الجمعة، 30 أكتوبر 2020

نعمة الاختلاف

 

الجمعة ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /263

(نعمة الاختلاف)

 

تقول صاحبة القصة: أنا مهندسةٌ أعمل في مكانٍ مرموق، تقدم للزواج مني زميلٌ من زملائي، ولأني شخصيةٌ عقلانيةٌ ولستُ عاطفيةً فقد بحثتُ مع أمي ظروفه فوجدناه ميسور الحال، والداه محترمان، فتم الزواج. أغرقني بمشاعره التي لم أعرف كيف أستقبلها؛ أنا شخصيةٌ عقلانيةٌ ومنهجيةٌ، أما هو فشخصٌ عاطفيٌ جداً لدرجة البكاء أحياناً. أنجبتُ «رقية» فكانت شبيهةً بوالدها؛ كلاهما عاطفيان يُحبان الأحضان والحركة، ومتكلمان ويتحركان دوماً! وكنتُ أكره ذلك. ثم أنجبتُ «ريهام» كأنها نسخةٌ مني، مثلي تماماً؛ عقلانيةٌ تتحدث بحساب، أشعر معها بالارتياح. أعترف صراحةً أني كرهتُ من داخلي شخصية «رقية»، لكن ظل عندي أملٌ في أن تتغير وتتحول إلى شخصيةٍ هادئةٍ مع كثرة انتقادي لها، لكن ما حدث هو أنها بقيت حركيةً، لم نتفق على شيءٍ، كنتُ أكره ذلك! كنتُ دوماً أقارن بين «ريهام» العاقلة المتزنة، وبين «رقية» العاطفية العشوائية، أو بالأحرى بين رزانة «ريهام» وتهور «رقية». زوجي كان يميل أكثر إلى «رقية»، وكان يصفني بالجفاف العاطفي. لاحظتُ مع تقدم البنات بالعمر ميل «رقية» إلى أبيها وتباعدها عني وكرهها لانتقاداتي، أما «ريهام» فقد كانت قريبةً مني، مريحةً وعاقلة.

فجأةً! مات زوجي في حادثٍ مروري، وكانت «رقية» بالصف الثالث الإعدادي و«ريهام» بالصف السادس الابتدائي، رحيله كان صعباً، تذكرتُ معاملتي له بجفاء، وشعرتُ بحرقةٍ في قلبي. وفي حين كان حزن «ريهام» هادئاً، فإن «رقية» قد انهارت تماماً، وصارت مندفعةً ومتهورةً، تتصرف بلا ضابطٍ ولا رابط، أصبحت في انعزالٍ دائم، تتباعد عني وعن أختها، أصرخ في وجهها وتصرخ في وجهي! هددتني يوماً أن تترك البيت، واتهمتني بأني لا أحبها، وبالفعل تركت البيت!

بحثتُ عنها كالمجنونة، إلى أن كلمني والد صديقتها وأخبرني بوجودها مع ابنته وزوجته، بكيتُ بحرقةٍ، ربما أكثر من يوم وفاة زوجي! ما الذي يُنفِّر هذه البنت مني؟ أنا محددةٌ حازمةٌ صارمةٌ، لكني لستُ طويلة اللسان، ولا أضربها إلا نادراً، وهي مثلها مثل أبيها؛ نفس العاطفة المفرطة التي لا أحبها. طلب والد صديقتها أن يراني ويتحدث معي، هو طبيبٌ نفسيٌ، قال لي إن «رقية» في حاجةٍ إلى أحضاني، وأنها تفتقدني، وتشعر بكراهيتي لها، وتفضيلي لأختها «ريهام» عليها. قلتُ له: "طبيعي؛ لأن «ريهام» أعقل"، قال لي جملةً عجيبةً: "«رقية» مختلفةٌ عنك، أحبي اختلافها، أولادنا ليس من الضروري أن يشبهوننا! الحياة تحتاج إلى الجميع، نظرة «رقية» إلى نفسها مشوهةٌ، وتقول إنك لا تحبينها"، شعرتُ بالضيق الشديد، قلتُ للطبيب: "أحبها واللهِ لكن ..."، قاطعني قائلاً: "ابنتك مختلفة الطباع عنك؛ هذا ليس عيباً فيها". لم أقتنع، وعادت فأعطيتها محاضرةً طويلةً في الأدب، وبكت كثيراً. لاحظتُ بعدها أنها أصبحت أكثر انعزالاً؛ ساكتةً دوماً، تعيش مع ذكريات أبيها. «ريهام» العاقلة الهادئة مريحةٌ وتفهمني. أفكر دائماً؛ ما فائدة هؤلاء العاطفيين؟ إنهم عبءٌ على العقلانيين!

مضت حياتنا في صراعٍ، إلى أن أصبحتُ وحدي؛ فقد تزوجت «رقية» من شخصٍ عاطفيٍ مثلها يقول لي دوماً: "يا ماما" و"أنتِ مثل أمي". حمدتُ الله أنها ذهبت من البيت. أما «ريهام» فقد تزوجت من دكتور بالجامعة.

بعد فترةٍ فاجأني مرضٌ خبيث. ردود «ريهام» العقلانية "اهدأي"، "تجلدي".

أما «رقية» فتبكي من أجلي، وتدعو الله لي كثيراً. عندي موعدٌ مع الطبيب؛ «رقية» تحمل ابنها الرضيع، وتكون عندي بسيارة زوجها قبل الموعد. أما «ريهام» فتعتذر لأنها تعاني من تعب الحمل، كما أنها لا تستطيع ترك ابنها وحده! أول مرةٍ بحياتي، وأنا مريضةٌ أعرف أن العواطف لها قيمة! حُضن «رقية» يُهوِّن عليّ آلامي، رغم أني لم أكن أحبه أبداً! أشعر -وأنا في الخمسين- أني طفلة! زوج «رقية» يقول لي من قلبه: "سلامتك يا ماما". كيف كرهتُ العواطف والعاطفية؟

«ريهام» حزينةٌ، لكن دعمها بحساب، تماماً مثل شخصيتها، أما «رقية» وزوجها فقد كان دعمهما لي وعطفهما بلا حساب!

بكيتُ من قلبي، وتذكرتُ سابق حياتي؛ احتضنتُ «رقية»، كم هو جميلٌ حضنها، بكت وبكيت.

هل في العمر متسعٌ لأستمتع بما لم أكن أفهمه وفهمته الآن؟ أم أن الأجل قد دنا؟ دعوتُ الله من قلبي: "يا ربِ اشفني، وامنحني العمر كي أسعد بابنتي المختلفة عني". وبالفعل استجاب الله لدعائي وشفاني والحمد لله رب العالمين. أنا و«رقية» الآن لا نفترق؛ أشعر أني قد اكتشفتُ كنزاً! كلامها يؤنسني وحضنها يهدئني. أنا و«رقية» نحيا أسعد أيامنا.

لا تكرهوا اختلاف أولادكم، بل أحبوا اختلافهم، وتقربوا منهم. لا تشوهوا نظرتهم إلى أنفسهم بسبب أنهم لا يشبهونكم. يقول تعالى: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾.

 

أحبتي في الله .. إنها (نعمة الاختلاف) تلك النعمة التي يغفل عنها كثيرٌ من البشر؛ وُلدوا وعاشوا وكبروا وهم يرون التنوع والاختلاف في كل شيءٍ حولهم: في البشر والدواب والأنعام والطيور والأسماك والزروع والثمار والمعادن والأجواء، وفي كل شيءٍ حتى في ألوان الجبال، ولأن هذا الاختلاف موجودٌ في كل مخلوقات الله، صار مألوفاً لديهم فلم يعودوا يُحسون بأنه آيةٌ من آيات الله، ونعمةٌ منه سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾، والقائل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾.

ماذا لو لم يُنعم علينا المولى سبحانه وتعالى بهذه النعمة (نعمة الاختلاف) ونعمة التعددية؟

هل يمكن أن نتخيل كيف تكون حياتنا لو كان هناك نوعٌ واحدٌ فقط من الخضار أو الفاكهة؟ أو لو أنها كانت كلها بلونٍ واحدٍ فقط؟ هل يمكن أن نتخيل حديقةً جميلةً ليس بها إلا نوعٌ واحدٌ من الزهور، وبلونٍ واحدٍ؟ هذه بالطبع مجرد أمثلة، ولو أردنا أن نعدد أشكال (نعمة الاختلاف) ما استطعنا، وهي نعمةٌ واحدةٌ فقط من كثيرٍ من نعم الله الكثيرة التي تغمرنا، سبحانك ربنا وأنت القائل: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾، تعاليت ربنا وأنت القائل: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾.

 

وإن كان التنوع هو سُنةٌ من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإنه أوضح ما يكون في البشر؛ كيف يمكن تصور شكل الحياة في هذه الدنيا إن كان كل من بها ذكورٌ فقط أو إناثٌ فقط؟ وكيف ستكون لو أن البشر جميعهم خُلقوا على هيئةٍ واحدةٍ وشكلٍ واحدٍ لغتهم واحدةٌ ولونهم واحدٌ وطولهم واحدٌ وفهمهم واحدٌ، وميولهم واحدةٌ؟ يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾، ويبين سبحانه وتعالى وجهاً من وجوه حكمة الاختلاف والتنوع بقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾.

وتمتد (نعمة الاختلاف) بين الناس لتطال العقل والفهم والحكمة؛ ليكون التنوع مصدر قوةٍ للأمم إذا أُحسنت إدارته، ويكون سبباً في ضعفها إذا أساءت إدارته، ويكون وبالاً على الجميع إذا حاربته، بأية حجةٍ كانت، فتحرم نفسها من (نعمة الاختلاف) فيكون مصيرها كمصير قوم فرعون حين قال لهم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ فصدقوه وأيدوه وأعانوه وأطاعوه؛ يقول تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ وكان مصيرهم في الدنيا ﴿ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ أما مصيرهم في البرزخ وفي الآخرة فكان ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾، فهذا الذي قال لا أريكم إلا ما أرى ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾.

إنها سُنة الله تجري على الأمم والأقوام والأُسر والأفراد؛ إذا هم قبلوا بالتنوع والاختلاف في الآراء والأفكار وأحسنوا إدارة الاختلاف سعدوا، أما إذا ساروا كالقطيع وراء من يقول لهم ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، فكبتوا الرأي الآخر، وأقصوا أصحابه وآذوهم وضيقوا عليهم، شقوا جميعاً وضعفت شوكتهم؛ فعدم التفاعل مع الرأي الآخر يصيب أصحاب نظرية الرأي الواحد بالجمود والتحجر.


ومن الاختلاف -كما يقول العلماء- ما يكون مذموماً كالخلاف الناتج عن الغرور والكبْر والعُجب، أو الخلاف الذي يكون سببه طلب المحافظة على الزعامة والجاه، والخلاف الناتج عن سوء الظنّ بين المختلفين واتّهام بعضهم البعض بالباطل، أو ما يكون بسبب قلّة العلم، أو بسبب تغليب الأهواء الشخصية على المصالح العامة.

 

أحبتي .. لنتقبل الفروق الفردية بين أبنائنا، ولنعلم أن الله سبحانه وتعالى و﴿هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ و﴿هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قد خلقنا مختلفين وأنعم على كلٍ منا بمواهب وقدراتٍ وميولٍ غير التي أنعم بها على غيرنا؛ ليُكمِّل كلٌ منا الآخر. وفي أُسرنا علينا أن نشجع أبناءنا على إبداء آرائهم بحُريةٍ، والتعبير عن أفكارهم بصراحةٍ، ونزيد من مساحة الحوار والتواصل والتفاعل الإيجابي فيما بيننا، ولنعلم أنه ليس معنى أن يكون أحدنا على صوابٍ أن يكون الآخر على خطأ؛ فربما يكون الاثنان على صوابٍ، كلٌ من وجهة نظره. وليكن شعارنا "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". علينا ألا نخلط بين الرأي أو السلوك وبين صاحبه، من حقنا أن نرفض رأياً أو سلوكاً، لكن ليس من الحكمة أن نرفض صاحبه ونُشعره بعدم حبنا له أو كُرهنا لشخصه.

