الجمعة، 21 سبتمبر 2018

يُمهِلُ ولا يُهمِل/2


الجمعة 21 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٣
(يُمهِلُ ولا يُهمِل)

من القصص المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي قصة وزيرٍ ظلم امرأةً فأخذ بيتها ومزرعتها؛ فهددته أن تشكوه إلى الله، فقال مستهزئاً: "لا تنسي الثلث الأخير من الليل". فقامت تدعو عليه في الثلث الأخير من الليل؛ فابتلاه الله بحاكمٍ فوقه، أخذه وسجنه وعذبه، وكل يومٍ يخرجه ويضربه ويجلده، فمرت المرأة فرأته فشكرته على وصيته بقيامها الثلث الأخير من الليل، وقالت:
إذا جارَ الوزيرُ وكاتباه ...
وقاضي الأرضِ أجحفَ في القضاءْ
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ...
لقاضي الأرضِ من قاضي السماءْ

وكتب أحدهم يقول: كنت في عزاء إحدى الأسر، وجلست أواسيهم وأصبرهم وأدعو لميتهم بالرحمة والمغفرة؛ فقام أبو الميت وجلس بجانبي، وأمسك بيدي، وقال: هذا ظلمٌ اقترفته قبل ثلاثين عاماً وما زلت أحصد عقوبته وويلاته ومصائبه إلى يومي هذا؛ فقبل ثلاثين عاماً كنت في ريعان شبابي مزهواً بقوتي، كانت لي سيارةٌ أختال بها على عباد الله. وذات يوم صادفت كلبةً معها جراؤها الصغار، فقلت في نفسي: أصدمُ إحداها؛ لأرى مدى صياح أمها ونباحها. وبالفعل صدمت جرواً منهم بسيارتي؛ فتناثرت دماؤه وأشلاؤه على أمه وهي تعوي وتصيح، وأنا أطالعها وأضحك! منذ ذلك الحين والمصائب تلاحقني دون انقطاع، وكان آخرها البارحة. أوقفت سيارتي على جانب الطريق وطلبت من ابني، ذي الثمانية عشرة عاماً، أحب وأغلى أبنائي إلى قلبي، أرى فيه زهرة شبابي وجميع أحلامي، طلبت منه أن يقطع الشارع ليصور لي بعض الأوراق، ومن شدة حبي له وحرصي عليه نزلت بنفسي ولما تأكدت من خلو الشارع من السيارات قلت له: اعبر، فإذا بسيارةٍ تمر بسرعة البرق تخطفه من أمامي، وتناثرت دماؤه على ثوبي وأنا أطالعه وأبكي وأصيح. وحينها والله تذكرت الكلبة وما فعلتُه بها قبل ثلاثين عاماً.
أحبتي في الله .. إن الله ينتقم للمظلوم ولو بعد حين؛ فهو سبحانه (يُمهِلُ ولا يُهمِل)؛ فهاهو ينتصر للحيوان من إنسانٍ ظلمه، فما بالنا نحن وقد انتشر بيننا ظلم الناس بعضهم لبعض؟! ألم نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾؟ ألم نفهم مقصود قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾؟ أم لا ننتبه إلى وعيده عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
إن الله سبحانه وتعالى يُمهل من عصاه، ويُملي له، فإن تاب إلى ربه ورجع وآب كان ذلك رحمةً من الله تعالى عليه، وإن استمر في طغيانه كان ذلك استدراجاً له، لكن الله لا يهمله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ]، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

كتب أحدهم يقول: أيها الظالم إن الله (يُمهِلُ ولا يُهمِل)، اعلم أن دعوة المظلوم مستجابةٌ لا تُرد، مسلماً كان أو كافراً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ]، فالجزاء يأتي عاجلاً من رب العزة تبارك وتعالى، وقد أجاد من قال:
لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مُقتدراً ...
فالظلمُ آخرُه يأتيكَ بالندمِ
نامت عيونُك والمظلومُ منتبهٌ ...
يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنمِ
فتذكر أيها الظالم: قول الله عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدَىً﴾، وقوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾. وتذكر أيها الظالم الموت وسكرته وشدته، والقبر وظلمته وضيقه، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأحواله، والنشر وأهواله. تذكر إذا نزل بك ملك الموت ليقبض روحك، وإذا أُنزلت في القبر مع عملك وحدك، وإذا استدعاك للحساب ربُك، وإذا طال يوم القيامة وقوفك. وتذكر أيها الظالم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ]. والاقتصاص يكون يوم القيامة بأخذ حسنات الظالم وطرح سيئات المظلوم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُن لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟]، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: [إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ].
إن الله سبحانه وتعالى (يُمهِلُ ولا يُهمِل)، ولا يحنث في وعده بنصر المظلومين والانتقام لهم ممن ظلموهم أياً كانت ملتهم، طال الزمن أم قصر، لا شيء يُنسى، ولا شيء يُترك، وكل شيءٍ محفوظٌ، صغيره قبل كبيره، وحقيره قبل عظيمه؛ فهذه سُنة الله في خلقه: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا﴾، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا﴾.

أحبتي .. ليتقي كلٌ منا الله سبحانه وتعالى ولا يظلم غيره .. كل واحدٍ منا معنيٌ بهذا الأمر، لا أستثني أحداً؛ فلا يجوز للرجل أن يظلم زوجته، ولا للأب أن يظلم أبناءه، ولا للأخ أن يظلم أخواته، ولا للرئيس أن يظلم مرؤوسيه، ولا للمدير أن يظلم موظفيه، ولا للمعلم أن يظلم طلابه، ولا للتاجر أن يظلم زبائنه. وبالإجمال؛ لا ينبغي لأي مسلمٍ رجلاً كان أو امرأةً أن يظلم إنساناً أو حيواناً أو طائراً، ولا أن يظلم شخصاً أياً كان دينه أو عمره أو لونه أو مكانته الاجتماعية. وليتذكر كلٌ منا أن الله سبحانه وتعالى بِعَدْلِه وقدرته (يُمهِلُ ولا يُهمِل).

