين في قمة السعادة لأنها المرة الأولى التي تخرج فيها للتنزه منذ وصولنا إلى أمريكا. أخيراً أخبرتهم بأن الشركة تريد حضوري غداً إلى العمل لطارئٍ ما، وهي فرصةٌ جيدةٌ لمتابعة تحاليل ياسمين، فوافقوا جميعاً على العودة بشرط أن نرجع إلى أورلاندو في العطلة الصيفية. في العيادة استهل الطبيب ستيفن حديثه لياسمين بقوله:

- مرحباً ياسمين، كيف حالك؟

- بخير ولله الحمد، ولكني أحس بآلامٍ وضعفٍ، لا أدري ما السبب؟

بدأ الطبيب يطرح الأسئلة الكثيرة، وأخيراً طأطأ رأسه وقال لي:

- تفضل في الغرفة الأخرى.

وفي الحجرة أنزل الطبيب على رأسي صاعقةً تمنيتُ عندها لو أن الأرض انشقت وبلعتني، قال الطبيب:

- منذ متى وياسمين تُعاني من المرض؟

قلتُ: منذ سنةٍ تقريباً، وكنا نستعمل المهدئات وتتعافى.

فقال الطبيب: ولكن مرضها لا يتعافى بالمهدئات؛ إنها مصابةٌ بسرطان الدم في مراحله الأخيرة جداً، ولم يبقَ لها من العمر إلا ستة أشهرٍ، وقبل مجيئكم تم عرض التحاليل على أعضاء لجنة مرضى السرطان في المنطقة وقد أقروا جميعاً بذلك من واقع التحاليل. لم أتمالك نفسي وانخرطتُ في البكاء، وقلتُ: مسكينةٌ، واللهِ مسكينةٌ ياسمين هذه الوردة الجميلة، كيف ستموت وترحل عن الدنيا؟ سمعت زوجتي صوت بكائي فدخلت الغرفة، ولما علمت بالأمر أُغمى عليها، وهنا دخلت ياسمين و‏ابني أحمد، وعندما علم أحمد بالخبر احتضن أخته، وقال: "مستحيل أن تموت ياسمين"؛ فقالت ياسمين ببراءتها المعهودة: "أموت؟ ماذا يعني أموت؟"، فتلعثم الجميع من هذا السؤال، فقال الطبيب: "يعني سترحلين إلى الله"، فقالت ياسمين: "حقاً سأرحل إلى الله؟ وهل هو سيئٌ الرحيل إلى الله؟ ألم تعلماني يا والديّ بأن الله أفضل من الوالدين والناس وكل الدنيا؟ وهل رحيلي إلى الله يجعلك تبكي يا أبي ويجعل أمي يُغمى عليها؟"، فوقع كلامها البريء الشفاف مثل صاعقةٍ أخرى؛ فياسمين ترى في الموت رحلةً شيقةً فيها لقاءٌ مع الحبيب.

قال الطبيب:

- علينا الآن أن نبدأ العلاج.

فقالت ياسمين: إذا كان لابد لي من الموت فلماذا العلاج والدواء والمصاريف؟

- نعم يا ياسمين، نحن الأصحاء أيضاً سنموت؛ فهل يعني ذلك أن نمتنع عن الأكل والعلاج والسفر والنوم وبناء مستقبل؟ لو فعلنا ذلك لتهدمت الحياة ولم يبقَ على وجه الأرض كائنٌ حي. تعلمين يا ياسمين بأن في جسد كل إنسانٍ أجهزةً وآلاتٍ كثيرةً هي كلها أماناتٌ من الله أعطانا إياها لنعتني بها، فأنتِ مثلاً إذا أعطتك صديقتك لعبةً هل ستقومين بتكسيرها أم ستعتنين بها؟

ياسمين: بل سأعتني بها وأحافظ عليها.

الطبيب: وكذلك هو الحال لجهازك الهضمي والعصبي والقلب والمعدة والعينين والأذنين، كلها أجهزةٌ ينبغي عليك الاهتمام بها وصيانتها من التلف، والأدوية والمواد الكيميائية التي سنقوم بإعطائك إياها إنما لها هدفان؛ الأول تخفيف آلام المرض، والثاني المحافظة قدر الإمكان على أجهزتك الداخلية من التلف حتى عندما تلتقين بربك وخالقك تقولين له لقد حافظتُ على الأمانات التي جعلتني مسئولةً عنها، ها أنا ذا أعيدها إليك سليمةً، إلا ما تلف من غير قصدٍ مني.

ياسمين: إذا كان الأمر كذلك، فأنا مستعدةٌ لأخذ العلاج حتى لا أقف أمام الله كوقوفي أمام صديقتي إذا كسرتُ لعبها وحاجياتها.

مضت الشهور الستة ثقيلةً وحزينةً بالنسبة لنا كأسرةٍ ستفقد ابنتها المدللة والمحبوبة، وعكس ذلك كان بالنسبة لابنتي ياسمين؛ فكان كل يومٍ يمر يزيدها إشراقاً وجمالاً وقرباً من الله تعالى؛ قامت بحفظ سورٍ من القرآن، وسألناها لماذا تحفظين القرآن؟ قالت: علمتُ بأن الله يحب القرآن؛ فأردتُ أن أقول له يا ربِ حفظتُ بعض سور القرآن لأنك تحب من يحفظه.

وكانت كثيرة الصلاة وقوفاً، وأحياناً كثيرةً كانت تصلي على سريرها، فسألتها عن ذلك فقالت: سمعتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [جُعلت قرة عيني في الصلاة] فأحببتُ أن تكون لي الصلاة قرة عين.

وحان يوم رحيلها، وأشرق بالأنوار وجهها، وامتلأت شفتاها بابتسامةٍ واسعةٍ، وأخذت تقرأ سورة «يس» التي حفظتها، وكانت تجد مشقةً في قراءتها، إلى أن ختمت السورة، ثم قرأت سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ثم آية الكرسي، ثم قالت: الحمد لله العظيم الذي علمني القرآن وحفظنيه، وقوى جسمي للصلاة، وساعدني وأنار حياتي بوالدين مؤمنين مسلمين صابرين، حمداً كثيراً أبداً، وأشكره لأنه لم يجعلني كافرةً أو عاصيةً أو تاركةً للصلاة، ثم قالت: "تنح يا والدي قليلاً، فإن سقف الحجرة قد انشق، وأرى أُناساً مبتسمين، لابسين البياض، وهم قادمون نحوي ويدعونني لمشاركتهم في التحليق معهم إلى الله تعالى"، وما لبثت أن أغمضت عينيها وهي مبتسمةٌ، ورحلت إلى الله رب العالمين.

اللهم ارحم هذه الطفلة الصالحة وارحمنا برحمتك وأحسن خاتمتنا.

 

 

أحبتي في الله .. لم أجد وصفاً لياسمين؛ الطفلة البريئة النقية التقية، رحمها الله، إلا أنها كانت صاحبة نفسٍ مطمئنة.

يقول أهل العلم:

إن نفس الإنسان واحدةٌ ولكن لها صفاتٍ، فتُسمى باعتبار كل صفةٍ؛ فهي الأمارة بالسوء، وهي اللوامة، وهي المطمئنة:

النفس الأمارة بالسوء مذمومةٌ؛ فهي التي تأمر بكل سوءٍ، وهذا من طبيعتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحدٌ من شر نفسه إلا بتوفيق الله له؛ كما يقول تعالى حاكياً عن امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ َلأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

أما النفس اللوامة فهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾. قيل إن اللوم من التلوم، وهو التردد؛ فهي نفسٌ كثيرة التقلب والتلون لا تثبت على حالٍ واحدة. وقيل إنها نفس المؤمن تلوم صاحبها دائماً. وقيل بل هي نفس كل واحدٍ، مؤمناً كان أو غير مؤمنٍ؛ فالمؤمن تلومه نفسه على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، وغير المؤمن تلومه على فوات حظها وهواها!

وأما (النفس المطمئنة) فهي النفس المؤمنة، الآمنة، المخلصة، المصدقة بالثواب، الساكنة لما علمت من رضى ربها عنها. طمأنينتها إلى ربها تكون في محبته وعبوديته وكثرة ذِكره والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه والتسليم بقضائه وحُسن الظن به؛ فترى صاحب (النفس المطمئنة) يستغني بمحبة ربه عن حب مَن سواه، وبذِكره عن ذِكر من سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى من سواه؛ ولا يحصل ذلك إلا بذِكر الله؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

والنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذِكره وأنابت إليه، اشتاقت إلى لقائه، وأنِست بقربه، سكنت إلى ربها وطاعته وذِكره، واطمأنت إلى محبته وعبوديته، وإلى أمره ونهيه، وإلى لقائه ووعده، وإلى قضائه وقدره، وإلى كفايته وحسبه وضمانه، وإلى أنه هو وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.

