الجمعة، 31 يوليو 2020

التجارة مع الله

الجمعة 31 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /250

(التجارة مع الله)

 

جاءت ليلة العيد، فقالت الزوجة لزوجها: "العيد غداً يا أبا عبد الله، وليس لدى أطفالنا ملابس جديدةٌ يلبسونها مثل بقية أطفال الجيران، وهذا بسبب إسرافك!"، قال الزوج: "أنا أنفق أموالي في الخير ومساعدة المحتاجين، وهذا ليس إسرافاً يا أم عبد الله"، قالت الزوجة: "ابعث رسالةً إلى أحد أصدقائك المخلصين ليعطينا بعضاً من المال، نردُّه له عندما تتحسَّن أحوالنا إن شاء الله".

كان لهذا الرَّجل صديقان مخلصان، الهاشمىُّ وأسامة، كتب الرَّجل رسالةً وأعطاها لخادمه، وطلب منه أن يذهب بها إلى صديقه الهاشمىِّ. ذهب الخادم إلى الهاشمىِّ وأعطاه الرِّسالة؛ فقرأها وعرف أنّ صديقه في ضيقٍ وحاجةٍ

وأصبح لا يملك شيئاً، قال الهاشمىُّ للخادم: "أعرف أنّ سيّدك ينفق كل ما عنده من أموالٍ في عمل الخير، خُذ هذا الكيس وقل لسيِّدك إنَّ هذه الدَّنانير هي كلّ ما أملك في ليلة العيد". عاد الخادم إلى سيِّده وأعطاه الكيس؛ ففتحه فوجد به مائة دينارٍ، فقال لزوجته في فرحةٍ: "يا أم عبد الله، هذه مئة دينارٍ أرسلها الله إلينا"، سُرَّت الزوجة وقالت لزوجها: "أسرع إلى السوق لنشتري الأثواب والأحذية الجديدة لأولادنا". في هذه اللَّحظة دقَّ الباب؛ ففتحه الرَّجل فوجد خادم صديقه أسامة ومعه رسالةٌ يطلب فيها بعض المساعدة ليدفع ديناً

قد حل موعده. أعطى الرَّجل الخادم الكيس الذي أرسله إليه صديقه الهاشمىُّ، وفي داخله المبلغ كاملاً دون أن يأخذ منه شيئاً، ثارت الزَّوجة على زوجها الذي فضَّل صديقه على أولاده، فقال لها زوجها: "صديقي يطلب المساعدة، فكيف أمنع عنه ما عندي من خير؟!". مرَّت ساعةٌ، ثمَّ دق الباب؛ ففتح الرَّجل الباب فوجد أمامه صديقه الهاشمىّ فرحَّب به وأدخله. قال الهاشميُّ: "جئتُ لأسألك عن هذا الكيس، هل هو الكيس نفسه الذي أرسلته إليك مع خادمك وبداخله مائة دينار؟"، نظر الرَّجل إلى الكيس وقال في دهشةٍ: "نعم..نعم..إنَّه هو... أخبرني يا هاشمى.. كيف وصل هذا الكيس إليك؟"، أجاب الهاشمىُّ: "عندما جاءني خادمك برسالتك، وأعطيته الكيس الذي عندي لم يكن في بيتي غيره، فأرسلتُ إلى صديقنا أسامة أطلب المساعدة ففاجأني بأن ّقدّم لي الكيس الذي أرسلته إليك كما هو، دون أن ينقص ديناراً واحداّ، فتعجَّبتُ وجئتُ إليك لأعرف السِّرَّ"، ضحك الرّجل وقال: "لقد فضَّلك أسامة على نفسه وأعطاك الكيس، كما فضَّلتني أنت على نفسك يا هاشمىّ"، ابتسم الهاشمىُّ وقال: "بل أنت فضَّلتَ أسامة على نفسك وعيالك، ما رأيك يا أبا عبد الله في أن نقتسم المائة دينار بيننا نحن الثَّلاثة؟!"، أجاب الرَّجل: "بارك الله فيك يا هاشمىّ!".

سمع الخليفة بهذه الحكاية، فأمر لكلِّ واحدٍ من الأصدقاء الثَّلاثة بألف دينار.

عندئذٍ دخل أبو عبد الله على زوجته وفي يده الدَّنانير الألف وقال في فرحٍ: "ما رأيك يا أمَّ عبد الله هل ضيَّعنا الله؟"، قالت المرأة: "لا واللهِ، ما ضيَّعنا، بل زادنا رزقاً!"، فقال الرَّجل: "عرفتِ الآن يا زوجتي أنَّ الإنفاق في سبيل الله تجارةٌ رابحةٌ لا تخسر أبداً؟!".

 

أحبتي في الله .. إنها (التجارة مع الله)؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾.

يقول أهل العلم إن الله تعالى ذكر في الآيات السابقة إن الذين يقرأون كتاب الله الذي أنزله على نبيه، وأقاموا الصلاة المفروضة في مواقيتها، وأنفقوا مما رزقهم الله في السر والعلن، وتصدقوا بما مَنّ عليهم من الأموال سراً وعلانيةً، وأدوا الزكاة المفروضة، وتطوعوا بالصدقة، فإن هؤلاء المؤمنين يرجون من وراء ذلك تجارةً رابحةً مع الله تعالى لن تبور، ولن تكسد ولن تهلك. وهذه الآية المباركة تعلمنا وترغبنا في عباداتٍ جليلةٍ، لتحقيق الفوز بهذه التجارة الرابحة، إنها (التجارة مع الله). وقد جاء في الآية لفظ «تجارة» مع وصفها بعدم البوار على سبيل الاستعارة التصريحية، فوصف أهلها بأنهم يرجونها، أي يتوقعون أرباحها. وتعتبر (التجارة مع الله) من أجَّل التجارات وأفضلها، وهي توصل إلى رضا الله، والفوز بجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه؛ فعبادة الله سبحانه وتعالى، واتباع أوامره وسُنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والبعد عما نهى عنه، تُعد من مقاصد الدين السليم للمؤمن؛ فسبحان الله الذي وهبَنا ما نتاجر به، ثم وفقنا إلى التجارة معه، وسبحان الله الذي يمنحنا أحسن الأجر مقابل التجارة معه، ويَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا؛ فنعم (التجارة مع الله).

 

ويقولون إن من صور (التجارة مع الله)، المعاملة مع الناس، فلا تعاملهم لدنيا ولا لشهوةٍ، بل تعامِلهم لله وفي الله، فتعامُلك معهم حسب الشرع يجعلك تدخل في (التجارة مع الله)، ثم لا تسل عن الأرباح، ستجد أولاً الراحة النفسية فلا حزن على ما فات، ولا فرح بموجود، فالكل مِن الله وعلى مراد الله، ستجد نفسك تعفو عمن ظلمك؛ لأنك ترجو ما عند الله، وتصل من قطعك، لأنك ترجو ما عند الله، وتُعطي مَن حرمك لأنك ترجو ما عند الله، فهذه معاملةٌ وتجارةٌ مع الله، وسعادةٌ في الدنيا والآخرة، وهكذا كل مَن تعامل مع الله، فلا خسران عليه بل هو في ربحٍ دائمٍ، وعملٍ صالحٍ، وتوفيقٍ متواصلٍ، فهو في كنَف الله ورعايته. هذه هي الحياة الحقيقية التي يعيش فيها المسلم حياةً طيبةً، ولا يكون كالأنعام يأكل ويشرب وينكح بلا هدفٍ ولا نيةٍ، فالواجب على كل مكلفٍ أن يجعل له في كل عملٍ نيةً صالحةً، وأن يجلس مع نفسه جلسةَ محاسبةٍ، ويصلح نياتِ أعماله، ويجردها لله، ليكون من المتاجرين مع الله.

 

أحبتي .. ينصحنا أحد الصالحين فيقول: اتجر مع الله بمداومتك على ذِكره سبحانه وتعالى، فإن لك بكل تسبيحةٍ صدقةً، وبكل تحميدةٍ صدقةً، وبكل تكبيرةٍ صدقةً، وبكل تهليلةٍ صدقةً، وبكل كلمةٍ طيبةٍ صدقةً. اتجر مع الله بالتقرب إلى الله بالإحسان إلى خلق الله بأي أمرٍ يكون فيه الإحسان إلى الخلق، مهما قلّ، فإن في التسليم على الناس صدقةً، وإن في معاونتك للضعيف صدقةً، وإنك بأخذك بيد الأعمى ليجتاز الطريق صدقةً، وإن في كل معروفٍ صدقةً. لستَ تنفق على الله، وليس الله في حاجتك؛ ولكنك أنت المحتاج إليه سبحانه وتعالى، فاتجر مع الله تجد الخير بين يديك. فإذا خرجتَ تبتغي وجه الله، فتجارتك مع الله؛ يكتب لك بكل خطوةٍ إلى المسجد حسنةٌ، ويمحى لك بها سيئةً، ويرفع لك بها درجةً.

اللهم اجعلنا ممن يتاجرون معك تجارةً لا تبور، ولا تحرمنا ربنا عظيم ثوابك وأعلى الأجور، وتقبل منا إنك أنت سبحانك العزيز الحكيم، وأنت الرحيم الغفور.

 

https://tinyurl.com/y2bzdpkn


الجمعة، 24 يوليو 2020

الصبر وقت الشدة/2

الجمعة 24 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٩

(الصبر وقت الشدة)

 

قصةٌ حقيقةٌ حدثت في «المملكة العربية السعودية»، يقول كاتب القصة: سافرتُ إلى مدينة «جدة» في مهمةٍ رسميةٍ، وفي الطريق فوجئتُ بحادث سيارةٍ يبدو أنه وقع للتو. كنتُ أول من وصل إليه؛ أوقفتُ سيارتي واندفعتُ مسرعاً إلى السيارة المصطدمة، تحسستها في حذر، نظرتُ إلى داخلها، أحدقتُ النظر، خفقات قلبي تنبض بشدة، ارتعشت يداي، تسمَّرت قدماي، خنقتني العَبرة، ترقرقت عيناي بالدموع ثم أجهشتُ بالبكاء؛ منظرٌ عجيبٌ وصورةٌ تبعث على الشجن، كان قائد السيارة ملقىً على مقودها جثةً هامدةً وقد شخص بصره إلى السماء، رافعاً سبابته، وقد فتر ثغره عن ابتسامةٍ جميلةٍ، وجهه تحيط به لحيةٌ كثيفةٌ، كأنه الشمس في ضحاها والبدر في سناه العجيب. كانت طفلته الصغيرة ملقاةً على ظهره، محيطةً بيديها على عنقه، وقد لفظت أنفاسها وودعت الحياة. لا إله إلا الله، لم أرَ ميتةً كمثل هذه الميتة؛ طهرٌ وسكينةٌ ووقارٌ، صورته وقد أشرقت شمس الاستقامة على محياه، منظر سبابته التي ماتت توحّد الله، جمال ابتسامته التي فارق بها الدنيا، حلّقت بي بعيداً بعيداً، تفكرتُ في هذه الخاتمة الحسنة، ازدحمت الأفكار في رأسي، سؤالٌ يتردد صداه في أعماقي، يطرق بشدة: "كيف سيكون رحيلي؟!! وعلى أي حالٍ ستكون خاتمتي؟!!" يطرق بشدةٍ، يمزّق حجب الغفلة، تنهمر دموع الخشية، ويعلو صوت النحيب، من رآني وقتها ظن أني أعرف الرجل أو أن لي به قرابة؛ فقد كنتُ أبكي بكاء الثكلى، لم أكن أشعر بمن حولي!!

ازداد عجبي حين انساب صوتها يحمل برودة اليقين، لامس سمعي، وردَّني إلى شعوري: "يا أخي لا تبكِ عليه؛ إنه رجلٌ صالحٌ، هيا هيا، أخرجنا من هنا وجزاك الله خيراً"، التفتُ إليها فإذا هي امرأةٌ تجلس في المقعد الخلفي من السيارة، تضم إلى صدرها طفلين صغيرين لم يُمسا بسوءٍ، ولم يصابا بأذى والحمد لله. كانت شامخةً في حجابها شموخ الجبال، هادئةً في مُصابها؛ منذ أن وقع الحادث لا بكاء ولا صياح ولا عويل! أخرجناهم جميعاً من السيارة، من رآني ورآها ظن أني صاحب المصيبة دونها! قالت لنا، وهي تتفقد حجابها وتستكمل حشمتها، في ثباتٍ راضٍ بقضاء الله وقدره: "لو سمحتم أحضروا زوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى، وسارعوا في إجراءات الغُسل والدفن، واحملوني وطفليَّ إلى منزلنا، جزاكم الله خيراً".

بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل وطفلته إلى أقرب مستشفى، ومن ثم إلى أقرب مقبرةٍ بعد إخبار ذويهم، وأما هي فقد عرضنا عليها أن تركب مع أحدنا إلى منزلها، فردّت في حياءٍ وثباتٍ "لا واللهِ، لا أركب إلا في سيارةٍ فيها نساء"، ثم انزوت عنا جانباً وقد أمسكت بطفليها الصغيرين ريثما نجلب بغيتها وتتحقق أمنيتها، استجبنا لرغبتها وأكبرنا موقفها. مرَّ وقتٌ طويلٌ ونحن ننتظر على تلك الحال العصيبة، ونحن في تلك الأرض الخلاء، وهي ثابتةٌ ثبات الجبال. ساعتان كاملتان، حتى مرّت بنا سيارةٌ فيها رجلٌ وأسرته، أوقفناه وأخبرناه خبر هذه المرأة وسألناه أن يحملها إلى منزلها؛ فلم يمانع.

عدتُ إلى سيارتي وأنا أعجبُ من هذا الثبات العظيم؛ ثبات الرجل على دينه واستقامته في آخر لحظات الحياة وأول طريق الآخرة، وثبات المرأة على حجابها وعفافها في أصعب المواقف وأحلك الظروف ثم صبرها صبر الجبال. إنه الإيمان .. ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا بِالقَولِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَفِي الآخِرَةِ﴾.

 

أحبتي في الله .. تأثرتُ كثيراً وأنا أقرأ بدايات هذه القصة، وزاد تأثري عندما حكى لنا القاص عن ثبات تلك المرأة، الذي يدل على (الصبر وقت الشدة)، وتذكرتُ وقتها عندما مرَّ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقالَ: [اتَّقِي اللهَ، وَاصْبِرِي]، قالت: إِليكَ عنِّي، فإِنكَ لَمْ تُصَب بِمُصيبتِي، -ولمْ تعرفْه-، فقِيلَ لها: إِنَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، فأَتَت بابَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، فلَمْ تَجِد عندَهُ بوَّابينَ، فقَالت: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: [إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى].

 

يقول أهل الاختصاص إن الشدائد جزءٌ من طبيعة الحياة البشرية، والتي هي أصلاً اختبارٌ وابتلاءٌ، فكما يكون الابتلاء بالخير والنعم قد يكون بالشر والنقم، يقول تعالى: ﴿وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً﴾، ويقول فيما يصيب الناس من الناس: ﴿وَجَعَلنا بَعضَكُم لِبَعضٍ فِتنَةً أَتَصبِرونَ﴾، ويقول تعالى في شأن الإيمان وما يمكن أن يعرض لأهله من الاختبار: ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ﴾.

فالشدائد ابتلاءٌ زائدٌ إما لتكفير الخطايا ومحو السيئات؛ كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه]، أو لرفع الدرجات وزيادة الحسنات؛ كما قال عليه الصلاة والسلام حينما سُئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ؛ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]. وقد تكون عقاباً من الله عزَّ وجلَّ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرَّجلَ ليُحرم الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُهُ]. أو تكون تربيةً ومنعاً من مزيدٍ من الطغيان كما يقول الحق سبحانه: ﴿وَما نُرسِلُ بِالآياتِ إِلّا تَخويفًا﴾.

 

وقالوا إن المقصود بالثبات عند الشدائد التصرف الحسن بما يناسب المقام، من غير كفرٍ أو جحودٍ أو نكوصٍ عن المبادئ الصحيحة السليمة، وحبس النفس عما لا يجوز فعله كشق الجيوب وخمش الوجوه، وعما لا يجوز قوله كالتسخط من قدر الله.

وقالوا إن (الصبر وقت الشدة) فيه الخير كله، فإذا كان الخير هو شأن المؤمن مع الصبر العادي؛ كما يقول صلى الله عليه وسلم: [عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ] فلا شك أن صبره عند الشدائد سيكون أكثر خيراً وأعظم أجراً.

و(الصبر وقت الشدة) طريق الجنة وسبيل الأنبياء وأحد المبشرات بقرب النصر؛ يقول تعالى: ﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾.

 

أما عن سبب اشتراط الصبر في المصيبة عند الصدمة الأولى؛ فقال أحدهم لأن كل شيءٍ يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة؛ فإنها تبدأ كبيرةً ثم تصغر، فاشتُرط لعظم الثواب أن يكون الصبر عند أول كِبَرِها.

وقال غيره: الصبر الشَّاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوَّةِ القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحدٍ يصبر إذ ذاك.

 

أحبتي .. عقَّب ناشر القصة عليها في نهايتها بقوله إن موقف تلك المرأة يعجز عنه كثيرٌ من الرجال، لكنه نور الإيمان واليقين؛ فأي ثباتٍ وأي صبرٍ وأي يقين أعظم من هذا؟! وكأني بها يتحقق فيها قوله تعالى: ﴿الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ . أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾.

أحبتي .. إذا أتت الشدائد، فلنصبر ونثبت، ونتذكر أين نحن من صبر نبينا عليه الصلاة والسلام على كفار قريشٍ والمشركين والمنافقين واليهود؟ ومن صبر إبراهيم عليه السلام على ما فعله به قومه من إلقائه في النار؟ ومن صبر أصحاب الأخدود يُلقى بهم في النار ذات الوقود؟ ومن صبر ماشطة ابنة فرعون وهي ترى فلذات أكبادها يُلقوْن في الزيت يغلي على النار؟ ومن صبر أيوب عليه السلام على ما مسه من ضُر؟

اللهم اجعلنا من الصابرين الثابتين وقت الشدة، خاصةً عند الصدمة الأولى. واجعلنا اللهم من المهتدين.

 

https://tinyurl.com/y5vy983n


الجمعة، 17 يوليو 2020

رُبَ ضارةٍ نافعة

الجمعة 17 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٨

(رُبَ ضارةٍ نافعة)

 

هذه قصة شابٍ يقول فيها: أنا أحب الأطفال جداً، وأحلم طول عمري بأن أتزوج وأنجب أطفالاً ألعب معهم ويلعبون معي، أحببتُ فتاةً وخطبتها، تصورتها في خيالي دائماً أماً لأطفالي، لم أتخيل -للحظة- حياتي بدونها. كنتُ أعمل في شركةٍ براتب 800 جنيه في الشهر، أخبرتني خطيبتي ذات يومٍ عن إعلانٍ لوظيفةٍ في شركة استيرادٍ وتصديرٍ براتب 1500 جنيه، انبهرتُ جداً بالمبلغ؛ فهو يقترب من ضعفي راتبي، فاستأذنت من مديري، وخرجتُ مسرعاً في طريقي إلى شركة التصدير والاستيراد، لا أحلم إلا بالحصول على الوظيفة التي أعلنوا عنها. من شدة لهفتي على الوظيفة لم أكن أنظر حولي، وكان هدفي هو الحصول على الوظيفة كي أُسعد خطيبتي وأُلبي لها كل احتياجاتها خصوصاً أنها كثيرة المطالب. أثناء ذلك، إذا بسيارةٍ تصدمني بقوة، لم أشعر بنفسي إلا وأنا على سرير المستشفى، في حالة غيبوبةٍ، جسمي كله يؤلمني. عندما بدأتُ أسترد وعيي رأيتُ فتاةً جميلةً تقف أمامي وتنظر إليّ والدموع في عينيها، سألتها: "من أنتِ؟ وأين أنا؟"، قالت: "اهدأ، وستعرف كل شيءٍ في أوانه"، صرختُ وقلتُ رجلي تؤلمني؛ فدخل الطبيب عندما سمع صراخي وأعطاني حقنةً مهدئةً، وقال لي: "اهدأ، لقد تم قطع رجلك اليُمنى بسبب قوة الاصطدام"، بكيتُ وانهارت أعصابي من هول الصدمة، وإذا بالفتاة تأتي وتجلس بجواري على السرير قائلةً لي: "آسفة.. أنا السبب"، وحكت لي كل ما حدث، وأنَّ الخطأ كان مني بسبب قطعي الطريق بغير انتباه.

سارعتُ بالاتصال بخطيبتي في الهاتف، وأخبرتها بما حدث؛ فأتت مسرعةً إلى المستشفى، وعندما رأتني في هذا الوضع صُدمت، ولم تنطق بكلمةٍ غير "آسفة، أتمنى لك الشفاء"، ثم انصرفت.

وبعد أقل من نصف ساعة وصلتني رسالةً منها على هاتفي تقول فيها: "آسفة؛ لا أستطيع إكمال المشوار معك"، أغلقت هاتفها، ثم قامت بعد ذلك بتغيير رقم الهاتف.

استمر وجودي بالمستشفى حوالي أسبوعين، والفتاة الجميلة بجواري يومياً، كانت معي لحظةً بلحظةٍ، وتعرفت على أهلي. وبعد أن سمح لي الطبيب بالخروج على كرسي عدتُ إلى منزلي. عندما دخلتُ المنزل صرختُ بأعلى صوتي وقلت: "لماذا يا رب؟ لماذا يا رب تجعل خطيبتي تتركني؟ لماذا تجعل الوظيفة تذهب مني؟ لماذا تجعلني طول عمري عاجزاً؟ لماذا يا رب؟"، وكانت دموعي تنساب من عينيّ كانسياب المطر في الشتاء.

لم يدم حزني طويلاً، خصوصاً أني لم أكن وحيداً، حيث كانت تلك الفتاة تأتي إليّ وتزورني يومياً، واليوم الذي كانت تتأخر فيه أشعر كأني يتيمٌ ووحيد.

بعد مرور شهرين عرفتُ من أحد الأصدقاء أن خطيبتي السابقة تزوجت من أحد جيرانها، وهي على خلافٍ معه يومياً لأنها تعاني من عُقمٍ، فحزنتُ عليها وعلى حالها، ولكن شكرتُ ربي وخصوصاً أني أحب الأطفال ومتعلقٌ بهم.

طوال هذه الفترة، التي دامت أكثر من 70 يوماً، كانت تلك الفتاة الجميلة تزورني باستمرار، وتُحضر معها الكثير من احتياجات ومستلزمات المنزل، تعرفت على أفراد أسرتي الذين ارتاحوا لها، وأحسوا بمدى حنانها وعطفها وسمو أخلاقها وكرمها وأصلها الطيب؛ فأحبوها وطلبوا مني أن أُلمِّح لها بفكرة الزواج، لكني كنتُ أخشى أن ترفض فأخسر أجمل ملاكٍ تعودتُ أن أراه أمام عيني. ولا أنسى أبداً ذلك اليوم عندما حضرت وكانت تقوم بعمل الشاي، وقررتُ أن ألمح لها عن موضوع الزواج، وإذا بها تسبقني بسؤالٍ هزَّ كياني كله: "هل تقبل الزواج مني؟"، ارتعش جسمي وقلتُ لها: "ماذا تقولين؟"، أعادت عليّ السؤال بدلالٍ ورجاءٍ وهي ممسكةٌ بكلتا يديّ: "هل تقبل الزواج مني؟"، قلتُ لها مختبراً صدق مشاعرها: "أنا لا أقبل الشفقة من أحد"، قالت: "واللهِ ليست شفقةً، ولكني أحببتك حقاً ولا أستطيع أن أعيش بدونك"، قلتُ لها: "ساقي المقطوعة سوف تُعجزني عن العمل"، قالت: "سوف تعمل في منصب مديرٍ في إحدى شركات والدي، وكل عملك سيكون على مكتبٍ، ولا يتطلب الحركة"، فاندهشتُ، ولم أقل -والدموع تجري من عينيّ جريان السيول- غير عبارةٍ واحدةٍ: "سامحني يا رب". صدق مَن قال: (رُبَ ضارةٍ نافعة).

أصاركم القول، لم أكن ملتزماً، ولا راضياً عن نفسي؛ كنتُ أحس دائماً بتقصيري في حقوق ربي، لكن بعدما حدث لي، خجلتُ من نفسي، وتساءلتُ: "إذا كان هذا كرم الله مع غير الملتزمين، فكيف يكون كرمه مع المتقين؟".

 

أحبتي في الله .. كانت هذه قصةً حقيقةً حدثت لشابٍ، ونشرها على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، نقلتها لكم بتعديلاتٍ طفيفةٍ مني اقتضاها سياق القصة.