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين، اللهم نسألك أن تتوب علينا، وألا تؤاخذنا بسوء أفعالنا، ولا بما يفعله السفهاء منا. اللهم جَنِّبْنا أن نكون من الظالمين، وأَنِر بصائرنا حتى لا نؤازرهم أو نبرر أفعالهم أو أن نرضى عنهم ونميل إليهم فيشملنا وعيدك: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾. وأَلزِمنا اللهم سبيل العدل واجعلنا من أهله، ومن الداعين للتمسك به ونشره. اللهم امنحْنا التقوى، وارزقنا الرشاد، واهدنا وسَدِّدْ خُطانا على طريق الحق والخير يا رب العالمين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/8mE3HV

الجمعة، 14 سبتمبر 2018

شؤم المعصية


الجمعة 14 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٢
(شؤم المعصية)

صديقٌ لي، في أوسط العمر، لا يكاد يخلو لقاءٌ أو مكالمةٌ هاتفيةٌ معه من ذكر مشاكله: فالأمراض قد تكالبت عليه، وسيارته لا تنفك في حاجةٍ إلى إصلاح، علاقته مع زوجته سيئةٌ، وابنه الوحيد متأخرٌ دراسياً، عمله لا هو مرتاحٌ فيه ولا يستطيع أن يتركه، مرتبه لا يسد احتياجاته، حتى ناديه الرياضي الذي يشجعه تسببت هزائمه المتوالية في إصابته بارتفاع في الضغط ويخشى أن تصيبه جلطةٌ من نتائجه السيئة!
ذكَّرني في آخر لقاءٍ جمع بيننا بالمقولة الشهيرة لوليم شكسبير: "المصائب لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش!"، فقلتُ له أن شعراء العرب قالوا هذا المعنى قبل أن يُولد شكسبير؛ فقد قال المتنبي:
مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ
ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ
وقال الشافعي:
محنُ الزمانِ كثيرةٌ لا تنقضي
وسرورُها يأتيكِ كالأعيادِ!
وقال كذلك:
تأتي المكارهُ حين تأتي جملةً
وأرى السرورَ يجيءُ في الفلتاتِ!
ثم باغتُّه بسؤالٍ لم يتوقعه مني: "كيف ترى علاقتك باللهِ سبحانه وتعالى؟"، رد باقتضابٍ: "عادية"، لم أرغب في إحراجه أو الضغط عليه؛ فاكتفيت بالقول: "راجع علاقتك بالله سبحانه وتعالى، أصلح ما بينك وبين ربك تنصلح بإذن الله أحوالك. قال بعض السلف: إني لأعصي الله، فأرى ذلك في خُلُق دابتي وامرأتي، وها أنت تشكو من دابتك التي هي سيارتك، وتشكو من امرأتك التي هي زوجتك، فراجع نفسك وابتعد عن المعاصي والذنوب".
استأذن في الانصراف متعللاً بأن لديه موعداً قد تأخر عنه!

أحبتي في الله .. للمعاصي آثارٌ وخيمةٌ، ولها ما يُسمى (شؤم المعصية) التي أشار العلماء إلى أن من مظاهرها:
حرمان العلم؛ فإن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، والمعصية تُطفئ ذلك النور. وحرمان الرزق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرَجُلَ لَيُحْرَمُ اَلْرِزْقَ بِالْذَنْبِ يُصِيبُه]. ووحشةٌ تحصل للعاصي بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس. وتعسير أموره عليه؛ فلا يتوجه لأمرٍ إلا ويجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه. كما يجد العاصي ظلمةً في قلبه، يُحس بها كما يُحس بظلمة الليل، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سواداً يراه كل أحد. ويُحرم الطاعة؛ إذ تنقطع عنه بالذنب طاعاتٌ كثيرةٌ، كل واحدةٍ منها خيرٌ له من الدنيا وما فيها.
والمعاصي تزرع أمثالها، ويُولِّد بعضها بعضاً، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها. كذلك فإن المعاصي تُضعف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئاً فشيئاً. ثم ينسلخ من القلب استقباح المعصية فتصير له عادةً، لا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. والذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين؛ كما في قوله تعالى: ﴿كَلّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

والمصائب التي تصيب الإنسان هي في الغالب نتيجةٌ لمعاصيه؛ قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾.
عندما يبتعد الإنسان عن سبيل الله وعن الطريق المستقيم فإنه يُسَّلِم نفسه للشيطان يقوده إلى أوخم العواقب وهو لا يشعر؛ فيكون من الأخسرين أعمالاً الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وأنهم مهتدون؛ يقول تعالى: ﴿الَّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾.
يقول العلماء إن الإعراض عن ذكر الله، بعدم الالتزام بالعبادات التي أوجبها علينا وبكثرة الذنوب والمعاصي، سببٌ في معاناة الإنسان وكثرة مشاكله وشقائه؛ فالله سبحانه وتعالى يتوعد أولئك الذين يُعرضون عن ذكره بالمعيشة الضنك في الحياة الدنيا وبالعقوبة في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
والمعيشة الضنك تكون بأمورٍ كثيرةٍ يشعر بها العاصي في الدنيا؛ فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره؛ تجد صدره ضيِّقاً حَرَجاً لضلاله، وإن تنعَّم ظاهرُه، ولَبِسَ ما شاء وأكلَ ما شاء، وسكنَ حيث شاء؛ فإنَّ قلبه ما لم يَخْلُص إلى اليقين والهُدى فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشَكٍّ، فلا يزال في ريبه يتردَّد، فهذا من ضَنَك المعيشة.
إن آثار المعاصي والسيئات أمرٌ مشهودٌ في القلوب والأبدان والأموال، لا ينكره ذو بصيرة؛ فإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق. وذلك كله من (شؤم المعصية).
وفي المقابل نجد عز الطاعة في وعد الله سبحانه وتعالى من آمن به وعمل الصالحات بالحياة الطيبة في الدنيا وبحسن الجزاء في الآخرة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾، ويقول عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾، وفي هذا كما ذكر المفسرون وعدٌ من الله تعالى لمن عمل صالحاً بأن يحييه الله حياةً طيبةً في الدنيا، فسرها البعض بالرزق الحلال الطيب، وآخرون فسروها بالقناعة، وقال غيرهم أنها هي السعادة، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله. إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق؛ إنها عز الطاعة التي أشار إليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: "مَنْ أَرَادَ عِزَّاً بِلا عَشِيرَةٍ، وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ، وَغِنىً بِلا مَالٍ، فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَى عِزِّ طَاعَتِهِ".

إنهما طريقان لا ثالث لهما، يختار الإنسان لنفسه أحدهما؛ إما طريق المعصية، وإما طريق الطاعة .. إذا اختار طريق المعصية فليحذر قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى﴾، وإذا اختار طريق الطاعة فليستبشر بقوله تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى﴾، وليعلم أن طريق الطاعة يبدأ بالمشقة والمكاره، لكنها ما تلبث أن تزول ويحل محلها إحساسٌ بالراحة والطمأنينة، على عكس طريق المعصية الذي يبدأ بالشهوات والملذات لكن نهايته الخسران المبين؛ يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ]. وفي هذا المعنى يقول أحد الصالحين: "إن مشقة الطاعة تذهب ويبقى ثوابها، وإن لذة المعاصي تذهب ويبقى عقابها، فانظر أيهما تختار لنفسك". ولأن الصبر مطلوبٌ ومهمٌ فقد قيل:"‏الصبر على الطاعة أعلى مقاماً من الصبر على البلاء؛ لأن الصبر على الطاعة صبر اختيارٍ، والصبر على البلاء صبر اضطرار".