إن (النفس المطمئنة) واحدةٌ من درجات النفس الإنسانية، ترتقي من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ثم تصل إلى درجة الاطمئنان، فتسكن إلى الله وترضى بما رضي الله به؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، هي النفس التي أيقنت أن الله ربها، وأخبتت له، فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ قبضها اطمأنت إليه، واطمأن إليها، ورضيت عنه، ورضي عنها، فجعلها من عباده، وأدخلها جنته.

لقد امتحن الله سبحانه وتعالى الإنسان بالنفسين: الأمارة بالسوء، واللوامة، وأكرمه بالمطمئنة، وهي غاية كمالها وصلاحها.

ومن وسائل إصلاح النفس حتى ترتقي إلى هذه الغاية؛ المحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل، وتلاوة القرآن العظيم وتدبره، ومداومة ذِكر الله عز وجل، وشهود مجالس العلم، ومحاسبة النفس على ما تدعوه إليه من الشهوات والمعاصي، ومصاحبة الصالحين، والإكثار من دعاء الله أن يكفينا شر أنفسنا.

يقول أحد العارفين: «استعصت عليّ نفسي قيام ليلةٍ فصوَّمتُها سنة»؛ فالنفس كالفرس الجموح تحتاج إلى مَن يُروِّضها، فإذا نجح في ترويضها سيصل حتماً إلى (النفس المطمئنة) الراضية بقضاء الله وقدره، البسيطة الرقيقة والمتواضعة دائماً.

 

أحبتي .. كلٌ منا يُصيب ويُخطئ، لكن علينا أن نُحاسب أنفسنا حساباً عسيراً، ونتهمها دائماً بالنقص كي نصل إلى الكمال. على كلٍ منا أن يتصدى دائماً بنفسه اللوامة لوسوسات نفسه الأمارة بالسوء، ويُكثر من ذِكر الله بعباداتٍ خالصةٍ لوجهه الكريم؛ فيمُّن سبحانه وتعالى عليه بالوصول إلى مرحلة (النفس المطمئنة) فيكون من الفائزين بالرضا وراحة البال في الدنيا، ومن الداخلين في زمرة عباد الله أصحاب الجنة في الآخرة.

ولنحذر أن تطمئن نفوسنا بالحياة الدينا وترضى بها فنغفل عن آيات الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

 

https://bit.ly/3ogiJXI

الجمعة، 27 نوفمبر 2020

كافل اليتيم

 

الجمعة 27 نوفمبر 2020م


خاطرة الجمعة /٢٦7

(كافل اليتيم)

 

قصة اليوم كتبها معلم للصف الأول الابتدائي ونشرها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي المشهورة، كتب يقول: كانت الحصة في مادة القراءة، بدأ الطلاب يعملون في حل تدريبٍ كتابي، انتهى البعض، بدأتُ أتجول بينهم أُصوِّب لمن انتهى منهم من الحل. كنتُ وما زلتُ صاحب مسبحةٍ لا تفارق جيبي ولا يدي منذ فترةٍ طويلةٍ، وبينما كنتُ منحنياً للتصويب لأحد الطلاب إذ بالمسبحة قد ظهر جزءٌ منها من فتحة جيبي، أحسستُ بمن يعبث بها ويلامسها بأصبعه الصغير، لم ألتفت والتزمتُ وضعيتي، أطلتُ التدقيق في التصويب، ونظرتُ نظرةً من تحت يدي فشاهدتُ أحد الطلاب يداعب المسبحة العالقة من فتحة جيبي ويتبسم بهيامٍ غريب! اعتدلتُ وأخرجتُ السبحة بهدوء؛ ووضعتها بحجره دون أن ألتفت إليه، ثم اتجهتُ إلى السبورة وعدتُ للشرح، وطلبتُ من الصغار تجهيز أنفسهم لفسحة الإفطار. لمحتُ الصغير، وإذا به قد وضع المسبحة فوق الطاولة بين يديه؛ يدلكها بقوةٍ ثم يشمها ويُسبِّل لها بعينيه البريئتين الجميلتين! تعجبتُ من تصرفه، ولم أرغب أن يراني أرقبه. قُرع جرس نهاية الحصة؛ وبدأ الأطفال يتوافدون إلى الخارج، وطفلي صاحب المسبحة باقٍ في مكانه ويفعل ما كان قد فعله! لم أنظر إليه؛ تشاغلتُ بترتيب الصف والسبورة، تقدم الطفل إليّ وقال: "أبي" توقف ثم قال: "أستاذ، سِبْحتك"! مددتُ يدي لأخذها، وأثناء شكري له أمسك يدي وقبَّلها وقال: "أنا أحبك يا أستاذ"! نزلتُ له جاثياً على ركبتيّ وقبلتُ رأسه وقلتُ له: "وأنا أحبك" وحضنته؛ فإذا بقلبه يخفق! خرج من الصف، وخرجتُ بعده، وأفكارٌ كثيرةٌ تدور في ذهني؛ أن يقول لك طفلٌ صغيرٌ: "أحبك" فهذا شرفٌ كبيرٌ لا زيف أو نفاق فيه، كلمةٌ تعادل عندي مديح المدير، ودرجة الأداء الوظيفي بامتياز، وتقدير المشرف التربوي بالثناء العطر، وتكريم مدير التعليم بالتميز، وتتويج الوزير بالإتقان!

بدأتُ أُفتش عن ملف هذا الطفل؛ وجدتُ ملفه وفتحته، وصلتُ إلى دفتر العائلة، صورة الأب لم تكن موجودة، وخُتم مكانها بخاتم «متوفَى»! إنه السر إذن. علمتُ لاحقاً أن والد الطفل كان قد تُوفي قبل دخوله المدرسة بشهرٍ واحدٍ إثر حادث مروريٍ وهذا الطفل اليتيم ابنه الأول. كان الطل يتمنى أن يشاركه والده تجربته المدرسية فغيبته أقدار الله عنه، فكان الطفل يبحث عن أبٍ بديلٍ يعوضه حنان الأب الذي غاب عنه.

ذلك الموقف غيَّر مسار حياتي المهنية وعلاقاتي الإنسانية؛ بتُ أؤمن بأن التربية قيمةٌ ورسالةٌ عظيمةٌ وليست مجرد مهنة. بعد ذلك الموقف بدأتُ أعزز هذا الطفل الصغير بالملامسة والسلام ومسح الرأس والربت على ظهره، واعتدتُ أن أقف بقربه في طابور الصباح، وأتابعه في اليوم الدراسي كاملاً، وأتفقده في جميع المواد.

نجح الطفل وانتقل إلى الصف الثاني، ومع ذلك حين كان يلعب كرة القدم في حصة التربية الرياضية وضربه أحد زملائه انطلق باكياً وتعدى معلم التربية الرياضية الذي كان يُحكِّم المباراة ودخل إلى غرفة المعلمين واتجه نحوي ودموعه تسيل من عينيه وقال: "فلانٌ ضربني"، فقلتُ له: "ليس له حق"، فقال: "قُم واحسب لي بلنتي «ضربة جزاء»"! فقلتُ: "أبشر"، وخرجتُ معه إلى الملعب، وأعلنتُ احتجاجي عند الحكم؛ معلم التربية الرياضية، وهددته بأني سوف أطالب بحكمٍ أجنبيٍ في المباراة التالية؛ فامتثل لحماسي، جزاه الله خيراً، وأخذتُ الصافرة وأعلنتُ عن بلنتي بأثرٍ رجعيٍ، سدد صغيري الكرة، ودوت صافرتي التي سمعها كل من في الحي معلنةً الهدف، وكنتُ أول من صفق له بحرارة!

اجتاز صغيري الآن المستوى الثالث في كلية اللغة العربية في الجامعة.

لن أنساك يا "ماجد"؛ فأنتَ -بعد فضل الله- من ألنتَ قساوة قلبي وعلمتني كيف يجب أن يكون ميدان التربية والتعليم ميداناً لكل صاحب ضميرٍ حي.

لكن القصة لم تنتهِ بعد!