في القصة تصديقٌ للمثل المشهور (رُبَ ضارةٍ نافعة)، يُقال إن القصة الحقيقية التي ضُرب بها هذا المثل تعود إلى رجلٍ كان على متن سفينةٍ مع آخرين، فهبت عاصفةٌ قويةٌ أغرقت السفينة ولم ينجُ سوى بعض الركاب، من بينهم هذا الرجل الذي تلاعبت بجسده الأمواج حتى رمته على شاطئ جزيرةٍ نائيةٍ ومهجورةٍ. عندما أفاق من غيبوبته، سأل الله أن يُرسل له المعونة ويُنقذه من هذا الحال الصعب والأليم. وخلال تواجده في الجزيرة، أصبح يقتات على ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب، وبنى له كوخاً من أعواد الشجر ليحميه برد الليل وحر النهار. وذات يومٍ وبينما هو يتجول حول كوخه بانتظار طعامه أن ينضج، شبَّت النار في الكوخ وما حوله فأحرقته. فأصبح يبكي بحرقةٍ ويصرخ: "حتى الكوخ احترق ولم يتبقَ لي شيءٌ، لِمَ يحدث هذا معي يا رب؟". ونام ليلته تلك وهو جائعٌ وحزين، لكنه في الصباح استيقظ على مفاجأةٍ سارةٍ للغاية، فقد اقتربت سفينةٌ من شاطئ الجزيرة وأرسلت للرجل قارباً صغيراً لتُنقذه، وعندما صعد الرجل إلى السفينة، سأل طاقمها كيف عثروا عليه، فأجابوه: "لقد رأينا دخاناً، فعرفنا أن شخصاً ما يطلب المساعدة"؛ فاحتراق كوخه كان سبباً في إنقاذه، ولولا النار لبقي في الجزيرة إلى ما شاء الله. وهكذا، أصبح هذا المثل يُضرب في الظروف السيئة لدفع الخوف والجزع، والثقة في أن لله حكمةً في تدبير الأمور، ومن بين ظلام الليل يُولد نهارٌ جديد.

يقول أهل العلم إن الإنسان ينظر إلى الظاهر ويترك الباطن، فينظر إلى آلام المخاض وينسى فرحة الميلاد، إن الذهب حينما يُستخرج خاماً لابد أن يُوضع في النار حتى يُنقى من الشوائب ويصير ذا قيمةٍ، كذلك تفعل المحن بالمسلم، قال تبارك وتعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾.

ولأن (رُبَ ضارةٍ نافعة) فللمحن فوائد كثيرةٌ منها: أنها تُظهر الصديق من العدو، وتُعرِّف الإنسان محبيه من مبغضيه وقت الشدة؛ أما المحب فيقف بجانبك منصفاً، وأما المبغض فيقف وراءك شامتاً، قال الشاعر:

جَزى اللهُ الشَدائِدَ كُلَّ خَيْرٍ

عَرَفتُ بِها عَدوِّي مِنْ صَدِيقي

وفي المحن يبحث لك المحبون عن عذرٍ، والمبغضون يبحثون لك عن عثرةٍ، والمنصفون يوازنون الأمور حتى يحكموا بالعدل.

ومن فوائد المحن أنها تؤدي إلى مراجعة النفس؛ فيصحح الإنسان مساره ويقاوم عيوبه فيصبح شخصاً آخر يُقر بالحق ولا يُعاند بالباطل، فيُسلِّم بخطئه ويعترف بذنبه ويتوب إلى ربه.

ومن فوائد المحن أنها تُكفر الذنوب وتُقرب من رب العباد؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]. 

ومن فوائد المحن أنها تكسر القلب لله، وتُزيل الكبر من النفس فيعود العبد ذليلاً بين يدي الله تعالى، وحينئذٍ يعود القلب قريباً من الله.

ومن فوائد المحن أن الإنسان يحب من كان سبباً في تنبيهه من غفلته؛ فلولا أن الله سخره لبقي التراب على السطح ولظل المعدن مدفوناً في الشوائب.

 

أحبتي .. صدق مَن قال: "مِن المحن تأتى المنح"، وأصدق منه مَن قال: (رُبَ ضارةٍ نافعة)؛ فعلينا بالصبر على قضاء الله وقدره، وشكره سبحانه وتعالى في السراء والضراء. شُكر الله في السراء على نعمه وآلائه، أما في الضراء فهو لتسليمنا بأن ما نراه شراً لنا هو في حقيقة الأمر خيرٌ لكننا لا ندركه؛ يقول تعالى: ﴿وَعَسى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسى أَن تُحِبّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾، ويقول في موضعٍ آخر: ﴿ما يَفعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُم إِن شَكَرتُم وَآمَنتُم﴾.

فلنرضى بالقدر خيره وشره، وهذا من أركان الإيمان؛ كما أوضح ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام في حديثه: [أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ].

وبالتسليم بقضاء الله والرضا بقدره تطمئن القلوب وتسكن الأرواح وتهدأ الجوارح؛ فتتحول المحنة إلى منحة، وتتحول المصيبة إلى فرصةٍ للاقتراب أكثر من الله سبحانه وتعالى.

اللهم اجعلنا من ﴿الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ﴾، فننال صلواتٍ من ربنا ورحمةً، ويكتبنا من المهتدين.

 

https://tinyurl.com/y4ctm4ct


الجمعة، 10 يوليو 2020

الديان لا يموت

الجمعة 10 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٧

(الديان لا يموت)

 

كتبت تقول: أنا لا أكتب مشكلةً خاصةً بي أو حتى بشخصٍ قريبٍ لي، وإنما هذه قصةٌ كنتُ شاهدةً عليها، بل ومشاركةً في بعض أحداثها بحكم عملي في محكمة الأسرة. منذ بداية عملي في المحكمة أُصِبتُ بدهشةٍ ليس لكثرة القضايا الغريبة عن طبيعة مجتمعنا فحسب، بل لأن هذه المشاكل وصلت لجميع المستويات؛ فلا فارق بين عاملٍ بسيطٍ وأستاذٍ جامعيٍ حين يعتدي أيٌ منهما على زوجته بالضرب. وبمرور الوقت بدأتُ أفهم بعض ألاعيب المحامين فأصبحتُ أقيّم المحامي من أول وهلةٍ فأعرف إن كان موكله على حق ٍأم هو المعتدي.

منذ أربع سنواتٍ أتى أستاذٌ جامعيٌ محترمٌ؛ على جبينه علامة الصلاة، ويحمل مسبحةً في يده، حضر مع محاميه ليرفع قضية طاعةٍ على زوجته، واستطاع أن يمثل عليّ وعلى زميلاتي في المكتب جيداً باستغفاره الدائم، وإظهار أنه مضطرٌ لعمل ذلك، وأن زوجته ضعيفة الشخصية أمام أهلها، وأنها تركت المنزل منذ ما يقرب من سنتين مصطحبةً ابنتهما، وقد حاول إصلاح الموقف عدة مراتٍ إلا أنها ترفض، ولم يجد حلاً إلا اللجوء للقضاء.

وعلى الرغم من خبرتي الكبيرة إلا أنني صدقته باستغفاره الدائم، ودموعه التي كان يمنع نزولها بجدارةٍ. استدعينا الزوجة فحضرت، وهو لم يحضر، وبمناقشتها اكتشفنا الحقيقة المُرّة، فالأستاذ الجامعي المحترم كان دائم الخلاف معها في فترة زواجهما التي لم تستمر أكثر من ستة أشهر، ثم قرر أن يتخلص منها فأخذها يوماً لزيارة والدها وتركها ليذهب لشراء دواءٍ من صيدليةٍ مجاورةٍ ولم يعد، حاولت الرجوع إلى شقتها، وجدت القفل قد تم تغييره، واكتشفت أن الأستاذ المحترم باع الشقة من أسبوعين سابقين، وبالتالي فقد طردها من الشقة دون حتى أن تأخذ ملابسها، مستغلاً طيبة والدها الذي لم يكتب قائمةً بالمنقولات، وقال له: "أنا ائتمنك على ما هو أغلى عندي من الذهب والمنقولات". ذهلتُ أنا وزميلاتي لما سمعناه؛ فلم يخطر ببالنا يوماً أن يتصرف أي إنسانٍ بهذا الشكل، وحينما سألناها عن السبب في تأخرها في رفع قضيةٍ، قالت إنها أصيبت بانهيارٍ نفسيٍ تامٍ، وأضافت جملةً -لعلها غير لائقةٍ ولكن لها عذرها- فقد قالت إنه قبل أن يذهب بها إلى بيت والدها عاشرها، وكأنه يأخذ كل ما يمكن أن يأخذه منها، ولحكمةٍ أراد الله سبحانه وتعالى أن تحمل منه في هذا اللقاء. استدعينا الزوج المحترم فلم يحضر ولا مرة، إلى أن انتهت مدة التسوية الودية، وسارت القضية في مسارها الطبيعي في المحكمة. بعد نحو عامٍ ونصف العام جاء الأستاذ المحترم -هو ومحاميه- ليثبت نشوز زوجته، وعلامات النصر على وجهه ووجه محاميه، وفهمتُ فوراً اللعبة الحقيرة التي أصبحت تتكرر كثيراً في المحكمة، فقد اشتروا محاميها. وبالفعل عندما أرسلنا إليها جاءت وهي مذهولةٌ فقد أقرت في الجلسة الودية معنا أنها على استعدادٍ تامٍ للعودة إلى زوجها إذا اتقى الله ورجع عما هو فيه. وحينما قرأتُ الحكم فهمتُ تماماً ما حدث؛ فقد قدم المحامي الاعتراض بعد المدة القانونية لذلك رُفض شكلاً، وبالتالي سقطت كل مستحقاتها كزوجةٍ، وبمجرد أن أثبت نشوزها أرسل لها ورقة الطلاق الغيابي.

بالرغم من مرور حالات طلاقٍ كثيرةٍ إلا أن هذه الحالة أثرت فيّ وفي زميلاتي كثيراً؛ فهي طبيبةٌ شابةٌ صغيرةٌ في السن تزوجت فقط لمدة ستة أشهر، وظلت معلقةً ما يقرب من أربع سنواتٍ، ثم خرجت بدون أن تحصل على أيٍ من مستحقاتها، بأسلوبٍ رخيص.

في الوقت نفسه، بعد أن طُلقت هذه الطبيبة المظلومة، حضرت إلى المكتب زوجةٌ شابةٌ أقل ما توصف به هو أنها غبيةٌ ووقحةٌ، جاءت لرفع قضية طلاقٍ على زوجها المهندس المحترم، وبمنتهى البجاحة عندما سألناها عن السبب قالت: "لماذا أعيش مع شخصٍ لا ينجب؟"، وحضر زوجها بصحبة محاميه وأمه، وقال إنه يريد أن يسوّي الموضوع ودياً، وبالرغم من اعتراض محاميه وأمه إلا أنه أعطاها كل شيءٍ من منقولاتٍ ومؤخر صداقٍ وحتى نفقة المتعة التي لا تستحقها، وحينما اعترضت إحدى زميلاتي وقالت له: "دعها تتعب قليلاً في المحكمة"، رد قائلاً: "لا أريد أن أحمل وزرها؟!"، وحصلت هذه الزوجة الوقحة على الطلاق على طبقٍ من ذهب.

ظللتُ مدةً أقارن بين ما حدث مع تلك الطبيبة المظلومة، وما حدث مع ذلك المهندس، وأقول: "سبحان الله". فكرتُ طويلاً واستخرتُ الله، ثم اتصلتُ به، فتعجب في البداية، وسألني: "ألم ينتهِ الأمر في المحكمة؟"، فأخبرته أني قد أحضرتُ له عروسةً، وتكلمتُ معه كأختٍ كبرى له، وقلتُ له إن هذه الزوجة قد ذاقت الظلم، ولها ابنةٌ دون أبٍ فلِمَ لا يتخذها ابنةً له؟ وفي خلال ثلاثة أشهرٍ كانا قد تزوجا، وحضرنا أنا وزميلاتي في المكتب عقد قرانهما، وأصبحنا على اتصالٍ دائمٍ بهما، ولا يذكر أحدٌ منهما الآخر إلا ويقول إن الله عوضه به خيراً.

