الجمعة، 23 نوفمبر 2018

هل أنا مؤمنٌ حقاً؟


الجمعة 23 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦٢
(هل أنا مؤمنٌ حقاً؟)

يُروى عن الشيخ محمد متولي الشعراوي، يرحمه الله، قوله: عندما كنتُ في سان فرانسيسكو سألني أحد المستشرقين: هل كل ما في قرآنكم صحيح؟ فأجبت: بالتأكيد، نعم. فسألني: لماذا إذاً جعل الله للكافرين عليكم سبيلاً؛ رغم قوله تعالى: ﴿وَلَن يَجعَلَ اللَّهُ لِلكافِرينَ عَلَى المُؤمِنينَ سَبيلًا﴾؟ فأجبته: لأننا مسلمين ولسنا مؤمنين! فسألني: وما الفرق بين المؤمنين والمسلمين؟ قلت له: المسلمون اليوم يؤدون جميع شعائر الإسلام من صلاةٍ وزكاةٍ وحجٍ وصومِ رمضان، وغيرها من العبادات، ولكنهم في شقاءٍ تام؛ شقاءٍ علميٍ واقتصاديٍ واجتماعيٍ وعسكريٍ .. إلخ. سألني: لماذا هم في شقاء؟ قلت: لأن المسلمين لم يرتقوا بعد إلى مرتبة المؤمنين؛ فلنتدبر ما يلي: لو كانوا مؤمنين حقاً لَنَصَرَهم الله، بدليل قوله تعالى: ﴿وَكانَ حَقًّا عَلَينا نَصرُ المُؤمِنينَ﴾. لو كانوا مؤمنين لأصبحوا أكثر شأناً بين الأمم والشعوب، بدليل قوله تعالى:
﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾. ولكنهم بَقَوْا في مرتبة المسلمين ولم يرتقوا إلى مرتبة المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكثَرُهُم مُؤمِنينَ﴾.
فمن هم المؤمنون؟ الجواب من القرآن الكريم؛ هم: ﴿التّائِبونَ العابِدونَ الحامِدونَ السّائِحونَ الرّاكِعونَ السّاجِدونَ الآمِرونَ بِالمَعروفِ وَالنّاهونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحافِظونَ لِحُدودِ اللَّهِ﴾. نلاحظ أنّ الله سبحانه وتعالى ربط موضوع النصر والغلبة والسيطرة ورُقي الحال بالمؤمنين وليس بالمسلمين!

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الدين ثلاث مراتبٍ: إسلامٌ ثم إيمانٌ ثم إحسانٌ، وقد دل على ذلك حديث جبريل عليه السلام حين جاء يعلم الصحابة دينهم فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن الإسلام؛ فقال: [الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا]، قال جبريل فأخبرني عن الإيمانُ؛ فقال: [أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ]، ثم قال فأخبرني عن الإحسان؛ فقال: [أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ]. فإذا دخل الشخص في الإسلام، أو كان مُسلماً لأبوين مسلمين، ثمّ بدأ يُدرك معنى الإسلام فهو في أول مراتب الدين، ولم يصل إلى الإيمان بعد؛ ثمّ إذا ارتقى بإسلامه ليُحقّق بعض القواعد الإيمانية فإنّه يكون في المرتبة الأعلى بعد الإسلام وهي مرتبة الإيمان، ثم إذا وصل إيمانه لدرجةٍ يعبد فيها الله كأنه يراه ويطّلع عليه فقد وصل إلى أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان.

وجمهور أهل السُنة على أن المؤمن أعلى مرتبةً من المسلم، والمحسن أعلى منهما؛ قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ فالظالم لنفسه صاحب الذنب، المصر عليه، وإن أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق الباطني، لكن لم يقم بما يجب عليه من متطلبات الإيمان. والمقتصد هو المؤدي للفرائض المتجنب للمحارم، وهذه مرتبة الإيمان. أما السابق بالخيرات فهو المؤدي للفرائض والنوافل، وهذه مرتبة الإحسان.
يقع اللبس عادةً في معنى كلٍ من: الإسلام، والإيمان، والقاعدة عند العلماء عن الفرق بينهما: أنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. فإذا ورد الإسلام والإيمان في نصٍ واحدٍ، كان معنى الإسلام الأعمال الظاهرة، ومعنى الإيمان الاعتقادات الباطنة؛ كما في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. أما إذا ذُكر الإسلام وحده دخل في معناه الإيمان؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ﴾. وإذا ذُكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾.
فكل مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كل مسلمٍ مؤمناً، والسؤال الذي ينبغي أن يطرحه كل مسلمٍ على نفسه هو: (هل أنا مؤمنٌ حقاً؟).
يقول أهل العلم أن الإسلام هو استسلام العبد المسلم لله استِسلام خُضوعٍ وانقياد، وذلك يكون بالأعمال والعبادات الظاهرة قولاً وعملاً؛ مثل شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنّ محمَّداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحجّ لمن كان مستطيعاً. أما الإيمان فهو من أعمال القلوب غير الظاهرة التي لا يطّلعُ عليها إلا الله سبحانه وتعالى؛ مثل التصديقُ والإقرارُ ومَحبّة الله سبحانه وتعالى، ومحبّة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ومحبّة كلّ ما يُحبّه الله ورسوله، وبغض ما يبغضاه. فالإسلام يُشير إلى قول اللسان وعملِ الجوارح، بينما يُشير الإيمان إلى الاستسلام الباطن وإقرار القلب وتصديقه.
فمن هم المؤمنون؟ و(هل أنا مؤمنٌ حقاً؟)، وردت صفات المؤمنين في كثيرٍ من المواضع في القرآن الكريم؛ منها قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وفي غير ذلك من آيات.

وللإيمان ثوابٌ عظيمٌ في الدنيا والآخرة؛ قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، يقول المفسرون أن من رحمته سبحانه وتعالى بالمؤمنين، أن جعل من صلاته عليهم، وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمةٍ أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي رحمهم، وجعل الملائكة يستغفرون لهم فيقولون: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فهذا ثوابه للمؤمنين في الدنيا، كما أن لهم فيها: العزة، ورفع الدرجات، والمغفرة، والرزق الكريم، ودفاع الله عنهم، ونصره لهم؛ قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وثواب المؤمنين في الآخرة: الفوز بالجنة، ووراثة الفردوس الأعلى منها، ورؤية وجه الله الكريم، والتنعم برضاه سبحانه وتعالى، وتحيته، والاستماع لكلامه، وحصول الأجر الكريم؛ قال سبحانه: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا . خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾، وقال تعالى: ﴿يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾، كما قال: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وقال كذلك: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، وقال أيضاً: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ آمَنوا أَنَّ لَهُم قَدَمَ صِدقٍ عِندَ رَبِّهِم﴾.

أحبتي .. من نعمة الله سبحانه وتعالى التي لا نحصيها أن أنعم علينا بالإسلام، فهل أدينا جميع أركان مرتبة الإسلام، من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍ، دون إخلالٍ أو تفريطٍ؟ أم اكتفينا بنطق الشهادتين، وبأنه مسجلٌ في شهادة الميلاد أننا مسلمون، ثم عشنا بغير صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ أو حجٍ، أو بتقصيرٍ في أدائها؟ وإذا كنا ممن وفقهم الله فالتزموا بجميع هذه الأركان وأدَوْها على وجهها الأكمل، هل اكتفينا بهذه المرتبة ورضينا بالبقاء فيها؟
أَمَا وقد عرفنا صفات المؤمنين، وعرفنا الثواب العظيم لهم في الدنيا والآخرة؛ فليسأل كلٌ منا نفسه: (هل أنا مؤمنٌ حقاً؟)، ولو كنت في مرتبة الإيمان، ألا أشتاق للارتقاء إلى مرتبة الإحسان؟ ثم، ماذا أنا فاعلٌ للارتقاء إليها فأنال الجائزة الكبرى والثواب العظيم؟
على كلٍ منا أن يعرض نفسه على القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ وينظر في أركان الإسلام، وينظر في صفات المؤمنين، ليعرف أين هو؟ فيحدد موقفه بدقةٍ وأمانةٍ وصدقٍ، ثم يحدد هدفه ببصيرةٍ ووضوحٍ وإخلاصٍ، ثم ينطلق بهمةٍ وعزمٍ وجدٍ، ليستكمل أركان المرتبة التي هو فيها على أكمل وجه، ويستشرف المرتبة الأعلى فيستوفيها، حتى يصل إلى مرتبة الإحسان.
ومهما كان تقصيرنا، فإننا عندما نخلص النية، ونجاهد النفس، ونشمر سواعد الجد، يكون الله سبحانه وتعالى معنا؛ يوفقنا ويعيننا وييسر طريقنا؛ أوليس هو القائل: ﴿فَأَمّا مَن أَعطى وَاتَّقى . وَصَدَّقَ بِالحُسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرى﴾؟