أحبتي .. المسلم الذكي يختار لنفسه طريق الطاعة ويصبر على مشقتها، وهو يعلم يقيناً أنه الطريق إلى مرضاة الله فتكون له المعيشة الطيبة في الحياة الدنيا، ويكون في الآخرة من الفائزين.
علينا أحبتي أن نراجع دائماً علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، فنقلل من ذنوبنا وسيئات أعمالنا؛ لنبعد عن أنفسنا (شؤم المعصية)، ونزيد من طاعاتنا؛ لنضمن الفوز بثمراتها في الدنيا والآخرة؛ فهي السبيل إلى الحياة الطيبة، وهي السبيل إلى تحصيل مرضاة الرب عزَّ وجلَّ والبعد عن سخطه وغضبه والفوز برضوانه ونعيمه المقيم.

هدانا الله وإياكم للبعد عن السيئات، والمحافظة على العبادات، والتقرب إلى الله بالنوافل والأعمال الصالحة والطاعات عسى أن يتقبل الله منا ومنكم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/BUv7Ye

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ


الجمعة 7 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥١
(لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)

كتب يقول: منذ أن بدأت أعفي لحيتي وأنا أعاني من التصنيف ووُضعت في خانة {شيخ}؛ أركب وسيلة المواصلات يسألني السائق: أين تنزل يا {شيخ}؟"، لو أخطأت، فأنا بشرٌ، أجد من يقول لي: "عيبٌ عليك أن تخطئ وأنت {شيخ}"، لو تعصبت وتضايقت أجد من يقول لي: "كيف تتعصب وأنت {شيخ}؟". حتى حُرمت من أن أكون إنساناً يجوز له أن يخطئ ويُذنب ويتوب ويتقبل الله توبته.
أنا لست {شيخاً}، ولا حتى طالب علمٍ، أنا مسلمٌ أعانني الله أن أفعل شيئاً من الدين لا تفعله أنت، وقد تفعل أنت من الدين ما لا أستطيع أنا أن أفعله. قد تكون أنت أفضل مني عند الله مئة مرة،
وقد أفعل ذنوباً لا تفعلها أنت والله يسترني.
علينا أن نتعامل مع الناس بسلوكياتهم وأخلاقهم وليس بمظهرهم، وعلينا أن ننظر إلى أخطاء غيرنا باعتبارهم بشراً وليسوا ملائكةً معصومين.

أحبتي في الله .. عندما قرأت ما كتب هذا الشاب الملتحي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، استدعت ذاكرتي أمثلةً أخرى لتصرفاتٍ تصدر من بعضنا: كعدم الصبر على تجاوزات أو أخطاء بعض الأطفال الصغار أثناء صلاة الجماعة في المسجد، التعليقات غير الحكيمة نقولها لفتاةٍ ربما ترتدي الحجاب لأول مرة، محاسبة شابٍ ملتحٍ على أخطاء بسيطةٍ أو هفواتٍ أو تقصير. رُبَّ كلماتٍ نقولها لهم بقسوةٍ تنفرهم من المسجد، أو من الصلاة، أو من ارتداء الحجاب، أو من إطلاق اللحية. وربما بسبب كلمةٍ غير مناسبةٍ منا أو تصرفٍ غير حكيمٍ ابتعد بعضهم عن طريق الهداية وسبيل الرشاد.
لماذا تسبق كلماتنا القاسية الجارحة أحياناً كلماتنا الحانية المسامحة؟ ولماذا نقسو على غيرنا لمجرد هفواتٍ بسيطةٍ صدرت منهم نتيجة جهلٍ أو قلة فهمٍ أو عدم انتباهٍ أو لظروفٍ خاصةٍ لا ندري عنها شيئاً؟ ماذا إذن لو كان ما صدر منهم أكبر وأعظم من تلك الهفوات البسيطة؟
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، الله سبحانه وتعالى يغفر لمن فعلوا الفواحش والكبائر، فما بالنا نحن لا نغفر لمن يرتكب الهنات والهفوات والصغائر، ولا نتسامح مع من قصَّر أو زلَّ أو أخطأ؟!