وفقنا الله وإياكم لشكر (نعمة الاختلاف) بإدارة التفرد بين أبنائنا بصبرٍ وذكاءٍ لتحقيق مراد الله في خلقنا مختلفين.

https://cutt.ly/HgUlrUE

الجمعة، 23 أكتوبر 2020

الاهتمام والتفقد

 

الجمعة ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /262

(الاهتمام والتفقد)

 

هذه قصةٌ كتبتها فتاةٌ شابةٌ في دفتر مذكراتها، تألمت بداخلها فترةً طويلةً دون أن تُخبر أحداً من عائلتها. عانت ما عانت في صمتٍ، واشترت فرحة أهلها بمعاناتها. كتبت تقول:

يكاد المرض ينهش بجسدي .. يحاول القضاء على بسمتي .. يحاول القضاء على شبابي .. لم أكمل عامي العشرين إلا وهذا المرض قد افترس جسدي بأكمله .. بدأ الألم بوخزةٍ سريعةٍ بقلبي .. وتوالت الوخزات، وبدأت نوبات الألم. تألمت بصمت، لم يشعر أحدٌ بمرضي الخطير؛ كنتُ أصبر على المرض، أتحمل الألم وأخفيه عن أعينهم؛ لا أريد أن يصيبهم الحزن .. مرت ليالٍ وأنا أبكي وأتأوه بصمت، ومع مرور الأيام، بدأتُ أشعر بأن المرض ينتقل من قلبي إلى بقية أعضاء جسدي النحيل إلى أن وصل لأخمص قدميّ، بدأت الهالات السوداء تتمركز تحت عينيّ، وبدأت الشحوب تغزو محيايّ .. كنتُ مترددةً في الذهاب إلى الطبيب، ولكني وصلتُ لحالةٍ لا أستطيع فيها تحمل الألم.. ذهبتُ وكنتُ متوقعةً ما سأسمعه. أجريتُ الفحوصات المتعبة والمملة.. تقدم إليّ الطبيب والارتباك واضحٌ على محياه .. سألني: "كم عمركِ يا صغيرتي؟"، أجبته: "سأكمل عامي العشرين بعد خمسة أشهر"، فطأطأ رأسه وسكت لبرهة .. "ألن أكمل عامي العشرين يا دكتور" سألته؛ فرَّد بقوله "الأعمار بيد الله" ..

"ولكني أشعر بأني لن أكمله؛ فالمرض قد سيطر على جسدي" قلت له، فسألني: "صغيرتي، منذ متى وأنت تعرفين عن معاناتك ومرضك"؟، أجبت: "منذ سنة"، سأل: "مَن يعلم مِن أهلك"؟، قلت: "لا أحد، سوى دفاتري وكتبي فقط.. نعم، لم أخبر أحداً حتى لا يعيشوا بحزنٍ أبديٍ؛ فأنا أعلم أن والدتي ستحزن كثيراً لفراقي فأنا ابنتها الوحيدة، ولطالما حلمت أن تراني بفستاني الأبيض، وتحمل أطفالي على كتفها، وينادونها جدتي.. ولكن هيهات؛ فأنا أشعر بألمي؛ فلم يبقَ إلا القليل .. ولكني ما زلتُ أقابلها كل صباحٍ بوجهٍ مشرقٍ وأداعبها لأنني لا أريد أن أُشعرها بأي تغيير .. حاولتُ أن أخبر أخي، ولكني وجدته مشغولاً بتجهيزاته لزفافه .. يأتي ليلاً إلى غرفتي منهكاً، يجلس بجانبي على السرير، يُخبرني عن حبه الكبير لزوجة المستقبل، يُخبرني ماذا اشترى لها من هدايا، وعن مفاجأته لها برحلةٍ لمدة شهرٍ لأستراليا، يخبرني عن شوقه لهذا اليوم الذي لم يبقَ عليه إلا خمسة أشهر، فكيف أخبره بمرضي وهو بغاية السعادة؛ أتود مني أن أقتل فرحته؟ أما والدي؛ فأنا ظللتُ طوال عمري أخجل منه، رغم أنني دائماً أختلس النظرات إليه؛ فأنا أحبه كثيراً وأعتبره قدوتي .. كنتُ أحلم بفتى أحلامٍ يشبه والدي .. هل علمتَ الآن يا دكتور لماذا لم أخبرهم؟ حتى لا يعيشوا الحزن.. فلو أخبرتهم؛ لما جهز أخي لزفافه، ولما رأيتُ السعادة تشع من عيني والدتي ووالدي، رغم مرور ثلاثين عاماً على زفافهما إلا أن الحب ما زال يحيط بينهما.. دكتور.. ها أنت الوحيد بعد الله الذي يعلم بمرضي، لذا سأترك معك هذا الصندوق به وصيةٌ صغيرةٌ أتمنى أن تسلمها لوالدتي يوم وفاتي".

"صغيرتي؛ ما هذا الكلام؟ الله قادرٌ على كل شيء".

"اطمئن إيماني بالله كبير، ولولا هذا الإيمان لما استطعتُ أن أصبر هكذا على المرض، ولكن العمر ينتهي وأود أن أكتب كلماتٍ لوالدتي تقرأها بعد وفاتي، هل تعدني بذلك"؟

"حسناً، أعطني الصندوق، ولا تنسي تناول الأدوية".

"متى أمرّ عليك"؟

"تعالي بعد أسبوعين، وإن شعرتِ بتعبٍ فاتصلي بي فوراً".

"حسناً، إلى اللقاء .. شكرا لك يا دكتور".

عُدتُ إلى منزلي .. انفردتُ بنفسي في غرفتي.. تناولتُ أدويتي .. واستلقيتُ على السرير لآخذ قسطاً من الراحة..

ومرت الساعات .. تلو الساعات .. وكانت آخر اللحظات..

وفُتحت الوصية .. قرأها الدكتور وهو يبكي ..قرأها والكل يبكي معه.. قرأ كلمات تلك الشابة.. كتبتها بخطٍ جميل .. كتبت لوالدتها: "أحبكِ والدتي؛ كنتِ صديقتي .. أختي .. والدتي، اعذريني لأن مرضي كان السر الوحيد الذي أخفيته عنكِ، لم أقوَ أن أخبركِ أني مصابةٌ بالسرطان، لم أقوَ أن تسهري معي وترين نوبات ألمي، لم أقوَ أن أقتل الابتسامة من على محياك الجميل.. والدتي، أتعلمين أني كنتُ أحسدك على أمر ما؟ سأخبرك إياه الآن.. حسدتك مراراً على عشق والدي لكِ .. فلم أرَ بحياتي قصة حبٍ تضاهي حبكما .. وكنتُ أحلم بشابٍ يأخذني بين ذراعيه ويحيطني بالحب ثلاثين عاماً وأكثر.. ولكن شاء الله ألا أكمل عامي العشرين .. والدتي، لا تبكِ على وفاتي.

أخي الحبيب، كم أحببتك وأحببتُ مغامراتنا معاً .. وكم كنتُ سعيدةً عندما أكون معك وصديقاتي يُطلن النظر إليك

معجباتٍ بك.. لا أريدك أن تؤجل زواجك ولكن لي طلبٌ بسيطٌ إن رزقك الله بطفلةٍ فسمها باسمي «شوق».

والدي، فخري وعزتي .. فرحي وسروري .. لو تعلم مقدار احترامي لك .. مقدار الحب الكبير الذي يُكنه قلبي لك..

والدي أنت مثال الأب الرائع .. لن أوصيك على والدتي؛ لأنني أعلم ما بينكما من حبٍ صادق.

دكتوري، أشكرك من أعماق قلبي لكتمانك سري.

لا تنسوني جميعكم من الدعاء.. أحبكم.. كنتُ أريد أن تروني أبتسم في اللحظة الأخيرة.. ولكن ها أنا أموت وحدي".

 

أحبتي في الله .. رحم الله «شوق»، وصبَّر أهلها على فراقها.

لن أناقش إن كان ما فعلته -بإخفاء أمر مرضها عن أسرتها- صواباً أم لا .. وهل خفف بالفعل من حزنهم عليها بعد وفاتها؟ أم أنه زاد من ندمهم على أنهم لو كانوا يتفقدونها ويطمئنون على أحوالها ما تركوها تواجه مرضها وحدها وما كانوا فقدوها بهذه السرعة؟

قدر الله وما شاء فعل، لكن ما استرعى انتباهي أكثر هو عدم تفقد الوالدين لأحوال ابنتهما طوال فترة إصابتها بهذا المرض الخبيث، ومعاناتها وصبرها على أوجاعه وآلامه ألم يلاحظ أحد الوالدين أي تغيرٍ طرأ عليها؟ ألم يحس أحدهما بضعفها وهزالها؟ وعند وصل الأمر إلى شحوب وجهها ألم يلاحظ أيٌ منهما ذلك؟ وإذا كان الأب كالعادة مشغولاً خارج البيت -وهذا ليس بعذر- أين كانت الأم؟

 

الأمر المهم إذن هو (الاهتمام والتفقد)، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية ذلك في الآية الكريمة عن سيدنا سليمان حينما: ﴿تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾. كما وردت إشارةٌ أخرى عن (الاهتمام والتفقد) في القرآن الكريم بصيغة أخرى هي "التحسس"؛ ففي قصة سيدنا يوسف قال يعقوب عليه السلام لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما؛ إذ فقد يعقوب ابنَه يُوسُفَ طفلاً لِسنينَ طويلة، ثُم فقدَ ابنَه الآخر، ولمْ ييأْسْ من تفقدهما والبَحث عنهما.

 

يقول أهل العلم إن تَفَقُّدُ الشخصِ هو السؤال عنه، ومعرفة سبب غِيابه، ومَآل حاله، وتقديم يد العون له إذا احتَاج، وهو خُلُقٌ كريم يدْعو إليه الإسلامُ، وتحمله النفوس الطيِّبة، وكان من شمائل أخلاق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه: "يَتفَقَّد أصحابَه، ويسأل الناسَ عمَّا في الناس"؛ فهذا هو صلى الله عليه وسلم افتَقَد ثابت بن قيس، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنا أعلم لك عِلمَه، فأتاه فوجَدَه جالسًا في بيته مُنكِّسًا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال ثابت: شرٌّ؛ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبَرَه أنه قال كذا وكذا، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: [اذهب إليه فقل له: إنَّك لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة].

كما تَفَقُّد صلَّى الله عليه وسلَّم امرأةً سوداء كانت تَقُمُّ المسجد "أي تجمع قمامته"؛ فسأل عنها الصحابة، فقالوا: ماتت، قال: [أفلا كنتم آذنتموني؟] "أي أعْلمتُموني بموتها"، فكأنهم صَغَّروا أمرها، فقال: [دُلُّوني على قبرها]، فدلُّوه فصلَّى عليها.

وورد في الأثر: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، وهو للزجر وليس للتكفير.

 

وهذا شخصٌ سكن في حيٍ جديدٍ وأراد أن يتعرف على جيرانه القريبين ويتفقدهم فسأل عنهم في المسجد؛ فقال بعضهم: أما هؤلاء فلا نراهم يصلون في المسجد، وفيهم، وفيهم! فقام بزيارتهم، فوجد أحدهم في فترة نقاهةٍ من عملية زراعة كِلية، والآخر مصابٌ بحساسيةٍ شديدةٍ في الصدر، والثالث يعاني من مرض في القلب ونصحه الأطباء بلزوم البيت. لولا (الاهتمام والتفقد) ما كان ليكسب ثواب زيارتهم والسؤال عنهم، وثواب تعديل وتغيير نظرة الآخرين لهم بعد أن أطلع الآخرين على ما هم فيه وما لهم من أعذار، فضلاً عن ثواب كل مساعدةٍ ومعاونةٍ استطاع أن يقدمها لهم.

 

يقول أحد العلماء إن تفقُّد أحوال الناس يفتح باباً واسِعاً على الإنسان لِجَمْعِ الحسنات ومَحْوِ السيئات؛ فإنَّه يعني: عيادة المريض، والإحسان إلى المحتاج، والتفريج عن المكروب، وغير ذلك من أعمال البرِّ والفلاح، التي أقلُّها الاهتِمام بأمر المسلم. ومن التفقُّد تحرِّي معرفة حال الإنسان لتقديم المساعدة له، سواء أكانت هذه المساعدة مساعدة ماديَّة أو معنويَّة؛ فالماديَّة كتقديم مال يَتجاوَز به محنته، أو إعانته على حاجةٍ له، والمعنويَّة كالجلوس معه، ومشاركته همومه، وغير ذلك. وليس تحرِّي معرِفة حال الأخ من الفضول والتدخُّل فيما لا يَعنِي؛ بل هو من حُسْنِ الإخاء، وكرم الأخلاق، ومُقتَضَى المروءة.

 

ورغم سهولة وتنوع وسائل وأساليب التواصل والاتصال وانتشار الهواتف المحمولة إلا أن الكثير منا ما يزال مقصراً في تفقد غيره، كما أن غيرنا مقصرٌ في تفقد أحوالنا!

