الجمعة، 26 يونيو 2020

وكان أبوهما صالحاً

الجمعة 26 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٥

(وكان أبوهما صالحاً)

 

قصةٌ حقيقيةٌ يرويها شابٌ سعوديٌ بنفسه فيقول: كنا خمسةً من الشباب وصلنا الصباح ونصبنا خيمتنا على شاطئ البحر، وكالعادة ذبحنا الذبيحة، وجهزنا كل شيءٍ لزوم الأكل والشرب والترويح واللعب والمتعة. بصراحةٍ كنتُ أنا -وأعوذ بالله- الوحيد بينهم الذي لا يُصلي، كان عمري وقتها 21 سنة، لم أركع خلالها ركعةً واحدةً، رغم أن أبي إمام مسجدٍ، وكنتُ أطيعه في كل شيءٍ يقوله ويأمر به إلا الصلاة! لم أسمعه في حياتي -ولله الحمد- يدعو عليّ؛ بل كان يقول دائماً: "يهديك الله ويُصلح حالك". كان يوقظني للصلاة فأخرج أدور بالسيارة وأرجع بعد انتهاء الصلاة، وأبي لا يعلم؛ فهو أول مَن يدخل المسجد وآخر مَن يخرج منه؛ لذلك كان يظن أني أذهب للمسجد بعده لأصلي مع الجماعة ثم أعود إلى المنزل قبله! كنتُ عاصياً لدرجةٍ غير طبيعية.

المهم بعد أن تناولنا طعام الغداء، جهز الشباب عدتهم للنزول إلى البحر في رحلة غوصٍ، وكان لابد أن يبقى واحدٌ منا يجلس في الخيمة، جلستُ أنا حيث لم أكن أجيد الغوص. جلستُ وحدي في الخيمة، وكانت بالقرب من خيمتنا خيمةٌ أخرى بها شبابٌ، قام أحدهم وأذَّن؛ فرأيتهم يتجهزون للصلاة، قلتُ -تجنباً للإحراج- أنزل للسباحة في البحر حتى ينتهوا من صلاتهم. لبستُ زي السباحة ونزلتُ إلى البحر، مشيتُ إلى أن وجدتُ منطقةً تصلح للسباحة؛ لا هي عميقةٌ ولا هي قريبةٌ من الشاطئ. سبحتُ وسبحتُ وسبحتُ، إلى أن تعبتُ فقلتُ في نفسي: الأفضل أن أنام على ظهري واسترخي بجسمي لأرتاح قليلاً ثم أرجع، نمتُ على ظهري بالفعل وجلستُ أطفو، وأنا في غاية الاستمتاع، فجأة أحسستُ كأن شيئاً يسحبني إلى القاع، وإذا بي أنزل من تحت سطح الماء إلى الأعماق، حاولتُ بكل جهدي أن أقف على الأرض وأدفع نفسي إلى الأعلى، ظاناً أن المسافة تحتي مترين تقريباً، لكني اكتشفتُ أنني وأنا أسبح بعدتُ ونزلتُ في جُرفٍ ودوامةٍ دون أن أدري، ووصلت إلى منطقةٍ عمقها حوالي خمسة أمتار، حاولتُ الخروج من هذه الدوامة فلم أستطع؛ أحسستُ كأن شخصاً يُمسك بي من رأسي ويدفعني تحت الماء بقوة، حاولتُ بكل الطرق التي تعلمتها في النادي ولم أستطع، كنتُ في حالةٍ لا أُحسد عليها، خائفاً مضطرباً إلى أقصى حدٍ، وأحسستُ أني لا شيء، أحسستُ وقتها أني أضعف من ذبابة. بدأ النفَس يضيع، وأُحسستُ بالدم يحتقن في رأسي؛ فأيقنتُ أن الموت يقترب مني! بدأت أتذكر أبي وأمي وإخواني وأقاربي وأصحابي والجيران والعامل في البقالة وكل شخصٍ مرَّ عليّ بحياتي، تذكرتُ كل شيءٍ سويته، كل ذلك في ثوانٍ معدودةٍ، تذكرتُ بعدها نفسي! بدأتُ اسأل نفسي: صليت؟ لا، صُمت؟ لا، حجيت؟ لا، تصدقت؟ لا. أنت في طريقك إلى ربك مفارقٌ لدنياك مودعٌ أصحابك، ماذا تقول عندما تلقى الله؟

فجأةً سمعتُ صوت أبي وهو يناديني باسمي ويقول: "قُم صلِ"، تكرر الصوت بأذني ثلاث مراتٍ بعدها سمعتُ صوته وهو يؤذن، أحسستُ أنه سوف يأتي لإنقاذي؛ صرتُ أنادي عليه وأصيح

باسمه، والماء يدخل في فمي، أصيح وأصيح، وما من مُجيب. أحسستُ بملوحة الماء تتسلل إلى أعماق جسمي، وبدأ النَفَس يتقطع؛ فتأكدتُ أنها سكرات الموت، وأني أشرفتُ على الهلاك، حاولتُ أن أنطق بالشهادتين؛ قلتُ: أشهـ..... أشهـ..... ولم أستطع أن أكملها كأن هناك يداً قابضةً على حلقي تمنعني من نُطقها، أحسستُ أن روحي بدأت تخرج من جسدي، وتوقفتُ عن الحركة.

هذا آخر شيءٍ كنتُ أتذكره، استيقظتُ فإذا أنا في الخيمة، يقف عند رأسي جنديٌ من خفر السواحل والشباب الذين لهم خيمةٌ قريبةٌ من خيمتنا، عندما فتحتُ عينيّ قال لي الجندي: "حمداً لله على السلامة" ثم مشى، سألتُ الشباب: "مَن هذا؟ ومتى جاء؟ وكيف؟"، قالوا لا ندري، جاء فجأةً وأخرجك من البحر، ثم مشى فجأةً كما رأيتَ"، سألتهم: "هل رأيتموني وأنا في الماء؟"، قالوا مع إننا كنا على الشاطئ فإننا -قسماً بالله- لم نرك! ما شعرنا بك إلا عندما جاء هذا الجندي من خفر السواحل وأخرجك من البحر، علماً بأن مركز خفر السواحل يبعد عن خيمتنا حوالي عشرين كيلو متراً في الطريق البري، ويحتاج ما لا يقل عن ثلث ساعة حتى يصل إلينا إذا وصله بلاغٌ منا، وحادث غرقك حدث في دقائق معدودةٍ!

هؤلاء الشباب -وهم أقرب الناس مني وقتها- يحلفون أنهم لم يروني ولم يبلغوا خفر السواحل؛ فكيف رآني هذا الجندي ووصل إليّ من ذلك المكان البعيد ثم أنقذني وانصرف؟! أقسم بالله الذي خلقني أني إلى يومي هذا لم أجد إجابةً عن هذا السؤال!

رنَّ هاتفي الذي كنتُ قد تركته مع أغراضي، فتحتُ الخط فإذا هو صوت أبي، بدأت الأمور تزداد غموضاً؛ قبل قليلٍ سمعتُ صوته يقول: "قُم صلِ" والآن يتصل؟! سألني: "كيف حالك؟ ما أخبارك؟ هل أنت بخير؟"، وكرر ذلك أكثر من مرةٍ، طمأنته، ولم أخبره بما حدث لي حتى لا يقلق، لكني كنتُ في حالة صدمةٍ وذهول. أنهيتُ المكالمة وقمتُ صليتُ ركعتين -في حياتي ما صليت مثلهما- ركعتين صليتهما في نصف ساعةٍ، ركعتين صليتهما بقلبٍ صادقٍ خاشعٍ، وبكيتُ فيهما حتى بُحّ صوتي. عاد أصدقائي من الغوص، وعلموا بما حدث، وأصابهم -كما أصابني وأصاب الشباب الآخرين- الذهول، وشاهدوا حالي فقرروا العودة فوراً.

رجعتُ إلى البيت، طرقتُ الباب فإذا أبي هو الذي فتح لي الباب، نظر إلى وجهي وقال: "تعال معي"، أخذني إلى غرفته، وكنا بمفردنا أنا وهو، قال لي: "أمنتك وسألتك بالله، ماذا صار معك عصر اليوم؟"، تفاجأتُ بالسؤال، واندهشتُ وارتبكتُ حتى أني لم أنطق ببنت شفة! أحسستُ كأن لديه خبراً عما حدث. كرر السؤال مرتين. حكيتُ له ما حدث، قال: "واللهِ إني سمعتك تناديني وأنا ساجدٌ السجود الثاني في آخر ركعةٍ وكأنك في مصيبةٍ، تناديني بصياحٍ، وأحسستُ بأن قلبي يكاد ينخلع من بين ضلوعي وأنا أسمع صوتك، سجدتُ ودعيتُ لك كعادتي، لكن هذه المرة قلتُ: ربِ أستودعك ولدي؛ جسده وقلبه وإيمانه فاحفظه ولا تُريني فيه مكروهاً يبكيني"، فاختنقتُ وقتها وحضنتُ أبي وبكيت.

من يومها وأنا مواظبٌ على الصلاة مع الجماعة في المسجد، حتى أنني أسبق أبي في بعض المرات في الذهاب، وأظل بالمسجد بعد أن يغادره أبي في مراتٍ أخرى! وصرتُ أجد لذةً في الصلاة وفي الذكر وفي الدعاء. ومع ذلك ما زال يتملكني إحساسٌ بالتقصير، وأني مهما فعلتُ فلن أوفي الله حقه حمداً وشكراً وثناءً، وما يزال أمر ذلك الجندي من خفر السواحل الذي أنقذني يحيرني حتى الآن!

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ حقيقيةٌ حدثت لأحد الشباب فكتب عنها، ونشر ما كتب على شبكة الإنترنت، كي يتعظ منها غيره. عرضتها عليكم كما كتبها بعد إعادة صياغة بعض الكلمات والعبارات، وإدخال تعديلاتٍ طفيفةٍ عليها.

 

ربما كان أكثر ما شغل هذا الشاب ذلك الجندي من جنود الرحمن الذي ظهر فجأةً؛ فأنقذه ثم مضى في حال سبيله!

 

أما أكثر ما شغلني أنا من ذات القصة فهو كيف أن صلاح الآباء يفيد الأبناء؛ فسبحان الحكيم الخبير؛ الذي علم بأن في قلب هذا الشاب بذرة صلاحٍ يمكن أن تُنبت وتُزهر وتفوح بعطر الإيمان، فاستجاب سبحانه لدعاء الأب الصالح وهو ساجدٌ خاشعٌ متبتلٌ يدعو الله بإخلاصٍ وكأنما في خاطره ووجدانه قول ربنا تبارك وتعالى: (وكان أبوهما صالحاً). وسبحان من يُسبب الأسباب، ويُقدر المقادير.

 

يقول تعالى في قصَّة نبي الله مُوسَى عليه السَّلام حين كان مع العبد الصَّالح: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾، ثم بيَّن الحكمة من ذلك بقوله: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾، يقول المفسرون إن في ذلك دليلاً على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجةٍ في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن، ووردت به السنّة. قيل إن الأب المذكور في سورة الكهف هو الجد السابع أو العاشر. وقيل: "حُفظ الغلامان بصلاح أبيهما، وإن لم يُذكر لهما صلاحاً".