تذكرت موقفاً لرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يُعلم فيه أصحابه رضي الله عنهم، ويوجهنا ويرشدنا؛ فقد أُتِيَ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، يقول الراوي من الصحابة: فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: "أَخْزَاكَ اللَّهُ"، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ].وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: [وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، وفي روايةٍ قال: [لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، وَلَكِنْ قُولُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ]؛ ذلك لأنَّ الشيطان يريد بتَزْيينه المعصية للعاصي أن يحصلَ له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حَصَّلوا مقصود الشيطان. ولأن العاصي إذا سمع إخوانه يدعون عليه بمثل ذلك ازداد في عتوّه ونفوره، وأخذته العزّة بالإثم، ولربما أيس من رحمة الله فانهمك في المعاصي والموبقات، ولذلك جاء التوجيه النبوي بأن قولوا: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". هذا التوجيه النبوي للتعامل مع صاحب الكبائر، فأين نحن من هذا التوجيه مع صاحب الصغائر؟!
المؤمن الصادق إذا رأى صاحب معصيةٍ، حمد الله عزَّ وجلَّ في نفسه أن عافاه الله منها، ودعا للمبتلى بها بالتوبة، لا يسبه، ولا يشتمه، ولا يلعنه، ولا يُشهِّر به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلنساعد الناس ونأخذ بأيديهم ليسلكوا طريق التوبة والمغفرة بالمنهج القرآني العظيم: ﴿ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾، لا نُنَصِّب أنفسنا قضاةً على غيرنا ولا نقسو عليهم، وإنما علينا أن نعفو ونصفح لننال مغفرة الله ورحمته سبحانه وتعالى؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿... وَليَعفوا وَليَصفَحوا أَلا تُحِبّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾. ولا ننسى ما كنا نحن عليه قبل أن يمن الله علينا بالهداية؛ يقول عزّ وجلّ: ﴿.. كَذلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرًا﴾، ولنتذكر دائماً التوجيه النَّبَوي الكريم (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)؛ فهو منهجٌ قويمٌ في التعامُل مع أصحاب المعاصي.
وفي الحديث القدسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلِيَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"]. فمَنِ الذي يعلم ما يؤول إليه حال ذلك العاصي غير الله؟! فقد يختم له بخيرٍ، ويختم لمن يقسو عليه بشرٍّ؛ ففي الحديث: [فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُه إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا].
ما أجملَ أن يستشعرَ الإنسان حال توجيه اللَّوم لأخيه العاصي أنه مكانه؛ لو كان الناصح هو الشخص المبتَلَى فماذا يحب أن يسمعَ؟ وكيف يريد مَن حوله أن يتعامَلُوا معه؟ ما أجملَ قاعدةَ: "ضع نفسك مكانه" إذا ما اقترنت بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ).
صدق الله سبحانه وتعالى حين يقول: ﴿فَبِما رَحمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم ...﴾. هذا هو المنهج للتوجيه والإصلاح: أن نرحم ونلين ونبتعد عن الفظاظة والغلظة في القول أو الفعل، ونعفو ونصفح ونستغفر وندعو للمقصرين والمذنبين بالهداية، ونحنو عليهم؛ وإلا ضاع منا أطفالٌ وفتيةٌ وشبابٌ كانوا في بداية طريق الإيمان فانفضوا من حولنا، وابتعدوا عن جادة الصواب والطريق المستقيم لقسوتنا وكلماتنا الجارحة وتصرفاتنا غير الحكيمة.
يقول أحد الوعاظ: "واجبنا نصح العاصي وليس الازدراء منه أو تحقيره أو الاستهزاء به أو التعالي عليه؛ فربما أوقعك تعاليك عليه في نفس ما وقع هو فيه. كن ناصحاً رفيقاً، ودع عنك الكبر والاستهزاء والتعالي".
علينا إذن بمكارم الأخلاق التي قال الشاعر عنها:
إن المكارمَ أخلاقٌ مطهرةٌ
الدينُ أولها والعقلُ ثانيها
والعلمُ ثالثها والحلمُ رابعها
والجودُ خامسها والفضلُ ساديها
والبرُ سابعها والشكرُ ثامنها
والصبرُ تاسعها واللينُ باقيها

أحبتي .. فلنبدأ نحن بأنفسنا أولاً؛ فنصلح من عيوبنا، ثم نرتقي لنكون المثال والقدوة لغيرنا في القول والعمل. ثم إن علينا أن نُعِين غيرنا وقد بدأوا في وضع أقدامهم على الطريق الصحيح، طريق الإيمان والاستقامة، نساعدهم ونأخذ بأيديهم، ونتعامل معهم بحكمةٍ، ونصبر عليهم، ونتجاوز عن هفواتهم، ولا نعين الشيطان عليهم بلعنهم أو تحقيرهم أو الإساءة إليهم، بل ننصح المقصرين والمذنبين، ملتزمين بالمنهج القرآني، متأسيين في التعامل معهم بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام. تذكروا أحبتي، عندما ترون من أخطأ أو زلَّ أو قصَّر، قول خير البشر (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)؛ لا تلعنوه، لا تدعو عليه، وإنما ادعوا له.
ولنعلم أن كل كلمةٍ قاسيةٍ جارحةٍ لها كلمةٌ طيبةٌ رقيقةٌ حانيةٌ مرادفةٌ لها، تؤدي ذات المعنى، فلنتخير كلماتنا، ونتلطف في أقوالنا، امتثالاً لأمر الله: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ فبذلك تتحقق الألفة، وينتشر الخير وتسود المحبة والمودة.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا هداةً مهديين. اهدنا إلى أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت سبحانك. وألهمنا اللهم الحِلم والصبر والحكمة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/oh6Xco

الجمعة، 31 أغسطس 2018

عن الصدق والصادقين


الجمعة 31 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٠
(عن الصدق والصادقين)

تقول الأسطورة الروسية أن الصدق والكذب التقيا من غير ميعادٍ، فنادى الكذب على الصدق قائلاً: "طقس اليوم جميل". نظر الصدق حوله، نظر إلى السماء، فوجد الطقس جميلاً حقاً.
قضيا معاً بعض الوقت، حتى وصلا إلى بحيرة ماءٍ، أنزل الكذب يده في الماء ثم نظر للصدق وقال: "الماء دافئٌ وجيدٌ، فإذا أردت يمكننا أن نسبح معاً؟".
ويا للغرابة؛ كان الكذب محقاً هذه المرة أيضاً، فقد وضع الصدق يده في الماء فوجده دافئاً وجيداً.
قاما بالسباحة بعض الوقت، وفجأةً خرج الكذب من الماء، ثم ارتدى ثياب الصدق وولى هارباً واختفى.
خرج الصدق من الماء غاضباً عارياً، وبدأ يركض في جميع الاتجاهات بحثاً عن الكذب لاسترداد ملابسه. الناس الذين رأوا الصدق عارياً أداروا نظرهم من الخجل والعار. أما الصدق المسكين، فمن شدة خجله من نظرات الناس إليه عاد إلى البحيرة واختفى هناك إلى الأبد.
ومنذ ذلك الحين يتجول الكذب في العالم كله لابساً ثياب الصدق، محققاً كل رغبات الناس، والناس لا يريدون بأية حالٍ أن يروا الصدق عارياً.
حقاً أصبح الكذب يتجول في كل مكان بثباتٍ كما لو كان صدقاً!

أحبتي في الله .. ذكرتني هذه الأسطورة بقول الشاعر:
الكذبُ راقَكَ أنه متجملٌ
والصدقُ ساءكَ أنه عريانُ
من ساءَ من مرضٍ عضالٍ طبعهُ
يستقبحُ الأيامَ وهي حسانُ
وببيت شعرٍ آخر يقول:
والصدقُ يبرزُ في المحافلِ عارياً
والكذبُ لا يكفيهِ ألفُ ستارِ

أثارت الأسطورة في ذهني بعض أسئلةٍ منها: هل اختفى الصدق حقيقةً؟ هل يتشح الكذب بثياب الصدق فعلاً؟ هل لا يريد الناس أن يروا الصدق عارياً؟ وهل يحبون رؤية الكذب الذي يُقدَم إليهم مرتدياً ثياب الصدق؟