لقد أخذتنا الحياة المعاصرة بمشاغلها بعيداً عن بعض؛ حتى أصبح من النادر أن يجتمع أفراد الأسرة الواحدة على مائدة الغداء معاً! وحتى صار المحظوظ فينا مَن يجد من يسأل عنه ويطمئن على أحواله ويتصل به لغير مصلحة!

 

أحبتي ..هذه دعوةٌ إلى المزيد من (الاهتمام والتفقد)، دعوةٌ إلى أن يتفقد بعضنا بعضاً؛ نتفقد أفراد أسرنا، وأقاربنا وجيراننا وأصدقاءنا وزملاءنا في العمل، ومَن يواظبون على الصلاة في مسجدنا؛ ربما كان منهم مَن هو محتاجٌ متعففٌ يمنعه حياؤه عن السؤال فنساعده، أو مريضٌ لم يُخبر أحداً بمرضه فنواسيه، أو باحثٌ عن عملٍ يكفل له ولأسرته عيشاً كريماً لكنه يخجل من الطلب فنعينه وندعمه، أو مَن توفاه الله فنقوم بواجب الصلاة عليه والدعاء له ونعزي أهله، وغير ذلك من حالات.

اللهم أنر بصائرنا وألن قلوبنا واهدنا إلى الصراط المستقيم، لا يهدي إليه إلا أنت سبحانك، واجعلنا اللهم ممن يهتمون بغيرهم ويتفقدونهم عسى أن نجد من يهتم بنا ويحمل همنا ويتفقدنا؛ فالجزاء من جنس العمل.

https://cutt.ly/TgvJViz

الجمعة، 16 أكتوبر 2020

عقوق الآباء

 

الجمعة 16 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /261

(عقوق الآباء)

 

كتبت تحكي قصتها فقالت: أنا سيدةٌ أبلغ من العمر إحدى وستين سنة، أنعم عليّ ربي بابنتين وولد، تزوجت ابنتي الصغرى منذ سبع أعوامٍ، وتزوج ابني منذ خمس عشرة سنة، وبقيت معي ابنتي الكبرى؛ حيث تقدم لها كثيرون من راغبي الزواج غير أني كنتُ أرفضهم واحداً تلو الآخر، فمنذ أن تزوجت ابنتي الصغرى وأنا أتكل على الكبرى اتكالاً تاماً في كل شيء؛ لا أرفع حتى كوب الماء، أوقظها من نومها لأتفه الأسباب، أدَّعي المرض الشديد لأجل أن تخدمني في كل شيء. كانت تحاول إرضائي بكل الوسائل، وكنتُ أنا أشعرها دوماً بأنها مُقَّصِرةٌ مهما فعلت، نادراً ما أشكرها أو أدعو لها، كانت تقوم بكل أعمال المنزل، وأنا لا أقوم من فرشتي إلا لقضاء الحاجة -أعزكم الله- أو للوضوء، وأنا سليمةٌ معافاةٌ، كنتُ أفتعل المشاكل معها وأصرخ عليها باستمرار، أصبحتُ أريد أن أتملكها لتبقى خادمتي الأبدية، وسوس لي شيطاني بأن أحرمها من الزواج؛ فهي لي وحدي، وكل ما تملك لي، كانت تتقاضى راتباً من تقاعد زوجي، رحمه الله، وكانت تصرفه عليّ وعلى طلباتي التي لا تنتهي، ما أشتهي شيئاً إلا ويكون عندي، ربي يغفر لي ما فعلت. كنتُ كلما أتى عريسٌ لها أرفضه وأزعم أن فيه عيوب الدنيا. كنتُ أعمل أموراً غير جيدةٍ أمام العرسان وأهلهم كي أُنفرهم؛ كأن أرفع صوتي، أو أن أتكلم بشكلٍ تافهٍ، أو أن أتصرف بشكلٍ غير لائقٍ بسيدةٍ في عمري، وعندما تعاتبني ابنتي أبدأ بالصراخ عليها وأعنفها وأشتمها بألفاظٍ نابيةٍ فما يكون منها إلا أن تصمت وتبكي. لم أهتم أبداً بمشاعرها، ولم أفكر فيها وفي مستقبلها، ولا حتى في أبسط حقوقها وهو أن تتزوج ويكون عندها طفلٌ يبرها كما هي برتني، كنتُ أنانيةً لأبعد الحدود، حرَّمتُ ما أحل الله وأمر به، المهم نفسي نفسي، مع أنني كنتُ ضد من يمنع ابنته أو ابنه من الزواج لكي يحتكره لنفسه، وكنتُ أحتقرهم وأتعجب منهم، لكن لا أعرف ماذا حصل لي؟ وكيف سيطر الشيطان عليّ وصور لي أموراً غريبةً كالعيش وحدي لا أحد معي؟ ومَن سيخدمني؟ ونسيتُ أن الله معي وهو يرعاني، وأنّ مَن عنده ابنةً مثل ابنتي لن يضيع حتى لو تزوجت، ألم أتزوج أنا وأخواتي؟ ألم تعش أمي لوحدها وكنا نزورها باستمرار وكانت سعيدةً جداً بنا وبأطفالنا؟

بدأت ابنتي تشعر بأنني أقف في طريقها بلا رحمة كالوحش المفترس، كبرت وعندما أصبح عمرها أربعين سنةً تقدم عريسٌ متواضعٌ لخطبتها، جُن جنوني؛ كيف مازال هناك خاطبون لها وهي بهذا العمر؟ لم يعجبني الأمر أبداً، بينما هي كانت تبدو عليها ملامح الفرح والأمل، لكن كيف تفرح؟ يجب عليّ قتل هذا الفرح فهي عبْدتي أنا! وكالعادة حاولتُ تطفيش العريس وأهله، وبدأتُ أضايق ابنتي وأفتعل المشاكل معها؛ كنا في رمضان، وفي وقت السحور ليلة السابع والعشرين افتعلتُ معها مشكلةً بادعاء أن هذا السحور لا يعجبني، وأنها مُقصرةٌ معي، فقالت لي: "أنا أعرف يا أمي لِمَ تفعلين كل هذا معي؛ أنتِ لا تريدين لي أن أتزوج، أليس حراماً عليك أن تفعلي بي هذا؟ هل قصرتُ معك؟ قضيتُ سنين عمري بجانبك وكبرتُ وأنا أرعاك؟ أليس من حقي أن أتزوج؟"، وأخذت تبكي، وأنا لا أهتم لها ولا أرحم دموعها، بل قلتُ لها مستهزئةً: "مَن الذي سيتزوج عجوزاً مثلك يا عانس؟ احمدي ربك أنك معي"، لا أعرف كيف نطقتُ هذه الكلمات، وفجأةً رأيتُ ابنتي ترفع يديها إلى السماء وتدعو وتقول: "يا رحمن يا رحيم، ارحمني مما أنا فيه؛ فأنا ما عدتُ أريد الزواج، ولا أريد البقاء مع أمي، فخذني إلى جوارك يا رب"، وبقيت تكرر كلمة "يا رب" إلى أن اختنق صوتها ووقعت على الأرض، استنجدتُ بالجيران ونقلناها إلى أقرب مستشفى، أدخلوها العناية المركزة، وأخبرني الطبيب أنها أُصيبت بجلطةٍ حادةٍ في الدماغ وأنها في غيبوبة. في اليوم التالي تجمع الأهل والأصحاب وابني وابنتي الصغرى حولها، كلنا كنا حولها، أصابني انهيارٌ وبكيتُ بحرقةٍ، وليس في ذهني إلا سؤالان: ماذا فعلتُ بها؟ وبأي حقٍ؟ كنتُ بجانبها أتلو القرآن، فجأةً فتحت عينيها أمام الجميع ورأتني فقالت بصوتٍ خافتٍ: "ظلمتيني يا أمي، والله سيأخذ حقي، ألقاك يوم الحساب" ثم نطقت بالشهادتين وشهقت ولفظت أنفاسها الأخيرة وماتت. صُعق الأطباء من يقظتها؛ فهي ميتةٌ دماغياً، لكني عرفتُ بأن الله أيقظها لتقول لي ما قالت، ويا ويلي من ربي؛ فقد قتلتُ ابنتي مرتين؛ مرةً حين ظلمتها، ومرةً حين تسببتُ في وفاتها.

صُعقت أنا وانهرت، ماذا فعلتُ بابنتي؟ ظلمتها وحرمتها من أبسط حقوقها وهو الزواج، وتسببتُ بموتها، والمصيبة الأكبر ما قالت، سوف يعاقبني الله، وأي عقابٍ، يا رب سامحني، يا رب اغفر لي.

بقيتُ وحدي، ماتت ورحلت إلى الأبد، يا ليتني تركتها تتزوج، لكنتُ أراها كل فترةٍ وأحتضن أطفالها الذين كانت تحلم بهم، وما كانت ستقصر معي؛ فهي بنتٌ تقيةٌ نقيةٌ حنونةٌ، لكني لم أحفظ هذه النعمة. حرمتها من حياتها فحرمني الله منها إلى الأبد. الكل احتقرني على فعلتي بها بعد أن أخبرتَهم هي عن السبب قبيل موتها.

هذه جريمتي باختصار، أنا لا أنام الليل وأنا أراها أمامي في لحظاتها الأخيرة، أدعو لها وأدعو أن يرحمني ربي، لم أكن أماً صالحةً معها أبداً.

قررتُ نشر قصتي لينتبه الآباء والأمهات فلا يظلمون أبناءهم. البِر ليس مطلوباً من الأبناء تجاه والديهم فقط، بل أيضاً البِر مطلوبٌ من الوالدين تجاه أبنائهم أيضاً. الدنيا لا تستحق، لقد ظلمتُها وظلمتُ نفسي ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾.

 

أحبتي في الله .. يقول العلماء إنه ينبغي أن يعلم الابن أن حق الوالدين عظيم، قد ذكره الله تعالى في القرآن في عدة مواضع قارناً إياه بالتوحيد؛ كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم البر بالوالدين مقدماً على الجهاد؛ فلما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أَيّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قال: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]، [ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ]، [ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ]. وينبغي أن يعلم الابن أن بره بوالديه ليس بمقتضى عقدٍ يقابَل به حقٌ بحق، وواجبٌ بواجب، بل هو مأمورٌ ببرهما على أية حال، فيُحسن إليهما وإن أساءا، ويصلهما وإن قطعا، ويعطيهما وإن منعا. غير أن هذا لا يعني أنه ليس على الوالدين واجبٌ تجاه أبنائهما، فعليهما أن يُحسنا تربيتهم، ويعلماهم صلة الرحم، ويكونا قدوةً لهم في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فضلاً عن النفقة عليهم، فإن قصَّرا في ذلك، فإنهما سيريا أثر تقصيرهما لا محالة؛ يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.

 

وحذرت الشريعة الإسلامية الآباء من عقوق أبنائهم؛ حيث قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: [ألا كُلّكُم راعٍ، وكلّكُم مسئولٌ عن رعيّتهِ]، وممن خصَّهم في هذا الحديث [والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ، وهو مسئولٌ عنهم].

ومن (عقوق الآباء) عدم وفائهم بحقوق أبنائهم؛ ومنها: اختيار الأسماء الحسنة لهم، وتعليمهم، والإحسان إليهم في المعاملة. وكذلك العدل بينهم؛ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [اتَّقوا اللهَ، واعْدِلُوا بينَ أولادِكمْ، كما تحبونَ أن يَبَرُّوكُم]. والنفقة عليهم، وحُسن تربيتهم؛ بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. كما أن اختيار الأمّ الصالحة ذات الدين هي حقٌ من حقوق الأبناء.

 

ويرى أهل العلم أنّ (عقوق الآباء) لأبنائهم من أمراض المجتمع التي لا بُد من الانتباه إليها. ويظهر العقوق في صور عديدة؛ منها: التفرقة في المعاملة، والاستبداد بالرأي خاصةً فيما يتعلّق بمستقبل الأولاد كاختيار التخصص الذي سيدرسونه، أو تزويج الفتاة دون رضاها. كما يظهر في الاهتمام بطعام الأبناء وشرابهم على حساب تربيتهم؛ فيهمل الآباء تربية أبنائهم بحجة الانشغال بجمع الأموال لتحسين حياتهم، رغم أن التربية أهمّ من الحرص على جمع المال. ومن صور (عقوق الآباء)؛ الدعاء على أبنائهم، وكَيْل السباب لهم في كل صغيرةٍ وكبيرة، وتعنيفهم بدنياً ولفظياً. والغريب أن يتوقع مثل هؤلاء الآباء من الأبناء أن يكونوا بارين بهم!