اللهم اجعلنا من المحسنين الذين ﴿اتَّقَوا وَآمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنوا﴾، واجعلنا برحمتك نعبدك كأننا نراك، ورُدَّنا اللهم إلى دينك رداً جميلاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/kF6MEE

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

نبع الحنان


الجمعة 16 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٦١
(نبع الحنان)

قصةٌ أبكتني ترويها طبيبةٌ؛ كتبت تقول: دخلت عليّ في العيادة امرأةٌ في الستينات من عمرها بصحبة ابنها الثلاثيني، لاحظت حرصه الزائد عليها، يُمسك يدها ويُصلح لها عباءتها ويُقدم لها الأكل والماء. بعد سؤالي عن المشكلة الصحية، طلبت بعض الفحوصات، ثم سألت الابن عن حالة أمه العقلية؛ لأنّ تصرفاتها لم تكن متزنةً ولا ردودها على أسئلتي، فقال: إنها متخلفةٌ عقلياً منذ الولادة. تملكني الفضول فسألته: فمن يرعاها؟ قال: أنا. قلت: والنعم! ولكن من يهتم بنظافة ملابسها وبدنها؟ قال: أنا؛ أدخلها الحمّام وأحضر ملابسها وأنتظرها إلى أن تنتهي، وأصفف ملابسها في الدولاب، وأضع المتسخ من الملابس في سلة الغسيل، وأشتري لها ما تحتاجه من ملابس! قلت: ولِمَ لا تحضر لها خادمة؟! قال: لأن أمي مسكينةٌ مثل طفلٍ صغيرٍ؛ لا تشتكي، وأخاف أن تؤذيها الشغالة. اندهشت من كلامه، ومقدار برّه بأمه، وسألته: هل أنت متزوج؟ قال: نعم، الحمد لله، ولدي أطفال. قلت: إذن زوجتك ترعى أمك؟ قال: هي لا تقصر؛ فهي تطهو الطعام وتقدمه لها، وقد أحضرت لزوجتي خادمةً حتى تعينها، لكني أحرص على أن آكل مع أمي حتى أطمئن عليها فهي مصابةٌ بمرض السكر. زاد إعجابي، وأمسكت دموعي أمنعها من أن تنهمر! اختلست نظرةً إلى أظافر الأم فرأيتها قصيرةً ونظيفةً، سألته: من يعتني بأظافرها؟ قال: أنا! نظرت الأم لولدها وقالت: متى تشتري لي "الشيبسي"؟! قال لها: أبشري، نذهب الآن لمحل البقالة! طارت الأم من الفرح، وقالت: الآن .. الآن! التفت الابن وقال لي: واللهِ إني لأفرح لفرحتها أكثر من فرحتي بفرحة عيالي الصغار. تقول الطبيبة: تظاهرت بأني أكتب في الملف الطبي حتى لا يظهر مدى تأثري، ومع ذلك ربما فضحتني دمعةٌ سالت ساخنةً على خدي، أتمنى لو أنه لم يلحظها! سألتُه: هل لها غيرك من الأبناء؟ قال: أنا وحيدها؛ لأن الوالد طلقها بعد شهرٍ واحدٍ من الزواج. قلت: إذن ربّاك أبوك؟ قال: لا، بل جدتي لأمي هي التي كانت ترعاني وترعاها، كانت (نبع الحنان) لنا، وتُوفيت إلى رحمة الله وعمري عشر سنوات! قلت: هل رعتك أمك يوماً إذا مرضت أو تذكر أنها اهتمت بك أو فرحت لفرحك أو حزنت لحزنك؟ قال: أمي مسكينةٌ، أنا الذي أحمل همها وأخاف عليها وأرعاها منذ كان عمري عشر سنوات. تقول الطبيبة: كتبت الوصفة الطبية، وشرحت له كيف يعطيها الدواء. أمسك بيد أمّه وقال لها: الآن نذهب إلى محل البقالة. قالت له: لا، نذهب إلى مكّة! استغربت! سأل أمه: لماذا تريدين الذهاب إلى مكة؟ قالت: لأركب الطائرة! سألتُه: أتذهب بها حقاً إلى مكّة؟! قال: نعم. قلت: هي ليس عليها حرجٌ لو لم تعتمر؛ لماذا تذهب بها وتضيّق على نفسك؟ قال: ربما كانت الفرحة التي تفرحها لزيارة مكة أعظم أجراً عند رب العالمين من عُمرتي بدونها! خرجا من العيادة، فأقفلت بابها وقلت للممرضة: أحتاج لبعض الرّاحة. بكيت بشدة، وقلت في نفسي: هذا وهي لم تكن له أماً في يومٍ من الأيام؛ لم تكن (نبع الحنان) له، فقط حملت وولدت ولم تتحمل معاناة تربيته؛ لم تسهر الليالي، لم تُدَرِّسه، لم تتألم لألمه، لم تبكِ لبكائه، لم يجافيها النوم خوفاً عليه، لم.. ولم..! ومع ذلك تنال كل هذا البر؟! فهل نفعل نحن بأمهاتنا الصحيحات مثلما فعل هذا الرجل بأمه المتخلفة عقلياً؟!

تذكرتُ، وأنا أطالع ما كتبَته هذه الطبيبة، قصة رجلٍ من التابعين سماه النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه "خير التابعين"، وكيف كان بره بوالدته سبباً في استجابة الله سبحانه وتعالى لدعائه؛ قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ] {"أمداد": جمع مدد وهو ما كان يأتي من الأجناد مدداً لجيوش المسلمين. "مُراد": اسم قبيلة. "قرن": فخذٌ أو بطنٌ من قبيلة مُراد}، وفي روايةٍ: [إنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ]. وبعد أن تولى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خلافة المسلمين، كان كلما أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: "أفيكم أويس بن عامر"؟، حتى أتى على أويس، فقال: "أنت أويس بن عامر"؟، قال: نعم، قال: "مِن مراد ثم مِن قرن"؟، قال: نعم، قال: "فكان بك برصٌ فبرأتَ منه إلا موضع درهم"؟، قال: نعم، قال: "لك والدةٌ"؟، قال: نعم، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ..." وروى له الحديث، ثم طلب منه أن يستغفر له، فاستغفر له. فلما انتشر الخبر بين الناس اختفى عنهم أويس وذهب حتى لا يصيبه العُجب أو الثناء فيحبط عمله عند الله عزَّ وجلَّ. ما نال أويس هذه المنزلة؛ أنه لو أقسم على الله لأبره وأنه يستغفر لخليفة المسلمين، إلا ببره بوالدته.