بعد مدةٍ، أصيبت إحدى قريباتي بالمرض اللعين؛ فذهبتُ لزيارتها في المستشفى، فوجدتُها في حالة عصبيةٍ سيئةٍ، وتطالب بنقلها من غرفتها إلى أية غرفةٍ أخرى، بسبب صوت الصراخ الذي يصدر عن نزيل الغرفة المجاورة، وبالفعل سمعتُ صوته لفترةٍ قصيرةٍ فشعرتُ بالرغبة في مغادرة المكان، وحينما خرجتُ كان باب الغرفة مفتوحاً والأطباء وبعض الممرضات يحملون سيدةً مسنةً فقدت وعيها وحاولوا إفاقتها، ولمحتُ المريض الذي يصرخ يرقد على سريره وهو مقيدٌ، بعد أن أخذ كميةً كبيرةً من المسكنات، وشعرتُ أني أعرفه، ولكن لم أتذكر من هو؟ ساعدتُ الممرضات ونقلنا أمه إلى الاستراحة، وقامت إحدى الممرضات بإفاقتها، وما أن أفاقت حتى انهارت بالبكاء وظلت تردد: "يا رب يموت ويرتاح مما هو فيه". وتذكرتُ فإذا هو نفسه الأستاذ الجامعي الذي رضي أن يأكل حقوق زوجته وابنته، لم يكن عقابه بالمرض فحسب، بل علمتُ من الممرضات أن زوجته الجديدة استولت على ممتلكاته، وخلعته في بداية مرضه، وأن زملاءه وأهل الخير هم من ينفقون عليه!

والعجيب أن محامي هذا الأستاذ -والذي أُشتهر باتباع كل الأساليب غير القانونية- سقط من على سلم المحكمة؛ ليقضي بقية حياته عاجزاً لا يستطيع حتى أن يقضي حاجته!

لكن القصة لم تنتهِ بعد؛ فقد اتصلت بي تلك الطبيبة التي ظُلمت في الماضي لتخبرني بأنها حامل، خبرٌ لم أكن أتوقعه على الإطلاق؛ لأن الأطباء كانوا قد أكدوا سوء حالة زوجها، إلا أن الله أراد أن يجازيها خيراً عن صبرها، ويجازيه خيراً عن أمانته ومراعاته لحدود الله.

أحبتي في الله .. ورد في الأثر: [البِرُّ لا يَبْلَى، وَالِإثْمُ لَا يُنْسَى، وَالدَّيَّانُ لَا يَمُوتُ، فَكُن كَمَا شِئتَ، كَمَا تَدِينُ تُدَانُ]. يقول العلماء في شرح ذلك: "البِرّ لا يبلى" أيْ: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باقٍ عند الله تعالى، والإحسان وفعل الخير لا يبلى ثناؤه وذكره في الدنيا والآخرة. "والذنب لا يُنسى" أي: لا بد أن يُجازى عليه ﴿لا يَضِلُّ رَبّي وَلا يَنسَى﴾، إلا أن يغفر الله. ومِن الناس مَن يغتر حين لا يرى تأثير الذنب فينساه، ولم يعلم أن الذنب ينقض -ولو بعد حينٍ- كما ينقض السهم. و(الديان لا يموت) فيه جواز إطلاق اسم الديان على الله سبحانه وتعالى. أما "اعمل ما شئت" ففيها تهديدٌ شديدٌ؛ حيث يأتي بعدها "كما تَدين تُدان" أي: كما تَفْعَلُ يُفْعَل بك وكما تُجَازِي تُجَازَى.

يقول الشاعر:

فاعلمْ يقينًا أنّ مُلككَ زائل

واعلم بأنَّ كما تَدِين تُدانُ

قال حكيم: "عباد الله الحذرَ الحذرَ! فواللهِ لقد ستر حتى كأنه غفر، ولقد أمهل كأنه أهمل".

والديان هو: القهار، والقاضي، والحاكم، والمجازي الذي لا يُضيع عملاً، بل يجزي بالخير والشر.

إن فعل الحسنات والإحسان إلى الغير يعود على صاحبه بالخيرات الحسان في الدنيا والآخرة، كما أنّه مِنْ أسبابِ دوام الثناء الجميل؛ يقول الشاعر:

قد ماتَ قومٌ وما ماتَتْ فَضائِلُهم

وعاشَ قومٌ وهُمْ في النّاسِ أمواتُ

 

يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: {يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا}. يرى أهل العلم أن الله جعل الظلم محرماً على نفسه تعالى وعلى عباده؛ حتى لا ينتشر الفسادُ وتعمُّ الشرور الأرض. وفي الحديث القدسي توعُّدٌ من الخالق عزَّ وجلَّ عندما قال مخاطِباً دعوة المظلوم {وعزتي وجلالي لأنصرنَّكِ لو بعد حين}، فنُصرة دعوة المظلوم قادمةٌ لا محالة، ليس بالضرورة أن يكون ذلك فورياً أو قريباً، ولكنها ستأتي، ويكون انتقام الله من الظالم بالإملاء وهو الإمهال؛ يقول تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، أي أن الله يُمهلُ الظالم لعله يرجع عن ظلمه ويتوب عنه. ثم بالاستدراج؛ يقول تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ وليس الاستدراج أن تضيق الدنيا على الظالم، ولكن قد يفتحُ الله للظالم أبواباً ويُعطيه من ملذَّات الدنيا وأكثر مما يستحقُّ وفوق ما يتصوَّر. ثم بالتزيين؛ يقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾، وفي هذه المرحلة يموت قلب الظالم ويرى كل قبيحٍ يفعله جميلاً، لا يعود لديه إحساسٌ بالذنب، وموتُ قلبه لا يجعل فيه حياةً ليلومه على أفعاله بعد ذلك. ثم بالأخذ؛ يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وفي هذه المرحلة تنزل عقوبة الله على الظالم، وكما هو واردٌ في هذه الآية الكريمة؛ تكون العقوبة أليمةً وشديدةً؛ حتى يعرف الظالم شرَّ ما اقترفت يداه.

 

أحبتي .. تدفعنا نفوسنا الأمارة بالسوء في بعض الأحيان إلى ظلم الغير، ويمضي الأمر فننساه، لكن المظلوم لا ينسى، ويدعو ربه للانتقام من الظالم، فيستجيب الله لدعائه من فوق سبع سمواتٍ؛ فينصره بالانتقام من الظالم، ويجبر خاطر المظلوم بإعادة حقه إليه، أو بتعويضه عنه، ومهما طال الزمن فإن المظلوم ينصره الله والظالم ينتقم منه العزيز الجبار؛ يقول تعالى: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾. وعندما ينتقم الله من الظالم فإن انتقامه ﴿أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾. فلنعتبر، وليسارع كلٌ منا إلى رد المظالم إلى أهلها، وطلب العفو والسماح منهم فإن (الديان لا يموت). ولنبادر إلى توبةٍ نصوحٍ نوقف فيها كل ظلمٍ نكون قد بدأناه أو فكرنا في الشروع فيه، حينئذٍ نكون قد أنقذنا أنفسنا من عذابٍ مهينٍ أليمٍ شديدٍ في الدنيا والآخرة، بل ونفوز بما لم نكن نحلم به؛ حين يبدل الله سيئاتنا حسناتٍ؛ يقول تعالى: ﴿إِلّا مَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا﴾.

اللهم رُدَّنا عن طريق الظلم، وباعد بيننا وبينه، وباعد بيننا وبين الظالمين، وكُن اللهم مرشدنا وموجهنا إلى طريق العدل والإنصاف.

 

https://tinyurl.com/yamu4sek


الجمعة، 3 يوليو 2020

الصبر على قضاء الله

الجمعة 3 يوليو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٦

(الصبر على قضاء الله)

 

هذه قصة سيدةٍ تحمل شهادةً جامعيةً وتتمتع بجمالٍ أخاذٍ، وبالرغم من جمالها فقد تعثرت خطواتها على طريق السعادة طويلاً؛ إذ تزوجت وهي في العشرين لبضع سنواتٍ ثم طُلقت لعدم الإنجاب، ثم تزوجت من شخصٍ آخر لسنواتٍ أخري، وطُلقت لنفس السبب، ونصحها الأطباء بألا تسعى للإنجاب مرةً أخرى لأن طريقه مسدودٌ أمامها ولا أمل لها فيه. انطوت السيدة الشابة على نفسها، وراحت تجتر أحزانها وآمالها الحسيرة، حتى ساقت إليها الأقدار مهندساً يكبرها بعشرين عاماً كان متزوجاً وفشل في زواجه لعدم الإنجاب ولعدم صبر زوجته السابقة عليه إلى أن يؤتي العلاج ثماره معه؛ فوجد كلٌ منهما في الآخر ضالته، وتزوجا وكلٌ منهما مقتنعٌ في أعماقه بألا أمل له في الإنجاب، لكن لا بأس من الأخذ بالأسباب، ولو من باب شغل النفس عن أفكارها وهواجسها بزياراتٍ للأطباء، وخضوعٍ للفحوص، وإجراءٍ للتحاليل، إلخ.. ولأن تخصص الزوج دقيقٌ فقد أتيحت له فرصٌ عديدةٌ للسفر إلى الخارج، واصطحب زوجته دائماً معه في هذه الرحلات، وفي كل رحلةٍ يعرضان نفسيهما على المراكز المتخصصة في علاج العُقم، ويُجريان الفحوص ويتلقيان العلاج بلا طائل. مضت عشر سنواتٍ كاملةٍ على حياتهما معاً على هذا النحو، إلى أن لاح لهما -ولأول مرةٍ- أملٌ ضعيفٌ في الإنجاب عن طريق الإخصاب الصناعي أو الأنابيب، وكانا في ذلك الوقت يقيمان في دولةٍ أوروبيةٍ متقدمةٍ، فخاضا التجربة وفشلت، وخاضاها مرةً ثانيةً وفشلت أيضاً، وكرراها للمرة الثالثة فكُتب لها النجاح وبدأت بشائر الحمل تظهر على السيدة وطار الزوجان فرحاً، وترقبا مولودهما السعيد بلهفةِ مَن ينتظره بشوقٍ منذ عشرين عاماً، وخطرت لهما فكرة أن يكون مولد الطفل المرتقب في الرحاب الطاهرة؛ فسافرا من الدولة الأوروبية إلي الأراضي المقدسة، وأديا العمرة، وأقاما في جوار الحرم الشريف ينتظران موعد الولادة إلي أن جاء ووضعت الأم مولودها وقرت به أعين الأب والأم، وقررا أن يرجعا للاستقرار في مصر، ويكفا عن التجوال والترحال ليوفرا لابنهما الحياة العائلية الهادئة. رجعا بالفعل إلى بلدهما، وأقام الرجل مشروعاً خاصاً له إلى جانب عمله في تخصصه الدقيق.

ومضت الأيام رخيةً هانئةً إلى أن اقترب عيد الميلاد الثامن للابن الوحيد، وبدأ الوالدان يستعدان للاحتفال به، وفي عزمهما أن يكون الاحتفال هذه المرة أكبر من كل مرةٍ سابقةٍ، وقبل الموعد المنتظر بيومين خرج الطفل الصغير يلهو بدراجته في الشوارع المحيطة بمسكنه فإذا بسيارةٍ مسرعةٍ تصدم الطفل؛ وتقتل الفرحة في حياة أبويه وسعادتهما، وتقضي على كل شيءٍ جميلٍ في دنياهما. وكان الابتلاء شديداً فاسودت جدران المسكن، وانطفأت أنواره، وخيم عليه الظلام والكآبة. وتجمعنا نحن الأهل والأصحاب نواسي الزوجين، ولا يجرؤ أحدنا على الحديث عن العوض أو الإبدال المذكور في القرآن الكريم؛ إذ من أين يأتي العوض أو الإبدال، وقد كان إنجاب هذا الطفل الفقيد ثمرة جهودٍ استمرت عشرين سنةً، وكان مولده معجزةً لا تتكرر؟ لهذا فقد دار حديث المواساة كله حول الأبرار الصغار وكيف يشفعون لآبائهم وأمهاتهم عند رب العرش العظيم، وكيف يراغم الطفل البريء الملائكة عند باب الجنة لا يريد أن يدخلها إلا وفي يده أبوه وأمه. ثم انسحب الجميع وتركوا الزوجين الحزينين لأحزانهما وآلامهما.