 

ومما يُروى عن (عقوق الآباء) أنه جاء رجلٌ في أحد الأيام لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو عقوق ابنه، فطلب عمر إحضار الولد، فلّما جاء أنّبه على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ فقال: نعم، فقال الولد: فما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: أن يُحسِن اختيار أمه، ويُحسِن تسميته، ويعلمه القرآن الكريم، فقال الولد: فإنّ أبي لم يفعل شيئاً من ذلك؛ تزوج من زنجيةٍ كانت لمجوسيٍ فأنجبتني، وسمّاني جُعلاً "أي خنفساء"، ولم يُعلمني حرفاً واحداً من القرآن. فنظر عمر بن الخطاب إلى الرجل وقال له: "جئتني تشكو عقوق ولدك، وقد عققتَه قبل أن يعقّك، وأسأتَ إليه قبل أن يسيء إليك".

 

ورد في الأثر: "أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماءٌ ظليلة، وبهم نصول عند كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودَهم، ويحبّوك جهدَهم، ولا تكن عليهم قفلاً فيتمنّوا موتك ويكرهوا قربك ويملوا حياتك".

 

أحبتي .. ليس أبغض من عقوق الأبناء إلا (عقوق الآباء). وما أحمق الوالد الذي يُهين أبناءه، ويُسيء معاملتهم، ويُضيِّع حقوقهم ويظلمهم؛ فما أعجل عقوبته في الدنيا، يُسلط الله تعالى عليه من يُهين كرامته، وربما حصل له ذلك من أبنائه أنفسهم، فيرى منهم ما يكره في كبره ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾؛ فالظلم من الذنوب المعجلة عقوبتها في الدنيا، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. فلنحسن معاملة أبنائنا ولا نعقهم، ونعزِّز في نفوسهم مكارم الأخلاق؛ لنجدهم أكثر بِراً بنا وأعظم إحساناً إلينا.

اللهم اجعلنا وأبناءنا متحابين، محافظين على حقوق بعضنا بعضاً، واجعلنا اللهم أقرب ما نكون من البِر والإحسان، وأبعد ما نكون عن العقوق والخسران.

 

https://cutt.ly/Xggm1lq

الجمعة، 9 أكتوبر 2020

طريق السعادة

 

الجمعة 9 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /260

(طريق السعادة)

 

أهدي قصة خاطرة هذا الأسبوع إلى كل حائرٍ في هذه الدنيا، تائهٍ، فاقدٍ للبوصلة الصحيحة التي ترشده إلى بر الأمان .. أهديها إلى كل باحثٍ عن السعادة، يريد أن يعرف كيف يصل إليها ..

لن أطيل؛ أترككم مع تفاصيل القصة، وهي حقيقيةٌ، يرويها صاحبها بنفسه؛ كتب يقول:

بدأتُ حياتي منذ نعومة أظفاري في أسرةٍ عمادها الطُهر والفضيلة. لا أنسى أيام الطفولة الجميلة يوم أن دخلتُ المدرسة الابتدائية، كنتُ لا أرضى بأي تقديرٍ دون الامتياز، وبالفعل كان التفوق والامتياز حليفي، حتى وصلتُ إلى المرحلة المتوسطة حينئذٍ تغير مجرى حياتي؛ ففي السنة الأولى من المرحلة المتوسطة التقيتُ بمجموعةٍ من الشباب المنحرفين، كنتُ أعلم أن والدي لم يكن ليرضى أن أرافقهم، لكن نداء الشيطان كان أعلى من صوت أبي، بدأتُ أولى خطوات الانحراف بالالتقاء مع رفاقي دون علم والدي. مضت الأيام وخطواتي الشيطانية تمتد وتطول يوماً بعد يوم، وسرعان ما أوصلتني تلك الخطوات مع رفاق السوء إلى بلاد العُهر والرذيلة؛ حيث أدمنتُ السفر إلى تلك البلاد، لم أكن أملك في ذلك الوقت إلا القليل من النقود، ومع تكاليف السفر، وإنفاقي على الشهوات، كان لا بد لي من مصدر دخلٍ أحصل منه على المزيد من المال، فكانت الخطوة الشيطانية التالية هي اشتراكي مع بعض رفاقي في السرقة طمعاً في الحصول على المال، وبعد أيامٍ من تعلّم السرقة، وممارسة النصب والاحتيال، أصبحتُ أمهر رفاقي في جمع المال فصرتُ زعيماً لهم، أتحكم فيهم كيفما أشاء. ومع توفر المال استقبلتُ حياة الوهم الجديدة، أتنقل بين أفخر الشقق المفروشة، وأتناول أفخر الأطعمة، كنتُ أظنُّ أن المال هو (طريق السعادة)؛ فكل شيءٍ يمكن الحصول عليه بالمال. مضت الأيام وأنا ألهث بحثاً عن السعادة، ولكن دون جدوى؛ فقد كنتُ كالذي يشرب من ماء البحر، لا يزداد بالشرب إلا عطشاً، ولما لم أجد ضالتي في حياتي البائسة، توجّهتُ إلى عالَمٍ آخر أبحث فيه عن السعادة، حيث المخدرات، ومصاحبة العاهرات. بلغ إنفاقي اليومي قرابة خمسة آلاف ريال بسبب إدماني على المخدرات، وعلاقاتي مع النساء. ومع هذا كله لم أكن أشعر بالسعادة إلا لحظاتٍ قليلة، ثم يتحول يومي بعدها إلى همومٍ وأحزان. لقد غرقتُ في بحور الشهوات، وتُهتُ في دهاليز الظلمات. نكدٌ في العيش، وظلمةٌ في القلب، وضيقٌ في الصدر. ولم أزل أمارس جريمة السرقة حتى شاء الله تعالى أن يُقبض عليّ متلبساً بالسرقة مع بعض رفاقي، وما هي إلا لحظاتٌ فإذا أنا حبيسٌ وراء القضبان في ظلمة السجن، وكل ذلك بسبب إعراضي عن ذكر ربي.

استيقظتُ من غفلتي، وصورة والدي الحبيب في مخيلتي، ونصائحه المشفقة كأني أسمعها لأول مرة. شعرتُ وكأنما نداءٌ ما في أعماق قلبي يناديني: "ألا تستحيي من الله؟ ألا تتوب إلى الله"؟ بلى، أريد أن أتوب، لكن الأمر لم يكن سهلاً؛ صراعٌ مريرٌ بين نفسي التي تعلقت بالشهوات، وبين نداء الإيمان في قلبي. وبينما أنا في هذه الحال تتقاذفني أمواج الصراع إذ بالقاصمة تنزل على ظهري؛ ففي أحد الأيام اتصلتُ بأهلي لأطمئن عليهم، فإذا بالخبر المؤلم: "أحسَن الله عزاءك"، "مَن الفقيد"؟ إنه والدي الحبيب، بكيتُ بكاءً مُراً، وحزنتُ حزناً شديداً على هذا الأب الرحيم، الذي طالما بكى وبكى بسبب إجرامي وانحرافي.

كانت هذه الأحداث المؤلمة بدايةً حقيقيةً للاستقامة والإنابة إلى الله تعالى؛ لقد أقلعتُ عن الذنوب والمعاصي، وأقبلتُ على الصلاة والقرآن. وأخيراً، وبعد سنواتٍ من الألم والمعاناة، وجدتُ (طريق السعادة)، أتدرون أين؟ لقد وجدتُه في تقوى الله، كما قال الشاعر:

ولستُ أرْ السعادةَ جمعَ مالٍ           ولكنّ التقيَ هو السعيدُ

إنني أحدثكم الآن من بين جدران السجن، وأنا أشعر ولله الحمد براحةٍ نفسيةٍ لم أذقها في حياتي، اعتكفتُ بمسجد السجن ثلاثة أشهرٍ حفظتُ خلالها خمسة أجزاء من القرآن، أصبح حفظ القرآن سهلاً بسبب إقلاعي عن الذنوب. ثم مَنّ الله عليّ فأصبحتُ إماماً للمصلين بمسجد السجن. صدقوني، لم أعد أفكر في موعد انتهاء مدة السجن، وخروجي منه؛ ولماذا أفكر وقد كنتُ قبل دخولي السجن حبيساً عن ربي، أسيراً لهواي، سجيناً بين جدران شهوتي، أما الآن فقد أطلق الإيمان سراحي، وأعاد لي حريتي المفقودة. صدقوني، إنني الآن حرٌ طليقٌ وراء القضبان. إنني راضٍ عن ربي، وأسأله أن يرضى عني، وأن يُكفِّر عني ما قد سلف في أيامي الخالية، وأن يُثبِّتني على دينه حتى ألقاه، والحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنتُ لأهتدي لولا أن هداني الله.

 

أحبتي في الله .. حقاً إن (طريق السعادة) هو طريق التقوى واتباع شرع الله، أما الإعراض عن ذكر الله والبعد عن شرعه فهو وصفةٌ مؤكدةٌ لضنك المعيشة؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

هما اختياران إذن لا ثالث لهما: الأول: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، ويكون عدم الضلال وعدم الشقاء بقدر اتباع الهدى. والثاني: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾، وتكون المعيشة الضنك بقدر الإعراض عن ذكر الله، والبعد عن اتباع طريق الهدى، والجزاء من جنس العمل. لذلك يقول العلماء إذا أصَابكَ الحزن والضِّيق والهمومُ الدَّائمَة فتأمل هذه الآية، وقُم بِمُراجعةِ حِساباتكَ وتقصيرِك مع اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فالشقاء ثمرة الضلال، ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها. إن العبد ليعمل الذنب فما يزال به كئيباً؛ فمن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها الضيق والهم والحزن والغم والأسى.

ويصف أحد علماء النفس شخصية المُعرِض عن ذكر الله فيقول: هي شخصيةٌ قلقةٌ مضطربةٌ، أرهقها الجري، بعيدةٌ عن الخشوع في الصلاة والتذلل لله، محرومةٌ من السعادة الحقَّة، ترى وَهْمَ السعادة في دنيا زائفة، أعرضت عن ذكر الله، وأضاعت أوامرَه، فهي كئيبةٌ حزينةٌ، تضحك والحزن يقطع كبدها، تفرح وغيوم البؤس تحوم حول عينها، تبحث عن ابتسامةٍ زائفةٍ وكلمةٍ تُلقى على قارعة الطريق، إنها تبحث عن (طريق السعادة) والحياة الطيبة، لكنها ضلَّتِ الطريق.

ويرى أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون القرآن الكريم منهاجاً للحياة الكريمة، وطريقاً للسعادة والهناء، فقد ورد وصف أهل الجنة في القرآن الكريم بالسعداء؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذينَ سُعِدوا فَفِي الجَنَّةِ خالِدينَ فيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ إِلّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيرَ مَجذوذٍ﴾، فثمن السعادة في الحياة الآخرة الحصول على رضا الله تعالى في الدنيا، مع تحقيق العبودية الكاملة له سبحانه. وكثيراً ما يظنّ الناس أنّ السعادة تكون في جمع المال، أو بالوصول إلى المناصب العليا، إلّا أنّ الواقع يُبطل ذلك، فلو حصل الإنسان على جميع المُتع الزائلة من مالٍ وجاهٍ وشهرةٍ، وفقَدَ السكون والطمأنينة في قلبه لكان أشقى الناس؛ فالسعادة الحقيقية تكون بالقرب من الله تعالى، والشقاء يكون في البُعد عنه؛ فالسعادة حالةٌ من صفاء النفس وطمأنينة القلب، تأتي من خلال الموازنة بين مطالب الجسد والروح، وبين الراحة الشخصيّة وراحة الآخرين، وبين إعمار الدنيا وإعمار الآخرة. السعادة عندما تكون دنيويّةً بحتةً فهي غير كاملةٍ وزائلةٌ لا محالة، أمّا عند ارتباطها بالآخرة فستكون سعادةً حقيقيّةً لا نهاية لها.

والقرآن الكريم هو الذي يحقق لنا هذه الموازنة الدقيقة، وهو المدخل الرئيس إلى (طريق السعادة)؛ يقول طبيبٌ نفسي: "زارني في العيادة جميع فئات المجتمع ما عدا أهل القرآن". وقيل لعالمٍ: "فلانٌ يحفظ القرآن"، قال: "بل القرآن يحفظه". إن أردتم بركةً في أوقاتكم وأعمالكم فاجعلوا لكم من بين زحام مواعيدكم موعداً مع كتاب الله.

 

أحبتي .. (طريق السعادة) هو طريق الإيمان، أما البعد عن الله سبحانه وتعالى فهو سببٌ للشقاء والمعاناة والتعاسة. والعاقل من اتعظ بغيره، ليس معنى ذلك أن يمر الإنسان بطريق الشر كما مر به غيره قبل أن يُصلح علاقته بربه سبحانه وتعالى؛ بل يكفيه تعلم الدرس دون أن يُضطر إلى دفع الثمن. والمؤمن كما ورد في الأثر "كَيِّسٌ فَطِنٌ حَذِرٌ"، تغنيه تجارب غيره عن السير في طريق الشيطان، وسلوك دربه. فليكن اختيارنا اختيار الأذكياء.

اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين الفطنين الذي يختارون لأنفسهم ولأهليهم سبيل الرشد والصراط المستقيم فهو (طريق السعادة) الذي فيه رضا الله عزَّ وجلَّ.

 

https://cutt.ly/dgtMnkr

الجمعة، 2 أكتوبر 2020

نعمة الهداية

 

الجمعة 2 أكتوبر 2020م


خاطرة الجمعة /259

(نعمة الهداية)

 

هذه من أعجب القصص، ولولا أن صاحبها كتبها بنفسه، ما ظننتُ أن تحدث. يقول صاحب القصة، وهو من أهل «المدينة المنورة»: أنا شابٌ في السابعة والثلاثين من عمري، متزوجٌ، ولي أولاد. ارتكبتُ كل ما حرَّم الله من الموبقات، أما الصلاة فكنتُ لا أؤديها مع الجماعة إلا في المناسبات فقط مجاملةً للآخرين، والسبب في ذلك أني كنت أصاحب الأشرار؛ فكان الشيطان ملازماً لنا في أكثر الأوقات.

كان لي ولدٌ في السابعة من عمره، اسمه «مروان»، أصم أبكم، لكنه كان قد رضع الإيمان من ثدي أمه المؤمنة. كنتُ ذات ليلةٍ أنا وهو في البيت، وكنتُ أخطط ماذا سأفعل أنا وأصحاب السوء، وأين سنذهب في تلك الليلة؟ كان الوقت بعد صلاة المغرب، فإذا بابني «مروان» يُكلمني بلغة الإشارة ويسألني: "لماذا يا أبتِ لا تُصلي"؟! ثم أخذ يرفع يده إلى السماء، ويقول لي: "إن الله يراك"، وكان ابني في بعض الأحيان يراني وأنا أفعل بعض المنكرات، تعجبتُ من قوله، ولم أكترث له؛ فبدأ يبكي، أخذته إلى جانبي لكنه هرب مني. بعد فترةٍ قصيرةٍ ذهب إلى صنبور الماء وتوضأ، تعلم ذلك من أمه التي كانت تنصحني كثيراً ولكن دون فائدة، وكانت من حفظة كتاب الله، ثم دخل عليّ وأشار إليّ أن أنتظر قليلاً؛ فإذا به يُصلي أمامي، ثم قام وأحضر المصحف الشريف ووضعه أمامه وفتحه مباشرةً، دون أن يُقلب الأوراق، ووضع إصبعه على هذه الآية من سورة مريم: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ ثم أُجهش بالبكاء، فوجدتُ نفسي أبكي معه طويلاً، فقام ومسح الدمع من عيني، ثم قبَّل رأسي ويدي، وقال لي: "صلِ يا والدي قبل أن تُوضع في التراب، وتكون رهين العذاب". كنتُ في دهشةٍ وخوفٍ لا يعلمهما إلا الله، حتى أنني قمتُ على الفور بإضاءة أنوار البيت جميعها، وكان «مروان» يلاحقني من غرفةٍ إلى غرفة، نظر إليّ باستغراب وقال لي: "دع الأنوار، وهيا إلى المسجد الكبير" ويقصد الحرم النبوي الشريف، فقلتُ له: "بل نذهب إلى المسجد المجاور لمنزلنا"، فأبى إلا الحرم النبوي الشريف، فأخذته إلى هناك، وأنا في خوفٍ شديدٍ، وكانت نظراته لا تفارقني أبداً. دخلنا الروضة الشريفة، وكانت مليئةً بالناس، وأُقيم لصلاة العشاء، وإذا بإمام الحرم يقرأ من كتاب الله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فلم أتمالك نفسي من البكاء، و«مروان» بجانبي يبكي لبكائي، وفي أثناء الصلاة أخرج «مروان» من جيبي منديلاً ومسح به دموعي، وبعد انتهاء الصلاة ظللتُ أبكي وهو يمسح دموعي، حتى أنني جلستُ في الحرم مدة ساعةٍ كاملةٍ، وخاف عليّ «مروان» من شدة البكاء.

عدنا إلى المنزل، فكانت تلك الليلة من أعظم الليالي عندي، إذ وُلدتُ فيها من جديد، وحضرتْ زوجتي، وحضر أولادي، فأخذوا يبكون جميعاً، وهم لا يعلمون شيئاً مما حدث، فقال لهم «مروان»: "أبي صلى في الحرم"، ففرحتْ زوجتي بهذا الخبر إذ هو ثمرة تربيتها الحسنة، وقصصتُ عليها ما جرى بيني وبين «مروان»، وقلتُ لها: "أسألك بالله، هل أنتِ أوعزتِ له أن يفتح المصحف على تلك الآية"؟ فأقسمتْ بالله ثلاثاً أنها ما فعلتْ، ثم قالت لي: "احمد الله على (نعمة الهداية)". وكانت تلك الليلة من أروع الليالي. وأنا الآن – ولله الحمد – لا تفوتني صلاة الجماعة في المسجد، وقد هجرتُ رفقاء السوء جميعاً، وذقتُ طعم الإيمان، كما أصبحتُ أعيش في سعادةٍ غامرةٍ وحبٍ وتفاهمٍ مع زوجتي وأولادي وخاصةً ابني «مروان» الأصم الأبكم الذي أحببته كثيراً، كيف لا وقد كانت هدايتي على يديه؟

 

‏أحبتي في الله .. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أخرى لا تقل غرابةً عن قصة الطفل «مروان»؛ فهي لطفلٍ في الصف الثالث الابتدائي، تطرق معلمه في إحدى الحصص إلى فضل صلاة الفجر وأهميتها، سمعه الطفل وتأثر بحديثه، فهو لم يسبق له أن صلى الفجر، لا هو ولا أحدٌ من أهله. وعندما عاد الطفل إلى المنزل أخذ يفكر كيف يمكن أن يستيقظ لصلاة الفجر في اليوم التالي؟ فلم يجد حلاً سوى أن يبقى مستيقظاً طوال الليل حتى يتمكن من أداء الصلاة، وبالفعل نفذ ما فكر به، وعندما سمع أذان الفجر انطلق لأداء الصلاة بالمسجد، ولكن ظهرت مشكلةٌ في طريق الطفل؛ فالمسجد بعيدٌ ولا يستطيع الذهاب وحده، فجلس بجوار باب البيت يبكي، فجأةً سمع صوت طقطقة حذاءٍ في الشارع، فتح الباب وخرج مسرعاً فإذا برجلٍ شيخٍ عجوزٍ يهلل متجهاً إلى المسجد، نظر إليه فعرفه، أنه جد زميله ابن جارهم، تسلل الطفل بخفةٍ وهدوءٍ خلف ذلك الرجل حتى لا يشعر به فيخبر أهله فيعاقبونه. واستمر الحال على هذا المنوال يومياً، ولكن دوام الحال من المحال؛ فقد تُوفي الشيخ العجوز، وعندما علم الطفل بوفاته ذُهل وأخذ يبكي بحرقةٍ وحرارةٍ استغرب منها والداه؛ فسأله أبوه: "لماذا تبكي عليه هكذا وهو ليس في سنك لتلعب معه، وليس قريبك فتفقده في البيت"؟ نظر الطفل إلى أبيه بعيونٍ دامعةٍ ونظراتِ حزنٍ وقال له: "يا ليت الذي مات أنت وليس هو!"، صُعق الأب من إجابة ابنه وتعجب فهو لا يدري لماذا يقول له ابنه هذا الكلام الجارح؟ ثم لماذا يحب هذا الرجل كل هذا الحب؟ استمر الطفل في الكلام فقال: "أنا لم أفقده من أجل شيءٍ مما تقول"، استغرب الأب وقال: "إذاً من أجل ماذا"؟ فقال الطفل: "من أجل الصلاة .. نعم من أجل الصلاة"!! ثم استطرد وهو يبتلع عبراته: "لماذا يا أبي لا تُصلي الفجر؟ لماذا يا أبتِ لا تكون مثل ذلك الرجل ومثل الكثير من الرجال الذين رأيتُهم"؟ فقال الأب: "أين رأيتَهم"؟ فقال الطفل: "في المسجد"، قال الأب: "كيف"؟ فحكى الطفل لأبيه حكايته؛ فتأثر الأب من ابنه واقشعر جلده وكادت دموعه أن تسقط واحتضن ابنه، ومنذ ذلك اليوم لم يترك الأب أي صلاةٍ في المسجد مع ابنه؛ إنها (نعمة الهداية).

 

قال النبي عليه الصلاة والسلام: [فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم]، وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كانَ لهُ مِنَ الأجْر مِثلُ أُجورِ منْ تَبِعهُ لاَ ينْقُصُ ذلكَ مِنْ أُجُورِهِم شَيْئًا]، كما قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ]. فما أجمل أن يَهدي المسلم غيره، سواءً في ذلك دعوة غير المسلم للإسلام أو دعوة المسلم الضال للعودة إلى الطريق المستقيم، فما بالنا بأقرب الناس إلينا وأحبهم لنا، لا شك يكون في دعوتهم للعودة إلى درب الهدى ثوابٌ مضاعفٌ؛ ذلك أنها تجمع إلى جانب ثواب الدعوة ثواب صلة الرحم، فدعوتهم إلى هذا الخير هو أشد ما يحتاجون إليه، ولو كابروا، ولو قاوموا، ولو مانعوا بدايةً وتأخروا في الاستجابة، لكن أنفسهم اللوامة ستجعلهم يتغلبون على أنفسهم الأمارة بالسوء، وكم تكون سعادتهم وسعادة كل من يحبهم عندما يعدَّلون مسيرتهم ويضعون أقدامهم على الطريق الصحيح، حينها يشعرون بحلاوة الإيمان و(نعمة الهداية) وتصبح أنفسهم مطمئنةً راضيةً مرضية.

والدعوة إلى الهُدى تكون بالقول كما تكون بالفعل؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾. ولدعوة الأهل للهداية وطريق الرشاد أهميةٌ خاصةٌ؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ﴾، فالواجب -كما يقول أهل العلم- أن يُعنى المسلم بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه وأقربائه، يُعلمهم ويُرشدهم ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

 

أحبتي .. ما أعظم ثواب دعوة الناس وهدايتهم، وما أجمل أن نقوم بذلك مع أقرب الناس منا، أهلنا وأرحامنا، وما أروع أن تكون علاقة الإخوة في الدين مقدمةً على علاقة الإخوة بالنسب. لنتعاهد أحبتي على أن نقوم بواجب الدعوة والنصح والتوجيه والإرشاد إلى طريق الهُدى، ولا نسوِّف ولا نتكاسل أو نتوانى حتى تعم (نعمة الهداية) جميع المسلمين، لا تمنعنا عن ذلك اعتباراتٌ زائفةٌ يزينها لنا الشيطان؛ كالخوف من الإحراج، أو الخشية من رد الفعل، أو لاعتباراتٍ أخرى كفارق السن أو الخوف من وصف الناس للداعي بالتشدد أو التدخل في شئون الغير، وغير ذلك من اعتباراتٍ تتهاوى كلها جميعاً بتوفيق الله طالما كان هدفنا الإصلاح؛ يقول تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾، والهداية من الله سبحانه وتعالى، أما نحن فعلينا فقط واجب الدعوة؛ يقول سبحانه: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾.

على أن يكون الداعي منا -صغيراً أو كبيراً- مثالاً وقدوةً، يبدأ بنفسه، ويلتزم هو أولاً بما يدعو إليه؛ ويكون مخلصاً في طاعة الله؛ يقول الشاعر:

تعصي الإلَهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّه

هذا لعَمْرُكَ في المَقالِ بديعُ

لو كَانَ حُبُكَ صَادِقاً لأطَعْتَهُ

إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مُطيعُ

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.

https://cutt.ly/yf4PXvU

الجمعة، 25 سبتمبر 2020

الزوجة الصالحة

                                                             الجمعة 25 سبتمبر 2020م


خاطرة الجمعة /258

(الزوجة الصالحة)

 

تقول سيدةٌ لم يسقني ابني العاق يوماً شربة ماء؛ زوجته كانت تحثه على عقوقي، وكانت تعاملني بجفاءٍ مثل ابني وأكثر. ظل قلبي راضياً عنه؛ فرغم كل الأذى الذي شاهدته في سكني عنده.