 

في موضعٍ آخر يقول تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾، قال بعض المفسرين: "فِيهِ إِرْشَادٌ لِلآبَاءِ الذِينَ يَخْشَونَ تَرْكَ ذُرِّيةٍ ضِعَافٍ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ في سَائِرِ شُؤُوْنِهِم حَتَّى تُحْفَظَ أَبْنَاؤُهُم وَتُغَاثَ بِالعِنَايَةِ مِنْهُ تَعَالى، وَفِيه تَهْدِيدٌ بِضَيَاعِ أَوْلَادِهِمْ إِنْ فَقَدُوا تَقْوَى اللهِ تَعَالى، وإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَقَوَى الأُصُولِ تَحْفَظُ الفُرُوعَ".

 

وعن معنى (وكان أبوهما صالحاً) يقول المتخصصون إن صلاح الآباء واستقامتهم له دورٌ كبيرٌ في صلاح الأبناء وتوفيقهم؛ ذلك أن للآباء دوراً كبيراً في تنشئة الأبناء، وأثرا عميقاً في صلاحهم، والوالد مرآة ابنه ومحل النظر الأول في الأسوة والقدوة؛ فصلاح الأبناء مرتبطٌ بصلاح الآباء، وإذا فسد الآباء فسد الأبناء، فلا يستقيم الظل والعود أعوج. إن عزل سلوكياتنا الخاطئة وأخلاقنا السيئة وذنوبنا ومعاصينا -حتى لو كانت خفيةً- عن تربية أبنائنا وعدم استشعار أثر هذه السلوكيات على صلاح أبنائنا، فيه نوعٌ من القصور في مفهوم التكامل التربوي؛ فقد نُحرم صلاح الأبناء بسبب ذنبٍ خفيٍ داومنا عليه، أو كسبٍ حرامٍ أصررنا على كسبه، أو عقوقٍ للوالدين، أو قطع رحمٍ أمر الله بها أن تُوصل، أو غير ذلك من الذنوب.

 

يقول أحد التابعين: “إني لأذنب الذنب فأرى أثر ذلك الذنب على ولدي”.

ويقول آخر: “إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي”، يريد بذلك أن يصل إلى مرتبة الصالحين، فينال بصلاحه صلاح أبنائه من بعده.

 

أحبتي .. ليس منا أبٌ إلا ويحب أبناءه حباً كثيراً كبيراً يجعله يفضلهم على نفسه؛ فحبنا لهم من الفطرة التي فطرنا الله عليها. ولا يقتصر حبنا لهم على تعبيرنا عن ذلك بالكلام، ولا بإظهار المشاعر والعواطف، ولا برعايتنا لهم مادياً وتربوياً، بل إن حبنا لهم لا يكتمل إلا بحرصنا على إصلاح أنفسنا، والتزامنا تقوى الله؛ فعلينا أن نضع نصب أعيننا قوله تعالى: (وكان أبوهما صالحاً) وألا نُفوِّت دقيقةً واحدةً من حياتنا إلا ونزداد فيها صلاحاً بأداء العبادات المفروضة والمزيد من النوافل والذكر والدعاء وأعمال الخير والبِر. ولنتذكر أنه كلما زاد صلاحنا كلما زاد انتفاع أبنائنا بهذا الصلاح، في حياتنا وبعد انتهاء آجالنا.

وكما أن صلاحنا ينفع أبناءنا، فإنه -من باب أولى- يعود بالنفع علينا نحن الآباء في الحياة الدنيا مهابةً وعزاً، وفي جنة الخلد -بإذن الله ورحمته- ثواباً وأجراً وعلواً في الدرجة.

اللهم يَسِّر لنا طريق الصلاح، ومهده لنا وخُذ بيدنا فيه، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، وانفع بها أبناءنا ونحن معهم ومن بعد انتهاء آجالنا.

 

https://bit.ly/2BcQkim


الجمعة، 19 يونيو 2020

يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم

الجمعة 19 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٤

(يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)

 

ﻓﻲ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﻔﺼﻮﻝ ﺍﻟﺪﺭﺍﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﻳﺔ ﺃﺭﺍﺩﺕ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺎﺕ ﺃﻥ ﺗﺮﻓﻊ ﻣﻦ ﻫﻤّﺔ ﻃﻼﺑﻬﺎ ﻓﻘﺮﺭﺕ ﺇﺟﺮﺍﺀ ﺍﻣﺘﺤﺎﻥٍ ﻟﻬﻢ، ووعدتهم بأن ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺤﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﻋﻼﻣﺔ "ﻣﻤﺘﺎﺯ" ﺳﻮﻑ ﺗﻬﺪﻳﻪ ﻫﺪﻳﺔً ﻫﻲ ﺣﺬﺍﺀٌ ﺟﺪﻳﺪ.
ﻓﺮﺡ ﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺤﺪﻱ، ﻭﺑﺪﺃ ﻛﻞٌ ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺑﺠﺪ، ﻭﺍﻟﻤﻔﺎﺟﺄﺓ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻌﺪ جمع أﻭﺭﺍﻕ الامتحان وتصحيحها؛ حيث وجدت المعلمة ﺃﻥ جميع الطلاب قد ﺃﺟﺎبوا إجاباتٍ صحيحةً وكاملةً ونالوا علامة "ممتاز"!
ﺷﻜﺮﺕ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ جميع طلابها ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺑﺬﻟﻮه ﻣﻦ ﺟﻬﺪ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺍﺣﺘﺎﺭﺕ ﻟﻤﻦ ﺗُﻌﻄﻲ الهدية، ﻭﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﻗﺪ ﻧﺎﻝ ﺍﻟﻌﻼﻣﺔ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ. عرضت المعلمة هذا الأمر على طلابها، وطلبت ﻣﻨﻬﻢ أن يفكروا في حلٍ مناسبٍ؛ يُرضي الجميع، وأن يبلغوها برأيهم بعد انتهاء وقت الفسحة. ﻛﺎﻥ ﺭﺃﻱ ﺍﻟﻄﻼﺏ ﺃﻥ تجري المعلمة قرعةً بينهم؛ فيكتب ﻛﻞٌ ﻣﻨﻬﻢ ﺍﺳﻤﻪ ﻓﻲ ﻭﺭﻗﺔٍ ﻣﻄﻮﻳﺔٍ ﻭﻳﻀﻌﻮﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺻﻨﺪﻭﻕٍ ﺗﺨﺘﺎﺭ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻭﺭﻗﺔً واحدةً ﺗﺴﺤﺒﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ جميع ﺍﻷﻭﺭﺍﻕ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻔﺎﺋﺰ بالهدية. وافقت المعلمة على اقتراحهم، وقام الطلاب بالفعل بتنفيذ ما اُتفق عليه، ﻭﺳﺤﺒﺖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻭﺭﻗﺔً واحدةً ﺃﻣﺎﻣﻬﻢ، ﻭﻗﺮﺃﺕ الاﺳﻢ؛ فكان اسم ﺍﻟﻄﻔﻠﺔ ﻭﻓﺎﺀ. تقدمت وفاء لاستلام الهدية، ﻭﺍﻟﻔﺮﺣﺔ باديةٌ على وجهها، ﻭﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ﺗﻐﻤﺮ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ، ﻭﺳﻂ ﺗﺼﻔﻴﻖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻭﺍﻷﻃﻔﺎﻝ ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ. حيت وفاء ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ، ﻭﻗﺒَّﻠﺖ ﻣﻌﻠﻤﺘﻬﺎ وشكرتها على ﺍﻟﻬﺪﻳﺔ ﺍﻟﺮﺍﺋﻌﺔ التي ﺟﺎﺀﺕ ﻓﻲ وقتها تماماً؛ ﻓﻘﺪ ﻣﻠّﺖ ﻟﺒﺲ ﺣﺬﺍئها ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ المهتريء، الذي ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻭﺍﻟﺪﺍﻫﺎ ﺷﺮﺍﺀ ﺣﺬﺍﺀٍ ﺟﺪﻳﺪٍ بدلاً منه ﻟﻬﺎ؛ لشدة فقرهم ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻧﺰﺣﺖ ﺍﻟﻌﺎﺋﻠﺔ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻬﺎ نتيجةً للحرب في سوريا.
ﺭﺟﻌﺖ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﺔ ﻣﺴﺮﻭﺭﺓً ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺘﻬﺎ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺳﺄﻟﻬﺎ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﺼﺔ ﺃﺧﺒﺮﺗﻪ ﻭﻫﻲ ﺗﺒﻜﻲ ﺑﻤﺎ ﺟﺮﻯ! أشاد ﺍﻟﺰﻭﺝ -ﺑﻌﺪ ﺳﻤﺎﻉ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺼﺔ- بحسن تصرف زﻭﺟﺘﻪ، لكنه ﺍﺳﺘﻐﺮﺏ ﺑﻜﺎﺀﻫﺎ؛ فسأﻟﻬﺎ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ فقاﻟﺖ ﻟﻪ: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺪﺕُ ﻭﻓﺘﺤﺖُ ﺑﻘﻴﺔ ﺍﻷﻭﺭﺍﻕ ﻭﺟﺪﺕُ ﺃﻥ جميع الطلاب كتبوا ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺭﻗﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﺍسمهم ﺍﺳﻢ زميلتهم ﻭﻓﺎﺀ!

لقد اكتشفت أن طلابي ممن (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم) وأنا أعلم بمدى احتياجهم، ﻟﻘﺪ ﻻحظوا ﺟﻤﻴﻌﻬﻢ ﺣﺎلة زميلتهم ﻭﺗﻜﺎﺗﻔﻮﺍ معها؛ وآثروها على أنفسهم ﻟﻴُﺪﺧﻠﻮﺍ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺇﻟﻰ قلبها.

 

أحبتي في الله .. إنه خُلُق الإيثار، نشأ عليه الأطفال في بيوتهم، وربما تعلموه في المدرسة، وقد يكون سلوكاً عفوياً منهم نبع من فطرةٍ سليمةٍ تربوا عليها وتشبعوا بها فأصبحوا يجدون لذةً في العطاء وحلاوةً في إسعاد الآخرين. وأغلب الظن أن وراء تنفيذ هذه الفكرة أحد الطلاب هو الذي أوحى لزملائه بالفكرة فسارعوا بالاستجابة لها. أياً كان الأمر، فقد كان تصرف الأطفال رائعاً بكل معنى الكلمة؛ فيه إلى جانب الإيثار، الإحساس بأحوال الغير والتعاطف معهم، والحرص على إسعادهم، والتكاتف والتعاون والتآزر، وعمل الخير في الخفاء دون مراءاةٍ، ومراعاة المشاعر. إنها معانٍ جميلةٌ قلما نجدها في عالم الكبار الذي تغلب عليه الأنانية وحب الذات، والميل إلى التفاخر والمباهاة بعمل الخير، وغير ذلك من مظاهر سلبية!