في المقابل يقول أحدهم: كنت على شاطئ البحر، فرأيت امرأةً كبيرةً في السن جالسةً على الشاطئ، تجاوزت الساعة منتصف الليل، فاقتربت منها ومعي أسرتي، نزلت من سيارتي، توجهت إلى هذه المرأة، سألتها: مَنْ تنتظرين؟ قالت: انتظر ابني، ذهب وسيأتي بعد قليل. يقول الراوي: شككت في أمر هذه المرأة، وأصابني ريبٌ في بقائها في هذا المكان، وفي هذا الوقت المتأخر من الليل، ولا أظن أحداً سيأتي بعد هذا الوقت. انتظرت ساعةً كاملةً ولم يأتِ أحد. فذهبت لها مرةً أخرى فقالت: ولدي سيأتي الآن. يقول الراوي: نظرت فإذا بورقةٍ بجانب هذه المرأة؛ طلبتُ منها أن اقرأها. قالت: إن هذه الورقة وضعها ابني بجانبي وقال لي: إذا تأخرت عليك اعطِ هذه الورقة لأي شخص. يقول الراوي: قرأتُ الورقة، فإذا المكتوب فيها: "إلى من يجد هذه المرأة، الرجاء أخذها إلى دار العجزة".
عجباً لحال هؤلاء الأبناء، يعقون من؟ يعقون أمهاتهم؟! يعقون (نبع الحنان) الصافي المخلص في حياتهم؟! أما آن أن تستفيق هذه القلوب العاقة؟!

أحبتي .. يقول أهل العلم أن ديننا قد حثنا على الاهتمام بالوالدين والبر بهما، وإلى جانب ما تناله الأم من اهتمامٍ باعتبارها أحد الوالدين، فإن الشرع قد  أعطى للأم مكانةً خاصةً؛ فلا يعرف التاريخ ديناً ولا نظاماً كرَّم المرأة باعتبارها أماً وأعلى من مكانتها مثل الإسلام، لما للأم من شأنٍ جليلٍ وفضلٍ عظيمٍ ووظيفةٍ ساميةٍ ورسالةٍ خطيرةٍ؛ فهي المدرسة الأولى، والقدوة المباشرة، وهي للأسرة مثال القلب للجسم، وهي (نبع الحنان) لأبنائها. تتمثل رسالتها الخطيرة في رعاية الأطفال وتنشئة الأبناء تنشئةً صالحةً وتعويدهم على أحسن العادات والتقاليد. وهي شريكة الرجل في رعاية الأبناء ورعاية شئون بيتها وأسرتها. لقد أوجب الشرع الوصية بالأم، وجعل بِرها من أصول الفضائل، كما جعل حقها أوكد من حق الأب، لما تتحمله من مشاق الحمل والوضع والإرضاع والتربية، وهذا ما يقرره القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى برَّ رسول الله عيسى عليه السلام بوالدته السيدة مريم، فقال تعالى على لسان عيسى عليه السلام حينما تكلَّم في المهد صبياً: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾.
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم جلس إلى قبرٍ، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطِب، ثم بكى، فلما سُئل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: [هَذَا قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الاسْتِغْفَارِ لَهَا فَأَبَى عَلَيَّ، وَأَدْرَكَتْنِي رِقَّتُهَا فَبَكَيْتُ]، يتذكر رقة أمه وحنانها فيبكيها وهي التي لم تدرك الإسلام قبل موتها.
وحين سأل أحدهم النبي عليه الصلاة والسلام: من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: [أُمّك]، قال: ثم من؟ قال: [أُمّك]، قال: ثم من؟ قال: [أُمّك]، قال: ثم من؟ قال: [أَبُوك].
وهذا ابن عمر رضي اللهُ عنهُما، شهدَ رجلاً يمانياً يطوفُ بالبيتِ، حَمَلَ أُمَهُ وراءَ ظَهرِهِ يَقُولُ: إني لها بعيِرُها المذَلَّلُ، إن أُذْعِرَتْ رِكَابُها لمْ أُذْعَرْ، اللهُ ربي ذُو الجلالِ الأكبرِ، حمْلتُها أكثرَ مما حَمَلتْنِي، فهل تُرى جازيتُها يا ابنَ عمر؟ قالَ ابنُ عمرَ: "لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ". والزفرة هي الطلقة الواحدة وقت الولادة.

أحبتي .. هذه هي الأم، وتلك هي مكانتها في الإسلام. إنها هي بحقٍ (نبع الحنان)؛ فعلى مَن تُوفيت أمه أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لها، ويدعو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم شفيعاً لها، وأن تكون من أهل الجنة. ومَن كانت أمه ما تزال على قيد الحياة فليدعُ الله سبحانه وتعالى أن يحفظها، وليبادر إلى الوفاء بحقوقها بحبه واحترامه وتقديره لها، والتعامل معها بكلّ لطفٍ ولينٍ، وتوفير جميع احتياجاتها ومتطلباتها، وطاعتها في غير معصيةٍ لله سبحانه وتعالى، وتجنّب مقاطعتها أو إيذائها أو القسوة في التعامل معها، أو الإساءة إليها أو جرح مشاعرها.

اللّهم اجعل الرحمة تملأ قلوبنا على أمهاتنا، وأعِّنا على البر بهن ورعايتهن والإحسان إليهن. وارحمهن سبحانك أحياءً وأمواتاً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/iWgSRn

الجمعة، 9 نوفمبر 2018

نهر العطاء


الجمعة 9 نوفمبر 2018م

خاطرة الجمعة / ١٦٠
(نهر العطاء)

من القصص التي انتشرت خلال الأيام الماضية على معظم مواقع التواصل الاجتماعي، ويبدو أنها واقعية، القصة التالية:
يقول صاحبي: سئمت من أبي؛ من صراخه، من نقده، ومن عتابه. إذا دخل غرفتي وأنا خارجها ووجد المصباح مضاءً صرخ في وجهي: لِمَ كل هذا الهدر في الكهرباء؟ إذا دخل الحمام بعدي ووجد الصنبور يقطر ماءً صرخ بعلو صوته: لِمَ لا تُحكم غلقه قبل خروجك؟ ولِمَ كل هذا الهدر في المياه؟ دائماً ينتقدني ويتهمني بالسلبية، يعاتبني على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، حتى وهو على فراش المرض!
إلى أن جاء يوم الخلاص، اليوم الذي لطالما انتظرته؛ اليوم سأجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي للحصول على وظيفةٍ مرموقةٍ في إحدى الشركات الكبرى، وإن تم قبولي فسأترك هذا البيت إلى غير رجعةٍ، وأرتاح من أبي ومن صراخه وتوبيخه الدائم لي.
استيقظت في الصباح الباكر، استحممت ولبست أجمل الثياب وتعطرت، وهممت بالخروج فإذا بيدٍ تربت على كتفي عند الباب، التفت فوجدت أبي مبتسماً، رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جليةً على وجهه، ناولني بعض النقود وقال لي: "أريدك أن تكون إيجابياً واثقاً من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال". تقبلت النصيحة على مضضٍ، وابتسمت وأنا أتأفف من داخلي، حتى في هذه اللحظات لا يكف عن التنظير، وكأنه يتعمد تعكير مزاجي حتى في أسعد لحظات حياتي.
خرجت من البيت مسرعاً واستأجرت سيارة أجرة وتوجهت إلى الشركة، وما إن وصلت ودخلت من بوابتها حتى تعجبت كل العجب! فلم يكن هناك حراسٌ عند الباب، ولا موظفو استقبالٍ، لا يوجد سوى لوحاتٍ إرشاديةٍ تقود إلى مكان المقابلة! وبمجرد أن دخلت من الباب لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه وأصبح عرضةً للكسر إن اصطدم به أحدٌ؛ فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون إيجابياً، فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيداً. ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقةً بالمياه التي كانت تطفو من أحد أحواض الزهور الذي امتلأ بالماء الى آخره، وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه. فتذكرت تعنيف أبي لي على هدر المياه فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته في حوضٍ آخر مع تقليل ضخ الماء من الصنبور حتى لا يمتلأ الحوض بسرعةٍ إلى حين عودة البستاني. ثم دخلت مبنى الشركة متتبعاً اللوحات؛ وخلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار فقمت لا إرادياً بإطفائها خوفاً من صراخ أبي الذي كان يرن في أذني أينما ذهبت. إلى أن وصلت إلى الدور العلوي ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين للوظيفة. قمت بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين وجلست أنتظر دوري وأنا أتمعن وجوه الحاضرين، تأملت ملابسهم فشعرت بالدونية من ملابسي وهيئتي، كان البعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من جامعاتٍ أمريكيةٍ، والبعض يتحدث عن بطاقة توصيةٍ معه. ثم لاحظت أن كل من يدخل المقابلة ما يلبث أن يخرج في أقل من دقيقةٍ واحدةٍ؛ قلت في نفسي إن كان هؤلاء بملابسهم الأنيقة وشهاداتهم الأجنبية وبطاقات التوصية معهم قد تم رفضهم فهل سأُقبل أنا؟! قررت الانسحاب والخروج بكرامتي من هذه المنافسة الخاسرة قبل أن يُقال لي: "نعتذر منك"؛ انتفضت من مكاني وهممتُ بالخروج فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول، فقلت لا مناص سأدخل وأمري إلى الله. دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاصٍ نظروا إليّ وابتسموا ابتسامةً عريضةً، ثم قال أحدهم: "متى تحب أن تستلم الوظيفة"؟، ذُهلت لوهلةٍ وظننت أنهم يسخرون مني، أو أنه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه، فتذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بألا أهتز وأن أكون واثقاً من نفسي؛ فأجبتهم بكل ثقةٍ: "بعد أن أجتاز الاختبار بنجاحٍ إن شاء الله". فقال آخر: "لقد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر"، فقلت: "ولكن أحداً منكم لم يسألني سؤالاً واحداً"!، فقال الثالث: "نحن ندرك جيداً أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أيٍ من المتقدمين؛ ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عملياً؛ فصممنا مجموعة اختباراتٍ عمليةٍ تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها، ومدى حرصه على مقدرات الشركة، فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيبٍ تعمدنا وضعه في طريق كل متقدمٍ، وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبةٍ وُضعت في مدخل الشركة وأروقتها".