كنتُ أدعو له بالرضا والهداية، ما سئمتُ من أملٍ يراودني بأن ابني سيُقَبِّل يدي يوماً ما. اشتقتُ أن أضمه إلى صدري، اشتقتُ أن أسمع صوته وهو صغيرٌ يناديني "أمي"، اشتقتُ أن أمسح دموعه التي لم تعد تسيل باسم الرجولة. أشعر بأنه يحمل هموم الدنيا، لكنه يكتم ذلك في صدره؛ فقد كانت الديون تتكاثر عليه، والمرض ينهش في جسد ابنه، وزوجته السيئة لم تعينه يوماً؛ لا على دينه ولا على دنياه، وإنما كانت سبباً في إفساد حياته، وزيادة همومه.

جاء في ليلةٍ متأخراً إلى البيت، وأنا أسكن في إحدى غرفه؛ غرفةٍ باردةٍ مكسورة النافذة. فتح الباب عليّ وجدني أضع سجادة الصلاة لأصلي قيام الليل، نظر إليّ، ولم ينطق بحرفٍ واحد، ظل يُحدق بي، قلتُ له بصوتٍ أتعبه الشوق: "اشتقتُ إليك يا بني"، لم يرد عليّ وأغلق الباب وخرج مسرعاً إلى غرفته. وددتُ لو أتبعه ليُلقي برأسه في حضني ويخبرني بحمول قلبه وهمومه فأخفف عنه، لكنني لم أستطع. تذكرتُ أنني كنتُ أستعد للوقوف بين يدي الرحمن الرحيم؛ فعدتُ إلى سجادتي، ناجيتُ ربي، وبكيتُ بكاءً شديداً لم أبكِ مثله من قبل، شكوتُ إلى الله حال ابني، ودعوتُ له بالهداية والصلاح، وأخبرتُ الله بأني راضيةٌ عن ابني كل الرضا.

أنهيتُ صلاتي وجلستُ أستغفر الله إلى أن سمعتُ أذان الفجر، فصليتُ سُنته وفرضه، وبقيتُ على سجادتي، أدعو الله وأتضرع إليه، ودموعي تنهمر على خديّ كأنها نهر، حتى أشرقت الشمس. لقد استغفرت الله سبحانه وتعالى لمدةٍ زادت عن ثلاث ساعاتٍ متواصلةٍ، لم أشعر بالوقت، ولم أشعر بتعبٍ، وإنما شعرتُ براحةٍ تنتشر في عروقي، واطمئنانٍ يغشى قلبي، شعرتُ بمعنى معية الله والأنس به.

بعد دقائق، سمعتُ صوت ابني وصوت زوجته يتشاجران، سمعته يقول لزوجته: "منذ أن عرفتك لم يحالفني التوفيق في حياتي؛ أنتِ طالق طالق طالق"، خرجتُ من غرفتي مسرعةً كي أمنع زوجة ابني من أن تغادر بيتها؛ فلديها طفلٌ مريضٌ، نظر ابني إليّ قائلاً: "لن أسامح من جعلتني أعق والدتي، دعيها يا أمي فابني في حماية الله وليس في حماية أمٍ لا تعرف معنى الأمومة الحقة، ولم تكن يوماً زوجةً صالحة". غادرت زوجة ابني بيتها، ووقف هو أمامي والدموع تملأ عينيه، فتحتُ له ذراعيّ لأحضنه بقلبي قبل جسدي، لكنه استقر عند قدميّ يقبلهما ويبكي بصوتٍ مرتفعٍ وهو يردد: "سامحيني يا أمي، سامحيني يا أمي"، ضممتُه إلى صدري، ومسحتُ على رأسه بكلتا يديّ، وأخبرته إنني لم أغضب عليه يوماً لأسامحه.

بدأت حياة ابني تتغير شيئاً فشيئاً؛ وجد وظيفةً بمعاشٍ مرتفعٍ ساعده على سداد ديونه، وأصبح ملازماً للمسجد، وبدأت صحة حفيدي تعود إليه. ثم كان يوم فرحٍ لقلبي عندما أخبرني ابني بأنه يريد أن يتزوج ابنة إمام المسجد الذي يصلي فيه. خطبتُ له ابنة الإمام فكانت نعم (الزوجة الصالحة) التي تُعين زوجها، والحمد لله أن ابني الآن من أسعد الناس.

 

أحبتي في الله .. عندما تكون الزوجة صالحةً ينصلح حال جميع أفراد الأسرة، وعندما لا تكون كذلك تزداد المشكلات فلا ينعم أحدهم بالراحة؛ فالزوجة الصالحة نعمةٌ من أجلَّ النعم، وصدق رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام حين قال: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]، يقول شُراح الحديث: إن الدنيا متاعٌ زائلٌ، وخير ما فيها من هذا المتاع المرأة الصالحة؛ لأنها تُسعد صاحبها في الدنيا، وتُعينه على أمر الآخرة، التي هي خيرٌ وأبقى. وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: [مِنْ سعادَةِ ابنِ آدمَ ثلاثَةٌ: المرأةُ الصالحةُ والمسْكَنُ الصالحُ والمركبُ الصالحُ]؛ فالزوجة الصالحة تعين نفسها وزوجها وأبناءها على دينهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَن رَزَقَهُ اللَّهُ امرَأَةً صَالِحَةً فَقَد أَعَانَهُ عَلَى شَطرِ دِينِهِ، فَليَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطرِ الثَّانِي].

فالزواج في الأصل من أعظم أسباب السعادة التي عبَّر عنها المولى عزَّ وجلَّ بالسكينة والمودة والرحمة، وهل هناك سعادةٌ في الدنيا يمكن وصفها بأجمل وأرق من هذه الكلمات؟ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

وعن صفات (الزوجة الصالحة) يقول الله تعالى: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾، "والقنوت هو دوام الطاعة واستمرارها". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: [التِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِليهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَر، وَلا تُخَالِفُهُ فِي نَفسِهَا وَلا فِي مَالِهِ بِمَا يَكرَهُ]؛ فالزوجة الصالحة -كما يقول العلماء- هي التي تُدخل السرور إلى قلب زوجها، وتحرص على مظهرها وتتزين لزوجها، وتحفظه في عِرضها وماله حال غيابه، وتُطيعه في غير معصية. هي التي تُعين زوجها على أمور دينه ودنياه. تتحلى بالخلق الحسن والأدب الرفيع؛ فلا يُعرف منها بذاءة لسانٍ ولا خبث جنانٍ ولا سوء عِشرةٍ، بل تتحلى بالطيبة والنقاء والصفاء، وتتزين بحُسن الخطاب ولطف المعاملة، وتتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء والكبرياء. و(الزوجة الصالحة) هي التي تحافظ على صلتها بربها، وتسعى دوماً إلى رفع رصيدها من الإيمان والتقوى، فلا تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدم رضى الله سبحانه على كل ما سواه.

وهي المربية الصادقة لأبنائها، تعلمهم الإسلام والقرآن والخُلق القويم، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس.

قال بعضهم: خير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسرك إذا نظرت، وتطيعك إذا أمرت.

 

وهذا أحد نماذج (الزوجة الصالحة) يقول عنها زوجها: من عشرين عاماً لم أرَ ما يُغضبني من أهلي؛ ففي أول ليلةٍ دخلتُ على امراتي، قلتُ في نفسي: "فلأتطهر وأصلي ركعتين شكراً لله"، فلما سلمتُ وجدتُ زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي. فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمتُ إليها، فمددتُ يدي نحوها، فقالت: "على رِسلك يا أبا أمية، كما أنت"، ثم قالت: "الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمدٍ وآله، إني امرأةٌ غريبةٌ لا علم لي بأخلاقك، فبيِّن لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه"، وقالت: "إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال من هو كفءٌ لي، ولكن إذا قضي الله أمراً كان مفعولاً، وقد ملكتَ فاصنع ما أمرك به الله؛ إمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك". فقلتُ وقد أحوجتني إلى الخطبة في ذلك الموضع: "الحمد لله أحمده وأستعينه، وأُصلي على النبي وآله وأُسلم وبعد، فإنك قلتِ كلاماً إن ثَبَتِّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجةً عليك، أحب كذا وكذا وكذا، وأكره كذا وكذا وكذا، وما رأيتِ من حسنةٍ فانشريها، وما رأيتِ من سيئةٍ فاستريها". فقالت: "كيف محبتك لزيارة أهلي"؟ قلتُ: "ما أُحب أن يملني أصهاري"، فقالت: "فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له ومن تكره فأكره"؟ فقلتُ: "بنو فلانٍ قومٌ صالحون، وبنو فلانٍ قوم سوءٍ". قال شريح: "فعشتُ معها لا أرى إلا ما أحب، لم أعقب عليها في شيءٍ إلا مرةً، وكنتُ لها ظالماً!

 

ولعل مِن أبلغ مَن تحدث عن سمات (الزوجة الصالحة) تلك الأم التي أوصت ابنتها ليلة زفافها فقالت: "أي بُنيّة؛ إنك قد فارقتِ بيتك الذي منه خرجتِ، ووكرك الذي فيه نشأتِ، إلى وكرٍ لم تألفيه، وقرينٍ لم تعرفيه، فكوني له أمةً يكن لكِ عبداً، واحفظي له عشر خصالٍ يكن لكِ ذُخراً .. أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحُسن السمع والطاعة .. أما الثالثة والرابعة: فالتعهد لموقع عينيه، والتفقد لموضع أنفه؛ فلا تقع عيناه منكِ على قبيحٍ ولا يشمن منكِ إلا أطيب ريحٍ، والكحل أحسن الحسن الموصوف، والماء والصابون أطيب الطيب المعروف .. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبةٌ، وتنغيص النوم مكربةٌ .. وأما السابعة والثامنة: فالعناية ببيته وماله، والرعاية لنفسه وعياله .. أما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً؛ فإنك أن عصيتِ أمره أوغرتِ صدره، وإن أفشيتِ سره لم تأمني غدره. ثم بعد ذلك .. إياك والفرح حين اكتئابه، والاكتئاب حين فرحه؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير .. وأشد ما تكونين له إعظاماً، أشد ما يكون لكِ إكراماً .. ولن تصلي إلى ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاكِ .. وهواه على هواكِ .. فيما أحببتِ أو كرهتِ".

 

أحبتي .. يُقال: "بضدها تُعرف الأشياء"؛ فإذا أردنا أن نتعرف على مواصفات (الزوجة الصالحة) فلنتذكر ما قالته بعض العرب عن مواصفات النساء التي يُنصح بتجنب زواجهن: "لا تنكحوا من النساء ستة: لا أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا تنكحوا حداقة، ولا براقة، ولا شداقة". والأنانة كثيرة الأنين، والمنانة التي تمن على الزوج بما تفعله، والحنانة التي لها ولدٌ تحن إليه، والحداقة التي تسرق كل شيء بحدقتها وتكلف الزوج، والبراقة التي تشتغل غالب أوقاتها ببريق وجهها وتحسينه، والشداقة كثيرة الكلام.

فلتحرص نساؤنا على أنْ تكنّ نماذج تحتذي بها فتياتنا الصغار؛ بأن تتمسكن بالصفات الطيبة التي تجعلهن خير النساء. وعلى الرجال في المقابل أن يكونوا أزواجاً وآباءً وإخوةً وأبناءً صالحين ليكونوا قدوةً لنسائهم، وليُصلح الله لهم زوجاتهم وأخواتهم وبناتهم.