 

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذينَ تَبَوَّءُوا الدّارَ وَالإيمانَ مِن قَبلِهِم يُحِبّونَ مَن هاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدونَ في صُدورِهِم حاجَةً مِمّا أوتوا وَيُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كانَ بِهِم خَصاصَةٌ وَمَن يوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾، نزلت هذه الآية لتصف إيثار الأنصار بيثرب "المدينة المنورة" للمهاجرين الذين اُضطروا لترك "مكة" فراراً بدينهم؛ فقد كان الأنصار يعطون المهاجرين أموالهم، إيثَاراً لهم بِها على أنفسهم، رغم حاجتهم هم أنفسهم لهذا المال، بل إن بعض الأنصار -عندما آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين- لم يكتفِ بإعطاء نصف ماله لأخيه المهاجر، بل وخيَّره بين إحدى زوجتيه ليطلقها فتكون زوجةً له بعد انقضاء عدتها. إنها صورةٌ فريدةٌ للإيثار.

 

ومن صور الإيثار، أنه أَتَى رجلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: [مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟] فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا؛ فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ؛ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: [ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾].

 

وعن عائشةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ: جَاءَتني مِسْكِينَةٌ تَحْمِل ابْنَتَيْن لَهَا، فَأَطعمتُهَا ثَلاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلى فِيها تَمْرةً لتَأكُلهَا، فَاسْتَطعَمَتهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّت التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُريدُ أَنْ تأْكُلهَا بيْنهُمَا، فأَعْجبني شَأْنها، فَذَكرْتُ الَّذي صنعَتْ لرسولِ اللَّه عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: [إنَّ اللَّه قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجنَّةَ، أَو أَعْتقَها بِهَا من النَّارِ].

 

وقال أبو جهم بن حذيفة العدوي، وهو من الصحابة رضي الله عنهم: انطلقتُ يوم اليرموك بعد انتهاء المعركة أطلب ابن عمٍ لي ومعي قليلٌ من الماء وإناء، فقلتُ: إن كان به رمقٌ سقيتُه من الماء ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا أسمع صوتاً يقول: آهٍ.. آه.. فأتيتُه فإذا هو ابن عمي فقلتُ له: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم، فإذا بصوت رجلٍ آخر يقول: آهٍ.. آه.. فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فجئتُه فإذا هو هشام بن العاص فأتيتُه وقلتُ له: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم.. فإذا بصوت رجلٍ آخر يقول: آهٍ.. آه.. فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئتُه فإذا هو قد مات، ثم رجعتُ إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم أتيتُ إلى ابن عمي فإذا هو قد مات!

أولئك كانوا من الذين (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)؛ فضَّل كلُّ واحدٍ منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماءٍ وهو أحوج بها من غيره!

 

والإيثار لا يكون فقط بين الناس بعضهم وبعض، بل قد يكون بين إنسانٍ وحيوان؛ فيُروى أن غلاماً كان يحرس حديقة نخيلٍ، وكان هذا الغلام تقياً قوي الإيمان طيب الخلق. وذات يومٍ، جاء وقت تناول الطعام، فأحضر الغلام طعامه، وكان ثلاثة أرغفةٍ من الخبز، فأمسك برغيفٍ منها، وسمَّي الله قبل أن يأكل. وفجأة رأي كلباً يجري نحوه وهو يلهث، واقترب منه وركز نظره على يديه، ففهم الغلام أن الكلب جائعٌ، فألقي له الرغيف الذي في يده. فأكله الكلب بنهمٍ وشراهةٍ، ثم عاد ينظر للغلام مرةً ثانيةً، فألقي له الرغيف الثاني فأكله. ومرةً ثالثةً، نظر الكلب للغلام؛ فأسرع وقدم له الرغيف الثالث، فأكله الكلب، ثم انصرف. هذا المشهد العجيب، شاهده رجلٌ صالحٌ معروفٌ بالكرم -دون أن يلاحظه الغلام- فاقترب منه وسأله: ما قَدْرُ طعامك في اليوم يا غلام؟ فقال له: ثلاثة أرغفةٍ من الخبز، يحضرها لي صاحب هذه الحديقة كل يوم. فقال الرجل: فلِمَ فعلتَ ذلك مع الكلب؟ قال الغلام: لأن أرضنا هذه لا تعيش فيها كلاب، وأظن أن هذا الكلب جاء من مكانٍ بعيدٍ؛ ليبحث عن طعامٍ بعد أن اشتد به الجوع، فكرهتُ أن يعود جائعاً. قال الرجل: وماذا ستأكل اليوم إذن؟ رد الغلام قائلاً: لن آكل وسأصبر إلى الغد؛ فقال الرجل وهو يحدث نفسه: "يلومني الناس على سخائي وكرمي، واللهِ إنَّ هذا الغلام أسخى مني". ترك الرجل الغلام، وذهب إلى أصحاب الحديقة -التي يعمل بها هذا الغلام- فاشتراها بما فيها، ثم أعطاها هديةً للغلام؛ إعجاباً بما فعل، وتقديراً لحُسن خُلقه، وكريم عطائه؛ فالغلام أحس بأن الكلب جائعٌ، فآثره بما لديه من طعام، وبات وهو يعاني من الجوع، إنه من الذين (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)؛ فكان جزاء ما صنع أن أصبحت الحديقة ملكاً له، بالإضافة إلي الثواب العظيم من الله يوم القيامة.

 

يقول العلماء إن من فوائد الإيثَار الفوز بمحبَّة الله تبارك وتعالى، والدخول فيمن أثنى الله عليهم وجعلهم مِن المفلحين، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. ثم إن المؤْثر يجني ثمار إيثاره في الدُّنْيا قبل الآخرة وذلك بمحبَّة النَّاس له حياً، وذِكر مآثره والترحم عليه بعد موته.

 

يقول الشاعر:

المالُ للرجلِ الكريمِ ذرائعٌ

يبغي بهن جلائلَ الأخطارِ

والناسُ شتى في الخِلالِ وخيرُهم

مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثارِ

 

أحبتي .. ما أجمل خُلُق الإيثار، وما أروع الإحساس بأن الله سبحانه وتعالى قد اصطفاك -من دون خلقه جميعاً- لتُسعد شخصاً ما وتدخل السرور على قلبه، فتتقاسما سوياً شعوراً متميزاً بالإخوة والمحبة فتكونا من السعداء؛ فهذا حكيمٌ قد سُئل: مَن أسعدُ الناسِ؟ قال: مَن أسعدَ الناسَ!

ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه يثيبك ويجزيك خير الجزاء على إيثارك للغير بما تملكه -في الظاهر- من مالٍ، لكنه في الحقيقة مال الله أنعم به عليك وجعلك مستخلفاً فيه، مسئولاً عن إنفاقه والتصرف فيه، ويعدك بحُسن الثواب إذا أعطيته غيرك!

فلنسارع في أعمال الخير ونكون من الذين (يُؤثِرونَ عَلى أَنفُسِهِم)، ولو كانت بنا خصاصةٌ ولو كنا في احتياج، ولا نكون أقل إيثاراً من الأطفال زملاء وفاء!

اللهم قنا شُح أنفسنا، واجعلنا مفاتيح سعادةٍ لغيرنا، وحبِّب إلينا البر والخير والكرم والإحسان والإيثار.

 

https://bit.ly/2Nce9t1


الجمعة، 12 يونيو 2020

بعد فوات الأوان

الجمعة 12 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٣

(بعد فوات الأوان)

 

حكى لي صديقي عن قصته مع أبيه، قال: في صباحِ السَّابع من فبراير قبل أكثر من عقدينِ من الزمان، طُلبَ منا أن يأتي أولياء الأمور لزيارةِ المدرسة في حفلٍ كبيرٍ لتكريم المتفوقين وأولياء أمورهم، ضاقتْ نفسي، لأني لم أرغب أن يحضرَ والدي، كان منظره لا يسر، لا زالَ يسيرُ وفق حياة الأرياف والبوادي، رغم عيشه في المدينةِ منذ زمنٍ طويل. شرعتُ يومها أبحثُ عن شخصٍ يمثلني في المدرسة، وكنتُ أبحثُ بجدٍّ واجتهاد.. علني أحظى بأحدهم، انتسبُ إليه عوضاً عن والدي؛ فلما عجزتُ، أخبرتُ والدي، بلا رغبةٍ مني وقد ألجأتني الضرورة لذلك.

استبشرَ وطار فرحاً، وأمر والدتي أن تُجهزَ ملابسه التي يحتفظُ بها في صندوقٍ عتيقٍ أسفلَ السرير، كان يظنُّ أنَّ ملابسه تلك لا يعدلها شيء، وكنتُ في داخلي متبرماً، تتناوشني وساوس لا تُحتمل، كنتُ أخشى من قهقهاتِ الزملاء، وسخريتهم التي لا تنتهي!

ذهبتُ مع والدي إلى المدرسة، وعندما أوشكنا أن نصل، تذرعتُ بإصلاحِ حذائي كي أتأخر قليلًا عنه، من أجل أن يدخل دون أن يُعرف أنه والدي! وكلما تأخرتُ، وقفَ ينتظرني، يسألُ عن حالي، ويستحثني على سرعة المسير.. لم يكن يعلم حينها أني أودُّ التخلص والفرار منه.. لم أشأ أن ألتصقَ به.. هكذا شعرتُ يومها!

حضر أولياء الأمور، التجار، والساسة، وبعض قادة الجيش، وعِليةُ القوم.. ووحده والدي بثيابه العتيقة، وجسده النحيل، ووجهه الشاحب من وعثاءِ الحياة.. يقبعُ بعيداً عنهم، لم تكن سوى عينيه تبرقُان حياةً وأملاً؛ فَرَحاً بي.

بدأتْ قهقهات الزملاء، وسَرت بينهم الضحكات والنكات السخيفة.. وبدأتُ أتذمَّر، أتذكرُ جيداً، أني قلتُ حينها: "ليتني كنتُ يتيماً بلا أب". التقطَ الجميع صوراً تذكاريةً مع آبائهم والقائمينَ على المدرسة، ووحدي خجلتُ من والدي، وفي لحظةِ غفلةٍ، لم أظن أني سأدفع ثمنها بقيةَ عمري؛ سمعني والدي أقولُ لصديقي حسام: "مجيء والدي سبَّبَ لي حرجاً كبيراً".

تظاهَر بأنه لم يسمع شيئاً، وأذكر أنه احتضنني يومها وبكى، ولم أكن أعلمُ أنَّ كلمتي وقعت في قلبه؛ فأحالته إلى فضاءٍ واسعٍ بلا ملامح، لقد استحالَ يومها إلى رماد!

مضتْ بي الأيام.. تخرجتُ من الثَّانوية.. فاعتذرَ والدي عن الحضور بسببِ حالته الصحية، لكنه دعمني يومها بكلِّ شيء!