يقول صاحبي .. حينها فقط اختفت كل الوجوه من أمام عيني، ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شيء، ولم أعد أرى إلا صورة أبي! ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة ولكن باطنه الرحمة والمودة والحب والحنان والطمأنينة. شعرتُ برغبةٍ جامحةٍ في العودة إلى البيت والانكفاء لتقبيل يديه وقدميه. اشتقت إلى سماع صوته وموسيقى صراخه تطرب أذني. لماذا لم أرَ أبي هكذا من قبل؟ كيف عميت عيناي عنه؟ عميت عن العطاء بلا مقابل، عن الحنان بلا حدود، عن الإجابة بلا سؤال، عن النصيحة بلا استشارة. تمنيت لو ركبتُ بساط الريح لأعود إلى بيتي وأحتفل مع أبي بفوزي بالوظيفة الجديدة. تركت لهم ملفاً كاملاً يحوي شهاداتي وأوراقي، وخرجتُ مسرعاً؛ خطواتي تسابق الريح للحاق بقلبي الذي سبقني فَرِحاً إلى البيت.
لكن ما إن وقفت عند أول الشارع حتى رأيت ازدحاماً أمام عمارتنا! اقتربت بحذرٍ ودقات قلبي يضرب بعضها بعضاً، فتلقاني جاري باكياً واحتضنني قائلاً: "عظم الله أجرك في أبيك". تسمرت قدماي في الأرض ولم تعد تقوى على حملي، ضاعت فرحتي واسودت الدنيا في وجهي، وبدأت الأرض تدور من حولي. هممت بسؤال كل من مَرَّ بجانبي أحقاً مات أبي؟ أحقاً رحل ولن يعود؟ لا، لا لم يمت حبيبي فهو موجود. رحيلك مُرٌّ يا أبي. ليس هناك أقسى على النفس من رؤية حبيبك مُسجَّىً بلا حراكٍ، تراه ولا يراك، تنظر إليه للمرة الأخيرة ولا تكاد تصدق ما تراه عيناك.
يا أيها الطاهر النقي .. يا أيها الطيِّب السخي .. يا (نهر العطاء) .. لو كنت أعلم أنك سترحل لكنت أعددتُ نفسي، وتقربتُ منك أكثر وتزودت من برك بما قد ينفعني بعد وفاتك .. لو كنت أعلم برحيلك لأخبرتك أنِّي لا أجد نفسي من دونك، ولا أعلم كيف ستصبح حياتي بعدك .. ليتك تسمعني الآن لأُخبرك أنَّ فراقك ينتزع روحي من جسدي، ويقذف بي إلى أعماق المجهول .. رحلتَ وفي القلب غُصَّةٌ وفي النفس حسرةٌ على كل يومٍ لم أمتع ناظري برؤية وجهك البشوش ولا أذني بسماع صوتك الحنون .. منحتنا كل شيءٍ ولم تأخذ منا شيئاً .. ومنذ عرفتُ الحياة وأنت لنا العطاء والاحتواء، والصبر والوفاء .. كنتَ أنت البارَّ بنا ولم تنلْ منا البِر كما يجب أن يكون .. غبتَ يا أبي وغاب عني العقل الرشيد والركن الشديد، والسند المتين، والناصح الأمين.
لم يمت أبي ولن يموت؛ بل سيظل حياً في صلاتي، في دعائي، في ركوعي، في سجودي، في صدقتي، في حجي، في عمرتي، وفي كل عملٍ أتقرب به إلى الله أسأله أن يغفر لأبي ويتغمده بواسع رحمته. لم يمت أبي وإن مات فهو باقٍ في نفسي إلى أن ألحق به في جنات الخُلود .. رحم الله أبي وأسكنه فسيح جناته.

أحبتي في الله .. أبكتني هذه القصة؛ حتى أن دموعاً ساخنةً بدأت تنساب على وجنتيّ حين تذكرت أبي رحمه الله وكان بالفعل (نهر العطاء) الحاني العطوف الذي لم أوفهِ حقه بِراً في حياته كما ينبغي أن يكون البر. واستحضرت متحسراً أحوال الكثير منا مع مَن يحبون فتساءلت في نفسي لماذا لا نتذكر أحبتنا إلا بعد أن نفقدهم؟ لماذا لا نجعلهم يحسون بحبنا لهم وهُم معنا؟ ولماذا يذكر الأبناء آباءهم بكل الخير والحب والشوق بعد وفاتهم، وقد كانوا غير بارين بهم وهم أحياء؟
قصص عدم البر بالوالدين، خاصةً الأب، كثيرةٌ مؤلمةٌ وموجعةٌ، فهل ما يبديه الأبناء من الحب والترحم على أبيهم بعد موته هو تعبيرٌ عن الإحساس بالذنب؟ هل هو تكفيرٌ عن تقصيرهم وعدم برهم بآبائهم في حياتهم؟ ربما!

إن حق الوالدين على الأبناء ثابتٌ في كثيرٍ من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة؛ ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقوله سبحانه موضحاً بعض صور الإحسان بالوالدين: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا]، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: [بِرّ الْوَالِدَيْنِ]، قَالَ ثُمَ أَيّ؟ قَالَ: [الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ].
وأَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ؛ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ. قَالَ: [فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيّ]؟ قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: [فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ]؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: [فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا].
وقال عليه الصلاة والسلام: [رَغِم أَنف مَنْ أَدرْكَ أَبَويْهِ عِنْدَ الْكِبرِ أَحدُهُمَا أَوْ كِلاهُما فَلمْ يدْخلِ الجَنَّةَ].
وورد في حديثه صلى الله عليه وسلم حين صعد المنبر وقال: [آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ]، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ آمِينَ، قَالَ: [إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: "رَغِمَ أَنْف رَجُل أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدهمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّة، قُلْ: آمِينَ"، فَقُلْتُ: آمِينَ].

وإن كانت الأم هي نبع الحنان، وكلنا يعلم اهتمام ديننا الإسلامي بها، فإن لنا مع الأب وهو (نهر العطاء) وقفةٌ؛ كيف ينبغي أن نعامله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]، وَفِي رِوَايَةٍ: [وَلَدٌ وَالِدَهُ].

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: [إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ].
كما قَالَ: [إنَّ أَطْيَبِ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ].
ورُويَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ].
وقَالَ أيضاً: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ، فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ].