(عن الصدق والصادقين) تتفاوت الآراء وتتابين؛ إذا اعتقد البعض أن الصدق قد اختفى، اختلفتُ في الرأي معهم؛ فلا أعتقد أبداً أن الصدق قد اختفى، أو أنه يمكن أن يختفي إلى الأبد. وإذا ظن البعض أنه لا وجود في عالم اليوم للصادقين فأنا لا أشاطرهم الرأي؛ الصادقون كانوا وسيظلوا موجودين، وإن قَلَّ عددهم وخفتت أصواتهم، وخفَّ تأثيرهم.
أما الناس فإن منهم من يميلون مع الهوى ويصدقون الكاذبين؛ فيرتاحون إلى من يُزين لهم أعمالهم، تماماً كما يفعل الشيطان مع الإنسان ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ فيصدقون من يتوهمون أنه يحقق لهم مصالحهم حتى ولو كان كاذباً؛ وما قصة خروج آدم عليه السلام من الجنة إلا مثالٌ على ذلك؛ حينما كذب الشيطان على آدم عليه السلام وقال له: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾. المشكلة ليست في أن يكذب الشيطان، المشكلة في أن هناك من يصدق كذبه ويظنه الصدق؛ فمن الناس من يُخدَع بمن يُحسِن الكلام ويُـشهد الله على ما في قلبه فيصدقونه وهو كاذب؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.
ومن الناس من أدمن الكذب، هؤلاء لأنهم عودوا أنفسهم على الكذب في الدنيا تراهم يحلفون لله يوم القيامة، وهم وقوفٌ بين يديه عزّ وجلّ، يحلفون له سبحانه بالكذب كما كانوا يحلفون للناس! يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.

و(عن الصدق والصادقين) يقول أهل العلم إن الصدق من صفات الله عز وجل؛ قال سبحانه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾. والصدق من صفات الأنبياء والرسل: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾؛ فهذا إبراهيم عليه السلام دعا الله سبحانه وتعالى وقال: ﴿.. اجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، فاستجاب له ربه ووهبه الصدق ووصفه به: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾، ووصف إدريس عليه السلام بذات الصفة: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ..﴾. ووهب سبحانه لكلٍ من إبراهيم وإِسْحَاق وَيَعْقُوب عليهم السلام لسان صدقٍ عليا: ﴿.. وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾. ووصف عزّ وجلّ إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾، أما يوسف عليه السلام فسُمي صديقاً من كثرة وشدة صدقه: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ..﴾.
وأمر الله نبينا الكريم أن يسأله الصدق في المُدخَل والمُخرَج، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق في قومه، قبل البعثة، فلُقِّب بالصّادق الأمين، حتى إنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما صَعِدَ عَلَى جبل الصَّفَا، للجهر بالدعوة قال لبطون قريشٍ: [أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟]، قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقاً، وفي روايةٍ: ما جربنا عليك كذباً. وبعد البعثة المباركة جاء الوحي ليثبت صفة الصدق فيه عليه الصلاة والسلام؛ قال عزّ وجلّ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ..﴾.
ولقد أمرنا الله تعالى بالصدق فقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، وحثنا على الصدق في الشهادة ولو على أنفسنا أو الوالدين أو الأقربين؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ..﴾، وقال: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾، ونهانا عن الكذب؛ فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، وكتب عدم الفلاح على الكاذبين؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: [عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً].
ولما للصدق من رابطةٍ قويةٍ بالإيمان، فقد جوّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتصف المؤمن بما لا يُحمد من الصفات إلا أن يكون كاذباً؛ فقد سأل الصحابة فقالوا: يا رسول الله أيكون المؤمن جباناً؟ قال: [نعم]، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: [نعم]، قيل له: أيكون المؤمن كذَّاباً؟ قال: [لا].

يقول الشاعر (عن الصدق والصادقين):
الصدقُ أفضلُ شيءٍ أنت فاعلهُ
لا شيءَ كالصدقِ لا فخرٌ ولا حسبُ
ويقول آخر:
والمرءُ ليس بصادقٍ في قولهِ
حتى يؤيدَ قولهُ بفعالهِ
وهذا ثالثٌ يقول:
الصدقُ من كرمِ الطباعِ وطالما
جاءَ الكذوبُ بخجلةٍ ووجومِ
ويقول رابعٌ:
ألا إن الصدوقَ ينالُ خيراً
ويكتسبُ الفضائلَ والسيادة

أحبتي .. أتأمل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ وأقول في نفسي: "إذا كان أهل الصدق سيُسألون، فيكف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب؟!".
تذكروا أحبتي هذه الحكمة ولا تنسوها أبداً: "الصدق في أقوالِنا أقوى لنا، والكذب في أفعالِنا أفعى لنا".
عليكم بالصدق، التزموه قولاً وعملاً، وربوا أبناءكم عليه، فالخير، كل الخير، في اتباعه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾، احذروا الكذب وحَذِّروا أبناءكم منه؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون﴾. علموهم أن الصدق من صفات المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، وقال سبحانه:﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾، وأخبروهم أن في الصدق سكينة الروح وراحة النفس وطمأنينة القلب؛ قال عليه الصلاة والسلام: [… فإن الصدق طمأنينةٌ، والكذب ريبةٌ].
واسعوْا واجعلوهم يسعوْن معكم للفوز بثمرة الصدق: الجنة ومرضاة الله، وذلك هو الفوز العظيم؛ يقول تعالى: ﴿هَذَا يَوْم يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

اللهم اجعلنا مع الصادقين، وحبب إلينا الصدق حتى ننال مرتبة الصديقين فنحظى برضاك ورضوانك ونكون من الفائزين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KhHzAy


الجمعة، 24 أغسطس 2018

أمسك عليك لسانك


الجمعة 24 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٩
(أمسك عليك لسانك)

تقول القصة أن فلاَّحاً ثار على صديقه وقذفه بكلماتٍ جارحةٍ آلمته، ثم شعر الفلاح بالندم فعاد إلى صديقه ليعتذر له، وطلب منه الصفح والعفو خجلاً من سوء ما تفوه به، فقبل الصديق اعتذاره. لكن الفلاح، وفي لحظات محاسبةٍ لنفسه، أحس بالذنب ولام نفسه لخروج مثل هذه الكلمات الجارحة من فمه، وأراد أن يعرف أثر كلماته على صديقه؛ فقصد حكيم القرية وحكى له ما جرى بينه وبين صديقه، وسأله: "هل ما يزال لكلماتي الجارحة أثرٌ في نفس صديقي بعد أن اعتذرت له؟"، قال له الحكيم: "إن أردت أن تعرف؛ املأْ كيساً بمسامير، ومُرْ على كل بيتٍ من بيوت القرية، وثبِّت مسماراً على باب كل بيت، ثم ارجع إليّ". استجاب الفلاح وثبَّت المسامير، ثم عاد إلى الحكيم الذي قال له: "كي لا يبقى لكلماتك الجارحة أثرٌ؛ اذهب الآن بسرعةٍ واجمع المسامير كلها من على جميع الأبواب، فإن لم تجد لأحدها بعد أن تقتلعه أثراً فستعود كلماتك الجارحة التي كنت قلتها لصديقك إلى مكانها بغير أن تترك أثراً!"، حزن الفلاح عندما سمع هذا، فقال له الحكيم: "إن كل كلمةٍ تنطق بها كالمِسمار تغرسه؛ ما أخفَّ أن تدقَّه، وما أصعب أن تنزعه دونما أثر"! قال الفلاح: "لكني اعتذرت له"، قال الحكيم: "اعتذارك ما هو إلا خلعك لتلك المسامير حتى لا يزداد أثرها!".