فقد قرأ "ماجد" ما كتبه أستاذه، وعلق عليه بما يلي: أستاذي الكريم، يتناقل الناس رسالتك عبر وسائل الاتصال الحديثة. ووصلت رسالتك إليَّ -كغيري من الناس- فقرأتها وأنا أسترجع ألم تلك المرحلة؛ طفلٌ يتيمٌ فَقَدَ والده وهو في أشهره الأولى، شبَّ ودرج عند أخواله، لم يعرف قاموسه اللغوي عباراتٍ كان يرددها أقرانه، حينما يتشاكس أحدهم مع غيره تنهمر دموعه ويقول: "واللهِ لأخبر أبي". مرت السنوات ووالدتي -جزاها الله خيراً- تقوم بدورين؛ دور الأم ودور الأب معاً. في أول يومٍ دراسيٍّ أمسكت والدتي بيدي وذهبنا إلى المدرسة وهي تُهمهم طوال الطريق، لم أفقه من همهمتها إلا "الذي لا تضيع ودائعه"، ودعتني عند باب المدرسة ورجعت إلى البيت. في تلك السنوات كان الأسبوع التمهيدي في أول سنوات تطبيقه، وكل طفلٍ بجواره والده يشجعه إلا أنا، دخلتُ المدرسة لأول مرةٍ ووقفتُ وحيداً لا أدري ما الله صانعٌ بي، لكن ما كانت تُهمهم به والدتي بدأ مفعوله؛ سار نحوي رجلٌ وأخذ بيدي، سألني عن اسمي فأجبته، سألني عن والدي أين هو؟ وببراءة الطفولة قلتُ: "ليس عندي أب؛ تقول أمي إنه مسافر"، كتب اسمي على بطاقةٍ وعلقها على صدري وهو يبتسم لي، كان ذلك الرجل هو أنت أستاذي الكريم! كنتَ تظن أنَّ بداية قصتي معك هي المسبحة، لا واللهِ إنَّ البداية كانت مع أول لقاء؛ فالانطباع الأول هو الذي يترسخ بالذهن سواءً كان انطباعاً جميلاً أم قبيحاً، وهذا الانطباع يصعب تغييره مهما حاولنا ترميم ما حدث في أول لقاء. أما قصة المسبحة فهي واحدةٌ من حيل الطفولة التي كنتُ أحتال بها عليك حينما أشعر بحاجتي إلى جرعةٍ من أبوتك! سأفصح لك -بعد كل تلك السنوات- عن بعض سيرتي معك: كنتُ أتعمد أحياناً الوقوع في الخطأ في درس الكتابة، مع معرفتي الجيدة لها، وأقوم من مقعدي وأتجه إليك في مكانك لأسألك عن صحة ما كتبتُ، مع يقيني أنَّ ما كتبتُه كان صحيحاً! وكم من يومٍ حطمتُ سن قلم الرصاص متعمداً كي أقوم بإصلاحه بالبراية الكبيرة المثبتة في زاوية مكتبك! صنعتُ ذلك كله من أجل أنْ أقترب منك فأشعر بدفء حرارة أبوتك وحنانك!

ختاماً: يا والدي العزيز، درستُ على يد أساتذةٍ كُثُر من المرحلة الابتدائية مروراً بالمرحلتين المتوسطة والثانوية وأخيراً في المرحلة الجامعية، وصورتك الجميلة ما تزال ماثلةً أمام عينيّ، وكلماتك الأبوية وقودٌ لمواصلة مشوار الحياة. أسأل الله أنْ يرزقك الفردوس الأعلى من الجنة لوقوفك معي وتشجيعك لي.

التوقيع: تلميذك بل ابنك "ماجد".

 

أحبتي في الله .. كم كانت معاملة هذا المعلم لتلميذه اليتيم حانيةً مفعمةً بالمحبة والأبوة الصادقة. وكم كان شعور هذا التلميذ اليتيم -عندما كبر- يفيض بالوفاء والعرفان بالجميل لأستاذه الفاضل.

هكذا يعلمنا ديننا الحنيف أصول التعامل مع اليتامى، والثواب العظيم الذي ينتظر (كافل اليتيم)؛ يقول أهل العلم إن عشرات النصوص من الكتاب والسنة تعرض لليتامى، وتبين حقوقهم، وتلزم المجتمع برعايتهم. إن من يكفل يتيماً يتذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام ذاق اليُتم مثله ويؤمَر بعدم قهره؛ يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ ثم يقابلها بقوله: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾، وفي ذلك تسليةٌ لليتامى، وإغراءٌ لكافليهم بأنهم يكفلون من عاشوا طفولتهم عيشة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يؤذونهم ولا يقهرونهم. وقهر اليتيم بقولٍ أو فعلٍ ليس من أخلاق المؤمنين، بل هو من أخلاق المكذبين؛ يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ . فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ وهذه الآية تجعل الراعين لليتامى على حذرٍ شديدٍ من دَعِّهم، وهو دفعهم وقهرهم، بل وتدعو الآيات القرآنية إلى إكرام اليتيم بالقول الطيب والمعاملة الحسنة، وتذم من لا يفعلون ذلك به؛ يقول تعالى: ﴿كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾. وأكثر شيءٍ يُؤذَىٰ فيه اليتيم، ويتكرر وقوعه في الناس هو أكل ماله؛ لأنه صغيرٌ لا يعرف حفظ ماله ولا الدفاع عن حقه، ولا منع المعتدي عليه؛ لذا ورد في القرآن النهي عن العبث في مال اليتيم، أو المخاطرة به، وعبر عن النهي بأبلغ عبارةٍ وهي النهي عن قربانه؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾. كما بيَّن الله تعالى العقوبة الشديدة على من يتخوضون في مال اليتيم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ وكأن الصحابة رضي الله عنهم فزعوا من مال اليتيم بعد هذه الآيات، وخافوا أن يقع منهم تفريطٌ غير مقصودٍ فيتناولهم هذا الوعيد، فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك؛ يقول تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾. وإذا كبر اليتيم وطلب ماله اُختبر فأُعطي شيئاً من ماله، فإن أحسن التصرف دُفع له ماله كله؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾. ووصى الله ولي اليتيم إن كان غنياً ألا يأخذ على تربية اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً فليأكل معه بالمعروف؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾ أي أن تقوموا على مصالحهم الدينية والدنيوية بالعدل. وإطعام اليتيم أولى من إطعام غيره؛ يقول تعالى: ﴿إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، وأثنى الله تعالى على عباده المقربين بجملة أوصافٍ منها: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾. وقرن الله الإحسان لليتيم وبر الوالدين وصلة الأرحام بتوحيده؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾، وجعل إيتاءهم المال من البِر؛ يقول تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾، ورغَّب في الإنفاق عليهم؛ يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى﴾. إن أمر اليتيم عظيمٌ في القرآن، وقد أخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل بأن يُحسنوا لليتامى؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾. ومن عجيب عناية الله تعالى بالأيتام أن سخَّر عبداً صالحاً يركب البحر، ويقطع البر؛ ليصل قريةً فيقيم فيها جداراً ليتيمين لهما مالٌ تحته لئلا يضيع مالهما؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾.

 

وعن (كافل اليتيم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أنَا وكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ] وأشار بأصبعيه، يعني السَّبَّابة والوسطى. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ]. كما قال لرجلٍ أتى إليه يشكو قسوة قلبه: [أَتُحِبُّ أنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، وتُدْرِكَ حَاجَتَكَ؟ ارْحَمِ اليَتِيمَ، وامْسَحْ رَأسَهُ، وأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ؛ يَلِنْ قَلْبُكَ، وتُدْرِكْ حَاجَتَكَ]. وحذَّر صلى الله عليه وسلم مِن ظُلم اليتامى وأكل حقِّهم، فقال: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ...] ومن بينها قال: [وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ]. كما قال صلى الله عليه وسلم مُرغِّبًا في إنفاق المال على اليتيم: [... وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ مَا أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ، وَالْيَتِيمَ، وَابْنَ السَّبِيلِ...].

 

أحبتي .. هذه بعض حقوق اليتيم، مَن كان منا لديه يتيمٌ يكفله ولا ينتقص حقوقه فهو محظوظٌ؛ فإن (كافل اليتيم) له الجنة بإذن الله. ومَن منا ليس لديه يتيمٌ فليسْعَ إلى كفالة أحد الأيتام -من الأقارب كان أو من غيرهم- ورعايته، ويُقدِّم له حقوقه كاملةً، ويُحسن إليه ابتغاء وجه الله فيكون من الصالحين المتقين في الدنيا، الفائزين بجنة النعيم في الآخرة.