ولنا في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وتلطفه مع أبيه في الخطاب عبرةٌ وعظةٌ؛ يخاطب عليه السلام أباه بأدبٍ جمٍ: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾، ويقول له متأدباً: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً﴾، أدبٌ واحترامٌ وحبٌ لأبيه وخوفٌ عليه رغم كفره، وهو يعامل ابنه بمنتهى الشدة والصلافة؛ حيث قال: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾، ومع ذلك كان موقف الابن إبراهيم عليه السلام في غاية الأدب واللطف قَالَ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾. ثم عرض القرآن الكريم صورةً لأعظم البر للأب حينما استجاب الابن إسماعيل لأبيه إبراهيم دون تردد لما عرض عليه الرؤيا التي يذبحه فيها؛ فقال: ﴿يا أَبَتِ افعَل ما تُؤمَرُ سَتَجِدُني إِن شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرينَ﴾، درسٌ وموعظةٌ بليغةٌ وتأكيدٌ لما ورد في الأثر: "بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم"، وبيانٌ عمليٌ لكون الجزاء من جنس العمل.

أحبتي .. نصيحةٌ لكل ابنٍ ما زال أبوه حياً، احذر أن تفوتَك الفرصة، إنه بابٌ من أبواب الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه]، بادر ببره، وسارع إلى كسب رضاه، وابعد عن عقوقه أو هجره؛ إنه مع كبر سنه صار في حالةٍ من الضعف يحتاج معها إلى الرعاية والحنان. مهما كبرتَ وعلا شأنك فإن له عليك حق السمع والطاعة، وحسن الصحبة والعشرة والمعاملة، والأدب في الحديث، إن تكلم فلا تقاطعه، وإن دعاك فأجبه، ولا تمشِ بين يديه، وحيّهِ بأحسن تحيةٍ، وقبِّل رأسه ويديه، فهذا من البر، ولا تنسَ أنه تلزمك النفقة عليه في حال احتياجه، والهدية له في حال غناه.
ومن كان أبوه ميتاً فليحرص على صلاح نفسه، وليُكثر من الدعاء لأبيه، والتصدق عنه إن استطاع، وله أن يقف عليه وقفاً فيكون صدقةً جاريةً له؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، والجزاء من جنس العمل، فلعل الابن باجتهاده في إلحاق النفع بوالده، يهيء الله له من ولده من يسعى لنفعه بعد وفاته.

اللهم اجعلنا بارين بآبائنا أحياءً وأمواتاً، فهم كانوا وما زالوا (نهر العطاء) المتدفق بغير حد، واجعل اللهم لنا من أبنائنا وذرياتنا قرة أعينٍ، واجعلنا وإياهم من عبادك الصالحين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/w7jWiS

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

جهاد النفس



خاطرة الجمعة /١٥٩
(جهاد النفس)

لطالما تحدثت مع زميلٍ لي عن أهمية المشي إلى المسجد والصلاة فيه مع جماعة المسلمين، وكيف تتحول الصلاة مع الجماعة، مع الوقت، من التزامٍ ثقيلٍ على النفس إلى إحساسٍ بلذة الإيمان تُذاق بالقلب كما تُذاق لذة الطعام باللسان، ففيها سعادة القلب، وراحة النفس، وسعة البال، وانشراح الصدر. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد راحته فيها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا]. من ذاق حلاوة الإيمان وأحسها في قلبه ينتظر الصلاة إلى الصلاة انتظار المحب الذي يَعُّد الثواني قبل الساعات يتعجل لقاء محبوبه، أو كالمشتاق تحرق أحشاءه لوعة الشوق فلا يطفئها سوى أن يلقى معشوقه!
كان زميلي هذا يتحجج، في كل مرةٍ أفتح معه هذا الموضوع، بأن المشي يتعبه!
أقعده المرض فألزمه داره لفترةٍ، ثم رأيته يوماً وهو يمشي قريباً من منزله، فهنأته بأنْ أصبح المشي سهلاً عليه دون مشقة، أخبرني أنه مضطرٌ لذلك لأن هذه تعليمات الطبيب؛ فعاودتني الرغبة في أن أحدثه مرةً أخرى في ذات الموضوع، خاصةً وأن المسجد قريبٌ من منزله؛ فقلت له إنها فرصةٌ ذهبيةٌ طالما أنه مضطرٌ للمشي؛ فليكن مشيه إلى المسجد وليجاهد نفسه فيضبط مواعيد المشي مع مواعيد الصلاة ليكسب ثواباً عظيماً. رد عليّ بأن المشكلة في دَرَج المسجد؛ فصعود الدَرَج يتعبه! فوجئ بي أسأله: "وماذا أنت فاعلٌ لو طلب منك الطبيب صعود الدَرَج خمس مراتٍ في اليوم؟!".

ولأنه عزيزٌ عليّ أكملت حديثي معه بنصيحةٍ؛ قلت له: "لندخل المسجد عمودياً قبل أن ندخله أفقياً"، قال لي: "ماذا تقصد؟"، قلت له: "أقصد: ندخل المسجد بأقدامنا نصلي مع جماعة المسلمين فيه، قبل أن ندخله محمولين على الأكتاف يُصلى علينا فيه!".

أحبتي في الله .. ذكرني هذا الموقف بجيرانٍ يسكنون في شارعنا أراهم، وأنا ذاهبٌ إلى المسجد لصلاة الفجر، عائدين إلى منازلهم، وما أن يصلون إليها حتى تكون أصوات المؤذنين من أكثر من مسجدٍ مجاورٍ عاليةً تملأ الأفق تصدح بأذان الفجر؛ فأتمنى في قرارة نفسي لو أنهم غيروا اتجاههم وذهبوا إلى المسجد فصلوا الفجر ثم عادوا إلى بيوتهم أو توجهوا إلى أعمالهم لكان خيراً لهم، وأسأل نفسي: ألا يستمعون إلى عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم" تصل إلى آذانهم؟ إنها عبارةٌ تحرك همة المؤمنين وتستحث عزيمتهم لمجاهدة النفس فيتركوا في ليالي الشتاء الباردة فُرُشَهم الدافئة الوثيرة، ويتوضأون بماءٍ كاد أن يكون ثلجاً مذاباً، وينزلون يمشون في الظلام، وربما تحت المطر، هؤلاء صدق إيمانهم، وأدركوا أن الأذان نداءٌ من الله سبحانه وتعالى لهم ليذهبوا إلى بيته. هم يعلمون أنه شرفٌ لأي إنسانٍ أن يدعوه رئيسه في العمل لزيارته في بيته، ويزداد الشرف إذا كان من يدعوه هو المدير، فإذا كان من يدعوه هو الوزير فلن يستطيع أن ينام الليل في انتظار تلبية الدعوة، وهو يباهي غيره بهذه الدعوة، كما أنه يتوقع أن يكرمه الداعي إكراماً يليق بمكانته ومنزلته؛ هذه دعوة بشرٍ لبشر، فما بالنا بدعوة رب البشر لمخلوقٍ ضعيف! يدرك المؤمنون أنهم، عندما يستمعون للأذان فهم يتلقون دعوةً من أكرم الأكرمين لزيارته في بيته، وهم يوقنون أن أبواب كرمه قد فُتحت أمامهم بلا حدود، وعندما يستمعون إلى عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم"، وهي خصوصيةٌ لصلاة الفجر ليست لغيرها، تخشع قلوبهم وتلين جلودهم وتدمع عيونهم وتستكين جوارحهم، وهم يعلمون أنهم سيكونون في ذمة الله وضمانه وأمانه طوال اليوم طالما صلوا الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد.
قلت لأحدهم مرةً أن يأتي معنا للصلاة في المسجد، فقال إنه ذاهبٌ إلى العمل وطلب مني أن أدعو له بأن يهديه الله، قلت له منبهاً إياه بأن عليه أن يأخذ بالأسباب: "لا تذهب للعمل إذن"، سألني متعجباً: "ولمَ؟!"، قلت له: "سأدعو الله لك أن يرزقك"!

وسألت واحداً ممن يحرصون على الذهاب إلى المسجد قبل الأذان للصلاة عن مواظبته على ذلك، فقال لي: "جاهدت نفسي كثيراً حتى أقنعتها أن الأذان هو تنبيهٌ للغافلين؛ فلا تكوني منهم!".