أحبتي في الله .. حينما طالعت هذه القصة، تذكرت مواقف كثيرةً كنا نحن فيها، دون أن نقصد، سبباً في إيلام أصدقائنا وأحبائنا؛ فكم من كلمةٍ خرجت من أفواهنا جرحت غيرنا بأكثر من جرح السكين، لكن لأننا لم نرَ أمام أعيننا نزف الدم الذي يتركه السكين لم نكترث كثيراً لنزفٍ أكبر وأكثر إيلاماً يحدث في صدر وقلب من قلنا له كلمةً جارحةً حتى ولو بغير قصد!
صدق الشاعر إذ قال:
وقد يُرجىٰ لجُرْحِ السَيفِ برءٌ
ولا برءٌ لما جَرَحَ اللِسَانُ
جِراحاتُ السنانِ لها التئامُ
ولا يَلتامُ ما جَرَحَ اللِسَانُ
وجُرْحُ السَيفِ تُدمله فيبرىٰ
ويَبقىٰ الدَهرُ ما جَرَحَ اللِسَانُ
قد تكون كلمة سبابٍ أو إهانةٍ أو تحقيرٍ أو استعلاءٍ أو تسفيهٍ أو استهزاءٍ أو سخريةٍ، وقد تكون كلمة كذبٍ أو افتراءٍ أو نفاقٍ أو غيبةٍ أو نميمةٍ أو شهادة زور.
ربما صدرت من زوجٍ لزوجته، أو من رئيسٍ في العمل لأحد العاملين معه، أو من أبٍ أو أمٍ لابنهما أو بنتهما.
كثيرةٌ هي تلك المواقف التي ننسى فيها ما نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ]، ونتجاهل فيها الحكمة المشهورة: "ما من شيءٍ أولى بطول سجنٍ من لسانٍ!"، فإذا الكلمات الجارحة تصدر منا كأنها سهامٌ مسمومةٌ، تؤلم، ويزيد من إيلامها أن تصدر عن شخصٍ عزيزٍ علينا أو قريبٍ منا أو له منزلةٌ خاصةٌ في نفوسنا؛ فكلما كان ذلك الشخص غالياً علينا كلما كان الجرح الذي تتركه كلماته أكثر إيلاماً.
إن اللسان كما أنه أداةٌ أساسيةٌ لتواصلنا مع غيرنا، فإنه يمكن أن يتحول في أقل من لمح البصر إلى أداة قطعٍ للتواصل وهدمٍ للعلاقات وذبحٍ للعواطف.

الكلمة الطيبة مطلوبةٌ في كل وقتٍ ومع كل شخصٍ وفي جميع المواقف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ]، وقوله أيضاً: [اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ]. والكلام الطيب سببٌ للفوز برضوان الله، والكلام السيئ سببٌ مباشرٌ لهلاك صاحبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ].
يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، تعبر هذه الآية عن مدى أهميّة اختيار الكلمات والأسلوب المناسب للحديث، وتبرز أهميّة الكلمة الطيّبة وتأثيرها على النّفس والروح؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.
والكلمة الطيبة تُطمئن النفس، وَتُؤلف بين القلوب، كما أنها تُحَوِّل العدو إلى صديقٍ بإذن الله، ويالروعة البيان القرآني حين نقرأ توجيهاً ربانياً لكل البشر لو أننا التزمنا به لصارت حياتنا أكثر راحةً وسلاماً؛ يقول المولى عز وجل: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.
وإذا لم يكن الإنسان قادراً على أن يقول الكلمة الطيبة فليمسك عليه لسانه؛ فقد جاء أحد الصحابة إلى النبي يسأله عما ينجيه؛ فقال له عليه الصلاة والسلام: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ].
فكما أن اللسان هو أول ما يُنجي الإنسان من العذاب في الآخرة، فهو أول ما يكون سبباً في دخول الناس النار والعياذ بالله؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأحد الصحابة: [ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ]؛ إنها مجرد كلمةٍ لا يُلقي لها الإنسان بالاً، يفرق فيها بين اثنين، يفسد العلاقة بين أخوين، يسبب شقاقاً بين زوجين، يكون بها سبباً لحزن إنسان، بكلمةٍ يقولها لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها، والعياذ بالله، في جهنم سبعين خريفاً.

واستقامة الإنسان تبدأ من استقامة لسانه، والتزامه بتوجيه النبي الكريم (أمسك عليك لسانك)؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ].

أحبتي .. كي يستقيم لساننا علينا ألا نتسرع في الكلام، علينا أن نفكر في كل كلمةٍ تخرج من أفواهنا قبل أن ننطق بها، نحن أحرارٌ قبل أن نتكلم؛ فإذا تكلمنا صرنا أسرى كلماتنا! ليس معنى (أمسك عليك لسانك) أن نمتنع عن الكلام، بل المعنى أن نتريث فلا نعجل؛ يقول الشاعر:
اِسْمَعْ مُخاطَبةَ الجَليسِ ولا تَكُنْ
عَجِلاً بِنُطْقِكَ قَبْلَما تَتَفَهَمُ
لَمْ تُعْطَ مَعَ أُذُنَيْكَ نُطْقَاً وَاحِداً
إلاَ لِتَسْمَعَ ضِعْفَ مَا تَتَكَلَمُ
كما أن علينا أن نتخير أجمل وأفضل وأحسن ما يمكن أن نتفوه به من ألفاظٍ، وننتقي من الكلمات التي نوجهها لغيرنا ما نحب أن نسمعه منهم؛ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: [لاَ يُؤمِنُ أَحدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه]، ويقول صلى الله عليه وسلم: [أَحِبَّ للنَّاسِ ما تُحبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسلماً].