يقول الشاعر:

يا كافلَ الأيتامِ، كفُّكَ واحةٌ

لا تُنْبِتُ الأشواكَ والزَقوما

ما أَنْبَتَتْ إلّا الزُّهورَ نَديَّةً

والشِّيحَ والرَّيْحانَ والقَيْصُوما

أَبْشِرْ فإنَّ الأَرْضَ تُصبحُ واحةً للمحسنينَ، وتُعلنُ التكريما

أَبْشِرْ بصحبةِ خيرِ مَنْ وَطىءَ الثرى

في جَنَّةٍ كَمُلَتْ رضاً ونَعيما

اللهم اجعلنا ممن يرعى اليتامى، ويعطف عليهم، ويُحسن إليهم، ويهتم بشئونهم، ويصلح أحوالهم.

 

https://cutt.ly/Ehf9JrE

الجمعة، 20 نوفمبر 2020

إنها الغفلة

 

الجمعة 20 نوفمبر 2020م

خاطرة الجمعة /266

(إنها الغفلة)

 

حدثنا بهذه القصة أحد المشايخ، وهي لشابٍ قد أخبره بقصته فقال:

"كنتُ مقصراً بالصلاة، حتى أنني لا أعرف طريق المسجد، وفي إحدى الليالي منذ عدة سنواتٍ نمتُ في بيتي ورأيتُ في منامي رؤيا عجيبة؛ رأيتُ أني في فراشي نائمٌ فأتت إليّ زوجتي تريد إيقاظي فقلتُ لها: "ماذا تريدين؟"، فوجئتُ بأنها لا تسمع كلامي! كررتْ زوجتي إيقاظي مراراً، وكنتُ في كل مرةٍ أسألها: "ماذا تريدين؟"، لكنها لم تكن تسمع كلامي أبداً، وإنما ذهبتْ مسرعةً خائفةً ونادت إخواني فأتوا وتجمعوا حولي فصحتُ فيهم: "ماذا تريدون؟"، المفاجأة أني وجدتهم جميعاً لا يسمعوني، بل اقترب مني أخي الأكبر ورفع يديّ للحظاتٍ ثم تركها فوقعت، فإذا به يمسك بجفون عينيّ ويغلقهما، ثم سمعته يقول لباقي إخواني: "عَظَّمَ الله أجركم، أخونا في ذمة الله"، ففزعوا وبكوا على وفاتي، مع أني لم أمت، ولكن لا أدري لماذا لم يسمعوا كلامي؟

كنتُ في حالةٍ عصيبةٍ جداً؛ حيث أرى زوجتي وإخواني وأكلمهم وأنظر إليهم ولكنهم لا يردون عليّ، ثم إني سمعتهم يتحدثون عن جنازتي: "عجلوا بها إن كانت خيراً تُقدم، وإن كانت شراً تُوضع عن الأعناق"! ثم ذهبوا بي إلى المقبرة، وكنتُ أكلم كل من يواجهني في الطريق أني حيٌ ولم أمت، ولكن لا أحد يرد عليّ! لما وصلوا بي إلى المقبرة نزعوا عني ثيابي وغسلوني وكفنوني، ثم ذهبوا بي إلى المسجد للصلاة عليّ؛ فكلمتُ الإمام وقلتُ له: "أنا حيٌ، لم أمت"، لكن الإمام هو الآخر لا يرد عليّ، وأنا أسمعهم وأنظر إليهم وهم يصلون عليّ، وبعد الصلاة ذهبوا بي إلى القبر، كنتُ أنظر إلى الناس وهم يجهزون لدفني، ووضعوني في اللحد! كلمتُ آخر شخصٍ رأيته قبل إتمام عملية الدفن وقلتُ له: "أنا لم أمت، أنا حيٌ؛ فلا تدفنوني"، لكنه لم يرد عليّ هو الآخر، كأنه لم يسمعني، ثم هالوا عليّ التراب. تذكرتُ وقتها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن الميت يسمع قرع النعال] فسمعتُ قرع نعالهم لما ذهبوا وابتعدوا عن قبري. وجدتُ نفسي وقتها في مكانٍ مظلمٍ، بعد قليلٍ أتى إليّ رجلان فزعتُ منهما؛ وقف أحدهما عند قدميّ والآخر عند رأسي، سألاني: "مَن ربك؟"، فبدأتُ أردد: "ربي ربي"، وأنا أعرف مَن هو ربي ولكن لا أدري كيف نسيت، ثم سألاني: "مَن نبيك؟"، فبدأتُ أردد "نبيي نبيي"، ثم سألاني: "ما دينك؟"، فقلتُ: "ديني ديني"، نسيتُ كل شيءٍ، ولم أتذكر وقتها إلا زوجتي وأبنائي ودكاني وسيارتي، حتى أتيا بمرزبةٍ كبيرةٍ وضرباني ضربةً قويةً صرختُ منها صرخةً مدويةً فوجئتُ بعدها بنورٍ يُضاء حولي، وزوجتي بجواري تُسمي عليّ وتسألني: "لماذا تصرخ وتصيح"؟، أيقنتُ وقتها أني كنتُ نائماً، وأن تلك كانت رؤيا رأيتها وأنا نائم، وإذا بأذان الفجر يُرفع؛ فقمتُ مسرعاً وتوضأتُ وتوجهتُ -لأول مرةٍ في حياتي- لصلاة الفجر في المسجد، وأنا سعيدٌ أشعر أنه قد كُتبت لي حياةٌ جديدة؛ فقد كانت هذه الرؤيا سبباً لهدايتي والتزامي وابتعادي عن كل المحرمات، وحافظتُ من يومها -بحمد الله- على الصلاة في المسجد وطاعة ربي، وأعيش الآن مع زوجتي وأبنائي وإخواني حياة السعادة وراحة الضمير، بعد أن كنتُ تائهاً ضائعاً، يا إلهي كم كنتُ غافلاً عن سبيل الرشاد!‏

 

أحبتي في الله .. ما إن انتهيتُ من قراءة هذه القصة حتى تذكرتُ الآيات الكريمة: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾. يقول العلماء في معنى هذه الآيات: الشدة والمعاناة عند نزع الروح أوضحت للغافل حقيقةَ الأمر؛ هذا هو الموت الذي كنتَ تنفرُ عنه وتهربُ منه قد جاءك، فلا محيد ولا مناص، ولا فكاك ولا خلاص، ها أنت الآن ترى الحقيقة التي كنتَ تتهرب منها، ها أنت الآن ترحل عن الدنيا التي ملأتْ قلبك واستعبدتْ جوارحك. ثم هذا هو صوت إسرافيل وهو ينفخ في القرن، فاليوم إذن هو يوم البعث، يوم القيامة، يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار، وجاءت كل نفسٍ يصحبها مَلَكٌ يسوقها، وشهيدٌ يُخبر بأعمالها؛ لقد كنتَ أيها الإنسان في لهوٍ وسهوٍ من هذا النازل بك، فأزحنا عنك حجابَ غفلتك؛ فبصرك اليوم حادٌ قويٌ نافذ، إنه يوم الحساب ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾.

 

(إنها الغفلة)، الغفلة عن عبادة الله ولقائه سبحانه، والانشغال بالدنيا الزائلة، عن الآخرة الباقية الخالدة؛ يقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾. ويصف الله تعالى الغافلين بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾، وبقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.

وقد توعّد الله تعالى من يستكبر عن عبادته ويُفرِّط في طاعته بأشد الوعيد، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.

(إنها الغفلة) عن الموت والدار الآخرة؛ فالغفلة -كما يُبين أهل العلم- تُنسي العبدَ ربّه وآخِرَته، وتجعله متعلقاً بدنياه، مُعْرِضاً عن آخِرَته، لا يتذكر الموت، ولا يستعد ليوم الحشر، حتى إذا نزل به الموت تمنى العودة وقال: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾، لكن هيهات. كثيرٌ منا غافلون؛ يسعون بجدٍ واجتهادٍ ويتناحرون ويقتتلون للحصول على مكاسب وملذاتٍ وشهواتٍ في دنيا لا بقاء لها ولا دوام، ثم هُم مُقصِّرون فيما ينفعهم في الدار الآخرة التي إليها معادهم، غافلون عنها، رغم وصف المولى عزَّ وجلَّ لها بأنها هي الحيوان، أي أنها هي الحياة الكاملة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

(إنها الغفلة) يذكرني بها قول سيدنا علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه: "الناسُ نيامٌ فإذا ماتُوا انتبَهوا".