بدأت الزوجة تشكو من الأمراض والآلام الجسدية، واستشارت طبيبها فأخضعها لفحوصٍ عديدةٍ ثم أعلنها بأنها حامل! فصرخت السيدة باكيةً وظنت أن طبيبها يحاول تخفيف مأساتها عنها بأن يعلقها بأملٍ مستحيلٍ في الإنجاب، لكي ترتفع معنوياتها وتتخفف من أحزانها وصارحته بذلك، وقالت له إنه من المستحيل أن تحمل مرةً أخرى؛ لأن حملها الأول كان معجزةً وتم عن طريق الأنابيب بعد عذابٍ طويل، فأجابها الطبيب بهدوءٍ إنه لا دخل له بما حدث في الماضي، ولا يسمح لنفسه بأن يُعلق مريضاً بأملٍ موهومٍ حتى ولو كان ذلك بدافع التخفيف عنه، وإنما هو أمام فحوصٍ علميةٍ ونتائج موثوقٍ بها تؤكد له ما يقول، وفي البداية وفي النهاية فإن إرادة الله لا يستعصي عليها شيء.

انصرفت الزوجة ذاهلةً، وظلت على ذهولها بضعة أسابيع إلى أن اكتمل الحمل وظهرت عليها أعراضه، وبعد شهور أخرى جاء المولود إلى الحياة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾. وكان من عجائب صنع الله أن يكون الفارق الزمني بين رحيل الطفل الأول ومجيء الثاني هو تسعة أشهر و15 يوماً على وجه التحديد، وسرعان ما أضيئت أنوار البيت المظلم من جديد، وتجمعنا حول الزوجين مرةً أخرى، فشتان كان الفارق بين تجمعنا لديهم هذه المرة وبين تجمعنا السابق في منزلهم قبل تسعة أشهرٍ، ودار الحديث هذه المرة بلا حرجٍ عن العوض والإبدال، ورحمة الله بالمحزونين، وأكد لنا الأبوان عزمهما علي مواصلة مشروع دار الأيتام الذي كانا قد بدآه عقب وفاة ولدهما الأول شكراً لله وحمداً وعرفاناً، ولكيلا ينسيهما تعويض الله سبحانه وتعالى لهما ما انتوياه وهما في غمرة الأحزان، باركنا عزمهما، وأيدناهما فيه، ورجونا لهما السعادة والأمان.

ولم يكتف الله عزَّ وجلَّ بتعويضهما وإبدالهما خيراً ممن فقدا، وإنما أهدى إليهما طفلاً ثانياً بعد تسعة أشهرٍ أخرى من ميلاد الطفل الذي أعاد لهما الأمل في الحياة، وجاء هذا الطفل الثاني أيضاً بلا عمليات جراحيةٍ ولا علاجٍ ولا إخصابٍ؛ فأصبح في حديقتهما زهرتان جميلتان عوضاً لهما عن الزهرة المفقودة، وسبحان من إذا أراد شيئاً قال له ﴿كُنْ فَيَكُون﴾.

 

أحبتي في الله .. يقول ناشر هذه القصة إنه لا عجب في ذلك؛ ألم تشهد حياة كثيرين منا مواقف معينةً بكينا أمامها وأسفنا على ما فاتنا فيها، وضاقت صدورنا باحتمالها، ثم لم تلبث الأيام أن أثبتت لنا أنها لم تكن سوى مقدمةٍ لخيرٍ عميمٍ أراده الله لنا، وقصرت آمالنا حتى عن التطلع إليه؟ ألم تراودنا في بعض مراحل العمر آمالٌ رغبنا بشدةٍ في أن نحققها لأنفسنا، وشعرنا بالحسرة لعجزنا عن بلوغها، ثم مضت بنا رحلة الحياة فإذا بنا نُسَلِّم بأننا لو كنا قد بلغنا تلك الآمال في حينها، لحالت بيننا وبين ما أراده لنا المولى عزَّ وجلَّ فيما بعد من خيرٍ أعمٍ وأبقى؟

إنها دعوةٌ للتمسك بالأمل في رحمة الله إلى ما لا نهاية، مهما تشتد الأحزان والآلام؛ ودعوةٌ إلى (الصبر على قضاء الله) فرحمته تأتي في أي وقتٍ يشاء، كيفما يشاء، لمن يشاء، وإرادته لا تقف دونها الحوائل والسدود. إن رحمة الله سبحانه وتعالى التي وسعت كل شيءٍ لا تضيق بمن يظنون في غمرة اليأس والقنوط ألا مخرج لهم مما يكابدون، غير أننا مأمورون بالصبر على ما نكره، والتعلق بالأمل دوماً في رحمة الله أن يحقق لنا ذات يومٍ ما نرجوه لأنفسنا ولو طال بنا الانتظار.

لقد لاحظ بعض المفسرين أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه بالاقتداء بأسلافه من الرسل في خُلُقٍ بذاته إلا في الصبر على ما لاقوه من شدائد وواجهوه من محن، وأنه سبحانه وتعالى قد قرن أمره لرسوله بالصبر في أكثر من موضعٍ بالقرآن الكريم بأمره له أن يسبح بحمد ربه كما في الآية الكريمة: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾، وقيل في تفسير ذلك إن التسبيح هنا يحمل معنيين جليلين: الأول هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يفعل شيئاً عبثاً، أو أن يصدر عنه ما لا يليق بكماله وكرمه وحكمته؛ فإذا ابتلى بعض عباده بما يشق عليهم احتماله في حينه فلحكمةٍ يعلمها هو وإن خفيت على أفهامهم. وأما المعنى الآخر فهو أن له سبحانه وتعالى في كل شدةٍ عطاءٌ وفي كل بليةٍ نعمةٌ، فكأنما نبادر بالتسبيح والحمد في ذروة الشدة عسى أن يُعجل الله لنا بالكشف عن عطائه المحجوب وراء هذا الابتلاء، على غرار ما يقال عن الألطاف الإلهية التي يقول الواصلون إنها ذلك التدبير الإلهي الذي قد يأتينا أحياناً بما نكره ليحقق لنا فيما بعد ما نحب، فيكون اختيار الله لنا حين يجئ أفضل مما اخترناه نحن لأنفسنا وأشمل فضلاً وكرماً.

 

سبحان الله جلت قدرته، وإن خفيت حكمته؛ فكم من المرات دعونا الله ولم يُستَجَب لدعائنا، ومع (الصبر على قضاء الله) يُنعم علينا سبحانه بأفضل مما كنا ندعو؟ لأننا كنا نثق في أن الاستجابة ستكون حتماً بإحدى ثلاثٍ ذكرها النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا] قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: [اللَّهُ أَكْثَرُ].

فمع الدعاء و(الصبر على قضاء الله) لا يكون في نفس المؤمن محلٌ ليأسٍ أو قنوطٍ أو تشاؤمٍ؛ قال الشاعر:

‏قُل للذي مَلأ التشاؤمُ قلبَه

ومضى يُضيِّقُ حولنا الآفاقا

سرُّ السعادةِ حُسنُ ظنِك بالذي

خلقَ الحياةَ وقسَّمَ الأرزاقا

 

أحبتي .. لنتمسك بالأمل والثقة في المولى عزَّ وجلَّ بغير حدودٍ، ونُحسن الظن به؛ وهو القائل في الحديث القدسي: {أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي}. ما أيسر على الله أن يُحقق لنا ما نراه بعيد المنال؛ يقول سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾؛ فلنحسن الظن بالله ولا نستحسر في دعائنا كما أوصانا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ] قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: [يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ].

اللهم اجعلنا من الصابرين على قضائك، المستسلمين له، الراضين به، الواثقين في أن به خيراً كثيراً وإن لم نره أو ندركه. اللهم اكتب لنا الخير حيثما كان، ومتى يكون، ورضِّنا به، وبارك لنا فيه، وارزقنا شكرك عليه على الوجه الذي يرضيك عنا.

 

https://tinyurl.com/ya7qdweq


الجمعة، 26 يونيو 2020

وكان أبوهما صالحاً

الجمعة 26 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٥

(وكان أبوهما صالحاً)

 

قصةٌ حقيقيةٌ يرويها شابٌ سعوديٌ بنفسه فيقول: كنا خمسةً من الشباب وصلنا الصباح ونصبنا خيمتنا على شاطئ البحر، وكالعادة ذبحنا الذبيحة، وجهزنا كل شيءٍ لزوم الأكل والشرب والترويح واللعب والمتعة. بصراحةٍ كنتُ أنا -وأعوذ بالله- الوحيد بينهم الذي لا يُصلي، كان عمري وقتها 21 سنة، لم أركع خلالها ركعةً واحدةً، رغم أن أبي إمام مسجدٍ، وكنتُ أطيعه في كل شيءٍ يقوله ويأمر به إلا الصلاة! لم أسمعه في حياتي -ولله الحمد- يدعو عليّ؛ بل كان يقول دائماً: "يهديك الله ويُصلح حالك". كان يوقظني للصلاة فأخرج أدور بالسيارة وأرجع بعد انتهاء الصلاة، وأبي لا يعلم؛ فهو أول مَن يدخل المسجد وآخر مَن يخرج منه؛ لذلك كان يظن أني أذهب للمسجد بعده لأصلي مع الجماعة ثم أعود إلى المنزل قبله! كنتُ عاصياً لدرجةٍ غير طبيعية.

المهم بعد أن تناولنا طعام الغداء، جهز الشباب عدتهم للنزول إلى البحر في رحلة غوصٍ، وكان لابد أن يبقى واحدٌ منا يجلس في الخيمة، جلستُ أنا حيث لم أكن أجيد الغوص. جلستُ وحدي في الخيمة، وكانت بالقرب من خيمتنا خيمةٌ أخرى بها شبابٌ، قام أحدهم وأذَّن؛ فرأيتهم يتجهزون للصلاة، قلتُ -تجنباً للإحراج- أنزل للسباحة في البحر حتى ينتهوا من صلاتهم. لبستُ زي السباحة ونزلتُ إلى البحر، مشيتُ إلى أن وجدتُ منطقةً تصلح للسباحة؛ لا هي عميقةٌ ولا هي قريبةٌ من الشاطئ. سبحتُ وسبحتُ وسبحتُ، إلى أن تعبتُ فقلتُ في نفسي: الأفضل أن أنام على ظهري واسترخي بجسمي لأرتاح قليلاً ثم أرجع، نمتُ على ظهري بالفعل وجلستُ أطفو، وأنا في غاية الاستمتاع، فجأة أحسستُ كأن شيئاً يسحبني إلى القاع، وإذا بي أنزل من تحت سطح الماء إلى الأعماق، حاولتُ بكل جهدي أن أقف على الأرض وأدفع نفسي إلى الأعلى، ظاناً أن المسافة تحتي مترين تقريباً، لكني اكتشفتُ أنني وأنا أسبح بعدتُ ونزلتُ في جُرفٍ ودوامةٍ دون أن أدري، ووصلت إلى منطقةٍ عمقها حوالي خمسة أمتار، حاولتُ الخروج من هذه الدوامة فلم أستطع؛ أحسستُ كأن شخصاً يُمسك بي من رأسي ويدفعني تحت الماء بقوة، حاولتُ بكل الطرق التي تعلمتها في النادي ولم أستطع، كنتُ في حالةٍ لا أُحسد عليها، خائفاً مضطرباً إلى أقصى حدٍ، وأحسستُ أني لا شيء، أحسستُ وقتها أني أضعف من ذبابة. بدأ النفَس يضيع، وأُحسستُ بالدم يحتقن في رأسي؛ فأيقنتُ أن الموت يقترب مني! بدأت أتذكر أبي وأمي وإخواني وأقاربي وأصحابي والجيران والعامل في البقالة وكل شخصٍ مرَّ عليّ بحياتي، تذكرتُ كل شيءٍ سويته، كل ذلك في ثوانٍ معدودةٍ، تذكرتُ بعدها نفسي! بدأتُ اسأل نفسي: صليت؟ لا، صُمت؟ لا، حجيت؟ لا، تصدقت؟ لا. أنت في طريقك إلى ربك مفارقٌ لدنياك مودعٌ أصحابك، ماذا تقول عندما تلقى الله؟

فجأةً سمعتُ صوت أبي وهو يناديني باسمي ويقول: "قُم صلِ"، تكرر الصوت بأذني ثلاث مراتٍ بعدها سمعتُ صوته وهو يؤذن، أحسستُ أنه سوف يأتي لإنقاذي؛ صرتُ أنادي عليه وأصيح

باسمه، والماء يدخل في فمي، أصيح وأصيح، وما من مُجيب. أحسستُ بملوحة الماء تتسلل إلى أعماق جسمي، وبدأ النَفَس يتقطع؛ فتأكدتُ أنها سكرات الموت، وأني أشرفتُ على الهلاك، حاولتُ أن أنطق بالشهادتين؛ قلتُ: أشهـ..... أشهـ..... ولم أستطع أن أكملها كأن هناك يداً قابضةً على حلقي تمنعني من نُطقها، أحسستُ أن روحي بدأت تخرج من جسدي، وتوقفتُ عن الحركة.