ولكل من تلقى مني كلماتٍ جارحةً في يومٍ من الأيام، سواءً اعتذرت له أم لم أعتذر، أرجو منه أن يكون أفضل مني فيتصدق عليّ بالصفح والمسامحة؛ عسى الله سبحانه وتعالى أن يكتب ذلك في ميزان حسناته، وعسى أن أتخفف من أوزاري، فكفاني ما لديّ منها أدعو الله أن يغفرها لي، وأطلب منكم أحبتي أن تدعوا لي بظهر الغيب بالعفو والمغفرة.

اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك تعلم ما لا نعلم، وأنت الغفور الرحيم. واجعلنا اللهم ممن يمسكون ألسنتهم إلا عن كلمات الخير والحق.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/b7LY4j

الجمعة، 17 أغسطس 2018

قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد


الجمعة 17 أغسطس 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٨
)قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد(

كتب أحد الإخوة السعوديين يقول: ركبنا أنا وخالي سيارتنا وأخذنا طريق العودة بعد أن صلينا الجمعة في مكة، وبعد قليلٍ، ظهر لنا مسجدٌ مهجورٌ كنا قد مررنا به سابقاً أثناء قدومنا إلى مكة، وكل من يمر بالخط السريع يستطيع أن يراه. مررت بجانب المسجد وأمعنت النظر فيه، ولفت انتباهي شيءٌ ما؛ سيارةٌ زرقاء اللون تقف بجانبه، مرت ثوانٍ وأنا أفكر ما الذي أوقف هذه السيارة هنا؟ ثم اتخذت قراري سريعاً؛ خففت السرعة ودخلت على الخط الترابي ناحية المسجد وسط ذهول خالي وهو يسألني: ما الأمر؟ ماذا حدث؟. أوقفنا السيارة ودخلنا المسجد، وإذا بصوتٍ عالٍ يرتل القرآن باكياً ويقرأ من سورة الرحمن، فخطر لي أن ننتظر في الخارج وأن نستمع لهذه القراءة، لكن الفضول قد بلغ بي مبلغه لأرى ماذا يحدث داخل هذا المسجد المهدوم ثلثه، والذي حتى الطير لا يمر به. دخلنا المسجد وإذا بشابٍ وضع سجادة صلاةٍ على الأرض وفي يده مصحفٌ صغيرٌ يقرأ فيه، ولم يكن هناك أحدٌ غيره. قلت: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"؛ فنظر إلينا وكأننا أفزعناه، مستغرباً حضورنا، ثم قال: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"، سألته: "هل صليتَ العصر؟"، قال: "لا"، قلت: "لقد دخل وقت صلاة العصر؛ هيا نصلي جماعة". ولما هممت بإقامة الصلاة وجدت الشاب ينظر ناحية القبلة ويبتسم، لمن؟ ولماذا؟ لا أدري، فجأةً سمعت الشاب يقول جملةً أفقدتني صوابي؛ قال: "أبشر، وصلاة جماعة أيضاً". نظر إليّ خالي متعجباً؛ فتجاهلت نظرته ثم أقمت الصلاة وعقلي مشغولٌ بهذه الجملة: "أبشر، وصلاة جماعة أيضاً!". من يكلم هذا الشاب وليس معنا أحد؟ المسجد كان فارغاً مهجوراً، هل هو مجنون؟  بعد أن صلينا أنا وخالي وصلى الشاب معنا أدرت وجهي ونظرت إليه وكان مستغرقاً في التسبيح، ثم سألته: "كيف حالك يا أخي؟"، فقال: "بخيرٍ ولله الحمد"، قلت له: "سامحك الله؛ شغلتني عن الصلاة؟"، سألني: "لماذا؟"، قلت: "وأنا أقيم الصلاة سمعتك تقول أبشر، وصلاة جماعة أيضاً"، ضحك ورد قائلاً: "وماذا في ذلك؟"، قلت: "لا شيء، ولكن مع من كنت تتكلم؟"، ابتسم ثم نظر للأرض وسكت لحظاتٍ وكأنه يفكر هل يخبرني أم لا؟، تابعت قائلاً: "ما أعتقد أنك مجنون؛ شكلك هادئٌ جداً، وصليت معنا ما شاء الله"، نظر إليّ ثم قال: "كنت أكلم المسجد!". نزلت كلماته عليّ كالقنبلة؛ جعلتني أفكر فعلاً؛ هل هذا الشخص مجنون؟  قلت له: "نعم؟ كنتَ تكلم المسجد؟ وهل رد المسجد عليك؟"، تبسم ثم قال: "وهل تتكلم الحجارة؟ هذه مجرد حجارة"، قلت: "كلامك صحيح؛ وطالما أنها لا ترد ولا تتكلم لِمَ تكلمها؟"، نظر إلى الأرض فترةً وكأنه مازال يفكر، ثم قال دون أن يرفع عينيه: "أنا إنسانٌ أحب المساجد؛ كلما عثرت على مسجدٍ قديمٍ أو مهدمٍ أو مهجورٍ أفكر فيه، أفكر عندما كان الناس يُصلون فيه، وأقول لنفسي يا الله كم هذا المسجد مشتاقٌ لأن يصلي فيه أحد؟ كم يحن لذكر الله؟ ..أحس به .. أحس إنه مشتاقٌ للتسبيح والتهليل .. يتمنى أن يسمع آيةً واحدةً تهز جدرانه .. أحس أن المسجد يشعر أنه غريبٌ بين غيره من المساجد .. يتمنى ركعةً .. سجدةً .. يتمنى لو عابر سبيلٍ يقول الله أكبر .. فأقول لنفسي: {واللهِ لأطفئن شوقك .. واللهِ لأعيدن لك بعض أيامك} ..أدخل فيه وأصلي ركعتين لله ثم اقرأ فيه جزءاً كاملاً من القرآن الكريم، لا تقل أن هذا فعلٌ غريبٌ .. لكني والله أحب المساجد". دمعت عيناي .. نظرتُ إلى الأرض مثله لكي لا يلحظ دموعي .. تأثرت بكلامه، بإحساسه، بأسلوبه، وبفعله العجيب .. إنه شابٌ تعلق قلبه بالمساجد.