 

أحبتي .. العاقل من اتعظ بغيره؛ كم من شابٍ صحيحِ الجسم كان يظن أن في قابل أيامه متسعاً له للتوبة وإصلاح علاقته بالمولى عزَّ وجلَّ، فإذا بالموت يفاجئه. وكم من شيخٍ كبيرٍ ما تزال الدنيا تغره وتخدعه وتتزين له وتسحبه بعيداً عن صراط الله المستقيم، ثم يأتيه الموت فجأةً وهو على حاله هذه فيكون مصيره الخلود في نار جهنم وبئس المصير. فهلا اتعظنا؟ هلا أفقنا من غفلتنا؟ هلا حاسبنا أنفسنا قبل أن نُحاسَب؟ إلى متى الغفلة؟ إلى متى البُعد عن الله؟ إلى متى التفريط في عبادته؟ ليراجع كلٌ منا نفسه؛ هل هو راضٍ عن صلاته؟ هل يُخرج زكاة ماله؟ هل يصوم كما ينبغي أن يكون الصيام؟ هل حجَّ وقت أن كان مُستطيعاً؟ إلى أي مدىً هو قريبٌ من كل ما يُرضي الله سبحانه وتعالى من أعمال خيرٍ وبرٍ وصلة رحمٍ وذِكرٍ؟ وإلى أي مدىً هو بعيدٌ عما يُغضب الله سبحانه وتعالى ويستوجب لعنته وسخطه من أعمال شرٍ كالقتل والزنا وشرب الخمر والسرقة وشهادة الزور وأكل أموال الناس بالباطل وإيذاء الناس وسوء التعامل معهم؟

أحبتي فلنحارب الغفلة بمحاسبة النفس، ولنحذر التهاون في الصغائر فهي التي تسحب الإنسان إلى الكبائر. ولنحذر التسويف في التوبة فهي بداية طريق الضياع. ولنأخذ أنفسنا بالشدة؛ فلكلٍ منا نفسٌ أمارةٌ بالسوء، إذا سلمنا لها قيادنا تُهنا وضِعنا. اللهم اجعلنا من أصحاب النفوس اللوامة التي تقود أصحابها حتى يصيروا من أصحاب النفوس المطمئنة، فيكونوا من الفائزين برضا الله ورضوانه، وينعموا بالسعادة في الدارين؛ الدنيا والآخرة، ولا يكونوا من الغافلين.

 

https://bit.ly/38VBjzY

الجمعة، 13 نوفمبر 2020

فنجان القهوة وثلاثة دروس

                                                       الجمعة 13 نوفمبر 2020م


خاطرة الجمعة /265

(فنجان القهوة وثلاثة دروس)

اعتاد أستاذٌ جامعيٌ بعد أن أُحيل إلى التقاعد أن يدعو كل فترةٍ مجموعةً من طلابه الخريجين. التقى الخريجون في منزل أستاذهم العجوز بعد سنواتٍ طويلةٍ من مغادرة مقاعد الدراسة، وبعد أن حققوا نجاحاتٍ كبيرةً في حياتهم العملية، ونالوا أرفع المناصب، وحققوا الاستقرار المادي والاجتماعي. بعد عبارات التحية والمجاملة، بدأ كلٌ منهم يتأفف من ضغوط العمل والحياة التي تُسبب لهم الكثير من التوتر. غاب الأستاذ عنهم قليلاً ثم عاد يحمل إبريقاً كبيراً من القهوة ومعه فناجين وأكواب من كل شكلٍ ولون: بعضها من الكريستال، وبعضها من الصيني الفاخر، وبعضها من الميلامين، وبعضها من الزجاج العادي، وبعضها من البلاستيك. من تلك الفناجين والأكواب ما هو في منتهى الجمال تصميماً وألواناً، ومنها ما هو باهظ الثمن، ومنها العادي، ومنها النوع الذي تجده في أفقر البيوت.

قال الأستاذ لطلابه: "تفضلوا، وليسكب كل واحدٍ منكم القهوة لنفسه". وعندما بات كل واحدٍ من الخريجين ممسكاً بفنجانٍ تكلم الأستاذ فقال: "هل لاحظتم أن الفناجين الجميلة فقط هي التي وقع عليها اختياركم وأنكم تجنبتم الفناجين العادية؟ من الطبيعي أن يتطلع الواحد منكم إلى ما هو أفضل؛ وهذا بالضبط هو ما يسبب لكم القلق والتوتر. ما كنتم بحاجةٍ إليه فعلاً هو القهوة وليس الفنجان، ولكنكم تهافتم على الفناجين الجميلة الثمينة"! وأردف الأستاذ قائلاً: "وبعد ذلك لاحظتُ أن كل واحدٍ منكم كان مراقباً للفناجين التي في أيدي الآخرين؛ فلو كانت الحياة هي القهوة فإن الوظيفة والمال والمكانة الاجتماعية هي الفناجين، وهي بالتالي مجرد أدواتٍ ومواعين تحوي الحياة، أما نوعية الحياة التي تمثلها القهوة فتبقى هي هي نفسها لا تتغير، وعندما نركز فقط على الفنجان فإننا نُضيِّع فرصة الاستمتاع بالقهوة؛ فاسمحوا لي أن أنصحكم بعدم الاهتمام بالفناجين والأكواب، والتركيز بدلاً من ذلك على الاستمتاع بالقهوة"!

واستطرد يقول: "فالدرس الأول هو أن النظر إلى ما في أيدي الآخرين يُفسد علينا متعة الاستمتاع بما في أيدينا؛ إذا رأيتَ في يد شخصٍ شيئاً أجمل مما في يدك فلعله تعويضٌ عن شيءٍ حُرم منه، والبيوت أسرار، والناس صنادیق مُغلقة".

وتابع القول: "الدرس الثاني هو أن مشكلة الناس في هذا العصر أن معيار الحرمان عندهم هو المال؛ من كان له مالٌ فهو ذو حظٍ عظيمٍ، ومن ليس له مالٌ فيستحق الشفقة، دعوني لا أكون مثالياً؛ المال يدير عجلة الحياة، ولكنه ليس الحياة. صحيحٌ أنه يتيح لك أن تعيش حياتك برفاهية، ولكنه لا يكفي وحده ليجعلك تعيش بسعادة، أجمل ما في الحياة هي تلك الأشياء التي ليس لها ثمنٌ، ويقف المال أمامها فقيراً عاجزاً لا يستطيع شراءها؛ كحنانِ زوجةٍ تُحبك، أو حضنِ أبيك، أو أصدقاء مخلصين، أو أبناء أذكياء وأصحاء، أو دعوةِ أمٍ عند الصباح، أو بيتٍ يملؤه الحب؛ هذه الأشياء هي الحياة، والمال لا يستطيع شراءها"!

وأنهى الأستاذ كلامه بقوله: "الدرس الثالث هو أننا نهتم بالوسائل ونهمل الغايات؛ هكذا هم البشر في هذا الزمان يهتمون بالوسائد أكثر مما يهتمون بالنوم، يهتمون بالمستشفيات أكثر مما يهتمون بالصحة، يهتمون بالمدارس أكثر مما يهتمون بالتعليم، يهتمون بالمساجد أكثر مما يهتمون بالدين، يهتمون بوسائل الاتصال أكثر مما يهتمون بالتواصل"!

 

أحبتي في الله .. لم يكن هذا مجرد لقاءٍ على فنجان قهوةٍ، وإنما كان (فنجان القهوة وثلاثة دروس) من أستاذٍ حكيمٍ، انقطع عن عمله الوظيفي مع طلابه بتخرجهم، لكن ظلت صلته بهم قائمةً ومستمرةً كموجهٍ ومرشدٍ وخبيرٍ. المعلم الحقيقي لا يعتبر التعليم وظيفةً بل هو رسالةٌ لا ترتبط بزمانٍ ولا مكان. استثمر هذا الأستاذ المخلص لقاءه بطلابه ليعلمهم دروساً ثلاثة:

كان درسه الأول "هو أن النظر إلى ما في أيدي الآخرين يُفسد علينا متعة الاستمتاع بما في أيدينا"، وهذا ذكرني بالآية الكريمة: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، حيث يقول المفسرون: لا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً إلى أحوال الدنيا والمتمتعين بها، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، إنما جعلها الله فتنةً واختباراً، ليعلم سبحانه من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً.