تخرجتُ من الجامعة.. واعتذر أيضاً بسببِ وجعٍ في قدميه جعله طريحَ الفراش، ولم يكن حينها يعاني من شيء! ثم حصلتُ على وظيفةٍ في منظمةٍ عريقةٍ، وبدأتُ في مشروعِ الزواج.. ويوم ذهابنا إلى منزل والد الفتاة، لعقد القران، تغيَّبَ والدي.. رفضتُ الذهاب.. انتظرتُه، لم يأتِ، وفجأةً تقدم نحوي أخي الأصغر، همسَ في أذني، أن والدي شعرَ بدوارٍ في رأسه، وكاد أن يُغمىٰ عليه، يقولُ لك: على بركةِ الله.

ليلتها فقط، أحسستُ أنَّ والدي يُخفي شيئاً، ومنذ تلك اللحظة بدأتُ أجمعُ الخيوط، تذكرتُ اعتذاره في حفل الثانوية، ثم تخرجي من الجامعة، والآن في لحظاتِ عمري الخالدة.. تركني ولم يأتِ بصحبتي. ثمةَ ما يخفيه، هذا ما قلتُه في نفسي.

سكنتُ في سكنٍ مستقلٍ بعدَ زواجي، كنتُ أزوره ما بينَ حينٍ وآخر.. والدي يبادلني كلَّ الحب.. ويدعمني بكلِّ شيءٍ.. ويُشعرني بقيمتي.. قال لي يوماً: "كن أباً جيداً لأبنائك". لم أفهم كلمته تلك وقتها، وإن كنتُ عقلتُ معناها (بعد فوات الأوان).

عند منتصفِ الليل في ليلةٍ شاتيةٍ، وصلني صوتُ أمي، تنتحبُ وتبكي رحيلَ والدي! بعد وفاته أحسستُ أني بلا جدرانٍ تحوطني، بلا سندٍ أتكئُ عليه، شعرتُ بفراغٍ كبيرٍ في حياتي، تعاظمت لدي الرغبة في البكاء، البكاء على والدي الذي أحبني حدَّ تحقيقِ جميع رغباتي وكبْتِ مشاعره!

عثرتُ على دفترٍ قديمٍ لوالدي يسجلُ فيه شيئاً من مذكراته اليومية، وهي عادةٌ جرى عليها، ومن قبله جدِّي.. وأثناءَ تقليبي صفحات دفتره، وجدتُ ما كتَبَه يوم حضوره في مدرستي قبل سنواتٍ طويلةٍ تلاشتْ من ذاكرتي!

«صباح السَّابع من فبراير: ذهبتُ اليوم مع ولدي إلى المدرسة، إثر دعوةٍ تلقيتها من مجلسِ الآباء.. كنتُ مسروراً، فرحاً بتفوقه.. كنتُ مزهوًاً به.. لكني للأسف لم أكن بالشكلِ الذي ينبغي، وهو محقٌّ في ذلك، فأنا أجيدُ القراءة والكتابة فحسب، لم أُكمل تعليمي، اضطرتني الحياة، بعد فقْد أمي وزواج والدي من أخرى، أن اعتمدَ على نفسي.. لم أكن أهتمُّ بحالي كثيراً، ولم تُتح لي الحياة فرصةً لذلك.. شعرتُ بحزنٍ شديدٍ لحزن ولدي بسبب حضوري.. ليتني كنتُ قادراً أن أكون أباً يفخرُ به ولده.. لا بأس.. سأتداركُ هذا الخطأ. لن أتسبَّبَ في إحراجه بعد الآن.. كل الحب والمسرات، وليكنْ دربكَ عظيماً، ونيراً يا ولدي».

مضىٰ على قراءتي الرسالة تسعة أعوامٍ، ولا زلتُ أعيشُ في عذابٍ داخليٍّ ينهش فؤادي، لم أهدأ من سؤالاتِ الضمير التي لم تتوقف.

لم أر أحداً ارتسمَت علامات الحزن على وجهه مثلما كانت مرتسمةً على وجه صديقي .. حكى لي ما دارَ بينه وبينَ والده، وهو يعضُّ على شفتيه من الندم، ويغالب دموع عينيه التي كانت تنساب بغزارة.. يشعرُ بخيبةٍ لا حدَّ لها .. يشتهي لحظة عفوٍ وغفرانٍ من والده العظيم، لكن (بعد فوات الأوان) .. لا شيء يعيشُ معه الآن غير الندم! آخر كلمةٍ قالها لي: "الندم قدرٌ محتومٌ مهما فررنا منه".

 

أحبتي في الله .. كثيرةٌ هي المواقف التي يمر بها الإنسان، فيتصرف فيها برعونةٍ أو بغير حكمةٍ، أو تصدر منه كلمةٌ -بقصدٍ أو غير قصدٍ- ثم يندم عليها.

وتحكي لنا قصة هذا الصديق واحداً من تلك المواقف التي تصرف فيها بطيشٍ وتكلم فيها بتهورٍ ثم ندم على ذلك ولكن (بعد فوات الأوان) وظل ندمه مستمراً معه، لا يستطيع أن يُغير ما كان، ولا يستطيع أن يُسامح نفسه على ما بدر منه. كانت كلمةً، ظنها عاديةً أو بسيطةً، لكنها كانت جارحةً بأكثر مما كان يظن، عاشت هذه الكلمة في وجدان أبيه سنواتٍ طوال، جرحت كبرياءه، وحطمت مشاعره، وسرقت منه إحساسه بالفرحة والزهو لتفوق ابنه، لكنها لم تسلب منه حبه لابنه، ولم تعكر نهر عطائه الصافي بلا حدود له، ولم تخدش للحظة حنان الأبوة في صدره.

 

ولقد تعدَّدت صور الندم في القرآن الكريم باستخدام كلمة "نادمين"، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. وباستخدام كلمة "الندامة"، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

كما ورد التعبير عن الندم باستخدام تعبير "يا ليتني"، كما في قوله تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى . يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾. واستخدام تعبير "يا ليتنا"، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾. واستخدام تعبير "يا ليت"، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾.

وورد التعبير عن الندم كذلك بغير هذه الكلمات والتعبيرات.

 

أما في السُنة النبوية فقد جاءت بعض الأحاديث تُوجهنا وتُرشدنا وتقينا من الندم وتُبعدنا عنه؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: [إِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ].

وورد في الأثر: "ما ندمتُ على سكوتي مرةً، لكنني ندمتُ على الكلام مراراً".

وقال حكيم: "الواجب على العاقل أن يَلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم، فما أكثر مَن ندم إذا نطق، وأقل مَن ندم إذا سكت". وقيل: "لا يندم المرء على فعل الجميل ولو أسرف، وإنما الندم على فعل الخطأ وإن قَل". وقالوا: "الندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ".

 

ويذكر أهل العلم أن الندم شعور إنسانيٌّ له أسبابٌ عديدةٌ، إما فعلُ ما يستوجب الندم، أو فواتُ ما يستوجب الندم. والشعور بالندم له مرارةٌ وغُصةٌ لا ينساها مَن يتجرعها، وأشد أنواع الندم ما يكون على التقصير في حق الله تعالى، وفوات رحمته. وعندما يأذنُ الله تعالى للعبدِ أن يستيقظ ضميرُه، ويَنْتَبه عقله، ويستقرَّ فؤاده، ويشعر بأنه يغوصُ في بحرٍ لُجِّيٍّ من الذنوب والمعاصي التي تجرفه بعيداً عن رحمة الله تعالى، حينها ينتفضُ ليُزِيل عن نفسه وَحَلَ المعصية وأدران الذنوب؛ لذلك نجدُ أن الله تعالى قد امتدح النفس اللوَّامة، وأقسم بها في كتابه العزيز؛ يقول تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾.

 

ولما كان الندم في أغلب الأحوال هو لمعصيةٍ اقترفناها، فإنه ينفعنا قول أحد العلماء إن الإنسان لو تذكر عظمة الله تعالى، ولو تذكر نِعَمه عليه، ولو علِم سخطه على العاصي، ولو علِم بشؤم المعصية وما تَجلِبُه من فتن وبلاءٍ، ولو علِم بفرحة الله تعالى بعبده الذي يعود إليه، ولو علم المصير الذي ينتظره لو مات على معصية ربه، ولو علم بالنعيم الذي أعدَّه الله تعالى للتائبين، ما تجرَّأ على المعصية، ولندم وسارع بالتوبة. فما فائدة الندم يوم القيامة، وما قيمة الأسى والاعتراف بالخطأ؟ لا قيمة لشيءٍ من هذا (بعد فوات الأوان).

 

أحبتي .. الندم يشعر الإنسان دائماً بالألم والحسرة، لذا فهو أمرٌ يجب تجنبه والبعد عن أسبابه. والندم نوعان: ندمٌ على شيءٍ يمكن تداركه، وندمٌ يأتي (بعد فوات الأوان) لا نملك أن نصحح أسبابه أو نقلل من آثاره. ولا شك أن النوع الأول هو الأخف وطأةً والأسهل تداركاً. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أن جعل لكلٍ منا نفساً لوامةً تُشعرنا دائماً بالتقصير؛ فنسارع إلى تدارك ما فاتنا من صلاةٍ أو زكاةٍ أو بِرِ والدين ما زالا حيين أو صلةِ رحم أو ظُلمِ إنسان أو أكلِ حقٍ أو كسرِ خاطرٍ أو سوءِ ظنٍ أو غيبةٍ أو نميمةٍ، وما ماثل ذلك؛ حيث يكون التدارك سهلاً ميسوراً، يخفف عن الإنسان مشاعر الأسى والإحساس بالذنب، ويشعره بالرضا في حياته ويُكسبه في الآخرة ثواباً عظيماً.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُلهمنا رشدنا ويتقبَّل توبتنا، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا. اللهم إنا نسألك قبل الموت توبةً، وعند الموت شهادةً، وبعد الموت جنةً ونعيماً.