يقول أهل العلم أن صلاة الجماعة واجبةٌ؛ فمن تعمد تركها كان آثماً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ]. وأن صلاة الصبح ذاتُ فضلٍ عظيمٍ، وهي مع العشاء أثقل الصلاة على المنافقين، فالمداومة على تركها من علامات النفاق والعياذ بالله، ووقتُ الصبح ينتهي بطلوع الشمس بإجماع العلماء، وليس لأحدٍ أن يتعمد تأخيرها حتى تطلع الشمس، فإن فعل فقد ارتكب إثماً عظيماً.
وعن (جهاد النفس) يقول العلماء أن الناس صنفان: صِنفٌ اتخذ إلهه هواه، كلما هوت نفسه شيئاً طاوعها فأصبح كالعبد لهذا الهوى، وأصبح أسيراً لنفسه ولشهواته وملذاته؛ فهذا تصدق عليه هذه الآية: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾.
وصِنفٌ آخر جاهد نفسه أشد المجاهدة، حتى قهرها فصارت مطيعةً لله، منقادةً تعمل الأعمال الصالحة بيسرٍ وسهولة.
وهؤلاء عاملوا أنفسهم كطفلٍ رضيعٍ كما قال الشاعر:
 والنفسُ كالطفلِ إنْ تُهملْهُ شَبَّ علىٰ
حبِ الرَضاعِ وإنْ تَفطمْهُ يَنفطمِ 

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مصير هذين الصنفين من الناس في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
إن (جِهاد النّفس) يعني بذل الوُسع والطّاقة لإبعاد النفس عن المعاصي والذّنوب، ومُدافعَتها للصّبر على الطّاعات، وتحمُّل المشاقّ. 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام في فضل من يدافع هواه ويُجاهدُه: [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ]؛ فطريق الجنة محفوفٌ بالمكاره، والنفس بطبعها تميل عن هذا الطريق، فتحتاج إلى نهيٍ حتى تسلك الطريق الموصل للفلاح، وأما طريق النار فإنه محفوفٌ بالشهوات، فالنفس بطبعها تميل إليه، فتحتاج إلى نهيٍ حتى تترك الطريق المؤدية إلى الخسران.
و(جهاد النفس) يكون بمقاومة شهوات النّفس ونزواتها بحيث يقوم المسلم بالتّحكم بها بدلاً من أن تتحكّم فيه؛ حيث ينبغي أن تكون محاسبة النفس منهجاً للمسلم في حياته ممتثلاً لأمر ربه في قوله: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.
يقول الشاعر واصفاً من نجح في جهاد نفسه:
بملء إرادتي وبملء بأسي
عصيتُ بعالم الشهَوات نفسي
وعصياني لها رضوانُ ربي
وعزّةُ حاضري وغدي وأمسي
إذا أسلمتُ للنفسِ انقيادي
جرعتُ الذُّل كأساً بعد كأسِ

أحبتي في الله .. (جهاد النفس) أمرٌ عظيمٌ، خلقنا الله سبحانه وتعالى ولدينا جميعاً القدرة عليه، لكنه لحكمته سبحانه وتعالى، لم يجبرنا عليه رغم قدرته على ذلك، بل ترك الأمر لاختيارنا الحر، اختباراً لإخلاصنا وقوة عزيمتنا وثبات إيماننا؛ فمن نجح في الاختبار استحق الأجر والثواب، ومن فشل فلا يلومن إلا نفسه.

ألا يستحي مسلمٌ أن يسمع الأذان ولا يلبي دعوة الله سبحانه وتعالى لصلاة الجماعة في المسجد؟ ولو أنه اتصل بشخصٍ ما هاتفياً ولو مرةً واحدةً فلم يرد عليه غضب منه، وحين يدعوه الله سبحانه وتعالى خمس مراتٍ كل يومٍ لزيارة بيته يتجاهل دعوته ولا يلبيها، ألا يخاف من غضب المولى عزَّ وجلَّ عليه؟!

اللهم اشرح صدورنا لطاعتك، ويسِّر لنا طريق مرضاتك، وأعنِّا على أنفسنا. يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KBK1hw


الجمعة، 26 أكتوبر 2018

من آفات اللسان


الجمعة 26 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٨
(من آفات اللسان)

من المرات القليلة التي أشاهد فيها التلفاز، شد انتباهي حديث خبيرٍ استراتيجيٍ ومحللٍ سياسيٍ انبرى بحماسٍ لا نظير له لإثبات صحة وجهة نظره حول واحدةٍ من أهم القضايا التي تشغل الناس حالياً وتكاد تكون محور كل أحاديثهم وحواراتهم. لا يعنيني موضوع المناقشة، ولا يعنيني مدى صحة وجهة نظر هذا الخبير، قدر ما يعنيني نمط التفكير وأسلوب الحوار وطريقة تناول الموضوع. ساءني كثيراً المستوى الذي انحدر إليه، والمستنقع الذي سقط فيه كثيرٌ ممن يعتبرون أنفسهم قادة الفكر وصفوة المثقفين في مجتمعاتنا، وشجعهم عليه، وعلى التنافس فيه، إعلامٌ يقوم معظمه على الإثارة وكسب المشاهدين بأي ثمنٍ، ولو على حساب القيم الفاضلة.
عن مستنقع الغيبة أتحدث، وهي (من آفات اللسان) التي كادت، مع الألم والأسف والأسى، أن تكون من الأمور العادية والمقبولة من مقدمي البرامج وضيوفهم وجمهور المشاهدين؛ فتسمع وتشاهد في البرامج الحوارية الكثير من التطاول على أشخاصٍ غائبين، وصار هذا التطاول مألوفاً ومقبولاً، وأصبح كل وصفٍ لغائبٍ مستباحاً، بغض النظر عن مدى صدق هذا الوصف أو عدم صدقه. ومن الخسة ألا تُعطى للمستغاب فرصةٌ للدفاع عن نفسه، وأشد من ذلك وطأةً عندما تكون الغيبة لشخصٍ قد مات وأصبح في ذمة الله؛ فتجتمع الغيبة إلى ذكر الأموات بغير الخير، بكل ما في ذلك من دناءةٍ وانحطاطٍ أخلاقيٍ. وهكذا كانت عنترية سيادة الخبير وبطولته اللفظية منحصرةً في وصف ذلك الميت بكل صفةٍ سيئةٍ، لم يترك خبيرنا مفردةً واحدةً من مفردات الإساءة إلا واستخدمها! ثم يتصل أحد المشاهدين ليقول لضيف البرنامج أنه يرفع له قبعته؛ إن كان يرفعها له لموافقته على رأيه وتحليله فهذا حقه، أما إن كان يرفعها له تجاوباً معه على ما قدمه من غيبةٍ فاضحةٍ في حق الميت فقد صار، دون أن يدري، شريكاً في جريمة القذف، وفي إثم الغيبة.

أحبتي في الله .. رغم ضعف ما نُسب للرسول صلى الله عليه وسلم كحديث: [اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ] إلا أن هذا القول يبقى كحكمةٍ، صحيح المعنى. فهل من المروءة ذكر ميتٍ مسلمٍ، أصبح في ذمة الله سبحانه وتعالى، بما يسيء إليه؟ إذا كان ذكر صفةٍ صحيحةٍ موجودةٍ في شخصٍ يكره ذكرها أو تسيئ إليه وهو حيٌ منهياً عنه، ويُعد غيبةً، فهل وصل بنا الحال إلى إطلاق الأوصاف والصفات السيئة، بالحق وبالباطل، بغير تحفظٍ، على الأموات؟
لقد كان من نُبل العرب وكمال أخلاقهم التي يحرصون عليها، حتى في أيام جاهليتهم، أنه عند المبارزة بالسيوف إذا وقع سيف عدوهم على الأرض لم يسارعوا إلى الإجهاز على العدو بل ينتظرون حتى يلتقط سيفه فيعودون لمبارزته!
فهل ضاعت منا الأخلاق والقيم وفقدنا المروءة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ العجيب أننا بغيبة الأموات لم نتخلَ فقط عن قيم الإسلام، بل الأدهى أننا تخلينا حتى عن قيم الجاهلية!