 

وكان درسه الثاني هو "أن مشكلة الناس في هذا العصر أن معيار الحرمان عندهم هو المال؛ مَن كان له مالٌ فهو ذو حظٍ عظيمٍ"، ذكرني بقصة قارون حين خرج ﴿عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، وتذكرتُ الآية الكريمة ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ فالمال والبنون -كما ورد في التفاسير- زينة الحياة الدنيا، لكن ما يبقى للإنسان وينفعه، هو الباقيات الصالحات، من طاعاتٍ واجبةٍ ومستحبةٍ من حقوق الله وحقوق عباده من: صلاةٍ، وزكاةٍ، وصدقاتٍ، وحجٍ، وعمرةٍ، وتسبيحٍ، وتحميدٍ، وتهليلٍ، وتكبيرٍ، وطلب علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وصلة رحمٍ، وبرِ والدين، وقيامٍ بحق الزوجات والأبناء، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، وهي خيرٌ عند الله ثواباً وخير أملاً، فثوابها يبقى ويتضاعف، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون.

 

وكان درسه الثالث هو "أننا نهتم بالوسائل ونُهمل الغايات"، وهذا ذكرني بقول أحد العلماء؛ إذ قال إن الله خلق الإنسان وأوجده في هذه الحياة لأجل تحقيق أمورٍ ثلاثة: هي عبادة الله، وتزكية النفس، وعمارة الأرض. فعبادة الله هي الغاية التي خلق الله تعالى الخلق لأجلها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وبعث الله الرسل لتحقيقها؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾، وما إن تتحقق عبادة الله بإخلاص إلا وتبدو آثارها على الخلق ظاهرةً متمثلةً في صلاح الفرد فيسهل عليه أن يُزكي نفسه. وعن تزكية النفس يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾؛ فتزكية النفس سببٌ للوصول إلى الجنة في الآخرة، وهي أيضاً سببٌ للوصول إلى جنة الدنيا وزهرتها؛ فهي تهذب أخلاق الإنسان وتُحسِّن سلوكه وتجعله مستعداً لإعمار الأرض. وعن عمارة الأرض؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، فالمتأمل في فقه البناء والعمارة في الإسلام يجد أن الإسلام اهتم بالإنسان أولاً، وبإعمار نفسه وتزكيتها ثانياً حتى يصل إلى إعمار الكون حوله، فإعمار النفوس هو الأساس الذي يُبنى عليه إعمار الأرض.

والدنيا دار ابتلاءٍ واختبار؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، فهو سبحانه قدَّر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم، فمَن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومَن مالَ مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء. وليس معنى ذلك الانقطاع للعبادة بغير عمل، بل الجمع بين العبادة والعمل؛ يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا﴾.

 

أحبتي .. نؤمن جميعاً بأن الآخرة هي دار القرار، وأن الدنيا مزرعتُها؛ فلتكن أهدافنا في الحياة واضحةً جليةً؛ نعبد الله على النحو الذي أمرنا به سبحانه وتعالى وأوضحه وبيَّنه لنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ونُزكي أنفسنا قدر ما نستطيع بالعمل وليس بالكلام، نجمع بين التزامنا بالعبادات وأصول المعاملات، وبين تعميرنا للدنيا -قدر الاستطاعة- وتركنا من الآثار ما ينفعنا في آخرتنا يوم يقوم الحساب، وما ينفع غيرنا ممن يأتون بعدنا.

دعونا نستفيد من ذلك اللقاء؛ لقاء (فنجان القهوة وثلاثة دروس) عسى أن ينتبه الغافلون منا.

اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/3niH8eE

الجمعة، 6 نوفمبر 2020

ترويض النفس

 

الجمعة ٦ نوفمبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /٢٦٤

(ترويض النفس)

 

عن قصةٍ واقعيةٍ يقول أستاذٌ جامعيٌ معروف:

في أحد الأيام كنتُ داخل سيارتي إذ جاء شابٌ في السادسة عشرة من عمره وسألني: "هل أنظف لك الزجاج الأمامي؟"، قلتُ: "نعم"؛ فنظفه بشكلٍ رائعٍ، فأعطيته عشرين دولاراً؛ فتعجب الشاب وسألني: "هل أنت عائدٌ من أمريكا؟"، قلتُ: "نعم"، سألني مرةً أخرى: "هل يمكنني أن أسألك عن جامعاتها بدلاً من أجرة التنظيف؟". كان مؤدباً فدعوته للجلوس إلى جانبي لنتحدث؛ سألته: "كم عمرك؟"، قال: "ست عشرة سنة"، قلتُ: "في الثانية المتوسطة؟"، قال: "بل أتممت السادسة الإعدادية". قلتُ: "وكيف ذلك؟"، قال: "لأنهم قدموني عدة سنوات من أجل علاماتي الممتازة في جميع المواد"، سألته: "فلماذا تعمل هنا؟"، قال: "إن والدي قد تُوفي وأنا في الثانية من عمري، وأمي تعمل طباخةٌ في أحد البيوت، أنا وأختي نعمل في الخارج"، وأردف يقول: "سمعتُ أن الجامعات الأمريكية لديها منحٌ دراسيةٌ للطلاب المتقدمين"، قلتُ: "وهل هناك من يساعدك؟"، قال: "أنا لا أملك إلا نفسي"، قلتُ: "دعنا نذهب للأكل"، قال: "بشرط أن أنظف لك الزجاج الخلفي للسيارة"، فوافقت. في المطعم طلب أن يأتوا بطعامه سفرياً ليشارك أمه وأخته في الأكل بدلاً من أن يأكل وحده. لاحظتُ أن لغته الإنجليزية ممتازةٌ، وأنه ماهرٌ فيما يقوم به من أعمال. اتفقنا أن يأتيني بالوثائق الخاصة به، ووعدته أن أحاول مساعدته ما استطعت.

بعد ستة أشهرٍ حصلتُ له على القبول، وبعدها بيومین اتصل بي وقال: "كلنا في البيت نبكي من الفرح، شكراً لك".

بعد سنتين قرأتُ اسمه منشوراً في مجلة "نيويورك تايمز" كأصغر خبيرٍ بالتكنولوجيا الحديثة، سعدنا بذلك أنا وزوجتي كثيراً، وقامت زوجتي باستخراج سمة الدخول "الفيزا" لأمه وأخته واستقدمتهما دون علمه، فوجيء الشاب بأمه وأخته أمامه في أمريكا؛ عقدت المفاجأة لسانه فلم يستطع أن ينطق، بل ولم يستطع حتى أن يبكي!

في أحد الأيام كنتُ أنا وزوجتي داخل المنزل ورأيناه في الخارج يغسل سيارتي! فخرجتُ له وعانقته وقلتُ له: "ماذا تفعل"؟! قال: "دعني لئلا أنسى نفسي؛ ماذا كنتُ من قبل، وماذا صنعتَ أنت لي"!! هذا الشاب هو الآن أحد أفضل وأشهر الأساتذة في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة!!

 

أحبتي في الله .. عندما قرأتُ هذه القصة، أدهشني التصرف الأخير للشاب، وقوله "دعني لئلا أنسى نفسي".

حقاً ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، وإذا لم نأخذها بالشدة أخذتنا إلى كِبْرٍ ما نحن ببالغيه. كم هو مهمٌ أن نكسر كبر أنفسنا، وإلا تمادت وانتفشت وعاشت النعمة ونسيت المنعم، ولربما قالت ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾. أخذُ النفس بالشدة يجعلها طائعةً مستكينةً قويةً في الحق ذليلةً لله سبحانه وتعالى، وطوبى لمن كان دأبه (ترويض النفس).

تذكرتُ موقفاً لسيدنا عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، إذ جمع الناس يوماً في المسجد، واعتلى المنبر وقال: «كنتُ أرعى إبل الخطاب في شعاب مكة، ومعها إبلٌ لخالاتي، وكنتُ ألبس الصوف "الخشن من الملابس"، وكان الخطَّاب يُرهقني "ضرباً ومساءلةً"»، ثم نزل عن المنبر فاقترب منه ابنه عبد الله وقال له: «ما هذا يا أمير المؤمنين؟! واللهِ ما زدتَ أن حقَّرتَ نفسك»، فينظر سيدنا عمر إليه ويقول: «دعني يا عبد الله، رأيتُ نفسي ليس بينها وبين الله أحدٌ، فأحببتُ أن أحقرها"» .. وانصرف!