 

https://bit.ly/2Yxwxle


الجمعة، 5 يونيو 2020

قصر في الجنة

الجمعة 5 يونيو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٢

(قصر في الجنة)

 

روى أحد علماء وفقهاء مدينة حماة السورية، رحمه الله، حكايةً غريبةً حدثت معه؛ يقول: خرجتُ في جمعٍ من حجاج بيت الله الحرام، وبعد إتمام مناسك الحج في مكة المكرمة توجهنا إلى المدينة المنورة، وصلنا قُبيل أذان العشاء، دخلنا المسجد النبوي الشريف، وبعد صلاة العشاء، والصلاة في الروضة الشريفة، ثمَّ الوقوف أمام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه والدعاء، ذهبنا إلى مكانٍ من المسجد لنرتاح ونستعد لصلاة الفجر. أخذني النوم، واستيقظتُ قُبيل الفجر على رؤيا في منامي هَزَّت كياني؛ فأخذتُ أُكثر من الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. رأيتُ في منامي هذا رسول الله صلوات الله عليه، وهو يقول لي: "يا شيخ محمد، حين تصل مدينتك حماة بالسلامة إن شاء الله تعالى، فأتِ أولاً بيت فلان الإسكافي -وذكر اسمه- وقُل له: إن رسول الله يبشرك أنَّ الله تعالى قد قَبِل حِجَك وحج زوجتك، وقد بنى لكما قصراً في الجنة بجواري"، فجلستُ أفكر في الرجل الذي ذكر لي اسمه رسول الله صلوات الله عليه، وتذكرتُ أنه كان يريد الحج هو وزوجته، ولكنهما تخلفا لأمرٍ ما لا أعرفه، وقضيتُ يومي وأنا أُكثر من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إني نمتُ ليلتي ورأيتُ نفس الرؤيا وسمعتُ رسول الله صلوات الله عليه يقول لي نفس الكلام، واستيقظتُ فَرِحاً برؤية رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكني أخذتُ أفكر بالرجل وكيف قبل الله تعالى حجه، رغم أنه لم يحج! في الليلة الثالثة رأيتُ نفس المنام، وسمعتُ ذات الكلام من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ثلاث ليالٍ متتالياتٍ والرؤيا واحدةٌ، والوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ذاتها، فما كان مني رغبةٌ إلا أن أؤدي مناسكي، وأُسرع في العودة إلى حماة لأداء وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ البشرى إلى الإسكافي وزوجته، وبالفعل هذا ما كان. تم إخبار القافلة بيوم العودة إلى دمشق، وأخبر الجميع أهلهم، وخرج أهلنا في مدينة حماة في اليوم المحدد لملاقاة واستقبال أحبابهم من حجاج بيت الله الحرام، كما خرج أهلي وإخواني كذلك، ولكني تنفيذاً لوصية رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحتى يكون أول ما أفعله حين وصولي إلى حماة أن ألتقي بمن أمرني بلقائه وأُبشِّره بما قاله لي رسول الله صلوات الله عليه؛ لذلك انفردتُ عن القافلة، واستأجرتُ سيارةً خاصةً إلى حماة، وحين بلغتُ ضواحي المدينة رأيتُ الناس على مشارفها ينتظرون الحجاج، ورأيتُ من بينهم أهلي وخلاني، غير أني لم أتوقف ولم يلحظني أحد. أتيتُ بيت الرجل الذي أمرني رسول الله صلوات الله عليه بلقائه -وأنا أعرفه وأعرف منزله- وقرعتُ بابه؛ فنوديت من داخل البيت: "مَنْ؟"، قلتُ: "أخوكم الشيخ محمد الحامد"، فسمعتُ من يقول: "الشيخ محمد الحامد؟! أفي هذا الوقت والناس بانتظاره على مدخل البلد؟! سبحان الله"، قالها الرجل متعجباً وفتح الباب ورحب بي، وأدخلني بيته متعجباً من زيارتي في مثل هذا الوقت، فلما جلسنا نظرتُ إليه قائلاً: "إن لك بشارةً من رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكني لن أذكرها حتى تقول لي ما الذي منعك من الحج هذا العام وقد كنتَ هيأتَ نفسك وزوجتك وأعددتما العدة للحج؟!"، أطرق رأسه هنيهةً ينظر إلى الأرض، ثم نظر إليَّ وتأوَّه وقال: "بالفعل كنتُ قد جمعتُ على مدى سنواتٍ عديدةٍ الليرة فوق الليرة حتى أتهيأ وزوجتي لأداء مناسك الحج، وحين اكتمل المبلغ بادرتُ وزوجتي لتسجيل اسمينا مع قافلة حجاج بيت الله الحرام لهذا العام، لكن ما منعني أن امرأتي ذات ليلةٍ أرادت فتح باب الدار لترمي نفايات البيت في حاوية البلدية فلمحت من شِق الباب امرأةً ملتحفةً بغطائها الأسود منكبةً على الأرض تجمع من حولها قشور البطيخ، فلما شعرت بأحدٍ يأتي خبأت ما جمعته تحت ملحفتها وأسرعت الخطا إلى بيتها؛ فتبعتها زوجتي بنظرها من شق الباب، فإذا هي جارتنا الأرملة التي سكنت منذ عامٍ في البيت الملاصق لبيتنا"، وتابع قائلاً: "تعجبت زوجتي من تصرف جارتنا، وبدافع الفضول صعدت زوجتي سطح دارنا لتنظر ماذا ستفعل جارتنا بقشر البطيخ، فقد ظنت أن لديهم غنمةً أو معزةً، فلما صعدت سطح الدار ونظرت إلى دار جارتنا، كانت المفاجأة الكبرى، رأت جارتنا -التي تُوفيَ زوجها منذ أكثر من سنة- وقد أخذت تقطع قشور البطيخ قطعاً صغيرةً، ثم جاءت بخبزٍ يابسٍ ففتته على القشور المقطعة، وخلطتهم بقليلٍ من الماء، وأيقظت صغارها -وأكبرهم في الثامنة من عمره- وأخذت تطعمهم مما جمعته، وتأكل معهم كأنها تُغريهم ليأكلوا"، يقول الإسكافي مخاطباً الشيخ: "وأنا كعادتي، كنتُ قد خرجتُ للصلاة في المسجد، ولما رجعتُ رأيتُ زوجتي تُجهش بالبكاء حتى ظننتُ أنها قد وقعت وتأذت فسألتها مصدوماً: خيراً ماذا أصابك؟ فازدادت في البكاء، ولما ألححتُ عليها مستفهماً حكت لي ما رأت من سوء معيشة جارتنا، فلم أتمالك نفسي؛ فبكيتُ مثلها وربما أكثر"، يقول الشيخ رحمه الله تعالى: "رأيتُ الإسكافي يُنهي قصته ودموع عينيه تجري على خديه؛ فتأثرتُ مثله وبكيتُ قائلاً: كم نحن مقصرون بحق إخوتنا؟!"، يتابع الإسكافي سرد قصته مع الأرملة محدثاً الشيخ قائلاً: "اتفقتُ أنا وزوجتي أن نعطي المبلغ الذي جمعناه لحجنا للأرملة المسكينة، سائلين الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا؛ فوضعنا المبلغ في كيسٍ صغيرٍ، وقرعتُ باب المسكينة وأيتامها الصغار، فلما سمعتُ صوت أقدامٍ من الداخل رميتُ الكيس من فوق باب بيتهم وابتعدت سريعاً. هذه هي حكايتي يا شيخ محمد، وسبحان من لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ونسأل الله تعالى القبول". بكى الشيخ ثم قال للإسكافي: "ببركة إحسانك لليتامى رأيتُ رسول الله صلوات الله عليه يبشرك أنَّ الله قد قبل حجك وحج زوجتك، وبنى لكما قصراً في الجنة بجواره صلى الله عليه وسلم"، بكى الإسكافي فرحاً، وسجد لله تعالى شكراً، وصلى على رسول الله عليه الصلاة والسلام. لِمَ لا؟ و(قصر في الجنة) في انتظاره هو وزوجته، ومجاورةٌ للحبيب المصطفى في الجنة لم يكن يحلم بها أو يتخيل إمكانية حدوثها.

 

أحبتي في الله .. إذا كانت هناك مصلحةٌ مؤكدةٌ للإسكافي وزوجته في أداء شعائر الحج، فقد كانت هناك في المقابل مفاسدُ مؤكدةٌ نتيجة احتياج هذه الأرملة وأطفالها إلى ما يقيم أودهم ويبعد عنهم شبح الموت جوعاً، الأمر الذي ذكرني بقاعدةٍ شرعيةٍ للمفاضلة بين جلب المصالح ودرء المفاسد، إذ استقر رأي الفقهاء على قاعدة: «درءُ المفاسِدِ مُقدَّمٌ على جَلبِ المصالِح»؛ فإذا حدث تعارضٌ بين المفاسد والمصالح، وكانتا في منزلةٍ ورُتبةٍ واحدةٍ، يُقدَّم درء المفاسد على الاعتناء بالمصالح، ومن باب أولى إنْ كانت المفسَدةُ أعظمَ من المصلَحةِ، درَأنا المفسَدةَ، ولا نُبالي بفَواتِ المصلَحة.

 

وذكرتني تلك الحكاية بموقفٍ حدث وقت استعداد المسلمين وتجهيزهم لغزوة تبوك، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾، حيث تحدثنا الآية الكريمة عن هؤلاء النفر الذين أخلصوا نيَّاتِهم لله، وأرادوا أن يشاركوا في الغزوة، وأتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم -قلوبُهم تخفقُ شوقاً للقتال في سبيل الله- لكن النبي لم يجدِ ما يحمِلُهم عليه فعادوا إلى بيوتهم حَزَانَىٰ عيونهم دامعة. لم يشاركوا في الغزوة لعذرٍ خارجٍ عن إرادتهم، ورغم ذلك فقد حصَّلوا ثواب نيتِهم، وأعطاهم الله عزَّ وجلَّ من الأجر ما أعطى لإخوانهم الذين قاتلوا في سبيله، وربما كتب الله أن يكون لكلٍ منهم (قصر في الجنة).

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: [من سألَ الله الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغَه الله منازلَ الشهداءِ، وإن ماتَ على فراشِه]، وقال صلى الله عليه وسلم -وكان في غَزَاة-: [إن أقوامًا بالمدينة خلفَنا، ما سلَكنا شِعْبًا ولا واديًا إلا وهُم معنا فيه، حبسَهم العذرُ]، وفي روايةٍ: [إن بالمدينة أقوامًا ما سِرتُم مسيرًا، ولا قطعتُم واديًا إلا كانوا معكم]، قالوا: يا رسول الله، وهُم بالمدينةِ؟ قال: [وهُم بالمدينة، حبسَهم العذر].

هذا فيما يتعلق بالجهاد والقتال في سبيل الله، أما على وجه العموم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ الله كتبَ الحسناتِ والسَّيئاتِ، ثم بيَّنَ ذلك، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله عزَّ وجلَّ عنده عشرَ حسناتٍ إلى سبعِ مائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وإنْ همَّ بسيئةٍ فلم يعملْها كتبَها الله عنده حسنةً كاملةً، وإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله سيئةً واحدةً]. يقول أهل العلم إنَّ المراد بالهَمِّ هنا العزمُ المصمِم الذي يوجدُ معه الحرصُ على العملِ، لا مجرَّدِ الخَطرة التي تخطرُ، ثم تنفسِخ من غيرِ عزمٍ ولا تصميمٍ؛ فالله عزَّ وجلَّ يكتبُ لعبدِه المؤمنِ الأجرَ على ما همَّ به من الخيرِ وإن لم يعملْه، وهذا إن كان قد نوى فِعلَه، لكن حالَ بينه وبين ذلك حائلٌ لم يستطعِ معه فعل هذا العمل.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا مرِضَ العبدُ، أو سافرَ، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمَلُ مقيمًا صحيحاً]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من أتى فراشَه وهو ينوي أن يقومَ يُصلِّي من الليلِ، فغلبته عيناه حتى أصبح، كُتِب له ما نوى، وكان نومُه صدقةً عليه من ربِّه عزَّ وجلَّ].

يقول العلماء إن الله سبحانه وتعالى يُعطِي الأجرَ كاملًا لمن كانت نيَّتُه صادقةً لعملِ شيءٍ من الطاعاتِ، لكن عرَض له عارضٌ منعه من هذا العملِ، كذلك من كان يعتَادُ عملًا إذا فاته لعذرٍ، فذلك لا يُنقِصُ من أجرِه.