اللهم اجعلنا -رجالاً ونساءً- من الصالحين، واجعل اللهم أبناءنا وإخوتنا -بنين وبنات- من الذين يقتدون بالصالحين والصالحات منا.

https://cutt.ly/cfB8Yay

الجمعة، 18 سبتمبر 2020

المظاهر قد تكون خادعة

                                                                الجمعة 18 سبتمبر 2020م


خاطرة الجمعة /257

(المظاهر قد تكون خادعة)

 

هذه قصةٌ حقيقيةٌ كتبها صديقٌ عزيزٌ يرسل لي يومياً بترويقةٍ صباحيةٍ بنكهةٍ سعوديةٍ تحث على التفاؤل، كتب يقول: عشتُ أحداث هذه القصة بنفسي؛ يومها كنتُ أراجع إحدى مستشفيات «جدة»، وبينما أنا أدفع رسوم الفحوصات، أتى رجلٌ في الأربعين من العمر وهو في حالةٍ يُرثى لها من الهم والحزن والعجز، يقول لموظف الاستقبال: "زوجتي تتوجع من ألم المخاض"، فقال له: "ادفع خمسة آلاف ريال مقدماً تحت الحساب"؛ فظل زوج المريضة يتوسل للموظف ليعفيه من ذلك، لكن دون جدوى. حاولتُ المساعدة والشفاعة قدر استطاعتي، إلا أن موظف الاستقبال لم يستجب لجميع محاولاتي، وقال بحزم: "لابد من دفع هذا المبلغ قبل الدخول؛ هذا نظام المستشفى". ومع سماعي توجع المريضة وتوسلات زوجها، أدخلتُ يدي في جيبي وأخرجتُ بطاقة الصراف الآلي لعلي أجد فيها بعضاً من المال لمساعدة الرجل، لكن للأسف الشديد لم يكن فيها إلا ألف وسبعمائة ريال فقط، وأبىَ الموظف إلا أن يُدفع المبلغ كاملاً، قلتُ له: "سأتكفل بباقي المبلغ، فقط أدخل المرأة المريضة"، لكنه أصر على الرفض. وبينما أنا وزوج المريضة نتوسل موظف الاستقبال لإدخال الزوجة المريضة، دخل علينا فجأةً شابٌ "كول" كما يسمونه، صاحب قَصة شَعرٍ عجيبةٍ، يلبس بنطال "برمودا" وحذاءً من غير شراب، لم ألمح عليه أية علامةٍ من علامات الصلاح، فيما كنتُ أظن حينها، قال الشاب: "ما الخطب"؟! شرح له الموظف الموضوع، بدون تردد أخرج الشاب بطاقة الصراف الآلي وقال للموظف: "اخصم الخمسة آلاف ريال، وأدخل المرأة فوراً"، تملكتنا جميعاً حالةٌ من الذهول، لم نَفُق منها إلا ونحن نشاهد ذلك الشاب يغادرنا ويذهب في حال سبيله دون أن يتفوه بكلمةٍ!

ذهب الشاب، ولم يذهب لَوْمي لنفسي لسوء ظني به، وتفكيري السلبي تجاهه، فقط لأني تسرعتُ وحكمتُ عليه من مظهره، ظللتُ أستغفر الله وأتوب إليه لما ظننته فيه.

 

أحبتي في الله .. (المظاهر قد تكون خادعة) ولا تعبر عن الحقيقة، وذكرني هذا بالقصة المشهورة لإنشاء واحدةٍ من أفضل الجامعات في العالم، جامعة «ستانفورد»، حين دخلت سيّدةٌ ترتدي لباساً رمادياًَ باهتاً تمشي إلى جانب زوجها الذي يرتدي بزةً مهترئةً، وتوجها إلى مكتب رئيس جامعة «هارفرد» طالبين مقابلته، نظر السكرتير إلى مظهرهما وأراد أن يُثنيهما عن طلبهما فأجابهما بأن رئيس الجامعة سيكون مشغولاً طوال اليوم، قالت الزوجة: "سننتظر حتى يفرغ من شؤونه"، حاول السكرتير أن يتجاهل الزوجين، على أمل أن ييأسا من طلبهما ويرحلا، لكن ذلك لم يحدث؛ فقرر أخيراً أن يخبر رئيس الجامعة بوجودهما، لعلهما ينصرفان بعد أن يقابلاه، خرج الرئيس بوجهٍ وقورٍ عابسٍ يتبختر أمام الزوجين، بدأت الزوجة بالتحدث أمامه: "كان لنا ابنٌ يدرس في جامعة «هارفرد» لمدة عامٍ كاملٍ، لقد أحب الدراسة هنا، وكان سعيداً للغاية، لكن منذ نحو عامٍ قُتل بحادثٍ، نود أنا وزوجي أن نقيم له نُصُباً تذكارياً في الحرم الجامعي"، لم يتأثر الرئيس على الإطلاق، وقال للزّوجة: "سيدتي، لا نستطيع إقامة نُصُبٍ تذكاريٍّ لكل طالبٍ درس في «هارفرد» وتُوفي، إن قُمنا بذلك، فسيبدو هذا المكان كالمقبرة"، قالت السيدة: "لم يكن هذا ما أردنا، نحن نريد إقامة مبنى بالجامعة"، ذُهل الرئيس مما سمع، ألقى نظرةً على هندام السيدة وزوجها، وتعجب: "مبنى! هل لديكما أدنى فكرةٍ عما قد يكلفكما بناء مبنىً كاملٍ وتجهيزه في جامعتنا؟ إن بناء مبنى هذه الجامعة كلفنا سبعةً ونصف مليون دولار!"، للحظةٍ ساد الصّمت، شعر الرّئيس حينها بنوعٍ من الفخر والغرور، فقد آن لهما بعد أن أخبرهما بذلك أن ينصرفا. استدارت السيدة إلى زوجها وقالت بصوتٍ خافتٍ: "هل هذا فقط ما يُكلف إقامة مبنى جامعة؟! لِمَ إذاً لا نقيم جامعةً خاصةً تخليداً لابننا؟"، أومأ الزوج برأسه موافقاً، فنهضا وخرجا من المكان، ثم سافرا إلى «كاليفورنيا» حيث أقاما جامعةً تحمل اسمهما، جامعة «ستانفورد»، تخليداً لذكرى رحيل ابنهما الذي لم تهتم جامعة «هارفارد» لذكراه، وأصبحت هذه الجامعة الشهيرة تحتل مراكز متقدمةً جداً في ترتيب الجامعات حول العالم.

 

ولأنّ (المظاهر قد تكون خادعة) فقد نهانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عن الحكم على الناس بظاهرهم؛ فقد مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: [مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟]، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟]، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا].

يقول أحد العلماء شارحاً هذا الحديث: إن الله سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرف، والجاه، والنسب، والمال، والصورة، واللباس، والمركوب، والمسكون، وإنما ينظر إلى القلب والعمل، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، وأناب إلى الله، وصار ذاكراً لله تعالى، خائفاً منه، مخبتاً إليه، عاملاً بما يرضيه، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره؛ قال صلى الله عليه وسلم: [رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ].

ويؤخذ من هذا أن الرجل قد يكون ذا منزلةٍ عاليةٍ في الدنيا، ولكنه ليس له قدرٌ عند الله، وقد يكون في الدنيا ذا مرتبةٍ منحطةٍ، وليس له قيمةٌ عند الناس، وهو عند الله خيرٌ من كثيرٍ ممن سواه. ولا يدل الحديث على أن المسلم الفقير أفضل وأحب إلى الله من المسلم الغني بإطلاق، فإن الصواب في هذه المسألة: أن أفضلهما أتقاهما؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ].

 

وفي مقابل من يكون جوهرهم طيباً لكنهم لا يهتمون بحُسن المظهر، نجد من الناس من يجعلون من مظهرهم الملتزم وسيلةً للنصب وأداةً من أدوات الاحتيال؛ يُرَّبون لحاهم ويُقَصِّرون أثوابهم لا لشيءٍ إلا لكسب ثقة الناس فيسهل خداعهم، كما نجد بعضاً آخر يحرصون على مظهرهم الملتزم مراءاةً وسمعةً وكسباً لرضا الناس ولا يفعلون الخير إلا قليلاً؛ لذلك يقول المختصون إنه في بعض الأوقات قد يكون الانطباع الأول الذي نأخذه عن الناس -من خلال مظاهرهم الخارجية- خاطئاً بدرجةٍ كبيرة، فعلى أساس هذا الانطباع، قد نُعامِل الناس معاملةً سيئةً يستحقون عكسها، أو نعاملهم معاملةً طيبةً هم آخر من يستحقونها.

 

إن حُسن المظهر من الدِين؛ يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: [إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ]، ويقول أيضاً: [إنّ الله يُحِبُّ أن يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِه علَى عَبْدِهِ]، وعلى المسلم صحيح الإيمان أن يجمع بين الحسنيين: طهارة الجوهر، وجمال المظهر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اللباس الطيب؛ فقد وصفه أحد الصحابة رضي الله عنهم فقال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرْبُوعًا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ". وكان عليه الصلاة والسلام يكره أن يرى مسلماً بثيابٍ متَّسخة؛ قَالَ صحابيٌ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ: [أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ]، وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ غير نظيفةٍ، فَقَالَ: [أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ]. على المسلم إذن أن يُحَسِّن مظهره، ويُصِلح هيئته، ويكون هذا اتباعاً للسُّنَّة، وإكمالاً للدين.

 

أحبتي .. سرعة الحكم على الناس بغير تَثَبُّت عادةٌ ذميمةٌ سيئةٌ، نُهينا عنها، فلنلتزم هذا النهي، ولتكن لنا في تجارب غيرنا عبرةٌ، ولتكن أخطاؤهم موعظةً لنا.

إنّ (المظاهر قد تكون خادعة) فلا تجعلوا مظاهر الناس معياراً للتفاضل بينهم، فالجوهر أهم من المظهر، والتصرف والسلوك العملي أهم من الشكل الخارجي، هذا مع غيرنا. أما مع أنفسنا؛ فالجمع بين الجوهر والمظهر واجبٌ نحرص عليه، ولا ننسى أن حُسن المظهر من الدِين، فلنحرص على أن يكون مظهرنا مرتباً ومقبولاً، بل وجميلاً، ليكون عنواناً صادقاً يدل على سلامة جوهرنا ومتانة إيماننا وسمو أخلاقنا ونُبل أعمالنا، وليكن ذلك بنية اتباع سُنة نبينا الكريم فنُثاب على ذلك.

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

https://tinyurl.com/y2ohvtq7

الجمعة، 11 سبتمبر 2020

رؤيا الحبيب

 

الجمعة ١١ سبتمبر ٢٠٢٠م


خاطرة الجمعة /256

(رؤيا الحبيب)

 

لستُ متأكداً من حقيقة هذه القصة، لا أدري إن كانت قد حدثت بالفعل أم هي من نسج الخيال! وأعتقد شخصياً أن الأسماء الواردة فيها مستعارة.

يقول راوي القصة: أنا من جراحي العظام المشهورين بقصر العيني، أنحدر من أسرةٍ ثرية، وبمجرد حصولي على بكالوريوس الطب أوفدني أبي لجامعة كامبردج ببريطانيا للحصول على الماجستير والدكتوراه بل والزمالة أيضاً. اخترتُ تخصص العظام، وعشتُ في بريطانيا أكثر من عشر سنواتٍ اصطبغت فيها حياتي بالمجتمع الإنجليزي في عاداته وسلوكياته، والذي ساعد على سرعة تكيفي مع البيئة الإنجليزية المحيطة بي، عدتُ إلى مصر وتم تعييني مدرساً لجراحة العظام بقصر العيني، كنت صريحاً لا أقبل المجاملات، وسخياً لأبعد الحدود، وربما كان هذا ما أثار حيرتهم، "فالبخل الشديد هو أول عادات الإنجليز"، ولكن ربما كان ذلك بقايا من شرقيتي المطمورة، لا أحب المزاح والهزل، ورغم ذلك كنتُ محبوباً من طلابي وزملائي، لا أبخل عليهم بعلمي أو بمالي، أنقل اليهم خبراتي ولا أكتم عنهم ما أعرفه، مثلما يفعل بعض الزملاء، كنت مسلماً تقليدياً؛ أصوم رمضان وحججتُ البيت وملازمٌ للقرآن.

تزوجتُ من ابنة عمي، مر على زواجنا عشرة أعوامٍ لم نُرزق فيها بطفلٍ، ولم أدخر جهداً في عرضها على كبار الأطباء داخل مصر وخارجها. استسلمتُ لقضاء الله، كانت زوجتي هي دنيتي وحياتي، معها أنسى كل متاعب الدنيا، تعرف متى تحدثني ومتى تتركني. أعرف كم تتعذب حينما تجد منزلنا خالياً من ضحكات الأطفال ولعبهم، كنتُ أعتبرها ابنتي أدللها، وكانت تناديني دائماً "يا ابني"!

دُعيتُ مرةً إلى مؤتمرٍ لجراحة العظام بجامعة أسيوط، ركبتُ القطار المكيف، وأخذتُ أبحاثي معي، فجأةً جلس بجواري رجلٌ يتضح من هيئته أنه فلاحٌ أو صعيدي، أسمر الوجه واسع العينين، يرتدي جلباباً رمادي اللون، يُغطي رأسه بشالٍ أبيض، يفوح من ثيابه عطرٌ نفاذ. بوجهه ألقٌ محببٌ تُحسه ولا تستطيع وصفه! كان يسير بصعوبةٍ يتوكأ على عصا، ويستند على ذراع شخصٍ آخر عرفتُ أنه ابنه عندما طلب مني مترجِّياً أن أترك له كرسيِّي وأنتقل لكرسيه ليكون بجوار أبيه، ولكني رفضتُ بشكلٍ قطعيٍ فهذا حقي ولا أجامل به، وكان حرياً به أن يحجز كرسيين متجاورين! هَمَّ أن يرفع صوته ولكنه سكت بإشارةٍ من أبيه، الذي راح يتلو أدعيةً وصلواتٍ وأوراداً بجانبي، حتى أحسستُ بالضيق، ولم أعد أركز في القراءة، وكنتُ أختلس إليه النظر غاضباً، وكأنما شعر بهذا، فقال لي مبتسماً: "أزعجك صوتي؟" رددتُ بمنتهى الصراحة: "نعم، وأرجو أن تخفض صوتك"، اعتذر ثم راح يتمتم بصوتٍ غير مسموعٍ فأحسستُ بالراحة.