هذا آخر شيءٍ كنتُ أتذكره، استيقظتُ فإذا أنا في الخيمة، يقف عند رأسي جنديٌ من خفر السواحل والشباب الذين لهم خيمةٌ قريبةٌ من خيمتنا، عندما فتحتُ عينيّ قال لي الجندي: "حمداً لله على السلامة" ثم مشى، سألتُ الشباب: "مَن هذا؟ ومتى جاء؟ وكيف؟"، قالوا لا ندري، جاء فجأةً وأخرجك من البحر، ثم مشى فجأةً كما رأيتَ"، سألتهم: "هل رأيتموني وأنا في الماء؟"، قالوا مع إننا كنا على الشاطئ فإننا -قسماً بالله- لم نرك! ما شعرنا بك إلا عندما جاء هذا الجندي من خفر السواحل وأخرجك من البحر، علماً بأن مركز خفر السواحل يبعد عن خيمتنا حوالي عشرين كيلو متراً في الطريق البري، ويحتاج ما لا يقل عن ثلث ساعة حتى يصل إلينا إذا وصله بلاغٌ منا، وحادث غرقك حدث في دقائق معدودةٍ!

هؤلاء الشباب -وهم أقرب الناس مني وقتها- يحلفون أنهم لم يروني ولم يبلغوا خفر السواحل؛ فكيف رآني هذا الجندي ووصل إليّ من ذلك المكان البعيد ثم أنقذني وانصرف؟! أقسم بالله الذي خلقني أني إلى يومي هذا لم أجد إجابةً عن هذا السؤال!

رنَّ هاتفي الذي كنتُ قد تركته مع أغراضي، فتحتُ الخط فإذا هو صوت أبي، بدأت الأمور تزداد غموضاً؛ قبل قليلٍ سمعتُ صوته يقول: "قُم صلِ" والآن يتصل؟! سألني: "كيف حالك؟ ما أخبارك؟ هل أنت بخير؟"، وكرر ذلك أكثر من مرةٍ، طمأنته، ولم أخبره بما حدث لي حتى لا يقلق، لكني كنتُ في حالة صدمةٍ وذهول. أنهيتُ المكالمة وقمتُ صليتُ ركعتين -في حياتي ما صليت مثلهما- ركعتين صليتهما في نصف ساعةٍ، ركعتين صليتهما بقلبٍ صادقٍ خاشعٍ، وبكيتُ فيهما حتى بُحّ صوتي. عاد أصدقائي من الغوص، وعلموا بما حدث، وأصابهم -كما أصابني وأصاب الشباب الآخرين- الذهول، وشاهدوا حالي فقرروا العودة فوراً.

رجعتُ إلى البيت، طرقتُ الباب فإذا أبي هو الذي فتح لي الباب، نظر إلى وجهي وقال: "تعال معي"، أخذني إلى غرفته، وكنا بمفردنا أنا وهو، قال لي: "أمنتك وسألتك بالله، ماذا صار معك عصر اليوم؟"، تفاجأتُ بالسؤال، واندهشتُ وارتبكتُ حتى أني لم أنطق ببنت شفة! أحسستُ كأن لديه خبراً عما حدث. كرر السؤال مرتين. حكيتُ له ما حدث، قال: "واللهِ إني سمعتك تناديني وأنا ساجدٌ السجود الثاني في آخر ركعةٍ وكأنك في مصيبةٍ، تناديني بصياحٍ، وأحسستُ بأن قلبي يكاد ينخلع من بين ضلوعي وأنا أسمع صوتك، سجدتُ ودعيتُ لك كعادتي، لكن هذه المرة قلتُ: ربِ أستودعك ولدي؛ جسده وقلبه وإيمانه فاحفظه ولا تُريني فيه مكروهاً يبكيني"، فاختنقتُ وقتها وحضنتُ أبي وبكيت.

من يومها وأنا مواظبٌ على الصلاة مع الجماعة في المسجد، حتى أنني أسبق أبي في بعض المرات في الذهاب، وأظل بالمسجد بعد أن يغادره أبي في مراتٍ أخرى! وصرتُ أجد لذةً في الصلاة وفي الذكر وفي الدعاء. ومع ذلك ما زال يتملكني إحساسٌ بالتقصير، وأني مهما فعلتُ فلن أوفي الله حقه حمداً وشكراً وثناءً، وما يزال أمر ذلك الجندي من خفر السواحل الذي أنقذني يحيرني حتى الآن!

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت لأحد الشباب فكتب عنها، ونشر ما كتب على شبكة الإنترنت، كي يتعظ منها غيره. عرضتها عليكم كما كتبها بعد إعادة صياغة بعض الكلمات والعبارات، وإدخال تعديلاتٍ طفيفةٍ عليها.

 

ربما كان أكثر ما شغل هذا الشاب ذلك الجندي من جنود الرحمن الذي ظهر فجأةً؛ فأنقذه ثم مضى في حال سبيله!

 

أما أكثر ما شغلني أنا من ذات القصة فهو كيف أن صلاح الآباء يفيد الأبناء؛ فسبحان الحكيم الخبير؛ الذي علم بأن في قلب هذا الشاب بذرة صلاحٍ يمكن أن تُنبت وتُزهر وتفوح بعطر الإيمان، فاستجاب سبحانه لدعاء الأب الصالح وهو ساجدٌ خاشعٌ متبتلٌ يدعو الله بإخلاصٍ وكأنما في خاطره ووجدانه قول ربنا تبارك وتعالى: (وكان أبوهما صالحاً). وسبحان من يُسبب الأسباب، ويُقدر المقادير.

 

يقول تعالى في قصَّة نبي الله مُوسَى عليه السَّلام حين كان مع العبد الصَّالح: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾، ثم بيَّن الحكمة من ذلك بقوله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾، يقول المفسرون إن في ذلك دليلاً على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجةٍ في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن، ووردت به السنّة. قيل إن الأب المذكور في سورة الكهف هو الجد السابع أو العاشر. وقيل: "حُفظ الغلامان بصلاح أبيهما، وإن لم يُذكر لهما صلاحاً".

 

في موضعٍ آخر يقول تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، قال بعض المفسرين: "فِيهِ إِرْشَادٌ لِلآبَاءِ الذِينَ يَخْشَونَ تَرْكَ ذُرِّيةٍ ضِعَافٍ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ في سَائِرِ شُؤُوْنِهِم حَتَّى تُحْفَظَ أَبْنَاؤُهُم وَتُغَاثَ بِالعِنَايَةِ مِنْهُ تَعَالى، وَفِيه تَهْدِيدٌ بِضَيَاعِ أَوْلَادِهِمْ إِنْ فَقَدُوا تَقْوَى اللهِ تَعَالى، وإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَقَوَى الأُصُولِ تَحْفَظُ الفُرُوعَ".

 

وعن معنى (وكان أبوهما صالحاً) يقول المتخصصون إن صلاح الآباء واستقامتهم له دورٌ كبيرٌ في صلاح الأبناء وتوفيقهم؛ ذلك أن للآباء دوراً كبيراً في تنشئة الأبناء، وأثرا عميقاً في صلاحهم، والوالد مرآة ابنه ومحل النظر الأول في الأسوة والقدوة؛ فصلاح الأبناء مرتبطٌ بصلاح الآباء، وإذا فسد الآباء فسد الأبناء، فلا يستقيم الظل والعود أعوج. إن عزل سلوكياتنا الخاطئة وأخلاقنا السيئة وذنوبنا ومعاصينا -حتى لو كانت خفيةً- عن تربية أبنائنا وعدم استشعار أثر هذه السلوكيات على صلاح أبنائنا، فيه نوعٌ من القصور في مفهوم التكامل التربوي؛ فقد نُحرم صلاح الأبناء بسبب ذنبٍ خفيٍ داومنا عليه، أو كسبٍ حرامٍ أصررنا على كسبه، أو عقوقٍ للوالدين، أو قطع رحمٍ أمر الله بها أن تُوصل، أو غير ذلك من الذنوب.

 

يقول أحد التابعين: “إني لأذنب الذنب فأرى أثر ذلك الذنب على ولدي”.

ويقول آخر: “إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي”، يريد بذلك أن يصل إلى مرتبة الصالحين، فينال بصلاحه صلاح أبنائه من بعده.

 

أحبتي .. ليس منا أبٌ إلا ويحب أبناءه حباً كثيراً كبيراً يجعله يفضلهم على نفسه؛ فحبنا لهم من الفطرة التي فطرنا الله عليها. ولا يقتصر حبنا لهم على تعبيرنا عن ذلك بالكلام، ولا بإظهار المشاعر والعواطف، ولا برعايتنا لهم مادياً وتربوياً، بل إن حبنا لهم لا يكتمل إلا بحرصنا على إصلاح أنفسنا، والتزامنا تقوى الله؛ فعلينا أن نضع نصب أعيننا قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً) وألا نُفوِّت دقيقةً واحدةً من حياتنا إلا ونزداد فيها صلاحاً بأداء العبادات المفروضة والمزيد من النوافل والذكر والدعاء وأعمال الخير والبِر. ولنتذكر أنه كلما زاد صلاحنا كلما زاد انتفاع أبنائنا بهذا الصلاح، في حياتنا وبعد انتهاء آجالنا.

وكما أن صلاحنا ينفع أبناءنا، فإنه -من باب أولى- يعود بالنفع علينا نحن الآباء في الحياة الدنيا مهابةً وعزاً، وفي جنة الخلد -بإذن الله ورحمته- ثواباً وأجراً وعلواً في الدرجة.

اللهم يَسِّر لنا طريق الصلاح، ومهده لنا وخُذ بيدنا فيه، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، وانفع بها أبناءنا ونحن معهم ومن بعد انتهاء آجالنا.

 

https://bit.ly/2BcQkim


الجمعة، 19 يونيو 2020

يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم

الجمعة 19 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٤

(يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)

 

ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻔﺼﻮﻝ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺔ ﺃﺭﺍﺩﺕ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺎﺕ ﺃﻥ ﺗﺮﻓﻊ ﻣﻦ ﻫﻤّﺔ ﻃﻼﺑﻬﺎ ﻓﻘﺮﺭﺕ ﺇﺟﺮﺍﺀ ﺍﻣﺘﺤﺎﻥٍ ﻟﻬﻢ، ووعدتهم بأن ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﻋﻼﻣﺔ "ﻣﻤﺘﺎﺯ" ﺳﻮﻑ ﺗﻬﺪﻳﻪ ﻫﺪﻳﺔً ﻫﻲ ﺣﺬﺍﺀٌ ﺟﺪﻳﺪ.
ﻓﺮﺡ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ، ﻭﺑﺪﺃ ﻛﻞٌ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺑﺠﺪ، ﻭﺍﻟﻤﻔﺎﺟﺄﺓ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺪ جمع أﻭﺭﺍﻕ الامتحان وتصحيحها؛ حيث وجدت المعلمة ﺃﻥ جميع الطلاب قد ﺃﺟﺎبوا إجاباتٍ صحيحةً وكاملةً ونالوا علامة "ممتاز"!
ﺷﻜﺮﺕ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ جميع طلابها ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺑﺬﻟﻮه ﻣﻦ ﺟﻬﺪ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺍﺣﺘﺎﺭﺕ ﻟﻤﻦ ﺗُﻌﻄﻲ الهدية، ﻭﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﻗﺪ ﻧﺎﻝ ﺍﻟﻌﻼﻣﺔ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ. عرضت المعلمة هذا الأمر على طلابها، وطلبت ﻣﻨﻬﻢ أن يفكروا في حلٍ مناسبٍ؛ يُرضي الجميع، وأن يبلغوها برأيهم بعد انتهاء وقت الفسحة. ﻛﺎﻥ ﺭﺃﻱ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺃﻥ تجري المعلمة قرعةً بينهم؛ فيكتب ﻛﻞٌ ﻣﻨﻬﻢ ﺍﺳﻤﻪ ﻓﻲ ﻭﺭﻗﺔٍ ﻣﻄﻮﻳﺔٍ ﻭﻳﻀﻌﻮﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺻﻨﺪﻭﻕٍ ﺗﺨﺘﺎﺭ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻭﺭﻗﺔً واحدةً ﺗﺴﺤﺒﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ جميع ﺍﻷﻭﺭﺍﻕ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻔﺎﺋﺰ بالهدية. وافقت المعلمة على اقتراحهم، وقام الطلاب بالفعل بتنفيذ ما اُتفق عليه، ﻭﺳﺤﺒﺖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻭﺭﻗﺔً واحدةً ﺃﻣﺎﻣﻬﻢ، ﻭﻗﺮﺃﺕ الاﺳﻢ؛ فكان اسم ﺍﻟﻄﻔﻠﺔ ﻭﻓﺎﺀ. تقدمت وفاء لاستلام الهدية، ﻭﺍﻟﻔﺮﺣﺔ باديةٌ على وجهها، ﻭﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ﺗﻐﻤﺮ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ، ﻭﺳﻂ ﺗﺼﻔﻴﻖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻭﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ. حيت وفاء ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ، ﻭﻗﺒَّﻠﺖ ﻣﻌﻠﻤﺘﻬﺎ وشكرتها على ﺍﻟﻬﺪﻳﺔ ﺍﻟﺮﺍﺋﻌﺔ التي ﺟﺎﺀﺕ ﻓﻲ وقتها تماماً؛ ﻓﻘﺪ ﻣﻠّﺖ ﻟﺒﺲ ﺣﺬﺍئها ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ المهتريء، الذي ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻭﺍﻟﺪﺍﻫﺎ ﺷﺮﺍﺀ ﺣﺬﺍﺀٍ ﺟﺪﻳﺪٍ بدلاً منه ﻟﻬﺎ؛ لشدة فقرهم ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﺰﺣﺖ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻬﺎ نتيجةً للحرب في سوريا.
ﺭﺟﻌﺖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻣﺴﺮﻭﺭﺓً ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺘﻬﺎ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄﻟﻬﺎ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﺃﺧﺒﺮﺗﻪ ﻭﻫﻲ ﺗﺒﻜﻲ ﺑﻤﺎ ﺟﺮﻯ! أشاد ﺍﻟﺰﻭﺝ -ﺑﻌﺪ ﺳﻤﺎﻉ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺼﺔ- بحسن تصرف زﻭﺟﺘﻪ، لكنه ﺍﺳﺘﻐﺮﺏ ﺑﻜﺎﺀﻫﺎ؛ فسأﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ فقاﻟﺖ ﻟﻪ: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺪﺕُ ﻭﻓﺘﺤﺖُ ﺑﻘﻴﺔ ﺍﻷﻭﺭﺍﻕ ﻭﺟﺪﺕُ ﺃﻥ جميع الطلاب كتبوا ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﺍسمهم ﺍﺳﻢ زميلتهم ﻭﻓﺎﺀ!

لقد اكتشفت أن طلابي ممن (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم) وأنا أعلم بمدى احتياجهم، ﻟﻘﺪ ﻻحظوا ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ ﺣﺎلة زميلتهم ﻭﺗﻜﺎﺗﻔﻮﺍ معها؛ وآثروها على أنفسهم ﻟﻴُﺪﺧﻠﻮﺍ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺇﻟﻰ قلبها.

 

أحبتي في الله .. إنه خُلُق الإيثار، نشأ عليه الأطفال في بيوتهم، وربما تعلموه في المدرسة، وقد يكون سلوكاً عفوياً منهم نبع من فطرةٍ سليمةٍ تربوا عليها وتشبعوا بها فأصبحوا يجدون لذةً في العطاء وحلاوةً في إسعاد الآخرين. وأغلب الظن أن وراء تنفيذ هذه الفكرة أحد الطلاب هو الذي أوحى لزملائه بالفكرة فسارعوا بالاستجابة لها. أياً كان الأمر، فقد كان تصرف الأطفال رائعاً بكل معنى الكلمة؛ فيه إلى جانب الإيثار، الإحساس بأحوال الغير والتعاطف معهم، والحرص على إسعادهم، والتكاتف والتعاون والتآزر، وعمل الخير في الخفاء دون مراءاةٍ، ومراعاة المشاعر. إنها معانٍ جميلةٌ قلما نجدها في عالم الكبار الذي تغلب عليه الأنانية وحب الذات، والميل إلى التفاخر والمباهاة بعمل الخير، وغير ذلك من مظاهر سلبية!

 

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ وَالإيمانَ مِن قَبلِهِم يُحِبّونَ مَن هاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدونَ في صُدورِهِم حاجَةً مِمّا أوتوا وَيُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصاصَةٌ وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾، نزلت هذه الآية لتصف إيثار الأنصار بيثرب "المدينة المنورة" للمهاجرين الذين اُضطروا لترك "مكة" فراراً بدينهم؛ فقد كان الأنصار يعطون المهاجرين أموالهم، إيثَاراً لهم بِها على أنفسهم، رغم حاجتهم هم أنفسهم لهذا المال، بل إن بعض الأنصار -عندما آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين- لم يكتفِ بإعطاء نصف ماله لأخيه المهاجر، بل وخيَّره بين إحدى زوجتيه ليطلقها فتكون زوجةً له بعد انقضاء عدتها. إنها صورةٌ فريدةٌ للإيثار.

 

ومن صور الإيثار، أنه أَتَى رجلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: [مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟] فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا؛ فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ؛ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: [ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾].

 

وعن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: جَاءَتني مِسْكِينَةٌ تَحْمِل ابْنَتَيْن لَهَا، فَأَطعمتُهَا ثَلاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلى فِيها تَمْرةً لتَأكُلهَا، فَاسْتَطعَمَتهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُريدُ أَنْ تأْكُلهَا بيْنهُمَا، فأَعْجبني شَأْنها، فَذَكرْتُ الَّذي صنعَتْ لرسولِ اللَّه عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: [إنَّ اللَّه قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجنَّةَ، أَو أَعْتقَها بِهَا من النَّارِ].

 

وقال أبو جهم بن حذيفة العدوي، وهو من الصحابة رضي الله عنهم: انطلقتُ يوم اليرموك بعد انتهاء المعركة أطلب ابن عمٍ لي ومعي قليلٌ من الماء وإناء، فقلتُ: إن كان به رمقٌ سقيتُه من الماء ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا أسمع صوتاً يقول: آهٍ.. آه.. فأتيتُه فإذا هو ابن عمي فقلتُ له: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم، فإذا بصوت رجلٍ آخر يقول: آهٍ.. آه.. فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فجئتُه فإذا هو هشام بن العاص فأتيتُه وقلتُ له: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم.. فإذا بصوت رجلٍ آخر يقول: آهٍ.. آه.. فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئتُه فإذا هو قد مات، ثم رجعتُ إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم أتيتُ إلى ابن عمي فإذا هو قد مات!

أولئك كانوا من الذين (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)؛ فضَّل كلُّ واحدٍ منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماءٍ وهو أحوج بها من غيره!

 

والإيثار لا يكون فقط بين الناس بعضهم وبعض، بل قد يكون بين إنسانٍ وحيوان؛ فيُروى أن غلاماً كان يحرس حديقة نخيلٍ، وكان هذا الغلام تقياً قوي الإيمان طيب الخلق. وذات يومٍ، جاء وقت تناول الطعام، فأحضر الغلام طعامه، وكان ثلاثة أرغفةٍ من الخبز، فأمسك برغيفٍ منها، وسمَّي الله قبل أن يأكل. وفجأة رأي كلباً يجري نحوه وهو يلهث، واقترب منه وركز نظره على يديه، ففهم الغلام أن الكلب جائعٌ، فألقي له الرغيف الذي في يده. فأكله الكلب بنهمٍ وشراهةٍ، ثم عاد ينظر للغلام مرةً ثانيةً، فألقي له الرغيف الثاني فأكله. ومرةً ثالثةً، نظر الكلب للغلام؛ فأسرع وقدم له الرغيف الثالث، فأكله الكلب، ثم انصرف. هذا المشهد العجيب، شاهده رجلٌ صالحٌ معروفٌ بالكرم -دون أن يلاحظه الغلام- فاقترب منه وسأله: ما قَدْرُ طعامك في اليوم يا غلام؟ فقال له: ثلاثة أرغفةٍ من الخبز، يحضرها لي صاحب هذه الحديقة كل يوم. فقال الرجل: فلِمَ فعلتَ ذلك مع الكلب؟ قال الغلام: لأن أرضنا هذه لا تعيش فيها كلاب، وأظن أن هذا الكلب جاء من مكانٍ بعيدٍ؛ ليبحث عن طعامٍ بعد أن اشتد به الجوع، فكرهتُ أن يعود جائعاً. قال الرجل: وماذا ستأكل اليوم إذن؟ رد الغلام قائلاً: لن آكل وسأصبر إلى الغد؛ فقال الرجل وهو يحدث نفسه: "يلومني الناس على سخائي وكرمي، واللهِ إنَّ هذا الغلام أسخى مني". ترك الرجل الغلام، وذهب إلى أصحاب الحديقة -التي يعمل بها هذا الغلام- فاشتراها بما فيها، ثم أعطاها هديةً للغلام؛ إعجاباً بما فعل، وتقديراً لحُسن خُلقه، وكريم عطائه؛ فالغلام أحس بأن الكلب جائعٌ، فآثره بما لديه من طعام، وبات وهو يعاني من الجوع، إنه من الذين (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)؛ فكان جزاء ما صنع أن أصبحت الحديقة ملكاً له، بالإضافة إلي الثواب العظيم من الله يوم القيامة.

 

يقول العلماء إن من فوائد الإيثَار الفوز بمحبَّة الله تبارك وتعالى، والدخول فيمن أثنى الله عليهم وجعلهم مِن المفلحين، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. ثم إن المؤْثر يجني ثمار إيثاره في الدُّنْيا قبل الآخرة وذلك بمحبَّة النَّاس له حياً، وذِكر مآثره والترحم عليه بعد موته.

 

يقول الشاعر:

المالُ للرجلِ الكريمِ ذرائعٌ

يبغي بهن جلائلَ الأخطارِ

والناسُ شتى في الخِلالِ وخيرُهم

مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ

 

أحبتي .. ما أجمل خُلُق الإيثار، وما أروع الإحساس بأن الله سبحانه وتعالى قد اصطفاك -من دون خلقه جميعاً- لتُسعد شخصاً ما وتدخل السرور على قلبه، فتتقاسما سوياً شعوراً متميزاً بالإخوة والمحبة فتكونا من السعداء؛ فهذا حكيمٌ قد سُئل: مَن أسعدُ الناسِ؟ قال: مَن أسعدَ الناسَ!

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه يثيبك ويجزيك خير الجزاء على إيثارك للغير بما تملكه -في الظاهر- من مالٍ، لكنه في الحقيقة مال الله أنعم به عليك وجعلك مستخلفاً فيه، مسئولاً عن إنفاقه والتصرف فيه، ويعدك بحُسن الثواب إذا أعطيته غيرك!

فلنسارع في أعمال الخير ونكون من الذين (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)، ولو كانت بنا خصاصةٌ ولو كنا في احتياج، ولا نكون أقل إيثاراً من الأطفال زملاء وفاء!

اللهم قنا شُح أنفسنا، واجعلنا مفاتيح سعادةٍ لغيرنا، وحبِّب إلينا البر والخير والكرم والإحسان والإيثار.

 

https://bit.ly/2Nce9t1


الجمعة، 12 يونيو 2020

بعد فوات الأوان

الجمعة 12 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٣

(بعد فوات الأوان)

 

حكى لي صديقي عن قصته مع أبيه، قال: في صباحِ السَّابع من فبراير قبل أكثر من عقدينِ من الزمان، طُلبَ منا أن يأتي أولياء الأمور لزيارةِ المدرسة في حفلٍ كبيرٍ لتكريم المتفوقين وأولياء أمورهم، ضاقتْ نفسي، لأني لم أرغب أن يحضرَ والدي، كان منظره لا يسر، لا زالَ يسيرُ وفق حياة الأرياف والبوادي، رغم عيشه في المدينةِ منذ زمنٍ طويل. شرعتُ يومها أبحثُ عن شخصٍ يمثلني في المدرسة، وكنتُ أبحثُ بجدٍّ واجتهاد.. علني أحظى بأحدهم، انتسبُ إليه عوضاً عن والدي؛ فلما عجزتُ، أخبرتُ والدي، بلا رغبةٍ مني وقد ألجأتني الضرورة لذلك.