أحبتي في الله .. إن تعلق القلب بالمساجد يظهر في شدة حب المسلم الجلوس فيها، كلما خرج منها لا يرتاح حتى يعود إليها، يلازم الجماعة فيها، يتردد عليها دائماً؛ فلا يصلي صلاةً إلا في المسجد، ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر صلاةً أخرى ليعود فيصليها فيه، قلبه معلقٌ بكل مسجد.
مثل هؤلاء ذكرهم الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ﴾، حقاً إنهم رجالٌ قد تعلقت قلوبهم ببيوت الله.
عن هؤلاء الذين لهم (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [سَبْعةٌ يُظلُّهم اللَّهُ في ظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظلُّه، ...] وذكر منهم "رجلٌ قلبُه مُعلّقٌ بالمساجدِ".
يقول العلماء أن هذا الحديث يحدد الأصناف السبعة من الناس الذين يظفرون باستظلالهم بظل الرحمن، تبارك وتعالى، يوم القيامة، حين يكون جميع الخلق أحوج إلى الظل من أي يومٍ آخر؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، ...]؛ فبينما الناس يتلظون بعرقهم من شدة حرارة اللهيب فوق رؤوسهم في ذلك اليوم العصيب؛ يُنعِم الله برحمته على أولئك الأصناف من الناس بأن يظلهم بظله، ومن هؤلاء: الذين لهم (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد)، يصفهم أهل العلم بأن لهم مع المسجد علاقةٌ فريدةٌ، لا يتأخرون عن الصلاة؛ بل تراهم أول من يقدم للمساجد، وربما آخر من يخرج منها. تراهم لا يفوّتون التكبيرة الأولى للصلاة، هَمُّ أحدهم أن يدنو من الإمام، وأن يدرك الصف الأول. يأتون للمساجد ولو نأت وبعُدت، ويتحرون أن يأتوا على أقدامهم؛ لأنهم يعلمون أن الله يكتب لمن مشى للمسجد وقد توضأ بكل خطوةٍ حسنةً، ويكفر عنه سيئةً. يؤدون الصلاة في المساجد لا في البيوت، ولا يتخلفون عنها إلا لظرفٍ لا يقدرون معه على الحضور. يخرجون للمساجد ولو في الظُلَم لصلاة الفجر ونُصبَ أيديهم بشرى الحبيب عليه السلام: [بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. لا يضجرون من طول مُكثهم في المسجد، بل ربما سعوْا إلى ذلك، وهم يعلمون أن الملائكة تصلي على المرء ما دام في المسجد، تقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". هم في ضمان الله حتى يرجعوا، وهم وفد الله أعد لهم نُزلهم حتى يخرجوا، وهم في ذمة الله حتى يمسوا. لهؤلاء مع المسجد علاقة أنسٍ قلبيٍ، وانشراحٍ وسرورٍ يجدونه في بيت الله، ولا يجدون مثيله في غيره من الأماكن، شعورهم وإحساسهم بأنهم وهُم في المسجد إنما هُم في بيت محبوبهم الأعظم تبارك وتعالى، ومن خرج من بيت محبوبه تاق إلى العودة إليه، منذ اللحظة التي يخرج فيها منه، فلا تكاد قلوبهم تهدأ وتطمئن وتسكن حتى يعودون إلى ذلك البيت مرةً أخرى.
ومن الناس من يجد سروره في الأسواق، فقلبه معلقٌ بها حتى يعود إليها، ومن الناس من قلبه معلقٌ بالمسارح أو الملاعب أو دور اللهو؛ فقلوب العباد تتعلق بالأماكن بحسب ما في تلك القلوب من خيرٍ وشرٍ، إيمانٍ وكفرٍ، وقربٍ من الله وبعدٍ عنه. فتعلق القلب بالمسجد يعني تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وهذا التعلق هو الباقي للعبد دون غيره، فتعلق القلب بالمنكرات وأماكنها، وبالفساد وأهله تعلقٌ مشئومٌ، ما لم يلطف الله بصاحبه، فيعود إلى ربه، وإلا فسوف يصحو من سكرته على الندم والحسرات.
وصاحب القلب المعلق بالمسجد لا يُستلزم منه دوام المُكث فيه؛ ليس ذلك بالضرورة؛ لأن المعلق بالمسجد إنما هو القلب لا الجسد، فهذا العبد كغيره من الناس، يسعى في طلب رزقه، ويشتغل ليسد حاجته، وحاجة عياله، ويغدو ويروح، لكن قلبه دائم الشوق للمسجد، ينتظر الأذان بحرارة المتلهف، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ]، أي أنه إذا صلى مع الجماعة صلاةً جلس في المسجد ينتظر الصلاة التالية، أو يكون في بيته، أو يشتغل بكسبه، وقلبه متعلقٌ بها ينتظر حضورها؛ فقلب من تعلق بالمسجد، يتوق إلى الرجوع إليه، وسبيله في ذلك سبيل نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم عندما كان يقول لبلالٍ رضي الله عنه: [أرحنا بها يا بلال]، لا كسبيل غيره ممن يكون بالمسجد أشبه بالطير الحبيس في القفص، لسان حاله يقول: "أرحنا منها يا إمام!"، يتململ، ويتأفف وينتظر لحظة إقامة الصلاة على أحر من الجمر، فإذا قُضيت الصلاة فر من مكانه بسرعةٍ، وكان أول الناس خروجاً من بيت الله.

أحبتي .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا]. ويقول العارفون بالله أن تعلق القلب بالمسجد تابعٌ لمحبة العبد لله سبحانه وتعالى، ولو أخلص العبد المحبة لله لتعلق قلبه بالمسجد؛ فما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله، محبةً وإنابةً ورغبةً ورهبةً وخوفاً ورجاءً وإخلاصاً وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّداً.
كلنا يرجو أن يظله الله تعالى بظله يوم لا ظل إلا ظله، لكن الأماني لا تصنع شيئاً، ولن يرتقي القلب إلى تلك العلاقة الحميمة بينه وبين المسجد، حتى يحرص صاحبه على تزكيته وتطهيره من أدران الذنوب، وحينها سيكون قلبه دائم الشوق لبيوت الله، ولا يحصل هذا إلا لمن ملكوا أنفسهم، وقادوها إلى طاعة الله، وصبروا عليها فانقادت لهم: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

علينا أحبتي، حتى نحظى بهذا الشرف العظيم، ألا وهو أن يظلنا الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، أن تكون لنا (قلوبٌ معلقةٌ بالمساجد) بالحرص على: صلاة الجماعة على وقتها في المسجد، كثرة الخطى للمساجد، التبكير للذهاب إلى المسجد، اللحاق بالصف الأول وتكبيرة الإحرام، انتظار الصلاة بعد الصلاة، وعمارة المساجد وصيانتها والإنفاق عليها.

اللهم اجعل قلوبنا معلقةً بالمساجد التي هي أطهر الأماكن في الأرض، وخَلِّص أعمالنا من الرياء والنفاق والعجب والكبر والخيلاء، وتقبل اللهم صلاتنا وسائر أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/brQHcD