 

هذا كرم الله سبحانه وتعالى مع مَن كان ينوي عمل الخير وحبسه حابسٌ أو حال حائلٌ أو عذرٌ دون إتمام العمل، فما بالنا بمن همَّ وعزم وأخلص النية لأداء فرضٍ من فروض الدين أو عبادةٍ من العبادات كالحج أو العُمرة، وأخذ بكل الأسباب اللازمة، ثم رأى أن هناك من أعمال الخير ما هو أولى، ولا يحتمل التأخير، فوَّجَه جهده ووقته وماله وعمله إليه يريد وجه الله، فكيف يكون كرم الله معه؟ إنه لا يكتب له ثواب أداء العبادة التي لم يؤدها فقط، بل ويضاعف له من الأجر والثواب ما لا يكون له لو أنه أداها؛ إنه كرم المولى عزَّ وجلَّ، وهل أفضل من (قصر في الجنة) ومجاورة الرسول عليه الصلاة والسلام فيها؟

 

أحبتي .. عودةً إلى حكاية الإسكافي، أنهى راوي الحكاية ما كتب بالآية الكريمة: ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾، وقال: "اليوم ما أكثر أمثال تلك الأرملة وأيتامها، يراهم الجميع أمام أعينهم، فكم من فقيرٍ ومحتاجٍ يجمعون طعامهم لسد رمق صغارهم الجياع، وكم من يتيمٍ مقهورٍ، ومريضٍ يشكو، ومحتاجٍ يعف عن المسألة؟ فمَنْ لمثل هؤلاء؟ ما هي إلا تذكرةٌ في زمنٍ لا يخفى حاله على الجميع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". وختم بالآية الكريمة: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

وعن نفسي أخص الذين أخلصوا النية وصدقوا العزم على أداء فريضة الحج هذا العام، وممن جهزوا أنفسهم لأداء العُمرة، ولن يتمكنوا من ذلك بسبب الظروف الحالية، أقول لهم: بدلاً من الطواف ببيت الله الحرام طوفوا على بيوت الفقراء من حولكم، أعينوهم وسدوا حاجاتهم، ابدأوا بالأقارب ثم الجيران، ثم غيرهم، يتقبل الله منكم حجكم وعمرتكم، ويثيبكم على صدقاتكم وأعمالكم. وبدلاً من زيارة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام اعملوا بسُنته في إطعام المساكين، وسد ديون الغارمين، وعلاج الفقراء، والإحسان إلى عابري السبيل، ومساعدة طلبة العلم، ومد يد العون إلى الأرامل والأيتام والمساكين.

وأُذَكِّر نفسي وإياكم بأن المال مال الله، وأننا مستخلفون فيه، مؤتمنون عليه، مسئولون عنه، وما نتصدق به لا يضيع بل هو ما يبقى، مصداقاً لقول رسولنا الكريم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبدٍ مِن صَدَقَةٍ].

اللهم قِنا شُح أنفسنا، ويسِّر لنا أعمال الخير، ولا تحرمنا من (قصر في الجنة) نجاور فيه نبينا الكريم. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

 

https://bit.ly/373ebMV


الجمعة، 29 مايو 2020

المرأة الصالحة كنز

الجمعة 29 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤١

(المرأة الصالحة كنز)

 

كتب تحت عنوان: «علمتني زوجتي الكبيرة عقلاً الصغيرة عمراً» يقول: سافرتُ إلى دولةٍ أخرى في مهمة عملٍ لمدة ثلاثة أيامٍ، وفور وصولي لتلك الدولة اتصلتُ هاتفياً لأطمئن على زوجتي وابني، فأنا لم أتعود فراقهما، وهما لم يتعودا غيابي، طوال ثلاث سنواتٍ، هي عمر زواجي، لكن للأسف لم يرد على مكالماتي أحد!! مضت ثلاثة أيامٍ وهاتفي لم يفارق يدي، أتصل بدون مبالغةٍ كل ربع ساعةٍ أو نصف ساعةٍ ولا أجد جواباً!! جُنّ جنوني، واتصلتُ بأخي وأختي ليتفقدا أحوال أسرتي الصغيرة؛ فطمأناني!! لم أصدقهما واتصلتُ بأم زوجتي فطمأنتني، وأخبرتها أنني أنتظر أن تتصل بي زوجتي حتى أطمئن، ولكن طال انتظاري ولم تتصل!!! مرت الأيام الثلاثة كثلاثة شهورٍ، وكنتُ في داخلي أفور من الغضب حيناً، وأتعجب حيناً آخر محاولاً معرفة السبب!! في كثيرٍ من الأحيان كان الشيطان يوسوس لي بوساوس مرعبةٍ.

مرت الأيام ببطءٍ متثاقلة، عدتُ بعدها إلى بلدي. وما إن وطأت قدماي أرض الوطن حتى طرتُ إلى المنزل، ومن هلعي وشدة خوفي أخذتُ أطرق الباب بيدي حيناً وبالجرس حيناً حتى فتحت لي زوجتي الباب .. ولشدة المفاجأة!! فقد كانت في كامل زينتها وأناقتها واستقبلتني بكل حفاوةٍ وبأبهى حُلة!! ومن ورائها طفلي، وعيناه تتراقص فرحاً يركض لاحتضاني!! وأنا كالمخدَّر .. من الدهشة!!! وسرعان ما بدأ الغضب يحل محل الدهشة؛ فسألتُ زوجتي عن سبب هذا التجاهل، وقد كدتُ أقطع سفري وأسرع بالعودة، فقد كانت الظنون تأخذني يمنةً ويسرة .. فأجابت زوجتي بكل هدوء: "هل اتصلتَ بوالدتك؟"، أجبتُها ولم أفهم ما تقصد: "لا أدري، ربما؟ .. لا لا اتصلتُ بوالدتك أنتِ لأطمئن عليك على ابني"، قالت -وقد أصابتني في مقتل-: "أرأيتَ كيف كان شعور قلبك في هذه الأيام؟ هو نفسه شعور والدتك حين تنسى الاتصال بها بالأيام، ولا تسمع صوتها، إلا حين تبادر هي بالاتصال بك، بعد أن يلهبها الشوق ويجرفها الحنين وتأخذها الوساوس لطول غيابك عنها وعدم اتصالك بها .. حاولتُ كثيراً تنبيهك!! ولكن دون جدوى، فلم أجد أفضل من هذه الطريقة لأوصل لك الرسالة يا زوجي العزيز". طأطأتُ رأسي خجلاً من زوجتي الكبيرة عقلاً الصغيرة عمراً، وقد فهمتُ الدرس جيداً. وجدتُها تناولني مفتاح سيارتي وتهمس في أذني: "جنّتُك تنتظرك"؛ فانطلقتُ إلى حبيبتي الأولى أمي، بعد أن علمتني زوجتي الحكيمة درساً لن أنساه مدى الحياة، وأنا ممتنٌ لها أن جعلتني أتدارك نفسي والأيام قبل أن لا ينفع الندم.

صدق من قال: (المرأة الصالحة كنز).

 

وهذه قصةٌ أخرى لعجوزٍ تبحث عن هذا الكنز في بيوت أبنائها؛ حكت قصتها فقالت: لي ثلاثة أبناء ذكور، جميعهم متزوجون. زرتُ الكبير يوماً، وطلبتُ أن أبيت لدي، وفى الصباح طلبتُ من زوجته أن تأتيني بماءٍ للوضوء؛ فأتت به فتوضأتُ وصليتُ، ثم سكبتُ باقي الماء على الفراش الذي كنتُ أنام عليه، فلما جاءتني بشاي الصباح، قلتُ لها: "يا ابنتي هذا حال كبار السن؛ لقد تبولتُ على الفِراش"، فهاجت وماجت واسمعتني سيلاً من قبيح الألفاظ، ثم طلبت مني أن أغسل الفِراش وأجففه، وأن لا أفعل ذلك مرةً أخرى وإلا ... تظاهرتُ بأني أكتم غيظي، وغسلتُ الفِراش وجففته. ثم ذهبتُ لأبيتَ مع ابني الأوسط، وفعلتُ نفس الشيء؛ فاغتاظت زوجته، وأرعدت وأزبدت، وأخبرت زوجها الذي هو ابني فلم يزجرها، فخرجتُ من عندهم لأبيتَ مع ابني الصغير؛ ففعلتُ نفس الشيء، فلما جاءتني زوجته بشاي الصباح، وأخبرتها بتبولي على الفِراش قالت: "لا عليك يا أمي، هذا حال كبار السن، كم تبولنا على ثيابكم ونحن صغار"، ثم أخذتْ الفِراش وغسلتْه وجففتْه وطيبتْه، فقلتُ لها: "يا ابنتي إن لي صاحبةً أعطتني مالاً وطلبت مني أن أشتري لها حُلياً، وأنا لا أعرف مقاسها، وهي في حجمك هذا، فأعطني مقاس يدك". أخذتُ مقاس يدها، ثم ذهبتُ إلى السوق واشتريتُ ذهباً بكل مالي -وكان لي مالٌ كثير- ثم دعوتُ أبنائي الثلاثة وزوجاتهم فى بيتي، وأخرجتُ الذهب والحُلي، وحكيتُ لهم أني تعمدتُ صب الماء على الفِراش ولم أتبول عليه، ثم وضعتُ الذهب في يد زوجة ابني الأصغر وقلتُ: "هذه ابنتي التي سوف ألجأ إليها في كبري، وأقضي بقية عمري معها"، فصُعقت زوجتا ابنيها الكبير والأوسط وندمتا أشد الندم!

 

ورغم تحفظي الشخصي على التصرف الأخير لهذه العجوز، إذ اتسم بالتسرع وعدم الحكمة، إلا أنها قد وجدت في النهاية الكنز الذي كانت تبحث عنه؛ حقاً إن (المرأة الصالحة كنز).

 

أحبتي في الله .. قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، فالسَكينة والمودة والرحمة من أسباب السعادة، التي تعم الأسرة حينما تكون الزوجة صالحةً. وصفات الزوجة الصالحة مذكورةٌ في الآية الكريمة: ﴿عَسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزواجًا خَيرًا مِنكُنَّ مُسلِماتٍ مُؤمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ﴾، يقول المفسرون: مُسْلِمَاتٍ أي مسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله، مُؤْمِنَاتٍ أي مصدّقاتٍ بما أُمرن به ونُهين عنه، قَانِتَاتٍ أي مطيعاتٍ لله، تَائِبَاتٍ أي راجعاتٍ من ذنوبهن إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته، عَابِدَاتٍ أي متذللاتٍ لله بطاعته، وسَائِحَاتٍ أي صائماتٍ {وقيل مهاجرات}.