استبشرَ وطار فرحاً، وأمر والدتي أن تُجهزَ ملابسه التي يحتفظُ بها في صندوقٍ عتيقٍ أسفلَ السرير، كان يظنُّ أنَّ ملابسه تلك لا يعدلها شيء، وكنتُ في داخلي متبرماً، تتناوشني وساوس لا تُحتمل، كنتُ أخشى من قهقهاتِ الزملاء، وسخريتهم التي لا تنتهي!

ذهبتُ مع والدي إلى المدرسة، وعندما أوشكنا أن نصل، تذرعتُ بإصلاحِ حذائي كي أتأخر قليلًا عنه، من أجل أن يدخل دون أن يُعرف أنه والدي! وكلما تأخرتُ، وقفَ ينتظرني، يسألُ عن حالي، ويستحثني على سرعة المسير.. لم يكن يعلم حينها أني أودُّ التخلص والفرار منه.. لم أشأ أن ألتصقَ به.. هكذا شعرتُ يومها!

حضر أولياء الأمور، التجار، والساسة، وبعض قادة الجيش، وعِليةُ القوم.. ووحده والدي بثيابه العتيقة، وجسده النحيل، ووجهه الشاحب من وعثاءِ الحياة.. يقبعُ بعيداً عنهم، لم تكن سوى عينيه تبرقُان حياةً وأملاً؛ فَرَحاً بي.

بدأتْ قهقهات الزملاء، وسَرت بينهم الضحكات والنكات السخيفة.. وبدأتُ أتذمَّر، أتذكرُ جيداً، أني قلتُ حينها: "ليتني كنتُ يتيماً بلا أب". التقطَ الجميع صوراً تذكاريةً مع آبائهم والقائمينَ على المدرسة، ووحدي خجلتُ من والدي، وفي لحظةِ غفلةٍ، لم أظن أني سأدفع ثمنها بقيةَ عمري؛ سمعني والدي أقولُ لصديقي حسام: "مجيء والدي سبَّبَ لي حرجاً كبيراً".

تظاهَر بأنه لم يسمع شيئاً، وأذكر أنه احتضنني يومها وبكى، ولم أكن أعلمُ أنَّ كلمتي وقعت في قلبه؛ فأحالته إلى فضاءٍ واسعٍ بلا ملامح، لقد استحالَ يومها إلى رماد!

مضتْ بي الأيام.. تخرجتُ من الثَّانوية.. فاعتذرَ والدي عن الحضور بسببِ حالته الصحية، لكنه دعمني يومها بكلِّ شيء!

تخرجتُ من الجامعة.. واعتذر أيضاً بسببِ وجعٍ في قدميه جعله طريحَ الفراش، ولم يكن حينها يعاني من شيء! ثم حصلتُ على وظيفةٍ في منظمةٍ عريقةٍ، وبدأتُ في مشروعِ الزواج.. ويوم ذهابنا إلى منزل والد الفتاة، لعقد القران، تغيَّبَ والدي.. رفضتُ الذهاب.. انتظرتُه، لم يأتِ، وفجأةً تقدم نحوي أخي الأصغر، همسَ في أذني، أن والدي شعرَ بدوارٍ في رأسه، وكاد أن يُغمىٰ عليه، يقولُ لك: على بركةِ الله.

ليلتها فقط، أحسستُ أنَّ والدي يُخفي شيئاً، ومنذ تلك اللحظة بدأتُ أجمعُ الخيوط، تذكرتُ اعتذاره في حفل الثانوية، ثم تخرجي من الجامعة، والآن في لحظاتِ عمري الخالدة.. تركني ولم يأتِ بصحبتي. ثمةَ ما يخفيه، هذا ما قلتُه في نفسي.

سكنتُ في سكنٍ مستقلٍ بعدَ زواجي، كنتُ أزوره ما بينَ حينٍ وآخر.. والدي يبادلني كلَّ الحب.. ويدعمني بكلِّ شيءٍ.. ويُشعرني بقيمتي.. قال لي يوماً: "كن أباً جيداً لأبنائك". لم أفهم كلمته تلك وقتها، وإن كنتُ عقلتُ معناها (بعد فوات الأوان).

عند منتصفِ الليل في ليلةٍ شاتيةٍ، وصلني صوتُ أمي، تنتحبُ وتبكي رحيلَ والدي! بعد وفاته أحسستُ أني بلا جدرانٍ تحوطني، بلا سندٍ أتكئُ عليه، شعرتُ بفراغٍ كبيرٍ في حياتي، تعاظمت لدي الرغبة في البكاء، البكاء على والدي الذي أحبني حدَّ تحقيقِ جميع رغباتي وكبْتِ مشاعره!

عثرتُ على دفترٍ قديمٍ لوالدي يسجلُ فيه شيئاً من مذكراته اليومية، وهي عادةٌ جرى عليها، ومن قبله جدِّي.. وأثناءَ تقليبي صفحات دفتره، وجدتُ ما كتَبَه يوم حضوره في مدرستي قبل سنواتٍ طويلةٍ تلاشتْ من ذاكرتي!

«صباح السَّابع من فبراير: ذهبتُ اليوم مع ولدي إلى المدرسة، إثر دعوةٍ تلقيتها من مجلسِ الآباء.. كنتُ مسروراً، فرحاً بتفوقه.. كنتُ مزهوًاً به.. لكني للأسف لم أكن بالشكلِ الذي ينبغي، وهو محقٌّ في ذلك، فأنا أجيدُ القراءة والكتابة فحسب، لم أُكمل تعليمي، اضطرتني الحياة، بعد فقْد أمي وزواج والدي من أخرى، أن اعتمدَ على نفسي.. لم أكن أهتمُّ بحالي كثيراً، ولم تُتح لي الحياة فرصةً لذلك.. شعرتُ بحزنٍ شديدٍ لحزن ولدي بسبب حضوري.. ليتني كنتُ قادراً أن أكون أباً يفخرُ به ولده.. لا بأس.. سأتداركُ هذا الخطأ. لن أتسبَّبَ في إحراجه بعد الآن.. كل الحب والمسرات، وليكنْ دربكَ عظيماً، ونيراً يا ولدي».

مضىٰ على قراءتي الرسالة تسعة أعوامٍ، ولا زلتُ أعيشُ في عذابٍ داخليٍّ ينهش فؤادي، لم أهدأ من سؤالاتِ الضمير التي لم تتوقف.

لم أر أحداً ارتسمَت علامات الحزن على وجهه مثلما كانت مرتسمةً على وجه صديقي .. حكى لي ما دارَ بينه وبينَ والده، وهو يعضُّ على شفتيه من الندم، ويغالب دموع عينيه التي كانت تنساب بغزارة.. يشعرُ بخيبةٍ لا حدَّ لها .. يشتهي لحظة عفوٍ وغفرانٍ من والده العظيم، لكن (بعد فوات الأوان) .. لا شيء يعيشُ معه الآن غير الندم! آخر كلمةٍ قالها لي: "الندم قدرٌ محتومٌ مهما فررنا منه".

 

أحبتي في الله .. كثيرةٌ هي المواقف التي يمر بها الإنسان، فيتصرف فيها برعونةٍ أو بغير حكمةٍ، أو تصدر منه كلمةٌ -بقصدٍ أو غير قصدٍ- ثم يندم عليها.

وتحكي لنا قصة هذا الصديق واحداً من تلك المواقف التي تصرف فيها بطيشٍ وتكلم فيها بتهورٍ ثم ندم على ذلك ولكن (بعد فوات الأوان) وظل ندمه مستمراً معه، لا يستطيع أن يُغير ما كان، ولا يستطيع أن يُسامح نفسه على ما بدر منه. كانت كلمةً، ظنها عاديةً أو بسيطةً، لكنها كانت جارحةً بأكثر مما كان يظن، عاشت هذه الكلمة في وجدان أبيه سنواتٍ طوال، جرحت كبرياءه، وحطمت مشاعره، وسرقت منه إحساسه بالفرحة والزهو لتفوق ابنه، لكنها لم تسلب منه حبه لابنه، ولم تعكر نهر عطائه الصافي بلا حدود له، ولم تخدش للحظة حنان الأبوة في صدره.

 

ولقد تعدَّدت صور الندم في القرآن الكريم باستخدام كلمة "نادمين"، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. وباستخدام كلمة "الندامة"، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

كما ورد التعبير عن الندم باستخدام تعبير "يا ليتني"، كما في قوله تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى . يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. واستخدام تعبير "يا ليتنا"، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. واستخدام تعبير "يا ليت"، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.

وورد التعبير عن الندم كذلك بغير هذه الكلمات والتعبيرات.

 

أما في السُنة النبوية فقد جاءت بعض الأحاديث تُوجهنا وتُرشدنا وتقينا من الندم وتُبعدنا عنه؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ].

وورد في الأثر: "ما ندمتُ على سكوتي مرةً، لكنني ندمتُ على الكلام مراراً".

وقال حكيم: "الواجب على العاقل أن يَلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر مَن ندم إذا نطق، وأقل مَن ندم إذا سكت". وقيل: "لا يندم المرء على فعل الجميل ولو أسرف، وإنما الندم على فعل الخطأ وإن قَل". وقالوا: "الندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ".

 

ويذكر أهل العلم أن الندم شعور إنسانيٌّ له أسبابٌ عديدةٌ، إما فعلُ ما يستوجب الندم، أو فواتُ ما يستوجب الندم. والشعور بالندم له مرارةٌ وغُصةٌ لا ينساها مَن يتجرعها، وأشد أنواع الندم ما يكون على التقصير في حق الله تعالى، وفوات رحمته. وعندما يأذنُ الله تعالى للعبدِ أن يستيقظ ضميرُه، ويَنْتَبه عقله، ويستقرَّ فؤاده، ويشعر بأنه يغوصُ في بحرٍ لُجِّيٍّ من الذنوب والمعاصي التي تجرفه بعيداً عن رحمة الله تعالى، حينها ينتفضُ ليُزِيل عن نفسه وَحَلَ المعصية وأدران الذنوب؛ لذلك نجدُ أن الله تعالى قد امتدح النفس اللوَّامة، وأقسم بها في كتابه العزيز؛ يقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.

 

ولما كان الندم في أغلب الأحوال هو لمعصيةٍ اقترفناها، فإنه ينفعنا قول أحد العلماء إن الإنسان لو تذكر عظمة الله تعالى، ولو تذكر نِعَمه عليه، ولو علِم سخطه على العاصي، ولو علِم بشؤم المعصية وما تَجلِبُه من فتن وبلاءٍ، ولو علِم بفرحة الله تعالى بعبده الذي يعود إليه، ولو علم المصير الذي ينتظره لو مات على معصية ربه، ولو علم بالنعيم الذي أعدَّه الله تعالى للتائبين، ما تجرَّأ على المعصية، ولندم وسارع بالتوبة. فما فائدة الندم يوم القيامة، وما قيمة الأسى والاعتراف بالخطأ؟ لا قيمة لشيءٍ من هذا (بعد فوات الأوان).

 

أحبتي .. الندم يشعر الإنسان دائماً بالألم والحسرة، لذا فهو أمرٌ يجب تجنبه والبعد عن أسبابه. والندم نوعان: ندمٌ على شيءٍ يمكن تداركه، وندمٌ يأتي (بعد فوات الأوان) لا نملك أن نصحح أسبابه أو نقلل من آثاره. ولا شك أن النوع الأول هو الأخف وطأةً والأسهل تداركاً. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أن جعل لكلٍ منا نفساً لوامةً تُشعرنا دائماً بالتقصير؛ فنسارع إلى تدارك ما فاتنا من صلاةٍ أو زكاةٍ أو بِرِ والدين ما زالا حيين أو صلةِ رحم أو ظُلمِ إنسان أو أكلِ حقٍ أو كسرِ خاطرٍ أو سوءِ ظنٍ أو غيبةٍ أو نميمةٍ، وما ماثل ذلك؛ حيث يكون التدارك سهلاً ميسوراً، يخفف عن الإنسان مشاعر الأسى والإحساس بالذنب، ويشعره بالرضا في حياته ويُكسبه في الآخرة ثواباً عظيماً.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُلهمنا رشدنا ويتقبَّل توبتنا، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا. اللهم إنا نسألك قبل الموت توبةً، وعند الموت شهادةً، وبعد الموت جنةً ونعيماً.

 

https://bit.ly/2Yxwxle