 

كما تذكرتُ موقفاً للشيخ الشعراوي، يرحمه الله، حين خرج مرةً لإلقاء محاضرةٍ في جامعة القاهرة، وأثناء انصرافه تجمهر حول سيارته آلاف الطلاب وحملوه بسيارته من فوق الأرض، وعندما رجع إلى بيته مساء ذلك اليوم اختفى، فبحث ابنه عنه في كل مكانٍ، ثم تذكر أن والده يذهب إلى مسجد الإمام الحسين كثيراً، وبالفعل وجده في المراحيض ينظفها بنفسه؛ فزع ابنه حينها وقال له: "يا شيخنا قل لي أنظفها بدلاً عنك"، لكن الشيخ الشعراوي قال له: "إن معنىً من العُجب بالنفس ظهر في داخلي، بعد حمل الشباب في الجامعة سيارتي، فأردتُ أن أكسر ذلك العُجب بأن أُقدِم على تنظيف هذه الحمامات".

 

يقول أهل العلم إن (ترويض النفس) مهمٌ وضروريٌ ومفيدٌ؛ فهذه النفس تجمح وتنفر فتحتاج إلى من يروضها وإلى من يسوسها، فما هي إلا كفرسٍ لم تُرَوْض فيحتاج فارسها أن يمتطيها وأن يكون قادراً على الإمساك بلجامها فحينئذ تُرَوْض له وتنقاد معه ويقودها حيث شاء، والطريق إلى ذلك هو أن تحرم نفسك من بعض شهواتها من أجل أن تملكها ولا تملكك، وتقودها ولا تقودك، وتسوسها ولا تسوسك، من أجل أن تقود نفسك بنفسك إلى طريق الخير والصلاح والاستقامة. و(ترويض النفس) تمرينٌ طويلٌ يحتاج إلى الصبر وقوة الإرادة.

 

وقالوا قديماً إن الواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يُجهد نفسه حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حُلل الجمال بدماثة شمائله وحميد طرائقه، ويكد في الهواجر ويسهر الليالي إلى أن يرتقي شرفات المجد والمعالي؛ فالمرء حيث يجعل نفسه إن رفعها ارتفعت، وإن وضعها اتضعت.

 

وحين يتمكن الإنسان من ترويض نفسه يكون كما قال أحد الحكماء: قد أخرجه الله عزَّ وجلَّ من ذل المعاصي إلى عز التقوى؛ فأغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس. يكون قد عوَّد نفسه الخوف من الله فيخيف الله منه كل شيء. ويكون قد رضي من الله باليسير من الرزق فيرضى الله منه اليسير من العمل. ويكون قد زهد في الدنيا فيثبت الله الحكمة في قلبه، ويُنطِق بها لسانه، ويبصَّره عيوب الدنيا ويُخرجه منها سالماً إلى دار السلام.

قال الشاعر:

وما الحرُّ إلا حيثُ يجعلُ نفسَه

ففي صالحِ الأعمالِ نفسَك فاجعلِ

وقال آخر:

والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها

وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنعُ

 

لقد نهانا المولى عزَّ وجلَّ عن اتباع هوى النفس؛ يقول تعالى: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، ويخاطب رسوله الكريم بقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وبقوله: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾.

هذه بعض الآيات التي تذم الهوى لما ينتج عنه من صدٍ عن الحق واتباعٍ للباطل.

قيل: البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه. وقيل: إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى.

أما الشاعر فقال:

ومِن البلاءِ وللبلاءِ علامةٌ

أن لا يُرى لكَ عن هواكَ نُزوعُ

العبدُ عبدُ النفسِ في شهواتها

والحرُ يشبعُ تارةً ويجوعُ

لذلك كان (ترويض النفس) ومنعها من اتباع الهوى من أكثر ما يفيد المسلم؛ فهو طريقٌ يبدأ بمجاهدة هوى النفس وينتهي بالخلود في الجنة؛ يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أفلا تستحق هذه الجائزة الكبرى أن نتعب من أجل الحصول عليها، ونبذل الجهد والصبر؟

 

أحبتي .. كما يقال: إنما الحلم بالتحلم والأدب بالتأدب؛ فهكذا لا يمكن (ترويض النفس) إلا بإرادةٍ وعزيمةٍ وتصميمٍ؛ إرادةٍ واعيةٍ تدرك عواقب اتباع هوى النفس، وعزيمةٍ قويةٍ لا تستسلم لرغبات النفس الأمارة بالسوء، وتصميمٍ أكيدٍ على الإمساك بزمام النفس ومنعها من الإحساس بالغرور والكِبْر والعُجب بالنفس، ولنتذكر الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

أعاننا الله وإياكم على ترويض أنفسنا حتى يكون هوانا موافقاً لشرع الله وطريقه المستقيم؛ فننجو ونكون من الفائزين.


https://cutt.ly/GgHsWZA

الجمعة، 30 أكتوبر 2020

نعمة الاختلاف

 

الجمعة ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /263

(نعمة الاختلاف)

 

تقول صاحبة القصة: أنا مهندسةٌ أعمل في مكانٍ مرموق، تقدم للزواج مني زميلٌ من زملائي، ولأني شخصيةٌ عقلانيةٌ ولستُ عاطفيةً فقد بحثتُ مع أمي ظروفه فوجدناه ميسور الحال، والداه محترمان، فتم الزواج. أغرقني بمشاعره التي لم أعرف كيف أستقبلها؛ أنا شخصيةٌ عقلانيةٌ ومنهجيةٌ، أما هو فشخصٌ عاطفيٌ جداً لدرجة البكاء أحياناً. أنجبتُ «رقية» فكانت شبيهةً بوالدها؛ كلاهما عاطفيان يُحبان الأحضان والحركة، ومتكلمان ويتحركان دوماً! وكنتُ أكره ذلك. ثم أنجبتُ «ريهام» كأنها نسخةٌ مني، مثلي تماماً؛ عقلانيةٌ تتحدث بحساب، أشعر معها بالارتياح. أعترف صراحةً أني كرهتُ من داخلي شخصية «رقية»، لكن ظل عندي أملٌ في أن تتغير وتتحول إلى شخصيةٍ هادئةٍ مع كثرة انتقادي لها، لكن ما حدث هو أنها بقيت حركيةً، لم نتفق على شيءٍ، كنتُ أكره ذلك! كنتُ دوماً أقارن بين «ريهام» العاقلة المتزنة، وبين «رقية» العاطفية العشوائية، أو بالأحرى بين رزانة «ريهام» وتهور «رقية». زوجي كان يميل أكثر إلى «رقية»، وكان يصفني بالجفاف العاطفي. لاحظتُ مع تقدم البنات بالعمر ميل «رقية» إلى أبيها وتباعدها عني وكرهها لانتقاداتي، أما «ريهام» فقد كانت قريبةً مني، مريحةً وعاقلة.

فجأةً! مات زوجي في حادثٍ مروري، وكانت «رقية» بالصف الثالث الإعدادي و«ريهام» بالصف السادس الابتدائي، رحيله كان صعباً، تذكرتُ معاملتي له بجفاء، وشعرتُ بحرقةٍ في قلبي. وفي حين كان حزن «ريهام» هادئاً، فإن «رقية» قد انهارت تماماً، وصارت مندفعةً ومتهورةً، تتصرف بلا ضابطٍ ولا رابط، أصبحت في انعزالٍ دائم، تتباعد عني وعن أختها، أصرخ في وجهها وتصرخ في وجهي! هددتني يوماً أن تترك البيت، واتهمتني بأني لا أحبها، وبالفعل تركت البيت!

بحثتُ عنها كالمجنونة، إلى أن كلمني والد صديقتها وأخبرني بوجودها مع ابنته وزوجته، بكيتُ بحرقةٍ، ربما أكثر من يوم وفاة زوجي! ما الذي يُنفِّر هذه البنت مني؟ أنا محددةٌ حازمةٌ صارمةٌ، لكني لستُ طويلة اللسان، ولا أضربها إلا نادراً، وهي مثلها مثل أبيها؛ نفس العاطفة المفرطة التي لا أحبها. طلب والد صديقتها أن يراني ويتحدث معي، هو طبيبٌ نفسيٌ، قال لي إن «رقية» في حاجةٍ إلى أحضاني، وأنها تفتقدني، وتشعر بكراهيتي لها، وتفضيلي لأختها «ريهام» عليها. قلتُ له: "طبيعي؛ لأن «ريهام» أعقل"، قال لي جملةً عجيبةً: "«رقية» مختلفةٌ عنك، أحبي اختلافها، أولادنا ليس من الضروري أن يشبهوننا! الحياة تحتاج إلى الجميع، نظرة «رقية» إلى نفسها مشوهةٌ، وتقول إنك لا تحبينها"، شعرتُ بالضيق الشديد، قلتُ للطبيب: "أحبها واللهِ لكن ..."، قاطعني قائلاً: "ابنتك مختلفة الطباع عنك؛ هذا ليس عيباً فيها". لم أقتنع، وعادت فأعطيتها محاضرةً طويلةً في الأدب، وبكت كثيراً. لاحظتُ بعدها أنها أصبحت أكثر انعزالاً؛ ساكتةً دوماً، تعيش مع ذكريات أبيها. «ريهام» العاقلة الهادئة مريحةٌ وتفهمني. أفكر دائماً؛ ما فائدة هؤلاء العاطفيين؟ إنهم عبءٌ على العقلانيين!