أما الآية الكريمة: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ فيقول المفسرون: فَالصَّالِحَاتُ أي اللاتي يعملن بالخير، قَانِتَاتٌ أي مطيعاتٌ لله ولأزواجهن، حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أي حافظاتٌ لأنفسهن -عند غيبة أزواجهن عنهن- وأموال أزواجهن، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما اسْتَفادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوى اللَّهِ خَيْراً لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صالِحةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْها أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ في نَفْسِهَا وَمالِهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ رَزَقَهُ اللهُ امْرَأةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَىٰ شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي الْشَّطْرِ الْثَانِي]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]. فالمرأة الموصوفة بالصلاح تكون عوناً على أعظم أمرٍ يهم المسلمَ ألا وهو الدين؛ فالدنيا متاعٌ زائلٌ، وخير ما فيها من هذا المتاع المرأة الصالحة؛ لأنها تُسعد صاحبها في الدنيا، وتُعينه على أمر الآخرة، التي هي خيرٌ وأبقى. وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: [أَلاَ أُخْبِرُكَ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ؛ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ]، قال شُرَّاح الحديث إنه لما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أنه لا حرج عليهم في جمع المال وكنزه ما داموا يؤدون الزكاة، ورأى استبشارهم بذلك، رغَّبهم عنه إلى ما هو خيرٌ وأبقى وهي المرأة الصالحة، فإن الذهب لا ينفعك إلا بعد ذهابه عنك، أما المرأة الصالحة فهي -ما دامت معك- تكون رفيقتك تنظر إليها فتسرك، وتقضي عند الحاجة إليها وطرك، وتشاورها فيما يعِّن لك فتحفظ عليك سرك، وإذا أمرتها تطيع أمرك، وإذا غبتَ عنها تحمي مالك وترعى عيالك.

 

يقول أهل العلم إنَّ تَوَسُّم صلاحِ الزوجة لا بد أن يتمثل في جميع جوانب الحياة؛ فهي التي تحفظ نفسها وعِرضها في حضور زوجها وغيابه، وهي التي تتحلى بالخلق الحسن والأدب الرفيع، تتحلى بالطِيبة والنقاء والصفاء، وتتزين بحسن الخطاب ولطف المعاملة، وتتقبل النصيحة وتستمع إليها بقلبها وعقلها، ولا تكون من اللواتي اعتدن الجدال والمِراء والكبرياء. وخير النساء التي إذا أُعطيت شكرت، وإذا حُرمت صبرت، تسُّر زوجها إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها. وهي التي تحافظ على صلتها بربها، وتسعى دوماً إلى رفع رصيدها من الإيمان والتقوى، فلا تترك فرضاً، وتحرص على شيءٍ من النفل، وتُقدم رضى الله سبحانه على رضى مَن سواه؛

وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ].

والمرأة الصالحة هي التي ترى فيها مربيةً صادقةً لأبنائك، تعلمهم الإسلام والخُلق والقرآن، وتغرس فيهم حب الله وحب رسوله وحب الخير للناس، ولا يكون همُّها من دنياهم فقط أن يبلغوا مراتب الجاه والمال، بل مراتب التقوى والديانة والخلق والعلم.

وبجانب ذلك كله، ينبغي أن يختار المسلم الزوجة التي تسكُنُ نفسُه برؤيتها، ويَرضى قلبُه بحضورها، فتملأُ عليه منزله ودنياه سعةً وفرحاً وسروراً؛ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النِّسَاءِ خَيرٌ؟ قال: [التِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِليهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَر، وَلا تُخَالِفُهُ فِي نَفسِهَا وَلا فِي مَالِهِ بِمَا يَكرَهُ].

 

يقول الشاعر:

سعادةُ المرءِ في خمسٍ إذا اجتمعتْ

صلاحِ جيرانه والبِر في ولدِه

وزوجةٍ حسُنتْ أخلاقُها

وكذا خِلٌّ وفيٌّ ورِزقُ المرءِ في بلدِه

 

ولأنه بِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأشْياءُ؛ فإنه مما قالت العرب: يُكره نِكاح الحنانة والمنانة والأنانة والحداقة والبراقة والشداقة والممراضة. فالحنانة شديدة الحنين إلى بيت أبيها أو لها ولدٌ تحن إليه، والمنانة التي تمن على الزوج بما تفعله، والأنانة كثيرة الأنين، والحداقة التي تحدق وتنظر إلى ما في يد غيرها وتكلف زوجها بأن يأتي لها بمثله، والبراقة التي تشتغل غالب أوقاتها ببريق وجهها وتزيينه، والشداقة كثيرة الكلام، والممراضة التي تتمارض غالب أوقاتها من غير مرض.

 

أحبتي .. (المرأة الصالحة كنز) حافظوا عليه، واعتنوا به؛ فكما تتعهدون أموالكم وتعتنون بها وتحافظون عليها وتخافون عليها من الضياع، تعهدوا أزواجكم بالرعاية، والمعاملة الحسنة، ولطف المعاشرة، والوجه الطلق، والكرم، والمعاونة. بهذا ينعم البيت المسلم بالسعادة لتوفر شروطها من سَكِينةٍ ومودةٍ ورحمة. ولا تنسوا أحبتي دوركم الهام في إعداد بناتكم ليكُنَّ كنوز المستقبل، بصلاحهن.

أدام الله علينا وعليكم السعادة الزوجية، ومتعنا وإياكم بالسلام العائلي.

اللهم ارضَ عنا، وأصلح أحوالنا، وبارك لنا في أزواجنا. ويسِّر اللهم لكل مسلمٍ لم يتزوج طريق الخير، وساعده على حُسن اختيار الزوجة الصالحة، فهي كنزٌ له تُعِينه على دينه ودنياه، وتشاركه ورعه وتقواه.

 

https://bit.ly/2AkaJkG


الجمعة، 22 مايو 2020

أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً

الجمعة 22 مايو 2020م


خاطرة الجمعة /٢٤٠

(أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً)

 

عن موقفٍ لا تنساه، كتبت تقول:

بدأتُ رحلتي مع دراسة القرآن الكريم والتجويد في وقتٍ متأخرٍ، فقد كان ذلك بعد خمس سنواتٍ من إنهاء دراستي بالمرحلة الثانوية، وأتذكر وقت أن بدأتُ أدْرس في أحد مراكز تحفيظ القرآن وتعليم أحكام التلاوة، وكنتُ في فصل النون الساكنة والتنوين -وهو المستوى الأول من ثلاثة مستوياتٍ في دراسة التجويد- تصادف أثناء فترة الراحة أن قابلتُ إحدى الدارسات، فسألتني عن عمري، وعن المستوى الذي أَدرس فيه، فما إن أخبرتها، حتى علت وجهها علامات الدهشة والاستنكار، وقالت لي: "أنا مضى عليّ ست سنواتٍ وأنا أدرس التجويد، والآن فقط وصلتُ للمستوى الثالث! فمتى عساك تصلين؟!"، قلتُ لها: "ألم تسمعي عن الحكمة التي تقول (أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً)"، ثم تركتها وانصرفت.

بعد سنتين ونصف، كنتُ قد أنهيتُ خلالها مستويات التجويد بتفوقٍ ولله الحمد، قامت إدارة المركز بتكليفي بتدريس أحد الفصول، دخلتُ الفصل، ابتسمتُ، وسلمتُ على الدارسات، لأفاجأ أن تلك الفتاة -التي عيرتني قبل أكثر من سنتين بتأخري- كانت من بينهن!

 

وهذا موقفٌ آخر تحكيه أستاذةٌ متعاونةٌ في إحدى الجامعات؛ تقول: في أحد الأيام، بعد أن أنهيتُ محاضرتي، أقبلتْ إليّ إحدى الطالبات واسمها نورة وأخبرتني أنها حصلت على علامةٍ سيئةٍ في الاختبار، وسألتني -بحزنٍ وانكسارٍ- إن كان بقي لها أملٌ في النجاح؛ خاصةً وأن موعد الاختبار النهائي قد اقترب، وقالت لي: "زميلاتي كلهن بدأن المذاكرة من بداية العام الدراسي وأنا تأخرتُ كثيراً، وأخشى من الرسوب". قلتُ لها: "هلّا ذكرتيني بدرجتك؟"، فحنت رأسها حتى كاد أن يلامس صدرها من شدة الحياء، وقالت: "5 من 25"، قلتُ لها: "ارفعي رأسك يا نورة، فأنتِ طالبةٌ مجتهدةٌ لدي، حتى لو لم تحصلي على درجةٍ مرتفعةٍ، أنا واثقةٌ أن بإمكانك تعويض هذه الدرجة في الاختبار النهائي، المهم أن تبدأي من الآن، اهتمي أكثر بمذاكرتك، ومتى استصعبتِ شيئاً فأنا موجودةٌ، اسألي ما بدا لك متى شئتِ، ولن يُخيِّب الله أمَلك"، ثم أردفتُ قائلةً: "لا تنسي الدعاء والاستغفار، ولا يزال هناك أملٌ كبيرٌ بأن تعوضي ما فاتك". مع الأيام لاحظتُ تطوراً ملموساً في مستواها أثناء المحاضرات، وعند رصد درجات الاختبار النهائي، فوجئتُ بتدني المستوى العام لدرجات الطالبات نظراً لصعوبة الاختبار؛ فكان متوسط الدرجات 20 من 40 درجة، ومن بين هذه الأوراق وجدتُ ورقةً حصلت صاحبتها على 30 من 40، وكانت ورقة نورة، التي كانت تخشى الرسوب، حصلت على درجةٍ مرتفعةٍ مقارنةً ببقية زميلاتها، لقد أثبتت بطريقةٍ عمليةٍ صحة المقولة: (أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً).

 

أحبتي في الله .. كل يومٍ جديدٍ هو نعمةٌ جديدةٌ من الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه؛ للمؤمن فيزيد إيمانه، وللمسلم المقصر فيثوب إلى رشده ويتدارك أمره، وللكافر الملحد فينقذ نفسه ويؤمن، وللمشرك الذي يؤمن بالله ولكن يُشرك معه غيره فيسارع إلى التوبة ونبذ الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.

كل يومٍ جديدٍ هو فرصةٌ متجددةٌ لزيادة أرصدتنا من الحسنات، إذا نحن أحسنا الاستفادة من هذه الفرص والمنح والعطايا الربانية التي يضعها الله سبحانه أمام أعيننا؛ فمنا من يقتنص الفرص ويُعلي من رصيد حسناته، ومنا من يُضيِّع هذه الفرص الثمينة الغالية.

واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون لهذه الفرص مواسم تزيد وتتضاعف فيها الحسنات عن غيرها من الأيام؛ ومن هذه المواسم شهر رمضان المبارك، ومن هذا الشهر الكريم اختص المولى عزَّ وجلَّ الليالي العشر الأواخر، وجعلها أفضل ليالي العام، ثم اختص من هذه الليالي ليلةً واحدةً لا تأتينا كل عامٍ إلا مرةً واحدةً فقط؛ هي ليلة القدر.

والمسلم المؤمن الفطن لا يُضيِّع فرصة هذا الشهر الفضيل، وهو يجتهد اجتهاداً مضاعفاً في الليالي العشر الأواخر كلها، ثم هو يلتمس ليلة القدر التي إن أحياها بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن كانت خيراً له من عبادة ألف شهر.