فجأةً استغرق في نومٍ عميقٍ وعلا شخيره، فشعرتُ بتوترٍ من شخيره، ولكني أشفقتُ عليه أن أوقظه نظراً لما يعانيه. ثم فجأةً سمعته يتكلم بصوتٍ خفيضٍ: "وعليك السلام يا سيدي يا رسول الله، سمعاً وطاعةً يا سيدي، بشرك الله بكل خير، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا سيدي!". لم يسمعه أحدٌ سواي، وكأنه كان لا يريد أن يسمعه أحد. قلتُ ربما كان ذلك يحدث في لاوعي الرجل، ولكن شخير الرجل علا ثانيةً، يا إلهي، إن الرجل كان مستغرقاً في نومه، لم يكن يتصنع، ربما كانت رؤيا طيبة، ثم قلتُ فليرَ ما يشاء، لا أقحم نفسي فيما يرى لأنه لا يعنيني. استيقظ الرجل بوجهٍ غير الذي نام به، ازداد ذلك الألق، أصبح النور يشع من وجهه، لا تخطئ العين رؤياه. اقترب منه ولده وراح يمسح وجهه الذي تبلل بالعرق. فجأةً سمعته يقول لابنه بصوتٍ منخفضٍ: "الدكتور عبد الرحمن كيلاني راكبٌ معنا هذا القطار، وهو الذي سيجري لي العملية غداً!". صدمتني تلك العبارة بشدةٍ، لكني قلتُ في نفسي ربما هناك من أخبره عن موضوع القطار، ربما ممرض عيادتي، ولكن هذا الأمر لم يكن مطروحاً قبل أن ينام الرجل ويرى ما رأى، أتكون رؤيا وشفافية؟!

سألني: "حضرتك نازل فين؟"، أجبتُ: "أسيوط". سكت الرجل، وأشاح عني بوجهه، أصبح الفضول يقتلني، قررتُ أن أخوض معه الأمر حتى نهايته، ولكن أنا المبادر هذه المرة، خاصةً بعد أن ذكر اسمي وأصبحت بطلاً لرؤياه التي رآها، فرحتُ أسأله بعض الأسئلة فيجيب عنها باقتضاب. لم تُشفِ ردوده غليلي، فقررتُ أن أنزل بآخر ورقةٍ معي؛ فسألته: "هل تعرف الدكتور عبد الرحمن؟"، قال: "لا، ولكني ذاهبٌ إليه"، قلتُ له: "أنا الدكتور عبد الرحمن كيلاني!"، نظر إلى الأرض، وكأنه لم يُفاجأ، راح ينقر أرضية القطار بعصاه، وأنا أسمعه يتمتم بالصلاة والسلام على الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، تركني أتحرق لمعرفة ردة فعله، لكنه صمت! أحسستُ أنه يلاعبني، وكأنه يريد أن أرفع راية الاستسلام أولاً! باغته بقولي: "لعله رسول الله أخبرك بهذا؟"، ذُهل الرجل وظهر التأثر واضحاً عليه، رفع رأسه واتّسعت عيناه، ونظر إليَّ طويلاً باستغراب ثم سألني متلعثماً: "كيف عرفتَ؟ ومَن أخبرك؟"، ابتسمتُ وقلتُ في نفسي: "ها أنا ذا قد نلتُ منك يا صديقي"، راح في لهفةٍ يسأل ويُلح، وأنا أتصنع الوقار وأرسم الجد على ملامحي، أشحتُ عنه بوجهي مثلما فعل، وقلتُ له: "هذا أمرٌ خاصٌ بي!"، رد مسرعاً: "نعم نعم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمَّلني لك رسالةً يقول لك: استوصِ بالشيخ راضي خيراً"، ابتسمتُ نصف ابتسامةٍ وقلتُ: "صلى الله عليه وسلم". أحسستُ أن الرجل أشبه بالغازي الذي دك حصني في ثوانٍ! باغته بالسؤال: "ولكن هل أنبأك الرسول الكريم أني سأجري لك العملية غداً؟!"، نظر إليَّ طويلاً وكأنه أدرك أن الشك يداخلني فيما يقول، قال: "نعم، وأرسل معي أمارةً لك، بالأمس كنتَ تقف مع زوجتك بالشرفة، وترفع يديك بالدعاء أن يرزقك الله بطفلٍ مثلما رزق زكريا بيحيى عليهما السلام، ثم هوَت يدك على كوب الشاي الساخن على حافة الشرفة، فسقط في الشارع بعد أن حرق يدك"، جحظت عيناي، وتجمدت أناملي، وجف ريقي، فالآن لم يعد مجالٌ للشك، صدمتي كانت واضحةً بوجهي، انتابتني رعشةٌ، ورحتُ أتلمس يدي الملتهبة من أثر الشاي الساخن، ووجدتُ نفسي أتهاوى أمام ذلك الرجل البسيط؛ أنا -خريج كامبرديج والحاصل على زمالة الجراحين الملكية- أقبل أن أفكر بهذا الأسلوب؟! أحسستُ أني أقف أمامه مُسَلِّماً ومستسلماً، ولا أدري كيف استيقظت شرقيتي المطمورة فجأةً، فانحنيتُ على يده أقبلها والدموع تملأ عينيّ وسط ذهول مَن يرانا من الركاب. راح يمسح رأسي، ثم قال: "ولك عندي بشرى خاصة أخبرني بها الحبيب الكريم عليه الصلاة والسلام، لقد سمع الله دعاءك وسيمنُّ عليك بيحيى ومحمد معاً"، فأمسكتُ بهاتفي المحمول، اتصلتُ بزميلي رئيس مستشفيات أسيوط لأطلب منه أن يحجز غرفةً باسم الشيخ راضي، لأني سأجري له عمليةً غداً، وأنا من سيتولى كافة تكاليفها.

نزلنا المحطة، كانت تنتظرني سيارةٌ لتقلني إلى مقر المؤتمر، صممتُ أن أذهب للمستشفى أولاً للحجز للشيخ راضي لتجهيزه للعملية، توجهتُ بعد ذلك إلى المؤتمر، وما إن انتهى حتى أغلقتُ هاتفي وعدتُ إلى المستشفى، ودخلتُ غرفة العمليات وأنهيتُ العملية بنجاح. كانت عادتي أن أترك متابعة المريض للفريق الطبي المشارك، ولكني صممتُ أن أتابع حالة الحاج راضي بنفسي في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ تنفيذاً للوصية الكريمة، حتى جاءني زميل دراسةٍ وأخبرني أن زوجتي اتصلت بي عشرات المرات وكان هاتفي مغلقاً، أسرعتُ لأكلمها، فوجدتها منهارةً وتبكي، كاد القلق أن يقتلها عليَّ، اعتذرتُ لها، ثم صاحت في طفولةٍ: "يا عبد الرحمن أنا حامل، أجريتُ اختبار حملٍ بناءً على نصيحة طبيب النساء الذي يتابعني، حيث ذهبتُ إليه بعد أن شعرتُ بألمٍ يُمزق جنبي، والحمد لله أنا حامل"، ابتسمْتُ وتراءى لي وجه الشيخ راضي؛ فقلتُ لها: "عارف، ومش كده وبس أنت حامل بتوأم!"، وجدَتني أكلمها بثقةٍ كاملةٍ، وبجديةٍ تعرفها فيَّ صاحت: "عبد الرحمن، أنت تعبان؟"، أكملتُ حديثي وكأني لم أسمعها: "ستلدين يحيى ومحمد بإذن الله!"، ضحكت وقالت: "وتوأم كمان؟ هو احنا كنا طايلين «برص»، وبعدين إحنا لسة في أول الحمل يا شيخ عبده"!

وضعَت زوجتي بالفعل توأماً، ومن يومها وهي تنظر إليَّ بانبهارٍ وإكبارٍ، كنظر المريد لشيخه، وتقول عني: "سرك باتع، ومكشوف عنك الحجاب يا شيخ عبده!"، فأضحك في نفسي لأني لم أخبرها بشيء، بناءً على طلب الشيخ راضي.

وها هما أولادي: محمد ويحيى، عمرهما الآن خمس سنواتٍ يتشاكسان حولي لا أستطيع منعهما وإلا تعرضتُ لما لا تُحمد عقباه من أمهما.

 

أحبتي في الله .. تلك الرؤيا التي رآها الحاج راضي في منامه؛ (رؤيا الحبيب) المصطفى هل يمكن حدوثها؟ وهل هي مقبولة شرعاً؟

وردت الرؤى -بصفة عامة- في عددٍ من آيات القرآن الكريم منها؛ رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام، ورؤيا الملك، ورؤيا الفتيين صاحبي السجن، وغيرها من رؤى. أما أن يرى أحدنا في منامه النبي صلي الله عليه وسلم فهذا أمرٌ آخر؛ قال عنه عليه الصلاة والسلام: [مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي]. يقول أهل العلم إن هذا الحديث صحيحٌ، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد يُرى في النوم، وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة في السُنة والسيرة النبوية فقد رآه، فإن الشيطان لا يتمثل في صورته، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الرائي من الصالحين، ولا يجوز أن يُعتمد على هذه الرؤية في شيءٍ يخالف ما عُلم من الشرع، بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي -من أوامر أو نواهٍ أو خبرٍ أو غير ذلك من أمورٍ يسمعها أو يراها الرائي- على الكتاب والسُنة الصحيحة، فما وافقهما أو وافق أحدهما قُبل، وما خالفهما أو خالف أحدهما تُرك. ثم ليس كل من ادعى رؤيته صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً، وإنما تُقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه. وعلى المسلم قبل أن يدَّعي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض ما رأى على أهل العلم والدين ـ الذين يُعرف عنهم الصلاح والتقوى ـ ليخبروه إنْ كان ما رأى حقاً أو من الشيطان، حتى لا يقع في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.

إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام لا تستوي مع رؤية غيره من البشر، وهي من المبشرات التي تُفرح القلب، وتُسعد النفس، فهي تنطوي على بشرى عظيمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَآنِي فَقْدْ رَأىَ اَلْحَقَ] أي الرؤيا الصحيحة الثابتة لا أضغاث أحلامٍ ولا خيالات.

 

وقيل إن أسباب (رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام متوقفةٌ ـ بعد فضل الله تعالى- على طاعة الله سبحانه، وحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، والشوقَ لرؤيته، وكلما كان الإنسان أتقى لله عزَّ وجلَّ، وأكثر اتباعاً لسنة النبي الله صلى الله عليه وسلم كان توقع رؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر احتمالاً من غيره، وأما ما عدا ذلك من أوراد أو أذكارٍ أو صلواتٍ ـ تساعد على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ـ فجميعه غير صحيح، بل حكم العلماء ببدعيته.

(رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام إذن جائزةٌ شرعاً وعقلاً، واقعةٌ فعلاً، وما مِن شكٍ أن رؤيته صلوات الله وسلامه عليه فرحةٌ لا تضاهيها فرحة، وأمنيةٌ غاليةٌ لا تدانيها أمنية، فالمسلم المحب للنبي صلى الله عليه وسلم مستعدٌ لأن يبذل أهله وماله مقابل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر النبي عن حال المشتاقين إليه بعد وفاته، ممن لم يروه ولم يدركوا زمانه قَالَ: [مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ].

 

أحبتي .. خلاصة الأمر في مسألة (رؤيا الحبيب) صلى الله عليه وسلم في المنام، أنها "دليل خيرٍ وبشرى لصاحبها، ومع ذلك لا يجوز بناء الأحكام والمواقف والتصرفات عليها، فهي مبشراتٌ تبعث الأمل، يُفْرَح ويُتفاءل بها، ولا يُبنى حُكْمٌ عليها".

اللهم اجعلنا ممن يتشرفون برؤية نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في المنام في الحياة الدنيا، واجعلنا في الآخرة من المحظوظين الفائزين المفلحين الذين يشربون عند الحوض من يده الشريفة شربة ماءٍ لا نظمأ بعدها أبداً.

 

https://tinyurl.com/y5682drb