يقول المولى عز وجل عن الغيبة: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾. ويقول عز من قائل: ﴿وَلا تَلمِزوا أَنفُسَكُم وَلا تَنابَزوا بِالأَلقابِ بِئسَ الِاسمُ الفُسوقُ بَعدَ الإيمانِ﴾. ويقول تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾. ويشير سبحانه إلى الغيبة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟] قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: [ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ]، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: [إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ].
يقول العلماء أن الغيبة محرمةٌ سواءً أكانت في بدن أخيك؛ شكله، طوله، لونه، أو في دينه، أو في دنياه؛ بيته، دخله، وظيفته، أو في نفسه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجته، أو ثوبه، أو مشيته، أو حركته، أو عبوسه، أو طلاقته. كل شيءٍ يكره الإنسان أن يُتداول عنه يدخل ضمن الغيبة وهي (من آفات اللسان).
لم تقل السيدة عائشة رضي الله عنها شيئاً حين ذكرت السيدة صفية رضي الله عنها فأشارت هكذا، أي قصيرة، قال لها عليه الصلاة والسلام: [لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ].
الغيبة هي غيبةٌ، سواءً ذكرتها بلسانك، أو كتبتها بقلمك، أو رمزت إليها بإشارةٍ، أو أشرت بعينيك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك تلميحاً أو تصريحاً، كل هذا من الغيبة.
حكم الغيبة أنها حرامٌ بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، ولو انتشرت بين الناس؛ انتشارها لا يلغي حرمتها. 
لم يكن إعلامنا، ولا مثقفينا، بهذا القدر من التفلت، وإنما بدأ الأمر صغيراً ثم كبر وازداد حتى قويَ وسيطر؛ وأصبحت المنافسة بين القنوات الفضائية وبين البرامج وبين المذيعين على جذب المشاهدين تتم بأساليب لا يحكمها ميثاق شرفٍ أخلاقي، وصارت تتجاوز كثيراً من الخطوط الحمراء؛ خاصةً في مجال القيم والأخلاق؛ فترى الكثير من مقدمي البرامج وهم يستحثون ضيوف برامجهم للإمعان في الغيبة، ويتسابقون في ذلك جرياً وراء نسبة مشاهدةٍ أعلى ومكاسب ماديةٍ أكثر نتيجةً لتدفق الإعلانات عليهم!
الأمر كله ككرة الثلج؛ ما إن بدأت تتدحرج حتى أصبحت اليوم جبلَ جليدٍ شامخاً يزداد، للأسف، رسوخاً وتجذراً. ككل صفةٍ سيئةٍ: تبدأ متواريةً باستحياءٍ ثم تكتسب قوة دفعٍ بالتدريج حتى يألفها صاحبها ويعتاد عليها الناس، ثم نصل إلى مرحلة التهاون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.
قيل إن أصعب الحرام أوله، ثم يَسهل، ثم يُستساغ، ثم يُؤْلَف، ثم يحلو، ثم يُطبع على القلب، ثم يَبحث القلب عن حرامٍ آخر! لذا قال بعض الصالحين: "إذا دعتك نفسك إلى معصيةٍ فحاورها حواراً لطيفاً بهذه الآية: ﴿قُلْ أَذَٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾".
ما أحوجنا للتأمل في ذلك في زمنٍ كثرت فيه الجرأة على المحرمات، وكثرت الغيبة والنميمة، وازداد الافتراء على الناس وبهتانهم والخوض في أعراضهم وتفتيش ضمائرهم والبحث عما في قلوبهم أحياءً وأمواتاً. وكل هذا من أعمال القلوب و(من آفات اللسان)؛ ورد في الحديث الشريف أن معاذاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم؟].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ].
وقال عليه الصلاة والسلام: [لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِين يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ].

أحبتي .. ليس هذا دفاعاً عن رجلٍ مات، إنما هو غيرةٌ على بقايا أخلاقٍ أخشى أن تموت. وصدق الشاعر حينما قال:
وإنِّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ
فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخلاقُهُمْ؛ ذَهَبُوا
لنتذكر أحبتي قبل أن تجرنا شهوة الكلام أو الكتابة إلى طريق الغيبة، مقدار الخسارة التي نخسرها من حسناتنا ونهديها لمن نغتابهم من أعدائنا وأحبابنا على سواء؛ قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟] قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].

اللهم باعد بيننا وبين سيئاتنا كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم طهر قلوبنا من النفاق والحقد والحسد والغل والكبر، وألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة والافتراء على الناس وبهتانهم أحياءً وأمواتاً، وطهر اللهم أعمالنا من الرياء، وأنر بصائرنا ﴿فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ وَلكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ﴾.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/fGSsSz

الجمعة، 19 أكتوبر 2018

أحجارنا الكريمة


الجمعة 19 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٧
(أحجارنا الكريمة)

تقول القصة أن رجلاً جلس ﻋﻠﻰ شاطئ ﺍﻟﺒﺤ في ظلام الليل قبل ﺍﻟﻔﺠ كـيساً قد مُلء ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭة، ﻓﻤه ﻭأﺧ ﺣﺠراً ﻣﺍ ﺍﻟﻜﻴ ﻭأﻟﻘﺎه ﻓﻰ اﻟﺒﺤ ﻓـأعجبه ﺻﺕ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭة ﻭﻫـي ﺗُﻘَﻑ ﻓﻰ ﺍﻟﺒﺤ؛ فأعاد ﺍﻟﻜَة ﻣةً بعد مرةٍ، وظل يقذف الحجارة ﻓـي ﺍﻟﺒﺤ؛ ﻷنَّ ﺻﺕ ﺍﻟﺤﺠﺎﺭة ﻋﻨﻣﺎ تسقط ﻓﻰ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻛﺎﻥ ﻳُﺴﻌِه. حينما أﺷ ﺍﻟﺸﻤأ ﻳﺘﻀﺢ ﺍﻟﻜﻴ وما فيه، واكتشف الرجل أنه لم يبق ﻓـي ﺍﻟﻜﻴ إلّا ﺣﺠرٌ ﻭﺍﺣٌ، ﻓﻨﻈﺮ الرجل إﻟﻰ ﻫا ﺍﻟﺤﺠر ، ﻓه حجراً كريماً، واكتشف أن ﻛﻞ ﻣﺎ أﻟﻘﺎه ﻣ ﻗﺒﻞ في البحر ﻛﺎﻧ أحجاراً كريمةً وﺟﺍﻫ ﻭليست ﺣﺠﺎرةً، فأخذ ﻳﻘﻝ ﺑﻨﺒة ﻧﻡ: ﻳﺎ ﻟﻐﺒﺎﺋـي ﻛﻨ أﻗﻑ ﺍﻟﺠﺍﻫ ﻋﻠﻰ أنها ﺣﺠﺎﺭةٌ ﻷﺳﺘﻤﺘﻊ ﺑﺼﺗﻬﺎ ﻓﻘ!! ﻭﺍﻟﻠﻪِ ﻟ ﻛﻨ أﻋﻠ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻣﺎ ﻓﺮﻃﺖ ﻓﻴﻬﺎ هكذا.
كلنا هذا الرجل: كيس ﺍﻟﺠﺍﻫ العمر الذي نُلقي به ساعةً وراء ساعةً دون فائدة، وﺻﺕ ﺍﻟﻤﺎﺀ هو متاع الدنيا الزائل وشهواتها، وظلام الليل هو الغفلة، وشروق الشمس هو ظهور الحقيقة عند الموت حيث لا رجعة!