ولسببٍ أو آخر يتخلف بعض المسلمين عن اللحاق بهذا الركب الطيب، فهل ضاعت منهم الفرصة؟ هل فاتهم قطار الرحمة والمغفرة والعتق من النيران؟ الإجابة بكل وضوحٍ وبلا أي شك: لا؛ الفرصة ما تزال قائمةً، حتى لو بقيت من الشهر الكريم ساعاتٌ أو حتى دقائق؛ فالندم على ما فات عملٌ قلبيٌ بين الإنسان وربه لا يستغرق إلا ثواني، ثم بدء العودة إلى المسار الصحيح للحاق بالركب المبارك تكفي له النية الصادقة والإخلاص فيها، وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى وقتٍ بل هو نيةُ تنعقد في القلب، يأتي بعدها إحسان العمل -فيما تبقى من وقتٍ ولو كان قليلاً- إلى الحد الأقصى الممكن، لمن أراد أن يُعوض ما فاته، فإذا انتهى الشهر المبارك فليستمر في عمله وفي عبادته، دون تراخٍ أو فتور همة.

والعاقل من يتعظ بغيره؛ كم من غافلٍ ضيع فرصته الأخيرة ولم يستفد منها، كسلاً أو تسويفاً أو إهداراً لوقت رمضان الغالي الثمين؛ فخرج من الشهر الكريم وهو محرومٌ من ثوابٍ عظيمٍ.

والعاقل من يجعل غيره، ممن تداركوا أمرهم وأنقذوا أنفسهم، قدوةً له، يتأسى بهم أسوةً حسنةً؛ فهذا سيدنا عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- تأخر إسلامه إلى السنة السادسة من بدء الدعوة؛ ومع ذلك صار من العشرة المبشرين بالجنة، وثاني الخلفاء الراشدين، بل ما نزل بالناس أمرٌ قط، فقالوا فيه وقال فيه عمر؛ إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر، في خمسة عشر موضعاً، فيما عُرف في التاريخ الإسلامي بموافقات عمر.

 

ومن هؤلاء الذين تداركوا أمرهم وأنقذوا أنفسهم واقتنصوا آخر فرصةٍ لتعويض ما فاتهم، الصحابي ضمرة بن جندب؛ فبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى يثرب، لم يتبق في مكة إلا عددٌ قليلٌ من المسلمين لم يهاجروا لمرضهم وكبر سنهم، وكان من بين هؤلاء الصحابة الذين حبسهم المرض وكبر السن الصحابي الجليل، ضمرة بن جندب، رضي الله عنه، لم يستطع أن يتحمل مشقة السفر وحرارة الصحراء فظل في مكة مرغماً، لكنه -رضي الله عنه- أخذ قرارَه في حزمٍ وعزمٍ، وجهز راحلتَه وعُدته على كبر سنه، وقال لَمّا نزل قول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا..﴾ اللهم قد أبلغتَ في المعذرة والحجة، ولا معذرة ولا حجة. لم يتحمل البقاء بين ظهراني المشركين، فقرر أن يتحامل على نفسه ويتجاهل مرضه وسنه، وخرج متوجهاً إلى يثرب، وأثناء سيره في الطريق اشتد عليه المرض، فأدرك أنه الموت، وأنه لن يستطيع الوصول، فوقف -رحمه الله- وضرب كفّاً على كفٍّ، وقال وهو يضرب الكف الأولى: اللهم هذه بيعتي لك، ثم قال وهو يضرب الثانية: وهذه بيعتي لنبيك، ثم سقط ميتاً، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث لضمرة، ثم نزل قول الله تعالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدْ فِى ٱلْأَرْضِ مُرَٰغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِنۢ بَيْتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾؛ فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأخبرهم بشأن ضمرة وقال حديثه الشهير، الذي هو الحديث الأول في صحيح البخاري والأربعين النووية: [إنَمّا الأعْمَالُ بِالْنِيَاتِ ...].

حاز ضمرة شرفاً لم يحزه غيره بأن نزل فيه قرآنٌ وسُنةٌ، رغم كونه لم يصل إلى المدينة. هاجر بعد غيره، وعوض ما فاته، فكأني به قد استحضر مقولة (أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً).

 

بالأمس كنا نقول أهلاً رمضان، والآن نقول مهلاً رمضان، ما أسرع خطاك! تأتي على شوقٍ وتمضي على عجلٍ، نحن نعلم أنّك ستعود يا رمضان في كل عامٍ بإذن الله، لكن ما لا نعرفه هل سنكون في استقبالك مرةً أخرى؟ اللهم بلغنا إياه كل عام على خير لا فاقدين ولا مفقودين. لا نتألم لرحيل رمضان؛ لأنّه سيعود، ولكن نتألم إن عاد بعد رحيلنا. سننتظرك يا خير الشھور، فإن عُدتَ ولم تجدنا ووجدتَ آخرين غيرنا ذكرهم بنا ليشملونا في دعواتهم.

 

نقول في وداع رمضان كما قال بعض السلف: يا شهر رمضان ترفقْ، دموع المحبين تدفقْ، قلوبهم من ألم الفراق تشققْ، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرقْ، عسى ساعة توبةٍ وإقلاعٍ ترقع من الصيام ما تخرقْ، عسى منقطعٌ عن ركب المقبولين يلحقْ، عسى أسير الأوزار يُطلقْ، عسى من استوجب النار يُعتق. 

ونقول: آهٍ يا رمضان نبكي لوعةً لأننا أضعنا بعض أيامك، وافتقدتنا بعض لياليك؛ في نزوةٍ، في غيبةٍ، في ضعفٍ، في كسلٍ، في انشغالٍ بتوافه الأمور.. نبكي على أوقاتٍ مرت منك غلب فيها كسلُنا عزمَنا فقصَّرنا في حضرتك.

ويقول الشاعر:

يا من أتى رمضانُ فيكَ مطهِّراً **

للنَّفسِ حتى حالها يتبدَّلُ

يمحو الذُّنوبَ عن التقيِّ إذا دعا **

ويزيدُ أجرَ المحسنينَ ويُجزِلُ

هل كنتَ تغفلُ عن عظيمِ مرادِه **

أم معرضاً عن فضلِه تتغافلُ

إن كنتَ تغفلُ فانتبهْ واظفرْ به **

أما التغافلُ شأنُ من لا يعقِلُ

فالله يُمهلُ إنْ أرادَ لحكمةٍ **

لكنه يا صاحبي، لا يُهمِلُ

إن كانَ هذا العامُ أعطى مهلةً **

هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟

لا يستوي من كان يعملُ مخلصاً **

هوَ والذي في شهره لا يعملُ

رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ **

ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ

حتى يعودَ لربه متضرِّعاً **

فهو الرحيمُ المنعمُ المُتفضّلُ

وهو العفوُّ لمن سيأتي نادماً **

عن ذنبهِ في كلِّ عفوٍ يأملُ

 

ويقول آخر:

أبكيك يا شهر الصيام بأدمعٍ **

تنزل فتحكي على الخدود سيولا

لتبكي المساجد حسرةً وتأسفاً **

من بعده إذ عُطلت تعطيلا

النار يُغلق بابها من أجله **

إذ زاده رب العلا تبجيلا

والمارد الشيطان فيه قد انطرد **

عن صائميه مصفداً مغلولا

طوبي لعبدٍ صح فيه صيامه **

ودعا المهيمن بكرةً وأصيلا

شهرٌ يفوق عن الشهور بليلةٍ **

من ألف شهرٍ فُضلت تفضيلا

يا فوز عبدٍ قد رآها مرةً **

في عمره إذ أدرك المأمولا

 

قال أحدهم: لا تحزنوا على وداعه، بل احمدوا الله أن بلغكم إياه، وافرحوا وكبروا الله أن هداكم لصيامه وقيامه. لا تودعوه، بل اصطحبوه إلى باقي عامكم.

رمضان ليس شهراً، بل أسلوب حياةٍ وبدايةٍ للتغيير. لا تودعوه، بل افسحوا له المجال ليحيا معكم وتحيوا به طوال العام. الصوم لا ينتهي، القرآن لا يُهجر، والمسجد لا يُترك.

 

وهذه نصيحةٌ قيمةٌ يقدمها أحد العلماء؛ كتب يقول: إن كنتم ممن استفاد من رمضان، وتحققت فيكم صفات المتقين؛ فصُمتم حقاً، وقُمتم صدقاً، واجتهدتُم في مجاهدة أنفسكم فيه، فاحمدوا الله واشكروه واسألوه الثبات على ذلك حتى الممات. وإياكم ثم إياكم من أن تكونوا مثل التي ﴿نَقَضَت غَزلَها مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكاثًا﴾ "تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه". إياكم والرجوع الى المعاصي والفسق والمجون، وترك الطاعات والأعمال الصالحة بعد رمضان؛ يقول أحد الصحابة -رضوان الله عليهم-: من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا خرج رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردودٌ، وباب التوفيق في وجهه مسدود.

 

أحبتي .. الطريق الى الله طويلةٌ، قد لا نصل إلى آخرها، لكن المهم أن نموت ونحن على الطريق، مخلصين في أعمالنا، نيتنا التوفيق إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، ما اجتهدنا فيه من عباداتٍ وأعمال بِرٍ نظل عليه ونثبت، ونعمل على زيادته كماً ونوعاً، والارتقاء به إلى أعلى مستوى ممكنٍ من الإخلاص والتقوى والورع، وما قصَّرنا فيه نعمل على سرعة تداركه؛ يقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾؛ فمهما بلغت ذنوبك، يتقبل الله توبتك، ومهما كثرت عيوبك بإمكانك أن تعالجها. مهما تأخرت ما تزال أمامك فرصة للحاق بالركب، وسبحان الله؛ ربما تجاوزت من سبقوك، فيكون لك من الثواب ما ليس لهم!

أقول لنفسي ولكل مقصِّر: "عُد سريعاً إلى الطريق الصحيح لا تتأخر؛ فإن تكلفة العودة تزداد كلما زاد ابتعادنا وتأخرت عودتنا؛ والتكلفة هنا ليس مقياسها المال، وإنما نقصٌ في الثواب وخفضٌ في الدرجة وبعدٌ عن رضا المولى عزَّ وجلَّ". أقول لنفسي ولكل مقصِّر: "الموت علينا حقٌ، ولا ندري متى يدركنا، فهل تتسنى لنا فرصة العيش إلى رمضان قادم؟ أسرِع واقتنص فرصة ما تبقى من ساعات رمضان، لا تُسوِّف، ابدأ باسم الله، وبعزيمةٍ قويةٍ، توجه إلى الله بإخلاصٍ وندمٍ وانكسارٍ وذلٍ وخضوعٍ؛ يقبل توبتك ويُعينك ويوفقك و(أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً)".

اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، واجعلنا فيه من المقبولين، ممّن قام رمضان إيماناً واحتساباً؛ ففاز بعفوك ورضاك. واجعلنا اللهم ممن شملتهم برحمتك ومغفرتك وأعتقتهم من النار.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، غافراً لذنوبنا، ماحياً لزلّاتنا، ومُغيّراً لنفوسنا، وأعده اللهم علينا أعواماً عديدةً وأزمنةً مديدةً ونحن -والمسلمين جميعاً- بأحسن صحة وأفضل حال.

 

https://bit.ly/3cV6ytZ