مضت حياتنا في صراعٍ، إلى أن أصبحتُ وحدي؛ فقد تزوجت «رقية» من شخصٍ عاطفيٍ مثلها يقول لي دوماً: "يا ماما" و"أنتِ مثل أمي". حمدتُ الله أنها ذهبت من البيت. أما «ريهام» فقد تزوجت من دكتور بالجامعة.

بعد فترةٍ فاجأني مرضٌ خبيث. ردود «ريهام» العقلانية "اهدأي"، "تجلدي".

أما «رقية» فتبكي من أجلي، وتدعو الله لي كثيراً. عندي موعدٌ مع الطبيب؛ «رقية» تحمل ابنها الرضيع، وتكون عندي بسيارة زوجها قبل الموعد. أما «ريهام» فتعتذر لأنها تعاني من تعب الحمل، كما أنها لا تستطيع ترك ابنها وحده! أول مرةٍ بحياتي، وأنا مريضةٌ أعرف أن العواطف لها قيمة! حُضن «رقية» يُهوِّن عليّ آلامي، رغم أني لم أكن أحبه أبداً! أشعر -وأنا في الخمسين- أني طفلة! زوج «رقية» يقول لي من قلبه: "سلامتك يا ماما". كيف كرهتُ العواطف والعاطفية؟

«ريهام» حزينةٌ، لكن دعمها بحساب، تماماً مثل شخصيتها، أما «رقية» وزوجها فقد كان دعمهما لي وعطفهما بلا حساب!

بكيتُ من قلبي، وتذكرتُ سابق حياتي؛ احتضنتُ «رقية»، كم هو جميلٌ حضنها، بكت وبكيت.

هل في العمر متسعٌ لأستمتع بما لم أكن أفهمه وفهمته الآن؟ أم أن الأجل قد دنا؟ دعوتُ الله من قلبي: "يا ربِ اشفني، وامنحني العمر كي أسعد بابنتي المختلفة عني". وبالفعل استجاب الله لدعائي وشفاني والحمد لله رب العالمين. أنا و«رقية» الآن لا نفترق؛ أشعر أني قد اكتشفتُ كنزاً! كلامها يؤنسني وحضنها يهدئني. أنا و«رقية» نحيا أسعد أيامنا.

لا تكرهوا اختلاف أولادكم، بل أحبوا اختلافهم، وتقربوا منهم. لا تشوهوا نظرتهم إلى أنفسهم بسبب أنهم لا يشبهونكم. يقول تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾.

 

أحبتي في الله .. إنها (نعمة الاختلاف) تلك النعمة التي يغفل عنها كثيرٌ من البشر؛ وُلدوا وعاشوا وكبروا وهم يرون التنوع والاختلاف في كل شيءٍ حولهم: في البشر والدواب والأنعام والطيور والأسماك والزروع والثمار والمعادن والأجواء، وفي كل شيءٍ حتى في ألوان الجبال، ولأن هذا الاختلاف موجودٌ في كل مخلوقات الله، صار مألوفاً لديهم فلم يعودوا يُحسون بأنه آيةٌ من آيات الله، ونعمةٌ منه سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، والقائل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾.

ماذا لو لم يُنعم علينا المولى سبحانه وتعالى بهذه النعمة (نعمة الاختلاف) ونعمة التعددية؟

هل يمكن أن نتخيل كيف تكون حياتنا لو كان هناك نوعٌ واحدٌ فقط من الخضار أو الفاكهة؟ أو لو أنها كانت كلها بلونٍ واحدٍ فقط؟ هل يمكن أن نتخيل حديقةً جميلةً ليس بها إلا نوعٌ واحدٌ من الزهور، وبلونٍ واحدٍ؟ هذه بالطبع مجرد أمثلة، ولو أردنا أن نعدد أشكال (نعمة الاختلاف) ما استطعنا، وهي نعمةٌ واحدةٌ فقط من كثيرٍ من نعم الله الكثيرة التي تغمرنا، سبحانك ربنا وأنت القائل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾، تعاليت ربنا وأنت القائل: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

 

وإن كان التنوع هو سُنةٌ من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإنه أوضح ما يكون في البشر؛ كيف يمكن تصور شكل الحياة في هذه الدنيا إن كان كل من بها ذكورٌ فقط أو إناثٌ فقط؟ وكيف ستكون لو أن البشر جميعهم خُلقوا على هيئةٍ واحدةٍ وشكلٍ واحدٍ لغتهم واحدةٌ ولونهم واحدٌ وطولهم واحدٌ وفهمهم واحدٌ، وميولهم واحدةٌ؟ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾، ويبين سبحانه وتعالى وجهاً من وجوه حكمة الاختلاف والتنوع بقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾.

وتمتد (نعمة الاختلاف) بين الناس لتطال العقل والفهم والحكمة؛ ليكون التنوع مصدر قوةٍ للأمم إذا أُحسنت إدارته، ويكون سبباً في ضعفها إذا أساءت إدارته، ويكون وبالاً على الجميع إذا حاربته، بأية حجةٍ كانت، فتحرم نفسها من (نعمة الاختلاف) فيكون مصيرها كمصير قوم فرعون حين قال لهم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فصدقوه وأيدوه وأعانوه وأطاعوه؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ وكان مصيرهم في الدنيا ﴿ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ أما مصيرهم في البرزخ وفي الآخرة فكان ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾، فهذا الذي قال لا أريكم إلا ما أرى ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾.

إنها سُنة الله تجري على الأمم والأقوام والأُسر والأفراد؛ إذا هم قبلوا بالتنوع والاختلاف في الآراء والأفكار وأحسنوا إدارة الاختلاف سعدوا، أما إذا ساروا كالقطيع وراء من يقول لهم ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، فكبتوا الرأي الآخر، وأقصوا أصحابه وآذوهم وضيقوا عليهم، شقوا جميعاً وضعفت شوكتهم؛ فعدم التفاعل مع الرأي الآخر يصيب أصحاب نظرية الرأي الواحد بالجمود والتحجر.


ومن الاختلاف -كما يقول العلماء- ما يكون مذموماً كالخلاف الناتج عن الغرور والكبْر والعُجب، أو الخلاف الذي يكون سببه طلب المحافظة على الزعامة والجاه، والخلاف الناتج عن سوء الظنّ بين المختلفين واتّهام بعضهم البعض بالباطل، أو ما يكون بسبب قلّة العلم، أو بسبب تغليب الأهواء الشخصية على المصالح العامة.

 

أحبتي .. لنتقبل الفروق الفردية بين أبنائنا، ولنعلم أن الله سبحانه وتعالى و﴿هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ و﴿هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قد خلقنا مختلفين وأنعم على كلٍ منا بمواهب وقدراتٍ وميولٍ غير التي أنعم بها على غيرنا؛ ليُكمِّل كلٌ منا الآخر. وفي أُسرنا علينا أن نشجع أبناءنا على إبداء آرائهم بحُريةٍ، والتعبير عن أفكارهم بصراحةٍ، ونزيد من مساحة الحوار والتواصل والتفاعل الإيجابي فيما بيننا، ولنعلم أنه ليس معنى أن يكون أحدنا على صوابٍ أن يكون الآخر على خطأ؛ فربما يكون الاثنان على صوابٍ، كلٌ من وجهة نظره. وليكن شعارنا "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". علينا ألا نخلط بين الرأي أو السلوك وبين صاحبه، من حقنا أن نرفض رأياً أو سلوكاً، لكن ليس من الحكمة أن نرفض صاحبه ونُشعره بعدم حبنا له أو كُرهنا لشخصه.

وفقنا الله وإياكم لشكر (نعمة الاختلاف) بإدارة التفرد بين أبنائنا بصبرٍ وذكاءٍ لتحقيق مراد الله في خلقنا مختلفين.

https://cutt.ly/HgUlrUE