أحبتي في الله .. وردت الألفاظ الدالة على الزمن في القرآن الكريم بصيغة "الاسم" كثيراً: كالقرن والسنة والعام والشهر واليوم، وكالليل والنهار والفجر والعصر، وكشهر رمضان ويوم الجمعة، كما ورد ذكر الزمن بأسلوبٍ آخر مختلفٍ هو صيغة "فعل الأمر" يوجهنا به المولى عزَّ وجلَّ، ويرشدنا إلى كيفية التعامل مع الزمن؛ قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ﴾. وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولًا فَامشوا في مَناكِبِها وَكُلوا مِن رِزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشورُ﴾. وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا نودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إِلى ذِكرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيعَ ذلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمونَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَاستَبِقُوا الخَيراتِ إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾. وقال تعالى: ﴿سابِقوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُها كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ﴾. وقال تعالى: ﴿فَفِرّوا إِلَى اللَّهِ إِنّي لَكُم مِنهُ نَذيرٌ مُبينٌ﴾. ومن بلاغة القرآن الكريم أن هذه الآيات تحدد لنا سرعة انطلاق الفعل على قدر الهدف؛ ففي: الحث على المبادرة إلى العمل قال: ﴿اعملوا﴾. وفي طلب الرزق قال: ﴿امشوا﴾. وللصلاة قال: ﴿اسعوا﴾. ولعمل الخيرات قال: ﴿استبقوا﴾، وللمغفرة وللجنة قال: ﴿سابقوا﴾، وقال: ﴿سارعوا﴾. وأما إليه سبحانه وتعالى فقال: ﴿فروا﴾؛ سبحانك ربي إنك أنت العليم الخبير.

ثم إن المولى عزَّ وجلَّ قد حذرنا من إضاعة (أحجارنا الكريمة) وجواهرنا، التي هي أوقاتنا وأعمارنا، بغير عملٍ صالحٍ ينفعنا يوم الحساب ويُثقِّل موازيننا، مستخدماً صيغة التحذير من مغبة نفاد الوقت وانقضاء الأجل وعَبَّر عن ذلك بقوله ﴿مِن قَبلِ﴾؛ قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَنفِقوا مِمّا رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ﴾، وقال تعالى: ﴿قُل لِعِبادِيَ الَّذينَ آمَنوا يُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقوا مِمّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فيهِ وَلا خِلالٌ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَأَقِم وَجهَكَ لِلدّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، كما قال: ﴿وَأَنيبوا إِلى رَبِّكُم وَأَسلِموا لَهُ مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمَّ لا تُنصَرونَ﴾، وقال: ﴿وَاتَّبِعوا أَحسَنَ ما أُنزِلَ إِلَيكُم مِن رَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَكُمُ العَذابُ بَغتَةً وَأَنتُم لا تَشعُرونَ﴾، وقال كذلك: ﴿استَجيبوا لِرَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾، وقال أيضاً: ﴿وَأَنفِقوا مِن ما رَزَقناكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ المَوتُ فَيَقولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَريبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصّالِحينَ﴾. فماذا نحن فاعلون بعد كل هذه التحذيرات؟ هل نظل على حالنا، نضيع (أحجارنا الكريمة) وجواهرنا، فيضيع العمر منا ونكون والعياذ بالله ممن قال عنهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَهُم يَصطَرِخونَ فيها رَبَّنا أَخرِجنا نَعمَل صالِحًا غَيرَ الَّذي كُنّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذيرُ فَذوقوا فَما لِلظّالِمينَ مِن نَصيرٍ﴾؟ أم نكون ممن يتحسرون على ما فرطوا في جنب الله؛ قال تعالى: ﴿أَن تَقولَ نَفسٌ يا حَسرَتا عَلى ما فَرَّطتُ في جَنبِ اللَّهِ﴾؟

(أحجارنا الكريمة) هي أوقاتنا، هي أعمارنا، إنها هبةٌ من الله لكل إنسان، تجلى فيها عدله سبحانه وتعالى؛ فقد أعطى ووهب ومنح جميع الناس أحجارهم الكريمة، أربعةً وعشرين ساعةً في اليوم الواحد، لا تزيد لغنيٍ وتقل لفقير، ولا تزيد لرجلٍ وتقل لامرأة، ولا تزيد لكبيرٍ وتقل لصغير، لا تزيد لأبيض وتقل لأسود.
فماذا يفعل الناس بأحجارهم الكريمة وجواهرهم؟
صنفٌ من الناس حرصوا عليها وأحسنوا الاستفادة منها؛ منهم زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً". لقد حسب الزمن بالآيات! ومنهم شخصٌ سأله صديقه: كم يبعد عملك من البيت؟ فقال: 800 تسبيحة في وقت الازدحام، و250 تسبيحة في الأيام العادية. جوابٌ رائعٌ؛ حسب وقته بالطاعات!
وصنفٌ آخر من الناس، انظر كيف يتعاملون مع أحجارهم الكريمة وجواهرهم: يجدون وقتاً لقراءة رسائل الواتس آب ومنشورات الفيس بوك، ولا يجدون وقتاً لصلة الرحم ولو بالهاتف!
يجدون وقتاً لمشاهدة مباراة كرة قدم، ولا يجدون وقتاً لقراءة بعض صفحاتٍ من القرآن الكريم! يجدون وقتاً للنزول بكلابهم لأداء الحاجة، ولا يجدون وقتاً لذكر الله أو قيام الليل ولو بركعتين! يستيقظون مبكرين في يوم سفرٍ أو لرحلة، ولا يستطيعون الاستيقاظ لصلاة الفجر! يخرجون لشراء احتياجاتهم من الأسواق أو أداء مصالح دنيوية، ويتعبهم المشي خطواتٍ للصلاة في المسجد القريب! ينفقون مئات الآلاف على شراء بيتٍ في مصيفٍ أو سيارةٍ جديدةٍ، لكنهم لا يستطيعون سبيلاً لأداء فرض الحج! يخصصون الكثير من وقتهم لزيادة أرزاقهم، وينسون ذكر الرازق وشكره وحسن عبادته والصلاة له بضع دقائق!

لا يُضيِّع الناس ويوردهم المهالك سوى التسويف والأمل الكاذب؛ وفي الحديث الشريف عظةٌ وعبرةٌ؛ فقد خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: [هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا].

أحبتي .. ما تزال الفرصة أمامنا؛ فمع مطلع كل يومٍ جديدٍ يهب لنا الله سبحانه وتعالى، بكرمه ولطفه وإحسانه، أحجاراً كريمةً وجواهر ولآلئ جديدةً، علينا ألا نضيعها أو نسيء استخدامها. إنها نعمةٌ متجددةٌ تستوجب الشكر باستثمارها في العبادات والطاعات وأعمال الخير والبر والتقوى، ولنحذر من أن نكون ككثيرٍ من الناس، غافلين ومغبونين فيها كما قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: [نِعمَتَانِ مَغبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ والفَرَاغ].
من الآﻥ أحبتي؛ فلنعاهد الله سبحانه وتعالى، ونعاهد أنفسنا، ألا نُضَيِّع أوقاتنا و(أحجارنا الكريمة)، ولا يأخذنا الأمل وتُلهنا الدنيا بمتاعها الزائل وشهواتها؛ فيضيع منا العمر وتفلت أيامه وساعاته بلا فائدةٍ فنندم حيث لا ينفع الندم.
ولمن يحس أنه يصعب عليه أن يلتزم بالطاعات كأداء الصلوات في مواعيدها، والحرص على صلاة الجماعة في المسجد، وغير ذلك، أنقل كلمةً طيبةً قالها ابن القيم رحمه الله؛ قال: "لا يزال المرء يعاني الطاعة حتى يألفها ويحبها، فيُقيض الله له ملائكةً تؤزه إليها أزاً، توقظه من نومه إليها، ومن مجلسه إليها؛ قال تعالي: ﴿وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ﴾؛ فاستعينوا بالله أحبتي وابدأوا صفحةً جديدةً في علاقتكم برب العالمين، المجتهد يزيد من اجتهاده، والمقصر يبادر ويسرع لأوبةٍ لا ينكث عنها؛ (أحجارنا الكريمة) لا ندري متى تنفد!

اللهم نبهنا من غفلتنا، اللهم ارشدنا إلى سبيلك السوي وصراطك المستقيم، واهدنا إلى طريق الحق، لا يهدينا إليه إلا أنت سبحانك، وأنت اللطيف الحليم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.